هذه السورة مكية بلا خلاف، وعن عبد الله : الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر ﴿ قل كل متربص فتربصوا ﴾ قال مشركو قريش : محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى ﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾.
ﰡ
ترتيبها ٢١ سورة الأنبياء آياتها ١١٢ مكية
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٥٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُ احْتَرَسْتُ. وَقَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا | ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا |
إِذَا رُبْدَةٌ مِنْ حَيْثُ مَا نَفَخَتْ لَهُ | إِيَّاهُ بَرَيَاهَا خَلِيلٌ يُوَاصِلُهُ |
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: الْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَّلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي أَي مِنْ قَدِيمِ مَا حَفِظْتُ وَكَسَبْتُ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْمَالِ التِّلَادِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا «١» قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ:
مُحَمَّدٌ يُهَدِّدُنَا بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنْ صَحَّ فَفِيهِ بُعْدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، واقْتَرَبَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ وَهُوَ قَرُبَ كَمَا تَقُولُ: ارْتَقَبَ وَرَقَبَ. وَقِيلَ: هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَرُبَ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي فِي الْبِنَاءِ. وَالنَّاسُ مُشْرِكُو مَكَّةَ.
وَقِيلَ: عَامٌّ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَاقْتِرَابُ الْحِسَابِ اقْتِرَابُ وَقْتِهِ وَالْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ إِخْرَاجُ الْكَمِّيَّةِ مِنْ مَبْلَغِ الْعَدَدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَحْسُوبِ وَجَعَلَ ذَلِكَ اقْتِرَابًا لِأَنَّ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ وَإِنْ طَالَ وَقْتُ انْتِظَارِهِ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُوَ الَّذِي انْقَرَضَ أَوْ هُوَ مُقْتَرِبٌ عِنْدَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «٢» أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ أَقْصَرُ وَأَقَلُّ مِمَّا مَضَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ».
قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا زَالَ مَنْ يَهْوَاهُ أَقْرَبَ مِنْ غَدِ | وَمَا زَالَ مَنْ يَخْشَاهُ أَبْعَدَ مِنْ أَمْسِ |
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٤٧.
وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخِبْرَيْنِ ظَاهِرُهُمَا التَّنَافِي لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنِ الشَّيْءِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ مُتَنَافِيَانِ، لَكِنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَوَّلًا أَنَّهُمْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي عَاقِبَةٍ بَلْ هُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ثَانِيًا أَنَّهُمْ إِذَا نَبِهُوا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَذُكِّرُوا بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ، وَالذِّكْرُ هُنَا مَا يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ أَقْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَوَعْظِهِ وَتَذْكِيرِهِ وَوَصْفِهِ بِالْحُدُوثِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ لِنُزُولِهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ.
وَسُئِلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ مُحْدَثُ النُّزُولِ مُحْدَثُ الْمَقُولِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَالَ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا «١» وَقَدِ احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى حُدُوثِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ مُحْدَثٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُحْدَثٍ بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِذِكْرٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِذِكْرٍ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ ذِكْرٍ إِذْ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنْ رَبِّهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ رَبِّهِمْ بِيَأْتِيهِمْ. واسْتَمَعُوهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَذُو الْحَالِ الْمَفْعُولُ فِي مَا يَأْتِيهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَمَعُوهُ ولاهِيَةً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَلْعَبُونَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ اسْتَمَعُوهُ فَيَكُونُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَاللَّاهِيَةُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ لَهِي عَنْهُ إِذَا ذَهَلَ وَغَفَلَ يَلْهَى لَهْيًا وَلِهْيَانًا، أَيْ وَإِنْ فَطِنُوا لَا يُجْدِي ذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ وَعَدَمِ التَّبَصُّرِ بِقُلُوبِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى لاهِيَةً بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لقوله وَهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ | أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا |
يَلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ | النَّخِيلِ أَهْلِي وَكُلُّهُمْ أَلُومُ |
وَهَؤُلَاءِ أَسَرُّوا النَّجْوَى فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَى فِعْلِهِمْ أَنَّهُ ظَلَمَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ الْقَوْلِ وَحُذِفَ أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْقَوْلُ كَثِيرًا يُضْمَرُ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ أَسَرَّهَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقِيلَ: الَّذِينَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ وَالنَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي قَالَهُ بَعْضُهُمْ. وَالْجَرُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلنَّاسِ أَوْ بَدَلًا فِي قَوْلِهِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ.
هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ أَيْ كَيْفَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ دُونَكُمْ مَعَ مُمَاثَلَتِهِ لَكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنْكَارُهُمْ وَتَعَجُّبُهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا ملكا. وأَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ والسِّحْرَ عَنَوْا بِهِ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ الْمَتْلُوُّ عَلَيْهِمْ، أَيْ أَفَتُحْضِرُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ النَّجْوَى أَيْ وَأَسَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَالُوا مُضْمَرًا انْتَهَى.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ والأعمش وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَيُّوبُ وَخَلَفٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ قالَ رَبِّي عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قُلْ عَلَى الْأَمْرِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَقْوَالَكُمْ هَذِهِ، وَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا والْقَوْلَ عَامٌّ يَشْمَلُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ، فَكَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ الْقَوْلَ عِلْمُ السِّرِّ وَزِيَادَةٌ، وَكَانَ آكَدَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى نَجْوَاهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مَا أَتَى بِهِ سِحْرٌ ذَكَرَ اضْطِرَابَهُمْ فِي مَقَالَاتِهِمْ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَضْرَبُوا عَنْ نسبة السحر إليه وقالُوا مَا يَأْتِي بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عن هذا فقالوا بَلِ افْتَراهُ أَيِ اخْتَلَقَهُ وَلَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ هَذَا فَقَالُوا بَلْ هُوَ شاعِرٌ وَهَكَذَا الْمُبْطِلُ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ بَلْ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِينَ مُتَّفِقِينَ انْتَقَلُوا مِنْ قَوْلٍ إِلَى قَوْلٍ أَوْ مُخْتَلِفِينَ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَقَالَةً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ لِأَقْوَالِهِمْ فِي دَرَجِ الْفَسَادِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ الثَّانِيَ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ أَفْسَدُ مِنَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ الرَّابِعُ مِنَ الثَّالِثِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ شَاعِرٌ وَهِيَ مَقَالَةُ فِرْقَةٍ عَامِّيَّةٍ لِأَنَّ بَنَاتَ الشِّعْرِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ بِالْبَدِيهَةِ، وَإِنَّ مَبَانِيَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مَبَانِيَ شِعْرٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ وَتَرْتِيبُ كَلَامِهِمْ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ثَمَّ إِمَّا أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى أَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ خَارِجَةٌ عَنْ مِقْدَارِ الْبَشَرِ قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِحْرًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَيْنَا كَوْنَهُ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ قُلْنَا إِنَّهُ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَإِنِ
وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ تَقْدِيرِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا إِمْهَالَ بَعْدَهَا كَالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «١» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِحَّةُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى كَمَا أَتَى الْأَوَّلُونَ بِالْآيَاتِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِتْيَانِ بِالْآيَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَتَى مُحَمَّدٌ بِالْمُعْجِزَةِ، وَأَنْ تَقُولَ: أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ بِالْمُعْجِزَةِ انْتَهَى.
وَالْكَافُ فِي كَما أُرْسِلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِآيَةٍ، وَمَا أُرْسِلَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ وَالْمَعْنَى بِآيَةٍ مِثْلِ آيَةِ إِرْسَالِ الْأَوَّلِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِتْيَانًا مِثْلَ إِرْسَالِ الْأَوَّلِينَ أَيْ مِثْلِ إِتْيَانِهِمْ بِالْآيَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي طَلَبُوهَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ اللَّهُ بِآيَةٍ مُقْتَرَحَةٍ إلا أتى بالعذاب بعدها. وَأَرَادَ تَعَالَى تَأْخِيرَ هَؤُلَاءِ وَفِي قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ.
ثُمَّ أَجَابَ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ بِقَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَالْمُرَادُ بِهِمْ قَوْمُ صَالِحٍ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُهُمَا، وَمَعْنَى أَهْلَكْناها حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا بِمَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ اسْتِبْعَادٌ وَإِنْكَارٌ أَيْ هَؤُلَاءِ أَعْنِي مِنَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمُ الْآيَاتِ وَعَهِدُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ نَكَثُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَلَوْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ مَا اقْتَرَحُوا لَكَانُوا أَنْكُثَ مِنْ أُولَئِكَ، وَكَانَ يَقَعُ اسْتِئْصَالُهُمْ وَلَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْقَائِهِمْ لِيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ وَيُخْرِجَ مِنْهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عند الله من جِنْسِ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا أَيْ بَشَرًا وَلَمْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً كَمَا اعْتَقَدُوا، ثُمَّ أَحَالَهُمْ عَلَى أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُشَايِعِينَ لِلْكُفَّارِ سَاعِينَ فِي إِخْمَادِ نُورِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ إِرْسَالِ الْبَشَرِ. وَقَوْلُهُ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَكُنْ لَهَا كِتَابٌ سَابِقٌ وَلَا أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَهْلَ الذِّكْرِ هُمْ أَحْبَارُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَشَهَادَتُهُمْ تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ فِي إِرْسَالِ اللَّهِ الْبَشَرَ هَذَا مَعَ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهَادَتُهُمْ لَا مَطْعَنَ فِيهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: أَنَا مِنْ
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خُصُومَهُمْ انْتَهَى. وَقِيلَ أَهْلَ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ بِالسَّيْرِ وَقِصَصِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْحَصُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِذَا كَانَ أَهْلَ الذِّكْرِ أُرِيدَ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ جَازَ أَنْ يُسْأَلُوا وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُمْ كُفَّارًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوحَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَحَفْصٌ نُوحِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الحاء والجسد يَقَعُ عَلَى مَا لَا يَتَغَذَّى مِنَ الْجَمَادِ. وَقِيلَ: يقع على المتغذي وَغَيْرِهِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّفْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى الْجَسَدِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُثْبَتًا، وَالنَّفْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى صِفَتِهِ وَوَحَّدَ الْجَسَدَ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ: ذَوِي ضَرْبٍ مِنَ الْأَجْسَادِ، وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي الْجِسْمِيَّةَ الْحَيَوَانِيَّةَ، وَهَذِهِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ مَادَّةٍ تَقُومُ بِهَا، وَقَدْ خَرَجُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَآلُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ وَالنَّفَادِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخُلُودَ وَهُوَ الْبَقَاءُ السَّرْمَدِيُّ أَوِ الْبَقَاءُ الْمُدَّةَ الْمُتَطَاوِلَةَ أَيْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ بَشَرٌ أَجْسَادٌ يُطْعَمُونَ وَيَمُوتُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالَّذِي صَارُوا بِهِ رُسُلًا هُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَعِصْمَتُهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَادِحَةِ فِي التَّبْلِيغِ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ ذَكَرَ تَعَالَى سِيرَتَهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ فَكَذَلِكَ يَصْدُقُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ الْكَلِمَةِ، فَهَذِهِ عِدَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ووعيد للكافرين وصَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مِنْ بَابِ اخْتَارَ وَهُوَ مَا يَتَعَدَّى الْفِعْلُ فِيهِ إِلَى وَاحِدٍ وَإِلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ أَيْ فِي الْوَعْدَ وَهُوَ بَابٌ لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ مِنْ ذَلِكَ أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ وَنَظِيرُ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ قَوْلُهُمْ: صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ وَصَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ وَصَدَقْتُ زَيْدًا الحديث ومَنْ نَشاءُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمُسْرِفُونَ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُفْرِطُونَ فِي غَيِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ مُفَرِّطٌ مُسْرِفٌ وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنْ شَرِّ أَعْدَائِهِمْ وَمِنَ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِأَعْدَائِهِمْ.
وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَعْدِهِ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكُمْ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ ذِكْرُ دِينِكُمْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِيهِ حَدِيثُكُمْ،
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ.
لَمَّا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ بَالَغَ تَعَالَى فِي زَجْرِهِمْ بِذِكْرِ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرَى، فَقَالَ: وَكَمْ قَصَمْنا وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا إِذْ لَا تُوصَفُ الْقَرْيَةُ بِالظُّلْمِ كَقَوْلِهِ مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها «٢» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أنشأه فنشأ وهو ناشىء وَالْجَمْعُ نُشَّاءٌ كَخَدَمٍ، وَالْقَصْمُ أَفْظَعُ الْكَسْرِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ الشَّدِيدِ وَكَمْ تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فَالْمَعْنَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا شَدِيدًا مُبَالَغًا فِيهِ. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا حَضُورَاءُ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ أَنَّهُمَا قَرْيَتَانِ بِالْيَمَنِ بَطَرَ أَهْلُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ كَمْ تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَهْلِ حَضُورَاءَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ كما
(٢) سورة النساء: ٤/ ٧٥.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أَيْ بَاشَرُوهُ بِالْإِحْسَاسِ وَالضَّمِيرُ فِي أَحَسُّوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْمَحْذُوفِ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ قَوْماً آخَرِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ ذَنْبٌ يَرْكُضُونَ مِنْ أَجْلِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى بَأْسَنا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّدَّةِ، فَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى وَمِنْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ رَكِبُوا دَوَابَّهُمْ يَرْكُضُونَهَا هَارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ. قِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ شُبِّهُوا فِي سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ بِالرَّاكِبِينَ الرَّاكِضِينَ لِدَوَابِّهِمْ فَهُمْ يَرْكُضُونَ الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا قَالَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ «١» وَجَوَابُ لَمَّا إِذا الْفُجَائِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهَذَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ لَمَّا فِي هَذَا التَّرْكِيبِ حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ رِجَالِ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أنهم خدعوهم واستهزؤا بِهِمْ بِأَنْ قَالُوا لِلْهَارِبِينَ مِنْهُمْ: لَا تَفِرُّوا وَارْجِعُوا إلى منازلكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ صُلْحًا أَوْ جِزْيَةً أَوْ أَمْرًا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَمَرَ بُخْتُ نَصَّرَ أَنْ يُنَادَى فِيهِمْ يَا لَثَارَّاتِ النَّبِيِّ الْمَقْتُولِ فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ عَنْ آخِرِهِمْ، هَذَا كُلُّهُ مَرْوِيٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَصَفَ قِصَّةَ كُلِّ قَرْيَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْيِينَ حَضُورَاءَ وَلَا غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرَى كَانُوا بِاغْتِرَارِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ عَذَابٌ أَوْ أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ حَتَّى يَتَخَاصَمُوا وَيُسْأَلُوا عَنْ وَجْهِ تَكْذِيبِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ فَيَحْتَجُّونَ هُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بِحُجَجٍ تَنْفَعُهُمْ فِي ظَنِّهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَذَابُ دُونَ هَذَا الَّذِي أَمِلُوهُ وَرَكَضُوا فَارِّينَ نَادَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ بِهِمْ.
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ كَمَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ لِسَفَهِ آرَائِكُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي الْقَائِلُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ ثَمَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يُجْعَلُونَ خُلَقَاءَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ، أَوْ يَقُولَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيُسْمِعَهُ مَلَائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ يُلْهِمَهُمْ ذَلِكَ فَيُحَدِّثُوا بِهِ نُفُوسَهُمْ.
