تفسير سورة الزلزلة

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سورة إذا زلزلت
وهي مكية.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا عياش بن عباس، عن عيسى بن هلال الصَّدفي، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرئني يا رسول الله. قال١ له :" اقرأ ثلاثا من ذات الر ". فقال له الرجل : كبر سني واستد٢ قلبي، وغَلُظ لساني. قال :" فاقرأ من ذات٣ حم "، فقال مثل مقالته الأولى. فقال :" اقرأ ثلاثا من المسبحات "، فقال مثل مقالته. فقال الرجل : ولكن أقرئني - يا رسول الله - سورة جامعة. فأقرأه :( إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا ) حتى إذا فرغ منها قال الرجلُ : والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليها أبدًا. ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفلح الرويجل ! أفلح الرويجل ! " ثم قال :" عَلَيّ به ". فجاءه فقال له :" أمرْتُ بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة ". فقال له الرجل : أرأيت إن لم أجد إلا مَنيحَة أنثى فأضحي بها ؟ قال :" لا، ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند الله، عز وجل ".
وأخرجه أبو داود والنسائي، من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ٤ به٥.
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن موسى الحَرشي البصري : حدثنا الحسن بن سلْم٦ بن صالح العجلي، حدثنا ثابت البُناني، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ ( إِذَا زُلْزِلَتِ ) عدلَت له بنصف القرآن ". ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم٧ ٨.
وقد رواه البزار عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحسن بن سلم٩ عن ثابت، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) تَعدلُ ثلث القرآن، و ( ِذَا زُلْزِلَتِ ) تَعدلُ ربع القرآن ". هذا لفظه.
وقال الترمذي أيضا : حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا يمان بن المغيرة العنزي، حدثنا عطاء، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( إِذَا زُلْزِلَتِ ) تَعْدلُ نصف القرآن، و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) تعدل ثلث القرآن، و ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) تعدل ربع القرآن ". ثم قال : غريب، لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة١٠.
وقال أيضا : حدثنا عقبة بن مُكَرَّم العَمّي البصري، حدثني ابن أبي فُدَيْك، أخبرني سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه :" هل تزوجت يا فلان ؟ " قال : لا، والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج ؟ ! قال :" أليس معك ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) " ؟ ". قال : بلى. قال :" ثلث القرآن ". قال :" أليس معك ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) ؟ ". قال : بلى. قال :" ربع القرآن ". قال :" أليس معك ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ؟ ". قال : بلى. قال :" ربع القرآن ". قال :" أليس معك ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ ) ؟ ". قال : بلى. قال :" ربع القرآن " تزوج، [ تزوج ]١١. ثم قال : هذا حديث حسن١٢.
تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي، لم يروهن غيره من أصحاب الكتب.
١ - (١) في م: "فقال"..
٢ - (٢) في م: "واشتد"..
٣ - (٣) في أ: "من ذوات"..
٤ - (٤) في أ: "المقبري"..
٥ - (٥) المسند (٢/١٦٩) وسنن أبي داود برقم (١٣٩٩) وسنن النسائي (٧/٢١٢)..
٦ - (٦) في أ: "مسلم"..
٧ - (٧) في م، أ: "مسلم"..
٨ - (٨) سنن الترمذي برقم (٢٨٩٣)..
٩ - (٩) في م، أ: "مسلم"..
١٠ - (١٠) سنن الترمذي برقم (٢٨٩٤)..
١١ - (١) زيادة من سنن الترمذي..
١٢ - (٢) سنن الترمذي برقم (٢٨٩٥)..

وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُقَبَةُ بْنُ مُكَرَّم العَمّي الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي فُدَيْك، أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: "هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلَانُ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ؟! قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "ثُلُثُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ" تَزَوَّجْ، [تَزَوَّجْ] (١). ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (٢).
تَفَرَّدَ بِهِنَّ ثَلَاثَتِهِنَّ التِّرْمِذِيُّ، لَمْ يَرْوِهِنَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ أَيْ: تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا. ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ يَعْنِي: أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الْحَجُّ: ١] وَكَقَوْلِهِ ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ [الِانْشِقَاقِ: ٣، ٤].
