ﰡ
مكية (١)
وآياتها تسع وستون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧)شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ ألف لام ميم.
وهم لا يفتنون: أي لا يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى.
ولقد فتنا الذين من قبلهم: أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس.
فليعلمن الذين صدقوا: أي في إيمانهم، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم.
أن يسبقونا: أي يفوتونا فلا ننتقم منهم.
من كان يرجوا لقاء الله: أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإيمان وصالح الأعمال.
ومن جاهد: أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس.
فإنما يجاهد لنفسه: أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه.
ولنجزينهم: أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.
معنى الآيات:
الم: الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزلها عز وجل وقوله ﴿أَحَسِبَ (١) النَّاسُ﴾ أي أظن الناس ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ فيكتفى منهم بذلك ﴿وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ أي لا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى. والآية نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام هنا، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه "أل" أفادت استغراق جميع أفراده. وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ (٢) مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم السابقة فهي إذاً سنة ماضية في الناس لا تتخلف. وقوله تعالى ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانهم أي يظهر ذلك (٣) ويعلمه مشاهدة بعد أن علمه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من
٢ - روى البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" وروى ابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة!! ".
٣ - وفي الحديث: "من أسر سريرة ألبسه الله رداءها" أي أظهرها عليه.
٢ - قال القرطبي: أجمع أهل التفسير على أن المعنى من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحاً فإنه لا بد أن يأتيه.
٣ - المراد بجهاد العدو الظاهر الكفار والباطن النفسي.
٤ - جمع ملحق بمذكر سالم نحو: الحمد لله رب العالمين.
من هداية الآيات:
١- بيان سنة أن الإيمان يصدق بالأعمال أو يكذب.
٢- بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق.
٣- تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمنا ما فإنها واقعة لا محالة.
٤- ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه. فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت.
٥- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
ووصينا الإنسان: أي عهدنا إليه بطريق الوحي.
بوالديه حسنا: أي إيصاءً ذا حسن، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما.
وإن جاهداك: أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك.
لندخلنهم في الصالحين: أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة.
فتنة الناس: أي أذاهم له.
كعذاب الله: أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق.
إنا كنا معكم: أي في الإيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا.
اتبعوا سبيلنا: أي ديننا وما نحن عليه.
ولنحمل خطاياكم: أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم، فالكلام خبر وليس إنشاء.
وليحملن أثقالهم: أي أوزارهم، والأوزار الذنوب.
وأثقالاً مع أثقالهم: أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا.
عما كانوا يفترون: أي يكذبون.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت فى شأن (١) سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتُعيّر بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم
٢ - الاستفهام للتقرير فلذا يجاب ببلى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي.
٢- بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين.
٣- ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإيمان فما هم بمؤمنين.
٤- بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان.
٥- تقرير مبدأ من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح (٢).
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥)
تقول خليلتي لما اشتكينا | سيدركنا بنو القرم الهجان |
فقلت ادعي وادع فإن أندى | الصوت أن ينادى داعيان |
٢ - نص الحديث كما هو في الصحيح: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير ينقص من آثامهم شيئا" وفي الصحيح أيضا "ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل".
ولقد أرسلنا نوحاً: أي نوحا بن لَمْك بن مُتَوَشْلخْ بن إدريس من ولد شيث بن آدم، بينه وبين آدم ألف سنة.
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما: أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة وخمسين سنة.
فأخذهم الطوفان: أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم.
وهم ظالمون: أي مشركون.
وجعلناها آية للعالمين: أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحاً وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفاً عنهم فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ (١) ﴾ وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء. إذ لم يكن غيرهم ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ﴾ أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الأصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء الخمسة رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحاً رسولا فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ (٢) سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً﴾ يدعوهم فلم يستجيبوا له ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحا
٢ - العدول عن السنة إلى العام حتى لا يحصل تكرار في لفظ السنة وهو من بلاغة الكلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل لهداية الخلق.
٢- بيان قلة من استجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدعاة من بعد.
٣- بيان إهلاك الله تعالى للظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين.
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا
٢ - في البخاري أن قتادة قال: بقيت السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة. وقيل: إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج، وكان الجودي الذي رست فوقه قرب (باقردي) وهي قرية من جزيرة بن عمر بالموصل شرقي دجلة.
٣ - الضمير في: (وجعلناها) عائد إلى السفينة، وما في التفسير أعم وأشمل.
