تفسير سورة النّمل

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة النمل من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون

الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام» «١»
سورة النمل
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون [نزلت بعد الشعراء] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
طس قرئ بالتفخيم والإمالة، وتِلْكَ إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين:
إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة.
وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح، فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي
(١). رواه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.
346
كتاب مبين. وقرأ ابن أبى عبلة: وكتاب مبين بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ، هُدىً وَبُشْرى في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أى: هادية ومبشرة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى.
والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً. فإن قلت وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها:
وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق «١».
(١). قال محمود: «كرر الضمير حتى صار معنى الكلام: ولا يوقن بالاخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح، لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق» قال أحمد: قد تقدم في غير موضع اعتقاد أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر، كما مر له في قوله تعالى هُمْ يُنْشِرُونَ أن معناه: لا ينشر إلا هم، وعد الضمير من آلات الحصر كما مر ليس ببين، وقد بينا لمجيء الضمير في سورة اقترب وجها سوى الحصر. وأما وجه تكراره هاهنا- والله أعلم- فهو أنه لما كان أصل الكلام: وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدإ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما، فطري ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور. حيث بقي على حاله مقدما، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التظرية، فأقرب منها أن الشاعر قال:
سل ذو عجل ذا وألحقنا بذا ال الشحم إنا قد مللناه بخل
والأصل: وألحقنا بذا الشحم، فوقع منتصف الرجز أو منتهاه، على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام وبنى الشاعر على أنه لا بد عند المنتصف أو المنتهى من وقيفة ما، فقدر بتلك الوقفة بعد أن بين المعرف وآلة التعريف فطراها ثانية، فهذه النظرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير، فتأمل هذا الفصل فانه جدير بالتأمل، والله أعلم.
347

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤ الى ٥]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل «١» مجاز، وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمىّ، فالطريق الأوّل: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه لأن المجاز الحكمىّ يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها: زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى إلى الحسن. والعمه:
التحير والتردّد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: متردّدين في أعمالهم وأشغالهم سُوءُ الْعَذابِ القتل والأسر يوم بدر. والْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
(١). قال محمود: «إن قلت كيف أسند التزيين إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ قلت:
إن بين الاسنادين فرقا، فالاسناد إلى الله مجاز، وإلى الشيطان حقيقة. وقد روى عن الحسن أن المراد زينا لهم أعمال البر فعمهوا عنها ولم يهتدوا إلى العمل بها»
قال أحمد: وهذا الجواب مبنى على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازا، وإلى الشيطان حقيقة، ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله إلى التأويل الآخر: من أن المراد أعمال البر على بعده، لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، وأتى لهم ذلك وقد اتى الله بنيانهم من القواعد، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ على أن غالب وروده في غير البر، كقوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ، زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومما يبعد حمله على أعمال البر: إضافة الأعمال إليهم في قوله أَعْمالَهُمْ وأعمال البر ليست مضافة إليهم، لأنهم لم يعملوها قط، فظاهر الاضافة يعطى ذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وقوله قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم، لأنه صدر منهم، والله أعلم.
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه وتلقنه مِنْ عند أىّ حَكِيمٍ وأىّ عَلِيمٍ وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
إِذْ منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروى أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله امْكُثُوا. الشهاب:
الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس.
ومن قرأ بالتنوين: جعل القبس بدلا، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله. فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلى آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين:
لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إمّا هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا، وهما العزّان: عز الدنيا، وعز الآخرة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨)
أَنْ هي المفسرة: لأنّ النداء فيه معنى القول. والمعنى: قيل له بورك. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره: نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت:
لا، لأنه لا بدّ من «قد». فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة لا تحذف.
ومعنى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها. ومكانها:
البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ وتدل عليه قراءة أبىّ. تباركت الأرض ومن حولها. وعنه: بوركت النار، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر دينى فيها: وهو تكليم
الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبث آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة. وقيل: المراد بالمبارك فيهم: موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحى إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتا. فإن قلت: فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت:
هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٩]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
الهاء في إِنَّهُ يجوز أن يكون ضمير الشأن، والشأن أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر. والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعنى: أنّ مكلمك أنا، والله بيان لأنا. والعزيز الحكيم: صفتان للمبين، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة، يريد: أنا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصاحية، الفاعل كل ما أفعله تحكمة وتدبير.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
فإن قلت: علام عطف قوله وَأَلْقِ عَصاكَ؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك: كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى: قيل له بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك. والدليل على ذلك قوله تعالى وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليك أن حج وأن اعتمر، وإن شئت أن حج واعتمر. وقرأ الحسن: جأنّ على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين، فيقول: شأبّة ودأبّة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد: ولا الضألين وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع، يقال:
عقب المقاتل، إذا كرّ بعد الفرار. قال:
فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا «١»
وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وإِلَّا بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفى الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أى فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما، كما قال موسى رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي والحسن، والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقرئ: ألا من ظلم، بحرف التنبيه. وعن أبى عمرو في رواية عصمة: حسنا.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٢]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
وفِي تِسْعِ آياتٍ كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات إِلى فِرْعَوْنَ ونحوه:
فقلت إلى الطّعام فقال منهم فريق نحسد الإنس الطّعاما «٢»
ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك: في تسع آيات، أى: في جملة تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة: ثنتان منها اليد والعصا، والتسع:
الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٣]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣)
المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه، لقوله وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أو جعلت كأنها تبصر فتهدى، لأنّ العمى لا تقدر على الاهتداء، فضلا أن تهدى غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء،
(١). يصف قوما بالجبن، وإنهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها، أى: لم يقدموا مرة على العدو. وروى: إذ قيل، أى: حين ذلك. [.....]
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوى. ونحوه قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار. وقرأ علىّ بن الحسين رضى الله عنهما وقتادة: مبصرة، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة «١»، أى:
مكانا يكثر فيه التبصر.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٤]
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
الواو في وَاسْتَيْقَنَتْها واو الحال، وقد بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ وقرئ: عليا، وعليا بالضم والكسر، كما قرئ عتيا، وعتيا. وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من الإيقان، وقد قوبل بين المبصرة والمبين، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)
عِلْماً طائفة من العلم «٢» أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه «٣» والفضيلة وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا
(١). قوله «ومجفرة» في الصحاح «جفر الفحل عن الضراب» : إذا انقطع عنه. ومنه قيل: الصوم مجفرة، أى قاطع للنكاح. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه طائفة من العلم» قال أحمد: التبعيض والتقليل من التنكير، وكما يرد للتقليل من شأن المنكر، فكذلك يرد للتعظيم من شأنه كما مر آنفا في قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ولم يقبل الحكيم العليم. والغرض من التنكير التفخيم، كأنه قال: من لدن حكيم عليم، فظاهر قوله وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه، كأنه قال: علما أى علم، وهو كذلك، فان علمهما كان مما يستعظم ويستغرب، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات الذي خصهما الله تعالى به وكل علم بالاضافة إلى علم الله تعالى قليل ضئيل، والله أعلم.
