تفسير سورة المنافقون

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة المنافقون
آياتها إحدى عشرة وفيها ركوعان وهي مدنية
أخرج البخاري وغيره عن زيد ابن أرقم قال سمعت عبد الله ابن أبي يقول لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله ابن أبي أصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني وصدقه فأصابني شيء لم يصبني قط مثله، فقال عمي ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله عز وجل :﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها ثم قال إن الله صدقك١ وذكر محمد ابن إسحاق وغيره من أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث ابن ضرار أبو جريرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة زيد ابن الحارث فيما قال محمد ابن عمرو وابن سعد قال ابن هشام أبا ذر الغفاري وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاد المسلمون ثلاثين فرسا منه عشرة للمهاجرين منهما فرسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر كثير من المنافقين ليصيبوا من عرض الدنيا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل وتهيأ الحارث للحرب فصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ابن الخطاب فنادى في الناس قولوا لا إلاه إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ففعل ذلك عمر قالوا افتراموا بالنبل وتزاحف الناس فاقتتلوا فهزم الله سبحانه بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبنائهم ونسائهم وأموالهم فأفاءها الله عليه فبينما الناس على ذلك الماء وإذ وردت واردة الناس ومع عمر ابن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه ابن سعيد الغفاري يقود له خمسة فازدحم جهجاه وسنان ابن وبرة الجهني حليف ابن عوف ابن الخزرج على الماء فاقتتلا وضرب جهجاه سنانا فسال الدم، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له جعال فأقبل من الحيين وشهر السلاح حتى كادت أن يكون فتنة عظيمة فخر ج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال دعوى الجاهلية فأخبرها بالحال فقال دعوها فإنها فتنة أي مذمومة في الشرع ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما فلينه فإنه ناصر وإن كان مظلوما فلينصره، ثم إن جماعة من المهاجرين كلموا عبادة ابن الصامت وجماعة من الأنصار فكلموا سنانا فترك حقه وكان عبد الله ابن أبي ابن سلول جالسا وعنده عشرة من المنافقين مالك وسويد وقاعس وأوس ابن قبطي وزيد ابن الصلت وعبد الله ابن نبيل ومعتب ابن قشير وفي القوم زيد ابن أرقم رضي الله عنه غلام حديث السن فقال ابن أبي أفعلوها فقد نافرونا وتكاثرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك إنا والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أجللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم والله لو أمستكم من جعال ودونه فضل الطعام من ركبوا رقابكم وليتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد ابن أرقم رضي الله عنه أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمان ومودة من المسلمين فقل عبد الله ابن أبي أسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد ابن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وتغير وجه فقال يا غلام لعلك كذبت عليه فقال لا والله يا رسول الله لقد سمعت فقال لعله أخطأ سمعك فقال لا والله يا رسول الله قال لعله شبه عليك، قال لا والله يا رسول الله، وشاع في العسكر قول ابن أبي وليس في الناس حديث إلا ما قال ابن أبي وجعلها الرهط من الأنصار يلومون الغلام ويقولون عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل وقد ظلمت وقطعت الرحم فقال زيد والله لقد سمعت ما قال والله ما كان في الخزرج رجل أحب إلي أبي من عبد الله ابن أبي ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأرجو أن ينزل الله على نبيه ما