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَقيء الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعت يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونه فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا" (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا﴾ أَيْ: اسْتَنْكَرَ أَمْرَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا، أَيْ: تَقَلَّبَتِ الْحَالُ، فَصَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً، قَدْ جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا قَدْ أُعِدَّ لَهَا مِنَ الزِّلْزَالِ الَّذِي لَا مَحِيدَ لَهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَحِينَئِذٍ اسْتَنْكَرَ النَّاسُ أَمْرَهَا وَتَبَدَّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ أَيْ: تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا.
(١) زيادة من سنن الترمذي.
(٢) سنن الترمذي برقم (٢٨٩٥).
(٣) صحيح مسلم برقم (١٠١٣).
460
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ -وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنَا سُوَيد بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ المقْبُرِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِل عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا" (١).
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعة: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ -سَمِعَ رَبِيعَةَ الجُرَشي-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، إِلَّا وَهِيَ مُخبرة" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا: وَاحِدٌ (٣) وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿أَوْحَى لَهَا﴾ أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُضَمَّن [بِمَعْنَى] (٤) أَذِنَ لَهَا.
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قَالَ: قَالَ لَهَا رَبُّهَا: قُولِي، فَقَالَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿أَوْحَى لَهَا﴾ أَيْ: أَمَرَهَا. وَقَالَ القُرَظي: أَمَرَهَا أَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾ أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْ مَوَاقِفِ الْحِسَابِ، ﴿أَشْتَاتًا﴾ أَيْ: أَنْوَاعًا وَأَصْنَافًا، مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَأْمُورٍ بِهِ إِلَى النَّارِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَصَدَّعُونَ أَشْتَاتًا فَلَا يَجْتَمِعُونَ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿أَشْتَاتًا﴾ فِرَقًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ أَيْ: لِيَعْمَلُوا وَيُجَازُوا بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمان عَنْ أَبِي هُرَيرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ طَيلها فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فاستنَّت شَرَفا أو
(١) المسند (٢/٣٧٤) وسنن الترمذي برقم (٣٣٥٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٩٣).
(٢) المعجم الكبير (٥/٦٥) وقال الهيثمي في المجمع (١/٢٤١) :"وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف".
(٣) صحيح البخاري (٨/٧٢٦) "فتح".
(٤) زيادة من م، أ.
461
شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسقَى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنيا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ". فسُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الحُمُر، فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (١).
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهِ (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ -عَمِّ الْفَرَزْدَقِ-: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ قَالَ: حَسْبِي! لَا أُبَالِي أَلَّا أَسْمَعَ غَيْرَهَا (٣).
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ المؤدب، عن أبيه، عن جرير ابن حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا صعصعةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ، فَذَكَرَهُ (٤).
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَدي مَرْفُوعًا: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" (٥) وَفِي الصَّحِيحِ: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ" (٦) وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "يَا نِسَاءَ (٧) الْمُؤْمِنَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ" (٨) يَعْنِي: ظِلْفَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بظلْف مُحَرق" (٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (١٠).
ورُويَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِعِنَبَةٍ، وَقَالَتْ: كَمْ فِيهَا مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ (١١).
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
(١) في م، أ: "من" وهو خطأ.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٦٢) وصحيح مسلم برقم (٩٨٧).
(٣) المسند (٥/٥٩).
(٤) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٩٤).
(٥) صحيح البخاري برقم (٧٥١٢).
(٦) صحيح مسلم برقم (٢٦٢٦) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(٧) في م: "يا معشر نساء"، وفي أ: "معشر النساء".
(٨) صحيح البخاري برقم (٢٥٦٦) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٩) رواه أحمد في المسند (٥/٣٨١) وأبو داود في السنن برقم (١٦٦٧) والترمذي في السنن برقم (٦٦٥) من حديث أم بجيد الأنصارية، رضي الله عنها. وقال الترمذي: "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح".
