تفسير سورة الحديد

القطان
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

سبّح لله: نزّهه عن كل ما لا يليق به. العزيز: الذي لا ينازعه في ملكه شيء. الحكيم: الذي يفعل افعاله وَفْقَ الحكمة والصواب. الظاهر والباطن: هو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيتْ عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وافعاله، باطن بذاته. في ستة أيام: في ستة اطوار. استوى على العرش: استولى عليه. العرش: الملك والسلطان. ذات الصدور: مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
بُدئت هذه السورة الكريمة بالتسبيح، وكذلك بدئت بعدها أربع سور مدنية، هي: الحشر والصف والجمعة والتغابن. وأيُّ تسبيح! إن كل ما في الوجود يسبّح لله. وما هو هذا التسبيح؟. يقول علماء المادة اليوم: «ان التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرّات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعَها اللهُ فيها، فهي بهذا تسبّحُ بحمد الله سبحانه، فهناك ما هو أبعدُ من هذا وأقرب الى مفهوم التسبيح الحيّ والتقديس الواعي. ان هذه الموجودات المادية تملك أرواحاً، وهي تمارس تسبيحَها وتقديسها بالروح، وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيّته، كما يقول تعالى في سورة الاسراء ٤٤: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ حقا إن ادراك الطرائق التي تعمل بها الذراتُ والأجسام لَمِمّا يصعُب تحقيقه، ومهما تقدّم العلم وخطا خطواتهِ العملاقة، فسيظلُّ جانبٌ من أكثر جوانب التركيب الماديّ أهميةً بعيداً عن الكشف النهائي، مستعصياً على البَوْح بالسِّر المكنون».
إن عصر الانكار الكلّي لحقائقَ علميةٍ معينة قد انتهى، وحلَّ محلّه اعتقادٌ سائد أخَذَ يتسع شيئاً فشيئا، في أن ميدانَ العِلم لا يشهَدُ تغيراتٍ فحسب، بل طَفَراتٍ وثورات.
ان نتائج فلسفيةً هامة ستتمخّض حقاً عن هذا التغير، والفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارقٌ للطبيعة سوف يتناقص.. الفرقُ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، والحضور والغيْب، والمادة والروح، والقدَر والحرّية، وستلتقي معطياتُ العلم مع حقائق الدين في عناق حار، لقاءً كثيراً ما حدّثنا عنه القرآنُ الكريم، كتابُ الله المعجزة.
لِله ملكُ السموات والأرض، يحيي ويميت كما يشاء ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. هو الاول بلا ابتداء قبلَ كل شيء، والآخر بلا انتهاء بعد كل شيء: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]. وهو الظاهر بالآثار والأفعال، والباطنُ فلا تدركه الأبصار ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه شيءٌ في السموات والأرض.
وهو الذي خلق هذا الكونَ في ستة أطوار، فدبَّره جميعه ثم استولى على العرش. وقد تقدَّم مثلُ هذه الآية في عدة سور: الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة.
ثعلم كل ما يغيب في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعَد اليها، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ عليمٌ بكم، محيطٌ بشئونكم في أيّ مكان كنتم. ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لله وحدَه مُلك السمواتِ والأرض، وإليه تُرجَع الأمور.
إنه يقلّب الليلَ والنهار ويقدّرها بحكمته كما يشاء، فتارةً يطولُ الليل ويقصُر النهار، وتارة يقصر الليلُ ويطول النهار، وتارة يجعلهما معتدلَين. ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ وخفيِّ مكنوناتها، وما تضمره القلوب.
مستخلفين فيه: خلفاء عنه ووكلاء بالتصرف. ميثاقكم: عهدكم. الفتح: فتح مكة. مَن ذا الذي يُقرض اللهَ: من ذا الذي ينفق في سبيل الله.