(٣). قال محمود: «بجلا نعمة الله عليهما من حيث قولهما فَضَّلَنا وتواضعا بقولهما عَلى كَثِيرٍ ولم يقولا: على عباده، اعترافا بأن غيرهما يفضلهما، حذرا من الترفع.
والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه:
أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله، كما قال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وما سماهم رسول الله ﷺ «ورثة الأنبياء «١» » إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كل الناس أفقه من عمر «٢».
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٦]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه- وكانوا تسعة عشر- وكان داود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد.
وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه «٣» وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال يقول:
أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاوس، فقال يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد، فقال يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
(١). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان من حديث أبى الدرداء، من حديث رواه «من سلك طريقا يلتمس فيه علما وفيه: إن العلماء ورثة الأنبياء» وله طرق عند الطبراني. وفي الباب عن البراء وابن عمرو ابن العاص أخرجهما أبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف على الجاهل الشريف. وعن ابن مسعود أخرجه ابن حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وعن جابر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أحمد بن محمد الثلجى. وفي إسناده الضحاك بن حجزة. وهو متهم بوضع الحديث
(٢). تقدم في سورة النساء
(٣). قوله «هو ما يفهم بعضه من بعض معانيه» عبارة النسفي: والمنطق: كل ما يصوت من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض اه (ع)
وصاح طيطوى، فقال يقول: كل حىّ ميت، وكل جديد بال. وصاح خطاف فقال يقول:
قدّموا خيرا تجدوه. وصاحت رخمة، فقال تقول: سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمرى، فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى. وقال: الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه: والديك يقول:
اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول:
في البعد من الناس أنس. والضفدع يقول: سبحان ربى القدوس. وأراد بقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كثرة ما أوتى، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله ﷺ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر «١» » أى: أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني:
أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع- وكان ملكا مطاعا- فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه «٢» وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله ﷺ يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ. ألا ترى كيف أمر العباس رضى الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب «٣».
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٧]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
روى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس،
(١). تقدم في سورة يوسف
(٢). قوله «وإظهار آيينه» قيل: مراتبه وبهاؤه. وفي نسخة: أبهته، فليحرر. (ع)
(٣). أخرجه البخاري من رواية هشام بن عروة عن أبيه في قصة الفتح قال فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر مع النبي ﷺ كتيبة بعد كتيبة» وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتى آل داود يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم، أى: توقف سلاف العسكر «١» حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٨]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨)
قيل: هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت: لم عدّى أَتَوْا بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب:
ولشدّ ما قربت عليك الأنجم «٢»
لما كان قربا من فوق. والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ نملة يا أيها النمل، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم «السبع» في السبع. قيل: كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس «٣»، فنادت: يا أيها النمل: الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل: كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة
(١). قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)
(٢).
فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا ولشد ما قربت عليك الأنجم
لأبى الطيب المتنبي، طلب منه رجل المدح، فأبى وقال ذلك، واللام للتأكيد، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب، وأصله شدد كحسن، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم، كما هو قياس بناء التعجب، أى: ما أشد مجاوزتك لقدرك، يعنى: كثرت مجاوزتك لمقدارك، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة، وقال: عليك، دون:
إليك، لأن قرب الأنجم من جهة العلو، أى: كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية، ففيه شبه التورية.
(٣). قوله «تتكاوس» في الصحاح: كوسته على رأسه تكويسا، أى: قلبته، وكاس هو يكوس: إذا فعل ذلك. وكاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)
فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا- وهو غلام حدث-. فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة، «١» وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامه أنثى، وهو وهي. وقرئ: مسكنكم ولا يحطمنكم، بتخفيف النون، وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها. وأصله: يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت:
لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، والذي جوّز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٩]
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
ومعنى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه، يعنى أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام. وأما ما روى أن رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه «٢» فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك
(١). قال محمود «لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، فقال أبو حنيفة- وكان شابا-: سلوه عن النملة التي كلمت سليمان، أذكر كانت أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل:
كيف لك ذلك؟ قال: لأن الله عز وجل قال قالَتْ نَمْلَةٌ، ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة»
قال أحمد: لا أدرى العجب منه أم من أبى حنيفة أن يثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال: نملة ذكر ونملة أنثى، كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى، فلفظها مؤنث.
ومعناه محتمل، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها، وإن كانت واقعة على ذكر. بل هذا هو الفصيح المستعمل. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، وإنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشى عليه حكم، لأنه نسبه إلى الامام أبى حنيفة على بصيرته باللغة، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على غزارة علمه وتبصره بالمنقولات، ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له، فيا للعجب العجاب، والله الموفق للصواب. [.....]
(٢). وقعت في هذه الجملة عدة أحاديث. منها حديث ابن مسعود «جاء رجل من اليهود. فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على أصبع الحديث. وفيه فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» متفق عليه. ومنها حديثه مرفوعا «إنى لأعلم آخر أهل النار خروجا منها- الحديث. وفيه: قول الرجل: أتسخر بى وأنت الملك؟ قال: ولقد رأيت النبي ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه أيضا. ومنها حديث أبى ذر رضى الله عنه «يؤتى برجل يوم القيامة. فيقال اعرض عليه صغار ذنوبه- الحديث. وفيه: فلقد رأيت النبي ﷺ إلى آخره» أخرجه مسلم. ومنها حديث أبى سعيد- رفعه- «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة- الحديث. وفيه: فنظر إلينا رسول الله ﷺ ثم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه ومنها حديث جابر «دخل أبو بكر والقوم جلوس على الباب- فذكر الحديث وفيه: فقال عمر: لو رأيت بنت خارجة وهي تسألنى النفقة فقمت فوجأت عنقها. قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه» أخرجه مسلم. ومنها حديث ابن عمر رضى الله عنهما «كنا مع النبي ﷺ في غزوة فأصاب الناس مخمصة- الحديث. وفيه: فلم يبق في الجيش وعاء إلا مليء وبقي مقله. فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» أخرجه ابن حبان والحاكم. ومنها حديث سلمة بن الأكوع «قدمنا الحديبية- الحديث. وفيه:
قلت يا رسول الله، خلنى أنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم، فلا أبقى منهم أحدا إلا قتلته، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه»
وهو حديث طويل. وفيه هذه اللفظة في موضع آخر أخرجه مسلم. ومنها حديث زيد بن أرقم «أتى على رضى الله عنه- وهو باليمن- بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد- الحديث.