(١٠) المسند (٦/٧٩).
(١١) هو في الموطأ (٢/٩٩٧) بلاغا عن عائشة.
462
حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَك، بِهِ (١).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (٢) فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُجزى بِمَا عملتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَر الْخَيْرِ حَتَّى تُوفَاه يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (٣).
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ [عَنْ] (٤) أَبِي الْخَطَّابِ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: فِي كِتَابِ أَبِي قِلابة، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ (٥).
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَذَكَرَهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابن وهب، أخبرني حُيَي ابن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَاعِدٌ، فَبَكَى حِينَ أُنْزِلَتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ ". قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ، فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ" (٦).
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [مُحَمَّدِ بْنِ] (٧) الْمُغِيرَةِ -الْمَعْرُوفُ بِعَلَّانَ الْمِصْرِيِّ-قَالَا حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الحرَّاني، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَرَاءٍ عَمَلِيَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: تِلْكَ الْكِبَارُ الْكِبَارُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: الصِّغَارُ الصِّغَارُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: واثُكلَ أُمي. قَالَ: "أَبْشِرْ يَا أَبَا سَعِيدٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بعشر أمثالها -يعني إلى
(١) المسند (٦/١٥١) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٤٣).
(٢) في أ: "من" وهو خطأ.
(٣) تفسير الطبري (٣٠/١٧٣) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٤١٨) "مجمع البحرين" من طريق أبي الخطاب، به، وقال: "لم يروه عن أيوب إلا سماك، ولا عنه إلا الهيثم. تفرد به زيادة". قلت: الهيثم بن الربيع ضعيف.
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) تفسير الطبري (٣٠/١٧٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٧١٠٣) والطبراني في المعجم الكبير برقم (٨٧) "القطعة المعقودة" من طريق ابن وهب، به.
(٦) تفسير الطبري (٣٠/١٧٥).
(٧) زيادة من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (٣/١/١٩٥).
463
سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ -وَيُضَاعِفُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ، وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ". قُلْتُ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (١) ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ" (٢) قَالَ أَبُو زُرْعَة: لَمْ يَرْوِ هَذَا غَيْرُ ابْنِ لَهِيعة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي (٣) عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الْإِنْسَانِ: ٨]، كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤجَرون عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ إِلَى أَبْوَابِهِمْ فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ التَّمْرَةَ وَالْكَسْرَةَ والجَوْزة وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَرُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ. إِنَّمَا نُؤجَر عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ. وَكَانَ آخَرُونَ يَرَون أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ: الْكَذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعُدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ. فَرَغَّبَهُمْ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يَعْنِي: وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ ﴿خَيْرًا يَرَهُ﴾ يَعْنِي: فِي كِتَابِهِ، ويَسُرُّه ذَلِكَ. قَالَ: يَكْتُبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَاعَفَ اللَّهُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرٌ، وَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، فَمَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ". وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنيع الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، وأجَّجوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا (٤).
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "إذا زلزلت"] (٥) [ولله الحمد والمنة] (٦)
(١) في أ: "يا نبي الله".
(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/٥٩٤) وعزاه لابن أبي حاتم، ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٣) في م: "عن".
(٤) المسند (١/٤٠٢).
(٥) زيادة من م، أ.
(٦) زيادة من أ.
464
﴿ وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ يعني : ألقت ما فيها من الموتى. قاله غير واحد من السلف. وهذه كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [ الحج : ١ ] وكقوله ﴿ وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت ﴾ [ الانشقاق : ٣، ٤ ].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تَقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قَطَعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول : في هذا قُطِعت يدي، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا " ١.
١ - (٣) صحيح مسلم برقم (١٠١٣)..
وقوله :﴿ وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ أي : استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة، وهو مستقر على ظهرها، أي : تقلبت الحال، فصارت متحركة مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين، وحينئذ استنكر الناس أمرها، وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار.
وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ أي : تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن المبارك - وقال الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، واللفظ له : حدثنا سُوَيد بن نصر، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك - عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن أبي سليمان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ قال :" أتدرون ما أخبارها ؟ ". قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :" فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول : عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها " ١.
