تفسير سورة لقمان

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
سورة لقمان١
١ سورة لقمان هي السورة رقم (٣١) في ترتيب المصحف الشريف عدد آياتها ٣٤ آية، وهي سورة مكية نزلت بعد سورة الصافات، وقبل سورة سبأ، قال القرطبي في تفسيره: "هي مكية، غير آيتين، قال قتادة: أولهما: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ... (٢٧)﴾ [لقمان] إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس: ثلاث آيات، أولهن هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ... (٢٩)﴾ [لقمان]..

بسم الله الرحمان الرحيم
سبق أن فصلنا القول في الحروف المقطعة في بدايات السور، وذكرنا كل ما يمكن أن يقوله بشر، وبعد هذا كله نقول : والله أعلم بمراده ؛ لأننا مهما أوتينا من العلم فلن نصل إلى غاية هذه الحروف، وسيظل فيها من المعاني ما نعجز نحن عن الوصول إليه.
فإن قلت : فما فائدة هذه الحروف المقطعة إن كانت غير معلومة المعنى ؟ نقول : نحن نناقشكم بالعقل وبالمنطق، فالقرآن نزل بأسلوب عربي، وتحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان وأصحاب التعبير الجميل والأداء الرائع، ونزل في قريش التي جمعت في لغتها كل لغات القبائل العربية، وقد خرج منها صناديد كذبوا محمدا، وكفروا بدعوته، فهل سمعنا منهم من يقول مثلا : ما معنى ( الم ) أو ( حم ).
والله لو كان فيهما مطعن ما تركوه، إذن : فهذا دليل على أنهم فهموا هذه الحروف، وعرفوا أن لها معنى أبسطها أن نقول : هي من حروف التنبيه التي كان يستخدمها العرب في كلامهم، فهي مثل ( ألا ) في قول الشاعر١.
ألا هبى بصحنك فاصبحينا ولا تبق خمور الأندرينا٢
فألا أداة للتنبيه، وتأتي أهمية التنبيه في أول الكلام من أن المتكلم يملك زمام منطقه فيرتبه ويعده، ويدير المسائل بنسب ذهنية في ذهنه، لكن السامع قد يكون غافلا، فيفاجأ بالكلام دون استعداد، فيفوته منه شيء، فتأتي حروف التنبيه لتخرجه من غفلته، وتسترعي انتباهه، فلا يفوته من كلامك شيء، إذن : أبسط ما يقال في هذه الحروف أنها للتنبيه على طريقة العرب في كلامهم.
وسبق أن بينا أن القرآن مبني كله على الوصل في آياته وسوره، بل في آخره وأوله نقول :( من الجنة والناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ) وكذلك في آلايات والسور. وكأن الله تعالى يريد منك ألا تفصل آية من القرآن عن التي بعدها : لذلك يقولون عن قارئ القرآن : هو الحال المرتحل، فهو حال في آية أو سورة، مرتحل إلى التي تليها.
إذن : الوصل سمة عامة في القرآن كله لا يستثني من ذلك إلا الحروف المقطعة في بدايات السور، فهي قائمة على القطع، فلا نقول هنا ألف لام ميم، لكن نقول ألف لام ميم، فلماذا اختلفت هذه الحروف عن السمة العامة للقرآن كله ؟
قالوا : ليدلك على أن الألف أو اللام أو الميم، لكل منها معناه المستقل، وليست مجرد حروف كغيرها من حروف القرآن ؛ لذلك خالفت نسق القرآن في الوصل، لأن لها معنى مستقلا تؤديه.
ويفسر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم :( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )٣.
١ هو: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب أبو الأسود، شاعر جاهلي، ولد في شمال جزيرة العرب في بلاد ربيعة، وتجول فيها وفي الشام والعراق ونجد، هو من الفتاك الشجعان، أشهر شعره معلقته التي فيها هذا البيت: توفي نحو ٤٠ ق ه. [الأعلام للزركلي ٥/٨٤]..
٢ الصحن: القدح العظيم، والأندرون: قرى بالشام. ومعنى البيت: ألا استيقظى من نومك أيتها الساقية، واستقنى الصبوح بقدحك العظيم ولا تدخري خمر هذه القرى. [شرح المعلقات السبع للزورزني ص ١٦٥]..
٣ أخرجه الترمذي في سننه (٢٩١٠) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) ﴾
تلك : اسم إشارة للمؤنث مثل ذلك للمذكر، وهي عبارة عن التاء للإشارة، واللام للبعد، سواء أكان في المكان أو في المكانة والمنزلة، ثم الكاف للخطاب، وتأتي بحسب المخاطب مذكرا أو مؤنثا، مفردا أو مثنى أو جمعا.