وفيه: فذكر ذلك للنبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه»
أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم.
ومنها حديث أم أيمن «قام رسول الله ﷺ بالليل، فبال في فخارة. فقمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أشعر فلما أصبح أمرنى أن أهريقها فقلت: إنى شربتها، فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه الحاكم. ومنها حديث صهيب في أكلة التمر وهو أرمد. فقال «إنما آكله من شق عينى الصحيحة. قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار بتمامه. وبعضه لابن ماجة والحاكم. ومنها حديث ابن عباس «كان عبد الله ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته. فقام إلى جارية له فوقع عليها- الحديث. وفيه: الشعر. وقول المرأة:
آمنت بالله وكذبت البصر. قال: فغدا على رسول الله ﷺ فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه»
أخرجه البزار وإسناده ضعيف.
356
النبوي، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميقع:
ضحكا، فان قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تعنى أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل «١» الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه»
لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة أَوْزِعْنِي اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عنى، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضى الله عنك وعن والديك. وروى
(١). قوله «ما همس به بعض الحكل» في الصحاح «الحكل» : ما لا يسمع له صوت. (ع)
(٢). قوله «وعلى استيفاقه لزيادة العمل» في الصحاح «استوفقت الله» : سألته التوفيق. (ع)
357
أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ واجعلنى من أهل الجنة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
أَمْ هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال ما لِيَ لا أَرَى على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره «١»، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه «٢»، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علىّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال:
بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال:
يا نبى الله، اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب
(١). قوله «تجهز للحج بحشره» في الصحاح: حشرت الناس أحشرهم حشرا: جمعتهم. ومنه: يوم الحشر. (ع)
(٢). قوله «وكان الهدهد قناقنه» القناقن- بالضم-: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القنى. والقنى:
جمع قناة. أفاده الصحاح في موضعين. (ع)
بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص.
وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة:
جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ: ليأتينى. وليأتينن. والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت:
قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتى بسلطان، حتى يقول والله ليأتينى بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ عن دراية وإيقان.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٢]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
فَمَكَثَ قرئ بفتح الكاف وضمها غَيْرَ بَعِيدٍ غير زمان بعيد، كقوله: عن قريب.
ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى أَحَطْتُ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما: أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. سبأ: قرئ بالصرف ومنعه. وقد روى بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية: سبا، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدى سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحىّ أو الأب الأكبر صرف. قال:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما «١»
وقال:
الواردون وتيم في ذرى سباء قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس «٢»
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق «٣» باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٣]
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)
المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في تَمْلِكُهُمْ راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها: كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين. وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض
(١). يمدح رجلا بأنه من قبيلة سبأ، وهو في الأصل اسم لابن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت به القبيلة ومأرب: مدينتها. وقيل: قصر لملكهم، وهو مفعول الحاضرين ممنوع من الصرف. وإذ ظرف. ومن دون بمعنى أمام. والعرم: السد العظيم، يحبس السيل عن المدينة.
(٢). أى الواردون هم، وتيم: اسم قبيلة في أعالى أرض سبأ. والمراد بجلد الجواميس: الحبال المفتولة منه لتغسل بها الأسرى في أعناقهم، فشبهت ما يصح منه العض لصلابتها على طريق المكنية، والعض تخييل، ويصح استعارته للقرص على طريق التصريحية، وسبأ- في الأصل-: لقب رجل من قحطان اسمه عبد شمس، لأنه أول من سبى كان له عشرة أولاد، فذهب ستة إلى اليمن: حمير، وكندة، والأسد، وأشعر، وقشعم، وبجيلة. وذهب أربعة إلى الشام: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وبها سميت قبائلهم المشهورة.
(٣). قوله «الذي يتعلق» لعله: التي تتعلق. (ع)
أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص «١» من يقف على قوله وَلَها عَرْشٌ ثم يبتدئ عَظِيمٌ وَجَدْتُها يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله. فإن قلت: كيف قال وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مع قول سليمان وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كأنه سوّى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما أوتى من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
فإن قلت: من أين للهدهد التهدى إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان، خصوصا في زمن نبىّ سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. من قرأ بالتشديد أراد: فصدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف، فهو ألا يسجدوا. ألا للتنبيه، ويا حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:
ألا يا أسلمي يا دار مىّ على البلى «٢»
(١). قوله «ومن نوكى القصاص» النوكى: جمع أنوك، وهو الأحمق. (ع)
(٢).
ألا يا أسلمي يا دار مى على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
لذي الرمة. وألا استفتاحية للتنبيه، فلا معنى ليا إلا النداء. والمنادى بها محذوف، تقديره: يا دارمى أسلمي، فاستغنى عنه بما بعده، وحذفه اهتماما بطلب السلامة لها. وفي تكرير ندائها: نوع تفجع. ومى: مرخم مية.
وترخيم المضاف إليه: ضرورة حسنها سبق النداء. وعلى: بمعنى مع، أى: اسلمي ولو كنت بالية، لأنه إن لم تبق الدار كفتني الآثار. ومنهلا: منصبا، والجرعاء: مؤنث الأجراع، وهو الموضع المختلط ترابه بالحصى. والقطر:
المطر، يدعو لها بالخصب.
361
وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش: هلا، وهلا: بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد الله: هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبىّ: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون وسمى المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه. وقرئ: الخب، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرّج على لغة من يقول في الوقف:
هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول:
الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ: يخفون ويعلنون، بالياء والتاء. وقيل: من أحطت إلى العظيم «١» : هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذى الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه «٢» ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله. فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟
قلت، هي واجبة فيهما جميعا، لأنّ مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة ص: فهي عند أبى حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر. وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ثم ابتدأ أَلَّا يَسْجُدُوا، وإن شاء وقف على «ألا يا» ثم ابتدأ «اسجدوا» وإذا شدّد لم يقف إلا على الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. فإن قلت: كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأنّ وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك.
ووصف عرش الله بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ:
العظيم، بالرفع.
(١). قوله «وقيل من أحطت إلى العظيم» في اللباب: أن الخلاف في: ألا يسجدوا- إلى- العظيم، ومال إليه في التقريب اه من هامش (ع)
(٢). قوله «في روائه» بالضم، أى: منظره. أفاده الصحاح. (ع)
362

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]

قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
سَنَنْظُرُ من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا لا محالة، وإذا كان كاذبا اتهم بالكذب فيم أخبر به فلم يوثق به، «١» تَوَلَّ عَنْهُمْ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك. ويَرْجِعُونَ من قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ فيقال: دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة.
