تفسير سورة الحجرات

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ أي لا تقطَعُوا أمراً دونَ اللهِ ورسولهِ، ولا تعجَلُوا بهِ، وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في قولهِ ﴿ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ :(أيْ تَصُومُواْ قَبْلَ أنْ يَصُومَ نَبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم) ﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ في تَضييعِ حقِّه ومخالفةِ أمرهِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ ؛ لأقوالِكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بأفعالِكم، وقال جابرٍ (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ فِي النَّهْيِ عَنِ الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ الصَّلاَةِ).
وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا :" نَزَلْنَ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشُّكِّ)، وعن مسروقٍ قالَ :(دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي يَوْمِ الشُّكِّ، فَقَالَتْ لِلْجَاريَةِ : اسْقِيهِ، فَقُلْتُ : إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَتْ : قَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ صَوْمِ هَذا الْيَوْمِ، وَفِيْهِ نَزَلَ ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.
وعن الحسنِ البصريِّ قال :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى، كَأَنَّهُ قَالَ : لاَ تَذْبَحُواْ قَبْلَ ذبْحِ النَّبيِّ ﷺ، وَذلِكَ أنَّ نَاساً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذبَحُواْ قَبْلَ صَلاَةِ النَّبيِّ ﷺ : فَأَمَرَهُمْ أنْ يُعِيدُواْ الذبْحَ).
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه قال :(سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ بَعَثَ رَهْطاً مِنْ أصْحَابهِ وَهُمْ سَبْعٌ وَعُشْرُونَ رَجُلاً، وَأمَّرَ عَلَيْهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، وَأمَرَهُمْ أنْ يَسِيرُوا إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأنْ يَمُرُّواْ عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَبَاتُوا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الرَّحِيلِ، أضَلَّ أرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعِيراً لَهُمْ، فَاسْتَأْذنُوا الْمُنْذِرَ أنْ يَتَخَلَّفُواْ عَنْهُ حَتَّى يَطْلِبُوهُ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
وَسَارَ الْمُنْذِرُ بمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، وَكَانَتْ بَنُوا سُلَيْمٍ دَسَّتْ إلَى بَنِي عَامِرِ خَبَرَ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَاسْتَعَدُّواْ لِقِتَالِهِمْ وَاجْتَمَعُواْ لَهُمْ، فَسَارَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلَى بئْرِ مَعُونَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالاً شَدِيداً وَقُتِلَ الْمُنْذِرُ وَأصْحَابُهُ، وَقُتِلَ أحَدُ الأَرْبَعَةِ وَرَجَعَ الثَّلاَثَةُ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ خَارجَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُواْ : مِمَّا أنْتُمَا ؟ فَقَالاَ : مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالُواْ : إنَّهُمَا مِنْ عَدُوِّنَا، فَقَتَلُوهُمَا وَأخُذوْا سَلْبَهُمَا.
وَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَذكَرُوا لَهُ الْقِصَّةَ، فَقَالَ لَهُمْ ﷺ :" بئْسَمَا فَعَلْتُمْ، إنَّهُمَا مِنْ أهْلِ مِيثَاقِي مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهَذا الَّذِي مَعَكُمْ مِنْ سَلْبهِمَا مِنْ كِسْوَتِي ".
وَجَاءَ السُّلَيْمِيُّونَ يَطْلُبُونَ الْقَوَدَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه سلم :" إنَّ صَاحِبَيْكُمْ اعْتَزَمَا إلَى عَدُوَِّنَا، فَلاَ قَوَدَ فِيهِمَا وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إلَيْكُمُ الدِّيَةَ " فَأَمَرَ عليه السلام أنْ تُقْسَمَ دِيَتَهُمَا عَلَى أهْلِ مِيثَاقِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) ".
والمعنى : لا تُقدِّموا بقولٍ ولا فعلٍ حتى يكون النبيُّ ﷺ هو الذي يأمُركم في ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ ؛ رُوي :" أنَّ رَهْطاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبيِّ ﷺ، مِنْهُمُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابسٍ وَعُطَاردُ ابْنُ الْحَاجِب وَالْحَارثُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمْ، فَقَامُوا عَلَى بَاب الْمَسْجِدِ، فَنَادَى الأَقْرَعُ ابْنُ حَابسٍ : يَا مُحَمَّدُ أتَأْذنُ لِي فِي الْكَلاَمِ ؟ فَوَاللهِ إنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ وَذمِّي لَشَيْنٌ، فَقَالَ ﷺ :" كَذبْتَ! ذلِكُمُ اللهُ تَعَالَى ".