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.
وفي معجم الطبراني من حديث ابن لَهِيعة : حدثني الحارث بن يزيد - سمع ربيعة الجُرَشي - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًّا، إلا وهي مُخبرة " ٢.
١ - (١) المسند (٢/٣٧٤) وسنن الترمذي برقم (٣٣٥٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٩٣)..
٢ - (٢) المعجم الكبير (٥/٦٥) وقال الهيثمي في المجمع (١/٢٤١): "وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف"..
وقوله :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ قال البخاري : أوحى لها وأوحى إليها، ووحى لها ووحى إليها : واحد١ وكذا قال ابن عباس :﴿ أَوْحَى لَهَا ﴾ أي : أوحى إليها.
والظاهر أن هذا مُضَمَّن [ بمعنى ]٢ أذن لها.
وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ قال : قال لها ربها : قولي، فقالت.
وقال مجاهد :﴿ أَوْحَى لَهَا ﴾ أي : أمرها. وقال القُرَظي : أمرها أن تنشق عنهم.
١ - (٣) صحيح البخاري (٨/٧٢٦) "فتح"..
٢ - (٤) زيادة من م، أ..
وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ﴾ أي : يرجعون عن مواقف الحساب، ﴿ أَشْتَاتًا ﴾ أي : أنواعًا وأصنافًا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار.
قال ابن جريج : يتصدعون أشتاتًا فلا يجتمعون آخر ما عليهم.
وقال السُّدِّي :﴿ أَشْتَاتًا ﴾ فرقا.
وقوله تعالى :﴿ لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي : ليعملوا ويجازوا بما عملوه في الدنيا، من خير وشر. ولهذا قال :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السَّمان، عن أبي هُرَيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخيل لثلاثة : لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طِيَلها في مرج أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنَّت شَرَفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء، فهي على ذلك وزر ". فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر، فقال :" ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ ١. ورواه مسلم، من حديث زيد بن أسلم، به٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، عن صعصعة بن معاوية - عم الفرزدق - : أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قال : حسبي ! لا أبالي ألا أسمع غيرها٣. وهكذا رواه النسائي في التفسير، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب، عن أبيه، عن جرير بن حازم، عن الحسن البصري قال : حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق، فذكره٤.
وفي صحيح البخاري، عن عَدي مرفوعا :" اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، ولو بكلمة طيبة " ٥ وفي الصحيح :" لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " ٦، وفي الصحيح أيضا :" يا نساء ٧ المؤمنات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة " ٨ يعني : ظلفها. وفي الحديث الآخر :" ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق " ٩.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان ". تفرد به أحمد١٠.
ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة، وقالت : كم فيها من مثقال ذرة١١.
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير : حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل : أن عائشة أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا ". ورواه النسائي وابن ماجة، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك، به١٢.
وقال ابن جرير : حدثني أبو الخطاب الحساني، حدثنا الهيثم بن الربيع، حدثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾١٣ فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر ؟ فقال :" يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة " ١٤.
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه [ عن ]١٥ أبي الخطاب، به. ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب قال : في كتاب أبي قِلابة، عن أبي إدريس : أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره١٦.
ورواه أيضًا عن يعقوب، عن ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي قلابة : أن أبا بكر، وذكره.
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما يبكيك يا أبا بكر ؟ ". قال : يبكيني هذه السورة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر الله لكم، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " ١٧.