وَنِدَاءُ الْوَيْلِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا وَيْلُ هَذَا زَمَانُكَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَيْلِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالظُّلْمُ هُنَا الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَإِيقَاعُ أَنْفُسِهِمْ فِي الْهَلَاكِ، وَاسْمُ زالَتْ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ وَهُوَ تِلْكَ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ أَيْ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الدَّعْوَى دَعْواهُمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَمَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ كَقَوْلِهِ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١» وَالدَّعْوَى مَصْدَرُ دَعَا يُقَالُ: دَعَا دَعْوَى وَدَعْوَةً كَقَوْلِهِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ «٢» لِأَنَّ الْمُوَيَّلَ كَأَنَّهُ يَدْعُو الْوَيْلَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: تِلْكَ اسم زالَتْ ودَعْواهُمْ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَعْواهُمْ اسم زالَتْ وتِلْكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ قَبْلَهُمْ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فَاسْمُ كَانَ وَخَبَرُهَا مُشَبَّهٌ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي بَابِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِذَا أُلْبِسَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ الْخَبَرَ وَالْمُتَأَخِّرُ الِاسْمَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي بَابِ كَانَ، فَإِذَا قُلْتَ: كَانَ مُوسَى صَدِيقِي لَمْ يَجُزْ فِي مُوسَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمَ كَانَ وَصَدِيقِي الْخَبَرَ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى، فَمُوسَى الْفَاعِلُ وَعِيسَى الْمَفْعُولُ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِي هَذَا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إِلَّا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ عُرِفَ بَابْنِ الْحَاجِّ وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ أَبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ وَنُبَهَائِهِمْ، فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْمَفْعُولَ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ الْفَاعِلَ وَإِنْ أُلْبِسَ فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمَ زالَتْ ودَعْواهُمْ الخبر.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ١٠.
قُلْتُ: حُكْمُ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: جَعَلْتُهُ حُلْوًا حَامِضًا جَعَلْتُهُ لِلطَّعْمَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى ذَلِكَ جَعَلْناهُمْ جَامِعِينَ لِمُمَاثَلَةِ الْحَصِيدِ وَالْخُمُودِ، وَالْخُمُودُ عُطِفَ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ لَا عَلَى الْحَصِيدِ انْتَهَى.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَصْمَ تِلْكَ الْقُرَى الظَّالِمَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَمُجَازَاةً عَلَى مَا فَعَلُوا وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْشَأَ هَذَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الْمُحْتَوِيَ عَلَى عَجَائِبَ مِنْ صُنْعِهِ وَغَرَائِبَ مِنْ فِعْلِهِ، وَهَذَا الْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْهَوَاءِ وَالسَّحَابِ وَالرِّيَاحِ عَلَى سَبِيلِ اللَّعِبِ بَلْ لِفَوَائِدَ دِينِيَّةٍ تَقْضِي بِسَعَادَةِ الْأَبَدِ أَوْ بِشَقَاوَتِهِ، وَدُنْيَاوِيَّةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى كَقَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «١» وَقَوْلِهِ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ «٢».
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّعِبُ فِعْلٌ يَدْعُو إِلَيْهِ الْجَهْلُ يَرُوقُ أَوَّلُهُ وَلَا ثَبَاتَ لَهُ، وَإِنَّمَا خَلَقْنَاهُمَا لِنُجِازِيَ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ، وَلِيُسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ انتهى. ولَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أَصْلُ اللَّهْوِ مَا تُسْرِعُ إِلَيْهِ الشَّهْوَةُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ الْهَوَى، وَقَدْ يُكَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ، وَأَمَّا هُنَا فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ هُوَ الْوَلَدُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هو الولد بلغة حضر موت. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «٣» وَعَنْهُ أَنَّ اللَّهْوَ هُنَا اللَّعِبُ. وَقِيلَ:
اللَّهْوُ هُنَا الْمَرْأَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَتَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ لِلَّهِ زَوْجَةً وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا مِنْ عِنْدِنَا بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فَسَتْرُهُ أَوْلَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ السَّمَاءِ لَا مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا.
وَقِيلَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْإِنْسِ رَدًّا لولادة المسيح وعزيز. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيَّنَ أَنَّ
(٢) سورة الدخان: ٤٤/ ٣٩. [.....]
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١١٦.
بَلْ نَقْذِفُ أَيْ نَرْمِي بِسُرْعَةٍ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى الْباطِلِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ كُلُّ ما في القرآن من الْبَاطِلِ فَهُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: بِالْحَقِّ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ شُبَهُهُمْ وَوَصْفَهُمُ اللَّهَ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ مِنَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْحَقُّ عَامٌّ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْبَاطِلُ أَيْضًا عَامٌّ كَذَلِكَ وبَلْ إِضْرَابٌ عَنِ اتِّخَاذِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدْحَضُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْقَذْفَ وَالدَّمْغَ تَصْوِيرًا لِإِبْطَالِهِ وَإِهْدَارِهِ وَمَحْقِهِ، فَجَعَلَهُ كَأَنَّهُ جُرْمٌ صُلْبٌ كَالصَّخْرَةِ مَثَلًا قَذَفَ بِهِ عَلَى جُرْمٍ رَخْوٍ أَجْوَفَ فَدَمَغَهُ أَيْ أَصَابَ دِمَاغَهُ، وَذَلِكَ مُهْلِكٌ فِي الْبَشَرِ فَكَذَلِكَ الْحَقُّ يُهْلِكُ الْبَاطِلَ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَيَدْمَغُهُ بِنَصْبِ الْغَيْنِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ فِي ضَعْفِ قَوْلِهِ:
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ | وَأَلْحَقُ بالحجاز فأستريحا |
وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَرَّمُونَ مُنَزَّلُونَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْزِلَةَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ لِشَرَفِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، وَيُقَالُ: حَسَرَ الْبَعِيرُ وَاسْتَحْسَرَ كَلَّ وَتَعِبَ وَحَسَرْتُهُ أَنَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، وَأَحْسَرْتُهُ أَيْضًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا | فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ |
يُسَبِّحُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَصَفَهُمْ بِتَسْبِيحٍ دَائِمٍ. وَعَنْ كَعْبٍ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كَالنَّفَسِ وَطَرْفِ الْعَيْنِ لِلْبَشَرِ يَقَعُ مِنْهُمْ دَائِمًا دُونَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِيهِ سَآمَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ رَاحَةٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنَّ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ كُلَّهُمْ مِلْكٌ لَهُ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُكَرَّمِينَ هُمْ فِي خِدْمَتِهِ لَا يَفْتُرُونَ عَنْ تَسْبِيحِهِ وَعِبَادَتِهِ، عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ وتسفيه أحلامهم وأَمِ هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة فَفِيهَا إِضْرَابٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَاسْتِفْهَامٌ معناه التعجب والإنكار أي اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يَتَّصِفُونَ بِالْإِحْيَاءِ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْإِمَاتَةِ، أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا آلِهَةً بِهَذَا الْوَصْفِ بَلِ اتَّخَذُوا آلِهَةً جَمَادًا لَا يَتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ فَهِيَ غَيْرُ آلِهَةٍ لِأَنَّ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِ الْقُدْرَةَ
قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ رَبُّكِ؟» فَأَشَارَتْ إلى السماء فقال: «إِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»
لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ مُرَادَهَا نَفْيُ الْآلِهَةِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْنَامُ لَا إِثْبَاتُ السَّمَاءِ مَكَانًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ آلِهَةٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تُنْحَتَ مِنْ بَعْضِ الْحِجَارَةِ أَوْ تُعْمَلَ مِنْ بَعْضِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ فِي قَوْلِهِ هُمْ قُلْتُ: النُّكْتَةُ فِيهِ إِفَادَةُ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِنْشَاءِ إِلَّا هم وحدهم انتهى.
واتَّخَذُوا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهَا صَنَعُوا وَصَوَّرُوا، ومِنَ الْأَرْضِ متعلق باتخذوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَعَلُوا الْآلِهَةَ أَصْنَامًا مِنَ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً «١» وَقَوْلِهِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «٢» وَفِيهِ مَعْنَى الْاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنْشِرُونَ مُضَارِعُ أَنْشَرَ وَمَعْنَاهُ يُحْيُونَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَاهُ يَخْلُقُونَ كَقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «٣». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ يُنْشِرُونَ مُضَارِعُ نَشَرَ، وَهُمَا لُغَتَانِ نَشَرَ وَأَنْشَرَ مُتَعَدِّيَانِ، وَنَشَرَ يَأْتِي لَازِمًا تَقُولُ: أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنَشَرُوا أَيْ فَحَيُوا، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِما عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمَا كناية عن العالم. وإِلَّا صفة لآلهة أَيْ آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهُ وَكَوْنُ إِلَّا يُوصَفُ بِهَا مَعْهُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ الله:
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٢٥.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٧.
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ | لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ |
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ وجب الأمر ان قُلْتُ: لِعِلْمِنَا أَنَّ الرَّعِيَّةَ تَفْسُدُ بِتَدْبِيرِ الْمَلِكَيْنِ لِمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّنَاكُرِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَعَنْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ حِينَ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ كَانَ وَاللَّهِ أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْ دَمِ نَاظِرَيَّ وَلَكِنْ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي شَوْلٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ التَّمَانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِيهَا تَجَادُلٌ وَطِرَادٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى تِلْكَ الذَّاتِ الْمُتَمَيِّزَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَتَّى تَثْبُتَ وَتَسْتَقِرَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَذْهَبُ بِمَا خَلَقَ، وَاقْتِضَابُ الْقَوْلِ فِي هَذَا أَنَّ إِلَهَيْنِ لَوْ فَرَضْنَا بَيْنَهُمَا الِاخْتِلَافَ فِي تَحْرِيكِ جِسْمٍ وَلَا تَحْرِيكِهِ فَمُحَالٌ أَنْ تَتِمَّ الْإِرَادَتَانِ، وَمُحَالٌ أَنْ لَا تَتِمَّ جَمِيعًا، وَإِذَا تَمَّتِ الْوَاحِدَةُ كَانَ صَاحِبُ الْأُخْرَى عَاجِزًا وَهَذَا لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَجَوَازُ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِمَا بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِهِ مِنْهُمَا، وَنَظَرٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَمُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ قُدْرَتَانِ، فَإِذَا كَانَتْ قُدْرَةُ أَحَدِهِمَا تُوجِدُهُ فَفِي الْآخَرِ فَضْلًا لَا مَعْنَى لَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ ثُمَّ يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُودِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَازَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَعِيَّتِهِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُشَارِكًا لِلْآخَرِ وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى آخَرَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَإِذًا وَاجِبُ الْوُجُودِ لَيْسَ إِلَّا وَاحِدًا فَكُلُّ مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ هَذَا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا لَمَّا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ أَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَاجِبًا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْوَاجِبُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْفَسَادُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى قَوْلِكَ لَوْ كانَ فِيهِما
وَلَمَّا أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ أَهْلُ الْجَهْلِ بِقَوْلِهِ فَسُبْحانَ اللَّهِ ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مَالِكُ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَمِيعُ الْعَالَمِ هُوَ مُتَضَمِّنُهُمْ ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْحُكْمِ فقال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إِذْ لَهُ أَنْ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ، وَفِعْلُهُ عَلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ وَلَا تَعَقُّبَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مَعَ إِمْكَانِ الْخَطَأِ فِيهَا، كَانَ مَلِكُ الْمُلُوكِ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يُسْأَلَ هَذَا مَعَ عِلْمِنَا أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْعَارِيَةُ عَنِ الْخَلَلِ وَالتَّعَقُّبِ، وَجَاءَ عَمَّا يَفْعَلُ إِذِ الْفِعْلُ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَهُ كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ فِي قوله لا يُسْئَلُ الْعُمُومُ فِي الْأَزْمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فِي الْقِيَامَةِ لا يُسْئَلُ عَنْ حُكْمِهِ فِي عِبَادِهِ وَهُمْ يُسْئَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا يُحَاسَبُ وَهُمْ يُحَاسَبُونَ. وَقِيلَ: لَا يُؤَاخَذُ وَهُمْ يُؤَاخَذُونَ انْتَهَى. وَهُمْ يُسْئَلُونَ لِأَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ مُسْتَعْبَدُونَ وَاقِعٌ مِنْهُمُ الْخَطَأُ كَثِيرًا فَهُمْ جَدِيرُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ كَذَا.
ثُمَّ كَرَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ فَقَالَ: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً اسْتِفْظَاعًا لِشَأْنِهِمْ وَاسْتِعْظَامًا لِكُفْرِهِمْ، وَزَادَ فِي هَذَا التَّوْبِيخِ قَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ فَكَأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا اتَّخَذُوا وَلَا حُجَّةَ تَقُومُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرِيكًا لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، بَلْ كُتُبُ اللَّهِ السَّابِقَةُ شَاهِدَةٌ بِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ كَمَا فِي الْوَحْيِ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أَيْ عِظَةٌ لِلَّذِينَ مَعِي وَهُمْ أُمَّتُهُ وَذِكْرُ لِلَّذِينَ مَنْ قَبْلِي وَهُمْ أُمَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَالذِّكْرُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ ذِكْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَذِكْرُ الْآخِرِينَ بِالدَّعْوَةِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ لَهُمْ، وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ بِقَصِّ أَخْبَارِهِمْ وَذِكْرِ الْغُيُوبِ فِي أُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا عَرْضُ الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الْبُرْهَانِ أَيْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَهَذَا بُرْهَانِي فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِإِضَافَةِ ذِكْرُ إِلَى مِنْ فِيهِمَا عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ «١».
وقرىء بتنوين ذِكْرُ فيهما ومِنْ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً «٢» وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَطَلْحَةُ بِتَنْوِينٍ ذِكْرُ فِيهِمَا وَكَسْرِ مِيمِ مِنْ فِيهِمَا، وَمَعْنَى مَعِيَ هُنَا عِنْدِي، وَالْمَعْنَى هَذَا ذِكْرُ مَنْ عِنْدِي ومَنْ قَبْلِي أَيْ أُذَكِّرُكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي عِنْدِي كَمَا ذَكَّرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي أُمَمَهُمْ، وَدُخُولُ مِنْ عَلَى مَعَ نَادِرٌ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى الصُّحْبَةِ وَالِاجْتِمَاعِ أُجْرِيَ مَجْرَى الظَّرْفِ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى قَبْلُ وَبَعْدُ وَعِنْدَ، وَضَعَّفَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِدُخُولِ مِنْ عَلَى مَعَ وَلَمْ يَرَ لَهَا وَجْهًا. وَعَنْ طَلْحَةَ ذِكْرُ مُنَوَّنًا مَعِيَ دُونَ مِنْ وَذِكْرُ مُنَوَّنًا قَبْلِي دُونَ مِنْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ وَذِكْرُ مَنْ بِالْإِضَافَةِ وَذِكْرُ مُنَوَّنًا مَنْ قَبْلِي بِكَسْرِ مِيمِ مِنْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ وَالظَّاهِرُ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا يَعْلَمُونَ أَيْ أَصْلَ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ هُوَ الْجَهْلُ وَعَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ الله الحق لا الْبَاطِلُ، فَأَكَّدَ نِسْبَةَ انْتِفَاءِ العلم عنهم،
(٢) سورة البلد: ٩٠/ ١٥.
وقال الزمخشري: وقرىء الْحَقَّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَوْسِيطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ هُوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ انْتَهَى.
وَلَمَّا ذَكَرَ انْتِفَاءَ عِلْمِهِمُ الْحَقَّ وَإِعْرَاضَهُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا جَاءَ مُقَرِّرًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ رَسُولٍ عَامًّا لَفْظًا وَمَعْنًى، أُفِرَدَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ جُمِعَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فَاعْبُدُونِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ فَاعْبُدْنِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا النُّبُوَّاتُ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَشْيَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْقُطَعِيُّ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَخَلَفٍ وابن سعدان وابن عيسى وَابْنِ جَرِيرٍ نُوحِي بِالنُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ عَاصِمٍ.
ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا:
الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى نَحْوَ هَذَا فِي عِيسَى واليهود في عزيز ثُمَّ أَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ فَقَالَ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ وَيَشْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ الْمَلَائِكَةَ وَعُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمَلَائِكَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ نَزَّهَ ذَاتَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبادٌ وَالْعُبُودِيَّةُ تُنَافِي الْوِلَادَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ مُقَرَّبُونَ عِنْدِي مُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ أَحْوَالٍ وَصِفَاتٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي غَرَّ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ أَوْلَادِي تَعَالَيْتُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا انْتَهَى. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ مُكْرَمُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وقرىء بِضَمِّهَا مِنْ سَابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ قَوْلَهُ وَلَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ: فَلَا يَسْبِقُ قولهم قوله. وأل فِي بِالْقَوْلِ نَابَتْ مَنَابَ الضَّمِيرِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَيْ بِقَوْلِهِمْ وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ فَأُنِيبَتِ اللَّامُ مَنَابَ الْإِضَافَةِ أَوِ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أَيْ بِالْقَوْلِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَيْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَالْحَوَادِثُ الَّتِي لَهَا إِلَيْهِمْ تَسَبُّبٌ وَمَا تَأَخَّرَ وَعَلِمُهُ بِذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ لِطَاعَتِهِمْ لِمَا عَلِمُوهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالدَّؤُوبِ عَلَى الْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ نَحْوَهُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا بَعْدُ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الْآخِرَةُ وَما خَلْفَهُمْ الدُّنْيَا. وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ. وَقِيلَ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُمْ وَمَا كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِمْ.
وَلَمَّا كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَمْرِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى أَنْ يَشْفَعُوا إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَأَهَّلَهُ لِلشَّفَاعَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ مُتَوَقِّعُونَ حَذِرُونِ لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنِ ارْتَضى هُوَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَشَفَاعَتُهُمُ: الِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ مُجَاهِد: لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ.
وَقِيلَ: شَفَاعَتُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَبَعْدَ أَنْ وَصَفَ كَرَامَتَهُمْ عَلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَفْعَالَ السنية فجاء بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَأَنْذَرَ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَقَوْلِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «١» قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْظِيعَ أَمْرِ الشِّرْكِ وَتَعْظِيمَ شَأْنِ التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَجْزِيهِ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي بِضَمِّهَا أَرَادَ نجزئه بالهمز من أجزائي كَذَا كَفَانِي، ثُمَّ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَانْقَلَبَتْ يَاءً كَذَلِكَ أَيْ مِثْلِ هَذَا الْجَزَاءِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَالْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَأَدَاةُ الشَّرْطِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ «٢».
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٥.
هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ لِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، وَدَلَالَةٌ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَتَوْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، وَرَدٌّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَصَرِّفَ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْعَجِيبَ، كَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَذَلِكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ. وقرأ ابن كثير وحميد وَابْنُ مُحَيْصِنٍ أَلَمْ يَرَ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْجُمْهُورُ أَوَلَمْ بِالْوَاوِ. كانَتا قَالَ الزجاج: السموات جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ، وَلِهَذَا قَالَ كانَتا رَتْقاً لِأَنَّهُ أَرَادَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَمِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السموات وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا جَعَلَ السموات نَوْعًا وَالْأَرَضِينَ نَوْعًا، فَأَخْبَرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ عَنِ اثْنَيْنِ كَمَا تَقُولُ:
أَصْلَحْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَمَرَّ بِنَا غَنَمَانِ أَسْوَدَانِ لِقَطِيعَيْ غَنَمٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: قَالَ كانَتا رَتْقاً والسموات جَمْعٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ الصِّنْفَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
إِنَّ الْمَنِيَّةَ وَالْحُتُوفَ كِلَاهُمَا | يُوَفِّي الْمَحَارِمَ يَرْقُبَانِ سَوَادِي |
لَقَاحَانِ سَوْدَاوَانِ إِنْ أَرَادَ جَمَاعَتَانِ فَعَلَ فِي الْمُضْمَرِ مَا فُعِلَ فِي الْمُظْهَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَقَالَ كانَتا مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعَانِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُيَيْمٍ:
أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قَيْسٍ | وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتِ انْقِطَاعًا |
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الْبَصَرِ وَعَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَجَاءَ تَقْرِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهِ فَقَامَ مَقَامَ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ، وَلِأَنَّ تَلَاصُقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَتَبَايُنَهُمَا كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّبَايُنِ دُونَ التَّلَاصُقِ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَتْقاً بِسُكُونِ التَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ كَزَوْرٍ وَعَدْلٍ فَوَقَعَ خَبَرًا لِلْمُثَنَّى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى رَتْقاً بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ اسْمُ الْمَرْتُوقِ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يُبْنَى لِيُطَابِقَ الْخَبَرُ الِاسْمَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أَيْ كانَتا شَيْئًا رَتْقاً. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ:
الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ مِنْهُ اسْمًا بِمَعْنَى المفعول والساكن مصدر، أَوْ قَدْ يَكُونَانِ مَصْدَرَيْنِ لَكِنَّ الْمُتَحَرِّكَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَكِنَّ هُنَا الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ فَأُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَفْعُولَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ كانَتا رَتْقاً فَلَوْ جَعَلْتَ أَحَدَهُمَا اسْمًا لَوَجَبَ أَنْ تُثَنِّيَهُ فَلَمَّا قَالَ رَتْقاً كَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ وَرَجُلَيْنِ عَدْلٍ وَقَوْمٍ عَدْلٍ انْتَهَى.
وَجَعَلْنا إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ كَانَتْ بِمَعْنَى وَخَلَقْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ حَيَوَانٍ أَيْ مَادَّتُهُ النُّطْفَةُ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَجَمَاعَةٌ أَوْ لَمَّا كَانَ قِوَامُهُ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ جُعِلَ مَخْلُوقًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «١» قال الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً وَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ عَامًّا مَخْصُوصًا إِذْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَلَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ وَلَا مُحْتَاجِينَ لِلْمَاءِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ نَامٍ مِنَ الْمَاءِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالْمَعْدِنُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ فِيهِمَا مَجَازًا أَوْ عَبَّرَ بِالْحَيَاةِ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ النُّمُوُّ وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى هَذَا عَامًّا مَخْصُوصًا، وَإِنْ تَعَدَّتْ جَعَلْنا لِاثْنَيْنِ فَالْمَعْنَى صَيَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بِسَبَبٍ مِنَ الْمَاءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَيٍّ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ حَيًّا بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلْنَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَغْوٌ أَيْ لَيْسَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَجَعَلْنا أَفَلا يُؤْمِنُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ
ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا وَهَذَا دَلِيلٌ رَابِعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيها عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الرَّوَاسِي، وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ فِجاجاً عَلَى قَوْلِهِ سُبُلًا وَفِي سُورَةِ نُوحٍ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «١». فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ يَعْنِي فِجاجاً صِفَةٌ وَلَكِنْ جُعِلَتْ حَالًا كَقَوْلِهِ:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ يَعْنِي أَنَّهَا حَالٌ مِنْ سُبُلٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ، فَلَوْ تَأَخَّرَ فِجاجاً لَكَانَ صِفَةً كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؟ قُلْتُ:
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا طُرُقًا وَاسِعَةً، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ حِينَ خَلَقَهَا خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِمَ ثَمَّةَ انْتَهَى. يَعْنِي بِالْإِبْهَامِ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مُتَّصِفًا بِهِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ قِيَامَهُ بِهِ حَالَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ:
مَرَرْتُ بِوَحْشِيٍّ الْقَاتِلِ حَمْزَةَ، فَحَالَةُ الْمُرُورِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِهِ قَتْلُ حَمْزَةَ، وَأَمَّا الْحَالُ فَهِيَ هَيْئَةُ مَا تُخْبِرُ عَنْهُ حَالَةَ الْإِخْبَارِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فِي مَسَالِكِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ. وَمَا رُفِعَ وَسُمِكَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَقْفٌ. قَالَ قَتَادَةُ: حِفْظٌ مِنَ الْبِلَى وَالتَّغَيُّرِ عَلَى طُولِ الدَّهْرِ. وَقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ السُّقُوطِ لِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ وَلَا عِمَادٍ. وَقِيلَ: حِفْظٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
حِفْظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالرُّجُومِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «إِنَّ السَّمَاءَ سَقْفٌ مَرْفُوعٌ وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي السَّهْمُ مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ»
وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ نَصًّا فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَهُمْ عَنْ آياتِها أَيْ عَنْ مَا وَضَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْعِبَرِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَسَائِرِ النَّيِّرَاتِ وَمَسَايِرِهَا وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا عَلَى الْحِسَابِ الْقَوِيمِ وَالتَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ الدَّالِّ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَنْ آياتِها بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ عَنْ آيَتِهَا بِالْإِفْرَادِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ الْجَعْلَ أَوِ السَّقْفَ أَوِ الْخَلْقَ أَيْ خَلْقَ السماء آية واحدة
وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْفَلَكُ الْجِسْمُ الدَّائِرُ دَوْرَةَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْفَلَكُ السَّمَاءُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ تَحْتَ السَّمَاءِ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَلَكُ اسْتِدَارَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَدُورُ بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوتِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْفَلَكُ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ النُّجُومُ وَهُوَ قُطْبُ الشَّمَالِ. وَقِيلَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّيَّارَاتِ فَلَكٌ، وَفَلَكُ الْأَفْلَاكِ يُحَرِّكُهَا حَرَكَةً وَاحِدَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَلَكُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَدَارُ هَذِهِ النُّجُومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جِسْمٌ وَفِيهِ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا يَسْبَحُ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ. قِيلَ:
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَكٌ يَخُصُّهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَسَاهُمُ الْأَمِيرُ حُلَّةً أَيْ كَسَى كُلَّ وَاحِدٍ، وَجَاءَ يَسْبَحُونَ بِوَاوِ الْجَمْعِ الْعَاقِلِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ فَقِيلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ وَهُوَ وَالنُّجُومُ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ لَكَانَ يَسْبَحَانِ مُثَنًّى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِنْسُ الطَّوَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ جَعَلُوهَا مُتَكَاثِرَةً لِتَكَاثُرِ مَطَالِعِهَا وَهُوَ السَّبَبُ فِي جَمْعِهَا بِالشُّمُوسِ وَالْأَقْمَارِ، وَإِلَّا فَالشَّمْسُ وَاحِدَةٌ وَالْقَمَرُ وَاحِدٌ انْتَهَى. وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُهُ جَاءَ فَاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ يُسَبِّحْنَ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا كَانَتِ السِّبَاحَةُ مِنْ أَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ جَاءَ مَا أُسْنِدَ إليهما مجموعا مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «١» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ:
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا عِنْدَهُ تَعْقِلُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ فَلَا مَحَلَّ لَهَا، أَوْ مَحَلُّهَا النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَتَّصِفَانِ بِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ فِي فَلَكٍ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَهِنْدًا مُتَبَرِّجَةً وَالسِّبَاحَةُ: الْعَوْمُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُمَا اللَّذَانِ يَجْرِيَانِ فِي الْفَلَكِ، وَأَنَّ الْفَلَكَ لا يجري.
قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَنْ يَمُوتَ وَإِنَّمَا هُوَ مُخَلَّدٌ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: طَعَنَ كُفَّارُ مَكَّةَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمُوتُ فَكَيْفَ يَصِحُّ إِرْسَالُهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فَيَشْمَتُونَ بِمَوْتِهِ فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُ الشَّمَاتَةَ بِهَذَا أَيْ قَضَى اللَّهُ أَنْ لَا يُخَلِّدَ فِي الدُّنْيَا بَشَرًا فَلَا أَنْتَ وَلَا هُمْ إِلَّا عُرْضَةً لِلْمَوْتِ فَإِنْ مِتَّ أَيَبْقَى هَؤُلَاءِ؟ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ | فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ |
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى | تَزَوَّدْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ |
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا | سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا |
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَنَبْلُوكُمْ نَخْتَبِرُكُمْ وَقَدَّمَ الشَّرَّ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِهِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُقَدِّمُ الْأَقَلَّ وَالْأَرْدَأَ، وَمِنْهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ هُنَا عَامٌّ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هَذَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا دَاخِلَيْنِ فِي هَذَا لِأَنَّ من هدى فليس هذه اخْتِيَارًا وَلَا مَنْ أَطَاعَ. بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ خَيْرُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ هُنَا كُلُّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً وَابْتِلَاءً انْتَهَى.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أَتَصْبِرُونَ عَلَى الشِّدَّةِ وَتَشْكُرُونَ عَلَى الرَّخَاءِ أَمْ لَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ وَالْغِنَى وَالصِّحَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ، وَانْتَصَبَ فِتْنَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى نَبْلُوكُمْ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَنُجَازِيكُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْكُمْ فِي حَالَةِ الِابْتِلَاءِ مِنَ الصَّبْرِ
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ لِلْغَيْبَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ.
قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَرَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيُّ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَسَمِعَهُمَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَبِي جَهْل: «مَا تَنْتَهِي حَتَّى يَنْزِلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِعَمِّكِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ حَمِيَّةً» فَنَزَلَتْ.
وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يَغُمُّهُمْ ذِكْرُ آلِهَتِهِمْ بِسُوءٍ شَرَعُوا فِي الِاسْتِهْزَاءِ وَتَنْقِيصِ مَنْ يَذْكُرُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وإِنْ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذا هُوَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَجَوَابُ إِذَا بِإِنِ النَّافِيَةِ لَمْ يَرِدْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً «١» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ كَمَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَيْهِ مَا إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا كَقَوْلِهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ «٢» مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُصَدَّرًا بِمَا النَّافِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ، نَحْوَ إِنْ تَزُورُنَا فَمَا نُسِيءُ إِلَيْكَ.
وَفِي الْجَوَابِ لِإِذَا بِإِنْ وَمَا النَّافِيَتَيْنِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ إِذا لَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِلْجَوَابِ، بَلِ الْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا وَلَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْجُمْلَةِ خِلَافًا لِأَكْثَرِ النُّحَاةِ. وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ.
وَقِيلَ: جَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ وَهُوَ يَقُولُونَ الْمَحْكِيُّ بِهِ قَوْلُهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَقَوْلُهُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ إِذا وجوابه ويَتَّخِذُونَكَ
(٢) سورة يونس: ١٠/ ١٥.
وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ فَالْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صَدِيقٍ فَالذِّكْرُ ثَنَاءٌ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَذَمٌّ، وَمِنْهُ سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ «١» أَيْ بِسُوءٍ، وَكَذَلِكَ هُنَا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ.
ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أَيْ يُنْكِرُونَ وَهَذِهِ حَالُهُمْ يَكْفُرُونَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ على من يغيب آلِهَتَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُولُونَ الْمَحْذُوفِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا وَهُمْ عَلَى حَالٍ هِيَ أَصْلُ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ الْعَامِلَ فِيهَا يَتَّخِذُونَكَ هُزُوًا الْمَحْذُوفَةَ وَكَرَّرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ أَنْكَرُوا لَفْظَةَ الرَّحْمنِ وَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا فِي الْيَمَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَنِ هُنَا اللَّهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ وَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَلَمَّا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْإِقْرَارِ وَالْعِلْمِ نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ الِاسْتِعْجَالِ وَقَدَّمَ أَوَّلًا ذَمَّ الْإِنْسانُ عَلَى إِفْرَاطِ الْعَجَلَةِ وَأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا اسْمُ الْجِنْسِ وَكَوْنُهُ خُلِقَ مِنْ عَجَلٍ وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لَمَّا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ كَثِيرًا. كَمَا يَقُولُ لِمُكْثِرِ اللَّعِبِ أَنْتَ مِنْ لَعِبٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي».