شرح الكلمات:
وإبراهيم: أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع: ومن المرسلين إبراهيم.
اعبدوا الله واتقوه: أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.
أوثاناً: أي أصناماً وأحجاراً وصوراً وتماثيل.
وتخلقون إفكاً: أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.
فابتغوا عند الرزق: أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.
واعبدوه: أي بالإيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.
وإن تكذبوا: أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الآيات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.
وما على الرسول: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلا البلاغ المبين: وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.
معنى الآيات:
هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ أي (١) واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ البابليين ومن بينهم والده آزرْ يا قوم ﴿اعْبُدُوا اللهَ﴾ أي بتوحيده في عبادته ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ بترك الشرك والعصيان وإلا حلت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي الإيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير
٢ - قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما اتخذ من حصى أو حجارة.
٣ - سلك إبراهيم في دعوة قومه هذه سبيل الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العوام، وعدى الشكر باللام لما تفيده اللام من الاختصاص أي: الاستحقاق.
٤ - القصد من هذه الجملة: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) إعلام المخاطبين بأن تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه نكاية به أو تشف منه، فإن كان من خطاب الله تعالى لقريش فالمراد من الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان من كلام إبراهيم فالمراد به إبراهيم نفسه سلك فيه مسلك الإظهار في مقام الإضمار تنويعاً للأسلوب.
٥ - أي: والثاني: أن تبقوا على إصراركم أعني الخيار الثاني بعد الأول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب عبادة الله وتقواه طلباً للنجاة من الخسران في الدارين.
٢- بطلان عبادة غير الله عن طريق الأدلة العقلية.
٣- ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم
٤- وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.
٥- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأنيب المشركين من أهل مكة.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
شرح الكلمات:
أو لم يروا: أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.
ثم يعيده: أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإعادة.
إن ذلك: أي أن الخلق الأول والثاني هو الإعادة.
على الله يسير: أي سهل لا صعوبة فيه، فكيف إذًا ينكر المشركون البعث.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه، تستدلون بذلك على قدرته على البعث الآخر.
ثم الله ينشئ النشأة الآخرة: أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.
وإليه تقلبون: أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلا.
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء: أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير: ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.
يئسوا من رحمتي: أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة البعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الآيات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في
وقوله تعالى: ﴿قُلْ (٢) سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ شرقاً وغرباً ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض، وسماء، وأنهار، وأشجار، وحيوان، وإنسان، إنها كلها كانت عدما فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها ﴿ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ (٣) ﴾ وذلك بأن يعيد حياة الإنسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيراً أو شراً، ﴿إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (٤) قَدِيرٌ﴾ إذاً فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإيمان وصالح الأعمال فيدخلهم في جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإيمان والصالحات. وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥) ﴾ أي الله تعالى ﴿فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم من الهروب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال. وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تُغلبون ولا تعذبون وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ﴾ التي جاءت بها
٢ - هذا الأمر للإرشاد والتوجيه والنصح لو كانوا يعقلون.
٣ - أظهر اسم الجلالة بعد تقديم ذكر ضميره في قوله: (كيف بدأ الخلق) ليحرك ضمائرهم باسم الجلالة ويدفع بنفوسهم إلى التسليم بالنشأة الآخرة بعد التسليم بالنشأة الأولى وهي بدء الخلق.
٤ - الجملة تذييلية أعلن فيها عن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء أراده: البدء كالإعادة سواء.
٥ - المعجزة: هو الذي يجعل غيره عاجزاً عن فعل ما وهو هنا كناية عن الغلبة والانقلاب، قرر بهذه الجملة عجزهم التام في الأرض التي هم يسكنونها، وحتى في السماء لو فرض أنهم يرقونها وما هم بأهل لذلك كما قال الأعشى:
فلو كنت في جبّ ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلّم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.
٢- تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.
٣- تقرير عجز الإنسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم
بالإيمان والتقوى.
٤- إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال، وسيعذبون في نار جهنم أشد
العذاب.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥)
٢ - أخبر عن يأسهم بالفعل الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه وإن كان المعنى أنهم سييأسون من رحمة الله التي هي الجنة لا محالة.
فما كان جواب قومه: أي قوم إبراهيم عليه السلام.
إلا أن قالوا اقتلوه: أي إلا قولهم اقتلوه أو حرقوه.
إن في ذلك لآيات: أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالما.
لقوم يؤمنون: لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.
