تفسير سورة سبأ

زاد المسير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة سبأ
وهي مكية بإجماعهم.
وقال الضحاك، وابن السائب، ومقاتل : فيها آية مدنية، وهي قوله :﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ [ سبأ : ٦ ].

سورة سبأ
وهي مكّيّة بإجماعهم. وقال الضّحّاك، وابن السّائب، ومقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلْكاً وخَلْقاً وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يَحَمَدُه أولياؤه إِذا دخلوا الجنَّة، فيقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «٢» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «٣» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «٤». يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها من زرع ونبات وغير ذلك وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو رزق أو ملَك وَما يَعْرُجُ فِيها من ملَك أو عمل أو دُعاءٍ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مُنْكِري البعث لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي: لا نُبْعَث «٥».
قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو: «عالم الغيب» بكسر الميم، وقرأ
(١) سبأ: ٦.
(٢) الزمر: ٧٤.
(٣) الأعراف: ٤٣.
(٤) فاطر: ٣٤.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٤٥: هذه إحدى الآيات الثلاث اللاتي لا رابع لهن، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس: [٥٣]، والثانية هذه، والثالثة في سورة التغابن [٧].
نافع وابن عامر برفعها. وقرأ حمزة والكسائي: «علاَّمِ الغيب» بالكسر ولام قبل الألف. قال أبو علي:
من كسر فعلى معنى: الحمدُ للهِ عالِم الغيب ومن رفع جاز أن يكون «عَالِمُ الغيب» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو عالِمُ الغيب، ويجوز أن يكون ابتداءً خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ و «علاَّم» أبلغ من «عالم». وقرأ الكسائي وحده: «لا يَعْزِِبُ» بكسر الزاي وهما لغتان.
قوله تعالى: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وقرأ ابن السميفع، والنخعي، والأعمش: «ولا أصغرَ مِنْ ذلك ولا أكبرَ» بالنصب فيهما. قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزّجّاج: المعنى: بل وربّي لتأتينّكم المجازاة، وقال ابن جرير: المعنى: أثبت مثقال الذرَّة وأصغر منه في كتاب مبين، ليَجْزِيَ الذين آمنوا، وليُريَ الذين أوتوا العلم.
قوله تعالى: مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والمفضل: «مِنْ رِجْزٍ أليمٌ» رفعاً والباقون بالخفض فيهما «١». وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قولان: أحدهما: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة.
قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ قال الفرّاء: «هو» عماد للذي، فلذلك انتصب الحقّ. وما أخللنا به فقد سبق في مواضع «٢».
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٧ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم منكروا البعث، قال بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي: يقول لكم: إِنَّكم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرّقتم كلّ فريق والممزّق ها هنا مصدر بمعنى التمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: يجدَّد خَلْقكم للبعث. ثم أجاب بعضُهم فقالوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حين زعم أنَّا نُبعث؟! وألف «أَفْترى» ألف استفهام، وهو استفهام تعجب وإِنكار، أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي: جنون؟! فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلِ أي: ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون، بل الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم الذين يجحدون البعث فِي الْعَذابِ إِذا بُعثوا في الآخرة وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ من الحق في الدنيا. ثم وعظهم فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وذلك أن الإِنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قُدَّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إِن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإِن شئتُ أسقطتُ عليهم قطعة من السماء إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما يَرَون من السماء والأرض
(١) أي هنا وفي سورة الجاثية: ١١.
(٢) البقرة: ١٣٠- ٢٦٧، الحج: ٥١- ٥٢.
لَآيَةً تدلُّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجعٍ إِلى طاعة الله، متأمِّلٍ لِمَا يرى.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وهو النُّبوَّة والزَّبور وتسخير الجبال والطير، إِلى غير ذلك ممَّا أنعم اللهُ به عليه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وروى الحلبي عن عبد الوارث: «أُوْبي» بضم الهمزة وتخفيف الواو. قال الزجاج: المعنى: وقلنا: يا جبال أوِّبي معه، أي: ارجعي معه. والمعنى: سبِّحي معه ورجِّعي التسبيح. ومن قرأ: «أُوْبي» معناه: عودي في التسبيح معه كلما عاد. وقال ابن قتيبة: «أوِّبي» أي: سبِّحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كلَّه، وينزل ليلاً، فكأنه أراد: ادأَبي النهار كلَّه بالتسبيح إِلى الليل.