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّا لَمِمَّا يَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً | عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ |
قَالَ مُجَاهِد: لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ رَأَى الشَّمْسَ قَارَبَتِ الْغُرُوبَ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَجِّلْ تَمَامَ خَلْقِي قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: لَمَّا بَلَغَتِ الرُّوحُ رُكْبَتَيْهِ كَادَ يَقُومُ فَقَالَ اللَّهُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَجَلَةٍ فِي خَلْقِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ مِنْ عَجَلٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ عَجَلٍ أَيْ ضَعِيفٍ يَعْنِي النُّطْفَةَ. وَقِيلَ: خُلِقَ بِسُرْعَةٍ وَتَعْجِيلٍ عَلَى غَيْرِ تريب الْآدَمِيِّينَ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْأَخْفَشِ. وَقِيلَ: مِنْ عَجَلٍ مِنْ طِينٍ وَالْعَجَلُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ الطِّينُ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِبَعْضِ الْحِمْيَرِيِّينَ:
النَّبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ | وَالنَّخْلُ مَنْبَتُهُ فِي الْمَاءِ وَالْعَجَلِ |
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَهَاهُمْ عَنِ الِاسْتِعْجَالِ مَعَ قَوْلِهِ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وَقَوْلِهِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «١» أَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؟ قُلْتُ: هَذَا كَمَا رُكِّبَ فِيهِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْلِبَهَا لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا قَمْعَ الشَّهْوَةِ وَتَرْكَ الْعَجَلَةِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيدٌ وَابْنُ مِقْسَمٍ خُلِقَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْإِنْسانُ بِالنَّصْبِ أَيْ خُلِقَ اللَّهُ الْإِنْسانُ وَقَوْلُهُ مَتى هذَا الْوَعْدُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَعَّدُونَهُمْ على لسان الشرع ومَتى فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ لِهَذَا فموضعه دفع، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ مَوْضِعَ مَتى نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ يَكُونُ أَوْ يَجِيءُ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَحَذْفُهُ أَبْلَغُ وَأَهْيَبُ مِنَ النَّصِّ عَلَيْهِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَّا اسْتَعْجَلُوا وَنَحْوَهُ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ
وحِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَفْعُولٌ بِهِ لِيَعْلَمَ أَيْ لَوْ يَعْلَمُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَهُوَ وَقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مِنْ وَرَاءُ وَقُدَّامُ، وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِهِ هُوَ الَّذِي هَوَّنَهُ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ مَتْرُوكًا فَلَا تَعْدِيَةَ بِمَعْنَى لَوْ كَانَ مَعَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ لَمَا كَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ، وحِينَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ أَيْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ، وَيَنْتَفِي عَنْهُمْ هَذَا الْجَهْلُ الْعَظِيمُ أَيْ لَا يَكُفُّونَهَا انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ أَيْ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَجِيءَ الْمَوْعُودِ الَّذِي سألوا عنه واستنبطوه.
وحِينَ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَجِيءٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَأُعْمِلَ الثَّانِي وَالْمَعْنَى لَوْ يَعْلَمُونَ مُبَاشَرَةَ النَّارِ حِينَ لَا يَكُفُّونَهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَذَكَرَ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا فِي الإنسان وعجل حَوَاسِّهِ، وَالْإِنْسَانُ أَحْرَصُ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الظُّهُورَ وَالْمُرَادُ عُمُومُ النَّارِ لِجَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَحَدَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أَيْ تَفْجَؤُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ تَأْتِيهِمْ اسْتِدْرَاكٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ نَفْيٌ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الْآيَاتِ لَا تَأْتِي بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَأْتِيهِمْ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ: وَقِيلَ: عَلَى السَّاعَةِ الَّتِي تُصَبِّرُهُمْ إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعُقُوبَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ: فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى النَّارِ أَوْ إِلَى الْوَعْدِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّارِ وَهِيَ الَّتِي وَعَدُوهَا، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْعِدَةِ وَالْمَوْعِدَةِ أَوْ إِلَى الْحِينِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّاعَةِ أَوْ إِلَى الْبَعْثَةِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بَلْ يَأْتِيهِمْ بِالْيَاءِ بَغْتَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ فَيَبْهَتُهُمْ بِالْيَاءِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْوَعْدِ أَوِ الْحِينِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: لَعَلَّهُ جَعَلَ النَّارَ بِمَعْنَى الْعَذَابِ فَذَكَرَ ثُمَّ رَدَّ رَدَّهَا إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ يُؤَخَّرُونَ عَمَّا حَلَّ بِهِمْ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَقَعَ مِنْ أُمَمِهِمُ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَأَنَّ ثَمَرَةَ اسْتِهْزَائِهِمْ جَنَوْهَا هَلَاكًا وَعِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَنْعَامِ.
ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ مَنِ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ فِي أَوْقَاتِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَيْ لَا أَحَدَ
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةُ كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ أَلَهُمْ آلِهَةٌ فَأَضْرَبَ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ مِنْ دُونِنا مُتَعَلِّقٌ بِتَمْنَعُهُمْ انْتَهَى. قِيلَ: وَالْمَعْنَى أَلْهُمْ آلِهَةٌ تَجْعَلُهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَعِزٍّ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ تَقُولُ: مَنَعْتُ دُونَهُ كَفَفْتُ أَذَاهُ فَمِنْ دُونِنَا هُوَ مِنْ صِلَةٍ آلِهَةٌ أَيْ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ دُونَنَا أَوْ مِنْ صِلَةٍ تَمْنَعُهُمْ أَيْ أَمْ لَهُمْ مَانِعٌ مِنْ سِوَانَا. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْإِخْبَارَ عَنْ آلِهَتِهِمْ فَبَيَّنَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى نَصْرِ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا وَلَا بِمَصْحُوبٍ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ كَيْفَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ وَيَنْصُرُهُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِد: يُنْصُرُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا | لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِ |
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آخِرِ الرَّعْدِ. وَاقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْقُصُ أَرْضَ الْكُفْرِ وَدَارَ الْحَرْبِ وَنَحْذِفُ أَطْرَافَهَا بِتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا وَرَدِّهَا دَارَ إِسْلَامٍ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ تَصْوِيرُ مَا كَانَ اللَّهُ يُجْرِيهِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَسَاكِرَهُمْ وَسَرَايَاهُمْ كَانَتْ تَغْزُو أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ وَتَأْتِيهَا غَالِبَةً عَلَيْهَا نَاقِصَةً مِنْ أَطْرَافِهَا انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ وَفِي قَوْلِهِمْ: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إذا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ حَيْثُ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ أُعْلِمُكُمْ بِمَا تَخَافُونَ مِنْهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ فَهُوَ الصِّدْقُ الْوَاقِعُ لَا مَحَالَةَ كَمَا رَأَيْتُمْ بِالْعِيَانِ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ مِنْ أَطْرَافِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ إِنْذَارِهِمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ فَالْإِنْذَارُ لَا يُجْدِي فِيهِمْ إِذْ هُمْ صُمٌّ عَنْ سَمَاعِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْوَحْيُ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ كَانَ ذِكْرُ الصَّمَمِ مُنَاسِبًا والصُّمُّ هم المنذرون، فأل فِيهِ لِلْعَهْدِ وَنَابَ الظَّاهِرُ مَنَابَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِتَصَامِّهِمْ وَسَدِّ أَسْمَاعِهِمْ إِذَا أُنْذِرُوا، وَلَمْ يَكُنِ الضَّمِيرُ لِيُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى وَنَفْيُ السَّمَاعِ هُنَا نَفْيُ جَدْوَاهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَسْمَعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمِيمِ الصُّمُّ رفع به والدُّعاءَ نُصِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَابْنُ الصَّلْتِ عَنْ حَفْصٍ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْمِيمِ الصُّمُّ الدُّعاءَ بِنَصْبِهِمَا وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْ وَلا يَسْمَعُ الرَّسُولُ وَعَنْهُ أَيْضًا وَلا يَسْمَعُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الصُّمُّ رُفِعَ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَرَأَ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْيَزِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو يَسْمَعُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الصُّمُّ نَصْبًا الدُّعاءَ رَفَعًا بِيُسْمِعُ، أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الدُّعَاءِ اتِّسَاعًا وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ الصُّمَّ شَيْئًا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَمُّوا عَنْ سَمَاعِ مَا أُنْذِرُوا بِهِ إِذَا نَالَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذَا أُصِيبُوا بِشَيْءٍ اسْتَطْرَدَ لِمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَقَالَ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوَازِينِ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ هَلْ ثَمَّ مِيزَانٌ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدْلِ التَّامِّ وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ؟ قَالَا: لَيْسَ ثَمَّ مِيزَانٌ وَلَكِنَّهُ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ مَصْدَرٌ وُصِفَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا جُعِلَتْ فِي أَنْفُسِهَا الْقِسْطَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي ذَوَاتِ الْقِسْطَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ أَيْ لأجل الْقِسْطَ. وقرىء الْقِصْطِ بِالصَّادِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: جِئْتُ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ. وَمِنْهُ بَيْتُ النَّابِغَةِ:
تَرَسَّمَتْ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا | لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ |
أُولَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ | كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عَادٌ وَتُبَّعُ |
وَكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عَمَّرَا مَعًا | مُقِيمِينَ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ |
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَالْمُكَافَأَةِ لِأَنَّهُمْ أَتَوْهُ بِالْأَعْمَالِ وَأَتَاهُمْ بِالْجَزَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ على معنى: وأَتَيْنا مِنَ الْمُوَاتَاةِ، وَلَوْ كَانَ آتَيْنَا أَعْطَيْنَا لَمَا تَعَدَّتْ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيُوهِنُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ بَدَلَ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ هَمْزَةٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْمَضْمُومَةِ وَالْمَكْسُورَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ: أَثَبْنَا بِهَا مِنَ الثَّوَابِ وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي بِها وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى مُذَكَّرٍ وَهُوَ مِثْقالَ لِإِضَافَتِهِ إلى مؤنث كَفى بِنا حاسِبِينَ فِيهِ تَوَعُّدٌ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَبْطِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْحِسَابِ وَهُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حاسِبِينَ تَمْيِيزٌ لِقَبُولِهِ مِنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَتَى بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى الله عليه وسلم من الذِّكْرِ وَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَعَهُ، وَقَالَ: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَتْبَعَهُ بِأَنَّهُ عَادَةُ اللَّهِ فِي أَنْبِيَائِهِ فَذَكَرَ مَا آتَى مُوسى وَهارُونَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّتِهِمَا مَعَ قَوْمِهِمَا مَعَ مَا أُوتُوا مِنَ الْفُرْقَانِ وَالضِّيَاءِ وَالذِّكْرِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَا آتَى رَسُولَهُ مِنَ الذِّكْرِ الْمُبَارَكِ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى سَبِيلِ الذِّكْرِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَا آتَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وسلّم.
والْفُرْقانَ التَّوْرَاةُ وَهُوَ الضِّيَاءُ، وَالذِّكْرُ أَيْ كِتَابًا هُوَ فُرْقَانٌ وَضِيَاءٌ، وَذِكْرٌ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ضِيَاءً وَذِكْرًا بِغَيْرِ وَاوٍ فِي ضِيَاءٍ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
الْقُرْآنُ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِهِ وَظُهُورِ حُجَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا فَرَّقَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ فِرْعَوْنَ وَالضِّيَاءُ التَّوْرَاةُ، وَالذِّكْرُ التَّذْكِرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ أَوْ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ أَوِ الشَّرَفُ وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُؤْذِنُ بِالتَّغَايُرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُرْقانَ الْفَتْحُ لِقَوْلِهِ يَوْمَ الْفُرْقانِ «١» وَعَنِ الضَّحَّاكِ: فلق الْبَحْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الْمُخْرِجُ مِنَ الشُّبَهَاتِ والَّذِينَ صِفَةٌ تَابِعَةٌ أَوْ مَقْطُوعَةٌ بِرَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ أَوْ بدل.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَخَافُونَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: يَخَافُونَهُ إِذَا غَابُوا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَالْإِشْفَاقُ شِدَّةُ الْخَوْفِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، وَتَكُونُ الصِّلَةُ الْأَوْلَى مُشْعِرَةً بِالتَّجَدُّدِ دَائِمًا كَأَنَّهَا حالتهم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالصِّلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ عَنْهُ بِالِاسْمِ الْمُشْعِرِ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ كَأَنَّهَا حَالَتُهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آتَى مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَشَارَ إِلَى مَا آتَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَهذا أَيِ الْقُرْآنُ ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ مَنَافِعُهُ غَزِيرٌ خَبَرُهُ، وَجَاءَ هُنَا الْوَصْفُ بِالِاسْمِ ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ جَرْيًا عَلَى الْأَشْهَرِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «١» وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حِكْمَةَ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الِاسْمِ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى ذِكْرٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا أَنْكَرَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى موسى عليه السلام.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ١١٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (١١٢)
وَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ | بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ |
بَنُو الْمُهَلَّبِ جَذَّ اللَّهُ دَابِرَهُمْ | أَمْسَوْا رَمَادًا فَلَا أَصْلٌ وَلَا طَرَفُ |
وَعَطَّلَ قَلُوصِيِ فِي الرِّكَابِ فَإِنَّهَا | سَتُبَرِّدُ أَكْبَادًا وَتَبْكِي بَوَاكِيَا |
أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ | مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ |
وَأَنْتَ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ شَدَّ فَرْجَهُ | مُضَافُ فُوَيْقِ الْأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلَ |
عُسْلَانُ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا | بَرُدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسِلَ |
وَقِيلَ: الْحَصَبُ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ. السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ.
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرَاعًى فِي ذِكْرِهِمُ التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ، وَذَكَرَ بَعْضَ مَا نَالَ كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنَ الِابْتِلَاءِ كُلُّ ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُشْدَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِي رُشْدَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَأَضَافَ الرُّشْدَ إِلَى إِبْراهِيمَ بِمَعْنَى أَنَّهُ رُشْدُ مِثْلِهِ وَهُوَ رُشْدُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَهُ شَأْنٌ أَيُّ شَأْنٍ، وَالرُّشْدُ النُّبُوَّةُ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى وُجُوهِ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَوْ هُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ الرُّشْدِ أَوِ الصُّحُفِ وَالْحِكْمَةِ أَوِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ صَغِيرًا أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ وَلِذَلِكَ بَنَى قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلُ مُوسَى وَهَارُونُ قَالَهُ الضَّحَّاكُ
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَفْسِيرِ الرُّشْدِ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَرَفْضِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ. وإِذْ مَعْمُولَةٌ لِآتَيْنَا أَوْ رُشْدَهُ وعالِمِينَ وَبِمَحْذُوفٍ أَيِ اذْكُرْ مِنْ أَوْقَاتِ رُشْدِهِ هَذَا الْوَقْتَ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ أَبِيهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَإِنْقَاذُهُ مِنَ الضَّلَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «٢» وَفِي قَوْلِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ تَحْقِيرٌ لَهَا وَتَصْغِيرٌ لِشَأْنِهَا وَتَجَاهُلٌ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا وَبِتَعْظِيمِهِمْ لَهَا. وَفِي خِطَابِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ أَنْتُمْ اسْتِهَانَةٌ بِهِمْ وَتَوْقِيفٌ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَعَكَفَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «٣» فَقِيلَ لَها هُنَا بِمَعْنَى عَلَيْهَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٤» وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي لَها لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لِتَعْظِيمِهَا، وَصِلَةُ عاكِفُونَ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى عِبَادَتِهَا.
وَقِيلَ: ضَمَّنَ عاكِفُونَ مَعْنَى عَابِدِينَ فَعَدَّاهُ بِاللَّامِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَنْوِ لِلْعَاكِفِينَ مَحْذُوفًا وَأَجْرَاهُ مَجْرَى مَا لَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِهِ فَاعِلُونَ الْعُكُوفَ لَهَا أَوْ وَاقِفُونَ لَهَا انْتَهَى.