فإن قلت: لم قال: فألقه إليهم، على لفظ الجمع؟ قلت: لأنه قال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره.
وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
كَرِيمٌ حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم.
قال صلى الله عليه وسلم: «كرم الكتاب ختمه «٢» » وكان ﷺ يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما «٣». وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وقيل: مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم: هو استئناف وتبيين لما ألقى إليها، كأنها لما قالت: إنى ألقى إلىّ كتاب كريم، قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟
فقالت: إنه من سليمان وإنه: كيت وكيت. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان وإنه. عطفا على:
إنى. وقرئ: أنه من سليمان وأنه، بالفتح على أنه بدل من كتاب، كأنه قيل: ألقى إلىّ أنه من سليمان. ويجوز أن تريد: لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان، وتصديره
(١). قال محمود: «معناه أصدقت أم كذبت، إلا أن عبارة الآية أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالكذب اتهم في جملة إخباره فلم يوثق به» قال أحمد: وهذا مما نبهت عليه في سورة الشعراء من العدول عن الفعل الذي هو: أم كذبت، وعن مجرد صفته في قوله: أم كنت كاذبا، إلى جعله واحدا من الفئة الموسومة بالكذب، فهو أبلغ في مقصود سياق الآية من التهديد، والله أعلم.
(٢). أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية محمد بن مروان. وهو السدى الصغير عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وأخرجه القضاعي في مسند البيهقي. [.....]
(٣). متفق عليه من رواية قتادة عن أنس قال: أراد أن يكتب... فذكره.
باسم الله. وقرأ أبىّ: أن من سليمان وأن بسم الله، على أن المفسرة. وأن في أَلَّا تَعْلُوا مفسرة أيضا. لا تعلوا: لا تتكبروا كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما بالغين معجمة من الغلو: وهو مجاوزة الحد. يروى أنّ نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علىّ وائتوني مسلمين، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية. وقيل: نقرها فانتبهت فزعة. وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، وقالت لقومها ما قالت مُسْلِمِينَ منقادين أو مؤمنين.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٢]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)
الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن. والمراد بالفتوى هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأى والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم: استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها قاطِعَةً أَمْراً فاصلة. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: قاضية أى لا أبت أمرا إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: كل واحد على عشرة آلاف.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٣]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
أرادوا بالقوة: قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أى هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك.
كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير، فانظرى ماذا ترين: نتبع رأيك.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)
364
لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأى الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وقهرا أَفْسَدُوها أى خرّبوها- ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة-، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأى السديد.
وقيل: هو تصديق من الله لقولها، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ أى مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها عن ملكي فَناظِرَةٌ ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، فروى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهنّ الأساور والأطواق. والقرطة «١» راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك «٢» في زى الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درّة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر بن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرّة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبىّ، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسىّ من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا: بهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟
(١). قوله «والقرطة» واحدها: قرط. (ع)
(٢). قوله «على رماك» هي إناث الخيل. (ع)
365
وقال: أبن الحقّ؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها، فجعل رزقها في الشجرة. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وقال للمنذر:
أرجع إليهم، فقالت: هو نبىّ وما لنا به طاقة، فشخصت إليه في اثنى عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: فلما جاءوا. أَتُمِدُّونَنِ وقرئ بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وبالإدغام، كقوله أَتُحاجُّونِّي وبنون واحدة: أتمدوني. الهدية:
اسم المهدى، كما أن العطية اسم المعطى، فتضاف إلى المهدى والمهدى إليه، تقول هذه هدية فلان، تريد: هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به بَلْ أَنْتُمْ قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تَفْرَحُونَ بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالى خلاف حالكم، وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية. فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدني بمال وأنا أغنى منك، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عليه حالى، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأنى أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإنى غنى عنه. وعليه ورد قوله فَما آتانِيَ اللَّهُ. فإن قلت:
فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه: وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح، إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدى، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها.
ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٧]
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
ارْجِعْ خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملا كتابا آخر لا قِبَلَ لا طاقة.
وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة، أى: لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: لا قبل لهم بهم. الضمير في منها لسبأ. والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك.
والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٨]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨)
يروى أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها. وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه، ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها. وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها. وقيل. أراد أن يؤتى به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختبارا لعقلها.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٩]
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)
وقرئ: عفرية. والعفر، والعفريت، والعفرية، والعفراة، والعفارية من الرجال:
الخبيث المنكر، الذي يعفر أقرانه. ومن الشياطين: الخبيث المارد. وقالوا: كان اسمه ذكوان لَقَوِيٌّ على حمله أَمِينٌ آتى به كما هو لا أختزل منه شيئا ولا أبد له.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤٠]
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ رجل كان عنده اسم الله الأعظم، وهو يا حى يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وعن الحسن رضى الله. عنه: الله. والرحمن. وقيل هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام، وكان صدّيقا عالما. وقيل: اسمه أسطوم. وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان.
وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول.
وعن ابن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام: علم من الكتاب: من الكتاب المنزل، وهو
علم الوحى والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام. وآتيك- في الموضعين- يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل. الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر «١»
وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك: ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك. فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن. ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبغ «٢» عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله، قبل أن يردّ طرفه. ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردّة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة. يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد.
وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت «٣» ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا غَنِيٌّ عن الشكر كَرِيمٌ بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكرا لربه، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣)
(١).
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
لأعرابية، نظرها أعرابى فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها، كأنه يراودها عن نفسها، فأجابته بذلك وقيل: هو لشاعر حماسى. وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب، على طريق التصريحية، ورائدا ترشيح، لأنه يلائم الإرسال. ويوما: ظرف له. والمناظر: مواقع النظر، واستدل على إتعابها إياه بقوله: رأيت الذي لا تملكه كله ولا تصبر عن بعضه، فكانت عينك سببا لوقوع قلبك في حيرة الهوى وحرقة الجوى.
(٢). قوله «ثم نبغ عند مجلس سليمان» في الصحاح «نبغ الشيء» : ظهر. (ع)
(٣). قوله «وقلما أقشعت» أى: أقلعت، أفاده الصحاح. (ع)
368
نَكِّرُوا اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه.
