ﰡ
مكية. وهى مائة وخمس وثلاثون آية. ووجه مناسبتها لما قبلها قوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «١» مع قوله:
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، كأنه يقول: فإنما سهلناه عليك لترتاح به لا لتتعب. ثم افتتحها برموز بينه وبين حبيبه، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
قلت: عن ابن عباس أن «طه» من أسماء الله تعالى، وقيل: معناه: طوبى لمن هدى، وقيل: يا طاهر يا هادي، فالطاء تشير إلى طهارته ﷺ وتطهيره من دنس الحس، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
ورُوِيَ عنه ﷺ أنه قال: «لي عشرة أسماء..» فذكر أن منها «طه ويس»، وقيل: معناه: طأ الأرض بقدمك لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده، فأبدل الهمزة ألفًا، والضمير للأرض، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل:
معناه: يا رجل. وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، وهو عندهم على اللغة النبطية، أو السريانية «٢». قيل: من جعل معنى «طه» يا رجل، لم يقف على طه، وكذا من جعله اسما للنبى ﷺ لأن النداء تنبيه على ما بعده، ومن جعلها افتتاحًا، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة، وقف عليها، إلا في قول من جعلها قَسَمًا، فإنه لا يقف عليها لأن قوله: (ما أَنْزَلْنا... ) الخ جواب قسم.
(٢) انظر تفسير البغوي (٥/ ٢٦٢)، وزاد المسير (٥/ ٢٦٩).
و (إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع، أي: ما أنزلناه لتتعب به، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ، و (تَنْزِيلًا) :
مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله، أي: أنزل تنزيلاً، والأصح: أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه، وفيه معنى التأكيد لما قبله، أو هو نص في معناه، وإنما تلون الكلام بالالتفات، أو منصوب على المدح والاختصاص، أو مفعول بيخشى، أو حال من «الْقُرْآنَ»، و (الرَّحْمنُ) : رفع على المدح، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته. وقرئ بالجر صفةً للموصول، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ، و (عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و «عَلَى» : متعلقة باستوى، قُدمت للفواصل. و (إِنْ تَجْهَرْ) : شرط، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ... ) الخ، أي: فالله غني عن جهرك، فإنه... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو ترويحًا له من التعب: يا محمد ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي: لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة.
رُوِيَ أنه ﷺ كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: «أبْق عَلى نَفْسِكَ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا». أي: ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك «١» وحملها على الرياضَات الشاقة، والشدائد الفادحة، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو: ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم، كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٢»، بل للتبليغ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع، ومنه قولهم: أشقى من رائض مُهر، وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلى الله عليه وسلم: إنك شقي، حيث تركت دين آباءك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر، والعموم أحسن، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي: ما أنزلناه لتتعب، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله- عزّ وجلّ- ليتأثر بالإنذار، لرقة قلبه ولين عريكته، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها.
(٢) الآية ٣ من سورة الشعراء.
ثم قال تعالى: الرَّحْمنُ أي: هو الرحمن، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية للإيذان بأن ربوبيته تعالى، وقيامَه بالأشياء، من طريق الرحمة والإحسان، لا بالإيجاب، وفيه إشارة إلى أنَّ تنزيله القرآن أيضًا من رحمته- تعالى-، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «١». أو: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : مبتدأ وخبر، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه، غني عن الإخبار صريحًا. والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان، يقال: استوى فلان على سرير الملك مرادًا به مَلَك الملك والتصرف، وإن لم يقعد على سرير أصلاً، والمراد: تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء، فقال: استواء مَنْ غَلَبَ وقهر، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي- رضى الله عنهما- فقالا: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة، آمنوا بلا تشبيه، وصدّقوا بلا تمثيل، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك.
وقال الجنيد رضي الله عنه: خلق الله العرش فوق سبع سموات، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات، وقابله بقلب عبده المؤمن، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات. هـ. وقد تقدّم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا «٢».
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما، وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا كالطير، أي: له ذلك وحده دون غيره، لا شركةً ولا استقلالاً، كل ما ذكر هو له ملكًا وتصرفًا، وإحياء وإماتة، وإيجادًا وإعدامًا، وَما تَحْتَ الثَّرى:
وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب: أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى: أن
(٢) راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف. [.....]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ «١» وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية: بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.
ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات، فقال: اللَّهُ أي: ما ذكر من صفات الكمال، موصوفها الله المعبود بالحق، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا معبود بحق إلا هو، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات، ومن الرحمانية والمالكية للكل، والعلم الشامل، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية، وقوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته، من غير تعدد في ذاته تعالى فالأسماء والصفات كثيرة، والمسمى والموصوف واحد. و (الْحُسْنى) : تأنيث الأحسن، فُعلى، يُوصف به الواحد المؤنث، والجمع المذكر والمؤنث، ك مَآرِبُ أُخْرى «٢»، وآياتِنَا الْكُبْرى «٣». والله تعالى أعلم.
الإشارة: من تأمل القرآن العظيم، وما جاء به الرسول- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان، وجنة ورضوان، أعني جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: «ليس شيخك من يدلك على تعبك، إنما شيخك من يريحك من تعبك»، كما في لطائف المنن.
وقال شيخنا القطب ابن مشيش: وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا» فقال: دلوهم على الله، ولا تدلوهم على غيره، فإن مَن دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومَن دَلَّكَ على الله فقد
(٢) من الآية ١٨ من سورة طه.
(٣) من الآية ٢٣ من سورة طه.
وقوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: قيل: أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها، فأنزل الله القرآن تأنيسًا لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق: أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين، ورحمة للمؤمنين، وأنسًا للمحبين. وايضًا: القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته، فهو مُذهب للغفلة. ثم قال: وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة، ووجدان الراحة بالطاعة، لكونه يصير محمولاً، وقد قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «١»، أي: لشهودي فيها، وفي ذلك قرة عين، وراحةً، وأنس، وتشابه حال المصلي بحال موسى، بجامع النجوى، فلذلك ذكر في سياقه. والله أعلم. هـ.
وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله:
«يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، مَحَقْتَ الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار». وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار، ومحت كل شيء، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شَىْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.
ثم ذكر قصص موسى عليه السّلام، وتسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعما لقى من التعب فى تبليغ الوحى، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
قلت: ولعل وجه تناسقهما في الذكر قرب المنزلة، ومشاركة الصفة، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة، فإن أمة موسى عليه السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبي هداية على يديه لقومه مثله، إلا لنبينا- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر، وفي حديث البخاري مَا يدل على هذا، حين عرضت عليه الأمم ﷺ مرة، فرأى أمة موسى عليه السلام كثيرة، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه «٢».
وقال أبو السعود: المناسبة إنما هي تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مَسَاق الحديث، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء، كابرًا عن كابر، وقد خوطب به موسى عليه السلام، حيث قيل له: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وبه ختم عليه السلام مقاله، حيث قال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ «٣»، ثم ردَّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق. فانظره.
و (هَلْ) : لفظة استفهام، والمراد به التشويق لما يخبره به، أو التنبيه. و (إِذْ رَأى) : ظرف للحديث لأن فيه معنى الفعل، أو لمضمر مؤخر، أي: حين رأى كان كيت وكيت، أو: لاذكر، أي: اذكر وقت رؤيته.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قصته في معالجة فرعون، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرًا لأمر التوحيد، إِذْ رَأى نارًا تلمع في الوادي، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام فى
(٢) قال ابن عباس رضي الله عنه: خرح علينا النبي ﷺ يوما، فقال: عرضت علىّ الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتى. فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لى: انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لى: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل:
هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب | » الحديث أخرجه البخاري فى (الطب، باب من لم يرق) |
فبينما هو في ذلك إِذْ رَأى نارًا على يسار الطريق من جانب الطور، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي: أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد، وقيل: لها وحدها، والجمع للتعظيم، إِنِّي آنَسْتُ أي: أبصرت نارا، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي: بشعلة مقتبسة من معظم النار، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص «١»، وبالشهاب القبس، «٢» أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديًا يدلني إلى الطريق، فهو مصدر بمعنى الفاعل، و (أَوْ) في الموضعين: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا. ومعنى الاستعلاء في قوله: عَلَى النَّارِ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء، ولما كان الإيتاء بها غير محقق، صدَّر الجملة بكلمة الترجي.
فَلَمَّا أَتاها أي: النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه: رأى شجرة خضراء، حفت بها، من أسفلها إلى أعلاها، نارٌ بيضاء، تتَقِدُ كأضوء ما يكون، فوقت متعجبًا من شدة ضوئها، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة، وقيل:
سَمُرَة «٣».. بينما هو ينظر، نُودِيَ فقيل: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، أو بأني أنا ربك، وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودي يا موسى، قال عليه السلام: مَن المتكلم؟ فقال الله عزّ وجل: (أَنَا رَبُّكَ)، فوسوس إليه الخاطر: لعلك تسمع كلام شيطان، قال: فلما قال: (إِنَّنِي أَنَا)، عرفت أنه كلام الله عزّ وجل. قيل: إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.
ثم قال له: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لأنه أليق بحسن الأدب، ومنه أخذ الصوفية- رضى الله عنهم- خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر، وقيل: ليباشر الوادي المقدس بقدميه، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد، بخلعها ولو طاهرة، وقيل: إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل: النعلين: الكونين، أي: فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ: تعليل لوجوب الخلع، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك.
رُوِي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي، و «طُوىً» : بدل من الوادي، وهو اسم له. وقرأ منونًا لتأوله بالمكان، وغير المنون لتأوله بالبقعة.
(٢) فى قوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، من الآية ٧ من سورة النمل.
(٣) انظر تفسير الطبري (١٦/ ١٤٣)، والبغوي (٤/ ٢٦٥).
فَاعْبُدْنِي أَفردني بالعبادة والخضوع، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي: لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار، وأُفردت بالذكر، مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها على سائر العبادات لما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، فإنَّ الذكر كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة.
أو «لِذِكْرِي» : لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، بحيث لا تُرائي بها غيري. وقيل: لذكري إياها، وأمري بها في الكتب، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء، وقيل: لأوقات ذكري، وهي مواقيت الصلوات، وقيل: لذكر صلاتي إذا نسيتها، لِما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَة، أَوْ نَسِيَها، فَلْيُصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لأنَّ الله تَعالى يَقُول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «١».
قال بعضهم: [أصول العمل ثلاثة] «٢» : أقوال وأفعال وأحوال، فأفضل الأقوال: لا إله إلا الله، وأفضل الأفعال:
الصلاة لله أو بالله، وأفضل الأحوال: الطمأنينة بشهود الله.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ: كائنة لا محالة، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة، وإنما عبَّر بالإتيان تحقيقًا لحصولها، بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. أَكادُ أُخْفِيها أي: لا أظهرها، بأن أقول:
آتية فقط، فلا تأتي إلا بغتة، أو أكاد أظهرها بإيقاعها، مِنْ أخفاه، إذا أظهره، فأخفى- على هذا- من الأضداد.
وردّه ابن عطية، فإن الذي بمعنى الظهور هو: «خفى» الثلاثي، لا «أخفى». وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغات: أخفى بمعنى خفى، أي: ظهر، فلا اعتراض.
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف عن غيري؟ وكذلك هو في مصحف أُبي، وفي مصحف عبد الله: فكيف يعلمها مخلوق، وفي بعض القراءات: وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يُخفي الله تعالى عن نفسه، وهو خَلَق الأشياء؟ قلنا: إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.
(٢) ما بين المعكوفتين: مشتبه فى المخطوطة الأمّ، وغير موجود فى غيرها.
وقوله تعالى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق بآتية، أو بأُخفيها- على معنى: أظهرها، لتُجزى كل نفس بسعيها، أي: بعملها خيراً كان أو شرًّا. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي: عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها حتى تكسَل عن التزود لها. والنهي- وإن كان بحسب الظاهر متوجها للكافر عن صد موسى عليه السلام- لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها، على أبلغ وجه، فإنَّ النهي عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني، كقوله تعالى: لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي «١»، أي: لا تتبع في الصد عنها من لا يؤمن بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي: ما تهواه نفسه من اللذات الفانية، فَتَرْدى: فتهلك فإنَّ الإغفال عنها، وعن تحصيل ما يُنجي من أهوالها، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.