أوثاناً مودة بينكم: أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.
في الحياة الدنيا: أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.
يكفر بعضكم ببعض: أي يكفر المتبوعون بأتباعهم ويتبرأون منهم.
ويلعن بعضكم بعضاً: يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص (١) إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لما أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم: أي ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ (٢) ﴾ أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها، وقال الله جل جلاله للنار ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ فكانت كما أمرت وخرج إبراهيم سالماً لم تحرق النار سوى كتافه الذي شدّ به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى ﴿فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ﴾ وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح برداً وسلاماً على إبراهيم فلم تحرقه، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإيمان بمثابة
٢ - ثم اتفقوا على تحريقه ونفذوا ما اتفقوا عليه فألقوه في النار ونجاه الله فله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير أن الظلمة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.
٢- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك، ومن هنا تكون الكرامات
والمعجزات إذ هي خوارق للعادات.
٣- بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف
والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
٢- قال القرطبي: معنى الآية: جعلتم الأوثان تتحابون عليها في الحياة الدنيا.
٣ - قال القرطبي: تتبرأ الأوثان من عبادها، والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
٤ - قيل: يحشرون في النار الرؤساء والأتباع والأوثان كقوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) وقوله (وقودها الناس والحجارة) وهي الأوثان كانت تعبد من دون الله عز وجل.
شرح الكلمات:
فآمن له لوط: أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.
مهاجر إلى ربي: أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.
ووهبنا له إسحاق ويعقوب: أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم إسحاق الابن ويعقوب الحفيد.
في ذريته النبوة والكتاب: فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.
وآتيناه أجره في الدنيا: وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإلهية.
وإنه في الآخرة من الصالحين: أي هو أحدهم، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.
معنى الآيات:
هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ﴾ أي إبراهيم ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى (١) رَبِّي﴾ فترك بلاد قومه من (٢) سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء
٢ - من قرية كوثا من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط بن تارخ، وامرأته سارة، وهو أول من هاجر في سبيل الله وأول من هاجر من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله تعالى: عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أرض الحبشة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه السلام وفي هذا تسلية
للرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.
٣- بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ
٢ - هذه الجملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (إني مهاجر إلى ربي) لأن من كان عزيزا يعتز به جاره، ومن كان حكيماً لا يأمر بغير ما هو خير للمأمور الممتثل لأمره.
شرح الكلمات:
ولوطاً إذ قال لقومه: أي اذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سدوم.
أئنكم لتأتون الفاحشة: أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.
ما سبقكم بها من أحد: أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.
وتقطعون السبيل: أي باعتدائكم على المارة في السبيل فامتنع الناس من المرور خوفاًَ منكم.
وتأتون في ناديكم المنكر: أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإزار والفاحشة أي اللواط.
فما كان جواب قومه: أي إلا قولهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم وعمورية والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لا يتم لأحد إلا من طريق الوحي، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى: واذكر يا رسولنا لقومك (١) لوطاً ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحاً أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين، ثم يواصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول: ﴿أَإِنَّكُمْ (٢) لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ أي في أدبارهم ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسراً وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا النسل
٢ - الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع على جريمتهم التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.
٢- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.
٣- قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.
٤- وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حداً
للزنى فاللوطية تقاس عليه، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.
٥- التحذير من العبث والباطل قولا أو عملاً وخاصة في الأندية والمجتمعات.
٢ - هذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم قطعا.
٣ - الإفساد في الأرض: هو العمل بمعاصي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكل عامل بالمعاصي فهو مفسد في الأرض، إذ فعل المعاصي يورث الفقر والخوف وهما شر ما يُتقى.
شرح الكلمات:
بالبشرى: أي إسحاق ويعقوب بعده.
هذه القرية: أي قرية لوط وهي سدوم.
قالوا نحن أعلم بمن فيها: أي قالت الرسل نحن أعلم بمن فيها.
كانت من الغابرين: أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.
سيء بهم: أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.
وضاق بهم ذرعاً: أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.
رجزاً: أي عذابا من السماء.
بما كانوا يفسقون: أي بسبب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.