قالوا: وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره، وأعلاه أسفله. وقرئ: ننظر، بالجزم على الجواب، وبالرفع على الاستئناف أَتَهْتَدِي لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والايمان بنبوّة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرس. هكذا ثلاث كلمات: حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. لم يقل: أهذا عرشك، ولكن: أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل: هو هو، ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقع في المحتمل «١» وَأُوتِينَا الْعِلْمَ من كلام سليمان وملئه: فإن قلت: علام عطف هذا الكلام، وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام- الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به- مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم وَأُوتِينَا الْعِلْمَ نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو: قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل «٢»، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها- عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل على دين الإسلام شكرا لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وَصَدَّها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهر انى الكفرة، ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان
(١). قال محمود: «لم يقل أهذا عرشك، لئلا يكون تلقينا، قالت. كأنه هو ولم تقل هو هو، ولا ليس بهو وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقع في المحتمل، قال أحمد: وفي قولها كَأَنَّهُ هُوَ وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال، بأن تقول: هكذا هو، نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلا العبارتين تشبيه، إذ كاف التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الاشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما- أعنى اسم الاشارة والمضمر- واقع على الذات المشبهة، وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى، ويفضل قولها هكذا هو بمطابقته للسؤال، فلا بد في اختيار كَأَنَّهُ هُوَ من حكمة فنقول: حكمته والله أعلم: أن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين، فكاد يقول: هو هو، وتلك حال بلقيس. وأما هكذا هو، فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير، فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها والله أعلم. وقول الزمخشري: ولا ليس بهو، إن كان من قوله فوهم، والصواب: ولا ليس به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢). قوله «وطبقت المفصل»
لعله: وطابقت. (ع)
369
عليه السلام قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، تعنى: ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام، ثم قال الله تعالى: وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله- أو سليمان- عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
وقرئ: أنها، بالفتح على أنه بدل من فاعل صد. أو بمعنى لأنها.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤٤]
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
الصرح: القصر. وقيل: صحن الدار. وقرأ ابن كثير: سأقيها، بالهمزة. ووجهه أنه سمع:
سؤقا، فأجرى عليه الواحد. والممرد: المملس، وروى أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره، وتحققا لنبوته، وثباتا على الدين. وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم، لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع، فقالوا له: إن في عقلها شيئا، وهي شعراء الساقين، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما لا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة: أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان عليه السلام وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان «١»، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له. وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان، وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان لَمْتُ نَفْسِي
تريد بكفرها فيما تقدّم، وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنى بسليمان عليه السلام.
(١). قوله «فبنوا لها سيلحين وغمدان» في الصحاح «سيلحون» : قرية. وفيه في فصل «نصب» : أن للعرب في نصيبين ونحوه كبيرين وفلسطين وسيلحين وباسمين وقنسرين: مذهبين، أحدهما: لزوم الياء وإعراب ما لا ينصرف. والثاني: إعراب الجمع بالياء والنون نصبا وجرا، وبالواو والنون رفعا. وفي فصل «غمد» : غمدان:
قصر باليمن. وفي فصل «صنع» المصانع: الحصون. (ع)

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦)
وقرئ: أن اعبدوا، بالضم على إتباع النون الباء فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر.
وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد يَخْتَصِمُونَ يقول كل فريق: الحق معى. السيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة، فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون لجهلهم: إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا- مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت-. وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم، ثم قال لهم: هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلا فيما اعتقدوه.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤٧]
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
وكان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحا «١» تيمن، وإن مر بارحا تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أى: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا:
اطيرنا بكم، أى: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أى سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد:
عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل. عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. وقرئ: تطيرنا بكم، على الأصل. ومعنى: تطير به: تشاءم به.
وتطير منه: نفر منه تُفْتَنُونَ تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٨ الى ٥٣]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
(١). قوله «فان مرّ سانحا تيمن... الخ» السانح: ما ولاك ميامنه من ظنى أو طائر أو غيرهما، بأن يمر من مياسرك إلى ميامنك. والبارح: ما ولاك مياسره بأن يمر من ميامنك إلى مياسرك، كذا في الصحاح. (ع)
371
الْمَدِينَةِ الحجر. وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة.
والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب. غنم بن غنم. رباب بن مهرج. مصدع بن مهرج. عمير بن كردبة. عاصم بن مخرمة. سبيط بن صدقة. سمعان بن صفى.
قدار بن سالف: وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم وَلا يُصْلِحُونَ يعنى أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح تَقاسَمُوا يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد، أى: قالوا متقاسمين: وقرئ: تقسموا. وقرئ: لتبيتنه، بالتاء والياء والنون، فتقاسموا- مع النون والتاء- يصح فيه الوجهان. ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا.
والتقاسم، والتقسم: كالتظاهر، والتظهر: التحالف. والبيات: مباغتة العدو ليلا «١». وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك «٢» استراق الظفر، وقرئ: مهلك بفتح الميم واللام وكسرها من هلك. ومهلك بضم الميم من أهلك. ويحتمل المصدر والزمان والمكان، فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه «٣» ؟ قلت كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا
(١). قوله «والبيات مباغتة العدو ليلا» في الصحاح «بيت العدو» أى: أوقع بهم ليلا، والاسم: البيات. (ع)
(٢). قوله «ليس من آيين الملوك» تقدم آنفا أنه قيل: آيين الملك: مراتبه وبهاؤه، كما وجد بهامش. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله وجمعوا بين البياتين جميعا لا أحدهما كانوا صادقين، وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا تراهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق حيلة يتفصون بها عن الكذب»
قال أحمد: وحيلة الزمخشري لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل أقرب من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرا، لأن غرضه من تمهيد حيلتهم أن يستشهد على صحة القاعدة المذكورة في موافقة قوم لوط عليها، إذ استقبحوا الكذب بعقولهم لا بالشرع. وأنى يتم له ذلك أو لهم، وهم كاذبون صريح الكذب في قولهم ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وذلك أنهم فعلوا الأمرين، ومن فعل الأمرين فجحد فعل أحدهما لم يكن في فريته مرية، وإنما كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعي عليهم فعل أمرين، فجحدوا المجموع. ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا، فضرب زيدا وعمرا: كان حانثا، بخلاف الحالف لا أضرب زيدا وعمرا فضرب عمرا، ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما، فان مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه، فإذا تمهد أن هؤلاء كاذبون صراحا في قولهم ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب، فلا يخلو أمرهم أن يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة، مع القطع بأنها ليست حيلة، ولا شبهة لقرب جحدهم من الصدق، فيبطل ما قال الزمخشري لاثبات قاعدة دينه على زعمه، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد عقائد القدرية، بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها، فحسبه ما رضى به لدينه، والسلام.
372
ما شهدنا مهلك أهله، فذكروا أحدهما: كانوا صادقين، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب «١». مكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلى فيه، فقالوا: زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب «٢» حيالهم، فبادروا، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا منهم في مكانه، ونجى صالحا ومن معه. وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون راميا أَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره:
هي تدميرهم. أو نصبه على معنى: لأنا. أو على أنه خبر كان، أى: كان عاقبة مكرهم الدمار خاوِيَةً حال عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
وَاذكر لُوطاً أو أرسلنا لوطا لدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عليه. وإِذْ بدل على
(١). قوله «حيلة يتفصون بها عن الكذب» في الصحاح «فصا الإنسان» : إذا تخلص من البلية والضيق، وتفصيت من الديون: إذا خرجت منها وتخلصت. (ع) [.....]
(٢). قوله «صخرة من الهضب حيالهم» أى من المطر المتتابع مطرة بعد مطرة، وقعد حياله: أى إزاءه.
وأصله الواو، أفاده الصحاح. (ع)
الأول ظرف على الثاني وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ من بصر القلب، أى: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عباده، لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وانهما كافى المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتى وذرني من الكنى فلا خير في اللّذّات من دونها ستر «١»
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: تَجْهَلُونَ صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
وقرأ الأعمش: جواب قومه، بالرفع. والمشهورة أحسن يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو استهزاء قَدَّرْناها قدّرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ كقوله قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.
(١).
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى وذرني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
لأبى نواس. وألا استفتاحية للتنبيه، فكأنه قال: تنبيه فاسقني. وقل لي هي الخمر: أى اجهر باسمها. وقوله: إذا أمكن الجهر: احترس- وباح الشيء: ظهر، وباح به: أظهره، أى: أظهر اسم من تحب كما تبوح باسم الخمر. ويروى وبح باسم ما تأتى، أى: ما تفعل. ودعني: أى اتركني: ضمنه معنى باعدنى فعداه بمن، كناية عن نهيه عن ذكر الكنى: جمع كنية: وهو ما دل على الشيء دلالة خفية، وشبه العبارة الخفية بالستر الحائل تصريحا.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أمر رسوله ﷺ أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله ﷺ أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم. معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت «١» وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطإ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجرى تحته. ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في موضع آخر ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء. وقرئ: يشركون بالياء والتاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم «٢» ».
(١). قال محمود: «معلوم أن لا خير فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت» قال أحمد: كلام مرضى بعد أن تضع خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مكان قوله «خالق كل خير» فانه تخصيص قدرى: أو إشراك خفى. والتوحيد الأبلج: ما قلناه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢). كذا ذكره الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه البيهقي في الشعب في الباب التاسع من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر قال «كان على بن الحسين يذكر أن النبي ﷺ إذا ختم القرآن- فذكر حديثا طويلا- وفيه والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون؟ بل الله خير وأجل وأبقى وأكرم وأعظم مما يشركون».

[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٠]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ وأَمَّنْ خَلَقَ؟ قلت: تلك متصلة، لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله تعالى: آلله خير أم الآلهة؟
قال: بل أمّن خلق السماوات والأرض خير؟ تقريرا لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء. وقرأ الأعمش: أمن، بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلا من الله، كأنه قال: أمّن خلق السماوات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أى نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتى ذلك محال من غيره، وكذلك قوله بَلْ هُمْ بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو الإحاطة. وقيل ذاتَ، لأنّ المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، لأنّ الناظر يبتهج به أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. وقرئ: أإلها مع الله، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدّة، وتخرج الثانية بين بين يَعْدِلُونَ به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)
أَمَّنْ جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ فكان حكمهما حكم قَراراً دحاها وسوّاها بالاستقرار عليها حاجِزاً كقوله: برزخا.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٢]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢)
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا.
والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو المجهود. وعن السدّى: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب»
؟ قلت، الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقا، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ: يذكرون، بالياء مع الإدغام. وبالتاء مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أى: يذكرون تذكرا قليلا. والمعنى: نفى التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٣]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
يَهْدِيكُمْ بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٤]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
فإن قلت: كيف قيل لهم أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة؟ قلت:
قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار مِنَ السَّماءِ الماء وَمن الْأَرْضِ النبات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ مع الله إلها، فأين دليلكم عليه؟
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٥]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
(١). قال محمود «إن قلت فكم من مضطر لإيجاب؟ قلت: الاجابة موقوفة على كون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة» قال أحمد: الصواب أن الاجابة مقرونة بالمشيئة لا بالمصلحة، وإنما تقف الاجابة على المصلحة عند القدرية، لايجابهم على الله تعالى رعاية المصالح، فقول الزمخشري: لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطا فيه المصلحة: فاسد فان المشيئة شرط في إجابة الدعاء اتفاقا، ومع ذلك نهى النبي ﷺ أن يقول الداعي: اللهم اغفر لي إن شئت.
377
فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت:
جاء على لغة بنى تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنّ أحدا لم يذكر. ومنه قوله:
عشيّة ما تغنى الرّماح مكانها... ولا النّبل إلّا المشرفي المصمّم «١»
وقولهم: ما أتانى زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سرية «٢». حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعنى: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت «٣» : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوّها عن الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أنّ الله ممن في السماوات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة، على أنّ قولك: من في السماوات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال ﷺ لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئس خطيب القوم أنت «٤» » وعن عائشة رضى الله عنها: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية «٥»، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
(١). النبل: السهام العربية. والمشرفي: السيف، نسبة لمشارف اليمن. والمصمم: الماضي النافذ لصلابته، وكانت عادة المتحاربين التناضل بالسهام عند التباعد، فإذا تقاربوا تحاربوا بالرماح، فإذا التقوا تضاربوا بالسيوف.
وذكر النبل بعد الرماح لدفع توهم بعد العدو، فكأن النبل يغنى عن غيره، فالبيت كناية عن شدة الأمر واختلاط الصفين. وضمير مكانها للحرب أو للسيوف، والاستثناء منقطع بعد النفي، ويجب نصبه عند الحجازيين. ويجوز رفعه كما هنا عند التميميين: إما على البدل، أو على توهم أن المستثنى منه غير مذكور، وأن العامل مفرغ لما بعد «إلا».
(٢). قوله «دعت إليه نكتة سرية» لعله بزنة فعيلة، فيكون بمعنى شريفة. (ع)
(٣). قوله: «معنى ما في البيت» هو قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس (ع)
(٤). أخرجه مسلم من حديث عدى بن حاتم.
(٥). متفق عليه من حديثها في أثناء حديث.
378
وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله ﷺ عن وقت الساعة أَيَّانَ بمعنى متى، ولو سمى به: لكان فعالا، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٦]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
وقرئ: بل أدّرك. بل ادّراك. بل ادّارك. بل تدارك. بل أأدرك، بهمزتين. بل آأدرك، بألف بينهما. بل أدرك، بالتخفيف والنقل. بل ادّرك، بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله:
بل أدّرك؟ على الاستفهام. بلى أدرك. بلى أأدرك. أم تدارك. أم أدرك، فهذه ثنتا عشرة قراءة. وادّارك: أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادّرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم:
انتهى وتكامل. وادّرك: تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ: يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟
قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بيانا لعجزهم ووصفا لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون- وهو وقت جزاء أعمالهم-: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته:
وفي: أدرك علمهم، وادارك علمهم: وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضى الله عنه باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. فإن قلت: فمن قرأ:
بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله وَما يَشْعُرُونَ كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفى العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفى الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن فِي الْآخِرَةِ في شأن الآخرة ومعناها فإن قلت، هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا.
ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن، لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
العامل في إِذا ما دلّ عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وهو نخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل «١» فيه عقابا وهي همزة الاستفهام، وإن ولام الابتداء وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟
والمراد: الإخراج من الأرض. أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على «إذا» و «إن» جميعا إنكار على إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والضمير في إِنَّا لهم ولآبائهم، لأنّ كونهم ترابا قد تناولهم وآباءهم. فإن قلت: قدّم في هذه الآية هذا على نَحْنُ وَآباؤُنا وفي آية أخرى فدّم نَحْنُ وَآباؤُنا على هذا؟ قلت.
التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر، وإن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد.
(١). قوله «اسم الفاعل فيه عقابا» لعله اسم المفعول وعقابا جمع عقبة. أفاده الصحاح. وعبارة النسفي: لأن اسم الفاعل والمفعول- بعد همزة الاستفهام أو أن أو لام الابتداء- لا يعمل فيما قبله، فكيف إذا اجتمعن. (ع)

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقى، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ وقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لأنهم لم يتبعوك، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش، كقوله تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً. فِي ضَيْقٍ في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا: تخفيف الضيق. قال الله تعالى ضَيِّقاً حَرَجاً قرئ مخففا ومثقلا ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدى. بمن قال:
فلمّا ردفنا من عمير وصحبه تولّوا سراعا والمنيّة تعنق «١»
يعنى: دنونا من عمير، وقرأ الأعرج: ردف لكم، بوزن ذهب، وهما لغتان، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف- في وعد الملوك ووعيدهم- يدل على صدق الأمر وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده، وإنما يعنون بذلك: إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
(١). ردف كتبع يتعدى بنفسه، وضمن هنا معنى الدنو فعدى بمن، وأعنق الفرس: سار سيرا سريعا سهلا.
والعنق: اسم منه يقول: فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين، والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا. شبه المنية بالأسد على طريق المكنية، فأثبت لها العنق تخييلا، كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال. ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح، أى: ونحن نسرع خلفهم، فذكر العنق تجريد، لأنه يلائم المشبه.

[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٣]

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣)
الفضل والفاضلة: الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه: أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأنه لا يعاجلهم بها، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب: وهم قريش.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٤]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤)
قرئ تكنّ. يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعنى: أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله ﷺ ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٥]
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
سمى الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة.
ونظائرهما: النطيحة، والرمية، والذبيحة: في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى لِلْمُؤْمِنِينَ لمن أنصف منهم وآمن، أى: من بنى إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٨]
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
بَيْنَهُمْ بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت: ما معنى يقضى بحكمه؟ ولا يقال:
زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت: معناه بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضى إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته- وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه-: جمع حكمة. وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يردّ قضاؤه الْعَلِيمُ بمن يقضى له وبمن يقضى عليه، أو العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٩ الى ٨١]

فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته.
وأن مثله لا يخذل. فإن قلت: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل، فما وجه ذلك؟ قلت: ؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله ﷺ من جهة المشركين وأهل الكتاب: من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله- فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع-: كانت حالهم- لانتفاء جدوى السماع-: كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ: ولا يسمع الصمّ، وما أنت بهاد العمى، على الأصل. وتهدى العمى. وعن ابن مسعود: وما أن تهدى العمى، وهداه عن الضلال.
كقولك: سقاه عن العيمة «١» أى: أبعده عنها بالسقى، وأبعده عن الضلال بالهدى إِنْ تُسْمِعُ أى ما يجدى إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أى: يصدقون بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ أى مخلصون من قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعنى: جعله سالما لله خالصا له.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
سمى معنى القول ومؤداه بالقول، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه:
حصوله. والمراد: مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض:
(١). قوله «سقاه عن العيمة» هي شهوة اللبن كما في الصحاح. (ع)
383
الجساسة. جاء في الحديث: أنّ طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب «١».
وروى: لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إبل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّ، وذنب كبش، وخف بعير. وما بين المفصلين: اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام.
وروى: لا تخرج إلا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء «٢»، أو يبلغ السحاب. وعن أبى هريرة:
فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضى الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل: من أين تخرج الدابة؟ فقال «من أعظم المساجد حرمة على الله «٣» » يعنى المسجد الحرام. وروى: أنها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق «٤» فتقول أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ يعنى أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي، لأنّ خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدى: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضى الله عنه: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المشرق، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروى: تخرج من أجياد «٥».
وروى: بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام، فتنكت نكتة
(١). أخرجه الثعلبي من حديث حذيفة دون قوله «وهي الجساسة» وسيأتى بعضه للحاكم وغيره في الذي بعده. [.....]
(٢). قوله «ورأسها يبلغ أعنان السماء» في الصحاح «أعنان السماء» : صفائحها وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عنن. والعامة تقول: عنان السماء. (ع)
(٣). أخرجه الطبري من طريق ربعي عن حذيفة بن اليمان: «ذكر رسول الله ﷺ الدابة فقلت يا رسول الله، من أين تخرج؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله... الحديث» وروى الحاكم والبيهقي في الشعب وإسحاق في مسنده وابن مردويه من حديث أبى الطفيل عن حذيفة عن أسيد رفعه قال «يكون للدابة ثلاث خرجات- إلى أن قال: بينما الناس في أعظم المساجد حرمة وخيرها وأكرمها: المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام... الحديث وفيه: ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب. ولا يفوتها هارب» وفي الباب عن ابن عباس: أخرجه ابن مردويه مطولا.
(٤). قوله «بلسان ذلق» أى طلق، كما في الصحاح. (ع)
(٥). قوله «تخرج من أجياد» جبل بمكة، سمى بذلك لموضع خيل تبع، وسمى «قعيقعان» لموضع سلاحه. (ع)
384
بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّى، وتكتب بين عينيه: مؤمن: وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه: كافر. وروى: فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثم تقول لهم:
يا فلان، أنت من أهل الجنة. ويا فلان، أنت من أهل النار. وقرئ: تكلمهم، من الكلم وهو الجرح. والمراد به: الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا، على معنى التكثير. يقال: فلان مكلم، أى مجرّح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم: التجريح، كما فسر: لنحرقنه، بقراءة علىّ رضى الله عنه: لنحرقنه، وأن يستدل بقراءة أبىّ: تنبئهم. وبقراءة ابن مسعود: تكلمهم بأنّ الناس، على أنه من الكلام. والقراءة بإن مكسورة: حكاية لقول الدابة، إما لأنّ الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول، أى:
تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت: إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت: قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه: أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك:
خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أى: تكلمهم بأن.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٣]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)
فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّ لهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله فَوْجاً فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أبو جهل والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت: أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت:
الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين، كقوله مِنَ الْأَوْثانِ.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥)
الواو للحال، كأنه قال: أكذبتم بها بادىء الرأى من غير فكر ولا نظر يؤدى إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب. أو للعطف، أى: أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك- وقد عرفته رويعي سوء-: أتأكل نعمى، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك: أم ماذا تعمل بها، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته «١» وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والإصلاح، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد: أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها، وذلك قوله وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كقوله تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٦]
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله لِيَسْكُنُوا ومُبْصِراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٧]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
فإن قلت: لم قيل فَفَزِعَ دون فيفزع؟ قلت: لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السماوات والأرض، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت- عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وعن الضحاك: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى عليه السلام، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. وقرئ: أتوه. وأتاه. ودخرين، فالجمع
(١). قوله «لتبهته» أى تدهشه وتحيره (ع)
على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر: الصاغر. وقيل: مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
جامِدَةً من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد وَهِيَ تَمُرُّ مرّا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد: إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها، كما قال النابغة في صفة جيش:
بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم وقوف لحاج والرّكاب تهملج «١»
صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة، كقوله وَعَدَ اللَّهُ. وصِبْغَةَ اللَّهِ إلا أن مؤكدة محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى: ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: صنع الله، يريد به: الإثابة والمعاقبة. وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: صنع الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعنى أنّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب: من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلى آخر الآيتين، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، «٢» وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق «٣». ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب
(١). للنابغة. والأرعن: الجبل العالي. والطود: الجبل العظيم، فاستعار الأرعن للجيش، ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. والحاج: اسم جمع واحده حاجة. والركاب: المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة:
السير الرهو السهل، فارسى معرب. والهملاج: السريع. يقول: حاربنا العدو يجيش عظيم، تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم، والحال أن ركابهم تسرع السير.
(٢). قوله «ومكانة إضماده ورصانة تفسيره» الذي في الصحاح «ضمد الجرح، يضمده ضمدا» : شده بعصابة وفيه «الرصين» المحكم الثابت. وقد رصن- بالضم- رصانة. (ع)
(٣). قوله «وأخرس الشقاشق» في الصحاح «شقشق الفحل شقشقة» : هدر. وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة، فإنما يشبه بالفحل. (ع)
كلام، جاء كالشاهد بصحته والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان.
ألا ترى إلى قوله: صُنْعَ اللَّهِ، وصِبْغَةَ اللَّهِ، ووَعَدَ اللَّهُ، وفِطْرَتَ اللَّهِ: بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، لا يخلف الله الميعاد لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ وقرئ: تفعلون، على الخطاب. فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل: فله خير منها، أى: له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ:
يَوْمَئِذٍ مفتوحا مع الإضافة، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين فزع. فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأوّل: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب «١» وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية.
وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ مِنْ فَزَعٍ بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه، لأنّ البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. أمن: يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ. وقيل: السيئة: الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة، فكأنه قيل: فكبوا في النار، كقوله تعالى فَكُبْكِبُوا فِيها ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين هَلْ تُجْزَوْنَ يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
أمر رسوله بأن يقول أُمِرْتُ أن أخص الله وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ من التلاوة أو التلوّ كقوله وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ. والبلدة: مكة حرسها الله تعالى: اختصها من بين سائر.
(١). قوله «وقلب وجاب» في الصحاح «وجب القلب وجيبا» : اضطرب. (ع)
388
البلاد بإضافة اسمه إليها، لأنها أحبّ بلاده إليه، وأكرمها عليه، وأعظمها عنده. وهكذا قال النبي ﷺ حين خرج في مهاجره، فلما بلغ الحزورة «١» استقبلها بوجهه الكريم فقال: «إنى أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله. ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت» «٢» وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها «٣»، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن. وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء «٤» : اللهم بارك لنا في سكناها، وآمنا فيها شرّ كل ذى شرّ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ: التي حرّمها. واتل عليهم هذا القرآن: عن أبىّ وأن أتل: عن ابن مسعود. فَمَنِ اهْتَدى باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفى الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علىّ من الوحى، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ وَمَنْ ضَلَّ ولم يتبعني فلا علىّ، وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول
(١). قوله «فلما بلغ الحزورة» هي تل صغير كما في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة والدارمي وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل. كلهم من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال «رأيت رسول الله ﷺ واقفا على الحزورة وهو يقول: والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله. ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواه عقيل ويونس وشعيب وصالح بن كيسان عنه. ورواه ابن أخى الزهري عن عمه عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدى بن الخيار: أخرجه الطبراني. وصححه الدارقطني لوجهين. ورواه النسائي وإسحاق والبزار والبيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة. ولفظه للبيهقي «ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» قال البزار: تفرديه معمر هكذا.
وقال البيهقي: وهم فيه معمر وقال الترمذي: رواه محمد بن عمر بن أبى سلمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقول الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى أصح. وقال البيهقي أيضا: ورواية محمد بن عمرو وهم. وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه الترمذي من رواية ابن خثيم عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل جميعا فيه نحو «ما أطيبك من يلد وأحبك إلىّ. ولولا أن قومي أخرجونى منك ما سكنت غيرك».
(٣). قوله «لا يختلى خلاها... الخ» : أى لا يجز حشيشها، ولا يقطع شجرها. (ع)
(٤). قال محمود: «المراد بالبلدة مكة وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها، لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كل شيء إنه لعظيم الشأن» قال أحمد: وتحت قوله وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ: فائدة أخرى سوى ذلك، وهي أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفا لها، أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه، قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها، وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف، لا لأنها ملك الله تعالى خاصة، والله أعلم.
389
إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعنى في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي: الدخان، وانشقاق القمر. وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل: هو كقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الآية وكل عمل يعملونه، فالله عالم به غير غافل عنه لأنّ، الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات «١»، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ: تعملون، بالتاء والياء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ طس سليمان: كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادى لا إله إلا الله» «٢».
(١). قال محمود: «لأن العالم بالذات لا يجوز عليه الغفلة» قال أحمد: قد سبق له جحد صفة العلم، وإيهام أن سلبها داخل في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللة بأنه عالم بالذات لا بعلم، والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بل هو علم قديم أزلى عام التعليق بجميع الواجبات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه تعالى على تعطيل صفاته وكماله وجلاله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [.....]
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
390
Icon