ثُمَّ أذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُواْ، فَقَالَ :" يَا مُحَمَّدُ أتَأْذنُ لِخَطِيبنَا ؟ " فَقَالَ ﷺ :" أُدْعُوا إلَيَّ ثَابتَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ " فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ ﷺ :" لِيَتَكَلَّمْ صَاحِبُكُمْ " فَتََكَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ :" أجِبْ يَا ثَابتَ " فَأَجَابَهُ.
فَقَالَ الأَقْرَعُ :" إئْذنْ لِشَاعِرِنَا يَا مُحَمَّدُ " فَقَالَ عليه السلام :" أُدْعُوا إلَيَّ الْقَارعَةَ " يَعْنِي حَسَّانَ، فَلَمَّا جَاءَ حَسَّانُ قَالَ ﷺ :" لِيَتَكَلَّمْ شَاعِرُكُمْ " فَلَمَّا تَكَلَّمَ، قَالَ ﷺ :" أجِبْهُ يَا حَسَّانُ " فَأَجَابَهُ، فَقَالَ عُطَاردُ لِلأَقْرَعِ : وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً الْمُؤْتَى لَهُ - أيْ أُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ - فَإنَّ خَطِيبَهُ أخْطَبُ مِنْ خَطِيبنَا، وَشَاعِرُهُ أشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا.
وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَكَانَ أشَدَّهُمْ صَوْتاً وَأعْلاَهُمْ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ بهِ صَمَمٌ لاَ يَكَادُ يَسْمَعُ إلاَّ أنْ يُصَاحَ بهِ فَيُجِيبُ بمِثْلِهِ. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ، ونُهوا أن يَرفَعُوا أصواتَهم على صوتِ النبيِّ ﷺ تَعظِيماً له ؛ لأن رفعَ الصَّوت على الإنسانِ يُوهِمُ الاستخفافَ به في ظاهرِ الحال ".
وعن جابرِ بن عبدِالله قال :" لَمَّا جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَنَادَوا عَلَى الْبَاب : أُخْرُجْ يَا مُحَمَّدُ ؛ فَإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ وَذمَّنَا شَيْنٌ، قَالَ : فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَقَالَ :" إنَّمَا ذلِكُمْ اللهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذمُّهُ شَيْنٌ " قَالُوا : نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، جِئْنَا بشَاعِرِنَا وَخَطِيبنَا لِشَاعِرِكُمْ وَنُفَاخِرُكَ، فَقَالَ ﷺ :" مَا بالشِّعْرِ بُعِثْتُ وَلاَ بالْفَخَار أُمِرْتُ، وَلَكِنْ هَاتُوا ". فَقَالَ : لِشَابٍّ مِنْ شَبَابهِمْ : قُمْ يَا فُلاَنُ فَاذْكُرْ فَضْلَكَ وَفَضْلَ قَوْمِكَ، فَقَامَ فَقَالَ :
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا خَيْرَ خَلْقِهِ، وَآتَانَا أمْوَالاً نَفْعَلُ فِيْهَا مَا نَشَاءَ، فَنَحْنُ مِنْ خَيْرِ أهْلِ الأَرْضِ وَأكْثَرِهِمْ عُدَّةً وَسِلاَحاً وَمَالاً، فَمَنْ أنْكَرَ عَلَيْنَا قَوْلََنَا فَلْيَأْتِ بقَوْلٍ هُوَ أحْسَنُ مِنْ قَوْلِنَا، وَفِعَالٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ فِعَالِنَا.
فَقَالَ ﷺ لثابتِ بن قَيسٍ، وَكَانَ خَطِيبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ :" قُمْ " فَقَامَ فَقَالَ : الْحَمْدُ للهِ أحْمَدُهُ وَأسْتَعِينُهُ وَأُؤْمِنُ بهِ وَأتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أحْسَنَ النَّاسِ وُجُوهاً فَأَعْظَمَهُمْ أخْلاَقاً فَأَجَابُوهُ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا أنْصَارَهُ، وَرَدَّ اللهُ لِرَسُولِهِ وَعَزَّ الْمَدِينَةَ. فَنَحْنُ نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُواْ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَمَنْ قَالَهَا مَنَعَ مِنَّا مَالَهُ وَنَفْسَهُ، وَمَنْ أبَاهَا قَتَلْنَاهُ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي اللهِ عَلَيْنَا هَيِّناً، أقُولُ قَوْلِي وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
فَقَالُواْ لِشَابٍّ مِنْهُمْ : قُمْ يَا فُلاَنُ فَقُلْ أبْيَاتاً تَذْكُرُ فِيْهَا فَضْلَكَ وَفَضْلَ قَوْمِكَ، فَقَامَ الشَّابُّ وَقَالَ :"
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ ؛ أي أخلصَها واصطفَاها واختبرهَا، كما يُمتحَنُ الذهبُ بالنار فيخرجُ خَالصاً، وقال ابنُ عبَّاس :" مَعْنَاهُ : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أكْرَمَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). وَقِيْلَ : أذهبَ الشهواتِ عنها.