قوله تعالى: وَالطَّيْرَ وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة:
«والطَّيْرُ» بالرفع. فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء: هو عطف على قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا وَالطَّيْرَ أي: وسخَّرْنا له الطَّيْرَ. قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصباً على النداء، كأنه قال: دعَوْنا الجبالَ والطيرَ، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى عند البصريين فهو في موضع نصب قال: وأما الرفع، فمن جهتين: إِحداهما: أن يكون نسقاً على ما في «أوِّبي» فالمعنى يا جبال رجِّعي التسبيح معه أنتِ والطير. والثانية: على النداء، المعنى: يا جبال ويا أيُّها الطير أوِّبي معه.
قال ابن عباس: كانت الطير تسبِّح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابَّة إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبِّحي. وللطير: أجيبي، ثم يَأخذ هو في تلاوة الزَّبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيبَ منه. قوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي: جعلناه ليِّناً. قال قتادة: سخَّر اللهُ له الحديد بغير نار، فكان يسوِّيه بيده، لا يُدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح.
قوله تعالى: أَنِ اعْمَلْ قال الزجاج: معناه: وقلنا له: اعْمَل، ويكون في معنى «لأن يعمل» سابِغاتٍ أي: دروعاً سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف. قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، فيعمل الدّروع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق. والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تَفْضُل عنه فيجرّها على الأرض.
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: اجعله على قدر الحاجة. قال ابن قتيبة: السَّرْدُ: النَّسْج، ومنه يقال لصانع الدُّروع: سَرَّادٌ وزَرّادٌ، تبدل من السين الزاي، كما يقال: سرّاط وزرّاط. وقال الزجاج: السَّرْدُ في اللغة: تَقْدِمَةُ الشيء إِلى الشيء تأتي به متَّسقاً بعضُه في إِثر بعض متتابعاً، ومنه قولهم: سَرَدَ فلان الحديثَ. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: عدِّل المسمار في الحَلْقة ولا تصغِّره فيقلق، ولا تُعظِّمه فتنفصم الحَلْقة، قاله مجاهد. والثاني: لا تجعل حِلَقَه واسعة فلا تَقي صاحبها، قاله قتادة. قوله تعالى:
وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وآله.

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]

وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى: وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ.
وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «الرِّيحُ» رفعاً، أي: له تسخيرُ الريح. وقرأ أبو جعفر: «الرِّياح» على الجمع. غُدُوُّها شَهْرٌ قال قتادة: تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع. قوله تعالى:
وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال الزجاج: القِطْر: النُّحاس، وهو الصُّفْر، أُذيب مذ ذاك، وكان قبل سليمان لا يذوب. قال المفسّرون: أجرى الله تعالى: لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان.
قوله تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ المعنى: وسخَّرنا له من الجن مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي:
بأمره سخَّرهم الله له، وأمرهم بطاعته والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ أي: يَعْدِل عَنْ أَمْرِنا له بطاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان: أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك. والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. وقيل: إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة. والثاني:
القصور، قاله عطية. والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة. وأما التماثيل، فهي الصّور قاله الحسن. ولم تكن يومئذ محرَّمة ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه، قاله الضحاك. والثاني: أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم، قاله ابن السائب.
وفي ما كانوا يعملونها منه قولان: أحدهما: من النُّحاس، قاله مجاهد. والثاني: من الرُّخام والشَّبَه «١»، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ الجِفَان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والجَوَابي جمع جابِيَة، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي: يُجمع. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «كالجوابي» بياء،
(١) في «اللسان» : الشّبه: النحاس يصبغ فيصفر.
إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجاج:
وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ، وكان الأصل الوقف بالياء، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها. قال المفسرون: كانوا يصنعون له القِصَاع كحياض الإِبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قوله تعالى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي: ثوابت يقال: رسا يرسو: إِذا ثبت. وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان: أحدهما: أن أثافيها «١» منها، قاله ابن عباس. والثاني: أنها لا تُنزل لِعِظَمها، قاله ابن قتيبة. قال المفسرون: وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها، يأكل من القِدْر ألف رجل. قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً المعنى: وقلنا: اعملوا بطاعة الله تعالى، شكراً له على ما آتاكم.
قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ يعني على سليمان. قال المفسرون: كانت الإِنس تقول:
إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان، فخرَّ فعلموا بموته، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب. وقيل: إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولاً. وفي سبب سؤاله قولان: أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للانس: إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب، فأراد تكذيبهم. والثاني: لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة. فاما دَابَّةُ الْأَرْضِ فهي: الأَرَضَة: وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «دابَّة الأرض» بفتح الراء. والمِنْسأة: العصا. قال الزجاج: وإِنما سمِّيت مِنْسأة، لأنه يُنْسَأُ بها، أي: يُطْرَدُ ويُزْجَر. قال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها.
قوله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ أي: سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي: ظهرت وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي: ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً.
وقيل: تبيَّنت الجن، أي عَلِمت، لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها. وروى رويس عن يعقوب: «تبيّنت» برفع التاء والباء وكسر الياء.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ٢١]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
(١) في «اللسان» : الأثف: الحجر الذي توضع عليه القدر، وجمعها أثافي. [.....]
493
قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «في مَسَاكِنِهم». وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «مَسْكَنِهم» بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائي، وخلف: «مَسْكِنِهم» بكسر الكاف، وهي لغة.
قال المفسّرون: المراد بسبإ ها هنا: القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يَعْرُب بن قحطان وقد ذكرنا في سورة النمل «١» الخلاف في هذا، وأن قوماً يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل. وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ: «لِسَبأَ» بالفتح وترك الصَّرْف، جعله اسماً للقبيلة، ومن صرف وكسر ونوَّن، جعله اسماً للحيِّ واسما لرجل وكلّ جائز حسن. وآيَةٌ رفع، اسم «كان» وجَنَّتانِ رفع على نوعين. أحدهما: أنه بدل من «آية». والثاني: على إِضمار، كأنَّه لمَّا قيل: «آيةٌ» قيل: الآية جنَتَّان.
الإِشارة إِلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت قومَها جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ، فقالت: إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فانَّا نُطيعك، فجاءت إِلى واديهم- وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام- فأمرتْ به، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة «٢»، وحبستْ الماء من وراء السد، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره «٣»، وبقُوا بعدها على حالهم، وقيل: إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضُهم، وكَثُرت فواكههم، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه، ولم يكن يُرى في بلدهم حيَّة ولا عقرب، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: هذه بلدة طيِّبة، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي وَرَبٌّ غَفُورٌ أي: واللهُ ربٌّ غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً «٤»، فكذَّبوا الرُّسل، ولم يقرّوا بنعم الله، فذلك قوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أي: عن الحقّ، وكذَّبوا أنبياءهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن العَرِم: الشديد، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال ابن الأعرابي: العَرِم: السَّيل الذي لا يُطاق. والثاني: أنه اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل. والثالث: أنه المُسَنَّاة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: العَرِم: جمع عَرِمَة، وهي: السّكر «٥» والمسنّاة. والرابع: أنّ العرم: الجرذ
(١) النمل: ٢٢.
(٢) في «اللسان» سننت التراب: صببته على وجه الأرض صبا حتى صار كالمسنّاة.
(٣) النمل: ٢٩- ٤٤.
(٤) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه.
(٥) السّكر بالسكون: ما سد به النهر.
494
الذي نقب عليهم السِّكْر، حكاه الزجاج.
وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان: أحدهما: أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال قتادة والضحاك في آخرين: بعث اللهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد- والخُلْد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق اللهُ به جنَّاتهم، وخرَّب به أرضهم. والثاني: أنه أرسل عليهم ماءً أحمر، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «أُكُلٍ» بالتنوين. وقرأ أبو عمرو: «أُكُلِ» بالإِضافة. وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع، وثقَّلها الباقون. أمَّا الأُكُل، فهو الثمر.
وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور فعلى هذا، أُكُلُه: ثمره ويسمَّى ثمر الأراك: البَرِير. والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرِّد والزجّاج. فعلى هذا القول، الخَمْط: اسم للمأكول، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأُكُل ثمرها، فيحسُن قراءة من أضاف.
فأمَّا الأَثْل، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطَّرْفاء «١»، قاله ابن عباس. والثاني: أنه السَّمُر، حكاه ابن جرير. والثالث: أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه.