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن [ محمد بن ]١٨ المغيرة - المعروف بعلان المصري - قالا : حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني، حدثنا ابن لَهِيعة، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قلت : يا رسول الله، إني لراء عملي ؟ قال :" نعم ". قلت : تلك الكبار الكبار ؟ قال :" نعم ". قلت : الصغار الصغار ؟ قال :" نعم ". قلت : واثُكلَ أُمي. قال :" أبشر يا أبا سعيد ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها - يعني إلى سبعمائة ضعف - ويضاعف الله لمن يشاء، والسيئة بمثلها أو يغفر الله، ولن ينجو أحد منكم بعمله ". قلت : ولا أنت يا رسول الله١٩ ؟ قال :" ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة " ٢٠ قال أبو زُرْعَة : لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لهيعة، حدثني٢١ عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ وذلك لما نزلت هذه الآية :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [ الإنسان : ٨ ]، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء، إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه. وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر. فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ يعني : وزن أصغر النمل ﴿ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ يعني : في كتابه، ويَسُرُّه ذلك. قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة. وبكل حسنة عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا، بكل واحدة عشر، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة، دخل الجنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صَنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها٢٢.
١ - (١) في م، أ: "من" وهو خطأ..
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٦٢) وصحيح مسلم برقم (٩٨٧)..
٣ - (٣) المسند (٥/٥٩)..
٤ - (٤) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٩٤)..
٥ - (٥) صحيح البخاري برقم (٧٥١٢)..
٦ - (٦) صحيح مسلم برقم (٢٦٢٦) من حديث أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه..
٧ - (٧) في م: "يا معشر نساء"، وفي أ: "معشر النساء"..
٨ - (٨) صحيح البخاري برقم (٢٥٦٦) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٩ - (٩) رواه أحمد في المسند (٥/٣٨١) وأبو داود في السنن برقم (١٦٦٧) والترمذي في السنن برقم (٦٦٥) من حديث أم بجيد الأنصارية، رضي الله عنها. وقال الترمذي: "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح"..
١٠ - (١٠) المسند (٦/٧٩)..
١١ - (١١) هو في الموطأ (٢/٩٩٧) بلاغا عن عائشة..
١٢ - (١) المسند (٦/١٥١) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٤٣)..
١٣ - (٢) في أ: "من" وهو خطأ..
١٤ - (٣) تفسير الطبري (٣٠/١٧٣) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٤١٨) "مجمع البحرين" من طريق أبي الخطاب، به، وقال: "لم يروه عن أيوب إلا سماك، ولا عنه إلا الهيثم. تفرد به زيادة". قلت: الهيثم بن الربيع ضعيف..
١٥ - (٤) زيادة من م، أ..
١٦ - (٥) تفسير الطبري (٣٠/١٧٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٧١٠٣) والطبراني في المعجم الكبير برقم (٨٧) "القطعة المعقودة" من طريق ابن وهب، به..
١٧ - (٦) تفسير الطبري (٣٠/١٧٥)..
١٨ - (٧) زيادة من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (٣/١/١٩٥)..
١٩ - (١) في أ: "يا نبي الله"..
٢٠ - (٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/٥٩٤) وعزاه لابن أبي حاتم، ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٢١ - (٣) في م: "عن"..
٢٢ - (٤) المسند (١/٤٠٢)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧:قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السَّمان، عن أبي هُرَيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخيل لثلاثة : لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طِيَلها في مرج أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنَّت شَرَفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء، فهي على ذلك وزر ". فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر، فقال :" ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ ١. ورواه مسلم، من حديث زيد بن أسلم، به٢.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، عن صعصعة بن معاوية - عم الفرزدق - : أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قال : حسبي ! لا أبالي ألا أسمع غيرها٣. وهكذا رواه النسائي في التفسير، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب، عن أبيه، عن جرير بن حازم، عن الحسن البصري قال : حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق، فذكره٤.
وفي صحيح البخاري، عن عَدي مرفوعا :" اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، ولو بكلمة طيبة " ٥ وفي الصحيح :" لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " ٦، وفي الصحيح أيضا :" يا نساء ٧ المؤمنات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة " ٨ يعني : ظلفها. وفي الحديث الآخر :" ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق " ٩.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان ". تفرد به أحمد١٠.
ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة، وقالت : كم فيها من مثقال ذرة١١.
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير : حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل : أن عائشة أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا ". ورواه النسائي وابن ماجة، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك، به١٢.
وقال ابن جرير : حدثني أبو الخطاب الحساني، حدثنا الهيثم بن الربيع، حدثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾١٣ فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر ؟ فقال :" يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة " ١٤.