قال الزجَّاجُ : أمَرَ اللهُ بتَبْجِيلِ نَبيِّهِ ﷺ وَأنْ يَغُضُّواْ أبْصَارَهُمْ عِنْدَمَا يُخَاطَبُونَ بالسَّكِينَةِ وَالْوَقَار ؛ لِئَلاَّ تَحْبَطَ أعْمَالُهُمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فلذلك قال : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ فِي حَرْب مُسَيْلَمَةَ، قَاتَلَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَالِمُ مَوْلَى أبي حُذيْفَةَ قِتَالاً شَدِيداً حَتَّى قُتِلاَ، وَاسْتُشْهِدَ ثَابتُ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ الغَضُّ النَّقْصُ مِن كلٍّ شيءٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾[لقمان : ١٩]، وقولهُ تعالى :﴿ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ أي أخلَصَها للتَّقوى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي فِي الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ؛ وذلك : أنَّ قَوْماً مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ تَمِيمٍ، بَعَثَ النَّبيُّ ﷺ إلَيْهِمْ سَرِيَّةُ، وَأمَّرَ عَلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْفَزَّاريُّ، فَهَرَبُوا فَسَبَى ذرَاريهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَجَاءَ بهِمْ إلَى النَّبيِّ ﷺ، فَجَاءَ رجَالُهُمْ لِيُفَادُوا ذرَاريهِمْ، فَدَخَلُواْ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْقَيْلُولَةِ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ نَائِمٌ.
فَلَمَّا أبْصَرَهُمُ الْعِيَالُ بَكَوا عَلَيْهِمْ، فَنَهَضُواْ وَعَجَّلُواْ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ ﷺ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ : يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إلَيْنَا، وَكَانَ ﷺ حِينَئِذٍ نَائِماً، فَتَأَذى بأَصْوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوْا فِي أيِّ حُجْرَةٍ هُوَ، فَجَعَلُواْ يَطْرِقُونَ عَلَى جَميعِ حُجُرَاتِهِ، وَكَانَ لِكُلِّ امْرَأةٍ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حُجْرَةٌ وَبَيْتٌ، فطَافُوا عَلَى جَمِيعِ الْحُجُرَاتِ وَهُمْ يُنَادُونَ : اخْرُجْ عَلَيْنَا.
وقولهُ تعالى :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ وصَفَهم اللهُ بالجهلِ وقلَّة العقلِ وقلَّة الصبرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ ؛ يعني ولَو أنَّهم صبَرُوا حتى تخرجَ إليهم للصَّلاة لَخَلَّى سبيلَهم بغيرِ فداءٍ، فلما نادَوهُ وأيقظوهُ أعتَقَ نصفَ ذرَاريهم وفادَى نِصفَهم بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ﴾ كُنتَ تَعِيقُ كُلَّهم، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ لِمَن تابَ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ ؛ وذلك :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَّدِّقاً إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أحَنَةٌ، فَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُهُ بهِمْ وَسَمِعُواْ بهِ اجْتَمَعُواْ لِيَتَلَقَّوهُ، فَفَرَّ مِنْهُمْ وَكَرَّ رَاجِعاً إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ : إنَّهُمْ قَدْ مَنَعُواْ الزَّكَاةَ وَارْتَدُّوا عَنِ الإسْلاَمِ وَقَصَدُواْ قَتْلِي.
فَبَعَثَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ ﷺ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَيْشٍ، وَقَالَ لَهُ :" انْزِلْ بسَاحَتِهِمْ لَيْلاً، فَإنْ رَأيْتَ مَا يَدُلُّ عَلَى الإسْلاَمِ مِنَ الأَذَانِ لِلصَّلاَةِ وَالتَّهَجُّدِ أمْسِكْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ، وَطَالِبْهُمْ بصَدَقَاتِهِمْ ".
فَلَمَّا سَارَ إلَيْهِمْ خَالِدُ لَيْلاً سَمِعَ فِيهِمْ الأَذانُ وَالتَّهَجُّدَ، فَكَفَّ عَنْهُمْ إلَى أنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَى وَجْهِ قِتَالٍ، وَقُالُواْ : قَدِ اسْتَبْطَأْنَا رسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الصَّدَقَاتِ، فَسَلَّمُوهَا إلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ".