الإشارة: وهل أتاك أيها العارف حديث موسى، كيف سار إلى نور الحبيب، ومناجاة القريب، إذ رأى نارًا في مرأى العين، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين، فقال لأهله ومن تعلق به: امكثوا، أقيموا في مقام الطلب، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم، في نيل المُطَّلَبِ، إني آنست نارًا، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته، وهذا مقام الفناء، لعلي آتيكم منها بقبس، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم. أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين، فلما أتاها، وتمكن من شهودها، نودي يا موسى: إني أنا ربك، فلا نار ولا أثر، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر، في مرأى الأثر، فاخلع نعليك، أي: اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون، كما قال القائل:
واخلع النعلين، إن جئتَ إلى | ذلك الحي ففيه قدسنا |
وعن الكونين كن منخلعا | وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا |
قُلْتُ: امْكُثُوا، فلَعلّي... أجِدْ هُدايَ، لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ... نار التكلم قبلي
نودِيتُ منها كفاحًا:... رُدّوا لَياليَ وصلي
حتى إذا ما تَدانَى ال... ميقاتُ في جَمْعِ شَملي
صارتْ جِبالِيَ دكًا... مِنْ هيبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرًّ خَفيٌ... يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي
فالموتُ فِيهِ حياتي... وفي حَياتيَ قَتلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني... مذ صار بعضي كلي
قوله: «صارت جبالي دكًّا»، أي: جبال وجوده، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها، حياة لا موت بعدها. وقوله: «مذ صارَ بَعْضِيَ كُلِّي» يعني: إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به، وهو بحر المعاني المُفني للأواني. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مكالمته مع كليمه عليه السّلام، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
قلت: (وَما) : استفهامية، مبتدأ، و (تِلْكَ) : خبر، أو بالعكس، فما: خبر، وتلك: مبتدأ، وهو أوفق بالجواب.
و (بِيَمِينِكَ) : متعلق بالاستقرار حالاً، أي: وما تلك، قارةً أو مأخوذة بيمينك، والعامل معنى الإشارة. وقيل: (تِلْكَ) :
موصولة، أي: وما التي هي بيمينك، والاستفهام هنا: إيقاظ وتنبيه له عليه السلام على مما سيبدُو له من العجائب، وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه.
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي: أعتمد عليها إذا مشيت، وعند الإعياء، والوقوف على رأس قطيع الغنم، وَأَهُشُّ أي: أخبط بِها الورق من الشجر ليسقط عَلى غَنَمِي فتأكله. وقرئ بالسين، وهو زجر الغنم، تقول العرب: هَس هَس، في زجرها، وعدَّاه بعلى لتضمنه معنى الإقبال والتوجه. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي:
حاجات أخرى من هذا الباب. قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تأتيه وتحرسه، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومَه، ويركز بها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أَدْلاَهَا، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو فيستقي بها، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيئ بها، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت وأثمرت. فهذه المآرب «٢».
وكأنه عليه السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء، فلذلك أطنب في كلامه، فلما بدت منها خوارق بديعة عَلِمَ أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة، وأيضًا: الإطناب في مناجاة الأحباب محمود.
قالَ له تعالى: أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك، قيل: إنما أُمِر بإلقائها قطعًا للسكون إليها، لِمَا كان فيها من المآربِ، وبالغ الحق تعالى في ذلك بقلبها حية، حتى خاف منها، وحين قطعه عنها، وأخرجها من قلبه، بالفرار منها ردها إليه بقوله: خُذْها وَلا تَخَفْ فَأَلْقاها على الأرض فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى، رُوِي أنه عليه السلام ألقاها فانقلبت حية صفراء، في غلظ العصا، ثم انتفخت وعظمت، فلذلك شبهت بالجان تارة، وبالثعبان مرة أخرى، وعبَّر عنها هنا بالاسم العام للحالين، وقيل: انقلبت من أول الأمر ثعبانًا، وهو أليق بالمقام، كما يفصح عنه قوله عزّ وجلّ: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «٣»، وإنما سميت بالجان في الجلادة وسرعة المشي، لا في صغر الجثة. وقيل: الجان عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان عن انتهائه.
(٢) قال الحافظ ابن كثير عن هذه المآرب: الظاهر أنها- أي: العصا- لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السّلام صيرورتها ثعبانا، فما كان يفرّ منها هاربا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، انظر: تفسير ابن كثير (٣/ ١٤٥).
(٣) من الآية ١٠٧ من سورة الأعراف
ثم أراه معجزة أخرى، فقال: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي: أدخلها تحت عضدك، فجناح الإنسان:
جنباه، مستعار من جناح الطير، تَخْرُجْ بَيْضاءَ: جواب الأمر، أي: إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: حال كونها كائنة من غير عيب بها كبرص ونحوه. رُوِي أنه عليه السلام كان آدم اللون، فأخرج يده من مدرعته بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، تضيء حال كونها آيَةً أُخْرى أي: معجزة أخرى غير العصا، لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى أي: فعلنا ما فعلنا، لنريك بعض أياتنا العظمى، أو: لنريك الكبرى من آياتنا. قال ابن عباس: «كانت يد موسى أكبر آياته». والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير: وما تلك بيمينك أيها الفقير؟ فيقول: هي دنياي أعتمد عليها في معاشي وقيام أموري، وأُنفق منها على عيالي، ولي فيها حوائج أخرى من الزينة والتصدق وفعل الخير، فيقال له: ألقها من يدك أيها الفقير، واخرج عنها، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها، فألقاها وخرج عنها، فيلقيها، فإذا هي حية كانت تلدغه وتسعى في هلاكه وهو لا يشعر. فلما تمكن من اليقين، وحصل على غاية التمكين، قيل له: خذها ولا تخف منها، حيث رفضت الأسباب، وعرفت مسبب الأسباب، فاستوى عندك وجودها وعدمها، ومنعها وإعطاؤها، سنعيدها سيرتها الأولى، تأخذ منها مأربك، وتخدمك ولا تخدمها. يقول الله تعالى: «يا دنياي، اخدمي من خدمني، وأتبعي من خدمك» «١».
وأما قوله تعالى في حديث آخر مرفوعًا: «تمرري على أوليائي ولا تحلو لهم فتفتنهم عني» «٢» فالمراد بالمرارة: ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار، وإيذاء الفجار وغير ذلك. وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفًا لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الفقر فخري وبه أفتخر» «٣»، أو كما قال عليه السلام إن صح. وقال شيخنا البوزيدى رضي الله عنه:
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٩٨٠٠) بنحوه ومطولا عن قتادة بن النعمان، وقال البيهقي: لم نكتبه إلا بهذا الإسناد، وفيه مجاهيل. والحديث فى الاتحافات (٢٥٨) للديلمى.
(٣) قال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص ٢٥٥، ح ٣٢٠) «قال الحافظ ابن حجر: «موضوع لا أصل له».
وقال في اللباب: اليد: يدَ الفكر، والجيب: جيب الفهم، وخروجها بيضاء بالعرفان. هـ. قال الورتجبي: أرى الله موسى من يده أكبر آية، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى، فكان يَدُ موسى يدَ قدرة الله، من حيث التخلق والاتصاف، كما في حديث: «كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا». هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ابتداء رسالة موسى عليه السلام، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٥]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
قلت: (هارُونَ) : مفعول أول، و (وَزِيراً) : مفعول ثان، قُدّم اعتناء بشأن الوزارة، و (لِي) : صلة، لا جعل، أو متعلق بمحذوف حال من (وَزِيراً) لأنه صفة له في الأصل. و (مِنْ أَهْلِي) : إما صفة وزيرًا، أو صلة لا جعل، وقيل: إن (لِي وَزِيراً) : مفعولاً اجعل، و (هارُونَ) : عطف بيان لوزير. و (أَخِي) في الوجهين: بدل من هارون، أو عطف بيان آخر.
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه موسى عليه السلام: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بما رأيته من الآيات الكبرى. وادعه إلى عبادتي وحدي، وحذره من نقمتي، إِنَّهُ طَغى أي: جاوز الحدّ في التكبر والعتو والتجبر، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. قالَ موسى عليه السلام مستعينًا بربه عزّ وجلّ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي: وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي: سهِّله حتى لا يصعب عليَّ شيء أقصده. والجملة استئنافية بيانية، كأن سائلاً قال: فماذا قال عليه السلام، حين أُمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير؟ فقيل: قال رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي... الخ.
كأنه، لما أُمر بهذا الخطاب الجليل، تضرع إلى ربه الجليل، وأظهر عجزه وضعفه، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره، ويَفْسَح قلبه، ويجعله عليمًا بشؤون الناس وأحوالهم، حليمًا صفوحًا عنهم، ليلتقي ما عسى أن يرد عليه من
ثم قال: وَاحْلُلْ أي: امشط وافسح عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، رُوي أنه كان في لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه في صغره. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم، فلطمه ونتف لحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: هذا عدو لي، فقالت آسية: على رسلك، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، ثم جاءت بطستين في أحدهما الجمر، وفي الآخر الياقوت، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه، فبقيت له رتة في لسانه، واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، ومن لم يقل به احتج بقول: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «١»، وقوله تعالى: وَلا يَكادُ يُبِينُ «٢» وأجاب عن الأول: بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام، فخفف بعضها لدعائه، لا جميعها، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله: مِنْ لِسانِي أي: عقدة كائنة من عُقد لساني، يَفْقَهُوا قَوْلِي أي:
إن تحلل عقدة لساني يفقهوا قولي.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً أي: مُعينًا ومُقويًا مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ليعينني على تحمل ما كلفتني به من أعباء التبليغ. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي: قِّ به ظهري، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي واجعله شريكاً لي في أمر الرسالة، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة، من قوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً... ) الخ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب في دوامهما وتكثيرهما. وفي الحديث: «يد الله مع الجماعة» «٣»، ولذلك ورد الترغيب في الاجتماع على الذكر: والجمع في الصلاة ليقوى الضعيف بالقوي، والكسلان بالنشيط، وقيل: المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة، لأنه هو الذي يختلف في حالتي التعدد والانفراد، فإن كُلاًّ منهما يصدر منه، بتأييد الآخر، من إظهار الحق، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
وكَثِيراً: وصف لمصدر أو زمن محذوف، أي: ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك، تنزيهًا كثيراً، أو زمناً كثيراً، ومن جملة ذلك: ما يدعيه فرعونُ الطاغية، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك في الألوهية.
(٢) من الآية ٥٢ من سورة الزخرف.
(٣) أخرجه الترمذي فى (الفتن، باب ما جاء فى لزوم الجماعة)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين، وألقيت عصاك بوادي البيْن، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك، إنه طغى عليك، حيث حجبك عن شهود ربك، فلا حجاب بينك وبين ربك، إلا حِجاب نفسك، ووقوفك مع شهود حسك، فهو أكبر الفراعين في حقك، فاهدم وجوده، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك، وقل: اللهم اشرح لي صدري، ووسعه لمعرفتك، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني، حتى لا أعقد إلا على محبتك، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك، كما قال الشاعر:
فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم | وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري. |
ثم أجاب الحق جل جلاله سؤاله، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا... ويقول: وكذلك جعلناه نورا فشريعته روح ونور.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الله تعالى لموسى عليه السلام: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي: أعطيت مسؤولك، وبلغنا لك مأمولك فى كل ما طلبت منا. والإيتاء، هنا، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها، وإن كان وقوع بعضها مستقبلاً، ولذلك قال: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «١»، وإعادة النداء في قوله: يا مُوسى تشريفًا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب.
ثم ذكَّره بنعمة أخرى قد سلفت، فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى قبل أن يكون منك لنا طلب، فكيف لا نجيبك بعد الطلب؟ وتلك المنة: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ حين تحيرت في أمرك، وخافت عليك من عدوك، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم- عليهما السلام- فقلنا لها: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أي: ضعيه فيه، وأغلقي عليه حتى لا يصل الماء إليه، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أي: ألقيه في البحر بتابوته، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي: فسيرميه البحرُ بالساحل، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرًا واجب الوقوع لتعلُق الإرادة الربانية به، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه، ذو تمييز، مطيع، فإنْ يُلْقه يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون. ولا تخافي عليه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «٢». وتكرير عداوته والتصريح بها للإشعار بأن عداوته له، مع تحققها، لا تضره، بل تؤدي إلى محبته، لأن الأمر بما فيه الهلاك من القذف في البحر، ووقوعه في يد العدو، مشعر بأن هناك ألطافًا خفية، ومننًا كامنة مندرجة تحت قهر صوري.
(٢) كما جاء فى الآية ٧ من سورة القصص.