فتقول في خطاب المفرد المذكر : تلك. وللمفردة المؤنثة : تلك. وللمثنى تلكما... إلخ، ومن ذلك قول امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السلام :﴿ فَذَالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ... ( ٣٢ ) ﴾ [ يوسف ] فذا اسم إشارة ليوسف، واللام للبعد وكنّ ضمير لمخاطبة جمع المؤنث.
ويقول تعالى في خطاب موسى :﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ... ( ٣٢ ) ﴾ [ القصص ] أي : اليد والعصا، فذان اسم إشارة للمثنى، والكاف للخطاب.
والإشارة هنا ﴿ تِلْكَ آيَاتُ... ( ٢ ) ﴾ [ لقمان ] لمؤنث وهي الآيات، والمخاطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته تبع له، والقرآن الكريم مرة يشير إلى الآيات، ومرة يشير إلى الكتاب نفسه، فيقول : الكتاب أو الفرقان، أو القرآن ولكل منها معنى.
فالكتاب دلّ على أنه يكتب وتحويه السطور، والقرآن دلّ على أنه يقرأ وتحويه الصدور، أما الفرقان فهذه هي المهمة التي يقوم بها : أن يفرق بين الحق والباطل.
وهنا قال :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) ﴾ [ لقمان ] فوصفه بالحكمة، أما في أول البقرة فقال :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى... ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ] فلم يوصف بالحكمة، إنما نفى عنه أن يكون فيه ريب. أي : شك.
وكلمة ﴿ لا ريب فيه... ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ] تؤكد لنا صدق الرسول في البلاغ عن الله، وصدق الملك الذي حمله من اللوح المحفوظ إلى رسول الله، وقد مدحه الله بقوله :﴿ ذي قوة عند ذى العرش مكين ( ٢٠ ) ﴾ [ التكوير ].
وقال عن سيدنا رسول الله في شأن تبليغ القرآن :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( ٤٤ ) لأخذنا منه باليمين ( ٤٥ ) ثم لقطعنا منه الوتين ( ٤٦ ) ﴾ [ الحاقة ].
إذن : فالقرآن كما نزل من عند الله، لم يغير فيه حرف واحد، وسيظل كذلك محفوظا بحفظ الله له إلى أن تقوم الساعة، وسنظل نقرأ ﴿ لا ريب فيه... ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ].
ويقرؤها من بعدنا إلى قيام الساعة، فقد حكم الحق سبحانه بأنه لا ريب في هذا القرآن منذ نزل إلى قيام الساعة، فإن شككونا في شيء من كتاب ربنا فعلينا أن نقرأ ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ].
فهذه قضية حكم الله بها، وهي ممتدة وباقية ما بقيت الدنيا، كما سبق أن قلنا ذلك في قوله تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ... ( ٥٣ ) ﴾ [ فصلت ] فالآية تستوعب المستقبل كله، مستقبل من عاصر نزول القرآن، ومستقبل من يأتي بعد إلى قيام الساعة، بل مستقبل من تقوم الساعة عليهم.
فالقرآن لم ينزله الله ليفرغ كل أسراره وكل معجزاته في قرن واحد، ولا في أمة واحدة، ثم يستقبل القرون والأمم الأخرى دون عطاء، الله يريد للقرآن أن يظل جديدا تأخذ منه كل الأمم وكل العصور، وتقف على أسراره ومعجزاته وآياته في الكون.
ومعنى ﴿ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) ﴾ [ لقمان ] الكتاب لا يوصف بالحكمة إنما يوصف بالحكمة من يعلم، فالمعنى : الكتاب الحكيم أي : الموصوف بالحكمة، أو الحكيم قائله، أو الحكيم منزله. ومعنى حكيم : هو الذي يضع الشيء في موضعه، ولا يضع الشيء في موضعه إلا الله ؛ لأنه هو الذي يعلم صدق الشيء في موضعه.
أما نحن فنهتدي إلى موضع الشيء، ثم يتبين لنا خطؤه في موضعه، ونضطر إلى تغييره أو تعديله ككثير من المخترعات التي ظننا أنها تخدم البشرية قد رأينا مضارها، واكتوينا بنارها فيما بعد.
فكل آية ذكرت ناحية من نواحي كمال القرآن وجهة من جهات عظمته، إذن : فهي لقطات مختلفة لشيء واحد متعدد الملكات في الكمال، وكذلك تجد تعدد الكمالات في الآية بعدها :﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) ﴾
هنا يقول سبحانه﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) ﴾ [ لقمان ] أما في صدر سورة البقرة فيقول ﴿ هدى للمتقين ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ] وفرق بين المعنيين، فالتقوى تقتضي الإيمان، ومطلوب الإيمان الافتراض يعني : أن تؤدي ما فرضه الله عليك.