وسَمَّى الوليدَ بن عُقبة فَاسقاً، لِكَذِبهِ الذي وقعَ به. الأغَرُّ أو الفاسقُ : الخارجُ عن طاعةٍ بارتكاب كثيرٍ من الذُّنوب. وَقِيْلَ : الفاسقُ الذي لا يَستَحِي من اللهِ. وَقِيْلَ : هو الكذابُ الْمُعلِنُ بالذنب. والنَّبَأُ : الخبرُ عمَّا يَعظُمُ شأنهُ فيما يعملُ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ ؛ قد ذكَرنا قِراءَتين فيه في سُورة النساءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ﴾ ؛ أي لِئَلا تُصيبوا قَوماً وهم مُسلمون، ﴿ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ﴾ معناهُ : إعْلَمُوا أنَّ رسولَ الله لو يُجِيبُكم في كثيرٍ مما سألتموهُ لوقَعتُم في العَنَتِ وهو الإثمُ والمشقَّة. وَقِيْلَ : اتَّقُوا أن تَكذِبُوا رسولَ اللهِ وتقولوا بَاطلاً، فإنَّ اللهَ يخبرهُ فتُفتَضَحُوا، ثم قال : لو يُطِيعُكم الرسولُ في كثيرٍ مما تُخبرونَهُ فيه بالباطلِ لَعَنِتُّمْ ؛ أي لوقَعتُم في العَنَتِ وهو الإثْمُ والهلاكُ.
ثم خاطبَ المؤمنين الذين لا يَكذِبُون فقالَ :﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ ﴾ ؛ أي جعلَهُ أحبَّ الأديان إليكم، ﴿ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ ؛ حتى اختَرتُموهُ، ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ ؛ أي بَغَّضَ إليكم هذه الأشياءَ : الكفرُ ظاهر المعنى، والفُسُوق وَالكَذِبُ والخروجُ عن أمرِ الله، والعصيانُ : جمعُ معاصِي الله.
ثم عادَ إلى الخبرِ عنهم فقال :﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ ؛ أي المهتَدُون إلى محاسنِ الأمُور. ثم بيَّنَ أنَّ جميعَ ذلك تفضُّلٌ من اللهِ تعالى فقالَ :﴿ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾ ؛ أي تَفَضُّلاً مِن اللهِ ورحمةً، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بما في قُلوبهم، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ فيهم بعِلمهِ.
قوله :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ ؛ " نزلَ ذلك في الأَوْسِ والخزرَجِ بسبب الكلامِ الذي جرَى بين عبدِالله بن أُبَي رأسِ المنافقين وعبدِالله ابن رَوَاحة لَمَّا اسْتَبَّا جَاءَ قوْمُ هَذا فَاقْتَتَلُواْ بالنِّعَالِ وَالتَّرَامِي بالْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ سَيْفٌ.
وَسَبَبُ اخْتِصَامِهِمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَفَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَار وَهُوَ عَلَى حِمَارهِ، فبَالَ حِمَارُهُ وَهِيَ أرْضٌ سَبْخَةٌ، فَأَمْسَكَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٌّ آنْفَهُ وَقَالَ : إلَيْكَ عَنِّي فَوَاللهِ لَقَدْ آذانِي نَتَنُ حِمَاركَ. فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : وَاللهِ لَنَتَنُ حِمَار رَسُولِ اللهِ أطْيَبُ ريْحاً مِنْكَ.
فَغَضَّبَ لعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهٍ، وغَضِبَ لابْنِ رَوَاحَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاسْتَبُّواْ وَتَحَامَلَ أصْحَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِعَ أصْحَاب الآخَرِ، فَتَجَادَلُواْ بالأَيْدِي وَالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَاصْطَلَحُواْ وَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَأقْبَلَ بَشِيرُ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَاريُّ مُشْتَمِلاً عَلَى سَيْفِهِ فَوَجَدَهُمْ قَدِ اصْطَلَحُواْ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ : أعَلَيَّ تَشْتَمِلُ بالسَّيْفِ يَا بَشِيرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَالَّذِي أحْلِفُ بهِ لَوْ جِئْتُ قَبْلَ أنْ تَصْطَلِحُواْ لَضَرَبْتُكَ حَتَّى أقْتُلَكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ أي الدُّعاء إلى حُكم اللهِ والرِّضا بما في كتاب اللهِ لهما وعليهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ ؛ أي طَلبت ما ليس لها ولم ترجِعْ إلى الصُّلح، ﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ ؛ حتى ترجعَ عن البغيِ إلى كتاب اللهِ، والصُّلح الذي أمر اللهُ تعالى به.
والبغيُ هو الاستطالَةُ، والعدولُ عن الحقِّ وعمَّا عليه جماعةُ المسلمين. والطائفةُ الباغِيَةُ هي التي تطلبُ ما ليس لها أنْ تَطْلُبَهُ، قولهُ ﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ أي حتى ترجعَ إلى طاعةِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ ﴾ ؛ أي واعدِلُوا في الإصلاحِ بينهما، وفي كلِّ حكمٍ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ؛ أي يحبُّ الذين يَعدِلُون في حُكمِهم وأهلِيهم وما تولَّوهُ، الإقْسَاطُ في اللغة هو العَدْلُ، يقالُ : أقسَطَ الرجلُ إذا عَدَلَ، وقَسَطَ إذا جَارَ، ومنه قولهُ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾[الجن : ١٥].
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال :" يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ ؛ هَلْ تَدْري كَيْفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ يَفِيءُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " ؟ قَالَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ :" لاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلاَ يُقْتَلُ أسِيرُهَا وَلاَ يُطْلََبُ هَاربُهَا وَلاَ يُقْسَمُ فِيْهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ ؛ يعني في الدُّنيا والولايةِ، ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ ؛ يعني بين كلِّ مُسلِمين تَخَاصَما وتقاتَلاَ واختلَفا، قرأ ابنُ سيرين (بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) بالجمعِ، وقرأ حسن (بَيْنَ إخْوَانِكُمْ) بالألف والنُّون.
وقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ولا تُخالفوا أمرَهُ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال :(الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ ؛ لاَ يَظْلِمُهُ ؛ وَلاَ يَعِيبُهُ وَلاَ يَخْذِلُهُ، وَلاَ يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ بالْبُنْيَانِ فَيَسْتُرُ عَنْهُ الرِّيحَ إلاَّ بإذْنِهِ، وَلاَ يُؤْذِيهِ بقِتَار قِدْرهِ إلاَّ أنْ يَغْرِفَ لَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَشْتَرِي لِبَيْتِهِ الْفَاكِهَةَ فَيَخْرِجُونَ بهَا إلَى أوْلاَدِ جَارهِ إلاَّ أنْ يُطْعِمُوهُمْ مِنْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي لا يَستَهزِئُ الرجلُ من أخيهِ فيقولُ : إنَّكَ رَدِيءُ المعيشةِ لَئِيمُ الْحَسَب وأشباهُ ذلك مما يَنتَقِصهُ به وهو خيرٌ منه عندَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يُعَيِّرْ قومٌ قوماً لعلَّ المسخُورَ منه أفضلُ عندَ الله تعالى من السَّاخِرين، ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ﴾ ؛ ولا يُعَيِّرُ نساؤُنا نساءَنا لعلَّ الْمَسخُورَةَ منهنَّ أفضلُ من السَّاخرتاتِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يسخَرْ غَنِيٌّ من فقيرٍ لفَقرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي لا تُعِيبُوا إخوانَكم الذين هم كأَنفُسكم، ﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ ﴾ ؛ أي لا يَدْعُ بعضُكم بعضاً باللَّقَب الذي يكرههُ صاحبهُ ؛ لأن عليه أنْ يخاطِبَ أخاهُ بأحَب الأسماءِ إليه.
وقال قتادةُ :(مَعْنَاهُ : لاَ تَقُلْ لأَخِيكَ الْمُسْلِمِ : يَا فَاسِقُ وَيَا مُنَافِقُ، وَلاَ يَقُولُ لِلْيَهُودِيِّ بَعْدَ أنْ آمَنَ : يَا يَهُودِيُّ) وذلك معنى :﴿ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ ﴾ ؛ قال عطاءُ :(هُوَ كُلُّ شَيْءٍ أغْضَبْتَ بهِ أخَاكَ كَقَوْلِكَ : يَا كَلْبُ ؛ يَا خِنْزِيرُ ؛ يَا حِمَارُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ ﴾ ؛ أي مَن لَمْ يَتُبْ ممن التَّنابُزِ ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ وقال :(نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ ﴾ فِي نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ عَيَّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بالْقِصَرِ). ويقالُ : نزلَت في عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أشَارَتْ بيَدِهَا فِي أُمِّ سَلَمَةَ أنَّهَا قَصِيرَةٌ.
ورَوى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس :" أنَّ صَفِيَّةَ بنْتَ حَييِّ بْنِ أخْطَبَ أتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ : إنَّ النِّسَاءَ يُعَيِّرْنَنِي يَا يَهُودِيَّةُ بنْتُ يَهُودِيَّينِ، فَقَالَ ﷺ :" هَلاَّ قُلْتِ : أبي هَرُونُ وَعَمِّي مُوسَى وَأنَّ زَوْجِي مُحَمَّدٌ " " فَأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ ﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي لا يَغتَبْ بعضُكم بعضاً ولا يطعَنْ بعضُكم على بعضٍ.
وَقِيْلَ : اللَّمْزُ العيبُ في الْمَشْهَرِ، والْهَمْزُ فِي الْمَغِيب، وقال محمَّدُ بن زيدٍ :(اللَّمْزُ يَكُونُ باللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالإِشَارَةِ، وَالْهَمْزُ لاَ يَكُونُ إلاَّ باللِّسَانِ)، قال الشاعرُ : إنْ لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً وَإنْ أغِبْ فَلأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ " وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إذا غَزَا أوْ سَافَرَ، ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إلَى رَجُلَيْنِ مُوسِرَيْنِ يَخْدِمُهُمَا وَيُهَيِّءُ لَهُمَا طَعَامَهُمَا وَشَرَابَهُمَا، وَيُصِيبُ مِنْ طَعَامِهِمَا، فَضَمَّ سَلْمَانَ إلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابهِ فِي بَعْضِ أسْفَارهِ، فَتَقَوَّمَ سَلْمَانُ مَعَهُمَا.