لقوم يعقلون: أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص لوط عليه السلام، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين وأنه عليه السلام استنصر ربه تعالى عليهم، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا (١) جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل عم لوط ﴿بِالْبُشْرَى (٢) ﴾ التي هي ولادة ولدٍ له هو إسحاق ومن بعده يعقوب ولد إسحاق عليه السلام كما قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾. ﴿قَالُوا﴾ أي قالت الملائكة لإبراهيم ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم ﴿إِنَّ أَهْلَهَا (٣) كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾ ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا: ﴿قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا﴾ منك يا إبراهيم. ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ (٤) وَأَهْلَهُ﴾ من الهلاك ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها وممالأتها للظالمين. وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً﴾ أي ولما وصلت الملائكة لوطاً قادمين من عند إبراهيم من فلسطين ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفاً من قومه أن يسيئوا إليهم، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة منه طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله: ﴿وَقَالُوا لا تَخَفْ﴾ أي علينا ﴿وَلا تَحْزَنْ﴾ على من سيهلك من أهلك مع قومك الظالمين. ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ من العذاب أنت وأهلك أي زوجتك المؤمنة وبنتيك، ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ أي العجوز الظالمة فإنها ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى في الآية (٣٤) :{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ
٢ - البشرى: اسم للبشارة التي هي: إخبار بما يسرّ المخبر.
٣ - الجملة تعليلية لما تقدمها من الإهلاك.
٤ - قرأ الجمهور نافع وحفص: (لمنجّوك) بتشديد الجيم، وقرأ ابن كثير (منجوك) بتخفيفها من: أنجاه ينجيه، ونجي وأنجى بمعنى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.
٢- تقرير مبدأ: من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها
وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.
٣- مشروعية الضيافة وتأكدها في الإسلام لحديث الصحيح "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
٤- التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.
٥- فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧)
وإلى مدين: أي وأرسلنا إلى قبيلة مَدْيَن، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه.
أخاهم شعيباً: أي أخاهم في النسب.
اعبدوا الله: أي اعبدوه ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً.
وارجوا اليوم الآخر: أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي ولا تعيثوا في الأرض فساداً بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها.
فأخذتهم الرجفة: الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة.
في دارهم جاثمين: لاصقين بالأرض أمواتا لا يتحركون.
معنى الآيتين:
هذا موجز لقصة (١) شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشاً تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى ﴿وَإِلَى (٢) مَدْيَنَ﴾ أي وأرسلنا إلى مدين ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ وهو نبيّ عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ أي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن، ﴿وَارْجُوا (٣) الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائماً مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله: ﴿وَلا تَعْثَوْا (٤) فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي. وقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي كذب أصحاب مدين نبيهم شعيباً فيما أخبرهم به ودعاهم إليه ﴿فَأَخَذَتْهُمُ (٥) الرَّجْفَةُ﴾ أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب
٢ - إن طلبت المناسبة بين قصة لوط وقصة أصحاب مدين فإنها في كون مدين من أبناء إبراهيم وكون لوط من الأسرة الإبراهيمية وأوضح من هذا السبب قرب الديار من بعضها، فمدين غير بعيدة من قرى لوط.
٣ - أمره إيّاهم برجاء اليوم الآخر دال على أنهم ما كانوا يؤمنون باليوم الآخر أو ذكرهم به لغفلتهم عنه بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
٤ - العثو: بالواو كالدنو والعثي بالياء كالعصي: أشد الفساد، وفعله: عثا يعثوا، وعثي كرضي يعثى كيرضى بمعنى واحد.
٥ - الفاء للسببية، (والرجفة) الزلزال الشديد الذي ترجف منه الأرض والقلوب وكانت هذه الزلازل مصحوبة بصيحة شديدة انخلعت منها القلوب.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر.
٢- حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
٣- بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين.
وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
شرح الكلمات:
وعاداً وثمود: أي وأهلكنا عاداً القبيلة وثمود القبيلة كذلك.
وقد تبين لكم من مساكنهم: أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز والشجر جنوب اليمن.
عن السبيل: أي سبيل الهدى والحق التي بينها لهم رسلهم.
كانوا مستبصرين: أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم.
وقارون وفرعون وهامان: أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق.
وما كانوا سابقين: أي فائتين عذاب الله أي فارين منه، بل أدركهم.
فكلاً أخذنا بذنبه: أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا.
فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا: أي ريحاً شديدة، كعاد.
ومنهم من أخذته الصيحة: أي ثمود.
ومنهم من خسفنا به الأرض: أي كقارون.