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي: ولتربّى بالحنو والشفقة، وتغذى بمرأى مني، مصحوبًا برعايتي وحفظي، في أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ تتبع تابوتك، فلما أُخرجتَ التمسوا لك المراضع، فَتَقُولُ لفرعون وآسية، حين رأتهما يَطْلُبَانِ له مُرضعة يقبل ثديها، وكان لا يقبل ثديًا. وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية، والأصل: إذ مشت فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ يضمه إلى نفسه ويربيه، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. رُوِيَ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلامًا في النيل لا يرتضي ثدي امرأة، واضطروا إلى تتبع النساء، فخرجت أختُه مريم لتتعرف خبره، فجاءت متنكرة، فقالت ما قالت، وقالوا:
نعم، فجاءت بأمه فقبِل ثديها.
قال تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بعهدنا، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك، وَلا تَحْزَنَ أي: ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك، وَقَتَلْتَ بعد ذلك نَفْساً، وهي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه.
قال كعب: كان إذ ذاك ابن ثنتي عشرة سنة، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي: غم قتله، خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة، ومن اقتصاص فرعون، بوحينا إليك بالمهاجرة، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي: ابتليناك ابتلاءً عظيمًا، وخلصناك مرة بعد أخرى، حتى صَلَحْتَ للنبوة والرسالة، وهو تحمل ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، ومفارقة الأحباب، والمشي راجلاً، وفقد الزاد، بعد ما خلصه من الذبح، ثم من البحر، ثم من القصاص بالقتل.
وسُئل عنها ابن عباس، فقال: خلَّصناك من محنة بعد محنة، ولد في عام كان يقتل فيه الغلمان، فهذه فتنة، وألقته
وقال وَهْب: لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له. وأشار باللبث في مدين، دون الوصول إليها، إلى ما أصابه في تضاعيفها، من فنون الشدائد والمكاره، التي كل واحدة منها فتنة. و «مَدْيَنَ» : بلدة شعيب عليه السلام، على ثمانى يمراحل من مصر، ولم تبلغها مملكة فرعون، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أن يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه.
ثُمَّ جِئْتَ إلى المكان الذي آنستَ فيه النار، ورأيتَ فيه الخوارق، وخُصصتَ فيه بالرسالة، عَلى قَدَرٍ قدرته لك في الأزل، ووقت عينته لك، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر، غير متقدم ولا متأخر، وقيل: على مقدار من الزمان، يُوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: اختصصتك بالرسالة والمحبة والمناجاة، وهو تذكير لقوله: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه، حسبما طلب، بعد تذكيره المنن السالفة، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ إلى تاء المتكلم لمناسبتها للنفس فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين، فقذفناك في تابوت الإسلام، ثم في نهر الإيمان، ثم رميناك في بحر العرفان، وألقينا عليك محبة منا، فأحببناك وأحببتنا، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا، فتربيت في حفظنا ورعايتنا، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان، في طلب تحقيق العرفان، رددناك إليهم بعد التمكين، لتنهضهم إلى الله، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك، فنجيناك من غم الحجاب، وأخرجناك من سجن الأكوان، إلى فضاء الشهود والعيان، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا، فتنة الفقر، ثم فتنة الذل، ثم فتنة هجر الأوطان، حتى تخلصت من حبس الأكوان، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك، ووقت عيناه لفتحك، فاصطنعتك لنفسي، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي، من غير حول منك ولا قوة، فعِنايتنا فيك سابقة، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال، كما في الحكم. وأنشدوا:
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسَبْتُه | سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بشيءٍ يُعلَّلُ |
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى | بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ |
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ | تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ |
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ | تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ |
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ | فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ |
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي | أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ |
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لآ تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله لسيدنا موسى عليه السلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أي: ليذهب معك أخوك بِآياتِي: بمعجزاتي التي أريتكَهَا، من اليد والعصا، فإنهما وإن كانتا اثنتين، لكن في كل واحدة منهما آيات، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا: آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا: آية، وسرعة حركته، مع عِظَمِ جرمه: آية، وكذلك اليد فإنَّ بياضها في نفسه آية، وشعاعها آية، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية. والباء للمصاحبة، أي: اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا، مستمسكَيْنِ بها، وَلا تَنِيا: لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي عند تبليغ رسالتي، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري، بما يليق بحالكما من ذكر لسان أو تفكر أو شهود، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري، حتى لا تكونا فاترين في عيني.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى: تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي، وإنما جمعهما تغليبًا.
رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى- عليهما السلام، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه.
أي: لا تعنفا في قولكما. وقيل: القول اللين: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى.. الخ، ويعارضه قوله بعد: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وقيل: كنِّياه، وكان له ثلاثة كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقيل: عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت،. وقيل: اللطافة في القول فإنه رباك وأحسن تربيتك، وله عليك حق الأبوة، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ بما بلغتماه من ذكر، ويرغب فيما رغبتماه فيه، أَوْ يَخْشى عقابي.
ومحل الجملة: النصب على الحال من ضمير التثنية، أي: فقولا له قولا لينا، رَاجِيَيْنِ تذكرته، أي: باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه. وفائدة هذا الإبهام: الحتّ على المبالغة في وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال، وهو أنه تعالى علم أنه لا يؤمن، وقال: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون، أي: اذهبا على رجائكما. وقال الوراق: قد تذكر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج: خاطبهم بما يعقلون.
قلت: كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يُكشف في هذه الدار، وهو من أسرار الحقيقة، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه، مع العلم بإحالته، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي: يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من «فَرطَ» إذا تقدم، ومنه: الفارط، للوليد الذي مات صغيرًا. وقرئ بضم الياء، من «أفرط» إذا حَمله على العجلة، أي: نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما، على المعاجلة والعقاب، أَوْ أَنْ يَطْغى يزداد طغيانًا، كأن يقول فى شأنك مالا ينبغي، لكمال جرأته وقساوته، وإظهار «أَنْ» لإظهار كمال الاعتناء بالأمر، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل، وتبعية هارون عليه السلام، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما، فحكى الله قولهما عند نزول الآية، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «١»، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد لاستحالة جمعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم فى الخطاب؟.
فَأْتِياهُ، أمر بإتيانه، الذي هو عبارة عن الوصول إليه، بعد ما أمر بالذهاب إليه، فلا تكرار، فَقُولا له: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك، أمر بذلك من أول الأمر، ليعرف الطاغية شأنهما، ويبني جوابه على ذلك، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أطلقهم من الأسر والقهر، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام، بدليل قوله: وَلا تُعَذِّبْهُمْ بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة، من الحفر ونقل الأحجار، وضرب اللبن والطين، وبناء المدائن، وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده، وتسريح بني إسرائيل. رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة والملك الدائم، أعجبه، فقال: حتى أستشير هامان، وكان غائبًا، فقَدِم، فأخبره، فقال هامان: قد كنتُ أرى لك عقلاً، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، قال فرعون: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب منها، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت: والذي يظهر من سورة الشعراء «١» - بل هو صريح فيها- أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت في اللفظ، هنا لأن المراد إثبات الحجة بصحة الرسالة، لا تَعدد الآية، وكذلك قوله تعالى: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «٢»، أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ «٣»، وأما قوله تعالى: فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «٤» فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي: وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين، على من اتبع الهدى، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، دون من اتبع الغي والهوى، وفيه من الترغيب،
(٢) من الآية ٤٩ من سورة آل عمران.
(٣) من الآية ٣٠ من سورة الشعراء.
(٤) من الآية ١٠٦ من سورة الأعراف.
الإشارة: ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله، ولا تذكير العباد عن شهود الله، كما قال الله تعالى: وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي: ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال، وليدعوهم إلى أسهل الخلال، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «١» فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه، يحفظه ويرعاه، ويسمعه ويراه، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه، فقد بلغ ما عليه، وليقل بلسان الحال أو المقال: (والسلام على من اتبع الهدى). وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب فرعون، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
قلت: (خَلْقَهُ) : يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق، فيكون مفعولاً أولاً، و (كُلَّ شَيْءٍ) : مفعولاً ثانيًا، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة، فيكون مفعولاً ثانيًا، أي: أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ فرعونُ في جواب موسى، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة، وقالا له ما أمرهما به ربهما، وإنما حذفه للإيجاز، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم، أو بأن
قالَ موسى عليه السلام مجيبًا له: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي: ربنا هو الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه، أي: مخلوقاته مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم، أو أعطى كل شيء خلقته وصُورته التي يختص بها، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه، فاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه، للإنسان زوجةً، وللبعير ناقةً، وللفرس رَمْكةً، وللحمار أتَانًا. ثُمَّ هَدى إلى طريق الانتفاع والارتقاء، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع، وطلب الرعي وتوقى المهالك، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى.
ولمّا كان الخلق- الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام- مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
قالَ فرعون: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي: ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى:
هذا غيب لا يعلمه إلا الله، وهو معنى قوله: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجل. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السّلام إلى مالا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة فلذلك أعرض عنه، وقالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، وهذا أحسن من الأول لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له:
من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما نطق به قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. وقيل: فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى، أو: ما بالها لم تكن على دينك، أو: ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب، وكلها بعيدة.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قال له: هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
ثم تخلص إليه حيث قال، بطريق الحكاية عن الله عزّ وجل، أو من كلامه عليه السلام: الذي جعل لكم الأرض مهادا «١» أي: كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار، أي: جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي: طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، فَأَخْرَجْنا بِهِ، يحتمل أن يكون من كلام الله، وما قبله من كلام موسى، أو كله من كلام الله تعالى، حكاه موسى عليه السلام، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن، أي: فأخرجنا بذلك الماء أَزْواجاً: أصنافًا، سميت أزواجًا لازدواجها، واقتران بعضها ببعض، كائنة مِنْ نَباتٍ شَتَّى: متفرقة، جمع شتيت: أي: متفرق، وهو، في الأصل، مصدر، يستوي فيه الواحد والجمع، يعني: أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم، وبعضها للبهائم.
ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يليق بكونه طعامًا لهم، وهو معنى قوله: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، والجملة: حالٌ، على إرادة القول، أي: أخرجنا منها أصناف النبات، قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم، آذنين فى ذلك لكم.
العقول الصافية، جمع «نُهْيَة»، سمى بها العقل، لنهيه عن اتباع الباطل، وارتكاب القبيح، أي: لذوي العقول الناهية عن الأباطيل، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم، مع أنها آية للعالمين لأنهم المنتفعون بها.
مِنْها خَلَقْناكُمْ أي: من الأرض الممهدة لكم، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام، وأنتم في ضمنه، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواء إجماليًا، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها، وقيل: خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء: إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد، فيذره على النطفة، فتخلق من التراب ومن النطفة. هـ.
وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالإماتة وتفريق الأجزاء، والكلام على الأشباح دون الأرواح، فإنها، بعد السؤال، تصعد إلى السماء، كما يأتي عند قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ... «١» الآية. ولم يقل: وإليها نُعيدكم إشارة إلى استقرار العبد فيها، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى: باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة في الأصل: اسم للتور، وهو الجريان، فالتارة واحدة منه، ثم أُطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة، كما مر في المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه، مما سبق لهم في أزله، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح، هداه إلى أسبابها، وهم أهل مقام البعد، ومنهم من كان حظه قوت القلوب، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات، وهم أنواع:
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل، وهداهم إلى أسباب ذلك، وهم حملة الشريعة، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات، وهداهم إلى أسبابها، وقواهم على مشاقها، وهم العباد والزهاد. ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها، وهم الصالحون. ومنهم: من كان حظه قوت الأرواح، وهم المريدون السائرون، أهل الرياضة والتصفية، والتخلية والتحلية، والتهذيب والتدريب، وهداهم إلى أسبابها، ووصلهم
وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى... الآية، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية، تحيا به الأرواح، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. (مِنْها خَلَقْناكُمْ) : من أرض نفوسكم أخرجناكم، بشهود عظمة الربوبية، وفيها نُعيدكم للقيام برسم العبودية، ومنها نُخرجكم لتكونوا لله، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم، أي:
أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها، بالفناء عنها، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء، (ومنها نُخرجكم تارة أخرى) بعقد الحرية في مقام البقاء، فتكونوا عبيدًا شكّرا. وبالله التوفيق.
ثم إن فرعون لم تنفعه هذه الموعظة، ولا ما رأى من الآيات الباهرة، حتى طلب المعارضة، كما أبان ذلك الحق سبحانه بقوله:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
قلت: (مَوْعِداً) : مصدر، مفعول أول ل (فَاجْعَلْ). و (مَكاناً) : مفعول بفعل محذوف، أي: تعدنا مكانًا سُوى، لا بموعد لأنه وصف، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض، و (يَوْمُ الزِّينَةِ) : على حذف مضاف، أي: مكان يوم الزينة، و (أَنْ يُحْشَرَ) : عطف على يوم، أو الزينة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي: فرعون، آياتِنا، حين قال له: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «١»، وعبّر بالجمع، مع
وقيل: أريناه آياتنا التسع، وهو بعيد لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل، في نحو من عشرين سنة، والكلام هنا قبل المعارضة، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها، فأبى عن الإيمان، ثم رجع إلى إتمام القصة.