قوله تعالى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ففيه تقديم، تقديره: وشيء قليل من السّدر وهو شجر النّبق. والمعنى: أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر. قال قتادة: بينما شجرُهم من خير الشجر، إِذ صيَّره اللهُ تعالى من شرِّ الشجر.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التبديل جزيناهم بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
فان قيل: قد يُجازى المؤمنُ والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى اللهُ المؤمن، ولا يقال:
جازاه، لأن جازاه بمعنى كافأه، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها، مكافأة له، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه، هذا قول الفراء. والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته، هذا قول الزجاج. وقال طاوس: الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ هذا معطوف على قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ والمعنى: كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي: قرى الشام وقد سبق بيان معنى البركة
(١) في «اللسان» : الطرفاء: قال أبو حنيفة: الطرفاء من العضاه وهدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب وإنما يخرج عصيا سمحة في السماء.
495
فيها «١»، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة، فردَّ عليهم النِّعمة، وجعل لهم قُرىً ظاهرة، فعادوا إِلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا فَمُزِّقوا.
قوله تعالى: قُرىً ظاهِرَةً أي: متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ فيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: سِيرُوا فِيها والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي: ليلاً ونهاراً آمِنِينَ من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «بَعِّد» بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: «باعِدْ» بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس: إِنهم قالوا: لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها. قال أبو سليمان الدمشقي: لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب: «ربُّنا» برفع الباء «باعَدَ» بفتح العين والدال، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عزّ وجلّ بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «بَعُدَ» برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشّكاية إلى الله عزّ وجلّ. وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني: «بُوعِدَ» برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين. قوله تعالى: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فيه قولان:
أحدهما: بالكفر وتكذيب الرُّسل. والثاني: بقولهم: «بَعِّدْ بين أسفارنا». فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما فُعِل بهم لَآياتٍ أي: لَعِبَراً لِكُلِّ صَبَّارٍ عن معاصي الله شَكُورٍ لِنِعَمه.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «عليهم» بمعنى «فيهم»، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم، فوجدهم كذلك. وإِنما قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بالظنِّ، لا بالعِلْم، فمن قرأ: «صَدَّق» بتشديد الدال، فالمعنى: حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى:
صَدَق عليهم في ظنِّه بهم. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل سبأ. والثاني: سائر المطيعين لإِبليس. قوله تعالى: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قد شرحناه في قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «٢». قال الحسن: واللهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور. قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ أي: ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين. وقرأ الزهري: «إِلاَّ لِيُعْلَمَ» بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله. وقرأ ابن يعمر: «لِيَعْلَمَ» بفتح الياء. وفي المراد بعلمه ها هنا ثلاثة أقوال: قد شرحناها في أول العنكبوت «٣». وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الشكِّ والإِيمان حَفِيظٌ، وقال ابن قتيبة: والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابي: وهو فَعِيل بمعنى فاعل، كالقدير،
(١) الأنبياء: ٧١.
(٢) الحجر: ٤٢.
(٣) العنكبوت: ٣.
496
والعليم، فهو يحفظ السّموات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها، ويحفظ عباده من المَهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نيَّاتِهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب، ويحرسُهم من مكايد الشيطان.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة، أو يكشفوا عنكم بليَّة. ثم أخبر عنهم فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي: من خير وشرّ ونفع وضُرّ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ لم يشاركونا في شيء من خلقهما، وَما لَهُ أي: وما لله مِنْهُمْ أي: من الآلهة مِنْ ظَهِيرٍ أي: من مُعِين على شيء. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أُذِنَ له» بفتح الألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ، «أُذِنَ له» برفع الألف، وعن عاصم كالقراءتين. أي: لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذَن له فيمن يشفع. وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِن هذه الآلهة تشفع لنا. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ الأكثرون: «فُزِّعَ» بضم الفاء وكسر الزاي، قال ابن قتيبة: خُفِّفَ عنها الفَزَع. وقال الزجاج: معناه: كُشِف الفَزَع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان: «فَزَعَ» بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عزّ وجلّ. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: «فرغ» بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره بل فرغت من الشك والشِّرك. وفي المشار إِليهم قولان «١» :
أحدهما: أنهم الملائكة وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ولم يذكره في الآية، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فَزَعهم قولان: أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
(١١٨٣) «إِذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل، ماذا
حسن بشواهده. أخرجه أبو داود ٤٧٣٨ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٣٤ وابن حبان ٣٧، ورجاله ثقات معروفون. وأخرجه موقوفا ابن خزيمة في التوحيد ص ١٤٦ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٣٢ كلاهما عن أبي معاوية به. وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص ٩٢، ٩٣ والخطيب في «تاريخ بغداد» ١١/ ٣٩٣ وعبد الله بن أحمد في «السنة» ص ٧١ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٦- ١٤٧ من طرق عن الأعمش به موقوفا على عبد الله. وعلقه البخاري عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا كما في «الفتح» ١٣/ ٤٥٢. ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي، ويشهد لأصله ما بعده.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٣٧٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، حتى إذا فزِّع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربُّكم؟ قالت الملائكة: الحق. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٥٩: وقد اختار ابن جرير القول الأول: أن الضمير عائد على الملائكة، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
قال ربُّك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحقّ الحقّ».