وَلَمَّا سَأَلَهُمْ أَجَابُوهُ بِالتَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، وَأَنَّهُ فِعْلُ آبَائِهِمُ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بُرْهَانٍ، وَمَا أَقْبَحَ هَذَا التَّقْلِيدَ الَّذِي أَدَّى بِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ خَشَبٍ وَحَجَرٍ وَمَعْدِنٍ وَلَجَاجَهُمْ فِي ذَلِكَ وَنُصْرَةَ تَقْلِيدِهِمْ وَكَانَ سؤاله إياهم عَنْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً فِي ذَلِكَ فَيُبْطِلُهَا، فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِمَا لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ وَبَدَا ضَلَالُهُمْ قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ لَا الْتِبَاسَ فِيهَا، وَحَكَمَ بِالضَّلَالِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ وَجَعَلَ الضلال مستقرا لهم وأَنْتُمْ تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ كَانَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٤.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٨.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٧.
وَلَمَّا جَرَى هَذَا السُّؤَالُ وَهَذَا الْجَوَابُ تَعَجَّبُوا مِنْ تَضْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ وَجَوَّزُوا أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ لَا الْجِدِّ، فَاسْتَفْهَمُوهُ أَهَذَا جِدٌّ مِنْهُ أَمْ لَعِبٌ وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى أبيه وقومه وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ أَجِئْتَنا وَلَمْ يُرِيدُوا حَقِيقَةَ الْمَجِيءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْهُمْ غَائِبًا فَجَاءَهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «٢» وَالْحَقُّ هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِاللَّعِبِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً لِكَوْنِهَا أَثْبَتَ كَأَنَّهُمْ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَاعِبٌ هَازِلٌ فِي مَقَالَتِهِ لَهُمْ وَلِكَوْنِهَا فَاصِلَةً.
ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَخْبَرَ عَنِ الْجِدِّ وَأَنَّ الْمَالِكَ لَهُمْ وَالْمُسْتَحِقَّ الْعِبَادَةَ هُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ هَذَا الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْمُنْدَرِجِ فِيهِ أَنْتُمْ وَمَعْبُودَاتُكُمْ نَبَّهَ عَلَى الْمُوجِبِ للعبادة وهو منشىء هَذَا الْعَالَمِ وَمُخْتَرِعُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ على السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ السموات وَالْأَرْضُ تَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْهُ جَاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِلَّةِ. وَقِيلَ فِي فَطَرَهُنَّ عَائِدٌ عَلَى التَّمَاثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَوْنُهُ لِلتَّمَاثِيلِ أَدْخَلَ فِي تَضْلِيلِهِمْ وَأَثْبَتَ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَطَرَهُنَّ عِبَارَةٌ عَنْهَا كَأَنَّهَا تَعْقِلُ، هَذِهِ مِنْ حَيْثُ لَهَا طَاعَةٌ وَانْقِيَادٌ وَقَدْ وُصِفَتْ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ غَيْرُ فَطَرَهُنَّ أَعَادَ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لِمَا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ يَعْقِلُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «٣»
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أطلت السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ».
انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ وَهَذَا الْقَائِلُ تَخَيَّلَا أَنَّ هُنَّ مِنَ الضَّمَائِرِ الَّتِي تَخُصُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْمُوعِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلا تَظْلِمُوا
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٣٠.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
إِذَا اللَّهُ سَنَى عَقْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْبَاءُ هِيَ الْأَصْلُ إِنَّمَا كَانَتْ أَصْلًا لِأَنَّهَا أَوْسَعُ حُرُوفِ الْقَسَمِ إِذْ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُضْمَرِ وَيُصَرَّحُ بِفِعْلِ الْقَسَمِ مَعَهَا وَتُحْذَفُ وَأَمَّا أَنَّ التَّاءَ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ الَّذِي أُبْدِلَ مِنْ بَاءِ الْقَسَمِ فَشَيْءٌ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ دليل وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ السُّهَيْلِيُّ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا لِآخَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ التَّاءَ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ فَنُصُوصُ النُّحَاةِ أَنَّ التَّاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَعَجُّبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ وَاللَّامُ هِيَ الَّتِي يَلْزَمُهَا التَّعَجُّبُ فِي الْقَسَمِ.
وَالْكَيْدُ الِاحْتِيَالُ فِي وُصُولِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَكِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَاطَبَ بِهَا أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَأَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ سِرًّا مَنْ قَوْمِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنْ ضَعَفَتِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَسِيرُ فِي آخِرِ الناس يوم
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢١. [.....]
وَرُوِيَ أَنَّ آزَرَ خَرَجَ بِهِ فِي يَوْمِ عِيدٍ لَهُمْ فَبَدَؤُوا بِبَيْتِ الْأَصْنَامِ فَدَخَلُوهُ وَسَجَدُوا لَهَا وَوَضَعُوا بَيْنَهَا طَعَامًا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ تَرْجِعَ بَرَكَةُ الْآلِهَةِ عَلَى طَعَامِنَا فَذَهَبُوا، فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ ثَنَى عَزْمَهُ عَنِ الْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَقَعَدَ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ، وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا مَرِيضًا فَأَتَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ بِالَّذِي هُمْ فِيهِ فَنَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أَشْتَكِي غَدًا وَأَصْبَحَ مَعْصُوبَ الرَّأْسِ فَخَرَجُوا وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَالَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ إِلَى آخِرِهِ وَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَحَفِظَهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ فَانْتَشَرَ
انْتَهَى.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَتَوَلَّوْا إِلَى عِيدِهِمْ فَأَتَى إِبْرَاهِيمُ الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُطَامًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَخَذَ مِنْ كُلِّ عُضْوَيْنِ عُضْوًا. وَقِيلَ: وَكَانَتِ الْأَصْنَامُ مُصْطَفَّةً وَصَنَمٌ مِنْهَا عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلُ الْبَابِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي عَيْنَيْهِ دُرَّتَانِ مُضِيئَتَانِ، فَكَسَرَهَا بِفَأْسٍ إِلَّا ذَلِكَ الصَّنَمَ وَعَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: عَلَّقَهُ فِي يَدِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُذاذاً بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيدٌ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ بِكَسْرِهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو السَّمَّاكِ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَاتٌ أَجْوَدُهَا الضَّمُّ كالحطام وَالرُّفَاتِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ جُذاذاً بِالضَّمِّ جَمْعُ جُذَاذَةٍ كَزُجَاجٍ وَزُجَاجَةٍ. وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَكَرِيمٍ وَكِرَامٍ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ مَصْدَرٌ كَالْحَصَادِ بِمَعْنَى الْمَحْصُودِ فَالْمَعْنَى مَجْذُوذِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ فِي لُغَاتِهِ الثَّلَاثِ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: جُذَذًا بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَذِيذٍ كَجَدِيدٍ وَجُدُدٍ. وَقُرِئَ جذذا بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الذَّالِ مخففا من فعل كسر وفي سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَهِيَ لُغَةٌ لِكَلْبٍ، أَوْ جَمْعُ جُذَّةٍ كَقُبَّةٍ وَقُبَبٍ.
وَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلَهُمْ إِذْ كَانَتْ تَعْبُدُ وَقَوْلُهُ إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَجَعَلَهُمْ أَيْ فَلَمْ يكسره، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ يُحْتَمَلُ أن يعود
قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا مَا فُعِلَ بِهَا اسْتَفْهَمُوا عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ وَالْإِنْكَارِ فَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا أَيِ التَّكْسِيرَ وَالتَّحْطِيمَ إِنَّهُ لِظَالِمٌ فِي اجْتِرَائِهِ عَلَى الْآلِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ قالُوا أَيْ قَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَهُ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «٢» يَذْكُرُهُمْ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَئِنْ ذَكَّرْتَنِي لَتَنْدَمَنَّ أَيْ بِسُوءٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ سَمِعْنا فَتًى وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: هُمَا صِفَتَانِ لِفَتًى إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ يَذْكُرُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ لِسَمِعَ لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدًا وَتَسْكُتُ حَتَّى تَذْكُرَ شَيْئًا مِمَّا يُسْمَعُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥٧.
وَأَمَّا يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وَأَتَوْا بِهِ مُنَكَّرًا قِيلَ: مَنْ يُقَالُ لَهُ فَقِيلَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَارْتَفَعَ إِبْراهِيمُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِجُمْلَةٍ تُحْكَى بِقَالَ، إِمَّا عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يُقالُ لَهُ حِينَ يُدْعَى يَا إِبْراهِيمُ وَإِمَّا عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هُوَ إِبْراهِيمُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِسْنَادِ لِلَّفْظِ لَا لِمَدْلُولِهِ، أَيْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ وَهَذَا الْآخَرُ هُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي إِجَازَتِهِ فَذَهَبَ الزَّجَّاجِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ خَرُوفٍ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى تَجْوِيزِ نَصْبِ الْقَوْلِ لِلْمُفْرَدِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُقْتَطَعًا مِنْ جُمْلَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:
إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمُ مُدَامَةٍ وَلَا مُفْرَدًا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ قُلْتُ: خُطْبَةً وَلَا مَصْدَرًا نَحْوَ قُلْتُ قَوْلًا، وَلَا صِفَةً لَهُ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًّا بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ نَحْوَ قُلْتُ زَيْدًا. وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِذْ لَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ قَالَ: فُلَانٌ زَيْدًا وَلَا قَالَ ضَرَبَ وَلَا قَالَ لَيْتَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْقَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِحِكَايَةِ الْجُمَلِ وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ إِلَى أَنَّ إِبْراهِيمُ ارْتَفَعَ بِالْإِهْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَامِلٌ يُؤَثِّرُ فِي لَفْظِهِ، إِذِ الْقَوْلُ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ مُهْمَلًا وَالْمُهْمَلُ إِذَا ضُمَّ إِلَى غَيْرِهِ ارْتَفَعَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: وَاحِدٌ وَاثْنَانِ إِذَا عَدُّوا وَلَمْ يُدْخِلُوا عَامِلًا لَا فِي اللَّفْظِ وَلَا فِي التَّقْدِيرِ، وَعَطَفُوا بَعْضَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ وَإِبْطَالُهُ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ.
قالُوا فَأْتُوا أَيْ أَحْضِرُوهُ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أَيْ مُعَايَنًا بِمَرْأًى مِنْهُمْ فَعَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ في موضع الحال وعَلى مَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِ كَأَنَّهُ لِتَحْدِيقِهِمْ إِلَيْهِ وَارْتِفَاعِ
وَقِيلَ: النَّاسِ هُنَا خَوَاصُّ الْمَلِكِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأْتُوا بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ.
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا أَيِ الْكَسْرَ وَالتَّهْشِيمَ بِآلِهَتِنا وَارْتِفَاعُ أَنْتَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ فَعَلْتَ وَلَمَّا حُذِفَ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَإِذَا تَقَدَّمَ الِاسْمُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ صَادِرًا وَاسْتُفْهِمَ عَنْ فَاعِلِهِ وَهُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ كَانَ الْفِعْلُ مَشْكُوكًا فِيهِ فَاسْتُفْهِمَ عَنْهُ أَوَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ قَالَ لَمْ أَفْعَلْهُ إِنَّمَا الْفَاعِلُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى كَبِيرُهُمْ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا فِي كَسْرِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ وَلِمَا دُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ كَانَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى تَحْطِيمِهَا وَكَسْرِهَا فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْكَبِيرِ إِذْ كَانَ تَعْظِيمُهُمْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ مَا دُونَهُ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْكَبِيرِ مُتَقَيِّدًا بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ عَلَى مُمْتَنِعٍ أَيْ فَلَمْ يَكُنْ وَقَعَ أَيْ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ وَيُخْبِرُونَ مَنِ الَّذِي صَنَعَ بِهِمْ ذَلِكَ فَالْكَبِيرُ هُوَ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ وَأَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مِنْ تَعَارِيضِ الْكَلَامِ وَلَطَائِفِ هَذَا النَّوْعِ لَا يَتَغَلْغَلُ فِيهَا إِلَّا أَذْهَانُ الرَّاضَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَالْقَوْلُ فِيهِ إِنَّ قَصْدَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلَى أَنْ يَنْسِبَ الْفِعْلَ الصَّادِرَ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَقْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِثْبَاتَهُ لَهَا عَلَى أُسْلُوبٍ تَعْرِيضِيٍّ يَبْلُغُ فِيهِ غَرَضَهُ مِنْ إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ وَتَبْكِيتِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لَكَ صَاحِبُكَ وَقَدْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِخَطٍّ رَشِيقٍ وَأَنْتَ شَهِيرٌ بِحُسْنِ الْخَطِّ: أَأَنْتَ كَتَبْتَ هَذَا وَصَاحِبُكَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْخَطَّ أَوْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى خَرْمَشَةٍ فَاسِدَةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلْ كَتَبْتُهُ أَنْتَ كَانَ قَصْدُكُ بِهَذَا الْجَوَابِ تَقْرِيرَهُ لَكَ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ لَا نَفْيُهُ عَنْكَ وَلَا إِثْبَاتُهُ لِلْأُمِّيِّ أَوِ الْمُخَرْمِشِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ وَالْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَكُمَا لِلْعَاجِزِ منكما استهزاء وإثبات لِلْقَادِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَعُودُ إِلَى تَجْوِيزِهِ مَذْهَبُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يُعْبَدُ وَيُدَّعَى إِلَهًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى هَذَا وَأَشَدَّ مِنْهُ.
وَيُحْكَى أَنَّهُ قَالَ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا غَضَبٌ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا انْتَهَى. وَمَنْ جَعَلَ الْفَاعِلَ بِفِعْلِهِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ فَتًى أَوْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ قَالَ آخَرُ بِغَيْرِ
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي ارتكبوا فِي ضَلَالِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْطِقُ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ حِينَ نَبَّهَ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لِلَّذِي يَرْتَطِمُ فِي غَيِّهِ كَأَنَّهُ مَنْكُوسٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهِيَ أَقْبَحُ هَيْئَةٍ للإنسان، فكان عقله منكوس أي مقلوب لِانْقِلَابِ شَكْلِهِ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ فَرُجُوعُهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ فِكْرِهِمْ وَنَكْسُهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ كناية عن تطأطئ رؤوسهم وَتَنْكِيسِهَا إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْخَجَلِ وَالِانْكِسَارِ مِمَّا بَهَتَهُمْ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَدَمَغَهُمْ بِهِ فَلَمْ يُطِيقُوا جَوَابًا.
وَلَقَدْ عَلِمَتِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مَعْمُولٍ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قَائِلِينَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا فَسْئَلُوهُمْ إِنَّمَا قَصَدْتَ بِذَلِكَ تَوْبِيخًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّكْسُ لِلْفِكْرَةِ فِيمَا يُجِيبُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِد نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ رَدَّتِ السَّفِلَةُ عَلَى الرؤساء وعَلِمْتَ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ عَلِمْتَ إِنْ تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ أَوْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَكْرَاوِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِتَشْدِيدٍ كَافِ نُكِسُوا وَقَرَأَ رِضْوَانُ بْنُ الْمَعْبُودِ نُكِسُوا بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ نَكَسُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلَمَّا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَخَذَ يُقَرِّعُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ بِعِبَادِهِ تَمَاثِيلَ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ،
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ.
وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ عَلَى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ وَغَلَبِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاذُوا بِالْإِيذَاءِ لَهُ وَالْغَضَبِ لِآلِهَتِهِمْ وَاخْتَارُوا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْإِعْدَامِ الْمَحْضِ وَالْإِتْلَافِ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَكَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ يعدل إلى المناصبة والإذاية كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَمَغَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا آتَاهُمْ بِهِ عَدَلُوا إِلَى الِانْتِقَامِ وَإِيثَارِ الِاغْتِيَالِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ قالُوا حَرِّقُوهُ أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِإِحْرَاقِهِ نُمْرُوذُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ الْعَجَمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُرِيدُ الْأَكْرَادَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ أَيْ بَادِيَتِهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرُوا لِهَذَا الْقَائِلِ اسْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى حَقِيقَةٍ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِالشَّكْلِ وَالنُّقَطِ، وَهَكَذَا تَقَعُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ فِي التَّفَاسِيرِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظٍ لِعَدَمِ الشَّكْلِ وَالنُّقَطِ فَيَنْبَغِي إطْرَاحُ نَقْلِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ حَبْسِهِ وَفِي عَرْضِ الْحَظِيرَةِ وَطُولِهَا، وَمُدَّةِ جَمْعِ الْحَطَبِ، وَمُدَّةِ الْإِيقَادِ، وَمُدَّةِ سِنِّهِ إِذْ ذَاكَ، وَمُدَّةِ إِقَامَتِهِ فِي النَّارِ وَكَيْفِيَّةِ مَا صَارَتْ أَمَاكِنُ النَّارِ اخْتِلَافًا مُتَعَارِضًا تَرَكْنَا ذِكَرَهُ وَاتَّخَذُوا مَنْجَنِيقًا. قِيلَ: بِتَعْلِيمِ إِبْلِيسَ إِذْ كَانَ لَمْ يُصْنَعْ قَبْلُ فَشُدَّ إِبْرَاهِيمُ رِبَاطًا وَوُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ وَرُمِيَ بِهِ فَوَقَعَ فِي النَّارِ.
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ:
أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا
، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنَ الْوَزَغِ وَالْبَغْلِ وَالْخُطَّافِ وَالضِّفْدِعِ وَالْعُضْرُفُوطُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا نَجَا بِقَوْلِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قِيلَ: وَأَطَلَّ نُمْرُوذُ مِنَ الصَّرْحِ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي رَوْضَةٍ وَمَعَهُ جَلِيسٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى آلِهِكَ فَذَبَحَ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ. وَكَفَّ عَنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذْ ذَاكَ ابْنَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي حِكَايَةِ مَا جَرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي صَحَّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً وَخَرَجَ مِنْهَا سَالِمًا فَكَانَتْ أَعْظَمَ آيَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائل قُلْنا يا نارُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَسَلاماً لَهَلَكَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَرْدِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَمَا أَحْرَقَتْ نَارٌ بَعْدَهَا وَلَا اتَّقَدَتْ انْتَهَى. وَمَعْنَى وَسَلاماً سَلَامَةٌ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا هُنَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ تَحِيَّةً لَكَانَ الرَّفْعُ أَوْلَى بِهَا مِنَ النَّصْبِ. وَالْمَعْنَى ذَاتُ بَرْدٍ وَسَلَامٍ فَبُولِغَ فِي ذلك كان ذاتها برد وسلام، وَلَمَّا كَانَتِ النَّارُ تَنْفَعِلُ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا كَمَا يَنْفَعِلُ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ لَهَا وَالنِّدَاءِ وَالْأَمْرِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف بَرُدَتِ النَّارُ وَهِيَ نَارٌ؟ قُلْتُ: نَزَعَ اللَّهُ عَنْهَا طَبْعَهَا الَّذِي طَبَعَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْإِحْرَاقِ وَأَبْقَاهَا عَلَى الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ، كَمَا كَانَتْ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بِقُدْرَتِهِ عَنْ جِسْمِ إِبْرَاهِيمَ أَدْنَى حَرِّهَا وَيُذِيقَهُ فِيهَا عَكْسَ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ بِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى إِبْراهِيمَ انْتَهَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا هِيَ نَارٌ مَسْجُورَةٌ لَا تُحْرِقُ فَرَمَوْا فِيهَا شَيْخًا مِنْهُمْ فَاحْتَرَقَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا. قِيلَ: هُوَ إِلْقَاؤُهُ فِي النَّارِ فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْخُسْرَانِ وَهُوَ إِبْطَالُ مَا رَامُوهُ جَادَلُوا إِبْرَاهِيمَ فَجَدَلَهُمْ وَبَكَّتَهُمْ وَأَظْهَرَ لَهُمْ وَأَقَرَّ عُقُولَهُمْ، وَتَقَوَّوْا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ وَالْإِلْقَاءِ فَخَلَّصَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَحْقَرِ خَلْقِهِ وَأَضْعَفِهِ وَهُوَ الْبَعُوضُ يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَيَشْرَبُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى نُمْرُوذَ بَعُوضَةً وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ إِذَايَتِهَا لَهُ وَفِي مُدَّةِ إِقَامَتِهَا تُؤْذِيهِ إِلَى أَنْ مَاتَ مِنْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيم خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ وَمَعَهُ لُوطٌ وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ، فَآمَنَتْ بِهِ سَارَّةٌ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ، وَفِي هَذِهِ الْخُرْجَةِ لَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي رَامَ أَخْذَهَا مِنْهُ فَنَزَلَ حَرَّانَ وَمَكَثَ زَمَانًا بِهَا.
وَقِيلَ: سَارَّةُ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ تَزَوَّجَهَا إِبْرَاهِيمُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَبُوهَا أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ السَّبْعِ أَوْ أَقْرَبَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا. وَالنَّافِلَةُ الْعَطِيَّةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ أَوِ الزِّيَادَةُ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ إِذَا كَانَ إِسْحَاقُ ثَمَرَةَ دُعَائِهِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَعْقُوبَ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ. وَقِيلَ: النَّافِلَةُ وَلَدُ الْوَلَدِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ وَهَبْنا بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ، وَعَلَى الْآخَرِينَ يُرَادُ بِهِ يَعْقُوبَ فينتصب على الحال، وكُلًّا يَشْمَلُ مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الدين. وأَئِمَّةً قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ أَيْ خَصَصْنَاهُمْ بِشَرَفِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ الْإِيحَاءَ هُوَ التَّنْبِئَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِعْلَ الْخَيْراتِ أَصْلُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الْخَيْراتِ ثُمَّ فَعَلَا الْخَيِرَاتْ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا رَأَى أَنَّ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُوحَى إِلَيْهِمْ بَلْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْتَرِكُونَ، بَنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ضَمِيرِ الْمُوحَى، فَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِعْلُهُمُ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامُهُمُ الصَّلَاةَ وَإِيتَاؤُهُمُ الزَّكَاةَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذِ الْفَاعِلُ مَعَ الْمَصْدَرِ مَحْذُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا مِنْ حَيْثُ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِقَامُ مَصْدَرٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ انْتَهَى. وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْإِقَامَةَ بِالتَّاءِ وَهُوَ الْمَقِيسُ فِي مَصْدَرِ أَفْعَلَ إِذَا اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُ قَابِلٌ وَإِيتاءَ وَهُوَ بِغَيْرِ تَاءٍ فَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ إِقَامَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ عِوَضٌ عَنْهَا انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ زَعَمَ أَنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ لِلْإِضَافَةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إبراهيم ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ فَارًّا بِدِينِهِ وَهُوَ لُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَانْتَصَبَ وَلُوطاً عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْحُكْمُ الَّذِي أُوتِيَهُ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: حُسْنُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ. وَقِيلَ: حِفْظُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بِهِ وهو العلم والْقَرْيَةِ سَدُومُ وَكَانَتْ قُرَاهُمْ سَبْعًا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْوَاحِدَةِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَكَانَتْ مِنْ كُورَةِ فِلَسْطِينَ إِلَى حَدِّ السَّرَاةِ إِلَى حَدِّ نَجْدٍ بِالْحِجَازِ، قَلَبَ مِنْهَا تَعَالَى سِتًّا وَأَبْقَى مِنْهَا زَغْرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلَّ لُوطٍ وَأَهْلِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ أَيْ وَنَجَّيْناهُ مِنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَيْ خَلَّصْنَاهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، وَنَسَبَ عَمَلَ الْخَبائِثَ إِلَى الْقَرْيَةِ مَجَازًا وَهُوَ لِأَهْلِهَا وَانْتَصَبَ الْخَبائِثَ عَلَى مَعْنَى تَعْمَلُ الأعمال أَوِ الْفِعْلَاتِ الْخَبِيثَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مُضَافًا إِلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُ، وَقَوْلُهُ إِنَّهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أَيْ فِي أَهْلِ رَحْمَتِنَا أَوْ فِي الْجَنَّةِ، سَمَّاهَا رَحْمَةً إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الرَّحْمَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ وَتَنْجِيَتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ ذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي الْعَالَمِ الْإِنْسِيِّ كُلِّهِمْ وَهُوَ الْأَبُ الثَّانِي لِآدَمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ نَسْلِهِ مِنْ سَامَ وَحَامَ وَيَافِثَ، وَانْتَصَبَ نُوحاً عَلَى إِضْمَارِ اذْكُرْ أَيْ وَاذْكُرْ نُوحاً أَيْ قِصَّتَهُ إِذْ نَادَى وَمَعْنَى نَادَى دَعَا مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ أَنِّي مَغْلُوبٌ «١» فَانْتَصِرْ مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «٢» وَالْكَرْبُ أَقْصَى الْغَمِّ وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ هُنَا الْغَرَقُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ مَا يَأْخُذُ
(٢) سورة نوح: ٧١/ ٢٦.
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ عَدَّاهُ بِمِنْ لِتَضَمُّنِهِ معنى فَنَجَّيْناهُ بِنَصَرْنَا مِنَ الْقَوْمِ أَوْ عَصَمْنَاهُ وَمَنَعْنَاهُ أَيْ مِنْ مَكْرُوهِ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا «١» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ نَصْرُ الَّذِي مُطَاوِعُهُ انْتَصَرَ، وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ أَيِ اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرِينَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنًى فِي نَصَرَ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ وَنَصَرْناهُ عَلَى الْقَوْمِ فَأَغْرَقْناهُمْ أي أهلكناهم بالغرق. وأَجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ. وَقَدْ كَثُرَ التَّوْكِيدُ بِأَجْمَعِينَ غَيْرَ تَابِعٍ لِكُلِّهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِأَجْمَعِينَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْكَثِيرَ اسْتِعْمَالُهُ تَابِعًا لِكُلِّهِمْ.
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ عَطْفٌ عَلَى وَنُوحاً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإِذْ بَدَلٌ مِنْهُمَا انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ داوُدَ وَسُلَيْمانَ أَيْ قِصَّتَهُمَا وَحَالَهُمَا إِذْ يَحْكُمانِ وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى قوله وَنُوحاً وَنُوحاً مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَلُوطاً فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرِكًا فِي الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ آتَيْنا الْمُقَدَّرَةُ النَّاصِبَةُ لِلُوطٍ الْمُفَسَّرَةُ بِآتَيْنَا فَالتَّقْدِيرُ وَآتَيْنَا نُوحًا وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أَيْ آتَيْنَاهُمْ حُكْماً وَعِلْماً وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ وَتَقْدِيرُ اذْكُرْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَكَانَ دَاوُدُ مَلِكًا نَبِيًّا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ النَّازِلَةُ، وَكَانَ ابْنُهُ إِذْ ذَاكَ قَدْ كَبُرَ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُصُومُ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ إِلَى دَاوُدَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، فَتَخَاصَمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَهُ زَرْعٌ وَقِيلَ كَرْمٌ والْحَرْثِ يُقَالُ فِيهِمَا وَهُوَ فِي الزَّرْعِ أَكْثَرُ، وَأَبْعَدُ عَنِ الِاسْتِعَارَةِ دَخَلَتْ حَرْثَهُ غَنَمُ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ،
فَرَأَى دَاوُدُ دَفْعَهَا إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَعَلَى أَنَّهُ كَرْمٌ رَأَى أَنَّ الْغَنَمَ تُقَاوِمُ ما أَفْسَدَتْ مِنَ الْغَلَّةِ وَعَلَى أَنَّهُ زَرْعٌ رَأَى أَنَّهَا تُقَاوِمُ الْحَرْثَ وَالْغَلَّةَ، فَخَرَجَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَشَكَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَجَاءَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَرَى مَا هُوَ أَرْفَقُ بِالْجَمِيعِ
، أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ الْحَرْثَ يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَيَأْخُذَ صَاحِبُ الْحَرْثِ الْغَنَمَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ يَنْتَفِعُ بِمَرَافِقِهَا مِنْ لَبَنٍ وَصُوفٍ وَنَسْلٍ، فَإِذَا عَادَ الْحَرْثُ إِلَى حَالِهِ صُرِفَ كُلُّ مَالِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ فَرَجَعَتِ الْغَنَمُ إِلَى رَبِّهَا وَالْحَرْثُ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ دَاوُدُ: وُفِّقْتَ يَا بُنَيَّ وَقَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أن كلّا
وَقِيلَ: حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَنُسِخَ حُكْمُ دَاوُدَ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّ مَعْنَى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ فَهَّمْنَاهُ الْقَضَاءَ الْفَاصِلَ النَّاسِخَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي النَّازِلَةِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَأَفْهَمْنَاهَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ كَمَا عُدِّيَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّضْعِيفِ وَالضَّمِيرُ فِي فَفَهَّمْناها لِلْحُكُومَةِ أَوِ الْفَتْوَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِحُكْمِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْحَاكِمَيْنِ وَالْمَحْكُومِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إِلَى فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ، وَلَا هُوَ عَامِلٌ فِي التَّقْدِيرِ فَلَا يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ. وَالْفِعْلِ به هُوَ مَثَّلَ لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ وَذِهْنَ ذِهْنِ الْأَذْكِيَاءِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَكُنَّا لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَرَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ شاهِدِينَ فَالْمَصْدَرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلَاجُ بَلْ يُرَادُ بِهِ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ. وَقَرَأَ لِحُكْمِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَالضَّمِيرُ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. وَمَعْنَى شاهِدِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُكُومَتَيْنِ؟ قلت: أمّا وَجْهُ حُكُومَةِ دَاوُدَ فَلِأَنَّ الضَّرَرَ لَمَّا وَقَعَ بِالْغَنَمِ سُلِّمَتْ بِجِنَايَتِهَا إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبِيعُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَلَعَلَّ قِيمَةَ الْغَنَمِ كَانَتْ عَلَى قَدْرِ النُّقْصَانِ فِي الْحَرْثِ، وَوَجْهُ حُكُومَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ جَعَلَ الِانْتِفَاعَ بِالْغَنَمِ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحَرْثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ مُلْكُ الْمَالِكِ عَنِ الْغَنَمِ، وَأَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَرْثِ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ وَالنُّقْصَانُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي شَرِيعَتِنَا مَا حُكْمُهَا؟ قُلْتُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَرَوْنَ فِيهِ ضَمَانًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْبَهِيمَةِ سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الضَّمَانَ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا من الحكمين صواب لقولهه وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. والظهر أَنْ يُسَبِّحْنَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ الْجِبالَ أَيْ مُسَبِّحَاتٍ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ قِيلَ: كَانَ يَمُرُّ بِالْجِبَالِ مُسَبِّحًا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ التَّسْبِيحِ مِنْهَا بِالنُّطْقِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْكَلَامَ كَمَا سَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَكَانَ دَاوُدُ وَحْدَهُ يَسْمَعُهُ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: يُسَبِّحْنَ يُصَلِّينَ. وَقِيلَ: يَسِرْنَ مِنَ السِّبَاحَةِ. وَقَالَ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتْ الْجِبالَ عَلَى الطَّيْرَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: نَاطِقٌ إِنْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ إِنْسَانًا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ مُصَوِّتٌ أَي لَهُ صَوْتٌ، وَوَصْفُ الطَّيْرِ بِالنُّطْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا نُطْقَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ وَكُنَّا فاعِلِينَ أَيْ فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ الْمَلْبُوسُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَهُوَ الدِّرْعُ هُنَا. وَاللَّبُوسُ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ | سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يَخْرِقُهَا النَّبْلُ |
وَقِيلَ: اللَّبُوسُ كُلُّ آلَةِ السِّلَاحِ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَبَيْضَةٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ الَّتِي تُسَمَّى الزَّرَدَ.