أما مطلوب الإحسان ففوق ذلك، فالإحسان في الأداء أن تحسن في كمه، وأن تحسن في كيفه : تحسن في كيفه بأن تستصحب مع العمل الإخلاص للمعمول له، وهو الحق سبحانه، وتحسن في كمه بأن تعشق التكليف حتى تؤدي فوق ما فرض عليك، فبدل أن تصلي ركعتين تصلي ثلاثا أو أربعا، هذا إحسان في الكم.
والتقوى من عجائب التأويل القرآني كما سبق أن قلنا، فالقرآن يقول ( اتقوا الله ) ويقول ( اتقوا النار )، والمعنى عند التحقيق واحد ؛ لأن اتق النار يعني : اجعل بينك وبينها وقاية وحاجزا يمنعك منها، كذلك اتق الله، لا أن تجعل بينك وبين ربك حاجزا، لأن المؤمن دائما يكون في معية الله.
إنما اجعل بينك وبين صفات الجلال ومتعلقاتها من الله وقاية، اتق صفات المنتقم الجبار القهار.. الخ ؛ لأنك لست مطيقا لهذه الصفات، ولا شك أن النار جندي من جند الله، ومتعلق من متعلقات صفات الجلال إذن : فالمعنى واحد.
والبعض يأخذون بالظاهر فيقولون : كيف نتقي الله، والتقوى أن تبعد شيئا ضارا عنك ؟ نقول : نعم أنت تبعد عنك الكفر، وهذا هو عين التقوى، والمتقون هم الذين يحبون أن يتقوا الله بألا يكونوا كافرين به، وما دام الإنسان اتقى الكفر فهو محسن ومؤمن، فالقرآن مرة يأتي باللازم، ومرة بالملزوم، ليؤدي كل منهما معنى جديدا.
لذلك لما سئل سيدنا رسول الله عن الإحسان في حديث جبريل قال : " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ١.
فحين نوازن بين صدر سورة البقرة، وبين هذه الآية ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) ﴾ [ لقمان ] نرى أن القرآن لا يقوم على التكرار.
إنما هي لقطات إعجازية كل منها يؤدي معنى، وإن ظن البعض في النظرة السطحية أنه تكرار، لكن هو في حقيقة الأمر عطاء جديد لو تأملته.
فهنا وصف الكتاب بأنه حكيم، وأنه هدى ورحمة : والهدى هو الدلالة على الخير بأقصر طريق، وقد نزل القرآن لهداية قوم قد ضلوا، فلما هداهم إلى الصواب وأراهم النور أراد أن يحفظ لهم هذه الهداية، وألا يخرجوا عنها فقال ﴿ وَرَحْمَةً( ٣ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : من رحمة الله بهم ألا يعودوا إلى الضلال مرة أخرى.
كما في قوله سبحانه :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ( ٨٢ ) ﴾ [ الإسراء ] فالمعنى : شفاء لمن كان مريضا، ورحمة بألا يمرض أبدا بعد ذلك.
١ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠) وكذا مسلم في صحيحه (٨) من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديث جبريل الطويل الذي تمثل في صورة رجل "شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد" فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٤ ) ﴾.
جاءت هذه الآية كوصف للمحسنين، فهل هذه هي كل صفاتهم، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وبالآخرة هم يوقنون ؟ قالوا : لا لكن هذه الصفات هي العمد الأساسية، والحق سبحانه يريد من خلقه سواسية في العبودية، وهذه السواسية لا تتأتى إلا إذا تساوى الجميع.
وفي الصلاة بالذات تتجلى هذه المساواة، وفيها يظهر عز الربوبية وذل العبودية، وفيها منتهى الخضوع لله عز وجل، ثم هي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة.
أما الفرائض الأخرى فلا تأخذ هذه الصورة، فالزكاة مثلا تجب مرة واحدة في العام ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ( ١٤١ ) ﴾ [ الأنعام ] وتجب على القادر فقط دون غيره، كذلك الصوم والحج، فكأن الصلاة هي عمدة العبادات كلها، ولشرفها ومنزلتها جعلها الله لازمة للعبد ولا تسقط عنه بحال أبدا ؛ لذلك شرعت صلاة المريض والمسافر والخائف... الخ.
وفي الصلاة استطراق للعبودية في الخلق جميعا، حيث نخلع أقدارنا حين نخلع نعالنا على باب المسجد، ففي الصف الواحد، الرئيس والمرءوس، والكبير والصغير، والرفيع والوضيع نقصد الوضيع في نظر الناس، وربما لا يكون وضيعا عند ربه فالجميع هنا سواء، ثم حين نرى الكبار والرؤساء والسادة معنا في الصفوف خاضعين لله أذلاء تزول بيننا الفوارق، ويدك في نفوسهم الكبرياء، فلا يتعالى أحد في مجتمع المسلمين على أحد.