(١١٨٤) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِذا قضى اللهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربُّكم، قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير».
والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا، قولان:
(١١٨٥) أحدهما: أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث اللهُ محمداً، أنزَل اللهُ جبريل بالوحي، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب. وقيل: لمّا علموا بالإيحاء إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، فزعوا، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة.
(١١٨٦) والثاني: أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرُّون سُجَّداً، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
والقول الثاني: أن الذي أُشير إِليهم المشركون ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى:
حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت- إِقامةً للحجة عليهم- قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربُّكم في الدنيا؟ قالوا: الحقّ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار، قاله الحسن، وابن زيد. والثاني:
حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربُّكم؟ قاله مجاهد.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات والثمر. وإِنما
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٠١ و ٧٤٨١ و ٤٨٠٠ وأبو داود ٣٩٨٩ والترمذي ٣٢٢٣ وابن ماجة ١٩٤ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٧ وابن حبان ٣٦ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٣٥- ٢٣٦ وابن مندة في «الإيمان» ٧٠٠ والحميدي ١١٥١ من طرق عن سفيان به.
لا أصل له، عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما يضع الحديث. وأخرجه الطبري ٢٨٨٥٤ عن قتادة قال: يوحي الله إلى جبرائيل، فتفرّق الملائكة، أو تفزع مخافة يكون شيء من أمر الساعة، فإذا جلي عن قلوبهم، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
وهذا من كلام قتادة، ليس بمرفوع، فالخبر ليس له أصل في المرفوع.
موقوف ضعيف. أخرجه الطبري ٢٨٨٥٥ عن الضحاك عن ابن مسعود قوله، وإسناده ضعيف، شيخ الطبري لم يسمّ، والضحاك لم يلق ابن مسعود.
أُمر أن يسأل الكفار عن هذا، احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزُق هو المستحِقُّ للعبادة، وهم لا يُثبتون رازقاً سواه، ولهذا قيل له: قُلِ اللَّهُ لأنهم لا يُجيبون بغير هذا وها هنا تم الكلام. ثم أمره أن يقول لهم:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مذهب المفسّرين أنّ «أو» ها هنا بمعنى الواو. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: وإِنَّا لَعَلى هُدىً، وإِنَّكم لفي ضلالُ مبين. وقال الفراء: معنى «أو» عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربيَّة على غير ذلك، لا تكون «أو» بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوَّض، كما تقول: إِن شئت فَخُذ درهماً أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، وإِنما معنى الآية: وإِنّا لضالُّون أو مهتدون، وإِنكم أيضاً لضالُّون أو مهتدون، وهو يَعْلَمُ أن رسوله المهتدي، وأن غيره الضالُّ، كما تقول للرجل تكذِّبه: واللهِ إِنَّ أحدنا لكاذب- وأنت تعنيه- فكذَّبْتَه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل: والله لقد قَدِم فلان، فيقول له من يَعْلَم كذبه: قل: إِن شاء الله، فيكذِّبه بأحسنَ من تصريح التكذيب ومن كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول: قاتَعَه الله، ويقول بعضهم: كاتعه الله ويقولون: جوعاً، دعاء على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولن: جوداً، وبعضهم يقول: جوساً ومن ذلك قولهم: ويحك وويسك، وإِنما هي في معنى «ويلك» إِلا أنها دونها. قوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي: لا تؤاخَذون به وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب والمعنى إِظهار التبرِّي منهم. وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا وجه لذلك. قوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يعني عند البعث في الآخرة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا أي: يقضي بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي الْعَلِيمُ بما يقضي قُلْ للكفار أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي: أَعلِموني من أيِّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلُقون ولا يرزُقون كَلَّا ردع وتنبيه والمعنى: ارتدِعوا عن هذا القول، وتنبَّهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي: عامَّة لجميع الخلائق. وفي الكلام تقديم، تقديره: وما أرسلناك إِلاَّ للناس كافَّةً. وقيل: معنى «كافة للناس» : تكفُّهم عمَّا هُم عليه من الكفر، والهاء فيه للمبالغة. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون العذاب الذي يَعِدُهم به في يوم القيامة وإِنما قالوا هذا لأنهم يُنْكرون البعث قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وفيه قولان: أحدهما: أنه يوم الموت عند النَّزْع والسّياق، قاله الضحاك. والثاني: يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكَّة لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنون التوراة والإِنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا: إِنّ صفة محمد في كتابنا، فكفر أهلُ مكَّة بكتابهم. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعني مشركي مكة مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي: يَرُدُّ بعضُهم على بعض في الجدال واللَّوم يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الأشراف والقادة: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أي: مصدِّقين بتوحيد الله والمعنى: أنتم منعتمونا عن الإِيمان فأجابهم المتبوعون فقالوا: أنحن صددنكم عن الهُدى أي: منعناكم عن الإِيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ به الرسول؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ بترك الإِيمان- وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبباً للعداوة في الآخرة- فردَّ عليهم الأتباع فقالوا: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: بل مكرُكم بنا في الليل والنهار.
قال الفراء: وهذا ممَّا تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون: ليله قائم، ونهاره صائم، فتضيف الفعل إِلى غير الآدميين، والمعنى لهم. وقال الأخفش: وهذا كقوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «١»، قال جرير:
لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ونمتِ وَما ليلُ المطيِّ بِنائمِ «٢»
وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «بل مَكَرَ» بفتح الكاف والراء «الليلُ والنهارُ» برفعهما. وقرأ ابن يعمر: «بل مَكْرُ» باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها، «الليلَ والنهارَ» بنصبهما.
قوله تعالى: إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وذلك أنهم كانوا يقولون لهم: إِنَّ دِيننا حقّ ومحمد كذّاب، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وقد سبق بيانه في يونس «٣».
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذا دخلوا جهنم غُلَّت أيديهم إِلى أعناقهم، وقالت لهم خزنة جهنم: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا. قال أبو عبيدة: مجاز «هل» ها هنا مجاز الإِيجاب، وليس باستفهام والمعنى: ما تُجزَون إلّا ما كنتم تعملون.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
(١) محمد: ١٣.
(٢) في «اللسان» : السّرى: سير الليل عامته.
(٣) يونس: ٥٤.
500
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أي: نبيّ يُنْذِر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها وهم أغنياؤها ورؤساؤها.
قوله تعالى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً. في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المُتْرَفون من كل أُمَّة. والثاني: مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خوَّلهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأن الله أحسن إِلينا بما أعطانا فلا يعذِّبنا، فأخبر أنه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ والمعنى أنَّ بَسْطَ الرِّزق وتضييقه ابتلاءٌ وامتحان، لا أنَّ البَسْطَ يدلُّ على رضى الله، ولا التضييق يدل على سخطه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. ثم صرح بهذا المعنى بقوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الفراء: يصلُح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعاً، لأن الأموال جمع والأولاد جمع وإِن شئتَ وجَّهتَ «التي» إِلى الأموال، واكتفيتَ بها من ذِكْر الأولاد وأنشد لمرّار الأسدي:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١». وقال الزجاج: المعنى: وما أموالكم بالتي تقرِّبكم، ولا أولادكم بالذين يقرِّبونكم، فحُذف اختصاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وأَبو الجوزاء: «باللاتي تقرّبكم». قال الأخفش: و «زلفى» ها هنا اسم مصدر، كأنه قال: تقرِّبكم عندنا ازْدِلافاً. وقال ابن قتيبة: «زُلْفى» أي: قُرْبى ومَنْزِلةً عِندنا.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ قال الزجاج: المعنى: ما تقرِّبُ الأموالُ إِلاَّ من آمن وعمل بها في طاعة الله، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ والمراد به ها هنا عشر حسنات، تأويله: لهم جزاءُ الضِّعف الذي قد أعلمتُكم مقداره. وقال ابن قتيبة: لم يُرِدْ فيما يَرى أهلُ النظر- والله أعلم- أنهم يُجازَون بواحدٍ مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مِثْل يُضَمُّ إِلى مِثْلٍ ما بَلَغ، وكأنَّ الضِّعفَ الزيادةُ، فالمعنى: لهم جزاءُ الزيادة. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد عن يعقوب: «لهم جزاءً» بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلاً «الضِّعفُ» بالرفع. وقرأ أبو الجوزاء، وقتادة وأبو عمران الجوني: «لهم جزاءٌ» بالرفع والتنوين «الضِّعفُ» بالرفع.
قوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ يعني غُرَف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية. وقرأ حمزة: «في الغُرْفة» على التوحيد أراد اسم الجنس. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل: «في الغُرْفات» بضم الغين وسكون الراء مع الألف. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: بضم الغين وفتح الراء مع الألف آمِنُونَ من الموت والغير. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «٢» إلى قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي:
يأتي ببدله، يقال: أخلف اللهُ له وعليه: إِذا أبدل ما ذهب عنه. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. أحدها: ما أنفقتم من غير إِسراف ولا تقتير فهو يُخْلِفُه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي. والثالث: ما أنفقتم في الخير والبِرِّ فهو يُخْلِفه، إِمَّا أن يعجله في الدنيا،
(١) التوبة: ٣٤. [.....]
(٢) الحج: ٥١- الرعد: ٢٦.
501
أو يدَّخرَه لكم في الآخرة، قاله ابن السائب. والرابع: أن الإِنسان قد يُنفق ماله في الخير ولا يرى له خَلَفاً أبداً وإِنما معنى الآية: ما كان من خَلَف فهو منه، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لمَّا دار على الألسن أن السلطان يرزُق الجند، وفلان يرزق عياله، أي: يعطيهم، أخبر أنه خير المعطين.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المشركين وقال مقاتل: يعني الملائكة ومَنْ عَبَدها ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين فنزَّهت الملائكةُ ربَّها عن الشِّرك ف قالُوا سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً لك مما أضافوه إِليك من الشركاء أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي: نحن نتبرَّأُ إِليك منهم، ما تولّيناهم ولا اتَّخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليّاً غيرك بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي: يُطيعون الشياطين في عبادتهم إِيَّانا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ أي: بالشياطين مُؤْمِنُونَ أي:
مصدِّقون لهم فيما يُخبرونهم من الكذب أن الملائكةَ بناتُ الله، فيقول الله تعالى: فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني العابدين والمعبودين نَفْعاً بالشفاعة وَلا ضَرًّا بالتعذيب وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا فعبدوا غير الله ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ... الآية. ثم أخبر أنهم يكذِّبون محمداً والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر. ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بيِّنة، ولم يكذِّبوا محمداً عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا نبيّ يخبرهم بفساد أمره، فقال: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إِليهم نبيّاً قبل محمد وهذا محمول على الذين أنذرهم نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد كان إِسماعيل نذيراً للعرب.
ثم أخبر عن عاقبة المكذِّبين قبلهم مخوِّفاً لهم، فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الكافرة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوَّة والمال وطول العمر، قاله الجمهور. والثاني: ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحُجَّة والبرهان. والثالث: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي. والمِعشار: العُشر. والنَّكير: اسم بمعنى الإِنكار. قال الزجاج: والمعنى: فكيف كان نكيري وإِنما حُذفت الياءُ لأنَّه آخر آية.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أي: آمُرُكم وأُوصيكم بِواحِدَةٍ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها «لا إِله إِلا الله»، رواه ليث عن مجاهد. والثاني: طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث:
أنها قوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، قاله قتادة. والمعنى: أن التي أَعِظُكم بها، قيامُكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام. والمراد بقوله تعالى: «مثنى» يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والمراد ب «فُرادى» أن يتفكَّر الرجل وحده، ومعنى الكلام: لِيتفكرِ الإِنسانُ منكم وحده، ولْيَخْلُ بغيره، ولْيُناظِر، ولْيَسْتَشِر، فَيَسْتَدِلَّ بالمصنوعات على صانعها، ويُصدِّق الرسول على اتبّاعه، ولْيَقُل الرجلُ لصاحبه: هَلُمَّ فلْنَتَصادق هل رأينا بهذا الرجل جِنَّة قَطّ، أو جرَّبْنا عليه كَذِباً قَطّ. وتم الكلام عند قوله: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، وفيه اختصار تقديره: ثم تتفكَّروا لتعلموا صِحَّة ما أمرتُكم به وأنَّ الرسول ليس بمجنون، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة.
قوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمعنى: ما أسألكم شيئاً ومثله قول القائل: ما لي في هذا فقد وهبتُه لك، يريد: ليس لي فيه شيء.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: يُلقي الوحي إِلى أنبيائه عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقرأ أبو رجاء:
«عَلاَّمَ» بنصب الميم. قُلْ جاءَ الْحَقُّ وهو الإِسلام والقرآن. وفي المراد بالباطل ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه الشيطان، لا يخلُق أحداً ولا يبعثُه، قاله قتادة. والثاني: أنه الأصنام، لا تُبدئ خَلْقاً ولا تُحيي، قاله الضحاك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيُجاب ولا يرُدُّ ما جاء من الحق بحُجَّة.
والثالث: أنه الباطل الذي يُضادُّ الحق فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحقِّ، فلم تَبْقَ منه بقيَّة يُقبِل بها أو يدبر أو يبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين.
قوله تعالى قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي: إِثم ضلالتي على نفسي وذلك أنَّ كُفَّار مكَّة زعموا أنه قد ضَلَّ حين ترك دين آبائه وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من الحكمة والبيان.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا في زمان هذا الفزع قولان: أحدهما: أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون. والثاني: أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يُخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقُوا، وهذا حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤمُّ البيت الحرام لتخريبه، فيخسف بهم «١».
وقال الضّحّاك وزيد بن أسلم: هذه الآية فيمن قُتل يوم بدر من المشركين. قوله تعالى: فَلا فَوْتَ المعنى: فلا فَوْتَ لهم، أي: لا يُمكنهم أن يفوتونا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
(١) هذا من بدع التأويل، ولا يصح، والصواب أن ذلك يوم يحشرون إلى جهنم.
503
من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم. والثاني: من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل. والثالث:
من القبور، قاله ابن قتيبة. وأين كانوا فهُم من الله قريب.
قوله تعالى: وَقالُوا أي: حين عاينوا العذاب آمَنَّا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها تعود إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد. والثاني: إِلى البعث، قاله الحسن. والثالث:
إِلى الرسول، قاله قتادة. والرابع: إِلى القرآن، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
«التَّنَاوُشُ» غير مهموز. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالهمز. قال الفراء: من همز جعله من «نأشْتُ»، ومن لم يهمز، جعله من «نُشْتُ»، وهما متقاربان والمعنى:
تناولتُ الشيء، بمنزلة: ذِمْتُ الشيءَ وذأمْتُه: إِذا عِبْتَه وقد تناوش القومُ في القتال: إِذا تناول بعضُهم بعضاً بالرِّماح، ولم يتدانَوا كُلَّ التداني، وقد يجوز همز «التَّنَاؤش» وهي من «نُشْتُ» لانضمام الواو، مثل قوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «١». وقال الزجّاج: من همز «التَّنَاؤش» فلأنّ واو التّناوش مضمومة، وكلّ واو مضمومة ضمَّتُها لازمة، إِن شئتَ أبدلت منها همزة، وإِن شئتَ لم تبدل نحو: أدؤر. وقال ابن قتيبة: معنى الآية: وأنَّى لهم التَّناوُشُ لِمَا أرادوا بلوغَه، وإِدراكُ ما طلبوا من التَّوبة مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو الموضع الذي تُقْبَل فيه التوبةُ. وكذلك قال المفسرون: أنَّى لهم بتناول الإِيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟! قوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدّمت في قوله تعالى: آمَنَّا بِهِ، ومعنى مِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أ: يَرْمُون بالظّنِّ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو بُعدهم عن العلم بما يقولون. وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يظُنُّون أنهم يُرَدُّون إِلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
أنه قولهم في الدنيا: لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي: مُنع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة أقوال:
أحدها: انه الرجوع إِلى الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: الأهل والمال والولد، قاله مجاهد. والثالث:
الإِيمان، قاله الحسن. والرابع: طاعة الله، قاله قتادة. والخامس: التوبة. قاله السدي. والسادس: حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خُسف بهم، قاله مقاتل «٢».
قوله تعالى: كَما فُعِلَ وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو عمران: «كما فَعَل» بفتح الفاء والعين بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قال الزجّاج: أي: بمن كان مذهبُه مذهبَهم. قال المفسرون: والمعنى: كما فُعل بنُظَرائهم من الكفار، مِنْ قَبْل هؤلاء، فانهم حِيل بينهم وبين ما يشتهون. وقال الضحاك: هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ أي: مُوقِعٍ لِلرِّيبة والتُّهمة. والله أعلم بالصّواب.
(١) المرسلات: ١١.
(٢) لا يصح كما تقدّم.
504
Icon