يصدق حديثي فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه دعني أضرب عنقه يا رسول الله وفي رواية قال عمر مر عباد ابن بشير أو قال محمد ابن مسلمة فليأتك رأسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فكيف يا عمر إذا يحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل } وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فإنه كان في حر شديد ولم يكن يرتحل حتى يبرد ولم يشعر العسكر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلع على ناقته القصوى فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله ابن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة من الأنصار لزيد رضي الله عنه وكذبوه فقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والماس مقتوك وكان زيد بسائر النبي صلى الله عليه وسلم فاستحى بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم فلما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار فكان أول من لقيه سعد ابن عبادة ويقال أسيد ابن حضير وبه جزم ابن إسحاق فقال السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقال عليه السلام وعليك رحمة الله وبركاته قال يا رسول الله قد رحلت في ساعة منكرة لم تكن ترحل فيها فقال أو لم يبلغك ما قال صاحبك ؟ قال أي صاحب يا رسول الله قال ابن أبي زعم أن إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، فقال أنت يا رسول الله تخرجه إن شئت فهو الأذل وأنت أعز والعزة لله ولك وللمؤمنين ثم قال يا رسول الله :( أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه ينظمون له الخرز فما بقيت عليهم الإخرزة واحدة عند يوشع اليهودي فدارب بهم فيها لمعرفته بحاجتهم إليها ليتوجهوا فجاء الله بك على هذا الحديث فلا يرى إلا أن قد سلبته ملكه، وبلغ عبد الله ابن أبيّ مقالة عمر ابن الخطاب فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن كنت تريد أن تقتل فيما بلغك عنه فمرني به فوالله لأحملن إليه رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا والله لقد علمت الخزرج ما كان رجل فيها أبر بوالديه مني وإني لا خشي يا رسول الله أن تأمرني به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر النار وعفوك أفضل منك وأعظم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله ما أردت قتله وما أمرت به ونحسن صحبة ما كان بين أظهرنا فقال عبد الله يا رسول الله إن أبي كانت أهل هذه البحيرة قد اتقوا عليه ليتوجوه عليهم فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك ومعه قوم يطوفون به ويذكرون أمورا قد غاب الله تعالى عليهم ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم حتى أذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا أمس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عما كان تقوّل ابن أبي راح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على ماء بالحجاز فوق البقيع يقال له البقعاء.
روى مسلم عن جابر ابن عبد الله قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت قربت المدينة فهاجت الريح تكاد تدفن الراكب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بعثت هذه الريح لموت منافق ) فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين }٢ قال محمد ابن عمرو لما أخدتهم الريح قالوا لم تهج هذه الريح إلا لأمر قد حدث بالمدينة وإنما بالمدينة الذراري والصبيان وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عيينة ابن حصين مدة وكان ذلك عند انقضائها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس عليكم منها بأس ما بالمدينة ورب إلا ملك يحرسها وما كان يدخلها عدو حتى تأتوها ولكن قد مات الذي بالمدينة منافق عظيم النفاق ولذلك عصفت الريح ) وكان للمنافقين بموته غيظ شديد وهو زيد ابن رفاعة ابن التابوت مات ذلك اليوم كان كهفا للمنافقين