تفسير سورة الأحزاب

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٣٣ شرح إعراب سورة الأحزاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ضممت أيا لأنه نداء مفرد والتنبيه لازم لها والنبي نعت لأيّ عند النحويين إلّا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأي، وهو خطأ عند أكثر النحويين لأن الصلة لا تكون إلّا جملة والاحتيال له فيما قال: إنه لما كان نعتا لازما سماه صلة فهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها، وأجاز بعض النحويين «١» النصب، اتَّقِ اللَّهَ حذفت الياء لأنه أمر. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا تطعهم فيما نهيت عنه ولا تمل إليهم، ودلّ بقوله جلّ وعزّ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً على أنه إنما كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام أي لو علم الله جلّ وعزّ أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه لأنه حكيم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ أي من اجتنابهم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣]
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي في الخوف من ضررهم. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كافيا لك مما تخافه منهم «وكيلا» نصب على البيان أو على الحال.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «من» زائدة للتوكيد، وشبه هذا بالأول أنّه لم
(١) انظر أسرار العربية ص ٢٢٩.
يجعل للإنسان قلبين قلبا يخلص به لله جلّ وعزّ وقلبا يميل به إلى أعدائه. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ «١» مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ مفعولان وهو مشتق من الظهر لأن الظهر موضع الركوب. وكانت العرب تطلق بالظّهار. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وفي الحديث أن خديجة رضي الله عنها وهبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء أبوه حارثة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: خذ مني فداه فقال له: أنا أخيّره فإن أراد أن يقيم عندي أقام، وإن اختارك فخذه فاختار المقام فأعتقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «هو ابني يرثني وأرثه» «٢»، ثم أنزل الله جلّ وعزّ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي ادعوهم لآبائهم. قال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد فنسب كلّ دعيّ إلى أبيه.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ابتداء وخبره أي هو قول بلا حقيقة. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي القول الحقّ نعت لمصدر، ويجوز أن يكون مفعولا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم وَمَوالِيكُمْ عطف عليه.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قول قتادة هو أن ينسب الرجل إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه. قال أبو جعفر: وقد قيل: إنّ هذا مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم به، وكانت فتيا عطاء على هذا إذا حلف رجل ألّا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقّه فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زجاجا أنه لا شيء عليه، وكذا عنده إذا حلف أنه لا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث لأنه لم يعمد لذلك. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ «ما» في موضع خفض ردّا على «ما» التي مع أخطأتم، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في معناه قولان: أحدهما النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض مثل فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٥٤]، والآخر أنه إذا أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
(١) انظر القراءات التسعة في البحر المحيط ٧/ ٢٠٧، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥١٩.
(٢) انظر زاد المسير ٦/ ٣٥١، وابن كثير ٣/ ٤٦٨، والقرطبي ١٤/ ٧٩.
بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى. وفي الحديث «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ» «١».
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة ولا يحلّ لهم تزوّجهنّ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ مبتدأ وبَعْضُهُمْ مبتدأ ثان أو بدل أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يكون التقدير وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، ويجوز أن يكون المعنى: أولى من المؤمنين والمهاجرين. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال محمد ابن الحنفية رحمة الله عليه: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي مكتوبا في نسق كالسطر. ويقال:
سطر والجمع أسطار، ومن قال سطر قال: أسطر وسطور يصلح لهما جميعا إلّا أنه بالمسكّن أولى وأكثر.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ قال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال: على قومهم وعن أبيّ بن كعب قال: هو مثل وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: ١٧٢] الآية، قال: فأخذ ميثاقهم وعلى الأنبياء- صلوات الله عليهم- منهم النور كأنه السّرج ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة للرسالة قال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الآية قال:
«ومن نوح» ولم يقل: ونوح لأن المظهر إذا عطف على المضمر المخفوض أعيد الحرف تقول: مررت به وبزيد وَإِبْراهِيمَ عطف مظهر على مظهر فلم يعد الحرف وكذا وَمُوسى وَعِيسَى.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٨]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قد ذكرناه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وفي الحديث «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» «٢» وكان في هذه الريح أعظم الآيات والدلالات للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن الله جلّ وعزّ أرسل على أعدائه ريحا
(١) أخرجه ابن ماجة في سننه- الصدقات- باب ٣ الحديث رقم (٢٤١٧)، والترمذي في سننه- الجنائز ٤/ ٢٩١.
(٢) انظر المعجم لونسنك ٦/ ٤٦٠.