وأبعد منه: من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم، لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر، وغير ذلك، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء- عليهم السلام- حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه لاستحالة الكذب عليه، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
قال تعالى: فَكَذَّبَ فرعونُ موسى، وَأَبى الإيمان والطاعة، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودًا وعنادًا لعتوه واستكباره، وقيل: كذَّب بالآيات جميعًا، وأبَى أن يقبل شيئًا منها.
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له، أي: أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم لتُخرجنا من أرضنا؟ أو: أقبلت إلينا لتُخرجنا من مصر بما أظهرت لنا من السحر، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قاله تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم، وحيازة أموالهم، وإهلاكهم بالكلية، حتى لا يميل أحد إليه، (والله غالب على أمره). وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا، ثم ادعى أنه يعارضه، حيث قال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي: وإذا كان الأمر كذلك، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي:
وعدًا لا نُخْلِفُهُ أي: لا نخلف ذلك الوعد، ولا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد،
وقوله تعالى: مَكاناً سُوىً أي: يكون ذلك الوعد- أي: وعد الاجتماع- في مكان مستوٍ، تستوي مسافته بيننا وبينك، عدلاً، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه، منا ومنك، وفيه لغتان: ضم السين وكسرها.
قالَ لهم موسى عليه السلام: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ أي: مكان الزينة لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، وهو يوم عيد لهم، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه، وقيل: يوم النيروز،. وقيل: يوم عاشوراء، وقيل: يوم سوق لهم. وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي: موعدكم يوم الزينة، وحشرُ الناس ضحى، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى، يجتمعون نهارًا جهارًا، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من سبق له البعد عن الرحمن، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ، ولا قاطع برهان ودليل، أبعده التكبر والطغيان، ودفعُ الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.
ثم ذكر جمعهم، وما كان من شأنهم، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٩]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
(هذانِ) بالألف، فقيل: على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف رفعًا ونصبًا وجرًا، ويُعرِبُونَها تقديرًا، وقيل: اسمها: ضمير الشأن، أي: إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل: «إن» بمعنى «نعم»، لا تعمل، وما بعدها: جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة- رضي الله عنها-: إنه خطأ من الكُتاب، مثل قوله:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «١»، وَالصَّابِئُونَ «٢»، في المائدة، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحق جلّ جلاله: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي: انصرف عن المجلس، ورجع إلى وطنه، فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي: حِيلَه وسَحرته ليكيد به موسى عليه السلام، ثُمَّ أَتى الموعد، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته، وسيأتي عددهم.
قالَ لَهُمْ مُوسى، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة: وَيْلَكُمْ أي: ألزمَكم اللهُ الويل، إن افتريتم على الله الكذب، لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإشراك أحد معه، كما تعتقدون في فرعون، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا، فَيُسْحِتَكُمْ أي: يستأصلكم، بسببه، بِعَذابٍ لا يُقَادَر قدره، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا، يقال: سحت وأسحت.
فالثلاثي: لغة أهل الحجاز، والرباعي: لغة بني تميم ونجد. وَقَدْ خابَ وخسر مَنِ افْتَرى على الله، كائناً مَن كان، بأي وجه كان، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا، أو: قد خاب فرعون المفتري على الله، فلا تكونوا مثله في الخيبة.
فَتَنازَعُوا أي: السحرة، حين سمعوا كلامه عليه السلام، أَمْرَهُمْ أي: في أمرهم الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام، وتشاوروا وتناظروا بَيْنَهُمْ في كيفية المعارضة، وتشاجروا، ورددوا القول في ذلك، وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: من موسى عليه السلام لئلا يقف عليه فيدافعه، ونجواهم على هذا هو قوله: قالُوا إِنْ هذانِ أي:
موسى وهارون، لَساحِرانِ عظيمان يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر، بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما الذي أظهره قبل، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي: بمذهبكم، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية: والأظهر، في الطريقة هنا، أنه السيرة والمملكة. والمُثلى: تأنيث الأمثل، أي: الفاضلة الحسنة. هـ. وقيل: الطريقة هنا: اسم لوجوه القوم وأشرافِهم، لأنهم قدوة لغيرهم، والمعنى: يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما، ويُبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة: (طريقتهم المثلى يومئذ: بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم
(٢) من الآية ٦٩ من سورة المائدة. وللألوسى- رحمه الله- كلام طيب فى هذه القضية، راجعه فى تفسيره (١٦/ ٢٢٤).
وقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ: تصريح بالمطلوب، أي: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم، فأجمعوا كيدكم، أي: اجعلوه مُجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم، وارموه عن قوس واحدة. وقرأ أبو عمرو: (فاجْمَعُوا)، من الجمع، أي: فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: مصطفين، أمروا بذلك لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفًا، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفُرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفًا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا في آخر نجواهم: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز بالمطلوب مَنْ غلب، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس. وقيل: كان نجواهم أن قالوا- حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام: ما هذا بقول ساحر، وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقيل: قالوا فيها: إن كان ساحرًا غلبناه، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون، ويحمل قولهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ... الخ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
ثم طلبوا المعارضة، فقالوا: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقيه أولاً، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر مراعاة للأدب، لما رأوا عليه من مخايل الخير، وإظهارًا للجلادة، قالَ بَلْ أَلْقُوا أنتم أولاً، مقابلة لأدبهم بأحسن منه، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه، فيقذف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ، كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي: ففوجىء موسى، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت: هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أي: خوفًا، مُوسى أي: أضمر في نفسه بعض خوف، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل: إنما خاف موسى، إذ صنع القوم مثل صنيعه، بأن يشكُّوا فيه، فلا يتبعوه، ويشك فيه من تابعه. قُلْنا لا تَخَفْ ما توهمت، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم، والجملة: تعليل لنهيه عن الخوف، وتقرير لغلبته، على أبلغ وجه، كما يُعرب عنه الاستئناف، وحرف التحقيق، وتأكيد الضمير، وتعريف الخبر، ولفظ العلو.
ثم قال له: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي: عصاك، وإنما أبهمت تفخيمًا لشأنها، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس، مبهمة الكنه، مستتبعة لآثار غريبة، وأما حملُ الإبهام على التحقير، بمعنى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العُوَيْد الذي في يدك، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها، وصغره وكبرها، فيأباه ظهور حالها، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا: جواب الأمر، من لقفه، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، أي: تبتلع، وتلتقم بسرعة، ما صنعوا من الحبال والعصي، التي تخيل إليك، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه، وإدحاض الخوف عنه، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا، كما ترى، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن- كما قال مقاتل- من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه.
فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا صريح في عدم الالتباس إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم، فتأمله. إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ. وقرأ أهل الكوفة: (سِحْر) بكسر السين، فالإضافة للبيان، كما في «علم فقه»، أو: كيد ذي سحر، أو يسمى الساحر سحرًا مبالغة. والجملة تعليل لقوله: (تَلْقَفْ) أي: تبتلعه لأنه كيد ساحر، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي: حيث وُجد، وأين أقبل، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير، المتوجه إلى الله تعالى، من قبل الحق: إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك، وإما أن نكون أول من ألقاها عنك، أي: إما أن تتركها اختيارًا، أو تزول عنك اضطرارًا لأن عادته تعالى، مع المتوجه الصادق، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا. فيقول- إن كان صادق القلب-: بل ألقها، ولا حاجة لي بها، فألقاها الحق تعالى،
ثم ذكر إسلام السحرة، وما كان من شأنهم، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
قلت: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، قال المحلي: أي: عليها، وهو مذهب كوفي، وأما مذهب البصريين فيقولون: ليست «فِي» بمعنى «على»، ولكن شبه المصلوب، لتمكنه في الجذع، بالحالّ في الشيء، وهو من الاستعارة التعبيرية.
و (مِنْ خِلافٍ) : في موضع الحال، أي: مختلفات.
يقول الحق جلّ جلاله: فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة، فابتلعت تلك الحبال والعصي، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية من آيات الله. رُوي أن رئيسهم قال: كنا نغلب أعين الناس، وكانت الآلات تُبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم، فتابوا وآمنوا، وأتوا بما هو غاية الخضوع، قيل: لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، والثواب والعقاب. وعن عكرمة: لما خروا سُجدًا، أراهم الله تعالى، في سجودهم، منازلهم في الجنة. ولا ينافيه قولهم: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى، قدّموا هارون إما لكبر سنه، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه، من أول الأمر، أن مرادهم فرعون، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي: لموسى، واللام لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع، أي: أذعنتم له قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي: من غير أن آذن لكم، إِنَّهُ أي:
موسى لَكَبِيرُكُمُ أي: أستاذكم وأعلمُكم في فنكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فتواطأتم على ما فعلتم. وهذه منه شبهة واهية أين كان موسى عليه السلام، وأين كان السحرة، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام، ويقتدوا بالسحرة، فأوهم عليهم، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم.
آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون يُهددها، وقال: انظروا أعظم صخرة، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزعت روحها منها، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن سبقت له العناية، لا تضره الجِنَايَة. هؤلاء السحرة جاءوا يحادون الله ورسوله، فأضحوا أولياء الله. رُوِي أن موسى عليه السلام لما قال لهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، سمع هاتفًا يقول: ألقوا يا أولياء الله، فتحير موسى عليه السلام، وأوجس في نفسه خيفة، وقال: كيف أعارض أولياء الله، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية، وإدراك مقام الولاية، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء، كالفضيل، وابن أدهم، وأضرابهم- رضى الله عن جميعهم-.
ثم ذكر ثبوت السحرة على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٦]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيًا عن السحرة، لمَّا خوفهم فرعونُ: قالُوا غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك، باتباعك عَلى ما جاءَنا منَّ الله تعالى على يد موسى عليه السلام مِنَ الْبَيِّناتِ أي:
المعجزات الظاهرة لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة، كما تقدم. وَالَّذِي فَطَرَنا: خلقنا وخلق سائر المخلوقات، أي: لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى، ولا على الذي خلقنا، حتى نتبعك ونترك الحق، وكان ما شاهدوه آية حسية، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى للإشعار بعِلِّية الحكم، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون- وهو من جملة مخلوقاته- مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه، أو: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانعه، أو: فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ..) الخ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية، ولا رغبة لنا في البقاء فيها، رغبة في سكنى الدار الدائمة، بسبب موتنا على الإيمان.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفنا، من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب، وَيغفر لنا أيضًا ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية، وخصوه بالذكر، مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه، ورغبة في مغفرته، وفي ذكره الإكراه: نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: أرادوا الإكراه على تعلم السحر، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط، كما يُعرب عنه قولهم:
إِنَّ لَنا لَأَجْراً.. «١» الخ، وقولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ «٢»، إلا أن يُقال: لما رأوا جدَّهُ طمعوا وطلبوا الأجر. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي: وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية، وأبقى في الدار الباقية، أو: والله في ذاته خير، وجزاؤه أبقى، نعيمًا كان أو عذابا.
(٢) من الآية ٤٤ من سورة الشعراء.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به تعالى، وما جاء من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما شهدناه، حال كونه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أي: الأعمال الصالحات، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا، فَأُولئِكَ أي: من يأت مؤمنًا.. الخ. وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَن»، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم، أي: فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات، لَهُمُ بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات الدَّرَجاتُ الْعُلى أي: المنازل الرفيعة، وليس فيه ما يدلّ على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى، لا بالثواب مطلقًا.