ومنهم من أغرقنا: أي كقوم نوح وفرعون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي (١) إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم، فقال عز وجل: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ (٢) ﴾ أي وأهلكنا كذلك عاداً قوم هود، وثمود قوم صالح! وقوله تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ (٣) لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر (٤) والشجر (٥) من حضرموت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين. وقوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التزيين عن السبيل، سبيل الإيمان والتقوى المورثة للسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٦) ﴾ أي ذوي بصائر أي معرفة بالحق والباطل والخير والشر لما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. وقوله تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ أي أهلكنا قارون الإسرائيلي ابن عم موسى عليه السلام، أهلكناه ببغيه وكفره، فخسفنا به الأرض وبداره أيضا، وفرعون وهامان أغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما
٢ - وعاداً جائز أن يكون منصوباً بفعل مقدر، وأهلكنا عاداً أو اذكر عاداً.
٣ - الجملة حالية.
٤ - مدائن صالح.
٥ - منازل عاد.
٦ - الاستبصار: البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد كالاستحباب بمعنى الحب، والمراد أنهم أهل بصائر ومعرفة بالأمور لما لهم من عقول صالحة للنظر والإدراك، وما في التفسير وجه أحسن من هذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد.
٢- بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران.
٣- بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه (٤) من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك
أوردها الله موارده.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
٢ - (فكلا) : الفاء للتفريع على ما سبق: قوله تعالى: (وعاداً) إذ التنوين عوضٌ عن كلمة أي: فكل واحد ممن ذُكروا من عاد إلى قارون أخذ الله أي: أهلك بذنبه، ولم يظلمهم الله تعالى بإهلاكه إيّاهم.
٣ - الفاء للتفريع إذ هذا التفصيل بعد الفاء متفرع عن ذلك الإجمال المذكور في قوله: (فكلاً أخذنا بذنبه).
٤ - شاهده في قول الله تعالى من سورة التوبة: (وما كان الله ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون) والإضلال سبيل الهلاك وطريقه.
شرح الكلمات:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء: أي صفة وحال الذين اتخذوا أصناماً يرجون نفعها.
كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً: أي لنفسها تأوي إليه.
أوهن البيوت: أي أضعف البيوت وأقلها جدوى.
يعلم ما يدعون من دونه من شيء: أي من الأوثان والأصنام وغيرها.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه.
وما يعقلها إلا العالمون: أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره.
خلق الله السموات والأرض بالحق: أي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل.
أتل ما أوحي إليك من الكتاب: اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن.
وأقم الصلاة: بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها.
تنهى عن الفحشاء والمنكر: أي الصلاة بما توجد من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر.
ولذكر الله أكبر: أي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما أن ذكر
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به وأشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيها وتعليما للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا فيسلموا من العذاب والخسران. ذكر هنا في هذه الآيات مثلاً لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإنسان وسعادته وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (١) اتَّخَذَتْ بَيْتاً﴾ لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها، ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ (٢) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأناً وأقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ أي أصناماً يرجون النفع، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون، مخطئون، إنه لا ينفع ولا يضر إلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه. وقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب على أمره ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم، وكيف يرضاها وقد أهلك أمماً بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإبطالها والقضاء عليها وقوله
٢ - (وإن أوهن البيوت..) هذه الجملة معترضة مبيّنة لوجه الشبه وتجري هذه الجملة مجرى المثل يضرب للشيء إذا قلّت فائدته وجدواه.
٢ - عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه".
٣ - لفظ السموات والأرض: يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما.
٤ - المراد من: (اتل) : مدوامة تلاوة ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم.
٥ - قيل لابن عطية: إن حماداً وابن جريج والكلبي يقولون: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام العبد فيها. قال: هذه عجمة أي: نسبهم إلى قلة الفهم وهو كذلك للحديث وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" وقال له أحد الصحابة: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق. فقال: سينهاه ما تقول. يعني صلاته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.
٢- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
٣- فضل العلماء على غيرهم، العلماء بالله، بصفاته وأسمائه وآياته، وشرائعه، وأسرارها.
٤- وجوب تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وذكر الله، إذ هي غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى.
٥- بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩)
شرح الكلمات:
ولا تجادلوا أهل الكتاب: أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى.
إلا بالتي هي أحسن: أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه.
إلا الذين ظلموا منهم: أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حرباً على المسلمين.
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب: أي وكإنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب.
فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به: أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه.
ومن هؤلاء من يؤمن به: أي من هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون.
لارتاب المبطلون: أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك.