فَاتَّفَقَ ذاتَ يَوْمٍ أنَّهُ لَمْ يُعِدَّ لَهُمَا شَيْئاً فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَلَمَّا قَدِمَا قَالاَ لَهُ : مَا صَنَعْتَ شَيْئاً ؟ قَالَ : لاَ، قَالاَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، فَقَالاَ : انْطَلِقْ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُ طَعَاماً وَإدَاماً - وَقِيْلَ : إنَّهُمَا قَالاَ لَهُ : انْطَلِقْ إلَى النَّبيِّ ﷺ وَاسْأَلْهُ لَنَا فَضْلَ إدَامٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ - فَذهَبَ فَسَأَلَ فَقَالَ ﷺ :" إنْطَلِقْ إلَى الْخَازنِ فَلْيُطْعِمُكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ " وَكَانَ الْخَازنُ يَوْمَئِذٍ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئاً.
فَرَجَعَ إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا بذلِكَ، فَقَالاَ : إنَّهُ بَخيلٌ يَأْمُرُهُ رَسُولُ اللهِ وَيَبْخَلُ هُوَ عَلَيْنَا، فَقَالاَ فِي سَلْمَانَ : لَوْ بَعَثْنَاهُ إلَى بئْرٍ سَمِيحَةٍ لَقَالَ : لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ! ثُمَّ جَعَلاَ يَتَجَسَّسَانِ هَلْ كَانَ عِنْدَ أُسَامَةَ مَا أمَرَ لَهُمَا بهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الإدَامِ. فَلَمَّا جَاءَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ لَهُمَا :" مَا لِي أرَى حُمْرَةَ اللَّحْمِ عَلَى أفْوَاهِكُمَا ؟ " قَالاَ يَا رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا تَنَاوَلْنَا يَوْمَنَا هَذا لَحْماً ؟ فَقَالَ :" ظَلْتُمَا تَأْكُلاَنِ لَحْمَ سَلْمَانَ وَأُسَامَةَ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ ؛ والظنُّ الذي هو الإثْمُ : أن يُعرَضَ بقلب الإنسان في أخيه ما يوجبُ الريبةَ فيحقِّقهُ من غيرِ سببٍ يوجبهُ، كما رُوي في الخبرِ :" إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإنَّ الظَّنَّ أكْذبُ الْحَدِيثِ " ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ التَّجَسُّسُ : البحثُ عن عيب أخيهِ الذي سترَهُ اللهُ عليه. ومعنى الآيةِ : خُذوا ما ظهرَ ودَعُوا ما سترَ اللهُ ولا تتَّبعوا عوراتِ الناس، قال ﷺ :" لاَ تَجَسَّسُواْ ؛ وَلاَ تَحَاسَدُواْ ؛ وَلاَ تَبَاغَضُواْ ؛ وَلاَ تَدَابَرُواْ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً ".
ورُوي : أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه قَالَ لَهُ :(إنَّ فُلاَناً يُوَاظِبُ عَلَى شُرْب الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ : إذا عَلِمْتَهُ يَشْرَبُهَا فَأَعْلِمْنِي. فَأَعْلَمَهُ فَذهَبَ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : أنْتَ الَّذِي تَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ فَقَالَ : وَأنْتَ تَتَجَسَّسُ عُيُوبَ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : تُبْتُ أنْ لاَ أعُودَ، فَقَالَ الرَّجُلُ : وَأنَا تُبْتُ لاَ أعُودُ).
وروى زيدُ بن أسلمَ :(أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه خَرَجَ ذاتَ لَيْلَةٍ وَمَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إذْ شَبَّتْ لَهُمَا نَارٌ، فَأَتَيَا الْبَابَ فَاسْتَأْذنَا فَفُتِحَ لَهُمَا فَدَخَلاَ، فَإذا رَجُلٌ وَامْرَأةٌ تُغَنِّي وَعَلَى يَدِ الرَّجُلِ قَدَحٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِلرَّجُلِ : وَأنْتَ بهَذا يَا فُلاَنُ ؟ فَقَالَ : وَأنْتَ بهَذا يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ عُمَرُ : مَنْ هَذِهِ مَعَكَ ؟ قَالَ : امْرَأتِي، قَالَ : وَفِي الْقَدَحِ ؟ قَالَ : مَاءٌ زُلاَلٌ، فَقَالَ لِلْمَرْأةِ : وَمَا الَّذِي تُغَنِّينَ ؟ فَقَالَتْ : أقُولُ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ ؛ نزَلت في نفَرٍ من قريشٍ قالوا حِينَ سَمعوا أذانَ بلالٍ : أمَا وجدَ مُحَمَّدٌ مؤذِّناً غيرَ هذا الغُراب ؟ والمعنى : يا أيُّها النَّاسُ إنا خلَقنَاكم من آدمَ وحوَّاء، فكلُّكم مُتساوون في النَّسب، لأنَّ كلَّكم يرجعُ إلى أبٍ واحد وأُمٍّ واحدةٍ. ومعنى الآيةِ : الزَّجرُ عن التفاخُر بالأنساب، قال ﷺ :" إنَّمَا أنْتُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأةٍ وَاحِدَةٍ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ فَضُلٌ إلاَّ بالتَّقْوَى ".