هذه السورةُ من السوَر المدنية كما قدّمنا، وهي تعالج بناء دولة وأمة. وهنا تعالج حالةً واقعة في ذلك المجتمع الاسلامي الجديد، فيظهر من سياق الحثِّ على البذْل والإيمان أنه كان في المدينة، إلى جانبِ السابقين من المهاجِرين والانصار، فئةٌ من المؤمنين حديثةُ عهدٍ بالاسلام، لم يتمكن الايمان في قلوبهم، ولهم صِلاتُ قرابةٍ ونَسَبٍ مع طائفة المنافقين التي نبتت بعد الهجرة وكانت تكيدُ للاسلام والمسلمين. وكانت هذه المكائد تؤثّر في بعض المسلمين الذين لم يُدركوا حقيقةَ الايمان فأنزل الله تعالى هذه الآياتِ يثبّت بها قلوبَ المؤمنين ويحثّهم على البذل والعطاء. فهي تقول:
آمِنوا باللهِ حقَّ الايمان الصادق، وأنفِقوا في سبيل الله من المال الذي جعلكم خلفاءَ في التصرّف فيه.
ثم تبين السورة ما أعدّ الله للذين آمنوا وأنفقوا من أجرٍ كبير: ﴿فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
ومالكم لا تؤمنون بالله والرسولُ يدعوكم الى ذلك ويحثّكم عليه! انه يبين لكم الحججَ والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله عليكم الميثاقَ بالايمان من قبلُ ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾. ثم بين الله تعالى انه ينزّل على رسوله الكريم آياتٍ من القرآن ليُخرجَكم بها من الضلال الى الهدى، ﴿وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ يلطف بكم من حيثُ لا تعلمون، ويمهّد لكم سبيلَ الخير من حيث لا تحتسبون.
ثم زاد في التأكيد على الانفاق أن الجميع صائر اليه، وان الانسانَ لا يأخذُ معه شيئا مما يجمعُه الا العملَ الصالحَ والانفاقَ في سبيل الله فقال:
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾.
مالكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله؟ أنفِقوا أموالكم في سبيل الله قبل ان تموتوا، ليكونَ ذلك ذُخراً لكم عند ربكم. فأنتم بعد الموت لا تقدِرون على ذلك، اذ تصير الأموال ميراثاً لمن له السمواتُ والأرضُ فهو الذي يرث كل ما فيهما.
ثم بيّن تفاوت درجات المنفقين فقال:
﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾.
لا يستوي في الدرجة والأجرِ ذلك المؤمن الذي أنفق قبلَ فتح مكة وقاتَلَ (لأن المسلمين كانوا في ضيق وجُهد وحاجة الى من يسانِدهم، ويقويهم) فهؤلاء المنفِقون والمقاتلون قبل فتحِ مكةَ أعظمُ درجةً عند الله من الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا. وقد وعدَ الله الجميعَ المثوبةَ الحسنى، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازي كلاًّ بما يستحق.
303
ثم نَدَبَ الى الانفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله، والله غنيٌّ عن العالمين. فقال:
﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾
هل هناك أجملُ من هذا التعبير! مَن هذا الذي ينفِق امواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه، فيضاعِف الله له ذلك القَرض، اذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: وقد أُخذ ميثاقكم بضم همزة اخذ ورفع ميثاقكم. والباقون: وقد أخذ ميثاقكم بفتح الهمزة ونصب ميثاقكم. وقرأ ابن عامر: وكلٌّ وعدَ الله الحسنى برفع كل. والباقون: وكُلاً بالنصب. وقرأ ابن كثير: فيضعّفُه بتشديد العين وضم الفاء. وقرأ ابن عامر مثله: فيضعّفَه بالتشديد ولكن ينصب الفاء. والباقون: فيضاعفَه بالألف ونصب الفاء.
304
يسعى نورهم بين أيديهم: وهو ما قدموه من عمل صالح في الدنيا. بشراكم: أبشروا. انظرونا: انتظرونا. نقتبس من نوركم: نستضيء بنوركم. بسور: بحاجز. باطنه فيه الرحمة: الجنة. وظاهره من قِبله العذاب: من جهته جهنم. فتنتم انفسكم: اهلكتموها. تربصتم: انتظرتم بالمؤمنين الشرّ والمصائب. ارتبتم: شككتم في امر البعث. الأماني: الاباطيل. الغَرور (بفتح الغين) : الشيطان. فدية: مال او غيره لحفظ النفس من الهلاك. مأواكم: منزلكم. مولاكم: اولى بكم، من ينصركم.