شديدة البرد فقطعت خيامهم وشغلتهم ببردها، والمؤمنون حذاءهم لم يلحقهم منها شيء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٠]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا والكوفيون يقرءونها بغير ألف، وذلك مخالف للمصحف وإن كان حسنا في العربية. وأولى الأشياء في هذا أن يوقف عليه بالألف ولا يوصل لأنه إن وصل بالألف كان لاحنا، وإن وصل بغير ألف كان مخالفا للمصحف، وإذا وقف بالألف كان متّبعا للسواد موافقا للإعراب لأن العرب تثبت هذه الألف في القوافي وتثبتها في الفواصل ليتّفق الكلام.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١١]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي في ذلك الوقت اختبر المؤمنون. واللام زائدة للتوكيد، وإن كانت مكسورة والكاف للخطاب. وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، ويقال: زلزال في المضاعف خاصة وغير المضاعف لا يجوز فيه الفتح. ويقال: دحرجته دحراجا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَإِذْ في موضع نصب بمعنى واذكر، وكذا وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ قال أبو عبيدة «١» : يثرب اسم أرض والمدينة منها. لا مُقامَ لَكُمْ «٢» أي مكان يقيمون فيه، وأنشد: [الوافر] ٣٤١-
فأيّي ما وأيّك كان شرّا فسيق إلى المقامة لا يراها «٣»
وقرأ أبو عبد الرحمن والأعرج لا مُقامَ لَكُمْ يكون مصدرا من قام يقيم أو موضعا يقيمون فيه أو يقامون وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ وقراءة أبي رجاء وتروى عن ابن عباس إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ «٤» وهذا اسم الفاعل من عور يعور عورة ويجوز أن يكون مصدرا أي ذات عورة ويجوز أن يكون في موضع اسم الفاعل على السعة كما تقول: رجل عدل، أي عادل ويقال: أعور
(١) انظر مجاز القرآن ١/ ١٣٤.
(٢) انظر تيسير الداني ١٤٥، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٠، وقراءة حفص بضمّ الميم والباقون بفتحها.
(٣) مرّ الشاهد رقم ١٢٠. [.....]
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٢١٢.
المكان إذا تبيّنت فيه عورة وأعور الفارس إذا تبيّن منه موضع خلل. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي ليس قصدهم ما قالوا وإنما قصدهم للفرار.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها وهي البيوت أو المدينة. ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها هذه قراءة أهل الحرمين، وقراءة أهل البصرة وأهل الكوفة لَآتَوْها «١» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ بحديث «٢» الجماعة الذين فيهم بلال أنهم أعطوا الفتنة من أنفسهم غير بلال. قال أبو جعفر: الحديث في أمر بلال لا يشبه الآية، لأن الله جلّ وعزّ خبّر عن هؤلاء بهذا الخبر وبلال وأصحابه إنما أكرهوا، وفي هذه الآية: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها أي لو دخل عليهم الكفار لجاءوهم، وهذا خلاف ما عاهدوا الله عليه وفي القصّة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ فهذا يدلّ على «لأتوها» مقصورا.
وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي كان العذاب يأخذهم أو يهلكون.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٦]
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)
وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا وفي بعض الروايات وإذا لا تمتّعوا تنصب بإذن، والرفع بمعنى لا تمتّعون إذن فتكون إذن ملغاة، ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو أو الفاء، فإن كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذن أكرمكم. وروى سيبويه «٣» عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل رحمه الله أنّ «أن» معها مضمرة وسماعه منه النصب بها فإن توسّطت لم يجز أن تنصب عند البصريين تقول: أنا إذن أكرمك، وكنت إذن أكرمك، وإنّي إذن أكرمك. الفراء «٤» ينصب هنا أعني في «إنّ» خاصة، وأنشد: [الرجز] ٣٤٢-
إنّي إذا أهلك أو أطيرا «٥»
(١) انظر تيسير الداني ١٤٥.
(٢) انظر تفسير الطبري ١٤/ ١٤٩.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ١٤.
(٤) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٣٨.
(٥) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (شطر) وتهذيب اللغة ١١/ ٣٠٨، وتاج العروس (شطر)، ومقاييس اللغة ٣/ ١٨٧، ومجمل اللغة ٣/ ١٨٥، وأساس البلاغة (شطر)، والإنصاف ١/ ١٧٧، وأوضح المسالك ٤/ ١٦٦، والجنى الداني ٣٦٢، وخزانة الأدب ٨/ ٤٥٦، والدرر ٤: ٧٢، ورصف المباني ٦٦، وشرح الأشموني ٣/ ٥٥٤، وشرح التصريح ٢/ ٢٣٤، وشرح شواهد المغني ١/ ٧٠، وشرح المفصل ٧/ ١٧، ومغني اللبيب ١/ ٢٢، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٨٣، والمقرّب ١/ ٢٦١، وهمع الهوامع ٢/ ٧.