ثم فسر تلك الدرجات، فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ على الخلود، حال كونها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى، الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد في الإشارة للتفخيم، أي: ما تقدّم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى، هذا وقد قيل: إن قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ.... الخ، ابتداء كلام من الله عزّ وجل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال، على الثبوت في طريق السلوك، وعدم الرجوع عنها، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد، والتخويف بأنواع العذاب، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون، وليقولوا كما قال سحرة فرعون: (لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقضِ ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا... ) الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية، أُوذوا على النسبة، فمنهم من قُتل، ومنهم من طُوف، ومنهم من أُجلى عن وطنه، إلى غير ذلك مما جرى عليهم، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا، ولو قُطع إربًا إربًا. والله ولي المتقين.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويُريه الآيات المفصلات، بعد غلبة السحرة، نحوًا من عشرين سنة، كما فصّل ذلك في الأعراف، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم، أي: والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون، أي: سر بهم من مصر ليلاً إلى بحر القلزم. والتصدير بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها، والتعبير عنهم بعبادي لإظهار الرحمة والاعتناء بهم، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون، حيث استعبدهم، وهم عباده عزّ وجلّ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل. فَاضْرِبْ لَهُمْ أي: اجعل لهم، أو اتخذ لهم طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أي: يابسًا لا ماء فيه، لا تَخافُ دَرَكاً أي: حال كونك آمنًا من أن يُدرككم العدو، وَلا تَخْشى الغرق. وقرأ حمزة: «لا تخف» بالجزم، جوابًا للأمر، فيكون (ولا تخشى) : إما استئناف، أي: وأنت لا تخشى، أو عطف عليه، والألف للإطلاق، أو يقدر الجزم، كقوله:
ألم يأتيك والأنْباءُ تَنْمِي «١»... الخ.
وتقديم نفي خوف الدرك، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف، حيث قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «٢».
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي: تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم، يقال: اتبعتهم، أي: تبعتهم، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم، ويؤيده قراءة: (فاتَّبَعَهُمْ) بالشد. وقيل: الباء زائدة، والمعنى: فأتبعهم فرعون جنودَه، أي: ساقهم خلفهم، وأيًا ما كان، فالفاء فصيحة مُعْربة عَن مضمر قد طوى ذكره، ثقة بظهوره، وإيذانًا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال، أي: فَفَعل ما أُمر به من الإسراء بهم، وضرب الطريق في البحر وسلكوه، فأتبعهم بجنوده برّا وبحرًا.
رُوِي أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا، فأخبر فرعون بذلك، فأتبعهم بعساكره، وكانت مقدمته سبعمائة ألف، فقص أثرهم فلحقهم، بحيث تراءى الجمعان، فلما أبصروا رهجَ «٣» الخيل، قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «٤». فلما قربوا، قالوا: يا موسى أين نمضي، البحر أمامنا، وخيل فرعون خلفنا، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتى عشرة فرقة،
(٢) الآية ٦١ من سورة الشعراء. [.....]
(٣) الرّهج: الغبار.
(٤) الآيتان ٦١- ٦٢ من سورة الشعراء.
إن كنت ربًا فادخل كما دخل، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ، أي: تحب الفحل، وكان فرعون على حصان، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء، فلم يتمالك حصان فرعون، فاقتحم البحر على إثره، ودخل القبط كلهم، فلما لَجَّجُوا، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم، فعلاهم البحر وأغرقهم.
فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين، وأما فرعون وجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي:
علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه. قال القشيري: فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس، فلم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير. هـ. وقال الكواشي: (وغشيهم) من الغضب والغرق، وغير ذلك، مالا يعلم حقيقته إلا الله تعالى. هـ. فإبهام الصلة للتهويل والتفخيم، وقيل: (غشيهم من اليم) ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة، وليس بشيء فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف، لا سماع قصته فقط.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران، حيث ماتوا على الكفر، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي، المتصل بالعذاب الدائم الأخري، وَما هَدى أي: ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية. وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له، وفيه نوع تهكم به في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «٢»، فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر عاقبة من شدّ يده على دينه، وصبر على شدائد زمانه، كيف خرقت له العوائد، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء، وسلك به سبيل النجاة والهدى، وهذه عادة الله مع أوليائه، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن، ولذلك ذكّر الله بنى إسرائيل بما أنعم عليهم بعد البحر، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
(٢) من الآية ٢٩ من سورة غَافر.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «٢» حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ حين تُهتم، الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي: الترنجبين والطير السُّماني، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه، مثل الثلج، من الفجر إلى الطلوع، لكل إنسان صالح، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: من لذائذه، أو حلاله. وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي:
فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري:
مجاوزة الحلال إلى الحرام، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه، فأزاد على سدِّ الرمق، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. هـ. وقيل: لا تدخروا، فادَّخروا فتعودوا، وقيل: لا تنفقوه في المعصية، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بفعل شيء من ذلك، أي: ينزل ويجب، من حَلَّ الدين إذا وجب. وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي: تردَّى وهلك، أو وقع في المهاوي.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ أي: كثير الغفران لِمَنْ تابَ عن الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به، وَعَمِلَ صالِحاً أي: عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان، ثُمَّ اهْتَدى أي: استقام على الهدى ودام عليها حتى مات.
وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي: (ثُمَّ اهْتَدى) أي: علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. هـ.
الإشارة: إذا ذهبت عن العبد أيام المحن، وجاءت له أيام المنن، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن، وينظر ما هو فيه الآن من المنن، ليزداد شكرًا وتواضعًا، فتزداد نعمه، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسى أيام
(٢) من الآية ١١ من سورة الأعراف.
فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود. فيقال لأهل النعم، إن قاموا بشكرها: كُلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه، بأن تصرفوه في غير محله، أو تمنعوه عن مستحقه، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي... الآية.
وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.. الخ، قال القشيري: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الزَّلَّة وَآمَنَ فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، بل جميع الحوادث من الحقِّ، وَعَمِلَ صالِحاً فلم يُخِلّ بالفرائض، ثُمَّ اهْتَدى للسُّنَّةِ والجماعة.
وقال أيضًا: ثم اهتدى بنا إلينا. هـ.
قال الورتجبي: التائب: المنقطعُ إلى الله، والمؤمن: العارف بالله، والعمل الصالح: تركه ما دون الله، فإذا كان كذلك، فاهتدى بالله إلى الله، ويكون مغمورًا برحمة الله، ومعصومًا بعصمة الله. هـ.
ثم ذكر فتنة بنى إسرائيل بالعجل، بعد ذهاب موسى إلى المناجاة، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)
يقول الحق جلّ جلاله لموسى عليه السلام، لما ذهب إلى الطور، لموافاة الميقات، للعهد الذي عهد إليه، واختار سبعين من بني إسرائيل، يحضرون معه لأخذ التوراة بأمره تعالى، فلما دنا من الجبل حمله الشوق، فاستعجل إلى الجبل، وترك قومه أسفله، فقال له الحق جلّ جلاله: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي: ما حملك على
فأجاب عليه السلام بقوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي: هم هؤلاء قريبًا مني، فهُم معي، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية، ولا تقدح في الاستصحاب، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي: ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين: أحدهما: إنكار العَجَلة، والثاني: السؤال عن السبب والحامل عليها، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل أن قال:
إن ما وُجدَ مني تقدم يسير، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لتزادد عني رضا لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- والمعنى: لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك. هـ.
وقال القشيري: (هم أولاء على أثري) ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى. قال:
يا موسى، رضائي في أن تكون مَعهم، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم، وكونُكَ مع الضعفاءِ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم. هـ.
قالَ له تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي: ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.
رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة، بعد ذهابه، فحسبوها مع أيامها أربعين، وقالوا: قد أكملنا العدة، وليس من موسى عين ولا أثر، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا، واستخلف هارون على من بقي منهم، وكانوا ستمائة ألف، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا. وهذا معنى قوله تعالى:
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، حيث كان هو السبب في فتنتهم، فقال لهم: إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم لِمَا معكم من حُليّ القوم، فهو حرام عليكم، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام، قبل وقوعها، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع، كما في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «١»، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام، وتصدى لها بترتيب مبادئها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، يقال لها: سامرة، وقيل: كان رجلاً من كرمان. وقال ابنُ عباس:
كان من قرية يعبدون البقر، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقر، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل، واسمه: موسى بن ظفر.
والهمزة للإنكار، والمعطوف محذوف، أي: أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز، فأخطأتم بسببه، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد كائن مِنْ رَبِّكُمْ أي: من مالك أمركم، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي: وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله، والفاء، لترتيب ما بعدها، كأنه قيل: أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ أَمْ أَرَدْتُمْ حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدًا. ؟
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ أي: وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به، بِمَلْكِنا أي: بسلطاننا وقدرتنا، ونحن نملك أمرنا. وفيه لغتان: فتح الميم وكسرها. يعنون: لو خلينا وأُمورَنا، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله، ما أخلفنا، ولكن غلبنا على أمرنا، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال.
وقال القشيري: أي: لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط، صاغَ السامريُّ منه العجلَ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر. هـ.
وقوله تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، استدراك عما سبق، واعتذار ببيان منشأ الخطأ، أي:
حملنا أحمالاً من حُليّ القبط، التي استعرناها منهم، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل: كانوا استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها إليهم، مخافة أن يقفوا على أمرهم. وقيل: لما رمى البحر أجساد القبط، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة، التقطها بنو إسرائيل، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل، ولعل تسميتها أوزارًا لأنها تبعات وآثام، حيث لم تحل الغنائم لهم.
فَقَذَفْناها أي: في النار رجاء الخلاص من عقوبتها، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما كان معه منها كما ألقيناه، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل، كان قد صرَّه في عمامته، وكان ألقى إليه الشيطان: أنه ما خالط شيئًا إلا حيى، فألقاه في فمه فصار يخور.
رُوِيَ: أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عنكم، لما معكم من الأوزار، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار، ونقذف فيها كل ما معنا، ففعلوا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ من ذلك الحليّ المذاب عِجْلًا أي: صورة عجل
الإشارة: ينبغي لرئيس القوم، إذا كان في سفر، أن يكون وسَطهم، أو سائقًا لهم، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم، فإن التأني كله من الله، والعَجَلة كلها من الشيطان، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين، حتى يكون كأحدهم، فإن فارقهم، لأمر مهم، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه، وليكن اعتماده في ذلك على ربه، ونظره كله إلى رعايته وحفظه. قال الكواشي: عن ابن عطاء: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتدري من أين أُتيت؟ - يعني في فتنة قومه- قال: لا يا رب، قال: حين قلت لهارون: اخلفني في قومي، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون؟. هـ.
فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن، أو قلة الاستماع لهم، فإن أصابتهم فتنة الأسباب، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا، وليقل لهم: ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد، أفطال عليكم العهد، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب، حيث خالفتم عهود أشياخكم، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم، وليقل: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الإنكار على عبدة العجل، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٩ الى ٩٤]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
يقول الحق جلّ جلاله، مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم: أَفَلا يَرَوْنَ أي: أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون أن الأمر والشأن: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ العجل كلامًا، ولا يرد عليها جوابًا، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا للتنبيه على كمال ظهوره، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. وَهو أيضًا لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي: أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا، أو يجلب لهم نفعًا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه، أو ينفعهم إن عبدوه.
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، وقال لهم: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به، والمعنى: إنما فعل بكم الفتنة، لا الإرشاد إلى الحق، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ وحده، لا العِجْل، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة، أي: إن ربكم الذي يستحق ان يُعبد هو الرحمن لا غير. فَاتَّبِعُونِي على الثبات على الدين، وَأَطِيعُوا أَمْرِي من ترك عبادة ما علمتم شأنه.
قالُوا في جواب هارون عليه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه، بل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها، تعويلاً على مقالة السامري.
روي أنهم، لما قالوا ذلك، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة «١»، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ....) الخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم: (ما أَخْلَفْنا... ) الخ. فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه، ولحيته بشماله، غضبًا، قالَ يا هارُونُ، وإنما جرده من الواو لأنه استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضي بسكوته بعد ما شهد منهم ما شهد؟ فقيل:
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي: أن تتبعني. على أن «لا» مزيدة، أيْ: أيّ شيء منعك، حين رأيت ضلالتهم، من أن
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين والمحاماة عليه، فإن قوله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) متضمن للأمر بهما حتمًا، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف، أي: أخالفتني فعصيت أمري.
