تفسير سورة الليل

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الليل من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الليل
فيها آيتان

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِيهَا :
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : إنَّ مَعْنَاهُ وَرَبِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَهَذَا الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرٌ فِي كُلِّ قَسَمٍ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ من الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَسَمِ بِهَا.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَآدَمُ خُلِقَ وَحْدَهُ قَبْلَ خَلْقِ حَوَّاءَ حَسْبَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَصُورَةُ الْمُصْحَفِ ﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَا يَقْرَآنِ : وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ إبْرَاهِيمُ : قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالُوا : كُلُّنَا. قَالَ تَقْرَءُونَ :﴿ وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ﴾ ؟ قَالَ عَلْقَمَةُ : وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ هَكَذَا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ : وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَاَللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَشَرٌ، إنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصُّحُفِ ؛ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِأَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّظَرُ فِيمَا يُوَافِقُ خَطَّهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ ضَبْطُهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَنْقَطِعُ مَعَهُ الْعُذْرُ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ :
الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«مَا من يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا » ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ :﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يُعْتِقُ نِسَاءً وَعَجَائِزَ ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : أَيْ بُنَيَّ، أَرَاك تُعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّك أَعْتَقْت رِجَالًا جَلْدًا يَقُومُونَ مَعَك، وَيَدْفَعُونَ عَنْك، وَيَمْنَعُونَك ! فَقَالَ : أَيْ أَبَتِ ؛ إنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ : فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ :﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ مَنْ أَعْطَى ﴾ :
حَقِيقَةُ الْعَطَاءِ هِيَ الْمُنَاوَلَةُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ يَصِلُ من الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاتَّقَى ﴾ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ التَّقْوَى، وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِقَابِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَابَ الْمَحْسُوسَ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ :
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْخَلَفُ من الْمُعْطِي ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْجَنَّةُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
المسألة الْخَامِسَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : كُلُّ مَعْنًى مَمْدُوحٍ فَهُوَ حُسْنَى، وَكُلُّ عَمَلٍ مَذْمُومٍ فَهُوَ سُوأَى وَعُسْرَى، وَأَوَّلُ الْحُسْنَى التَّوْحِيدُ، وَآخِرُهُ الْجَنَّةُ ؛ وَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حُسْنَى، وَأَوَّلُ السُّوأَى كَلِمَةُ الْكُفْرِ، وَآخِرُهُ النَّارُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَهُوَ مِنْهُمَا وَمُرَادٌ بِاللَّفْظِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحُسْنَى الْخَلَفُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ.
المسألة السَّادِسَةُ قَوْلُهُ :﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ ﴾ يَعْنِي نُهَيِّئُهُ بِخَلْقِ أَسْبَابِهِ، وَإِيجَادِ مُقَدِّمَاتِهِ، ثُمَّ نَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ حَسَنًا سُمِّيَ يُسْرَى، وَإِنْ مَذْمُومًا سُمِّيَ عُسْرَى، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ هَيَّأَ أَسْبَابَهَا لِلْعَبْدِ وَخَلَقَهَا فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّقَاءَ هَيَّأَ أَسْبَابَهُ لِلْعَبْدِ، وَخَلَقَهَا فِيهِ ؛ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طَرِيقِ صَحِيحَةٍ، يُعَضِّدُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ، وَيَعْتَضِدُ بِالشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ :«كُنَّا فِي جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ، وَجَلَسْنَا، وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : مَا مِنْكُمْ من نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا كُتِبَ مَدْخَلُهَا. فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا ؟ فَقَالَ : بَلْ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ من أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ من أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ :﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ لِلْعُسْرَى ﴾.
وَسَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا : الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ ؟ فَقَالَ : بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ.
فَقَالَا : فَفِيمَ الْعَمَلُ إذَنْ ؟ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ. قَالَا : فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ.
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ بَخِلَ ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْبُخْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ من حَدِيدٍ ». الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
المسألة الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ :﴿ وَاسْتَغْنَى ﴾ :
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : اسْتَغْنَى عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ كُفْرٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَهُمْ فُقَرَاءُ إلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْتَغْنَى بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ، فَرَكَنَ إلَى الْمَحْسُوسِ، وَآمَنَ بِهِ، وَضَلَّ عَنْ الْمَعْقُولِ، وَكَذَّبَ بِهِ، وَرَأَى أَنَّ رَاحَةَ النَّقْدِ خَيْرٌ من رَاحَةِ النَّسِيئَةِ، وَضَلَّ عَنْ وَجْهِ النَّجَاةِ، وَرِبْحِ التِّجَارَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى طَلَبِهَا بِإِسْلَامِ دِرْهَمٍ إلَى غَنِيٍّ وَفِيٍّ لِيَأْخُذَ عَشْرَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَالْخَلْقُ مِلْكُهُ، أَمَرَ بِالْعَمَلِ وَنَدَبَ إلَى النَّصَبِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ ؛ فَالْحَرَامُ مَعْقُولًا، وَالْوَاجِبُ مَنْقُولًا امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَارْتِقَابَ وَعْدِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْحُكْمِ فِي الْآيَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ مِن الْبَيَانِ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَقْصُودِ فَأَرْجَأْته إلَى مَكَانِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.
Icon