وقبله:
«لا تدعني فيهم شطيرا»
والشعر منصوب وعلته في «إنّ» أنها لا تنصرف.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٨]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المتعرّضين لأن يصدّوا الناس عن النبي. مشتقّ من عاقني عن كذا أي صرفني عنه، وعوّق على التكثير. وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقول: هلمّوا للجماعة وهلمّي للمرأة لأن الأصل ها التي للتنبيه ضمّت إليها «لمّ» ثم حذفت الألف استخفافا، وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تتصرّف. ومعنى «هلمّ» أقبل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ١٩]
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩)
أَشِحَّةً نصب على الحال. قال أبو إسحاق: ونصبه عند الفراء «١» من أربع جهات: إحداهما أن يكون على الذمّ، ويجوز عنده أن يكون نصبا يعوّقون أشحّة، ويجوز عنده أن يكون التقدير: والقائلين أشحّة، ويجوز عنده ولا يأتون البأس إلّا قليلا يأتونه أشحّة أي أشحّة على الفقراء بالغنيمة جبناء. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون العامل فيه المعوّقين ولا القائلين لئلّا يفرّق بين الصلة والموصول فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محدّدا بصره وربّما غشي عليه فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ وحكى الفراء صلقوكم «٢» بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي وإن كان ظاهرهم الإيمان فليسوا بمؤمنين لأن المنافق كافر على الحقيقة وصفهم الله جلّ وعزّ بالكفر. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي يقول الحقّ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٠]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لجبنهم. وقرأ طلحة وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بدّا «٣» في الأعراب يقال: باد وبدّا بالقصر مثل غاز وغزّى ويمدّ مثل صائم وصوّام. وقرأ الحسن وعاصم الجحدري يسّاءلون عن أنبائكم «٤» والأصل يتساءلون
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٣٨.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٣٩، والبحر المحيط ٧/ ٢١٥.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١١٩.
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٢١٥، ومعاني الفراء ٢/ ٣٣٩.
ثم أدغم. وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا نعت لمصدر أو لظرف.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢١]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ «١» حَسَنَةٌ أي في خروجه إلى الخندق وصبره، وقرأ عاصم أُسْوَةٌ بضم الهمزة. والكسر أكثر في كلام العرب والجمع فيهما جميعا واحد عند الفراء، والعلّة عنده في الضمّ على لغة من كسر في الواحد الفرق من ذوات الواو وذوات الياء فيقولون: كسوة وكسى، ولحية ولحي. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ لا يجوز عند النحويين الحذّاق أن يكتب «يرجو» إلّا بغير ألف إذا كان لواحد لأن العلّة التي في الجمع ليست في الواحد. وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٢]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ومن العرب من يقول: راء على القلب. قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة، وإن جعلتها «٢» مصدرا لم يحتج إلى عائد. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: رأى يدلّ على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي. والمعنى: وما زادهم الرؤية، مثل من كذب كان شرّا له.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٣]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن «صدقوا» في موضع النعت. قال أبو إسحاق: «ما» في موضع نصب. قال أبو جعفر: يقال: صدقت العهد أي وفيت به. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ «من» في موضع رفع بالابتداء، وقد ذكرنا معناه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا قال محمد بن عمرو عن أبيه عن جدّه عن
(١) انظر تيسير الداني ١٤٥.
(٢) انظر تفسير الطبري ٢١/ ١٤٩.
عائشة رضي الله عنها قالت في قوله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أبو سفيان وعيينة ابن برد، رجع أبو سفيان إلى تهامة وعيينة إلى نجد. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بأن أرسل عليهم الريح حتى رجعوا فرجعت بنو قريظة إلى صياصيهم. قال أبو جعفر:
فكفي أمر بني قريظة بالرعب حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رحمة الله عليه فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي لا يردّ أمره عَزِيزاً لا يغلب.
وبيّن هذا في بني قريظة قال جلّ ثناؤه وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال محمد بن يزيد: أصل الصيصية ما يمتنع به فالحصن صيصية ويقال لقرون البقر: صياص لامتناعها. وكذا يقال في شوكة الديك قال: ويقال الشوكة الحائك صيصية تشبيها بها، وأنشد: [الطويل] ٣٤٣-
كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد «١»
فَرِيقاً نصب بتقتلون. وفَرِيقاً نصب بتأسرون، وحكى الفراء «٢» «تأسرون» بضم السين.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٧]
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لأن المهاجرين لم تكن لهم بالمدينة دور.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)
فَتَعالَيْنَ نون المؤنّث فيه وهي لا تحذف لأنه مبنيّ ولو حذفت لأشكل. قال الخليل رحمه الله: الأصل في تعال: ارتفع ثم كثر استعمالهم حتى قيل للمتعالي: تعال أي أنزل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣١]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً قراءة أهل الحرمين والحسن وأبي عمرو
(١) الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه ٦٣، ولسان العرب (نوش) و (صيص)، و (شيق) و (صيا)، وكتاب العين ٧/ ١٧٦، وتهذيب اللغة ١٢/ ٢٦٦، وتاج العروس (صيص)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٤٢، والمخصص ١٢/ ٢٦٠.
وصدره:
«غداة دعاني والمرماح ينشنه»
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٤١. [.....]
وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين ويعمل صالحا «١» وأبو عبيد يميل إلى هذه القراءة لأنه عطف على الأول. وقد أجمعوا على الأول بالياء فقرؤوا «ومن يقنت». قال أبو جعفر:
الثاني مخالف للأول لأن الأول محمول على اللفظ وليس قبله ما يتبعه، والثاني قبله منكن وهذه النون للتأنيث فتعمل بالتاء أولى لأنه يلي مؤنثا وإن كان بالياء جائزا حسنا، وبعده نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ بالتأنيث في السواد وكذا وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أهل التفسير على أن الرزق الكريم هاهنا الجنة.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٢]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ولم يقل: كواحدة لأنّ «أحدا» نفي عام يقع للمذكّر والمؤنّث، والجميع على لفظ واحد. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ في موضع جزم بالنهي إلّا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه «٢»، وقال أبو العباس محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان عنه، ولا أعلمه في شيء من كتبه، قال: إذا اعتلّ الشيء من جهتين وهو اسم منع الصرف فإذا اعتلّ من ثلاث جهات بني لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء فهذا الفعل معتلّ من ثلاث جهات: منها أن الفعل أثقل من الاسم وهو جمع، والجمع أثقل من الواحد وهو للمؤنّث، والمؤنّث أثقل من المذكر، وهذا القول عند أبي إسحاق خطأ، وقال: يلزمه ألّا يصرف فرعون إذا سمّي به امرأة لأن فيه ثلاث علل. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ منصوب لأنه جواب النهي، وقد بيّنّاه بأكثر من هذا، وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ «٣» بفتح الياء وكسر الميم. قال أبو جعفر: أحسب هذا غلطا وأن يكون قرأ فَيَطْمَعَ الَّذِي «٤» بفتح الميم وكسر العين يعطفه على «يخضعن» وهذا وجه جيد حسن، ويجوز «فيطمع» الذي بمعنى فيطمع الخضوع أو القول وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ هذه قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل
(١) انظر تفسير الداني ١٤٥، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢١.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٤٥.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١١٩، والبحر المحيط ٧/ ٢٢٢.
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٢٢٢.
214
المدينة وعاصم وَقَرْنَ «١» بفتح القاف. و «قرن» بكسر القاف فيه تقديران: أما مذهب الفراء «٢» وأبي عبيد فإنه من الوقار ويقال: وقر يقر وقورا إذا ثبت في منزله، والقول الآخر أن يكون من قرّ في المكان يقرّ بكسر القاف، فيكون الأصل وقررن حذفت الراء الأولى استثقالا للتضعيف وألقيت حركتها على القاف فصار وقرن كما يقال: ظلت أفعل بكسر الظاء. فأما و «قرن» فقد تكلم فيه جماعة من أهل العربية فزعم أبو حاتم أنه لا مذهب له في كلام العرب، وزعم أبو عبيد أن أشياخه كانوا ينكرونه من كلام العرب.
قال أبو جعفر: أما في قول أبي عبيد إنّ أشياخه أنكروه، ذكر هذا في «كتاب القراءات» فإنه قد حكى في «الغريب المصنّف» «٣» نقض هذا. حكي عن الكسائي أنّ أهل الحجاز يقولون: قررت في المكان أقرّ. والكسائي من أجلّ مشايخه، ولغة أهل الحجاز هي اللغة القديمة الفصيحة. وأما قول أبي حاتم: أنه لا مذهب له فقد خولف فيه، وفيه مذهبان أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقوله، قال: هو من قررت به عينا أقرّ. فالمعنى: واقررن به عينا في بيوتكن، وهذا وجه حسن إلّا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول كما روي أن عمار قال لعائشة رضي الله عنهما: إنّ الله جلّ وعزّ أمرك أن تقرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان ما زلت قوّالا بالحقّ، فقال:
الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وَلا تَبَرَّجْنَ قال أبو العباس: حقيقة التبرّج إظهار الزينة وإظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة يقال: في أسنانه تبرّج إذا كانت متفرّقة. قال: و «الجاهلية الأولى» كما تقول: الجاهلية الجهلاء، قال:
وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلمها فينفرد خلمها بما فوق الإزار إلى الأعلى. وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال أبو إسحاق: قيل: يراد به نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. قال أبو جعفر: والحديث في هذا مشهور عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري أن هذا نزل في عليّ وفاطمة والحسن والحسين»
رضي الله عنهم، وكان عليهم كساء، وقوله «عنكم» يدلّ على أنه ليس للنساء خاصة. قال أبو إسحاق: أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على المدح، قال: وإن شئت على النداء. قال: ويجوز الرفع والخفض.
قال أبو جعفر: إن خفضت على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند محمد بن يزيد، قال: لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً مصدر فيه معنى التوكيد حوّلت المخاطبة على الحديث المروي إلى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال جلّ وعزّ: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ.
(١) انظر البحر المحيط: ٧/ ٢٢٣.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٤٢.
(٣) انظر الغريب المصنّف ص ٢٦١.
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٢٢٤، وتفسير الطبري ٢٢/ ٦.
215
خفّفت النون الأولى لأنها بمنزلة واو المذكر، تقول في المذكر واذكروا، وثقّلت في الثاني لأنهما بمنزلة الميم والواو في قولك: في بيوتكم إلّا أن الواو يجوز حذفها لثقلها، وأنّ قبلها ميما يدلّ عليها. مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أكثر أهل التفسير على أنّ الحكمة هاهنا السّنة وبعضهم يقول: هي من الآيات.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اسم إن. وَالْمُسْلِماتِ عطف عليه، ويجوز رفعهن عند البصريين. فأما الفراء فلا يجيزه إلّا فيما لا يتبيّن فيه الإعراب. وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ التقدير والحافظاتها ثم حذف، ويجوز على هذا: ضربني وضربت زيد، فإن لم تحذف قلت: وضربته ومثله: ونخلع ونترك من يفجرك، وإن لم تحذف قلت:
وتتركه. وحكى سيبويه «١» : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، فإن لم تحذف قلت: متى ظننت أو قلت هو زيدا منطلقا، وإن شئت قلت متى ظننت أو قلته زيدا منطلقا. فهذا كلّه على إعمال الأول، فإن أعملت الثاني قلت: متى ظننت أو قلت زيد منطلق. هذه اللغة الجيدة، وإن شئت قلت: متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، على إعمال الثاني وتكون قلت عاملة كظننت. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ مثله قال مجاهد: لا يكون ذاكرا الله كثيرا جلّ وعزّ قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري: من أيقظ أهله بالليل فصلّيا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٦]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً قال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله بأمر ورسوله بأمر أن يعصياه، وقرأ الكوفيون «٢» أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنّث وبين فعله. قال أبو جعفر: القراءة بالياء جائزة فأما أن تكون مقدّمة على التاء فلأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن، والتذكير على أنّ الْخِيَرَةُ بمعنى التخيّر.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٧]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧)
(١) انظر الكتاب ١/ ١٧٨.
(٢) انظر تيسير الداني ١٤٥.
وَإِذْ تَقُولُ في موضع نصب وهي غير معربة لأنها لا تتمكّن. لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ قال بعض العلماء: لم يكن هذا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلّا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٨]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨)
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ «من» زائدة للتوكيد سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لأن قبله ما هو بمعنى سنّ ذلك.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٩]
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ قال أبو إسحاق: الَّذِينَ في موضع جرّ على النعت لقوله: الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع، قال:
ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٠]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاد منهم إبراهيم والقاسم والطّيب، والحسن والحسين رضي الله عنهم ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أن عيسى عليه السلام من ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا جوابان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أن المعنى ما كان محمد أبا أحد ممن تبنّاه ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وإنّ نساءه رضي الله عنهن عليهم حرام، وجواب آخر يكون هذا على الحقيقة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وقت نزلت فيه هذه الآية لم يكن أبا أحد من الرجال، ومن ذكرنا من إبراهيم والقاسم والطيّب ماتوا صبيانا. وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قال الأخفش والفراء «١» : أي ولكن كان رسول الله وأجاز وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بالرفع على إضمار مبتدأ، وزعم الفراء «٢» أنه قد قرئ به، وقرأ الحسن والشعبي وعاصم وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «٣» بفتح التاء أي آخر النبيين، كما قرأ علقمة بن قيس خاتمه مسك [المطففين: ٢٦] أي آخره، وخاتم من ختم فهو خاتم وفي قراءة عبد الله «٤» ولكنّ نبيا ختم النّبيّين ويقال للذي يلبس خاتم
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٤٤.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٤٤.
(٣) انظر تيسير الداني ١٤٥.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٢٠، والبحر المحيط ٧/ ٢٢٨. [.....]
وخاتم وخيتام وخاتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً خبر كان والتقدير: عليم بكلّ شيء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٢]
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢)
قال محمد بن يزيد: الأصيل العشيّ وجمعه أصائل والأصل بمعنى الأصيل وجمعه آصال، وقال غيره: أصل جمع أصيل كرغيف ورغف.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٣]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الأصل في الصلاة عند أهل اللغة الدعاء كما قال الأعشى: [البسيط] ٣٤٤-
عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا «١»
أي الزمي مثل الدعاء الذي دعوت لي به لأن قبله:
٣٤٥-
تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا «٢»
ويروى: عليك مثل الذي صلّيت، أي عليك مثل دعائك. وسمّيت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء ولهذا وغيره يقول فقهاء أهل المدينة يدعو في صلاته بما أراد، إلّا أن محمد بن يزيد زعم أن أصل الصلاة: الترحّم، وأخرجها كلّها من باب واحد، والصلاة من الله رحمته عباده، ومن الملائكة رقّة لهم واستدعاء الرحمة من الله جلّ وعزّ إيّاهم، والصلاة من الناس لطلب الرحمة من الله جلّ وعزّ بأداء الفرض أو النفل. إلا أن في الحديث أن بني إسرائيل سألوا صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي ربّك جلّ وعزّ فأعظم ذلك فأوحى جلّ وعزّ إليه أنّ صلاتي أي رحمتي سبقت غضبي. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قال الضحاك: «الظلمات» الكفر و «النور» الإيمان، ويجوز «الظّلمات» تبدل من الضمة فتحة لخفّة الفتحة إلا أن الكسائي كان يقول: ظلمات جمع ظلم، وظلم جمع ظلمة، ومن قال: ظلمات حذف الضمة لثقلها.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٤]
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مبتدأ وخبر. وأجل ما روي فيه أن البراء بن عازب قال:
تحيّتهم يوم يلقونه سلام يسلّم ملك الموت على المؤمنين عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه، وتأوله أبو إسحاق على أن هذا في الجنّة، واستشهد بقوله:
(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٥١، ولسان العرب (ضجع)، و (صلا)، وتهذيب اللغة ١٢/ ٢٣٦، وتاج العروس (ضجع).
(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٥١، ومقاييس اللغة ٣/ ٣٠٠، وتاج العروس (شفع).
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وفرق محمد بن يزيد بين التحية والسّلام، فقال: التحيّة تكون لكلّ دعاء والسلام فخصوص، ومنه يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان: ٧٥].
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٥]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)
نصب على الحال. قال سعيد عن قتادة: شاهِداً على أمته بالبلاغ وَمُبَشِّراً بالجنة وَنَذِيراً من النار.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٦]
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، بِإِذْنِهِ قال: بأمره. وَسِراجاً مُنِيراً قال: كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: التقدير على قوله وداعيا إلى توحيد الله جلّ وعزّ وذا سراج أي ذا كتاب بين، وأجاز أبو إسحاق أن يكون بمعنى وتاليا كتابا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٧]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ والباء تحذف من مثل هذا، ولا يجوز دخول اللام في الخبر.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٨]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ تأوّله أبو إسحاق بمعنى: دع الأذى الذي يؤذونك به أي لإنجازهم عليه حتى تؤمر فيهم بشيء. وتأوّله غيره لا تؤذهم وكان هذا عنده من قبل أن يؤمر بالقتال.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠)
فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ «من» زائدة للتوكيد. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً عطف أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة. إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال أبو إسحاق: إن وهبت نفسها للنبيّ حلّت له.
وقرأ الحسن أن وهبت بفتح الهمزة، و «إن» في موضع نصب. قال أبو إسحاق: فهي لأن وهبت، وقال غيره: إنّ وهبت بدل الاشتمال من امرأة خالِصَةً نصب على الحال.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قال قتادة الذي فرض جلّ
وعزّ عليهم في أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من أربع، وقال غيره: يدلّ على هذا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور:
٣٢]، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء: ١٩] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٣٢] مع ما يقوّي ذلك الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فالذي فرض فيه ألّا يحلّ من النساء إلّا سبي من لا ذمة له لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي لا تتعدّ هذا، وقيل: هو راجع على قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وما بعده.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥١]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
ترجئ من تشاء منهنّ بالهمزة من أرجأت الأمر إذا أخّرته. ويقرأ تُرْجِي «١» بغير همز. وقد تكلم النحويون في الحيلة له فقال بعضهم: هي لغة وإن كانت ليست بالفصيحة، ومنهم من قال: على بدل الهمزة على لغة من قال: قريت. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز بدل الهمزة لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول في قرأت قريت مثل رميت فقال سيبويه: كيف يقولون في المستقبل؟ قال: يقولون يقرأه قال له سيبويه: كان يجب أن يقولوا: يقرى مثل رميت أرمي. قال أبو الحسن: وهذا من كلام سيبويه يدلّ على أنه لا يجوز عنده، قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: هو من رجا يرجو مشتق، يقال: رجا وأرجيته أي جعلته يرجو. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ قد ذكرناه «٢». وقيل فيه: ذلك أقرب ألّا يحزن إذا لم تجتمع أحداهن مع الأخرى، وتعاين الأثرة والميل. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ على توكيد المضمر أي ويرضين كلّهن، وأجاز أبو حاتم وأبو إسحاق وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهنّ»، والفراء «٣» لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كلّ واحدة منهن، وليس المعنى بما أتيتهن كلّهن. قال أبو جعفر: والذي قال حسن.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٢]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال الفراء «٤» : اجتمعت القراء على القراءة بالياء
(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٠، والبحر المحيط ٧/ ٢٣٤.
(٢) انظر إعراب الآية ٣٣- الأحزاب.
والبحر المحيط ٧/ ٢٣٥.
(٣) انظر معاني الفراء ٢/ ٤٣٦.
(٤) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٤٦.