بل هو آيات بينات: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
وما يحجد بآياتنا إلا الظالمون: أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿وَلا (١) تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ هذا تعليم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عندما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عز وجل مخاطبا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين من أمته ﴿وَلا تُجَادِلُوا (٢) أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن (٣) وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دينه الإسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه. وقوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِْنهُمْ﴾ وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا للمسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجادلون ولكن يحكّم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو: إن أخبرهم أهل الكتاب بشيء لا يوجد في الإسلام ما يثبته ولا ما ينفيه وادّعوا أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو: ﴿آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾
٢ - الجدال والمجادلة مصدران لجادل، والمراد بالمجادلة: إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره. والجدل: شدة الخصومة وهو مأخوذ من الجدل الذي هو الفتل للحبل ونحوه إذا قواه، والمجادل يقوي رأيه بما يراه ويورده من حجج.
٣ - وجه المجادلة بالحسنى لأهل الكتاب لأنهم أهل علم متأهلون للفهم وقبول الحق متى اتضح لهم بخلاف جهّال المشركين فإن تهجين عبادتهم وتفضيع طريقتهم قد يكون أنجع فيهم.
وقوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي وكإنزال الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾. فهذا إخبار بغيب فكما علّم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عندما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والإنجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ هو كما قال عز وجل لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ قبل القرآن أي كتاب، ولا كان يخط بيمينه أيّ كتاب لأنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب أيْ فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين (٢) مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أي كتاب، ولم يكن يخط بيمينه أي خط ولا كتاب فلم يبق إذاً للمشركين ما يحتجون به أبداً. وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ (٣) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا﴾ في التوراة والإنجيل والقرآن ﴿إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ أنفسهم (٤) من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويَترأسُون على حساب الحق والعياذ بالله تعالى.
٢ - قال مجاهد: "كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.
٣ - أي: ليس هو كما يقول المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وكذلك في صدور الذين أوتوا العلم، وهم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمؤمنون به، وهذا لا ينافي مع ما في التفسير، إذ الوجهان صحيحان، وقال كعب في صفة هذه الأمة: إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء.
٤ - والمشركون كاليهود والنصارى في هذا أي: الجحود بالآيات.
من هداية الآيات:
١- مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذِّمّة بالتي هي أحسن.
٢- حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تسألوا أهل الكتاب (١) عن شيء فإنهم لن يهدوكم
وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول: ﴿آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
٣- إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك آية على أنه من وحي الله تعالى.
٤- تقرير صفة الأمية في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هي في الكتب السابقة.
وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢)
شرح الكلمات:
لولا أنزل عليه آيات: أي قال كفار قريش هلاّ أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح، وعصا موسى.
أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب: أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك.
إن في ذلك لرحمة وذكرى: أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح.
والذين آمنوا بالباطل: وهو ما يعبد من دون الله.
وكفروا بالله: وهو الإله الحق.
أولئك هم الخاسرون: أي حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾ أي أهل مكة ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ (١) مِنْ رَبِّهِ﴾ أي هلاّ أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة. قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نبوتك قل لهم: أولاً: الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندي فهو تعالى ينزلها متى شاء وعلى من شاء. وثانياً: ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات. وثالثاً: أو لم يكفهم (٢) آية أن الله تعالى أنزل عليّ كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي آية أعظم من كتاب من أميّ لا يقرأ ولا يكتب تُتلى آياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى. ورابعاً: شهادة الله برسالتي كافية لا يطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي، فقد قال لي ربي: {قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
٢ - أخرج الدارمي في سننه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتُي بكتف فيه كتاب فقال: "كفى بقوم ثلاثة: أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله تعالى هذه الآية: (أو لم يكفهم).
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأنّي والتدبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا تُرد، وهي أربع كما ذكر آنفا.
٢- بيان أكبر معجزة لإثبات النبوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي نزول القرآن الكريم عليه وفي ذلك قال
عليه الصلاة والسلام كما في البخاري (٣) :"ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأنا أرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
٣- القرآن الكريم رحمة وذكرى أي عبرة للمؤمنين به وبمن نزل عليه.
٤- تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
٢ - قال يحيى بن سلام: الباطل هنا: إبليس وهو شامل لإبليس ولعبادة الأوثان وما في التفسير أعم، إذ اللفظ يشمل عبادة غير الله مطلقا وهو الباطل.