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه [ عن ]١٥ أبي الخطاب، به. ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب قال : في كتاب أبي قِلابة، عن أبي إدريس : أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره١٦.
ورواه أيضًا عن يعقوب، عن ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي قلابة : أن أبا بكر، وذكره.
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما يبكيك يا أبا بكر ؟ ". قال : يبكيني هذه السورة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر الله لكم، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " ١٧.
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن [ محمد بن ]١٨ المغيرة - المعروف بعلان المصري - قالا : حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني، حدثنا ابن لَهِيعة، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قلت : يا رسول الله، إني لراء عملي ؟ قال :" نعم ". قلت : تلك الكبار الكبار ؟ قال :" نعم ". قلت : الصغار الصغار ؟ قال :" نعم ". قلت : واثُكلَ أُمي. قال :" أبشر يا أبا سعيد ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها - يعني إلى سبعمائة ضعف - ويضاعف الله لمن يشاء، والسيئة بمثلها أو يغفر الله، ولن ينجو أحد منكم بعمله ". قلت : ولا أنت يا رسول الله١٩ ؟ قال :" ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة " ٢٠ قال أبو زُرْعَة : لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لهيعة، حدثني٢١ عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ وذلك لما نزلت هذه الآية :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [ الإنسان : ٨ ]، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء، إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه. وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر. فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ يعني : وزن أصغر النمل ﴿ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ يعني : في كتابه، ويَسُرُّه ذلك. قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة. وبكل حسنة عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا، بكل واحدة عشر، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة، دخل الجنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صَنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها٢٢.
١ - (١) في م، أ: "من" وهو خطأ..
٢ - (٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٦٢) وصحيح مسلم برقم (٩٨٧)..
٣ - (٣) المسند (٥/٥٩)..
٤ - (٤) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٩٤)..
٥ - (٥) صحيح البخاري برقم (٧٥١٢)..
٦ - (٦) صحيح مسلم برقم (٢٦٢٦) من حديث أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه..
٧ - (٧) في م: "يا معشر نساء"، وفي أ: "معشر النساء"..
٨ - (٨) صحيح البخاري برقم (٢٥٦٦) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٩ - (٩) رواه أحمد في المسند (٥/٣٨١) وأبو داود في السنن برقم (١٦٦٧) والترمذي في السنن برقم (٦٦٥) من حديث أم بجيد الأنصارية، رضي الله عنها. وقال الترمذي: "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح"..
١٠ - (١٠) المسند (٦/٧٩)..
١١ - (١١) هو في الموطأ (٢/٩٩٧) بلاغا عن عائشة..
١٢ - (١) المسند (٦/١٥١) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٤٣)..
١٣ - (٢) في أ: "من" وهو خطأ..
١٤ - (٣) تفسير الطبري (٣٠/١٧٣) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٤١٨) "مجمع البحرين" من طريق أبي الخطاب، به، وقال: "لم يروه عن أيوب إلا سماك، ولا عنه إلا الهيثم. تفرد به زيادة". قلت: الهيثم بن الربيع ضعيف..
١٥ - (٤) زيادة من م، أ..
١٦ - (٥) تفسير الطبري (٣٠/١٧٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٧١٠٣) والطبراني في المعجم الكبير برقم (٨٧) "القطعة المعقودة" من طريق ابن وهب، به..
١٧ - (٦) تفسير الطبري (٣٠/١٧٥)..
١٨ - (٧) زيادة من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (٣/١/١٩٥)..
١٩ - (١) في أ: "يا نبي الله"..
٢٠ - (٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/٥٩٤) وعزاه لابن أبي حاتم، ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٢١ - (٣) في م: "عن"..
٢٢ - (٤) المسند (١/٤٠٢)..


[ آخر تفسير سورة " إذا زلزلت " ]١ [ ولله الحمد والمنة ]٢
١ - (٥) زيادة من م، أ..
٢ - (٦) زيادة من أ..
Icon