لا يَحِلُّ لَكَ وزعم أنه لو كان لجميع النساء لكان بالتاء أجود. وقال أبو جعفر: وهذا غلط بين وكيف يقال: اجتمعت القراء على الياء، وقد قرأ أبو عمرو بالتاء «١» بلا اختلاف عنه وإذا كان لجماعة النساء كان بالياء جائزا حسنا. وسمعت علي بن سليمان يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: من قرأ لا تحل لك النساء قدره بمعنى جماعة النساء، ومن قرأ بالياء قدّره بمعنى جميع النساء. والفراء يقدره إذا كان بالياء لا يحلّ لك شيء من النساء فحمل التذكير على هذا إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ في موضع رفع على البدل من النساء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ في موضع رفع عطفا على النساء أي لا يحلّ لك النساء التبدل بهن، ومن قال: إن الآية لا يجوز فإنما أجاز ذلك لأنها في معنى النهي، وإن كان لفظهما لفظ الأخبار لا يجوز أن تنسخ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ «إن» في موضع نصب على معنى إلّا بأن يؤذن لكم، ويكون استثناء ليس من الأول إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ نصب على الحال أي لا تدخلوا في هذه الحال، ولا يجوز في غير الخفض على النعت للطعام لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين وكان يكون غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أنتم، ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل ملازم له هو، ومررت برجل معه صقر صائد به، وإن شئت قلت: صائد به هو.
وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا الفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ في موضع نصب عطفا على غير. ويجوز أن يكون خفضا عطفا على ما بعد غير فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ قال أبو إسحاق: ويقال: يستحي بياء واحدة تحذف الياء تخفيفا. قال أبو جعفر: وقد ذكرت هذا في السورة التي تذكر فيها البقرة «٢». وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ في موضع رفع اسم كان. وَلا أَنْ تَنْكِحُوا معطوف عليه.
(١) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣، وتيسير الداني ١٤٥.
(٢) انظر آية ٢٦ من سورة البقرة.

[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٦]

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ عطف وحكي «وملائكته» بالرفع وأجاز الكسائي على هذا: إنّ زيدا وعمرو منطلقان. ومنع هذا جميع النحويين غيره. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الآية لا تشبه ما أجازه لأنك لو قلت: إنّ زيدا وعمرو منطلقان، أعملت في منطلقين شيئين وهذا محال، والتقدير في الآية: إنّ الله جلّ وعزّ يصلّي على النبي وملائكته يصلّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم حذفت من الأول لدلالة الثاني. والذي قال حسن. ولقد قال بعض أهل النظر في قراءة من قرأ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ بالنصب مثال ما قال علي بن سليمان في الرفع قال: لأن يصلون إنما هو للملائكة خاصة لأنه لا يجوز أن يجتمع ضمير لغير الله جلّ وعزّ مع الله إجلالا له وتعظيما، ولقد قال رجل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما شاء الله وشئت، وأنكر ذلك وعلمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: قل ما شاء الله ثم شئت.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الَّذِينَ في موضع نصب وما بعده صلته، وهو يقع لكل غائب مذكر وأخواته «من» و «ما» و «أي» ومؤنثه «التي» فإذا قلت: رأيت من في الدار، كان للآدميّين خاصة، وإذا قلت: رأيت الذي في الدار، كان مبهما للآدميين وغيرهم، وإذا قلت: رأيت ما في الدار، كان لما لا يعقل خاصة ولنعت ما يعقل لو قال قائل: ما عندك؟ فقلت: كريم، كان حسنا. قال محمد بن يزيد: ولو قلت: رجل، كان جائزا لأنه داخل في الأجناس، ولا يجوز أن تقول: زيد ولا عمرو إلّا أن من وما يكونان في الاستفهام والجزاء بغير صلة لأنك لو وصلتهما في الاستفهام كنت مستفهما عما تعرفه، والجزاء مبهم لا يختص شيئا دون شيء فلهذا لم تجز فيه الصلة، و «يؤذون» مهموز لأنه من آذى والأصل بين مهموز مثل آمن فإن خففت الهمزة أبدلت منها واوا فقلت: يوذون لأنه لا سبيل إلى أن يجعلها بين بين لأنها ساكنة.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٨]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على العطف.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ واحدها زوج. يقال للمرأة: زوج وزوجة، والفصيح
الكثير بغير هاء وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج، إنما أزواج جمع زوج مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو، وقد جاء في فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج، وفي قولهم: زوج بغير هاء قولان: أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق، وليس بجار على الفعل فيلزمه الهاء، والجاري على الفعل متزوّجة، والقول الآخر أن العرب تقول لكل مقترنين: زوجان. يقال للخفّين: زوجان، وكذا النعلان والمقرضان «١» والمقصان. قال الله جلّ وعزّ احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: ٤٠] وقال جلّ وعزّ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: ٥٨]. وَبَناتِكَ جمع مسلم، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء، وقد قال بعض النحويين:
المحذوف منه واو واستدلّ بقولهم البنوّة. قال أبو جعفر: وهذا لعمري مما تقع فيه المغالطة لأنه ليس فيه دليل لأنهم قد قالوا: الفتوّة وهو من ذوات الياء يدلك على ذلك قوله جلّ وعزّ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ [يوسف: ٣٦]. قال أبو جعفر: وأحسن ما سمعت فيه قول أبي إسحاق قال: هو عندي مشتقّ من بنى يبني. وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ قيل:
نساء جمع جواب للأمر، والأمر محذوف والتقدير عند المازني: قل لهنّ أدنين يدنين مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ عن ابن مسعود وابن عباس الجلباب: الرداء. قال محمد بن يزيد:
الجلباب كل ما ستر من ثوب أو ملحفة أي يرخين على وجوههن منه. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي يعرفن بالستر والصيانة.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد بن منصور عن أبي رزين قال:
المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء، وعن ابن عباس وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال فجور وشك، قال: لئن لم ينتهوا عن أذى النبي وعن أذى النساء وفي هذه الآية للعلماء غير قول فمنها أنه لم ينتهوا وأن الله جل وعز قد أغراه بهم لأنه قد قال جلّ وعزّ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: ٨٤] وأنه أمره بلعنهم فهذا هو الإغراء فهذا قول، وقال أبو العباس محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع
(١) أخرجه أبو داود في سننه- المناسك، الحديث رقم (١٨٤٧)، ومسلم في صحيحه ب ٩ رقم ٧٩، والطبراني في المعجم الكبير ١٧/ ٣٢٩.
اتصال الكلام بها، وهو قوله جلّ وعزّ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم وهذا أمرهم أن يؤخذوا ويقتلوا إذ كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم» «١» فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. وهذا من أحسن ما قيل وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم». لَنُغْرِيَنَّكَ لام القسم واليمين واقعة عليها وأدخلت اللام في إن توطئة لها ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا فكان الأمر كما قال جلّ وعزّ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء فهذا أحد جوابي الفراء «٢»، وهو الأولى عنده أي إلا في حال قتلهم، والجواب الآخر أن يكون المعنى: إلّا وقتا قليلا.
مَلْعُونِينَ هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال أي ثم لا يجاورونك إلا أقلاء. عن بعض النحويين أنه قال يكون المعنى أينما أخذوا ملعونين، وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٢]
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
سُنَّةَ اللَّهِ نصب على المصدر أي سنّ الله جلّ وعزّ فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً فأنّث لأن السعير بمعنى النار. خالِدِينَ فِيها أَبَداً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٦]
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وحكى الفراء «٣» «يوم تقلّب» بمعنى تتقلّب. ويوم نقلّب وجوههم في النار يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا هذه الألف تقع في الفواصل لتتفق فيوقف عليها ولا يوصل بها.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
وقرأ الحسن إنّا أطعنا ساداتنا بكسر التاء لأنه جمع مسلّم لسادة، وكان في هذا زجر عن التقليد.
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٥٠.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٥٠.
(٣) انظر تيسير الداني ١٤٥، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣ والبحر المحيط ٧/ ٢٤٢.
وقرأ عاصم وابن عامر وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً و (كثيرا) «١» في هذا أشبه كما قال جلّ وعزّ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: ١٥٩] وهذا اللعن كثير.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩)
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً خبر كان. ولو قلت: كان عبد الله عندنا جالسا، كان في نصبه وجهان: يكون خبر كان ويكون على الحال. والوجيه عند العرب العظيم القدر، الرفيع المنزلة، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠)
قال الحكم بن أبان عن عكرمة «قولوا قولا سديدا» قال: لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق والصواب. قال أبو جعفر: الاسم من هذا السّداد بفتح السين وقد استدّ فلان، القياس من فعله سدّ والأصل سدد. فأما السّداد بكسر السين فما غطّي به الشيء، وهو سداد من عوز.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٢]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في معناه أنّ معنى عرضنا أظهرنا كما تقول: عرضت الجارية على البيع، والمعنى: أنّا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والجنّ والإنسان فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها، كما قال جلّ وعزّ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣] «وحملها الإنسان» قال الحسن يراد به الكافر والمنافق، قال: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بربّه فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها وأطعن فيما أمرن به وما سخّرن له، وحملها الإنسان على ما مر من الجواب الذي تقدم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧٣]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
(١) انظر تيسير الداني ١٤٥، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٢٣.
225
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي بالحجج القائمة عليهم من عرض الأمانة عليهم، وهي إظهار ما أظهر لهم من الوعيد. قال عبد الله بن مسعود:
الأمانة: الصلاة والصيام وغسل الجناية، وعن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها. وفي حديث مرفوع «الأمانة الصلاة» «١» إن شئت قلت صليت، وإن شئت قلت لم أصلّ وكذا الصيام وغسل الجنابة. وقرأ الحسن ويتوب الله «٢» بالرفع يقطعه من الأول أي يتوب عليهم بكل حال. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً خبر بعد خبر لكان، ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر.
(١) انظر تفسير الطبري ٢٢/ ٢٣. [.....]
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ٢٤٤، مختصر ابن خالويه ١٢١.
226
Icon