لَ يَا بْنَ أُمَ
، خص الأم بالذكر استعطافًا لحقها، وترقيقًا لقلبه، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي: بشعر رأسي. وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم، من شدة غيظه وفرط غضبه لله، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله: نِّي خَشِيتُ
إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
برأيك، مع كونهم أبناء رجل واحد، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق: الذي لا يُرى بعده اجتماع، فخشيتُ أن تقول:
فرقت بينهم، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي: قوله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ..) الخ، يعني: إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم، إلى أن ترجع إليهم، فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرب عنه قوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي «١». والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من اعتمد على غير الله، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله، فهو في حقه عجل بني إسرائيل، فيقال له: كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك، وانطمست به حضرة قدسك، فربك الرحمن الكريم المنان، فاتبع ما أمرك به من الطاعات، وكن عبدًا له في جميع الحالات، تكن خالصًا لله، حرا مما سواه. وبالله التوفيق.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ موسى عليه السلام في توبيخ السامري: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي:
ما شأنك، وما مطلوبك فيما فعلتَ من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم من بعده، قالَ السامري في جوابه:
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: علمت مالم يعلمه القوم، وفطِنت لما لم يفطنوا به، أو رأيت مالم يروه، وهذا أنسب، وقد كان رأى جبريلَ عليه السلام، جاء راكبًا فرسًا، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس، اخضر ما تحت قدمه بالنبات، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب. وذلك قوله تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي: أثر فرس الرسول، وهو جبريل، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال في اللباب: كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس، وقد دخل البحر فانفلق، فأخذ من أثره، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. هـ. وقال قتادة: كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها: سامرة، ولكن عدو الله نافق، بعد ما قطع البحرَ مع بني إسرائيل، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكُفُون على أصنام لهم، وكانوا يعبدون البقر، قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «١». فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. هـ.
وقال الكواشي: وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان، فوضعته في كهف حذرًا عليه، فبعث الله تعالى جبريل ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة. هـ.
وضعّفه ابن عطية. قلت: ولعل تضعيفه من جهة النقل، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهى، فعند ذلك قالَ له موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أي: اخرج من بين الناس، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: في مدة حياتك، أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ والمعنى: أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية، لا بحسب الاختيار، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام «١»، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد، أو يمسُّ أحدًا، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة، فتحامَى الناسَ وتحاموه، وكان يَصيح بأقصى طوقه: لا مساس. وقيل: أن موسى عليه السلام نفاه من قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن: (جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة).
فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلي بالوسواس، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياه اليوم يقولون ذلك: لا مساس. ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة: أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
ثم قال له الله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: في الآخرة، لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يُخلفك الله ذلك الوعد، بل يُنجزه لك أَلبتةَ، بعد ما عاقبك في الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه، بل لا بد لك من ملاقاته. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ العجل، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً مقيمًا على عبادته، لَنُحَرِّقَنَّهُ أي: والله لنحرقنه بالنار، وقيل بالمبْرد، مبالغةً في الحرق، ويعضده قراءة: «لَنُحَرِّقَنَّهُ»، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي: لنذرينه بالريح فِي الْيَمِّ في البحر، رمادًا، أو مبرودًا كأنه هباء، نَسْفاً بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهًا على كمال ظهوره، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين.
ثم نبَّه على الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة: استئنافية مسوقة لتحقيق الحق، إثر إبطال الباطل، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل، ثم وصفه بقوله: الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده، من غير أن يشاركه في الألوهية شيء من الأشياء، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلُم. وجملة: (وَسِعَ) : بدل من الصلة، أي: إنما إلهكم: الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنا
الإشارة: انظر أثر حافر فرس جبريل: كيف حييت به الأشباح، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله، أو بتقبيل أقدامهم، بل كان من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه، وشعشعت أنواره، وتحقق عرفانه، كما هو معلوم لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله لأنهم يدلون على الله، ويبعدون عن كل ما سواه. وانظر السامري حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد، حتى صار مثلاً في الناس. فقالت الصوفية: ينبغي للفقير أن يفر من أبناء جنسه، ويكون كالسامريِ، إذا رأى أحدًا قال: لا مساس، وأنشدوا:
وخَفْ أبناءَ جنسك، واخش منهم... كما تخشى الضراغم والسُّنْبَتا
وخالِطْهم، وزايلهم حِذارًا... وكن كالسامري إذا لُمِسْتَ
والسنبتاء: كل حيوان جريء، وقيل: اسم للنمر ويقال، لمن ركن إلى شيء دون الله تعالى مِنْ علم، أو عمل، أو حال، أو مقام، أو فني في مخلوق: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا). وفي بعض الأثر: يقول الله: «يا عبدي، لا تركْن لشيء دوني، فإنْ ركنتَ إلى علم جهّلناك فيه، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى حال وقفناك معه، وإن ركنتَ إلى معرفة نكرناها عليك. فأيّ حيلة لك أيها العبد، فكن لنا عبدًا أكن لك ربًّا». أو كما قال. وإليه الإشارة بقوله: (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ... ) الآية.
ثم ذكّر نبيه ﷺ بنعمة اطلاعه على هذه القصص البديعة، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١١٠]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قَاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لاَّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)
قلت: محل الكاف: نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك قصًا مثل ذلك القص المارّ. وما في الإشارة من معنى البُعد للإيذان بعلو درجته- عليه الصلاة والسلام- وبُعد منزلته في الفضل. و (مِنْ أَنْباءِ) :
في محل النصب، إما على أنه مفعول (نَقُصُّ) باعتبار معناه، أي: نقص عليك بعض أنباء، وإما على أنه متعلق بمحذوف صفة للمفعول، أي: نقص عليك خبرًا كائنًا من أخبار ما قد سبق.
يقول الحق جلّ جلاله: كَذلِكَ أي: مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي: من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ليكون تبصرة لك، وزيادة في علمك، وتذكيرًا لغيرك، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتي بعدك. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان، فقال:
وَقَدْ آتَيْناكَ...
قلت: (مَنْ أَعْرَضَ) : شرطية أو موصولة، وعلى كلٍّ فهي صفة لذِكْرًا، و (خالِدِينَ) : حال من فاعل (يَحْمِلُ)، أو الجمع، باعتبار معنى «مَن»، و (حِمْلًا) : تمييز، تفسير لضمير (ساءَ)، والمخصوص محذوف، أي: ساء حملاً وزرهم، و (يَوْمَ يُنْفَخُ) : بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ)، أو منصوب باذكر. و (يَتَخافَتُونَ) : استئناف مُبين لحالهم يومئذ، أو حال أخرى من (الْمُجْرِمِينَ). و (قاعًا) : حال من ضمير (فَيَذَرُها)، أو مفعول ثان ليذر. و (صَفْصَفاً) : حال ثانية، أو بدل من المفعول الثاني، وجملة: (لا تَرى) : استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف، أو حال أخرى، و (يَوْمَئِذٍ) : ظرف ليتبعون، أو بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ).
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَدْ آتَيْناكَ يا محمد مِنْ لَدُنَّا خصوص عنديتنا ذِكْراً عظيمًا وقرآنا كريمًا، جامعًا لكل كمال، مُخبرًا بعجائب القصص والأمثال. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي: عن ذلك الذِكْر العظيم الشأن، المستتبع لسعادة الدارين، بأن لم يؤمن به، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي: عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنونه. وتسميتها وزرًا لتشبيهها في ثقلها على المعاقَب، وصعوبة احتمالها، بالحمل الذي يُثقل الحامل ويُنقِضُ ظهره، وقيل: يُجسّم، ويُجعل على ظهره في طريق الحشر، والأول أنسب لقوله:
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي: ذلك اليوم هو يوم يُنفخ في الصور، أو: اذكر يوم ينفخ في الصور نفخة البعث، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي: المشركين يَوْمَئِذٍ أي: يوم ينفخ في الصور، وأعاده، تهويلاً، حَال كونهم زُرْقاً أي: زُرق العُيون. وإنما جُعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، وكانت تتشاءم بزرقة العين، كما قال الشاعر:
لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاكَ يا ابنْ مُكَعْبَرٍ | أَلاَ كُلُّ ضَبِّيِّ مِنَ اللؤْم أزرقُ. |
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي: يخفضون أصواتهم ويخفونها لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول. يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال استقصارًا لمدة لبثهم فيها، لزوالها، أو لتأسفهم عليها، لما شهدوا الشدائد والأهوال، أو في القبر، وهو الأنسب بحالهم، فإنهم، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافًا به، وتحقيقًا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة. وقيل: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة.
رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يومَ القيامة، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون.
قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وهو مدة لبثهم، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم: استرجاع منه تعالى، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أي: عن مآل أمرها، وقد سأل عنها رجل من ثقيف، وقيل: مشركو مكة، على طريق الاستهزاء، فَقُلْ لهم: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي: يجعلها كالرمل، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور، فَيَذَرُها أي: يترك ما كان تحتها من الأرض قاعًا
والقاع والقيعة: ما استوى من الأرض وصلُب، وقيل: السهل، وقيل: ما لا نبات فيه. والصفصف: الأرض المستوية الملساء، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة، لا تَرى فِيها أي: في الأرض الذي نسفت جبالُها عِوَجاً أي: اعوجاجًا وانخفاضًا، وَلا أَمْتاً نتوءًا وارتفاعًا. قال ابن عباس: العوج: الأودية، والأمت:
الروابي. وقال مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع والمعنى: أنك، إن تأملت بالمقاييس الهندسية، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية.
يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت الجبال، يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي: يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر، وهو إسرافيل عليه السلام، يدعو الناس بعد النفخة الثانية، قائمًا على صخرة بيت المقدس: أيُّها النَّاس هلمُّوا إلى ربكم، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم، قائلاً: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتمزقة، واللحوم المتفرقة قوموا إلى العرض والحساب، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين، كأنهم جراد منتشر، لا يدرون أين يذهبون، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى: لا عِوَجَ لَهُ أي: لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه، فلا يزيغ عنه، بل كلهم يقصدون صوته، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير: لا عوج للصوت عن أحد، بل يصل إليه أينما كان، ويتوجه إليه حيث كان، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي: خضعت وسكنت لهيبته فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي: صوتًا خفيًا. والهمس: صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر، أي: انقطعت أصوات اللسان، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر، من شدة الهيبة والخوف.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل: (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) في الدنيا، وهو: لا إله إلا الله، مخلصًا من قلبه.. أو: إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه، ورضي لأجله قولاً من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع، وإن وقعت لقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «١».
الإشارة: وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا، أي: قرآنًا يجمع القلوبَ على الله، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه- أي: عن الله- ولم يتوجه إليه بكليته، فإنه يحمل وِزرًا، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فيُكرم المتقين، ويُهين المجرمين، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
ويسألونك، أيها العارف، عن جبال العقل، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان، فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً، فيذر أرض النفس، حين استولت عليها أسرار المعاني، قاعًا صفصفًا، لاتصالها بفضاء المعاني، حين ذهبت أغيار الأواني، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. وإنما ترى وجودًا متصلاً، وبحرًا طامسًا، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب، ولا علو ولا سفل، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ... فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً... بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم يشاهد به سواه... هناك يهدى إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ... وَلا مُشِيرَ إلى الخطاب
والمراد بالخلق: جميع الكائنات، فلا خطاب من العبد إلى ربه، لمحو العبد من شدة القرب، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفي الحِكَم: «ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له لفنائه في وجوده، وانطوائه في شهوده». وقالوا: من عرف الله كَلَّ لسانه، وإليه الإشارة بقوله: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته، من غير عوج عنه، ولا خروج عن رأيه، حتى يقول له: ها أنت وربك. فحيئذ تحصل الهيبة والتعظيم، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته، وهو في حضرة الملك الكريم، وهذا شأن الصوفية، كلامهم كله تخافت وتسارر لغلبة الهيبة عليهم.
وقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق تَرَقِّ، وكيف؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا، في هذه الدار وفي تلك الدار!، ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات، ما تعجز عنه العقول، وتكل عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى، ويخوضون في بحار الأحدية، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية، فلا خوف ولا ملل، من غير إحاطة، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
فإذا رجعوا إلى مشاهدة الرسوم خضعت وجوههم للحى القيوم، كما قال تعالى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
قلت: (وَقَدْ خابَ..) الخ: استئنافٌ، تعليلُ ما لأجله عنت وجوههم، أو اعتراض، كأنه قيل: خابوا وخسروا، أو حال من الوجوه، و (مَنْ) : عبارة عنها، مُغنية عن ضميرها، أي: خضعت الوجوه، والحال أنها خابت حين حملت ظلمًا. وقيل: (الْوُجُوهُ) على العموم، فالمعنى حينئذ: وقد خاب من حمل منهم ظلمًا، ومن قرأ: «فلا يخف» : فعلى النهي، وهو جواب، ومن قرأ بالرفع: فعلى الخبر، أي: فهو لا يخاف.
يقول الحق جلّ جلاله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي:
الأسارى في يد الملك القهار، ومنه قيل للأسير: «عانٍ»، أي: خاضع ذليل، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
مَليكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمنٌ | لِعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ |
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ).
وإذا حملنا (عَنَتِ) على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت. ثم فصلهم: فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي: بعضها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات، فَلا يَخافُ ظُلْماً أي: منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته، وَلا هَضْماً أي: كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته، وأصل الهضم:
النقص والكسر يقال: هضمت لك من حقك، أي: حططت، وهضمت الطعام: حططته إلى أسفل المعدة، وامرأة هضيمة الكشح: أي: ضامرة البطن، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل، ففيه يتوهم الهضم والنقص، وأما بدونه فلا.. نعم، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد، ولو غفر له، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات، كما علم شرعًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا سرحت الفكرة وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت، وتحققت بعدم الإحاطة، رجعت إلى عش العبودية، وخضعت للحي القيوم، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى، بغلبة الطبع والهوى، وأما من نهض إلى مولاه، واشتغل بالأعمال التي تقربه إلى حضرته، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا فإن الله يرفع العبد على قدر همته، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحي والتنزيل، كما قال تعالى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
قلت: (وَكَذلِكَ) : عطف على قوله: (كَذلِكَ نَقُصُّ)، و «ذلك» : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، وصرفنا فيه من الوعيد، فَأَمْهِلْ عند نزوله، حتى يقرأه عليك الملك، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه، ويفرغ من قراءته عليك.
كان صلى الله عليه وسلم، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهى عن ذلك لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: وقل في نفسك، أو بلسانك: رب زدني علمًا، والمراد: سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته، وصرفنا فيه من الوعيد، لمن تخلف عن شهوده، بعد كمال ظهوره، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته، أو يُحدث لهم ذكرًا، أي: شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته، والوصول إليه، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء، أو يتصل به شيء «١»، وإنما الوصول إليه: العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل، أيها العارف، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام، مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إليك وحيه، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة، وبعد الوعي يكون البيان، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)
، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية، أي: لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم، والوصول للحي القيوم. وبالله التوفيق.
لما نهاه عن العجلة لأجل خوف النسيان، قال له: قد نسى أبوك آدم، فالنسيان من طبع الإنسان، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢١]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)
قلت: يقال: عهد إليه الملك، وأوعد إليه، وتقدم إليه: إذا أمره ووصاه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَقَدْ عَهِدْنا وتقدمنا إِلى آدَمَ من غرور الشيطان وعداوته، ووصيناه ألا يغتر به، فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فلا تغتر بنصحه، فَنَسِيَ ذلك العهد ولم يحتفل به، حتى غفل عنه، واغتر بإظهار نصحه، حتى أكل من الشجرة، متأولاً أن النهي للتنزيه، أو عن عين الشجرة، لا عن جنسها، فأكل من غيرها، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي: ثبات قدم، وحزمًا في الأمور، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته، وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره، قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها، ويذوق شرِّيها وأريها «١». وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو وُزنت أحلام بني آدم- أي: عقولهم- بحلم آدم، لرجح حلمه» «٢».
وقيل: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) على الذنب، فإنه أخطأ، أو تأول، ولم يتعمد، وأما قوله: (وَعَصى... ) فلعلو شأنه وقُربه عُد عصيانًا في حقه، «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
ثم شرع في بيان المعهود، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، فقال: وَإِذْ قُلْنا أي: واذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وتعليق الذكر بالوقت، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة في إيجاب ذكرها، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه
(٢) أخرجه ابن جرير فى التفسير (١٦/ ٢٢١)، وسعيد بن منصور، وابن عساكر، وابن المنذر، كما عزاه لهم السيوطي فى الدر المنثور (٤/ ٥٥٣) عن أبى أمامة الباهلي، موقوفا.
فَقُلْنا عقب ذلك، اعتناء بنصحه، وهو العهد الذي عهدناه إليه: يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيته فَعَلَ ما فعل عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حيث لم يرض بالسجود لك، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي: لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة، والمراد: نهيهما عن الاغترار به، فَتَشْقى: جواب النهي، أي: فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا، من الجوع والعطش، والفقر والضر، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس، فيكون عيشك من كد يمينك. قال ابن جبير: (اهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يَحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه). ولم يقل: فتشقيا لأنه غلَّب الذِّكَرَ لأن تعبه أكثر، مع مراعاة الفواصل.
قال تعالى له: إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى من فقد اللباس، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا:
لا تعطش فِيها، وَلا تَضْحى تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير. والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النِعَم من المآكل والمشارب، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية- مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى- إلى ما ذكر من نفي نقائضها، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو لتنفير تلك الأمور المنكرة ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها، سوى ما استثنى من الشجرة، حسبما نطق به قوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «١»، وقد طوي ذكرها هنا اكتفاءً بما في موضع آخر، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.
قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي: أنهى إليه وسوسته، أو أسرها إليه، قالَ فيها: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ أي: شجرة من أكل منها خلد، ولم يمت أصلاً، سواء كان على حاله، أو بأن يكون ملكا، وَأدلك على مُلْكٍ لا يَبْلى أي: لا يفنى ولا يزول، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي الله عنه: عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما، حتى بدت فروجهما.
وَطَفِقا يَخْصِفانِ يَرْقََعانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وقد تقدم فى الأعراف «٢».
(٢) راجع تفسير الآية ٢٢ من سورة الأعراف.
قال جعفر الصادق: عهدنا إلى آدم ألا ينسانا، فنسي واشتغل بالجنة، فابتلى بارتكاب النهي، وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم، فوقع من النعمة في البلية، فأُخرج من النعيم والجنة ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم، لا الالتذاذ بالأكل والشرب. فلا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ما سواه، نسأل الله تعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والعناية. هـ. قال بعض الحكماء: إنما نسي آدم العهد لأنه لما خلقت له زوجته أوقع الله في قلبه الأنس بها، وابتلاه بشهوات النفس فيها، فرأى في وجهها شجرة الحسن بادية، وشهوة الوقاع عليه غالبة. هـ. أي: فترك النظر إلى جمال المعاني، واشتغل بحس الأواني، فأفضى به إلى ترك الأدب، ولزمه التعب، فليحذر المريد جهده من الميل إلى الحظوظ، وليكن على حذر من الغفلة حين تناولها، والعصمةُ من الله.
وقوله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، قال الحاتمي: أي: على انتهاك الحرمة، بل وقع بمطالعة قدَر سابق، أنساه ما توجه على التركيب من خطاب الحِجْر. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وبما أشار إليه من مطالعة القدر يتضح لك قوله عليه السلام: «فحج آدمُ موسى» «١»، وليس ذلك لغيره إن لم يكن مجبورًا ومأخوذًا عنه، وهذا القدر هو الفارق بين ما يجري من المخالفة على الولي وغيره. وقد نبه على ذلك الجنيد بقوله: (وكان أمر الله قدرا مقدورًا)، فأشار لغلبة القدر وقهره، من غير وجود عزم من العبد. هـ. قلت: احتجاج آدم وموسى- عليهما السلام- لم يكن في عالم الأشباح، الذي هو محل التشريع، إنما كان في عالم الأرواح، الذي هو محل التحقيق، فالنظر في ذلك العالم الروحاني، إنما هو لسر الحقيقة، وهو ألا نسبة لأحد في فعل ولا ترك، فمن احتج بهذا غَلب، بخلاف عالم الأشباح، لا يصح الاحتجاج بالقدر لأن فيه خرق رداء الشريعة. فتأمله.
وقال في التنوير: اعلم أن أكل آدم من الشجرة لم يكن عنادًا ولا خلافًا، فإما أن يكون نسي الأمر، فتعاطى الأكل وهو غير ذاكر، وهو قول بعضهم، ونحمل عليه قوله سبحانه: (فَنَسِيَ)، وإن كان تناوله، ذاكرًا للأمر، فهو إنما تناول لأنه قيل له: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ... «٢» الآية، فلحبه في الله، وشغفه به، أحب ما يؤديه إلى الخلود في جواره والبقاء عنده، أو ما يؤديه إلى الملَكِية لأن آدم عليه السلام عاين قُرب الملائكة من الله،
(٢) من الآية ٢٠ من سورة الأعراف.
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. هـ.
وسُئل ابن عطاء عن قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ فقال: قال آدم عليه السلام: يا رب لِمَ أدَّبتني، وإنما أكلتُ من الشجرة طمعًا في الخلود في جوارك؟ فقال الله: يا آدم طلبتَ الخلود من الشجرة لا مني، والخلود بيدي وملكي، فأشركْتَ بي، وأنت لا تعلم، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنساني في وقت من الأوقات. هـ.
والحاصل: أنه إمَّا أن يُحمل النسيان على حقيقته، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر، ولا يعارضه: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرًا، مع شهود الجبر باطنا، وإمّا أن يُحمل النسيان على الترك، بتأويل أن النهي ليس على التحتم، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه في الأكل، فقدمه لأنه أرجح عنده. قاله المحشي.
وقوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ... الآية، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص في الأمر الممنوع شرعًا، فإن أُبيح بعضه ومُنع البعض فلا توسعة، فلأن تترك مباحًا خير من أن تقع في محرم، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح، خوفًا من الوقوع في المحرم. والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثم قال تعالى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٧]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، أي: اصطفاه وقرّبه إليه، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفي التعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره، مزيد تشريف له عليه السلام، يعني: آدم. فَتابَ عَلَيْهِ أي: قَبِلَ توبته حين تاب هو وزوجته، قائلين: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا... «١» الآية. وَهَدى أي: هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليه السلام بقبول توبته واجتبائه لأصالته في الأمور، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «٢».
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، وهو استئناف بياني، كأنَّ سائلاً قال: فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل: قال له ولزوجته: (اهْبِطا مِنْها) أي: انزلا من الجنة إلى الأرض، حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: متعادين في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف في الدين. والجمع لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد. وفي اللباب: ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده، وبكى مائة سنة، وألقت حواءُ يدها على رأسها، وجعلت تصيح وتصرخ، فبقيت سنَّة في النساء. ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع، وجرى من عينيه على الأرض جدولان، يجريان إلى قيام الساعة. وأُهبط آدم على ورقة من ورق الجنة، كان يتستر بها، وفي يده قبضة من ريحان الجنة، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياحُ في أرض الهند، فصار أكثر نباتها طيبًا. انظر بقية كلامه.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي: هداية من رسول وكتاب يهدي إلى الوصول إليَّ، أي: سيأتيكم مني رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ بأن آمن بالرسل وبما جاءوا به من عند الله فَلا يَضِلُّ في الدنيا وَلا يَشْقى في الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعني: من اتبع هداي، مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من قرأ الفرقان، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك لأن الله تعالى يقول: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «٣» أي: كتابي ورسولي، فَلا يَضِلُّ في الدنيا، وَلا يَشْقى في الآخرة.) وفي لفظ آخر: (أجار الله
(٢) من الآية ٣٤ من سورة النساء.
(٣) أخرجه الطبري فى التفسير (١٦/ ٢٥٥) موقوفا، وعزاه السيوطي فى الدر (٤/ ٥٥٦) لابن أبى شيبة والطبراني وأبى نعيم فى الحلية وابن مردويه، مرفوعا.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عن القرآن، أو عن الهُدى الذاكر لي والداعي إليّ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً:
ضيقًا، مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ: «ضنكى» كسكرى. وإنما كان عيشُهُ ضيقًا لأن مجامع همته، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإنَّ نور الإيمان يُوجب له القناعة، التي هي رأس الغنى وسبب الراحة، فيحيى حياة طيبة. وقيل: هو عذاب القبر. ورُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد الخدري: «يُضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا... » الحديث، وقيل: الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى: فاقد البصر كقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «١».
لا أعمى عن الحجة كما قيل. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً في الدنيا؟ قالَ كَذلِكَ أي: مثل ذلك فعلتَ أنتَ أَتَتْكَ آياتُنا أي: حجتنا النيرة على أيدي رسلنا فَنَسِيتَها أي: عميتَ عنها، وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر قط، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى: تُترك في العمى والعذاب، جزاء وفاقًا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا «٢»، فيومُ القيامة ألوان. ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وتَعدى بالانهماك في الشهوات، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، بل كذّب بها وأعرض عنها، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ على الإطلاق، أو عذاب النار، أَشَدُّ وَأَبْقى من ضنك العيش، أو منه ومن الحشر أعمى، عائذًا بالله من جميع ذلك.
الإشارة: قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله، وكالاعتراض على مقادير الله، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية: (أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة، قيل: وما هو؟ قال: قلت لشيء كان: ليته لم يكن). وأما معصية
(٢) من الآية ٣٨ من سورة مريم. [.....]
والحاصل: أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه، ويحقق له العبودية والانكسار، فهو شرف له وكمال، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد، كائنًا ما كان، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية، أو من الإصرار، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب، ولا تنقصه، بل تكمله، كما تقدم. فالتنزيه إنما يكون من النقائص، وهي التي تُوجب البعد عن الحق، لا مما يؤدي إلى الكمال، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء- عليهم السلام- مما صُورته المعصية، ليس بنقص، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء، على سبيل الهفوة، فتأمله، ولا تبادر بالاعتراض، حتى تصحب الرجال، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي: العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية، وقوله: وَعَصى أي: أظهر خلافًا، ثم أدركته الاجتبائية، فأزالت عنه مذمة العصيان، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: (نعمت المعصية أورثت الخلافة).
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق، قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «١» فقد استخلفه قبل أن يخلفه، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًا، ورفعة معنى، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، هذا فيمن غلبت عليه الطينية الإمشاجية، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون، أخلاء متقون، قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «٢».
وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي: داع يدعو إليَّ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى. ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم، وتنكب عن صحبتهم، فإن له معيشة ضنكًا، مصحوبة بالحرص والطمع، والجزع والهلع، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا، فلا يرى إلا الأكوان الحسية، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال رب لم حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني، عند رؤية الأواني، وقد كنت بصيرا في الدنيا ببصر الحس؟ قال: كذلك أتتك آياتنا، وهم الأولياء العارفون، فنسيتها، ولم تحتفل بشانها، وكذلك اليوم تُنسى لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
(٢) الآية ٦٧ من سورة الزخرف.
وقال القشيري: في الخبر: «مَنْ كان بحالة لقي الله بها» «١». فَمن كان في الدنيا أعمى القلب، يُحشرُ على حالته، يعيش على ما جهل، ويُحشر على ما جهل، ولذلك يقولون: (من بعثنا من مرقدنا) ؟ إلى أنْ تصيرْ معارفُهم ضرورية، كما يَتركون التَدبُّرَ في آياتهِ يُتركون غدًا في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم. هـ.
وكذلك نجزي من أسرف بالعكوف على شهواته، واغتنام أوقات لذاته، حتى انقضت أيام عمره في البطالة، نجزيه غم الحجاب والبُعد عن حضرة الأحباب، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى لدوامه واتصاله، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار فى هذه الدار، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
قلت: (أَفَلَمْ) : الهمزة للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على محذوف، أي: أغْفَلوا فلم يهد لهم. وعدى الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين، والفاعل مضمونُ (كَمْ أَهْلَكْنا)، أي: أفلم يُبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى؟ وقيل: الفاعل ضمير عائد إلى الله. و (كَمْ..) الخ: مُعلق للفعل سد مسد مفعوله. أي: أفلم يُبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم؟ والأوجه: أنْ لا يُلاحظ له مفعول، كأنه قيل: أفلم يفعل الله لهم الهداية، ثم قيل بطريق الالتفات: كم أهلكنا.. الخ بيانًا لتلك الهداية. و (مِنَ الْقُرُونِ) : في محل نصب، نعت لمفعول محذوف، أي: قرنًا كائنا من القرون.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أو لم يُبين لهم عاقبة أمرهم كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي: كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم، وهم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إذا سافروا إلى الشام، كأصحاب الحجر، وثمود، وفرعون، وقوم لوط، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة، مع علمهم بما جرى عليهم، بسبب تكذيبهم، فإنَّ ذلك مما يُوجب أن يهتدوا إلى الحق، فيعتبروا، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك، أو: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم، حال كونهم آمنين، يَمْشُونَ في ديارهم ويتقلبون في رباعهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «١».
إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك الفظيع لَآياتٍ كثيرة عظيمة واضحة الهداية، دالة على الحق لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن القبائح، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله، والتعامي عنها، وغير ذلك من فنون المعاصي.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة، التي يمرون عليها ولا يعتبرون، فأصروا على الكفر والعصيان، فلولا تلك العِدّة بتأخير العذاب لَكانَ لِزاماً أي: لكان عقاب جناياتهم لازمًا لهؤلاء الكفرة، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين، وفي التعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام- تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى الله عليه وسلم، كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «٢» واللزام: مصدر لازم، وصف به للمبالغة، وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي: لولا كلمة سبقت بتأخيرهم، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، لَمَا تأخر عذابهم أصلاً. وإنما فصله عما عطف عليه، للمسارعة إلى بيان جواب «لَوْلا»، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل، ومراعاة فواصل الآية الكريمة.
(٢) من الآية ٣٣ من سورة الأنفال.
قال الورتجبي: سماع الأذى يُوجب المشقة، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: إن كان سماع ما يقولون يُوحشك، فتسبيحنا يُروحك. هـ. أو: صَلِّ وأنت حامد لربك، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك، ويرجح هذا قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، فإن توقيت التنزيه غير معهود، فإنَّ المراد بقبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل غروبها: صلاة الظهر والعصر، وقيل: العصر فقط.
وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي: ساعاته فَسَبِّحْ أي: صَلِّ، والمراد به المغرب والعشاء، وآناء: جمع «إنَى»، بالكسر والقصر، أو «أناء» بالفتح والمد. وتقديم المجرور في قوله تعالى: وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ لاختصاصها بمزيد الفضل، فإن القلب فيها أجمع، والنفس إلى الاستراحة أميل، فتكون العبادة فيها أشق، ولذلك قال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا «١». وَسبح أيضًا، أَطْرافَ النَّهارِ وهو تكرير لصلاتي الفجر والمغرب إيذانًا باختصاصهما بمزيد مزية. وجمع (أَطْرافَ) بحسب اللفظ مع أمن اللبس، أو يراد بأطراف النهار: الفجر والمغرب والظهر لأنها «٢» نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني، أو يريد التطوع في أجزاء النهار.
قلت: وإذا حملناه على التنزيه- وهو أن يقول: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، أو كل ما يدل على تنزيه الحق- يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر لشرفها. فقد وردت أحاديث في الترغيب في ذكر الله أول النهار وآخره، وآناء الليل حين ينتبه من نومه، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبَّح الله وهلّله وكبّره، قبل أن يعود إلى نومه.
وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح. وقوله تعالى: لَعَلَّكَ تَرْضى أي: بما يعطيك من الثواب الجزيل، بالتسبيح في هذه الأوقات. أو ترضى بالشفاعة في جميع الخلائق، فتقر عينك حينئذ. وفي صحيح البخاري:
«إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشمس ليس دونها سحاب، فَإِنِ استَطَعْتُم أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل
(٢) أي: صلاة الظهر.
الإشارة: أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار، وأهل الشهود والاستبصار، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية، والأمم الماضية، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة، ويُشاهدون آثارهم الداثرة، كيف رحلوا عنها وتركوها، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم، قد نما ذكرهم، وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم. فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، وأفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرا، إلى القضاء وسلموا، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى. لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب، وأجل مسمى لأعمارهم لعجل لهم العقاب.
فاصبر، أيها المتوجه إلى الله، المنفرد بطاعة مولاه، على ما يقولون، مما يُكدر القلوب، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار، حتى تغيب في حضرة علاّم الغيوب، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان محصل الاعتبار هو صرف الهمة عن هذه الدار، أمر به نبيه ﷺ ومن كان على قدمه، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
قلت: (زَهْرَةَ) : مفعول بمحذوف، يدل عليه (مَتَّعْنا) أي: أعطينا، أو على الذم، وفيه لغتان: سكون الهاء وفتحها.
متعناهم بذلك، وأعطيناهم الأموال والعز في الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك، ويصرفوه في الجهاد معك، وينفقوه على من آمن معك.. أم لا؟ أو لنعذبهم في الآخرة بسببه، فلا تهتم بذلك. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي: ما ادخر لك في الآخرة خَيْرٌ، أو: ورزقك في الدنيا من الكفاف مع الهُدى، خير مما منحهم في الدنيا، لأنه مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه، فعاقبته الحساب والعقاب. وَأَبْقى فإنه لا ينقطع نفْسُه أو أثره، بخلاف زهرة الدنيا، فإنها فانية منقطعة.
فالواجب: الاشتغال بما يدوم ثوابه، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، أمره بأن يأمر أهل بيته، أو التابعين له من أمته، بالصلاة، بعد ما أمر هو بقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على ما مر ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتكلف الصبر على مداومتها، غير ملتفت لأمر المعاش، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: لا نُكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا، وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى أي: لأهل التقوى.
رُوي أنه ﷺ كان إذا أصاب أَهْلَه ضُر أو خصاصة أَمَرهُمْ بِالصّلاة، وتلا هذه الآية «١». والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما خوطب به نبينا ﷺ خوطب به خاصة أمته، فلا تمدن عينيك، أيها الفقير، إلى ما متع به أهل الدنيا، من زهرتها وبهجتها، بل ارفع همتك عن النظر إليها، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)...
الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه: يا علماء السوء دياركم هامانية، ومراكبكم قارونية، وملابسكم فرعونية، فأين السنة المحمدية؟.
ولا تشتغل بطلب رزق، فرزق ربك- وهو ما يبرز لك في وقتك من عين المنة، من غير سبب ولا خدمة- خير وأبقى، أما كونه خيرًا فلِمَا يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة، وأما كونه أبقى لأن خزائنه لا تنفد،
وعزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد (٧/ ٦٧) للطبرانى فى الأوسط، من حديث ابن سلام، وقال: رجاله ثقات.
ثم ذكر بعض أقاويل الكفرة، التي أمر عليه الصلاة والسلام بالصبر عليها. أو تقول: ثم ردّ على مَن طلب المعجزة، بعد هذا البيان التام، فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار مكة: لَوْلا: هلاّ يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه، أو بآية مما اقترحوها من تفجير الأرض وتسيير الجبال، ولم يعدوا ما شهدوا من المعجزات التي تخر لها الجبال من قبيل الآيات مكابرة وعنادًا. قال تعالى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي: أوَ لَمْ يأتهم القرآن الذي فيه بيان ما في الصُحف الأُولى التوراة والإنجيل والزبور، وسائر الكتب السماوية لاشتماله على ما فيها، وزيادة علوم وأسرار. وهذا رد من جهته تعالى لمقالتهم، وتكذيب لهم فيما دسوا تحتها، من إنكار إتيان الآية، بإتيان القرآن الكريم، الذي هو أبهر الآيات، وأسنى المعجزات، وأعظمها، وأبقاها لأن حقيقة المعجزة: اختصاص مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادة، أيّ أمر كان، ولا ريب في أنَّ العلم أجلْ الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال، ولقد ظهر، مع حيازته لعلوم الأولين والآخرين، على يد أمي، لم يمارس شيئًا من العلوم، ولم يدارس أحدًا من أهلها أصلاً، فأيّ معجزة تراد بعد وروده؟ وأيّ آية ترام مع وجوده؟! وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى، أي: شاهدًا بحقية ما فيها من العقائد والأحكام، التي أجمعت عليها كافة الرسل، ما لا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه، ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه. وقال بعض أهل المعاني: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى، من أنباء الأمم الذين أهلكناهم، لما سألوا الآيات، فأتتهم، فكفروا بها، كيف عجلنا لهم الهلاك؟ فما يُؤمن هؤلاء، إن أتتهم البينة، أن يكون حالهم كأولئك.
قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين: كُلٌّ أي: كل واحد منكم ومنا، مُتَرَبِّصٌ: منتظر ما يؤول إليه أمرنا وأمركم، (فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا. أو كُلٌّ منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون النصر، فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي: المستقيم، أو السواء، أي: الوسط الجيد، وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، هل نحن أو أنتم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يُشترط في الولي العارف بالله، الداعي إلى الله، إظهار الآيات، ويكفي، برهانًا عليهم، كونهم على بينة من ربهم، وهداية الخلق على أيديهم، وما أظهروه من علم أسرار التوحيد، ومن فنون علم الطريق، مع كون بعضهم أميين، لم يتقدم له مدارسة علم قط، كما شهدناهم، بعثهم الله في كل عصر، يُعرفون بالله، ويدلون على أسرار ذاته وأنوار صفاته، على سبيل العيان، لتقوم الحجة على العباد، فإذا بُعثوا يوم القيامة جاهلين بالله محجوبين عن شهود ذاته، متخلفين عن مقام المقربين، يقولون: لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً يُعرفنا بك، فنتبع آياتك حتى نصل إليك، من قبل أن نذل بالانحطاط عن درجة المقربين، أو نخزى بإسدال الحجاب. يقول الحق تعالى:
قد بعثتهم، فأنكرتموهم، فإذا اغتروا اليوم، واحتجوا بقول من قال: انقطعت التربية، فقل: كلٌّ متربص فتربصوا، فستعلمون من أصحاب الصراط السَّوي ومن اهتدى. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليما.