تفسير سورة الأحزاب

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الأحزاب
مدنية بالإجماع، ثلاث وسبعون آية، ألف ومائتان وثمانون كلمة، خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفا
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهرين بالكفر، وَالْمُنْفِقِينَ المضمرين له.
نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي. وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، رأس المنافقين، بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم- وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه- ارفض ذكر آلهتنا اللات، والعزى، ومناة وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فسق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال: «إني أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) أي مبالغا في العلم والحكمة، فيعلم جميع الأشياء من المصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عن ما فيه مفسدة، ولا يحكم إلا بما يقتضيه الحكمة البالغة، وَاتَّبِعْ في كل ما تأتي وما تذر من أمور الدين ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) فلا تهتم بشأنهم فإن الله تعالى كافيكه.
وقرأ أبو عمرو «بما يعملون» بالغيبة، فالواو ضمير يعود على الكفرة والمنافقين وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣) أي حافظا موكولا إليه كل الأمور. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كان رجلا لبيبا، حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين بوم بدر انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا. فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى
245
في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي
كأمهاتكم في الحرام.
نزلت هذه الآية في أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت وامرأته خولة. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ الذين تبنيتم أَبْناءَكُمْ أي كأبنائكم من النسب.
وقرأ عاصم «تظاهرون» بضم التاء وفتح الظاء مع المد وكسر الهاء، وحمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مع المد والتخفيف وفتح الهاء، وابن عامر كذلك، إلا أنه يشدد الظاء. والباقون بفتح التاء والظاء والهاء المشددتين ولا ألف بعد الظاء.
روى الأئمة عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، وكان زيد فيما روى عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشام بستة خيل من تهامة، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه، وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيّراه، فإن اختاركما فهو لكما دون فداء». فاختار الرق مع رسول الله على حريته وقومه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه». وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم، فرضي بذلك عمه وأبوه وانصرفا
، ذلِكُمْ أي دعاؤكم بقولكم: هذا ابني قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط فهو قول لا حقيقة له، ولا يخرج من قلب ولا يدخل في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فإن العاقل ينبغي أن يكون قومه له، إما عن عقل أو عن شرع، فإذا قال: فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو عن شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكان الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول:
إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به، لأن أباه ظاهر مشهور. ومن قال: إن تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب لم يكن حسنا، لأنها زوجة الابن يكون قد ترك قول الله الحق هي حلال لك وقد أخذ بقول خرج من الفم. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) أي سبيل الحق فدعوا أقوالكم وخذوا بقول تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي الدعاء لآبائهم بالغ في العدل في حكم الله تعالى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي بنو عمكم، أي فإن لم تعرفوا أبا شخص تنسبونه إليه وأردتم خطابه فقولوا له: يا أخي، ويا ابن عمي.
ويقال: فادعوهم باسم إخوانكم في الدين كأن تقولوا: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم، وعبد الرزاق وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ بالسهو أو سبق اللسان فقول القائل لغيره: يا ابني، بطريق الشفقة أو يا أبي، بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فيه جناح وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً
246
رَحِيماً
(٥) يغفر الذنوب ويرحم المذنب فالمغفرة هو أن يستر القادر القبيح، الصادر ممن تحت قدرته والرحمة هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض. النَّبِيُّ أَوْلى أي أشفق بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كل أمر من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وهو صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في استحقاق التعظيم، وفي تحريم نكاحهن تحريما مؤبدا لا في غير ذلك سواء دخل صلّى الله عليه وسلّم بها أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في التوارث بحق القرابة من الإرث بحق الإيمان، وبحق الهجرة في القرآن وهو آية المواريث والوصية، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إلى أصدقائكم وصية من الثلث أي إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم كانَ ذلِكَ أي الميراث للقرابة والوصية للأجانب بالموادة فِي الْكِتابِ أي القرآن مَسْطُوراً (٦) أي مكتوبا. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)، أي عهدا مؤكدا وهو الإخبار بأنهم مسؤلون عما فعلوا في الإرسال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي ليسأل الرسل عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا لمن أرسلوا إليهم، وليسأل الوافين عن وفائهم، والمؤمنين عن إيمانهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين بالرسل عذابا أليما. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، أي أحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وهي ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام، وكانوا ألفا ولم يقاتلوا يومئذ، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من التجائكم إليه ورجائكم فضله بَصِيراً (٩)، فنصركم على الأعداء عند الاستعداد.
وقرئ «بما يعملون» بالياء، أي الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ أي الأحزاب مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان، وأسد قائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، ومعهم اليهود من قريظة والنضير. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وهم قريش وبنو كنانة، وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف.
