ﰡ
وهي أربع عشرة آية مدنية
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
قوله تبارك وتعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ وذلك أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا بعد ما فروا يوم أحد: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، وأفضل لفعلناه، فنزل: لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. ويقال: قالوا ذلك قبل يوم أحد، فابتلوا بذلك وفروا، فنزل تيسيراً لهم بترك الوفاء، فقال: لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ، يعني: عظم بغضاً عند الله أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ، يعني: يصفون بمنزلة الصف في الصلاة وملتزمة بعضهم في بعض، لا يتأخر أحدهم عن صاحبه بمنزلة البنيان الذي بني بالرصاص ويقال: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي: متفقي الكلمة بعضهم على بعض على عدوهم، فلا يخالف بعضهم بعضاً. وروي في الخبر: أنه كان يوم مؤتة وكان عبد الله بن رواحة أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم: يا
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى وقد قال موسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالتكذيب، وذلك أنهم كذبوه وقالوا: إنه آدر، ويقال: إنه حين مات هارون، ويقال: إنه قال لقومه الكفار: لم تؤذونني بالتكذيب والشتم؟ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا يعني:
مالوا عن الحق وعدلوا عنه. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يعني: خذلهم عن الهدى فثبتوا على اليهودية.
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي يعني: لا يرشد إلى دينه الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ، يعني: العاصين المكذبين، الذين لا يرغبون في الحق.
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يعني: وقد قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يعني: أرسلني الله تعالى إليكم، لأدعوكم إلى الإسلام. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ يعني: أقرأ عليكم الإنجيل موافقاً للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يعني: أبشركم برسول الله يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. وروى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ.
فقال: «أَنَا دَعْوَةُ أبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى- صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ- وَرَأَتْ أُمِّي رُؤْيَاهَا حِينَ حَمَلَتْ بِي أنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى فِي أرْضِ الشَّامِ». فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ، يعني: جاءهم عيسى بالبينات التي كان يريهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: بيناً ظاهراً. قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف، والباقون سِحْرٌ بغير ألف. فمن قرأ ساحر فهو فاعل، ومن قرأ سِحْرٌ فهو نعت الفعل.
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
اختلق على الله الْكَذِبَ وهم اليهود. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ يعني: إلى دين محمد صلّى الله عليه وسلم وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: لا يرشدهم. ويقال: لا يرحمهم ما داموا على كفرهم. ثم قال عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني: ليبطلوا دين الله بقولهم: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني: مظهر توحيده وكتابه، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ يعني: وإن كره اليهود والنصارى. قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ على معنى الإضافة، والباقون مُتِمُّ بالتنوين نُورِهِ بالنصب. فمتم فاعل ونصب نوره، لأنه مفعول به.
ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يعني: بالتوحيد وَدِينِ الْحَقِّ يعني: الشهادة لا إله إلا الله. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني: على الأديان كلها. قال مقاتل:
وقد فعل، ويقال: إنه يكون في آخر الزمان، لا يبقى أحد إلا مسلم أو ذمة للمسلم. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يعني: وإن كرهوا ذلك.
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، يعني: من عذاب دائم. قرأ ابن عامر تُنْجِيكُمْ بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان.
أنجاه ونجاه بمعنى واحد. ثم بيَّن لهم تلك التجارة، فقال عز وجل: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني:
تصدقون بتوحيد الله وَرَسُولِهِ يعني: وتصدقون برسوله، وبما جاء به من عنده.
وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، فقدم ذكر المال، لأن الإنسان ربما يضر بماله ما لا يضر بنفسه، ولأنه إذا كان له مال، فإنه يؤخذ به النفس ليغزو. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني:
التصديق والجهاد خير لكم من تركهما. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني: تعلمون ثواب الله تعالى، ويقال: يعلمون يعني: يصدقون.
ثم بين ثواب ذلك العمل. فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يعني: إن فعلتم ذلك العمل، يغفر لكم ذنوبكم. وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يعني: يدخلكم منازل الجنة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: النجاة الوافرة. ثم قال عز وجل:
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ يعني: تجارة أخرى تحبونها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ يعني: ولكم سوى الجنة أيضاً عدة أخرى في الدنيا تحبونها، ويقال: معناه ونجاة أخرى تحبونها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ يعني: هي النصرة من الله تعالى على عدوكم، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ يعني: ظفراً سريعاً عاجلاً في الدنيا والجنة في الآخرة.
انصروا الله، وانصروا دين الله، وانصروا محمدا صلّى الله عليه وسلم، كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم.
وهو قوله تعالى: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يعني: من أعواني إلى الله، ويقال: إنما سموا الحواريون لبياض ثيابهم، ويقال: كانوا قصارين، ويقال:
خلصاؤه وصفوته. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوارِيَّ مِنْ أُمَّتِي». وتأويل الحواريين في اللغة، الذين أخلصوا وتبرؤوا من كل عيب وكذلك الدقيق الحواري، لأنه ينتقى من لباب البرّ. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين. وروى عبد الرزاق، عن معمر قال: تلا قتادة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قال: وقد كان ذلك بحمد الله جاءه السبعون، فبايعوه عند العقبة فنصروه وآووه، حتى أظهر الله دينه.
قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ يعني: نحن أعوانك مع الله، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: بعيسى- عليه السلام- ويقال: فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ يعني: جماعة منهم. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ يعني: قوينا الذين آمنوا على عدوهم من الكفار، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ، فصاروا غالبين بالنصرة، والحجة والله أعلم بالصواب.