قِيلَ: نَزَلَ مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَرَّا بِدَاوُدَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: نِعْمَ الرَّجُلُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَصَنَعَ مِنْهُ الدُّرُوعَ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَتَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ وَتَعْلِيمَ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ،
وَفِي ذَلِكَ فَضْلُ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إِذْ أَسْنَدَ تَعْلِيمَهَا إِيَّاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى.
ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا بِقَوْلِهِ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أَيْ لِيَكُونَ وِقَايَةً لَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسَبَبَ نَجَاةٍ مِنْ عَدُوِّكُمْ. وقرىء لَبُوسٍ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
لِيُحْصِنَكُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا إِذْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ فِي وَعَلَّمْناهُ وَيَدُلُّ
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا خَصَّ بِهِ نَبِيَّهُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ مَا خَصَّ بِهِ ابْنَهُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وَجَاءَ التَّرْكِيبُ هُنَا حِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ بِاللَّامِ، وَحِينَ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ جَاءَ بِلَفْظِ مَعَ فَقَالَ وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وَكَذَا جَاءَ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «٢» وَقَالَ فَسَخَّرَنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيحِ نَاسَبَ ذِكْرُ مَعَ الدَّالَّةِ عَلَى الِاصْطِحَابِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ مُسْتَخْدَمَةً لِسُلَيْمَانَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهَا فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّيحَ مُفْرَدًا بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ مُفْرَدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَرَأَ بِالْجَمْعِ وَالرَّفْعِ أَبُو حَيْوَةَ فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ سَخَّرْنَا، والرفع على الابتداء وعاصِفَةً حَالٌ الْعَامِلُ فِيهَا سَخَّرْنَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الرِّيحَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ وَيُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ، وَلُغَةُ أَسَدٍ أَعَصَفَتْ فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ، وَوُصِفَتْ هَذِهِ الرِّيحُ بِالْعَصْفِ وَبِالرَّخَاءِ وَالْعَصْفُ الشِّدَّةُ فِي السَّيْرِ وَالرَّخَاءُ اللِّينُ. فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ فِيهِ سُلَيْمَانُ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ فلم
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٠٠.
والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَكَانَتْ مَسْكَنَهُ وَمَقَرَّ مُلْكِهِ. وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ. وَقِيلَ:
بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ يَرْكَبُ عَلَيْهَا مِنَ اصْطَخَرَ إِلَى الشَّامِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضِ الَّتِي يَسِيرُ إِلَيْهَا سُلَيْمَانُ كَائِنَةً مَا كَانَتْ وَوُصِفَتْ بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ إذا حَلَّ أَرْضًا أَصْلَحَهَا بِقَتْلِ كُفَّارِهَا وَإِثْبَاتِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَبَثِّ الْعَدْلِ، وَلَا بَرَكَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَالظَّاهِرُ:
أَنَّ الَّتِي بارَكْنا صِفَةٌ لِلْأَرْضِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْكَلَامُ تَامٌّ عِنْدَ قوله إِلى الْأَرْضِ والَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلرِّيحِ فَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ التَّرْكِيبِ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الَّتِي بارَكْنا فِيها عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ.
وَعَنْ وَهْبٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَكَانَ لَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ فَيَأْمُرُ بِخَشَبٍ فَيُمَدُّ وَالنَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ وَآلَةُ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْعَاصِفَ فَيُقِلُّهُ ثُمَّ يَأْمُرُ الرَّخَاءَ فَتَمُرُّ بِهِ شَهْرًا فِي رَوَاحَهِ وَشَهْرًا فِي غُدُوِّهِ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَسَجَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ بِسَاطًا ذَهَبَا فِي إِبْرِيسَمٍ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَوَضَعَتْ لَهُ فِي وَسَطِهِ مِنْبَرًا مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ كَرَاسِيُّ مَنْ ذَهَبٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَكَرَاسِيُّ مِنْ فِضَّةٍ يَقْعُدُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَالطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصَّبَا الْبِسَاطَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ وَمِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الصَّبَاحِ،
وَقَدْ أَكْثَرَ الْأَخَبَارِيُّونَ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ مِنَ الْمَعْهُودِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ يُجْرِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَسْخِيرَ الرِّيحِ لَهُ وَهِيَ جِسْمٌ شَفَّافٌ لَا يُعْقَلُ وَهِيَ لَا تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ذَكَرَ تَسْخِيرَ الشَّيَاطِينِ لَهُ، وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ تَعْقِلُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا سُرْعَةُ الِانْتِقَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «٢» وَمِنَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وسخرنا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٣٩.
وَإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ | يَهِيجُ الرِّيَاضُ قَبْلَهَا وَتَصُوحُ |
وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أَيْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: حافِظِينَ أَنْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ حافِظِينَ حَتَّى لَا يَهْرُبُوا. قيل: سخر الكفار دون المؤمنين، ويدل عليه إطلاق لفظ الشَّياطِينِ وقوله حافِظِينَ والمؤمن إذا سَخَّرَ فِي أَمْرٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ مَا عَمِلَ، وَتَسْخِيرُ أَكْثَفِ الْأَجْسَامِ لِدَاوُدَ وَهُوَ الْحَجَرُ إِذْ أَنْطَقَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَدِيدُ إِذْ جَعَلَ فِي أَصَابِعِهِ قُوَّةَ النَّارِ حَتَّى لَانَ لَهُ الْحَدِيدُ، وَعَمِلَ مِنْهُ الزَّرَدَ، وَتَسْخِيرُ أَلْطَفِ الْأَجْسَامِ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ الرِّيحُ وَالشَّيَاطِينُ وَهُمْ مِنْ نَارٍ. وَكَانُوا يَغُوصُونَ فِي الماء والماء يطفىء النَّارَ فَلَا يَضُرُّهُمْ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَإِظْهَارِ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ وَإِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَجَعْلِ التُّرَابِ الْيَابِسِ حَيَوَانًا فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ وَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ انْتَهَى.
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِ
طَوَّلَ الْأَخْبَارِيُّونَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ،
وَكَانَ أَيُّوبُ رُومِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، اسْتَنْبَأَهُ اللَّهُ وَبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَكَثَّرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ بَنِينَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ، وَلَهُ أَصْنَافُ الْبَهَائِمِ وَخَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتَّبِعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَنَخِيلٌ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَهَابِ وَلَدِهِ انْهَدَمَ عَلَيْهِمُ الْبَيْتُ فَهَلَكُوا وَبِذَهَابِ مَالِهِ وَبِالْمَرَضِ فِي بَدَنِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقِيلَ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ يَوْمًا لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَقَالَ لَهَا: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ الرَّخَاءِ؟ فَقَالَتْ:
ثَمَانِينَ سَنَةً، فَقَالَ: أَنَا أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدْعُوَهُ وَمَا بَلَغَتْ مُدَّةُ بَلَائِي مُدَّةَ رَخَائِي، فَلَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْيَا وَلَدَهُ وَرَزَقَهُ مِثْلَهُمْ وَنَوَافِلَ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ بَعْدُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ابْنًا
وَذَكَرُوا كَيْفِيَّةً فِي ذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَتَسْلِيطِ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِهَا إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ قَائِلًا أَنِّي وَإِمَّا عَلَى إِجْرَاءِ نَادَى مَجْرَى قَالَ وَكَسْرِ إِنِّي بَعْدَهَا وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ والضُّرُّ بِالْفَتْحِ الضَّرَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِالضَّمِّ الضَّرَرُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَرَضٍ وَهُزَالٍ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِنَاءَيْنِ لِافْتِرَاقِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ أَلْطَفَ أَيُّوبُ فِي السُّؤَالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِمَا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِغَايَةِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَمْثَلُهَا أَنَّهُ نَهَضَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ، فَقَالَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةٍ لَا شَكْوَى لِبَلَائِهِ رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الضُّرُّ لِلْجِنْسِ تَعُمُّ الضُّرُّ فِي الْبَدَنِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَإِيتَاءُ أَهْلِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَحْيَاهُمْ لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَآتَاهُ مِثْلَ أَهْلِهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَتْبَاعِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَثَلَهُمْ عِدَّةً فِي الْآخِرَةِ. وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لرحمتا إِيَّاهُ وَذِكْرى مِنَّا بِالْإِحْسَانِ لِمَنْ عِنْدَنَا أَوْ رَحْمَةً مِنَّا لِأَيُّوبَ وَذِكْرى أَيْ مَوْعِظَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَابِدِينَ، لِيَصْبِرُوا كَمَا صَبَرَ حَتَّى يُثَابُوا كَمَا أُثِيبَ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ ذُو الْكِفْلِ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وَقَالَ
وَقِيلَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ حِزْقِيَا حِينَ عَيَّنَهُ لِغَزْوِ مَلِكٍ كَانَ قَدْ عَابَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: لا، قال: هاهنا غَيْرِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغاضِباً لِلْمَلِكِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مُغاضِباً لِرَبِّهِ وَحَكَى فِي الْمُغَاضَبَةِ لِرَبِّهِ كَيْفِيَّاتٍ يَجِبُ اطِّرَاحَهُ إِذْ لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَوَّلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُغاضِباً لِرَبِّهِ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِ وَدِينِهِ، وَاللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ لَا اللَّامُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو شَرَفٍ مُغْضِبًا اسْمَ مَفْعُولٍ.
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدْرِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ الِابْتِلَاءَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَقْدِرَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو شَرَفٍ وَالْكَلْبِيُّ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ مُخَفَّفًا، وَعِيسَى وَالْحَسَنُ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الدَّالِ،
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْيَمَانِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ مُشَدَّدَةً،
وَالزُّهْرِيُّ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ قَدْ أُوضِحَتْ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُنَاكَ نَذْكُرُ قِصَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَمَعَ الظُّلُماتِ لِشِدَّةِ تَكَاثُفِهَا فَكَأَنَّهَا ظُلْمَةٌ مَعَ ظُلْمَةٍ. وَقِيلَ: ظُلُمَاتُ بَطْنِ الْحُوتِ وَالْبَحْرِ وَاللَّيْلِ. وَقِيلَ: ابْتَلَعَ حُوتَهُ حُوتٌ آخَرُ فَصَارَ فِي ظُلْمَتَيْ بَطْنَيْ الْحُوتَيْنِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ يُونُسَ سَجَدَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ حِينَ سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ فِي قعر البحر،
وأَنْ فِي أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُ سَبَقَ فَنادى وَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأَنَّهُ فَتَكُونُ مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ حَصْرَ الْأُلُوهِيَّةِ فِيهِ تَعَالَى ثُمَّ نَزَّهَهُ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ ثُمَّ أَقَرَّ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ».
والْغَمِّ مَا
أُتِيحَ لِي مِنَ الْعِدَا نَذِيرَا | بِهِ وُقِيتُ الشَّرَّ مُسْتَطِيرَا |
لَا تَذَرْنِي فَرْداً أَيْ وَحِيدًا بِلَا وَارِثَ، سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا يَرِثُهُ ثُمَّ رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أَيْ إِنْ لَمْ تَرْزُقْنِي مَنْ يَرِثُنِي فَأَنْتَ خَيْرُ وَارِثٍ، وَإِصْلَاحُ زَوْجِهِ بِحُسْنِ خُلُقِهَا، وَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ قَالَهُ عَطَاءٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: إِصْلَاحُهَا لِلْوِلَادَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إصلاحها رد شبابها إليها، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقُ ذِكْرُهُمْ أَيْ إِنَّ اسْتِجَابَتِنَا لَهُمْ فِي طَلَبَاتِهِمْ كَانَ لِمُبَادَرَتِهِمُ الْخَيْرَ وَلِدُعَائِهِمْ لَنَا.
رَغَباً وَرَهَباً أَيْ وَقْتَ الرَّغْبَةِ وَوَقْتَ الرَّهْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها هِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَرْجَ هُنَا حَيَاءُ الْمَرْأَةِ أَحْصَنَتْهُ أَي مَنَعَتْهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا قَالَتْ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
«٢». وَقِيلَ: الْفَرْجُ هُنَا جَيْبُ قَمِيصِهَا مَنَعَتْهُ مِنْ جِبْرِيلَ لَمَّا قَرُبَ مِنْهَا لِيَنْفُخَ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا كِنَايَةٌ عَنْ إِيجَادِ عِيسَى حَيًّا فِي بَطْنِهَا، وَلَا نَفْخَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ. وَقِيلَ: هُنَاكَ نَفْخٌ حَقِيقَةً وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَأَسْنَدَ النَّفْخَ إِلَيْهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِبْرِيلَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا. وَقِيلَ: الرُّوحُ هُنَا جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها
«٣» وَالْمَعْنَى فَنَفَخْنا فِيها مِنْ جِهَةِ جِبْرِيلَ وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ نَفَخَ مِنْ جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى جَوْفِهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِحْيَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «٤» أَيْ أَحْيَيْتُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ وفَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظَاهِرُ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِحْيَاءِ مَرْيَمَ. قُلْتُ: مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا أَيْ أَحْيَيْنَاهُ فِي جَوْفِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الزَّمَّارُ نَفَخْتُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فَنَفَخْنَا فِي ابْنِهَا مِنْ رُوحِنا وَقَوْلُهُ قُلْتُ مَعْنَاهُ نَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا اسْتَعْمَلَ نَفَخَ مُتَعَدِّيًا، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى فَيَحْتَاجُ فِي تعديه إلى سماع وَغَيْرِ مُتَعَدٍّ اسْتَعْمَلَهُ هُوَ فِي قَوْلِهِ أَيْ نَفَخْتُ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. وَأَفْرَدَ آيَةً لِأَنَّ حَالَهُمَا لِمَجْمُوعِهِمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وِلَادَتُهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَرْيَمَ آيَاتٌ وَفِي عِيسَى آيَاتٌ لَكِنَّهُ هُنَا لَحَظَ أَمْرَ الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَذَلِكَ هُوَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ لِلْعالَمِينَ أي
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٢٠.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ١٧.
(٤) سورة الحجر: ١٥/ ٢٩.
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أُمَّتُكُمْ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ إِنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا لَا تَنْحَرِفُونَ عَنْهَا مِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذِهِ إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ طَرِيقَتُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أُمَّةً واحِدَةً مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى مَمْلُوكَةً لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا أَيْ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «١» بِأَنْ بُعِثَ لَهُمْ بِمِلَّةٍ وَكِتَابٍ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أَيْ دَعَا الْجَمِيعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّتُكُمْ بِالرَّفْعِ خَبَرُ إِنَّ أُمَّةً واحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ أُمَّتُكُمْ بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْجُعْفِيُّ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيِّ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أن أُمَّتُكُمْ وأُمَّةً واحِدَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ أُمَّةً واحِدَةً بَدَلٌ مِنْ أُمَّتُكُمْ بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ أُمَّةً واحِدَةً وَالضَّمِيرُ فِي وَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ أَيْ وَتَقَطَّعْتُمْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مَنْ أَقْبَحِ الْمُرْتَكَبَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ كَأَنَّ هَذَا
رَأَيْتُ أُنَاسًا لَا تَنَامُ جُدُودُهُمْ | وَجَدِّي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَرامٌ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحِرْمٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَحَرِمٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ أَيْضًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَالْمِيمِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَحُرِّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَهْلَكْناها بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَاسْتُعِيرَ الحرام للمتنع وُجُودُهُ وَمِنْهُ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «١» وَمَعْنَى أَهْلَكْناها قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْكُفْرِ، فَالْإِهْلَاكُ هُنَا إِهْلَاكٌ عن كفر ولا فِي لَا يَرْجِعُونَ صِلَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيدٍ كَقَوْلِكَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ، أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى وَمُمْتَنِعٌ على أهل قرية قدرنا عَلَيْهِمْ إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ رُجُوعَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ، فحينئذ يرجعون ويقولون يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا وَغَيًّا بِمَا قَرُبَ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ وَهُوَ فَتْحُ
الْإِهْلَاكُ بِالطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالرُّجُوعُ هُوَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها حَكَمْنَا بِإِهْلَاكِهَا أَنْ نَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ لِأَنَّهَا لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ قَبْلُ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أَيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ حَرامٌ ممتنع وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ انْتِقَامُ الرُّجُوعِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الِانْتِفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ إِنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَتَحْقِيقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا كُفْرَانَ لِسَعْيِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ يُجْزَى عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْحَرَامُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا «١» وَتَرْكُ الشِّرْكِ وَاجِبٌ. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
حَرَامٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا | عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ |
بِمَ تَعَلَّقَتْ حَتَّى وَاقِعَةً غَايَةً لَهُ وَأَيَّةُ الثَّلَاثِ هِيَ؟ قُلْتُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرَامٍ، وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ، وَهِيَ حَتَّى الَّتِي تَحْكِي الْكَلَامَ، وَالْكَلَامُ الْمَحْكِيُّ الْجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَعْنِي إِذَا وَمَا فِي حَيِّزِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَتَقَطَّعُوا وَيُحْتَمَلُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ تُعَلَّقَ بِيَرْجِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ وهو الأظهر بسبب إِذا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَابًا هُوَ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ انْتَهَى. وَكَوْنُ حَتَّى مُتَعَلِّقَةً فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ الْفَصْلِ لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى دِينِ الْحَقِّ إِلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ انْقَطَعَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَعَلِمَ الْجَمِيعُ أَنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَأَنَّ الدِّينَ الْمُنَجِّيَ هُوَ كَانَ دِينَ التَّوْحِيدِ. وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قالوا يا ويلنا قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ، فَحِينَئِذٍ يُبْعَثُونَ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ.