قال محمد ابن عمر عن جابر كانت الريح أشد ما كانت قط إلى أن زالت الشمس ثم سكنت آخر النهار وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك الريح حتى دفن عدو الله ثم سكنت، قال عبادة ابن الصامت يومئذ لابن أبي مات خليلك الذي من موته فتح للإسلام وأهله زيد ابن رفاعة ابن التابوت قال يا ويلاه كان والله كان قال من أخبرك يا أبا وليد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه مات هذه الساعة فسقط في يديه وانصرف كئيبا حزينا. قال محمد ابن عمر من حديث ابن عمر أنه فقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصوى من بين الإبل فجعل المسلمون يطلبونها من كل وجه فقال زيد ابن الصلت وكان منافقا وهو في جماعة والأنصار منهم عبادة بن بشر ابن وقس وأسيد ابن خضير فقال أين يذهب هؤلاء في كل وجه قالوا يطلبون ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضلت، قال أفلا يخبره الله تعالى بمكانها فأنكر عليه القوم، فقالوا قاتلك الله يا عدو الله نافقت ثم أقبل عليه أسيد ابن حضير فقال فوالله لولا أني لا أدري ما يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنفذت حصك بالرمح يا عدو الله فلم خرجت معنا وهذا في نفسك قال خرجت لأطلب عرض الدنيا ولعمري إن محمدا ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة يخبر عن أمر السماء وتعودوا به جميعا فقالوا والله لا يكون منك سبيل أبدا ولا يظلنا وإياك أظل أبدا ولو علمناه ما في نفسك ما صبحنا فوثب هاربا منهم أن يقعوا به ونبذوا متاعه وعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس معه فرار من أصحابه متعودا به وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل بالوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يسمع إن رجلا من المنافقين قال ألا ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا يخبر اله بمكانها فلعمري إن محمدا يخبرنا بأعظم من شأن الناقة ولا يعلم الغيب إلا الله وإن الله سبحانه قد أخبرني بمكانها وأنها في الشعب مقابلكم قد تعلق زمامها بشجرة فاعمدوا نحوها فأتوا من حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليها سقط في يديه فقام سريعا إلى رفقائه الذين كانوا معه فإذا رجله منبوذ وإذا هم جلوس لم يقم رجل منهم من كمجلسه فقالوا له حين دنى لا تدن منا أكلمكم فدنى فقال أنشدكم الله هل أتى منكم أحد محمدا فأخبره بالذي قلت قالوا والله ولا قمنا من مجلسنا قال إني قد وجدت عند القوم ما تكلمت به وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني كنت في شك في شأن محمد فأشهد أن محمدا رسول الله فكأني ل
١ أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب: قوله ﴿إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله﴾ ﴿٤٩٠٠﴾ وأخرجه مسلم في أول كتاب ﴿صفات المنافقين وأحكامهم {٢٧٧٢﴾.
٢ أخرجه مسلم في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم ﴿٢٧٨٢﴾.

بسم الله الرحمان الرحيم ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ عبد الله ابن أبي وأصحابه ﴿ قالوا نشهد إنك لرسول الله ﴾ الشهادة إخبار عن علم من الشهود وهو الحضور والإطلاع ولذلك صدق الله سبحانه المشهود به وكذبهم في الشهادة لعدم صدور ذلك الأخبار عن علم يقيني فقال ﴿ والله يعلم إنك لرسوله ﴾ الله ﴿ لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾ في إخبارهم أن هذا القول صادر عن علمهم وإذعانهم حتى يصدق على هذا القول لفظ الشهادة هذا على تقدير كون كلمة تشهد إخبارا وأما لو قيل أنه إنشاء للشهادة فهو لا يحتمل الصدق والكذب والمشهود به أعني قولهم إنك لرسول الله كلام صادق البتة لا ريب فيه فمعنى قوله :﴿ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾ أنهم كاذبون في زعمهم والله أعلم وزعم النظام من المعتزلة أن الصدق ما طبقته الاعتقاد والكذب ولم يطابقه مستدلا بهذه الآية وليس كما قال
﴿ اتخذوا أيمانهم ﴾ يعني حلفهم الكاذب أو شهادتهم هذه فإنها من ألفظ الحلف ﴿ جنة ﴾ وقاية عن القتل والسبي والجملة صفة لكاذبون
أو مستأنفة ﴿ فصدوا ﴾ صدودا أي أعرضوا أو امتنعوا أو صدوا صدا أي صرفوا ومنعوا الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي الدخول في دين الإسلام ﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ من نفاقهم وصدهم ذلك الحال من النفاق واتخاذ الإيمان جنة الصد
﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ آمنوا ﴾ ظاهرا عند المؤمنين ﴿ ثم كفروا ﴾ إذ أخلوا إلى شياطينهم أو آمنوا إذا رأوا أية ثم كفروا إذا سمعوا من شياطينهم شبهة ﴿ فطبع ﴾ عطف على كفروا يعني طبع الله ﴿ على قلوبهم ﴾ بحيث سلب عنهم إدراك الحق ﴿ فهم لا يفقهون ﴾ حقيقة الإيمان الفاء للسببية
﴿ وإذا رأيتهم ﴾ عطف على اتخذوا ﴿ تعجبك أجسامهم ﴾ لفخامتها وصباحتها ﴿ وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾ لتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان ابن أبي جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ﴿ كأنهم خشب ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بسكون الشين على التخفيف أو على أنه كبدن جمع بدنة والباقون بضمها على وزن أسد ﴿ مسندة ﴾ جملة التشبيه حال من الضمير المجرور في قولهم أي يسمع لقولهم حال كونهم مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحيطان في كونهم أشباحا خالية عن العلم والعرفان والعقل السليم ﴿ يحسبون كل صيحة عليهم ﴾ أي واقعة عليهم لما في قلوبهم من الرعب وقيل ذلك لكونهم على وجل من أن يظهر نفاقهم ويباح دمائهم فلا يسمعون صحة في العسكر بأن نادى مناد أو انفلتت دابة أو انشدت ضالة إلا ظنوا أنه أمر بقتلهم وأدركوا فعلى هذا عليهم مفعول ثان ليحسبون وجاز أن يكون عليهم ظرفا لغوا متعلقا بصيحة والمفعول الثاني ﴿ هم العدو ﴾ وعلى هذا الضمير راجع إلى الكل وجمعه بالنظر إلى الخبر لكن ترتب قوله ﴿ فاحذرهم ﴾ يأبى عن هذا التأويل بل هو قرينة على أن ضميرهم العدو راجع إلى المنافقين يعني هم الكاملون في العداوة أمر الله سبحانه بالحذر عنهم يعني لا تصاحبهم ولا تأمنهم لأنه من خاف على نفسه كثيرا يكون كاملا في العداوة لا يبالي بإيصال الشر بمن يخاف منه ﴿ قاتلهم ﴾ أي لعنهم الله دعاء وطلب من ذاته أن يلعنهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك ﴿ أنى يؤفكون ﴾ أي كيف يصرفون عن الحق
أخرج ابن جرير وقتادة وابن المنذر عن عكرمة مثله وقد ذكرنا سابقا في القصة أنه قيل لعبد الله ابن أبي لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك فجعل يلوي رأسه فنزلت ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر ﴾ مجزوم على جواب الأمر ﴿ لكم رسول الله لووا ﴾ جزاء للشرط قرأ نافع ويعقوب بالتخفيف والباقون بالتشديد إشعارا بأنهم فعلوها مرة بعد أخرى يعني أعرضوا وأعطفوا رؤوسهم استكبارا عن ذلك ﴿ ورأيتهم ﴾ أيها الحاضر عند ذلك القول ﴿ يصدون ﴾ صدور أي يعرضون عن الاستغفار ﴿ وهم مستكبرون ﴾ عن الاعتذار حال من فاعل يصدون
أخرج ابن المنذر عن عروة ومجاهد وقتادة مثله أنه لما نزلت استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأزيدن على سبعين فأنزل الله تعالى ﴿ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴾
استغفرت مع ما عطف عليه بتأويل المصدر مبتدأه وسواء خبره والمعنى استغفارك لهم وعدمه مستو عليهم وقوله ﴿ لن يغفر الله لهم ﴾ بيان للاستواء وأخرج ابن المنذر من طريق العوفي عن ابن عباس قال لما نزلت آية براءة قال النبي صلى الله عليه وسلم اسمع أبي وقد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله يغفر لهم فنزلت هذه الآية ﴿ إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ الخارجين من مظنة الاستصلاح لأنهماكهم في الكفر والنفاق
﴿ هم الذين يقولون ﴾ للأنصار تعليل لعدم الغفران ﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله ﴾ يعني جهجاه وأمثاله من فقراء المهاجرين ﴿ حتى ينفضوا ﴾ يتفقروا ﴿ ولله خزائن السماوات ﴾ أي نعماء الجنة والمطر وتقدير الرزق ﴿ والأرض ﴾ من الأرزاق وبيده ملكوت كل شيء لا يعطي أحدا أحدا أشياء إلا بإذنه وتقديره ولا يمنعه إلا بمشيئته والجملة حال من فاعل يقولون ﴿ ولكن المنافقين لا يفقهون ﴾ ذلك لجهلهم بالله وقدرته ولو فقهوا لما قالوا مثل ذلك
﴿ يقولون ﴾ بدل من يقولون فيما سبق فإن عدم الإنفاق في زعمهم موجب لضعف النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه سبب لخروجه من المدينة فكأنه امتناعه من الإنفاق إخراج أسند الله سبحانه هذا القول إلى جميع المنافقين وإن كان القائل منهم وأحد وهو ابن أبي لرضا الباقين بهذا القول الخبيث ﴿ لئن رجعنا ﴾ من سفرنا هذا ﴿ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله ﴾ لا لغيره ﴿ العزة ﴾ الغلبة والقوة حقيقة حال من فاعل يقولون الثاني ﴿ ولرسوله وللمؤمنين ﴾ بإعزازه تعالى إياهم وإظهار دينه ونصرهم على الأعداء ﴿ ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ ذلك لفرط جهلهم وغرورهم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تهلكم ﴾ لا يشغلكم ﴿ أموالكم ولا أولادكم ﴾ أي تدبيرها والاهتمام بها ﴿ عن ذكر الله ﴾ قال المفسرون يعني الصلوات الخمس واللفظ أعم من ذلك يشمل جميع العبادات ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ الاشتغال المانع من الذكر ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾ حيث باعوا الجليل الباقي بالحقير الفاني كان فيما سبق تشنيع المنافقين صريحا وفي هذه الآية وما بعده تعريض بتشنيعهم فإن الاشتغال بالأموال والأولاد عن الصلاة وترك الزكاة وسؤال تأخير الموت وتمنيه إنما شأن المنافقين لا ينبغي للمؤمنين التشبيه بهم في شيء من ذلك
﴿ وأنفقوا من ما رزقناكم ﴾ عطف على لا تلهكم قال ابن عباس يريد زكاة الأموال ﴿ من قبل ﴾ ظرف لانفقوا ﴿ أن يأتي أحدكم الموت ﴾ أي يرى دلالة وحينئذ يوصي عن أبي هريرة قال : قال رجل يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال :( أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا وقد كان لفلان )١ متفق عليه ﴿ فيقول رب ﴾ بعد الموت إن لم يتصدق في الحياة تحسرا ﴿ لولا ﴾ آي هلا ﴿ أخرتني ﴾ وقيل لا زائدة ولو للتمني يعني لو أخبرتني أي أمهلتني في الدنيا بتأخير الموت ﴿ إلى أجل ﴾ أمد ﴿ قريب ﴾ غير بعيد ﴿ فأصدق ﴾ أصله فأتصدق قلبت التاء بالصاد فأدغمت منصوب على جواب التحضيض تقديره لولا كان منك تأخيري في الدنيا فتصدق مني ﴿ وأكن ﴾ قرأ أبو عمرو وأكون بالواو منصوبا عطفا على أصدق قالوا إنما حذفت الواو في رسم خط المصحف اختصارا والباقون بغير واو مجزوما على الرسم لتوهم الجزم في أصدق على تقدير ترك الفاء فكأنه عطف على موضع الفاء وما بعده ﴿ من الصالحين ﴾ أي من المؤمنين هذا قول مقاتل وجماعة قالوا نزلت الآية في المنافقين وقيل الآية نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح إتيان الواجبات وترك المنهيات قال البغوي روى الضحاك وعطية عن ابن عباس قال ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاة وأطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية وقال أكن من الصالحين أحج
١ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة باب: أي الصدقة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح ﴿١٤١٩﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب: بيان أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحسح ﴿١٠٣٢﴾.
﴿ ولن يؤخر الله نفسا ﴾ أي يمهلها وإن تمني الجملة حال من فاعل فيقول رب لولا أخرتني والعائد وضع المظهر موضع المضمر ﴿ إذا جاء أجلها ﴾ وانتهى عمرها ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ فجاز عليه قرأ أبو بكر بالياء على الغيبة ليوافق ما قبله والباقون بالتاء للخطاب والله تعالى أعلم.
Icon