الكلام في هذه الآيات الكريمة عن مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، فاللهُ سبحانه وتعالى يبين هنا حالَ المؤمنين المنفقين في سبيل الله يومَ القيامة، فذَكَر أن نورَهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدَهم إلى الجنة، وتقول لهم الملائكة: أبشِروا اليومَ بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهارُ وأنتم فيها خالدون ابدا.
﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ وأيّ فوزٍ أعظم من دخول الجنة!!
ثم بيّن حالَ المنافقين في ذلك اليوم العظيم، وكيف يطلبون من المؤمنين ان يساعِدوهم بشيءٍ من ذلك النورِ الذي منحَهم الله إيّاه ليستضيئوا به ويلحقوا بهم. فيسخَرُ المؤمنون منهم ويتهكّمون عليهم ويقولون: ارجِعوا إلى الدنيا واعملوا حتى تحصُلوا على هذا النور. وهذا مستحيل. فيُضرَب بينهم بحاجزٍ عظيم يكونُ المؤمنون داخلَه في رحابِ الجنة، والمنافقون والكافرون خارجَه يذهبون الى النار.
ثم ينادِي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألَمْ نكُنْ مَعَكم في الدنيا!؟ فيقول لهم المؤمنون:
﴿بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾.
لقد كنتم معنا ولكنكم لم تؤمنوا، وأهلكتم أنفسكم بالنفاق، وتربصتم بالمؤمنين الشرَّ والحوادثَ المهلكة، وشككتم في أمور الدينِ. لقد خدعتكم الآمالُ الكاذبة حتى جاءكم الموتُ، وخدعكم الشيطان. فلا أملَ لكم بالنجاة، ولا تُقبَل منكم فِدية، ولا مِن الذين كفروا، إن مَرجِعَكم جميعاً هو النار، هي منزلكم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾.
قراءات:
قرأ حمزة: أنظِرونا نقتبس من نوركم بفتح الهمزة وكسر الظاء من الفعل انظِر. والباقون: انظُرونا بضم الظاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: فاليوم لا تؤخذ بالتاء. والباقون: لا يؤخذ بالياء.
الم يأنِ: الم يَحِنْ، والفعلُ الماضي أنى يأْني أنياً وأناةً وأنىً: حانَ وقَرُب. وما نزل من الحق: من القرآن. فطالَ عليهم الأمد: طال عليهم الزمان وبعُد العهد بينهم وبين انبيائهم. قَسَت قلوبهم: اشتدّت فكفروا. المصّدِّقين والمصدقات: بالتشديد هم المنفقون في سبيل الله. الصدّيق: المداوم على الصدق. الشهداء: من قُتلوا في سبيل الله.
في هذه الآيات عتابٌ لقومٍ من المؤمنين فترت همَّتُهم قليلاً عن القيام بما نُدِبوا اليه. روي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ انه قال: «لما قَدِم أصحابُ رسول الله ﷺ المدينةَ فأصابوا من لِين العَيش ما أصابوا بعْدَ أن كانوا في جَهدٍ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوقبوا بهذا الآية....»
الم يَحِن الوقتُ للذين آمنوا أن ترقَّ قلوبُهم لذِكر الله والقرآن الكريم، ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتابَ من قبلهم، فعملوا به مدةً ثم طال عليهم الزمنُ فجمدت قلوبهم وغيّروا وبدّلوا ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن حدودِ دينهم.
اعلموا أيها المؤمنون ان الله يحيي الأرضَ ويهيئها للإنباتِ بنزول المطر بعد يُبْسِها وجفافها ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وضربْنا لكم الأمثالَ لعلكم تعقلون ما فيها، فتخشعَ قلوبكم لذِكر الله.