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي واذكروا حين مالت أبصار المنافقين عن موضعها عن طريقها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي بلغت قلوب المنافقين بأن انتفخت عند منتهى الحلقوم من الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) أي ظن المخلصون أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل
هُنالِكَ أي في ذلك الزمن الهائل والمكان الدحض ابْتُلِيَ
247
الْمُؤْمِنُونَ
، أي امتحنهم الله فتميز الصادق عن المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (١١)، أي حركوا تحريكا شديدا من الهول والفزع،
وكانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم منهم سيدهم حيي بن أخطب إلى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان، وقيس، وغيلان، فطلبوهم لحرب محمد، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقبالهم شرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فلما فرغوا من حفرة أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا، فنزلوا حول المدينة حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره والخندق بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام، فلما رأت قريش الخندق قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف فبعث الله عليهم ريحا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة، فزلزلتهم ولم تقاتل بل نفثت في قلوبهم الرعب، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح قام فقال: يا معشر قريش ليستعرف كل منكم جليسه واحذروا الجواسيس. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا، فإني مرتحل. ووثب على جمله وشرع القوم يقولون الرحيل الرحيل والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة ولم تجاوز عسكرهم ورحلوا وتركوا ما استثقلوه من متاعهم وحين انجلى الأحزاب قال صلّى الله عليه وسلّم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا»
. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً (١٢)، أي إلا وعد غرور أي قال معتب بن قشير وأصحابه: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر والحال أننا لا نقدر أن نخرج للغائط خوفا، وما هذا إلا وعد غرور. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظي من رؤساء المنافقين وأتباعه.
وقال السدي: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المطهرة لا مُقامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد فَارْجِعُوا عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي يستأذن النبي في الرجوع إلى المدينة فريق من
248
المنافقين أوس بن قيظي، وأبو عرابة بن أوس من بني حارثة يَقُولُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لنا يا نبي الله بالرجوع إلى المدينة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، أي غير
حصينة نخاف عليها سرق السراق وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي والحال أن البيوت ليس فيها خلل إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (١٣) أي ما يريدون بالاستئذان إلا فرار من القتل، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً (١٤) أي ولو دخل الأحزاب بيوتهم من جميع جوانبها، ثم سألهم الداخلون أو غيرهم الرجعة إلى الكفر لجاءوها.
وقرأ نافع وابن كثير «لأتوها» بقصر الهمزة، أي لفعلوها. والباقون بالمد، أي لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم وما أخروا الردة إلا قدر ما يسع السؤال والجواب، أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة نفوسهم به وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي منهزمين من المشركين فإن بني حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثل ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (١٥) أي وكان ناقض عهد الله مسؤولا يوم القيامة عن نقضه قُلْ يا أشرف الخلق لبني حارثة: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لأنه لا بد لكل إنسان من الموت في وقت معين سبق به قضاء الله تعالى وجرى عليه القلم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)، أي ولو فررتم من الموت في يومكم مثلا لما دمتم ولما متعتم بعد الفرار إلا تمتيعا قليلا قُلْ يا أكرم الرسل لبني حارثة:
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي من يمنعكم من مراد الله إن أراد بكم عذابا بالقتل أو أراد بكم نجاة من القتل وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير يدفع عنكم السوء إذا أتاكم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، أي قد علم الله المانعين من الرجوع إلى الخندق والقائلين لأصحابهم المنافقين: قربوا أنفسكم إلينا أي وهم عند هذا القول خارجون من المعسكر، متوجهون نحو المدينة، وكان هؤلاء عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أي وهم لا يأتون القتال إلا زمانا قليلا رياء وسمعة، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بأبدانهم فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أي فإذا جاء خوف العدو رأيت المنافقين في الخندق يا أشرف الخلق ينظرون إليك، تدور أعينهم في أحداقهم نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي غلبوكم بألسنة ذربة، وآذوكم بكلامهم يقولون: نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو، وقهرتم، ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالأياب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي حرصا على المال، ويقال: إنهم قليلو الخير في الحالتين كثير والشر في الوقتين، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر لَمْ يُؤْمِنُوا بقلوبهم وإن
249
أظهروا الإيمان لفظا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر الله بطلان أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) أي هينا يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هؤلاء المنافقون لجبنهم يظنون قريشا وغطفان واليهود، لم ينهزموا عند ذهابهم، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠) أي وإن يأت الكفار بعد ما ذهبوا كرة ثانية تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفار، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار. والحال أن هؤلاء المنافقين لو كانوا فيكم هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ووقع قتال آخر: ما قاتلوا معكم إلا قليلا رياء وخوفا من التعبير
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، أي خصلة حسنة حقها أن يقتدي بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الاستحباب في أمور الدنيا لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله واليوم الآخر خصوصا وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) باللسان والقلب وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ أي الكفار الكثيرة الأجناس قالُوا هذا أي المرئي ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم»
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر»
«١».
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)، أي وما زادهم الوعد إلا إيمانا بوقوعه وتسليما عند وجوده، ويقال: وما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وبمواعيده، وتسليما لأوامره ومقاديره.
وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم أن الأحزاب تأتيهم بعد تسع أو عشر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي أتوا بالصدق في عهدهم من الثبات مع الرسول، أي من الصحابة رجال نذورا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد وعمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم.
وأخرج الترمذي عن معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلحة ممن قضى نحبه»
«٢». وقد
روي أن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة»
«٣»
وعنه صلّى الله عليه وسلّم في رواية
(١) رواه أحمد في (م ١/ ص ١٦٥).
(٢) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (١٢٦).
(٣) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٤: ١٢٢).
250
عائشة: «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
«١».
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاء نحبه لكونه موقنا، كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك فإنهم مستمرون على نذورهم وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣) أي وما غيروا العهد تغييرا بالنقض لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بصدق ما وعدهم بالقول والفعل في الدنيا والآخرة وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ الذين كذبوا وأخلفوا بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية إِنْ شاءَ تعذيبهم فيمنعهم من الإيمان فماتوا على النفاق أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا قيل: الموت إن أراد ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لمن تاب حيث ستر ذنوبهم رَحِيماً (٢٤) حيث رزقهم الإيمان وَرَدَّ اللَّهُ أي صرف الله الَّذِينَ كَفَرُوا- وهم الأحزاب- بِغَيْظِهِمْ أي ملتبسين به لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي غير ظافرين يخير من دين ودنيا. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي رفع الله مؤنة القتال عن المؤمنين بالريح والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على نصر المؤمنين فلم يحوجهم إلى قتال الكفار، عَزِيزاً (٢٥) أي قادرا على إهلاك الكافرين وإذلالهم.
روى البخاري عن سلمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انجلى الأحزاب يقول: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم»
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا كفار مكة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة والنضير كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب وأصحابهما، مِنْ صَياصِيهِمْ أي حصونهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال، كانوا ستمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وهم النساء والذراري، وكانوا سبعمائة وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ من الحدائق والمزارع وَدِيارَهُمْ، أي منازلهم وَأَمْوالَهُمْ من النقد والماشية، والسلاح، والأثاث وغيرها، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي لم تقبضوها الآن، وهي خيبر فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين- كما قاله السدي ومقاتل- أو هي أرض الروم- وفارس كما قاله الحسن- وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) ويملككم غيرها.
روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح وهو على فرسه الحيزوم، والغبار على وجه الفرس، والسرج فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا جبريل؟» فقال: من متابعة قريش. فجعل رسول الله يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح منذ
(١) رواه مسلم في كتاب الطلاق، باب: ٣٥، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: التوقيت في الخيار، وابن ماجة في كتاب الطلاق، باب: الرجل يخيّر امرأته، وأحمد في (م ٦:
٢١٢).
251
أربعين ليلة، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فانهض إليهم فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال، وألقيت الرعب في قلوبهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي: إن من كان مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتنزلون على حكمي فأبوا فقال:
أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به»
فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «١». فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار بنت الحرث من نساء بني النجار، ثم خرج إلى سوق المدينة- الذي هو سوقها اليوم- فخندق فيه خندقا، ثم بعث إليهم، فأتى بهم إليه، وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة، وكانوا ستمائة، فأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم، وطرحهم في ذلك الخندق، فلما فرغ من قتلهم وانقضى شأنهم توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب وحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعمر. قالت عائشة: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني في حجرتي.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ قال عكرمة كان تحته صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية ثم صفية بنت حي الخيرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق. وروي أنهن سألنه صلّى الله عليه وسلّم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت هذه الآية: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي التنعم فيها وَزِينَتَها أي زخارفها فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطاكن المتعة وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٢٨)، أي أخرجكن من البيوت من غير ضرار بعد إعطاء المتعة وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي تردن طاعة الله وطاعة رسوله وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، أي الجنة فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أي لمن عمل الصالحات منكن أَجْراً عَظِيماً (٢٩) وهو الكبير في الذات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات.
وروي عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر، فأستأذن، فأذن له، فدخل، فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه قال عمر: فقلت: والله لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول صلّى الله عليه وسلّم لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ
(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: ٣٢، وأحمد في (م ١/ ص ١٨٥).
252
عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: لا تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده.
فقلن: والله لا نسأل رسول الله أبدا شيئا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا، ثم نزلت هذه الآية. فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» «١». قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن ذلك،
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ أي بكبيرة مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة القبح.
وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء التحتية، أي بين الله قبحها يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، أي يعذبن ضعفي غيرهن. وقرأ أبو عمرو «يضعف» بتشديد العين على البناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعف» بنون العظمة وتشديد العين على البناء للفاعل ونصب «العذاب». وَكانَ ذلِكَ أي التضعيف عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) لا يمنعه تعالى عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم،
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي من يطع الله ورسوله منكن وَتَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا فيما بينها وبين ربها نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، أي نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها من النساء، فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله بالقناعة، وحسن المعاشرة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في «يعمل»، و «يؤتها». وَأَعْتَدْنا لَها أي هيأنا لها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) أي مرضيا في الجنة، زيادة على أجرها المضاعف، يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي اتصفتن بالتقوى، لأن فيكن أمرا لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس كأحد من الرجال، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي فلا ترفقن بالقول عند الرجال فَيَطْمَعَ في الخيانة الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي شهوة الزنا، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (٣٢) أي قولا حسنا مع كونه خشنا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي امكثن في بيوتكن، وليكن عليكن حسن الهيئة.
وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف فهو أمر من قر يقر من باب علم أو من قار يقار إذا اجتمع.
وقرأ غيرهما بكسر القاف من وقر يقر وقارا. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي ولا تتزين بزينة الكفار في الثياب الرقاق الملونة. والمراد بالجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أي أتممن الصلوات الخمس. وَآتِينَ الزَّكاةَ أي أعطين زكاة أموالكن وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما تأتين وما تذرن إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، أي عمل
(١) رواه القرطبي في التفسير (١٤: ١٩).
253
الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن- كما قاله ابن عباس- أو الذنب المدنس بعرضكم، أَهْلَ الْبَيْتِ، أي يا أهل بيت النبوة.
وأخرج الترمذي حديثا أنه لما نزلت هذه الآية دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعليا، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»
«١». وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نولت هذه الآية في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) أي يلبسكم خلع الكرامة، فذهاب الرجس كناية عن زوال عين النجاسة، والتطهير كناية عن تطهير المحل. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي اذكرن للناس بطريق العظة ما يتلى في بيوتكن من القرآن، وكلمات النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي إن المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي المصدّقين بما يجب تصديقه من الفريقين وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ، أي المداومين على الطاعات، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ما عملوا من تلك الحسنات المذكورة مَغْفِرَةً للصغائر وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) على الطاعات. نزلت هذه الآية في قول أم سلمة، ونسيبة بنت كعب الأحبار: يا رسول الله ما ترى الله يذكر النساء في شيء من الخير، إنما ذكر الرجال، ثم نزلت في زينب بنت جحش بنت عمة رسول الله، وأميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله، وكانت بيضاء جميلة، وزيد أسود وقالت: أنا بنت عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي. وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها، وكانت وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فزوجها من زيد بعد ما طلق زينب بنت جحش، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أي وما صح لكل مؤمن وكل مؤمنة إذا أراد رسول الله أمرا أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختياره صلّى الله عليه وسلّم، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور كأن يعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً (٣٦)، أي بين الانحراف عن سنن الصواب، فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب وأخوها، وجعلا الأمر بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنكحها زيدا، وساق إليها رسول الله عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا، وملحفة
(١) رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: ١٨، وأحمد في (م ٢/ ص ٣١٥).
254
وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي واذكر وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه، بالاعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب، أي لا تطلقها وذلك
أنه صلّى الله عليه وسلّم أبصرها قائمة في درع وحمار بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر. فقال: «سبحان الله مقلب القلوب» » وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أريد أن أفارق صاحبتي. فقال: ما لك أرابك منها شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنها تتعاظم علي بشرفها. فقال له: أمسك عليك زوجك
أي لا تفارقها. وَاتَّقِ اللَّهَ في أمرها فلا تطلقها تعللا بتكبرها عليك بسبب النسب وعدم الكفاءة، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي والحال أنك تخفي في نفسك ما أعلمك الله أنها ستصير من أزواجك بعد طلاق زيد، وَتَخْشَى النَّاسَ وتستحي من تعيير الناس إياك بأن يقولوا: أخذ محمد زوجة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، أي والحال أن الله وحده أحق أن تستحي منه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي فلما وطئها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها أي جعلنا زينب زوجتك بلا واسطة عقد، فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بغير إذن ولا تجديد عقد، ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا، وأ ولم عليها بشاة، وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه.
وعن أنس قال: ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحد من نسائه كما أولم على زينب. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، أي لكيلا يكون على المؤمنين ضيق في تزوج نساء من تبنوهم إذا قضوا منهن حاجة بالدخول بهن، ثم الطلاق وانقضاء العدة، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة. والمعنى: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتنبي حلال للمتبني ولو بعد الدخول بها، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن التزوج من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن لقضاء شهوته بل لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧) أي وكان مراد الله موجودا في الخارج لا محالة، ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، أي ليس على النبي مأثم فيما رخص الله له من التزوج سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي سن الله ذلك سنة في الذين مضوا من قبل محمد، فإن داود عليه السلام افتتن بامرأة أوريا، وسليمان عليه السلام تزوج بلقيس، ولقد كانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فإن اليهود عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة النساء، فرد الله عليهم بقوله: سنة الله، أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل محمد. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) أي وكان قضاء الله حكما مبتوتا، والقضاء ما كان مقصودا في الأصل، والقدر ما
(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥: ٢٦٥)، والبغوي في شرح السنّة (٢: ٣٢٢).
255
يكون تابعا له مثاله من كان يقصد مدينة، فنزل بطريق تلك المدينة في قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول: لم جئت إلى هذه القرية؟ إني جئت إلى هذه القرية، وإنما قصدت المدينة الفلانية، وهذه وقعت في طريقي، وإن كان قد جاءها ودخلها إذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء، وما في العالم من الضرر بقدر. ثم وصف الله تعالى الذين خلوا بقوله تعالى:
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ في تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي الذين هم كانوا رسلا مثل محمد وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)، أي كافيا للمخاوف، فينبغي أن لا يخشى غيره، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يكون حق الخشية منه تعالى. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها، فليس محمد أبا زيد وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ، أي ولكن كان محمد رسولا لله والعامة على تخفيف «لكن»، ونصب «رسول» على إضمار «كان».
وقرأ أبو عمرو وفي رواية بتشديدها على أن «رسول» اسمها، والخبر محذوف، أي ولكن رسول الله. هو وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع رسول على الابتداء وخبره مقدر، أي هو، أو بالعكس، أو ولكن هو رسول الله. وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي وكان آخرهم الذين ختموا به. وقرأ عاصم بفتح التاء. والباقون بكسرها، أي فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم، بل أقوى، فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم إن النبي الذي يكون بعده، نبي إن ترك شيئا من النصيحة يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته، وأهدى لهم إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠). ومن جملته الحكم الذي بيّنه لكم وكنتم منه في شك، والحكمة في تزوجه صلّى الله عليه وسلّم بزوجة من تبناه إكمال شرعه، وذلك أن قول النبي يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة، ألا ترى أنه صلّى الله عليه وسلّم أحل أكل الضب، ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله عندها مع أنه في بعض الملل لا يؤكل، وكذلك الأرنب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو أهله من التهليل، والتحميد باللسان والقلب، ذِكْراً كَثِيراً (٤١) يعمّ الأوقات والأحوال أي بالليل والنهار، والبر والبحر، والصحة
والسقم، في السر والعلانية عند المعصية والطاعة. وَسَبِّحُوهُ أي نزهوه عما لا يليق به. بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢).
وهذا إشارة إلى المداومة وذلك، لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ أي فالله تعالى وملائكته يعتنون بما فيه خيركم وصلاح أمركم، فالله يهديكم برحمته والملائكة يستغفرون لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، أي يخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) أي وكان
256
الله بكافة المؤمنين رحيما. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، أي ما يحيون به يوم لقاء الله عند الموت، أو عند الخروج من القبور، أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله تعالى، تعظيما لهم. أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة، أو تكرمة لهم. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) أي ثوابا حسنا في الجنة.
وهذا ترغيب ببيان أن الأجر الذي هو المقصد الأقصى موجود بالفعل مهيّأ لهم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم، تشاهد أعمالهم. فالنبي بعث في الدنيا متحملا للشهادة، ويكون في الآخرة مؤديا لما تحمله. وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالجنة، وَنَذِيراً (٤٥) للكافرين بالنار، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى دينه، بِإِذْنِهِ. وهذا راجع إلى «داعيا». وذلك كما إذا قال شخص: من يطع الملك يسعد، ومن يعصه يشقى، فيكون مبشرا ونذيرا ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك، وأما إذا قال: تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه فيحتاج في ذلك إلى إذنه.
وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) يستضاء به في ظلمات الجهل ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (٤٧) على سائر الأمم المؤمنين في الزيادة على أجور أعمالهم قوله: وَبَشِّرِ عطف على مفهوم. والتقدير: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا، فاشهد وبشر. وقيل:
لما نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ١، ٢] قال المؤمنون: هنيئا لك يا رسول الله بالمغفرة، فما لنا عند الله تعالى؟ فقال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي ولا تطع الكافرين من أهل مكة، أبا سفيان وأصحابه. والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه، أي لا تترك إبلاغ شيء مما أمرت، وَدَعْ أَذاهُمْ أي دع أذيتهم إياك إلى الله، فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار، أو لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وما تذر فإنه تعالى يكفيكهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨) أي موكولا إليه الأمور في كل الأحوال.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أو الكتابيات، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ.
وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم، أي من قبل أن تجامعوهن. فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ بالشهور أو الحيض تَعْتَدُّونَها أي تستوفون أنتم عددها، فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يتمتعن به وهو المتعة الواجبة للمفارقة في الحياة، إذا كانت مدخولا بها، أو غير مدخول بها، وكانت مفوضة ولم يفرض لها شيء قبل الفراق، وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٤٩) أي أخرجوهن من منازلكم من غير ضرار ولا منع حق. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي أعطيت مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أي مما فتح الله عليك مثل: صفية بنت حيي النضرية، وريحانة القرظية، وجويرية بنت الحرث الخزاعية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من بني عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من بني عبد مناف بن زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، ذكر للنبي ما هو الأولى، فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من
257
التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل، فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها، ومن هاجرت من أقارب النبي صلّى الله عليه وسلّم معه من مكة إلى المدينة أشرف ممن لم تهاجر، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وهي أم شريك بنت جابر العامرية، وخولة بنت حكيم، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وميمونة بنت الحرث إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، أي إن ملكته بعضها بأي عبارة كانت بلا مهر، فتصير كالمستوفية مهرها، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي أن يتملك بضعها بلا مهر، فإرادة النكاح جارية منه صلّى الله عليه وسلّم مجرى القبول، خالِصَةً لَكَ أي حال كون المرأة خصوصية لك، أو هبة مرخصة لك ف «خالصة» إما حال أو نعت مصدر مقدم. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
قال الشافعي: والمعنى إن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك.
وقرئ «خالصة» بالرفع على أنه مبتدأ محذوف، أي تلك المرأة، أو تلك الهبة رخصة لك وخصوصية لك، لا تتجاوز المؤمنين حيث لا تحل المرأة لهم بغير مهر ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي ما أوجبنا على المؤمنين في حق أزواجهم بأن لا يزيدوا على أربع نسوة، ولا يتزوجوا إلّا بولي وشهود ومهر، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها، كالكتابية وأن تستبرأ قبل الوطء، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق، ف «اللام» متعلق بأحللنا. والمعنى أحللنا أزواجك وما ملكت يمينك، والموهبة لك لتكون في فسحة من الأمر، فلا يبقى لك شغل قلب، فينزل جبريل بالآيات على قلبك الفارغ، وتبلغ رسالات ربك بجدك، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠)، فيغفر الذنوب مما يعسر التحرز عنه، ويرحم العبيد بتوسعة الأمر في مواضع الضيق،
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تترك مضاجعتها، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي وتضم إليك من تشاء مضاجعتها، فالله أحل له صلّى الله عليه وسلّم وجوه المعاشرة بهن كيف يشاء، ولا يجب عليه القسم، فإن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أرجأ منهن، سودة، وجويرة، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما يشاء كما شاء. وكانت مما آوى إليه صلّى الله عليه وسلّم: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فأرجأ خمسا، وآوى أربعا.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «ترجى» بياء ساكنة. والباقون بهمزة مضمومة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي إذا طلبت رد من كنت تركتها إلى فراشك، فلا جناح عليك في شيء من ذلك ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ من تقريب وإرجاء، وعزل وإيواء، أي تفويض الأمر لي مشيئتك أقرب إلى طيب نفوسهن، وإلى قلة
258
حزنهن، وإلى رضاهن جميعا، لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك إن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الرضا والسخط، فاجتهدوا في إحسان الخواطر، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فإنه يعلم ضمائر القلوب، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن، فإنه حليم لا يعجل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد اختيارهن الله ورسوله، ورضاهن بما يؤتيهن الرسول من الوصل والهجران، والنقص والحرمان.
وقرأ أبو عمرو «لا تحل» بالفوقية، أو لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات، من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك. وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.
وهذا نهي عن شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة، فينزل أحدهم عن زوجته، ويأخذ زوجة صديقه، ويعطيه زوجته.
روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، وأزيدك، فأنزل الله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ فتحل لك، وقد ملك مارية القبطية وولدت له إبراهيم، ومات في حياته صلّى الله عليه وسلّم، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) أي حافظا شاهدا فاحذروا مجاوزة حدوده، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، أي لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلّا حال كونكم مأذونا لكم بالدخول إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، أي منتظرين نضجه. نزلت هذه الآية في قوم كانوا يدخلون في بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم
غدوة وعشية، فيجلسون وينتظرون وقت الطعام حتى يأكلوا، ثم يتحدثون مع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاغتمّ بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحيا أن يأمرهم بالخروج، وينهاهم عن الدخول، فنهاهم الله عند ذلك بهذه الآيات. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا، أي فتفرقوا ولا تلبثوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي وغير مستأنسين لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له، إِنَّ ذلِكُمْ أي الدخول والمكث لحديث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك الأمر بخروجكم، ولا يترك النهي عن الدخول بعير إذن، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وإذا سألتم نساء النبي شيئا ينتفع به فاسألوهن من خلف ستر.
قيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة رضي الله عنها، فكره النبي ذلك، فنزلت هذه الآية. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ أي إن عدم الدخول بغير
259
إذن، وعدم الاستئناس للحديث بعد الدخول بالإذن، وسؤال المتاع من وراءه حجاب أطهر للخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وَقُلُوبِهِنَّ أي وأطهر للخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال، أي فإن ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، أي وما صحّ لكم أن تفعلوا في حياته صلّى الله عليه وسلّم ما يكرهه ويتأذى به، كالدخول عليه بغير إذنه، والحديث مع أزواجه، وما صحّ لكم أن تنكحوا أزواجه صلّى الله عليه وسلّم أبدا من بعد فراقه صلّى الله عليه وسلّم بموت أو طلاق سواء، أدخل بها أم لا. ونزلت هذه الآية في رجل من الصحابة قال في نفسه: إذا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نكحت عائشة، وندم هذا الرجل على ما حدّث به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفّر الله عنه. قيل: هذا الرجل هو طلحة بن عبيد الله. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) أي إن إيذاء الرسول بنكاح زوجته أو غيره كان عند الله ذنبا عظيما إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) أي إن تظهروا شيئا مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم، أو تعزموا على إيذائه صلّى الله عليه وسلّم، أو نكاح أزواجه بعده في قلوبكم فالله يجازيكم على ذلك.
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أي لا إثم على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدم الاحتجاب عن محارمهن. وهذا استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم.
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب؟! فنزلت هذه الآية. وَلا نِسائِهِنَّ أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن النساء المسلمات، ويجب عليهن الاحتجاب عن النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء.
وقيل: من الإيماء خاصة. وقيل: من كان دون البلوغ من العبيد. وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وما تذرن.
وقال الرازي: واتقين الله عند المماليك. وذلك دليل على أن التكشف لهم مشروط بالسلامة والعلم بعدم المحذور. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) فهو شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوا شهادة الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، أي إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ ابن عباس وكذا أبو عمرو في رواية «وملائكته» بالرفع عطفا على محل «إن»، واسمها عند الكوفيين، ومبتدأ محذوف الخبر عند البصريين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦). وهذا دليل على وجوب الصلاة والسلام عند الشافعي، لأن الأمر للوجوب، ولا
260
يجبان إلّا في الصلاة، فيجبان في التشهد، وهما قولنا فيه: سلام عليك أيها النبي. وقولنا: اللهم صلّ على محمد، وإنما أمرنا الله بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع أنه يكفيه صلّى الله عليه وسلّم صلاته تعالى لإظهار تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم منا شفقة علينا ليثيبنا عليه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه تعالى ولا حاجة له إليه. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها. وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً (٥٧) يصيبهم في الآخرة خاصة وإذاية الله تكون بالكفر كإنكار وجوده تعالى ووصفه تعالى بما لا يليق به كقول اليهود: يد الله مغلولة، وإن الله فقير، وعزير ابن الله. وقول النصارى: ثالث ثلاثة، والمسيح ابن الله، وقول المشركين: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه، وإذاية الرسول كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وطعنهم في نكاح صفية، وقولهم له صلّى الله عليه وسلّم: هو شاعر ساحر كاهن مجنون. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بقول أو فعل بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي زورا وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)، أي ذنبا ظاهرا موجبا للعقاب في الآخرة.
قيل: إن هذه الآية نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا، ويسمونه ما لا خير فيه. وقيل:
نزلت في أهل الإفك في شأن عائشة وصفوان. وقيل: في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، وكانوا لا يتعرضون إلّا للإماء، ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر أيضا، لأن زي الكل كان واحدا لأنهن، يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم نهى الله تعالى الحرائر أن يتشبهن بالإماء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ أي يرخين على نحورهن وجيوبهن مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي ثيابهن التي يلتحفن بها، ذلِكَ أي تغطي الأبدان أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أي أحق بأن يعرفن أنهن حرائر، وأنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن، لأن من تستر وجهها لا يطمع فيها أن تكشف عورتها، فَلا يُؤْذَيْنَ بالتعرض لهن من جهة من يتعرض للإماء، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط رَحِيماً (٥٩) بعباده حيث يراعي مصالحهم لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عبد الله بن أبيّ وأصحابه عن المكر والخيانة، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شهوة الزنا الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بقولهم: غلب محمد وسيخرج من المدينة، وسيؤخذ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنأمرنك بإخراجهم من المدينة أو بقتالهم، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي لا يساكنون معك في المدينة وتخلو المدينة منهم بالإخراج أو بالموت إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) أي إلّا زمانا يسيرا،
مَلْعُونِينَ أي مطرودين من باب الله ومن بابك، وهو نصب على الشتم، ويجوز عند الكسائي والفراء منصوبا ب «أخذوا» الذي هو جواب الشرط، وعلى الوقف ملعونين وقف كاف، أي على غير هذا الإعراب أَيْنَما ثُقِفُوا أي في أي مكان
261
وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١). وهذه الآية خبر بمعنى الأمر، أي خذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أي سن الله ذلك في الأمم الذين من قبلهم سنة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم السلام، وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما وجدوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)، أي هذه السنة ليست مثل الحكم الذي ينسخ، فإن النسخ يكون في الأحكام، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ، يَسْئَلُكَ النَّاسُ أي كفار مكة واليهود عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيام القيامة- فإن المشركين يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء، واليهود سألوا عنه امتحانا- قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ أي أيّ شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣)، وهذا تخويف أي هي في علم الله فلا تستبطئوها، فربما تقع عن زمان قريب إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) أي نارا شديدة الاتقاد، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا أي حافظا يحفظهم من عذاب الله وَلا نَصِيراً (٦٥)، يخلصهم منه، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وهو ظرف ب «لا يجدون» يَقُولُونَ حال من ضمير «وجوههم». يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦) وَقالُوا عطف على «يقولون» : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) أي فصرفونا عن الدين.
وقرأ ابن عامر «ساداتنا» بألف بعد الدال، وبالنصب بالكسرة الظاهرة، أي إن الكافرين يقولون يوم تصرف أبدانهم في النار من جهة، إلى جهة كلحم يشوى في النار،
أو يطبخ في القدور في الدنيا فلا تبتلي بهذا العذاب، فيتحسرون ويندمون حيث لا تنفعهم الندامة والحسرة، ثم يقولون: أطعنا السادة بدل طاعة الله تعالى، وأطعنا الكبراء بدل طاعة الرسول، وتركنا طاعة سادة السادات، وأكبر الأكابر، فبدلنا الخير بالشر، ففاتنا خير الجنات، وأعطينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون: رَبَّنا آتِهِمْ أي أعط الرؤساء ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي العذاب الذي أعطيتناه، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) أي شديدا.
وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي لعنا عظيما. والباقون بالثاء المثلثة أي كثير العدد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في إيذاء نبيكم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بأنواع الأذية كنسبته إلى عيب في بدنه من أدرة أو برص، وكإغراء مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها بدفع مال عظيم إليها وكغير ذلك. فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أظهر الله براءته عليه السلام من قولهم.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن
262
يغتسل معنا إلّا أنه آدر، فذهب يوما يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، فجعل موسى يجري عقبه ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فوقف الحجر فأخذ موسى ثوبه فاستتر به وضرب الحجر حتى ظهر فيه ستة جروح»
«١» اه. وَكانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩)، أي معظما رفيع القدرة.
قال ابن عباس: كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقال الحسن: كان مجاب الدعوة. وقيل: كان محببا مقبولا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (٧٠) أي صوابا. والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب المائل عن العدل
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ.
قال ابن عباس: أي يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل: يزكي أعمالكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ باستقامتكم في القول والعمل، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً (٧١) أي نال جميع مراداته، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ. والمراد بالأمانة: الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن من حملها أن لا يؤدينها فيلحقهن من العقاب أي فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا ولا عقابا. وقلن ذلك خوفا وتعظيما لدين الله تعالى لا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي آدم قال الله تعالى لآدم:
إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال:
يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي الله تعالى أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابا، واجعل للسانك لحيين وغلافا فإذا خشيت فأغلق عليه واجعل لفرجك لباسا، فلا تكشفه على ما حرمت عليه. إِنَّهُ أي الإنسان كانَ ظَلُوماً أي متعبا لنفسه بحملها. وهذا الظلم ممدوح من الأنبياء جَهُولًا (٧٢) بعاقبته، وإن النفس لا تطيق الدوام على حملها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ف «اللام» للعاقبة متعلق ب «حمل»، أي حملها الإنسان وكان عاقبة حمله لها أن يعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يقبل توبتهم، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للظلوم رَحِيماً (٧٣) على الجهول، لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلّا الظلم العظيم الذي هو الشرك.
(١) رواه البغوي في شرح السنّة (٦: ١٢)، وابن كثير في التفسير (٦: ٥٧٠)، وكنز العمال (٣٩٣٣٩).
Icon