ﰡ
قد سمع اللهُ قولَ التي تراجعك في موضوع طلاقها من زوجها، وتشتكي الى الله ما أصابها، والله يسمع ما يدور بينكما من المحاورة والكلام ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
وقد أبطل الإسلامُ هذه العادةَ، فالذي يقول لزوجته انت عليَّ كظهرِ أمي كلامُهُ باطل، ولا تحرم زوجته عليه ولا تكون كأمه. فان أمه هي التي ولدَتْهُ، وان الذين يستعملون هذه الالفاظ من الظهار ﴿لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً﴾ يأباه اللهُ ورسوله.
فالله تعالى أبطلَ هذا الطلاق ﴿وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ لما سلَفَ من الذنوب، وهذا من فضل الله ولطفه بعباده.
ثم فصّل الله تعالى حكم الظِهار فقال:
﴿والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾.
١- كل من استعمل هذا اللفظ ثم أراد الرجوع الى زوجته فعليه ان يعتق عبداً من قبلِ ان يمسَّ زوجته.
﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ﴾.
هذا الذي أوجبه اللهُ عليكم من عِتقِ الرقبة عظةٌ لكم وجزاء توعَظون به حتى لا تعودوا لمثله، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
٢- ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾.
فالذي لا يستطيع ان يعتق عبداً عليه ان يصوم شهرين متتابعين من قبلِ ان يمسّ زوجته.
٣- ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾.
فمن لم يستطع ان يصوم شهرين متتابعين لعذرٍ شرعي، فعليه ان يطعمَ ستين مسكيناً من الطعام المتعارف عليه.
ذلك الذي بينّاه وشرعناه لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعملوا بما شرعنا لكم. وهذا تسهيل من الله على عباده ولطفِهِ بهم، وتلك حدود الله فلا تتجاوزوها ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي هذا تهديد كبير.
قراءات:
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين في قوله: قد سمع. والباقون: بالاظهار: قد سمع، بإسكان الدال وفتح السين. وقرأ عاصم: يظاهرون من ظاهَرَ، يظاهِر، بكسر الهاء بغير تشديد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يظَّهَّرون، بفتح الظاء والهاء المشددتين من ظهَّر يظهر. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يَظّاهرون بفتح الظاء المشددة بعدها الف، من اظّاهرَ يظاهر.
بعد ان بيّن الكتابُ شرعَ اللهِ وحدودَه أردف مشيراً إلى من يتجاوزها، ووصفهم بالمخالفة والعداء وانه سَيَلحقُهم الخزيُ والنّكال في الدنيا كما لحق الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية، ولهم في الآخرة العذابُ المهين في نار جهنم. وذلك يوم تُجمع الخلائقُ جميعاً للحساب والجزاء ويخبرهم الله بما عملوه بالتفصيل.
﴿أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ﴾.
هو مسجل عند الله يجدونه مفصَّلا مع انهم نسوه، ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لا تخفى عليه خافية.
ألم تعلم أيها الرسول أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثةٌ إلا واللهُ معهم، ولا خمسةٌ إلا هو سادسُهم، يعلم ما يقولون وما يدبّرون، ولا أقلّ من ذلك ولا اكثر إلا هو معهم، يعلم ما يتناجَون به اينما كانوا، ثم يخبرهم يوم القيامة بكل ما عملوا ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ألم تر أيها الرسول الى الذين نُهُوا عن النَّجوى فيما بينهم بما يثير الشكّ في نفوس المؤمنين ثم يعودون الى ما نُهوا عنه، وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم، وبما هو مؤذٍ للمؤمنين وما يضمرون من العداوة للرسول.
﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله﴾.
كان أناسٌ من اليهود اذا دخلوا على الرسول الكريم يقولون: السامُ عليك يا أبا القاسم. فيقول لهم الرسول: وعليكم. ويقولون في أنفسهم: هلا يعذِّبنا الله بما نقول لو كان نبيا حقا! فرد الله عليهم بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير﴾.
وسبب التناجي المذكور أنه كان بين المسلمين واليهود معاهدة، فكانوا إذا مر الرجلُ من المسلمين بجماعة منهم - يتحدثون سراً ويتناجَون بينهم حتى يظنَّ أنهم يتآمرون على قتله، فيعدلَ عن المرور بهم. فنهاهُم النبيُّ ﷺ عن ذلك، فلم ينتهوا، وعادوا الى ما نهوا عنه. وكانوا إذا جاؤا النبيَّ حَيَّوه بالدعاء عليه في صورة التحية كما تقدم، فنزلت هذه الآية.
ثم أمر الله عباده المؤمنين ان لا يكونوا مثلَ اليهود المنافقين في التناجي بالإثم والعدوان، فقال:
﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول﴾.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كاليهودِ والمنافقين في تناجِيكم بينكم، فاذا حدث تناجٍ او مسارّة في اجتماعاتكم فلا تفعلوا مثل ما يفعلون.
﴿وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
ثم بين الباعثَ على هذه النجوى بالشر والمزَيِّن لها فقال:
﴿إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان....﴾.
إنما الحديث بالسّر والتناجي المثير للشكّ - من وسوسةِ الشيطان وتزيينه، ليدخلَ الحزنَ على قلوب المؤمنين، لكنّ المؤمنين في حِصن من إيمانهم فلا يستطيع الشيطان ان يضرَّهم، ولا تنالهم اية مضرّة إلا بمشيئة الله.
﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
في جميع أمورهم، ولا يخافوا أحداً ما داموا محصّنين بالإيمان والاتكال على الله.
وقد ورد في الاحاديث الصحيحة النهيُ عن التناجي إذا كان في ذلك أذىً لمؤمن.
عن ابن مسعود رضي الله عنهـ ان رسول الله ﷺ قال: «إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يُحزِنه» رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود.
قراءات:
قرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب: وينتجون بفتح الياء وسكون النون بلا الف، والباقون: ويتناجون بالألف.
بعد ان أدّب الكتابُ المؤمنين بأدب الحديث والبعدِ عما يكون سبباً للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان - علّمهم كيف يعاملون بعضَهم في المجالس، من التوسُّع فيها للقادمين، والنهوض اذا طُلب اليهم ذلك. وأشار إلى أن الله يُعلي مكانة المؤمنين المخلصين، والذين أوتوا العلم بدرجاتٍ من عنده ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
فالآية فيها أدبٌ جَمٌّ وتشمل التوسع في إيصال جميع انواع الخير الى المسلم وادخال السرور عليه، كما قال الرسول الكريم ﷺ : لا يزالُ اللهُ في عَوْنِ العبد ما دام العبدُ في عون أخيه.
ولما اكثر المسلمون من التنافُس في القُرب من مجلس الرسول الكريم لسماعِ أحاديثه، ولمناجاته في أمورِ الدين، وشَقّوا في ذلك عليه - أراد الله ان يخفّف عنه فأنزل قوله تعال:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً....﴾.
اذا أردتم مناجاةَ الرسول فتصدّقوا قبل مناجاتكم له، ذلك خيرٌ لم وأظهرُ لقلوبكم. فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به فإن الله تعالى قد رخّص لكم في المناجاةِ بلا تقديم صدقة، ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾.
ولما علم اللهُ أنهم تحرّجوا من تقديم الصدقات وإن كثيرا منهم لا يجدُ ما يأكل، عفا عنهم ورفع الصدقة وقال:
﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾.
لأن الصلاةَ تطهّر النفوس، والزكاة فيها نفعٌ عام للمؤمنين، واطاعة الله ورسوله خير ما يأتيه المؤمن ويتحلى به، ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فهو محيط بنواياكم وأعمالكم.
قراءات:
قرأ عاصم: بالمجالس بالجمع. وقرأ الباقون: بالمجلس على الافراد. وقرأ عاصم ونافع وابن عامر انشزوا بضم الشين. والباقون: إنشِزوا بكسر الشين، وهما لغتان.
هذه الآيات الخمسُ في المنافقين وأخبارهم، وكذِبِهم على الله ورسوله ﷺ. وسيأتي بعدَ أربَعِ سورٍ سورةٌ خاصة بالمنافقين.
ألم تر أيها الرسول إلى هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهودَ المغضوبَ عليهم أولياءَ يناصحونهم وينقولن إليهم أسرار المؤمنين! إنهم ليسوا من المؤمنين إلا في الظاهر، كما أنهم ليسوا من اليهود، ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء﴾ [النساء: ١٤٣].
ثم بين الله تعالى أنهم يَحلِفون الأيمان الكاذبة ليُظهروا أنهم مسلمون، ويَشهدوا ان محمدا رسولُ الله، والله يشهدُ إنهم كاذبون. لقد أعدّ الله لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في الدنيا، وأشدّ منه في الآخرة، وذلك على أعمالهم السيّئة وأقوالهم الزائفة وعدم ثباتهم على شيء.
﴿اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
لقد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وتستّروا بالأيمان الكاذبة فجعلوها وقايةً لأنفسهم من القتل. وبها انخدع كثيرٌ من المؤمنين ممن لا يعرِف حقيقةَ أمرِهم، وبهذه الوسيلة صلُّوا كثيراً من الناس عن سبيلِ الله، فلهم عذابٌ شديد الإهانة يوم القيامة.
ثم بين الله تعالى أن كلَّ ما عندَهم من أموالٍ واولاد لا يُغنيهم شيئا، ولا يدفع عنهم العذابَ الذي أُعِدَّ لهم.
﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
اذكر لقومكَ أيها الرسولُ حالَهم يومَ يبعثُهم الله جميعا من قبورهم فيحلِفون له أنهم ما كانوا مشرِكين كما كانوا يحلِفون لكم في الدنيا، ويظنون انهم بِقَسَمِهِم هذا ينجون من عذابِ الله.
﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون﴾ فيما يحلفون عليه، كما جاء في قوله تعالى:
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
ثم بين الله السببَ الذي أوقعَهم في الضلال، وهو أن الشيطان استولى عليهم فغلَبَتْ أهواؤهم وتَبِعوا شهواتِهِم.
﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله﴾ الشيطانُ الذي أغواهم. وأولئك هم جنودُ الشيطان وحِزبُه. ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ ؟
ان الّذين يخالفون أَوامر الله ونواهيَه، ولا يطيعون الرسول فيما شَرَعَ وبيّن - هم في عِداد الّذين بلغوا الغايةَ في الذِلّة والهوان.. بالقتلِ والأسرِ والهزيمة في الدنيا، وبالخِزي والنَّكالِ والعذاب في الآخرة.
وقد قضى الله وحَكَمَ في أُمّ الكِتابِ بأن الغَلَبةَ والنصر له ولرسُله، وقد صَدَق في ذلك.
﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. متى أراد شيئاً كانَ، ولم يجدْ معارِضاً ولا ممانعاً على شرط ان يكون المؤمنون صادقين في إيمانهم يعملون بِجدّ وإخلاص، ويتّخذون لكلِّ شيء عدَّتَه.
ثم بين تعالى ان الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله، ممهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً او أبناءً او إخواناً او من العشيرة القريبة. وهذا معنى قوله تعالى:
﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله....﴾
لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم.
﴿أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾.
فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه.
﴿أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾.
لأنهم اهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَتِ الخاتمة.