ثُم ذكرَ أنه إنما فرَّقَ أنسابَ الناسِ ليتعَارفُوا لا ليتفَاخَرُوا فقالَ تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ ﴾ ؛ الشُّعوب جمعُ شَعبٍ بفتح الشِّين ؛ وهو الحيُّ العظيمُ مثل رَبيعةَ ومُضَرَ، والقبائلُ دونَها وهو كبَكرٍ من ربيعةَ، وتَميم من مُضر، هذا قولُ جماعةٍ من المفسِّرين.
ورَوى عطاءُ عن ابن عباس أنه قال :" يُرِيدُ بالشُّعُوب الْمَوَالِي، وَبالْقَبَائِلِ الْعَرَبَ) وإلى هذا ذهبَ قومٌ فقالوا : الشُّعوب من العجَمِ مَن لا يُعرَفُ لهم أصلُ نَسَبٍ كالهندِ والتُّرك، والقبائلُ من العرب. وَقِيْلَ : معناهُ : وجعلَكم متشَعِّبين مفرَّقين نحو العرب وفارسَ والرُّوم والهند وقبائلِ العرب وبيوتات العجَمِ. والشِّعبُ بكسرِ الشين : الطريقُ في الجبلِ، وجمعه شِعَابٌ.
والحاصلُ أنَّ الشعوبَ رُؤوسُ القبائلِ مثلَ رَبيعةَ ومُضر والأوسَ والخزرجَ، والقبائلُ دُونَ الشُّعوب وهم كبكرٍ من ربيعةَ وتَميم من مُضر، ودونَ القبائلِ العَمَائِرُ ؛ واحدَتُها عَمَارَةٌ بفتحِ العين، وهم كشَيبان من بكرٍ ودَارمِ من تَميم، ودونَ العمائرِ البطونُ ؛ واحدُها بطنٌ وهو كبَني غالبٍ ولُؤَي من قريشٍ، ودونَ البُطونِ الأفخاذُ ؛ واحدُها فَخْذٌ وهم بني هاشمٍ وبني أُمية من لُؤي، ثم الفصَائِلُ واحدها فَصِيلَةٌ وعشيرةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِتَعَارَفُواْ ﴾ أي ليَعرِف بعضَكم بعضاً في النَّسَب لا لتُفاخِرُوا فيما بينَكم، كما أنَّ اللهَ تعالى خَالَفَ بين خَلقِكم وصُوَركم لتَعرِفُوا بعضَكم بعضاً، وقرأ الأعمشُ (لِتَعَارَفُوا) وقرأ ابنُ عبَّاس (لِتَعْرِفُوا) بغير ألفِ.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ ؛ ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ ﴾ بفتحِ الألفِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ أكرمَكم في الآخرةِ اتقَاكُم للهِ في الدُّنيا، وقال ﷺ :" إنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعْظِيمِهَا بالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ ؛ وَآدَمُ مِنَ التُّرَاب ؛ أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ، لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إلاَّ بالتَّقْوَى ".
وقال ﷺ :" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللهَ " وقَالَ :" كَرَمُ الرَّجُلِ دِينُهُ وَتَقْوَاهُ، وَفَضْلُهُ عَقْلُهُ، وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ ".
وقال ﷺ :" إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَركُمْ وَلاَ إلَى أقْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبكُمْ وَأعْمَالِكُمْ، وَإنَّمَا أنْتُمْ بَنِي آدَمَ، أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ ".