أَوْ مَذْكُورٌ وَهُوَ وَاقْتَرَبَ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَهُمْ يُجِيزُونَ زِيَادَةَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِي فَإِذَا هِيَ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا هِيَ الْمُفَاجَأَةُ وَهِيَ تَقَعُ فِي المفاجئات سَادَةً مَسَدَّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ «١» فَإِذَا جَاءَتِ الْفَاءُ مَعَهَا تَعَاوَنَتَا عَلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، فَيَتَأَكَّدُ وَلَوْ قِيلَ إذا هِيَ شَاخِصَةٌ كَانَ سَدِيدًا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي أَقُولُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ رُجُوعُهُمُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ امْتِنَاعَهُ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي فُتِحَتْ فِي الْأَنْعَامِ وَوَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَكَذَا الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَمَرِ فِي تَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْجُمْهُورُ على التخفيف فيهن وفُتِحَتْ يَأْجُوجُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سَدُّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَيْ يَطْلُعُونَ مِنْ كُلِّ ثَنِيَّةٍ وَمُرْتَفَعٍ وَيَعُمُّونَ الْأَرْضَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَالَمِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ الله وابن عباس مِنْ كُلِّ جَدَثٍ بِالثَّاءِ المثلثة وهو القبر. وقرىء بِالْفَاءِ الثَّاءِ لِلْحِجَازِ وَالْفَاءِ لِتَمِيمٍ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الثَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوا الثَّاءَ مِنْهَا قَالُوا وَأَصْلُهُ مَغْفُورٌ.
فَلَا وَأَبِيهَا لَا تَقُولُ خَلِيلَتِي | إِلَّا قَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ |
بِثَوْبٍ وَدِينَارٍ وَشَاةٍ وَدِرْهَمٍ | فَهَلْ هُوَ مرفوع بما هاهنا رَأَسُ |
يا وَيْلَنا مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جواب فَإِذا وَالشُّخُوصُ إِحْدَادُ النَّظَرِ دُونَ أَنْ يَطْرِفَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا انْتَهَى. أَيْ مِمَّا وَجَدْنَا الْآنَ وَتَبَيَّنَّا مِنَ الْحَقَائِقِ ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ وَأَخْبَرُوا بِمَا قَدْ كَانُوا تَعَمَّدُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالُوا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ مَكَّةَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ هِيَ الْأَصْنَامُ.
فَلَا تَكُ فِي حَرْبِنَا مُحْضِبًا | فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا |
وَجَمْعُ الْكُفَّارِ مَعَ مَعْبُودَاتِهِمْ فِي النَّارِ لِزِيَادَةِ غَمِّهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ بِرُؤْيَتِهِمْ مَعَهُمْ فِيهَا إِذْ عُذِّبُوا بِسَبَبِهِمْ، وَكَانُوا يَرْجُونَ الْخَيْرَ بِعِبَادَتِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرُّ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَرُؤْيَةُ الْعَدُوِّ مِمَّا يَزِيدُ فِي الْعَذَابِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَاحْتِمَالُ الْأَذَى ورؤية جابيه | غِذَاءٌ تُضْنَى بِهِ الْأَجْسَامُ |
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِالرَّفْعِ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَكُلٌّ فِيها أَيْ كُلٌّ مِنَ الْعَابِدِينَ وَمَعْبُودَاتِهِمْ.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُوَ صَوْتُ نَفَسِ الْمَغْمُومِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّفِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُمُ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وَكَغُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ مِصْرَ مَنْ بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ أَوَّلِ مُلُوكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ حَيَاةً فَيَكُونُ لَهَا زَفِيرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا كَانُوا هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّافِرِينَ إِلَّا وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ يُجْعَلُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فَلَا يَسْمَعُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «١» وَفِي سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ رَوْحٌ فَمَنَعَ اللَّهُ الْكُفَّارَ ذَلِكَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَسُرُّهُمْ مِنْ كَلَامِ الزَّبَانِيَةِ.
سَبَبُ نُزُولِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ سَمِعَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «١» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ خَصِمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
الآية. وَقِيلَ: لَمَّا اعْتَرَضَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قِيلَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ قوما عربا أو ما تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما تَعْبُدُونَ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ نَزَلَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْآيَةَ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى رَامَ مُغَالَطَةً، فَأُجِيبُ بِأَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُ.
والْحُسْنى الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ فِي الْحُسْنِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ مُبْعَدُونَ فَمَا بَعْدَهُ أَنَّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُ النَّارَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها
وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ مِنْ حَرَكَةِ الْأَجْرَامِ، وَهَذَا الْإِبْعَادُ وَانْتِفَاءُ سَمَاعِ صَوْتِهَا قِيلَ هُوَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: بَعْدَ دُخُولِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ اللَّذَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ صِفَةٌ لَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ في
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّحْمَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ قَائِلِينَ لَهُمْ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بِالْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لَا يَحْزُنُهُمُ مُضَارِعُ أَحْزَنَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَحَزِنَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْعَامِلُ فِي يوم لا يَحْزُنُهُمُ وتَتَلَقَّاهُمُ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ فِي تُوعَدُونَ فَالْعَامِلُ فِيهِ تُوعَدُونَ أَيْ أَيُوعَدُونَهُ أَوْ مَفْعُولًا بِاذْكُرْ أَوْ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ الْفَزَعُ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّ الْفَزَعُ مَصْدَرٌ وَقَدْ وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ فَلَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَطْوِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ يَطْوِي بِيَاءٍ أَيِ اللَّهُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَفِرْقَةٌ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْوَاوِ والسَّماءَ رَفْعًا وَالْجُمْهُورُ السِّجِلِّ عَلَى وَزْنِ الطِّمِرِّ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَصَاحِبُهُ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَأَبُو السِّمَاكِ السِّجِلِّ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَسَنُ وَعِيسَى بِكَسْرِهِمَا، وَالْجِيمُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ سَاكِنَةٌ وَاللَّامِ مُخَفَّفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ. وَقَالَ مُجَاهِد السِّجِلِّ الصَّحِيفَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ مِنَ الصُّحُفِ بِصَحِيفَةِ الْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى طَيًّا مِثْلَ طَيِّ السِّجِلِّ، وَطَيٌّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ لِيُكْتَبَ فِيهِ أَوْ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَالْأَصْلُ كَطَيِّ الطَّاوِي السِّجِلِّ فَحَذَفَ الْفَاعِلَ وَحَذْفُهُ يَجُوزُ مَعَ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ، وَقَدَرَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ السِّجِلِّ مَلَكٌ يَطْوِي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ كَاتِبٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ انْتَهَى. وقيل:
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْكِتَابِ مُفْرَدًا وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ لِلْكُتُبِ جَمْعًا وَسَكَّنَ التَّاءَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ نُعِيدُ الَّذِي يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَالْكَافُ مَكْفُوفَةٌ بِمَا، وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأْنَاهُ تَشْبِيهًا لِلْإِعَادَةِ بِالْإِبْدَاءِ فِي تَنَاوُلِ الْقُدْرَةِ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا أَوَّلُ الْخَلْقِ حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ قُلْتُ: أَوَّلُهُ إِيجَادُهُ مِنَ الْعَدَمِ، فَكَمَا أَوْجَدَهُ أَوَّلًا عَنْ عَدَمٍ يُعِيدُهُ ثَانِيًا عَنْ عَدَمٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا بَالُ خَلْقٍ مُنْكِرًا؟
قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِكَ: هُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ جَاءَنِي تُرِيدُ أَوَّلَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرَادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا فَكَذَلِكَ مَعْنَى أَوَّلَ خَلْقٍ أَوَّلُ الْخَلَائِقِ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ نُعِيدُ مِثْلَ الَّذِي بدأناه نُعِيدُهُ وأَوَّلَ خَلْقٍ ظَرْفٌ لِبَدَأْنَاهُ أَيْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ السَّاقِطِ مِنَ اللَّفْظِ الثَّابِتِ فِي الْمَعْنَى انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ لَيْسَتْ مَكْفُوفَةً كَمَا ذَكَرَ بَلْ هِيَ جَارَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَصْدَرِيَّةٌ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بالكاف. وأَوَّلَ خَلْقٍ مَفْعُولُ بَدَأْنا وَالْمَعْنَى نُعِيدُ أَوَّلَ خَلْقٍ إِعَادَةً مِثْلَ بَدْأَتِنَا لَهُ، أَيْ كَمَا أَبْرَزْنَاهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ نُعِيدُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فِي مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَهْيِئَةً بَدَأْنا لِأَنْ يَنْصِبَ أَوَّلَ خَلْقٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَطْعُهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَارْتِكَابِ إِضْمَارٍ يُعِيدُ مُفَسَّرًا بِنُعِيدُهُ وَهَذِهِ عُجْمَةٌ فِي كِتَابِ الله، وأما قَوْلُهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَنْتَصِبَ الْكَافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ نُعِيدُهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَكَوْنُهَا اسْمًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِالشِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْبَعْثِ أَيْ كَمَا اخْتَرَعْنَا الْخَلْقَ أَوَّلًا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَذَلِكَ نُنْشِئُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَنَبْعَثُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا إِلَى الدُّنْيَا وَيُؤَيِّدُهُ
«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَقَوْلُهُ كَما بَدَأْنا الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ نُعِيدُهُ انْتَهَى.
وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَصْدَرٍ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَبْلَهُ إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ تَأْكِيدٌ لِتَحَتُّمِ الْخَبَرِ أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نفعل والزَّبُورِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ زَبُورُ دَاوُدَ وَقَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَوْجُودٌ فِي زَبُورِ داود وقرأناه فيه والذِّكْرِ التَّوْرَاةِ قَالَهُ
وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ يَرِثُها أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي هَذَا أَيِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ لَبَلَاغًا كِفَايَةً يَبْلُغُ بِهَا إِلَى الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ جُمْلَةً، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لِكَوْنِهِ جَاءَهُمْ بما يسعدهم.
لِلْعالَمِينَ قِيلَ خَاصٌّ بِمَنْ آمَنَ بِهِ. وَقِيلَ: عَامٌّ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكَافِرِ حَيْثُ أَخَّرَ عُقُوبَتَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْصِلِ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: عُوفِيَ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ مَسْخٍ وَخَسْفٍ وَغَرَقٍ وَقَذْفٍ وَأَخَّرَ أَمْرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَما أَرْسَلْناكَ لِلْعَالَمِينَ إِلَّا رَحْمَةً أَيْ هُوَ رَحْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَهُدًى بَيِّنٌ أَخَذَ بِهِ مَنْ أَخَذَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَنْ أَعْرَضَ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْجَارُّ بَعْدَ إِلَّا بِالْفِعْلِ قَبْلَهَا إِلَّا إِنْ كَانَ الْعَامِلُ مُفَرِّغًا لَهُ نَحْوَ مَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِنَّمَا تُقْصِرُ الْحُكْمَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ وَإِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَقَدِ اجْتَمَعَ، الْمَثَلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يقوم زيد وأَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي إِنَّما إِنَّهَا لِقَصْرِ مَا ذَكَرَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنَّمَا لِلْحَصْرِ وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْحَصْرِ، وَإِنَّمَا مَعَ أَنَّ كَهِيَ مَعَ كَانَ وَمَعَ لَعَلَّ، فَكَمَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فِي التَّشْبِيهِ وَلَا الْحَصْرَ فِي التَّرَجِّي فَكَذَلِكَ لَا تُفِيدُهُ مَعَ أَنَّ وَأَمَّا جَعْلُهُ إِنَّما الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مِثْلَ مَكْسُوَرِتَهَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ، فَلَا نَعْلَمُ الْخِلَافَ إِلَّا فِي إِنَّما بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فحرف مصدري ينسبك منع مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا لَيْسَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، وَلَوْ كَانَتْ إِنَّمَا دَالَّةٌ عَلَى الْحَصْرِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّوْحِيدُ. وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْحَصْرُ فِيهِ إِذْ قَدْ أَوْحَى لَهُ أَشْيَاءَ غَيْرَ التَّوْحِيدِ وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَظَافُرِ الْمَنْقُولِ لِلْمَعْقُولِ وَأَنَّ النَّقْلَ أَحَدُ طَرِيقَيِ التَّوْحِيدِ، وَيَجُوزُ فِي مَا مِنْ إِنَّما أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى آذَنْتُكُمْ أَعْلَمْتُكُمْ وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ وَالنِّذَارَةِ عَلى سَواءٍ لَمْ أَخُصَّ أَحَدًا
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ أَيْ لَعَلَّ تَأْخِيرَ هَذَا الْمَوْعِدِ امْتِحَانٌ لَكُمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَوْ يَمْتَنِعُ لَكُمْ إِلَى حِينٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وَلِيَقَعَ الْمَوْعِدُ فِي وَقْتٍ هُوَ حِكْمَةٌ، وَلَعَلَّ هُنَا مُعَلَّقَةٌ أَيْضًا وَجُمْلَةُ التَّرَجِّي هِيَ مَصَبُّ الْفِعْلِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجْرُونَ لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ، فَكَمَا يَقَعُ التَّعْلِيقُ عَنْ هَلْ كَذَلِكَ عَنْ لَعَلَّ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَعَلَّ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا كَقَوْلِهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «١» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «٢» وَقِيلَ إِلى حِينٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ بدر.
وقرأ الجمهور قالَ رَبِّ أمرا بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ قَالَ وَأَبُو جَعْفَرٍ رَبُّ بِالضَّمِّ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُفْرَدٌ وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِأَيِّ بَعِيدٍ بَابُهُ الشِّعْرُ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ نِدَاءِ النَّكِرَةِ الْمُقْبِلِ عَلَيْهَا بَلْ هَذَا مِنَ اللُّغَاتِ الْجَائِزَةِ فِي يَا غُلَامِي، وَهِيَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى الضَّمِّ وَأَنْتَ تَنْوِي الْإِضَافَةَ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا بَنْيَتَهُ، فَمَعْنَى رَبِّ يَا رَبِّي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ احْكُمْ عَلَى الْأَمْرِ مِنْ حَكَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ رَبِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ أَحْكَمُ جَعَلَهُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ فَرَبِّي أَحْكَمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ أَحْكَمَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَصِفُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ عَلَى مَا يَصِفُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ،
وَرُوِّيتُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وعاصم.
(٢) سورة عبس: ٨٠/ ٣.