والله سبحانه يجازي كلَّ انسانٍ بعمله، فالمتصدّقون والمتصدقات الذي ينفقون في سبيل الله بنفوس سخيّة طيبة، يضاعفُ الله لهم ثوابَ ذلك، وفوق المضاعَفة لهم أجرٌ كريم عنده يوم القيامة.
والعاملون أقسامٌ عند الله، فمنهم النبيّون والصدّيقون والشهداءُ والصالحون. فالذين آمنوا بالله ورسُلِه ولم يفرقوا بين احدٍ منهم - أولئك هم الصدّيقون والشهداءُ، لهم أجرُهم العظيم، ونورٌ يهديهم يومَ القيامة، لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون.
وبالمقابلِ يقفُ الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله، أولئك هم أصحابُ النار خالدين فيها.
قراءات:
قرأ نافع وحفص: وما نَزَل من الحق بفتح النون والزاي من غير تشديد. والباقون: وما نزّل بتشديد الزاي. وقرأ ابن كثير وابو بكر: ان المصَدقين والمصدقات بفتح الصاد من غير تشديد. والباقون: بالتشديد.
الكفار: هنا الزرّاع، يقال: كفر الزارعُ البذرَ بالتراب، غطاه. يهيج: ييبس ويصفرّ، وفعلُ هاجَ له معنى آخر، يقال: هاج القومُ هَيْجا وهيَجانا: ثاروا لمشقة او ضرر. وللفعل هاجَ معانٍ اخرى. حطاما: هشيما متكسرا. متاع الغرور: الخديعة. في كتاب: في اللوح المحفوظ. نبرأها: نخلقها. لا تأسوا: لا تحزنوا. كل مختال: متكبر. فخور: المتباهي بنفسه.
يبين الله تعالى هنا حقارة الدنيا وسرعة زوالها. اعلموا أيها الناس أنما الحياة الدنيا لعبٌ لا ثمرة له، ولهوٌ يشغَل الانسانَ عما ينفعه، وزينةٌ لا بقاء لها، وتفاخرٌ بينكم بأنساب زائلة وعظامٍ باليةٍ، وتكاثرٌ بالعَدد في الأموال والأولاد. مِثْلُها في ذلك مثل مطرٍ نزل في أرضِ قومٍ وأنبت زرعاً طيباً اعجبَ الزّراع، ثم يكمُل ويهيج ويبلغ تمامه، فتراه بعدَ ذلك مصفرّا ثم يصير حطاماً منكسرا لا يبقى منه ما ينفع. فمن آمن وعملَ في الدنيا عملاً صالحاً واتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة نجا، ودخل الجنة. وفي الآخرة عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا وأخذها بغير حقها، وفيها مغفرة لمن عمل صالحاً وآثر آخرته على دنياه. ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ متاع زائل وخديعة باطلة لا تدوم.
ثم بعد ان بين الله أن الآخرة قريبة، فيها العذابُ والنعيم - حثَّ إلى المبادرة الى فعل الخيرات فقال: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ....﴾
تسابَقوا أيها المؤمنون في عملِ الخير، حتى تنالوا مغفرة من ربكم، وتدخلوا جنةً سعتُها كسعة السماء والارض، هُيئت للذين آمنوا واتقَوا ربهم، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم﴾ فهو واسعُ العطاء عظيم الفضل، يُعطي من يشاء بغير حساب.
ما أصابكم أيها الناس من مصائبَ في الأرض من قحطٍ او جَدْبٍ وفسادِ زرعٍ او كوارث عامة كالزلازل وغيرها، او في أنفسِكم من مرضٍ او موتٍ او فقر او غير ذلك - إنما هو مكتوبٌ عندنا في اللوحِ المحفوظ، مثْبَتٌ في علم الله من قبل ان يبرأ هذه الخليقة. وما اثبات هذه الأمور والعلم بها الا أمر يسير على الله.
﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾
وحيث علمتم ان كل ما يجري هو بعلم اله وقضائه وقدَره - عليكم ألا تحزنوا على ما لم تحصَلوا عليه حزناً مفرطاً يجرّكم الى السخط، ولا تفرحوا فرحاً مبطِرا بما أعطاكم، فاللهُ لا يحب كلّ متكبرٍ فخور على الناس بما عنده.
قال عكرمة: ليس أحدٌ الا وهو يحزَن او يفرح، ولكنِ اجعلوا الفرحَ شُكرا والحزنَ صبراً. وما من إنسان الا يحزن ويفرح، ولكنّ الحزنَ المذمومَ هو ما يخرجُ بصاحبه الى ما يُذهِبُ عنه الصبرَ والتسليم لأمرِ الله ورجاءِ الثواب، والفرحَ المنهيَّ عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويُلهيه عن الشكر.
307
ثم بين الله اوصافَ المختالين الذين يَفْخرون على الناس فقال: ﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ هؤلاء لا يحبّهم الله، ولا ينظر إليهم يومَ القيامة.
﴿وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾
ومن يُعرِض عن طاعة الله، فإن الله غنيٌّ عنه، وهو المحمودُ من خلقه لما أنعم عليهم من نعمه، لا تضرّه معصية من عصى، ولا تنفعه طاعة من اطاع.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: بما أتاكم بغير مد. والباقون: بما آتاكم بمد الهمزة. وقرأ الجمهور: بالبُخْل بضم الباء واسكان الخاء. وقرأ مجاهد وابن مُحَيصن وحمزة والكسائي: بالبَخَل بفتحتين وهما لغتان. والبخل بفتحتين لغة الانصار. وقرأ نافع وابن عامر: ان الله الغني الحميد، بحذف هو، والباقون: ان الله هو الغني الحميد.
308
البينات: المعجزات والحجج. الكتاب: جميع الكتب المنزلة. الميزان: العدل. القِسط: الحق. أنزلنا الحديد: خلقناه. فيه بأسٌ شديد: فيه قوة عظيمة. ثم قفّينا على آثارهم: ثم أرسلنا بعدهم الواحدَ تلو الآخر. الرهبانية: الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم. ابتدعوها: استحدثوها من عند أنفسِهم. فما رَعَوْها: فما حافظوا عليها. الكِفل: النصيب.
لقد ارسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة، وانزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والاحكام، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل. كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة، في الحرب والسلم، والمواصلات برا وبحرا وجوا، ومنافعه لا تحصى - لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم، وليعلم الله من ينصر دينه، وينصر رسله بالغيب، ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ لا يفتقر الى عون احد.
ولقد ارسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب الهادية. والقرآن يعبر دائما بالكتاب حتى يعلم الناس ان جميع الاديان اصلها واحد.
ثم ان هذه الذرية افترقت فرقتين: منهم من هو مهتدٍ الى الحق مستبصر، وكثير منهم ضالون خارجون عن طاعة الله.
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾
بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام، حتى انتهى الأمر الى عيسى عليه السلام وأعطيناه الانجيلَ الّذي أوحيناه اليه، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة. وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة ما فرضناها عليهم، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة. فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها. اما كثير منهم فقد خرجوا عن امر الله، واجترموا الشرور والآثام، فلهم عذابٌ عظيم.
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ واثبُتوا على إيمانكم برسوله بعطِكم نصيبَين من رحمته ويجعل لكم نوراً تهتدون به، ويغفر لكم ذنوبكم ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم﴾.
لقد فعلنا ذلك ليعلم اهل الكتاب انهم لا ينالون شيئا من فضل الله ما لم يؤمنوا بمحمد ﷺ، والله صاحب الفضل العظيم.
وقوله تعالى: ﴿أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ﴾ معناه أنّهم لا يقدِرون على شيء، فأنْ هنا مخففة من أنّ المشددة.
وهكذا ختمت السورة بختام يتناسق مع سياقها كله، وهي نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، وبها يتم الجزء السابع والعشرون.
Icon