٣ - أخرجه ابن كثير بهذا اللفظ: "وما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وقال: أخرجاه من حديث الليث.
ويستعجلونك بالعذاب: أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم.
ولولا أجل مسمى: أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم.
وليأتينهم بغتة: فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال.
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين: أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم.
يوم يغشاهم العذاب: أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ذوقوا ما كنتم تعملون: أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحدياً منهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجِّب تعالى رسوله أي يحملُه على التعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ (١) بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً (٢) ﴾ للعذاب أي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره ﴿لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ ثم أخبر تعالى رسوله مؤكداً خبره فقال: ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ﴾ أي العذاب ﴿بَغْتَةً﴾ لا محالة ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بوقت مجيئه، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المشركين الذي لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ (٣) بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ لا محالة كقوله ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ﴾ ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ﴾ أي يغطيهم ويغمرهم فيكون ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ (٤) وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ وجهنم محيطة بهم
٢ - المعنى: لولا الأجل المعيّن لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلاً لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم، ولكن الله أراد تأخيره لحكم يعلمها منها: إمهالهم ليؤمن من يؤمن منهم، ومنها ليعلموا أن الله لا يستفزّه استعجالهم ومنه إظهار رحمته بعباده وحلمه عليهم.
٣ - حكى استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجب منها كما في قوله تعالى: (يجادلنا في قوم لوط).
٤ - (من فوقهم) حال مؤكدة، إذ غشيان العذاب لا يكون إلا من فوق، وقوله (ومن تحتهم) احتراس عمّا قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه.
٢- بيان مدى حمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة.
٣- بيان أن تأخير العذاب لم تكن عن عجز وإنما هو لنظام (٢) دقيق إذ كل له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر.
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
شرح الكلمات:
إن أرضي واسعة: أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة.
فإياي فاعبدون: فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون.
كل نفس ذائقة الموت: أي لا يمنعنكم الخوف من الموت ألا تهاجروا في سبيل الله فإن الموت لا بد منه للمهاجر ولمن ترك الهجرة.
٢ - وحكم عالية تقدم بعضها إزاء رقم (٢) في الصفحة السابقة.
لنبوئنهم: أي لننزلنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار.
الذين صبروا: أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.
وكأين من دابة لا تحمل رزقها: أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.
وهو السميع العليم: أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.
معنى الآيات:
لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى، فناداهم بقوله عز وجل: ﴿يَا عِبَادِيَ (١) الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي بي وبرسولي ولقائي ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ فهاجروا فيها، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين، ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ لا تعبدوا معي غيري. وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتاً ولا فقراً فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٢) ﴾، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه، من رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً (٣) ﴾ أي لننزلنهم من الجنة دار الإسعاد {غُرَفاً
٢ - قرأ الجمهور: (ترجعون) وقرأ البعض بالياء (يرجعون).
٣ - وروى مسلم: "أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم، وقيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر.
٢- لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه.
٣- بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإيمان والهجرة والتقوى.
٤- لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه.
٢ - وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من إخلاص لله تعالى في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم من الرزق.
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)
شرح الكلمات:
ولئن سألتهم: أي المشركين.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران.
فأنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم. وهو أن الخالق المدبر هو الإله الحق الذي يجب توحيده في عبادته.
الله يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسّع الرزق على من يشاء من عباده امتحاناً للعبد هل يشكر لله أو يكفر نعمه.
ويقدر له: أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط.
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله: إذاً كيف يشركون به أصناما لا تنفع ولا تضر؟
قل الحمد لله: أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم.
بل أكثرهم لا يعقلون: أي إنهم متناقضون في فهمهم وجوابهم.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان: أي الحياة الكاملة الخالدة، ولذا العمل لها أفضل من العمل للدنيا.
لو كانوا يعلمون: أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلّهم يوحدون. يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ أي لئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي من أوجدهما من العدم، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبُنَّك قائلين الله. ﴿فَأَنَّى (١) يُؤْفَكُونَ﴾ أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنها حال تستدعي التعجب وقوله تعالى: ﴿اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والتدبير الحكيم وهو موجب له الألوهية نافٍ لها عما سواه. فهذا يبسط الرزق له فيوسّع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه، وهذا يضيق عليه في ذلك لماذا؟! والجواب: إنه يوسع امتحانا للعبد هل يشكر أو يكفر، ويضيق ابتلاءًا للعبد هل يصبر أو يسخط. ولذا فلا حجة للمشركين في (٢) غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا. وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ (٣) شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى، ومنهم من يصلحه الفقر، والإفساد كذلك وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء
٢ - نزلت الآية رداً على المشركين الذين عيّروا المؤمنين بالفقر وقالوا لهم: لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء، وهذا تمويه منهم إذ في الكافرين فقراء أيضا.
٣ - هذه الجملة تذييلية لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يُطّلع عليها.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزود لها ما هي ﴿إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ (٢) ﴾ إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول إلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان أي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون، وفي عملها يتنافس المتنافسون. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أي الدار الآخرة ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ (٣) أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريّتها، وقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم، فدواؤهم العلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبية الله ويجحدون ألوهيته.
٢- بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه، وإنما يدلان على علم الله
وحكمته وحسن تدبيره.
٣- بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها. فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن
الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها.
٢ - اللهو: ما يلهو به الناس أي: يشتغلون به عن الأمور المكدّرة أو يعمرون به أوقاتهم الخالية عن الأعمال.
٣ - الحيوان: يقع على كل شيء حي، وحيوان: عين في الجنة، وقيل: أصل الحيوان حييان فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المثلين.
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
شرح الكلمات:
في الفلك: أي في السفينة.
مخلصين له الدين: أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة.
إذا هم يشركون: أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى.
ليكفروا بما آتيناهم: أي بنعمة الإنجاء من الغرق وغيرها من النعم.
فسوف يعلمون: أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا ألقوا في جهنم.
ويتخطف الناس من حولهم: أي يسبون ويقتلون في ديار جزيرتهم.
أفبالباطل يؤمنون: أي بالأصنام وهي الباطل، ينكر تعالى عليهم ذلك.
والذين جاهدوا فينا: أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للإسلام والمسلمين.
لنهدينهم سبلنا: أي لنوفقنّهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله.
ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر لقالوا الله ولو سئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله. ومع هذا هم يشركون بالله آلهة أوثانا، وكما يعترفون بربوبية الله ثم يشركون به الأصنام، فإنهم إذا ركبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق. ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبية الله تعالى ثم بالإشراك به. ومردّ هذا إلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ (١).
وقوله تعالى في الآية (٦٦) :﴿لِيَكْفُرُوا (٢) بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البر كان كأنه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإنجائهم من الغرق، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الإخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء. وقوله تعالى: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ قرئ بسكون اللام ورجّح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى: وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة، والأمر حينئذٍ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد.
أما على قراءة جر اللام ولِيتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا أي أخلصوا في الشدة وأشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أوتوا في الحياة، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئا فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء.
٢ - (ليكفروا) هذه اللام هي لام كي، والظاهر أنها للعاقبة وما يؤول إليه الأمر، وقيل هي لام الأمر، وإن كانت كذلك فهو للتهديد والوعيد، ويقوّي هذا الوجه قراءة من قرأها من القراء السبعة بسكون اللام (وليتمتعوا).
وقوله تعالى في الآية الخامسة (٦٩) ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا (٥) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ (٦) الْمُحْسِنِينَ﴾ في هذه الآية بشرى سارة ووعد صدق كريم، وذلك أن من جاهد في سبيل الله أي طلباً لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد ولا يعبد معه سواه فقاتل
٢ - الخطف: الأخذ بسرعة. قال الضحاك يتخطف الناس من حولهم: أي يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فذكرهم الله تعالى بهذه النعمة لعلهم يذعنون له بالطاعة.
٣ - الاستفهام للإنكار والتعجب أيضا.
٤ - المثوى المستقر الدائم، والمثوى كالمأوى وزناً ومعنى والاستفهام هنا للتقرير.
٥ - جاهدوا الكفار والفساق والشيطان والنفس أمّا جهاد الكفار فلم يؤذن فيه في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية إلا أنه لا مانع أن ينزل الحكم قبل أن يشرع العمل. ولكنه منتظر، وأما جهاد النفس فهو لازم لا يفارق وكذا جهاد الشيطان عليه لعائن الله.
٦ - المعيّة هنا: معيّة إعانة وتسديد ونصرة على الأعداء المحاربين من الكفار والشياطين والنفس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية أي العبادة.
٢- إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون.
٣- لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب، وكذّب بالحق لما جاءه وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثرا دنياه متبعا لهواه.
٤- بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة.
٥- فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجوّدة كما شرعها الله تعالى، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم.