تفسير سورة الأنفال

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنفال (٨) : آية ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده. وهذا أغلظ منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال. فيقال: ما صليت، وما صمت إذا صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعاتهم ومعاصيهم، إذ لا فرق. فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده، تناقضوا، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد: فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نيابة، وهو الإيصال. فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.
ونظير هذا قوله في الآية نفسها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ثم قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى فأخبر أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن ذلك من رسوله. ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة لدفع المشركين، وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس. فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه، وبه، وهو خير الناصرين.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
فتضمنت هذه الآية أمورا.
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتوا وغيرهم أموات وأن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة. فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة. وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. قال مجاهد لِما يُحْيِيكُمْ يعني:
للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر.
قال بن إسحاق وعروة بن الزبير- واللفظ له- لما يحييكم: يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
298
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة. وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله: لِما يُحْيِيكُمْ هو الجهاد. وهو قول ابن إسحاق، واختيار أكثر أهل المعاني.
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم، واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة. أما في الدنيا: فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.
وأما في البرزخ: فقد قال تعالى: ٣: ١٦٩ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة: لما يحييكم يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: لما يحييكم يعني الجنة. فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله. فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة. والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة. وهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة له من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافي من ذلك.
وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين
299
النافع والضار في العلوم والإرادات، والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل: فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة. كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونصرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن. وذلك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه. فيصير حيا بذلك النفخ. وكان فضل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الروح الذي ألقى الله إليه قال تعالى: ١٦: ٢ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقال: ٤٠: ١٥ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقال: ٤٢: ٥٢ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا فأخبر أن وحيه روح ونور. فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى.
قال تعالى: ٦: ١٢٢ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها فجمع له بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافرا ضالا فهديناه.
وقوله: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يتضمن أمورا.
أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور، وهم في الظلمة. فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور
300
يمشي به في الطريق ويراها، ويرى ما يحذره فيها.
وثانيها: أنه يمشي بنوره فهم يقتبسون فيه لحاجتهم إلى النور.
وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.
وقوله، ٨: ٤ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ المشهور في الآية: أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين: وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية. فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة.
وكان هذا أنسب بالسياق. لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن. دون القلب. فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه. فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعلى القول الأول: فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم. فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة، وعقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته، فيكون كقوله: ٦: ١١٠ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقوله: ٦١: ٥ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله: ٧:
١٠١ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.
ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب، وإن استجاب بالجوارح.
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر والإيمان به. فهي كقوله: ٨١: ٢٨، ٢٩ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قوله:
301
٧٤: ٥٥: ٥٦ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والله أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك. فلا يحتاجون معه إلى أحد.
وهاهنا تقديران.
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة «من» على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية.
والثاني أن تكون الواو واو المعية وتكون «من» في محل نصب عطفا على الموضع فإن «حسبك» في معنى كافيك، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيدا درهم قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين:
وفيها تقدير ثالث: أن تكون «من» في موضع رفع بالابتداء أي: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله.
وفيها تقدير رابع- وهو خطأ من جهة المعنى- وهو أن يكون «من» في موضع رفع عطفا على اسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك.
وهذا- وإن قال به بعض الناس- فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوي والعبادة. قال الله تعالى: ٨: ٦٢ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
Icon