وقال ابنُ عبَّاس :(كَرَمُ الدُّنْيَا الْغِنَى، وَكَرَمُ الآخِرَةِ التَّقْوَى)، وقال الشاعرُ : مَا يَصْنَعُ الْعَبْدُ بعِزِّ الْغِنَى وَالْعِزُّ كُلُّ الْعِزِّ لِلْمُتَّقِيمَنْ عَرَفَ اللهَ فَلَمْ تُغْنِهِ مَعْرِفَةُ اللهِ فَذاكَ الشَّقِي
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ﴾ ؛ نزَلت في نفرٍ من بني أسَدٍ بن خُزيمة قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ، وَأظْهَرُواْ شَهَادَةَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ، وَأفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بالعَذرَاتِ وَأغْلَوْا أسْعَارَهَا، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِي إيْمَانِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا كَذلِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبيِّ ﷺ : يَأْتِيكَ الْعَرَبُ بأَنْفُسِهَا عَلَى ظُهُور رَوَاحِلِهَا وَأتَيْنَاكَ بالأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ وَالذرَاري، يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا تُقَاتِلُكَ بَنُو فُلاَنٍ وَبَنُو فُلاَنٍ، وَيُرِيدُونَ بذلِكَ الصَّدَقَةَ وَيَقُولُونَ : أعْطِنَا. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
والمعنى : أنَّهم قالوا صدَّقنا باللسانِ والقُلوب، قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لَمْ تُؤْمِنُوا ؛ أي لَمْ تُصدِّقوا بقُلوبكم كما صدَّقتم بأَلسِنَتِكم ﴿ وَلَـاكِن قُولُواْ ﴾ اسْتَسْلَمْنَا وأنقَدْنا مخافةَ السَّبي والقتلِ :﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ في السِّر كما أطَعتُم في العَلانية، فتُتوبوا من الكفرِ والنفاق، ﴿ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لا يَنقِصْكُم من ثواب أعمالكم شيئاً، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَن تابَ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بمَن ماتَ على التوبةِ.
ومن قرأ (لاَ يَأْلِتْكُمْ) بالهمزةِ فهو من ألَتَ يَأْلِتُ ألَتاً إذا نَقَصَ، ويقال : لاتَ يَلِيتُ لَيْتاً بهذا المعنى، وكِلا القراءَتين بمعنىً واحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ أي هم الذين أقَرُّوا وصدَّقوا بوحدانيَّةِ اللهِ ونُبوَّة رسولهِ، ﴿ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ﴾ ؛ أي لَمْ يَشُكُّوا في دينِهم بعدَ الإيمانِ، ﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ ؛ العدوَّ، ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ طاعةً، ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ ؛ في الإيمانِ.
فلمَّا نَزلت هذه الآيةُ جاءَ القومُ يحلِفون لرسولِ اللهِ ﷺ إنَّهم يُؤمنون في السرِّ والعلانيةِ، وقد عَلِمَ الله منهم غيرَ ذلك، فأنزلَ اللهُ :
قولَهُ تعالى :﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ معناهُ : كيف يُعلِّمونَ اللهَ بالدِّين الذي أنتُم عليه، وهو عالِمٌ بكلِّ شيءٍ من كلِّ وجهٍ، وكيف يجوزُ أن يُعَلَّمَ مَن كان بهذه الصِّفة.
وقوله :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾ وذلكَ أنَّ هؤلاءِ المنافقين كانوا يقُولون للنبيِّ ﷺ : قَاتَلَتْكَ العربُ بأسيافِهم ونحنُ جِئناك بالأهلِ والذراري والأثقالِ، ولم نُقاتِلْكَ كما قاتَلَك بنو فلانٍ، فقال اللهُ تعالى :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ ؛ ﴿ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾ ؛ فإنَّ إجَابَتَكم إلى الإسلامِ لم تكن إلاَّ لاجابتكم على أنفُسِكم لاَ إنَّكم أنعَمتُم على مَن دعاكُم إلى ذلك.
ومِن المعلومِ أنَّ حقَّ الداعِي إلى الهدايةِ أعظمُ من حقِّ المطيعِ بالإجابةِ، فليس للمطالِب أن يُطالِبَ بالحقِّ الذي لَهُ وينسَى الحقَّ الأعظمَ الذي عليهِ، ولذلك قالَ اللهُ :﴿ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ ؛ وأخرجَكم من الضَّلال، ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ في مَقالَتِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ فيه بيانُ أنه لا ينفعُ المنافقَ عندَ اللهِ كتمانُ الكفرِ ؛ لأنه تعالَى عالِمٌ به.
فإن قِيْلَ : كيف تجوزُ الْمِنَّةُ من اللهِ تعالى والمنَّةُ مما يُكَدِّرُ الصنيعةَ ؟ قِيْلَ : إنَّ الْمِنَّةَ عمَّن يُستغنى عنه تكدِّرُ الصنيعةَ، وأمَّا اللهُ تعالى ليس من أحَدٍ إلاَّ وهو محتاجٌ إليه، فليس في مِنَّتِهِ تكديرٌ للنعمةِ لاستحالةِ أن يُستغنى بغيرهِ عنه. وقد يقالُ : إذا كُفرت النعمةُ حَسُنَتِ الْمِنَّةُ، وباللهِ التوفيقُ.
Icon