ولمنزلة الصلاة وأهميتها رأينا كيف أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها الله علينا بالمباشرة، أما باقي التكاليف فقد فرضت بواسطة الوحي، وسبق أن ضربنا مثلا لذلك برئيس العمل حينما يأتيه أمر هام، فلا يأمر به بمكاتبة أو بالتليفون، إنما يستدعي الموظف المختص إلى مكتبه، ويلقى إليه الأمر مباشرة.
وكذلك رسول الله استدعاه ربه إلى السماء، وأخذ حظا بالقرب من الله تعالى، والله سبحانه يعلم حب الرسول لأمته وحرصه عليهم، وعلى أن ينالوا هم أيضا هذا القرب من حضرته تعالى، فأجابه ربه، وجعل الصلاة حضورا للعبد في حضرته تعالى، وقربا كقرب رسول الله في رحلة المعراج.
لذلك خاطبه ربه بقوله :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ( ٥ ) ﴾ [ الضحى ].
فقال سيدنا رسول الله :( إذن، لا أرضى وواحد من أمتي في النار )١.
وكما تحدث الصلاة استطراق عبودية تحدث الزكاة في المجتمع استطراقا اقتصاديا، فيعيش الجميع الغني والفقير عيشة كريمة ميسرة، فلا يشبع واحد حتى التخمة، والآخر يموت جوعا. وما بالك بمجتمع لا يتعالى فيه الكبير على الصغير ولا يبخل فيه الغني على الفقير ؟ إذن : في الصلاة والزكاة ما يكفل سعادة المجتمع كله.
وقد فرض الله الزكاة للفقراء : لأن الله سبحانه حين يستدعي عبده إلى كونه لا بد أن يضمن له مقومات الحياة، ولم لا وأنت إذا دعوت شخصا إلى بيتك لا بد أن تكرمه، وأن تعد له على الأقل ضروريات ما يلزمه فضلا عن الإكرام والحفاوة ورفاهية المأكل والمشرب.. الخ.
فالله سبحانه استدعى عباده إلى الوجود مؤمنهم وكافرهم، وعليه سبحانه أن يوفر لهم القوت، بل كل مقومات حياتهم، كذلك يضمن للعاجز غير القادر قوته، لذلك يفرض الزكاة حقا معلوما للسائل والمحروم، فهي صلات والأولى صلاة.
ولهذه المسألة قصة في الأدب العربي، فيروى أن ابن المدبر وكنيته أبو الحسن، كان الشعراء يقصدونه للنيل من عطاياه، يقولون : إن اللها تفتح اللها٢، أي : أن العطايا تفتح الأفواه بالمدح والثناء.
لكن، كان ابن المدبر إذا مدحه شاعر بشعر لم يعجبه يأمر رجاله أن يأخذوه إلى المسجد ولا يتركوه حتى يصلي لله مائة ركعة، وبذلك خافه الشعراء وتحاشوا الذهاب إليه إلا أبو عبد الله الحسين بن عبد السلام البشرى، ذهب إليه وقال : عندي شعر أحب أن أنشده لك، فقال : أتدري ما الشرط ؟ قال : نعم، قال : قل ما عندك، فقال :
أردنا في أبي حسن مديحا كما بالمدح تنتجع الولاة
يعني : يذهب الشعراء إليهم لينالوا من خيراتهم.
فقلنا أكرم الثقلين طرا ومن كفيه دجلة والفرات
وقالوا يقبل المدحاة لكن جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم وما تغنى صلاتي عيالي إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها فتصبح لي الصلات هي الصلاة
فلما تجرّأ عليه أحدهم وسأله : لماذا تعاقب من لم يعجبك شعره بصلاة مائة ركعة ؟ فقال : لأنه إما مسيء وإما محسن، فإن كان مسيئا فهي كفارة لإساءته في شعره، وإن كان محسنا فهي كفارة لكذبه فيّ.
ثم يقول سبحانه في وصفهم :﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون ( ٤ ) ﴾ [ لقمان ] لأن الإيمان باليوم الآخر يقتضي أن نعمل بمنهج الله في ( افعل كذا ) و( لا تفعل كذا )، ونحن على يقين من أننا لن نفلت من الله ولن نهرب من عقابه في الآخرة، وأننا محاسبون على أعمالنا، فلم نخلق عبثا، ولن نترك سدى، كما قال سبحانه :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ونلحظ هنا في الأسلوب تكرار ضمير الغيبة ( هم ) فقال :﴿ وهم بالآخرة هم يوقنون ( ٤ ) ﴾ [ لقمان ] وذا يدلنا على أن الإيمان بالآخرة أمر مؤكد لا شك فيه، ومع أن الناس يؤمنون بهذا اليوم، ويؤمنون أنهم محاسبون، وأن الله لم يكلفهم عبثا مع هذا يؤكد الحق سبحانه على أمر الآخرة، لأنها مسألة بعيدة في نظر الناس، وربما غفلوا عنها لبعدها عنهم، ولم لا وهم يغفلون حتى عن الموت الذي يرونه أمامهم كل يوم، ولكن عادة الإنسان أن يستبعده في حق نفسه.
لذلك يقول الحسن البصري٣ : ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت.
أما الكفار فينكرون هذا اليوم، ولا يؤمنون به ؛ لذلك أكد الله عليه.
ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة٤ رضي الله عنه : " كيف أصبحت يا حذيفة ؟ " قال : أصبحت مؤمنا حقا، فقال : " لكل حقّ حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها٥، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون " فقال صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم ".
وقوله ﴿ يوقنون ( ٤ ) ﴾ [ لقمان ] من اليقين، وهو الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع، ولا يطرأ عليه شكّ فيطفو إلى العقل ليناقش من جديد، وسبق أن قلنا : إن المعلومة تتدرج على ثلاث مراحل : علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
علم اليقين إذا أخبرك به من تثق به، فإذا رأيت ما أخبرك به فهو عين اليقين، فإذا باشرت ذلك بنفسك فهو حق اليقين.
وضربنا لذلك مثلا إذا قلت لك : إن البيت الحرام في مكة وصفته كذا وكذا، وقد حدثت فيه توسعات كذا وكذا، فهذه المعلومات بالنسبة لك علم يقين، فإذا رأيت الحرم فهي عين يقين، فإذا يسر الله لك الحج أو العمرة فباشرته بنفسك، فهو حق اليقين.
والحق سبحانه وتعالى عالج هذه المراتب في سورتين :﴿ ألهاكم التكاثر ( ١ ) حتى زرتم المقابر ( ٢ ) كلا سوف تعلمون ( ٣ ) ثم كلا سوف تعلمون ( ٤ ) كلا لو تعلمون علم اليقين ( ٥ ) لترون الجحيم ( ٦ ) ثم لترونها عين اليقين ( ٧ ) ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ( ٨ ) ﴾ [ التكاثر ].
وذلك حين يمرون على الصراط ويرون النار بأعينهم رأى العين.
أما حق اليقين بالنسبة للنار، فقد جاء في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٨٨ ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ( ٨٩ ) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( ٩٠ ) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( ٩١ ) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( ٩٢ ) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ( ٩٣ ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( ٩٤ ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( ٩٥ ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( ٩٦ ) ﴾ [ الواقعة ].
لكن، هل القرآن نزل هدى للمتقين، وهدى للمحسنين فحسب ؟ قلنا : إن الهداية تأتي بمعنيين : هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق ومعونة، فإن كانت هداية دلالة فقد دلّ الله المؤمن والكافر بدليل قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( ١٧ ) ﴾ [ فصلت ]
فالحق سبحانه دلّ الجميع لأنهم عباده، فمنهم من قبل الدلالة واقتنع بها فآمن، ومنهم من رفضها فكفر، أما الذي قبل دلالة الله وآمن به فيزيده الله هداية أخرى، هي المعونة على الإيمان، فيحببه إليه حتى يعشقه، ثم يعينه عليه، كما قال سبحانه :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( ١٧ ) ﴾[ محمد ].
١ أخرج الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يرضى محمد، وواحد من أمته في النار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أيضا أنه قال: رضاه أن تدخل أمته الجنة كلهم..
٢ اللها: أفضل العطايا وأجزلها. ويقال: إنه لمعطاء للها إذا كان جوادا يعطي الشيء الكثير. واللهاة: لحمة حمراء في الحنك في أقصى سقف الفم: [لسان العرب ـ مادة لها]..
٣ هو: الحسن بن أبي الحسن أبو سعيد البصري، نشأ بالمدينة، وحفظ كتاب في خلافة عثمان، وسمعه يخطب مرات، كان عالما رفيعا ثقة حجة مأموما عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميعا وسيما، مات سنة عشر ومائة، وله ثمان وثمانون سنة. [تذكرة الحفاظ للذهبي ١/٧١]..
٤ ما ورد كان في حق الحارث بن مالك الأنصاري. أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (١/٥٧) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير (٣/٣٠٢) وقال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة". وكذا أورده عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى رجلا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال: كيف أصبحت يا حارثة؟ الحديث وعزاه للبزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به..
٥ المدر: قطع الطين اليابس. وهو الطين المتماسك. [لسان العرب ـ مادة مدر]..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥ ) ﴾.
وصف الحق سبحانه قرآنه بأنه هدى، أما هنا فيقول :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى ( ٥ ) ﴾ [ لقمان ] والمتكلم هو الله عز وجل فلا بد أن نتأمل المعنى، ربنا عز وجل يريد أن يقول لنا نعم القرآن هدى، لكن إياك أن تظن أنك حين تتبع هذا الهدى تنفعه بشيء، إنما المنتفع بالهداية أنت، فحين تكون على الهدى يدلك ويسير بك إلى الخير، فالهدى كأنه مطية يوصلك إلى الخير والصلاح، فأنت مستعل على الهدى إن قبلته، وإن كان هو مستعليا عليه تشريعا.
ثم هو هدى ممن ؟ ﴿ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ( ٥ ) ﴾ [ لقمان ] ممن لا يستدرك عليه، فإن دلّك دلّك بحق، وهب أن البشر اهتدوا إلى شيء فيه خير، لكن بعد فترة يعارضون هم أنفسهم هذا الطريق، ويكتشفون له مضار ومثالب، ويستدركون عليه، وربما يعدلون عنه إلى غيره، وكم هي القوانين البشرية التي ألغيت أو عدلت ؟
إذن : الهداية والدلالة الحقة لا تكون إلا لله، والقانون الذي ينبغي أن يحكمنا ونطمئن إليه لا يكون إلا لله، لماذا ؟ لأن البشر ربما ينتفعون من قوانينهم، وقد تتحكم فيهم الأهواء أو يميلون لشخص على حساب الآخر، أما الحق سبحانه وتعالى فهو وحده سبحانه الذي لا ينتفع بشيء مما شرع لعباده، ولا يحابى أحدا على حساب أحد، والعباد كلهم عباده وعنده سواء.
لذلك يطمئننا الحق سبحانه على تشريعه وعدالته سبحانه، فيقول ﴿ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ( ٣ ) ﴾ [ الجن ] يعني : اطمئنوا، فربكم ليس له صاحبة تؤثر عليه، ولا ولد يظلم الناس فيحابيه، فأنتم جميعا عنده سواسية.
ثم هناك فرق بين هدى من الله، وهدى من الرب، فالرب هو الذي ربّاك، هو الذي أوجدك من عدم، وأمدك من عدم، وأعطاك قبل أن تعرف السؤال، وتركك تربع في كونه وتتمتع بنعمه.
لذلك يعلمك ربك : إياك أن تسألني عن رزق غد، لأنني رزقتك قبل أن تعرف أن تسأل، ثم لم أطالبك بعبادة غد، إذن : ليكن العبد مؤدبا مع ربه عز وجل.
وهكذا نتبين أن الربوبية عطاء، أما الألوهية فتكليف.
ثم يخبر الحق سبحانه عنهم بخبر آخر ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥ ) ﴾ [ لقمان ] فالفلاح نتيجة الهدى الذي ساروا عليه واتبعوه، كما قال تعالى :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ].
الفلاح أصله من فلاحة الأرض بالحرث والبذر والسقي... الخ، فاستعارها أسلوب القرآن للعمل الصالح، ووجه الشبه بين الأمرين واضح، فالفلاح يلقى الحبة فيضاعفها له ربه سبعمائة حبة، كذلك العمل الصالح يضاعف لصاحبه، فالحسنة عند الله بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ﴿ والله يضاعف لمن يشاء ( ٢٦١ ) ﴾ [ البقرة ].
واقرأ في كتاب الله هذا المثل :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) ﴾[ البقرة ].
وتأمل الاستدلال هنا : إذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي كل هذا العطاء. فكيف يكون عطاء من خلقها ؟ إذن : فهم لا شك مفلحون أي : فائزون بالثمرة الطيبة التي تفوق ما بذلوه من مشقة، كما يزرع الفلاح الأرض فتعطيه أضعاف ما وضع فيها.
ثم يقول الحق سبحانه١ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٦ ) ﴾.
بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته، وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلاحا لمن سار على هديه يبين لنا أن هناك نوعا آخر من الناس ينتفعون بالضلال ويستفيدون منه، وإلا ما راجت سوقه، ولما انتشر بين الناس أشكالا وألوانا.
لذلك نرى للضلال فئة مخصوصة حظهم أن يستمر وأن ينتشر لتظل مكاسبهم، ولتظل لهم سيادتهم على الخلق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.
وطبيعي إن وجد قانون يعيد توازن الصلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلا هؤلاء يحاربونه ويحاربون أهله ويتهمونهم ويشككون في نواياهم، بل ويواجهونهم بالسخرية والاستهزاء مرة وبالتعدي مرة أخرى.
وربما قطعوا عليهم سبل الحياة، كما عزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، ثم يكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة مرة أخرى، لماذا ؟ لأن حياتهم تقوم على هذا الضلال فلا بد أن يحافظوا عليه.
والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلاء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى الإيمان يعرفون تماما أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج الله وداعي الخير لا بدّ أن يميلوا إليه ؛ لذلك يحولون بين آذان الناس ومنطق الحق، فهم الذين قالوا للناس :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه... ( ٢٦ ) ﴾ [ فصلت ].
وما ذلك إلا لأنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سمعته الأذن العربية لا بدّ وأن تتأثر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان.
فإذا ما أفلت منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحق أتوه بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحق إلى الباطل.
وقوله سبحانه :﴿ وَمِنَ النَّاسِ ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] من هنا للتبعيض أي : الناس المستفيدون من الضلال، والذين يسوؤهم أن يأتم الناس جميعا بمنطق واحد، وهدف واحد، وهدى واحد، لأن هذه الوحدة تقضي على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض ؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلال ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ... ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ].
قوله تعالى :﴿ يَشْتَرِي ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] من الشراء الذي يقابله البيع، والشراء أن تدفع ثمنا وتأخذ في مقابله مثمنا، وهذا بعدما وجد النقد، لكن قبل وجود النقد كان الناس يتعاملون بالمقايضة والتبادل سلعة بسلعة، وفي هذه الحالة فكل سلعة مباعة وكل سلعة مشتراة، وكل منهما بائع ومشتر.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ( ٢٠ ) ﴾ [ يوسف ]
والمعنى : شروه أي : باعوه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله.. ( ٢٠٧ ) ﴾ [ البقرة ].
أي : يبيعها، إذن، الفعل ( شرى ) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشراء.
أما إذا جاء الفعل بصيغة ( اشترى ) فإنه يدل على الشراء الذي يدفع له ثمن، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.. ( ١٩٩ ) ﴾ [ آل عمران ].
وقوله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( ١١١ ) ﴾ [ التوبة ].
وعادة تدخل الباء على المتروك تقول : اشتريت كذا بكذا.
وحين نتأمل قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] نجد أن هذه عملية تحتاج إلى طلب للشيء المشترى، ثم إلى ثمن يدفع فيه، وليت الشراء لشيء مفيد إنما ﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] وهذه سلعة خسيسة.
إذن : هؤلاء الذين يريدون أن يصدوا عن سبيل الله تحملوا مشقة الطلب، وتحملوا غرم الثمن، ثم وصفوا بالخيبة لأنهم رضوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمر منه أن يضعوا هذا في مقابل الحق الذي جاءهم من عند الله على يد رسوله بلا تعب وبلا مشقة وبلا ثمن، جاءهم فضلا من عند الله وتكرما :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ( ٢٣ ) ﴾ [ الشورى ].
فأيّ حمق هذا الذي يوصفون به ؟
وكلمة اللهو : ذكر القرآن اللهو وذكر اللعب في عدة آيات، قدمت اللعب على اللهو في قوله تعالى :﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( ٣٢ ) ﴾ [ الأنعام ].
وفي قوله تعالى :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ( ٢٠ ) ﴾ [ الحديد ].
وقدمت اللهو في قوله تعالى :﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ( ٦٤ ) ﴾ [ العنكبوت ].
فقدمت الآيات اللعب في آيتين ؛ لأن اللعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة، كما يلعب الأطفال، يعني : حركة لا هدف لها، ونقول عنها ( لعب عيال ) وسميت لعبا ؛ لأن الطفل يلعب قبل أن يكلف بشيء، فلم يشغل باللعب عن غيره من المهمات.
لكن إذا انتقل إلى مرحلة التكليف، فإن اللعب يشغله عن شيء طلب منه، ويسمى في هذه الحالة لهوا، ومنه قوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ( ١١ ) ﴾ [ الجمعة ].
إذن : فاللهو هو الشيء الذي لا مصلحة فيه، ويشغلك عن مطلوب منك.
فآية سورة العنكبوت التي قدمت اللهو على اللعب تعني أن أمور الاشتغال بغير الدين قد بلغت مبلغا، وأن الفساد قد طمّ واستشرى الانشغال بغير المطلوب عن المطلوب، فهذه أبلغ في المعنى من تقديم اللعب ؛ لأن اللعب لم يلهه عن شيء.
لكن، ما اللهو الذي اشتروه ليصرفوا الناس به عن الحق وعن دعوة الإسلام ؟ إنهم لما سمعوا القرآن سمعوا فيه قصصا عن عاد وثمود، وعن مدين وفرعون... الخ، فأرادوا أن يشغلوا الناس بمثل هذه القصص.
وقد ذهب واحد منهم وهو النضر بن الحارث إلا بلاد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلية عن رستم وعن الأكاسرة وعن ملوك حمير، اشتراها وجاء بها، وجعل له مجلسا يجتمع الناس فيه ليقصّها عليهم، ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحق في رسول الله.
وآخر يقول : بل جاء أحدهم بمغنية تغنيهم أغاني ماجنة متكسرة.
ومعنى :﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] قال العلماء : هو كل ما يلهى عن مطلوب لله، وإن لم يكن في ذاته في غير مطلوب الله لهوا، وعليه فالعمل الذي يلهى صاحبه من صناعة أو زراعة.. الخ يعدّ من اللهو إن شغله مثلا عن الصلاة، أو عن أداء واجب الله تعالى.
ومن التصرفات ما يعدّ لهوا، وإن لم يشغلك عن شيء كالغناء، وللعلماء فيه كلام كثير خاصة بعد أن صاحبته الموسيقى وآلات الطرب والحركات الخليعة الماجنة، ولفقهائنا القدامى رأيهم في هذا الموضوع، لكن العلماء المحدثين والذين يريدون أن يجيزوا هذه المسألة يأخذون من كلام القدماء زاوية ويطبقونها على غير كلامهم.
نعم، أباح علماؤنا الأنس بالغناء في الأفراح وفي الأعياد اعتمادا على قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق الذي رأى جاريتين تغنيان في بيت رسول الله فنهرهما. وقال : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم :( دعهما، فإننا في يوم عيد ).
وكذلك أباحوا الأناشيد التي تقال لتلهب حماس الجنود في الحرب، أو التي ينشدها العمال ليطربوا بها أنفسهم وينشغلوا بها عن متاعب العمل، أو المرأة التي تهدهد ولدها لينام.
ومن ذلك حداء٢ الإبل لتسرع في سيرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة٣ : " رفقا بالقوارير " ٤ فشبه النساء في لطفهن ورقتهن بالقوارير، فإذا ما أسرعت بهن الإبل هزّت بهن الهوادج، وهذا يشق على النساء.
إذن : لا مانع من كل نصّ له غرض نبيل، أما إن أهاج الغرائز فهو حرام والكلام هنا عن مجرد النص لأن الخالق سبحانه يعلم طبيعة الغرائز في البشر ؛ لذلك نسميها غريزة، لأن لها عملا وتفاعلا في نفسك بدون أي مؤثرات خارجية، ولها طاقة لا بدّ أن تتحرك، فإن أثرتها أنت ثارت ونزعت إلى ما لا تحمد عقباه.
وسبق أن أوضحنا أن مراتب الشعور ثلاث : يدرك بحواسه، ثم وجدان يتكون في النفس نتيجة للإدراك، ثم النزوع والعمل الذي يترجم هذا الوجدان.
ومن رحمة الله بنا أن الشرع لا يتدخل في هذه المسألة إلا في مرحلة النزوع، فيقول لك : قف لا تمد يدك إلى ما ليس لك، ومثّلنا لهذه المسألة بالوردة تراها في البستان، ويعجبك منظرها، وتجذبك رائحتها فتعشقها وهذا لك، فإن مددت يدك لتقطفها يقول لك الشارع : قف ليس من حقك.
إذن : فالشارع الحكيم لا يتدخل في مرحلة الإدراك، ولا في المواجيد إلا في مسألة واحدة لا يمكن الفصل فيها بين الإدراك والوجدان والنزوع، لأنها جميعا شيء واحد، إنها عملية نظر الرجل إلى المرأة التي لا تحل له، لماذا هذه المسألة بالذات ؟
قالوا : لأنها لا تقف عند حدّ الإعجاب بالمنظر، إنما يورثك هذا الإعجاب انفعالا خاصا في نفسك، ويورثك تشكلا خاصا لا يهدأ، إلا بأن تنزع، فرحمة بك يا عبدي أنا سأتدخل في هذا الأمر بالذات من أوله، وأمنعك من مجرد الإدراك، لأنك إن أدركت وجدت، وإن وجدت نزعت إلى ما تجد فأثمت في أعراض الناس أو كبت في نفسك، فأضررت بها، وربك يريد أن يبرئك من الإثم ومن الإضرار بالنفس، فالأسلم لكم أن تغضوا أبصاركم.
إذن : لا تقل الغناء لكن قل النص نفسه : إن حث على فضيلة فهو حلال، وإن أهاج الغرائز فهو حرام وباطل، كالذي يشبب بالمرأة ويذكر مفاتنها، فهذا حرام حتى في غير الغناء، فإذا ما أضفت إليه الموسيقى والألحان والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه.
أما ما نراه الآن وما نسمعه مما يسمونه غناء، وما يصاحبه من حركات ورقصات وخلاعات وموسيقى صاخبة، فلا شك في حرمته.
فكل ما يخرج الإنسان عن وقاره ورزانته وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام، ثم إن الغناء صوت فإن خرج عن الصوت إلى أداء آخر مهيج، تستعمل فيه الأيدي والأرجل والعينان والوسط.. الخ فهذا كله باطل ومحرم.
ولا ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول : إنهم يفرضون ذلك علينا، فالمؤمن له بصيرة يهتدى بها، ويميز بين الغث والسمين، والحق والباطل، فكن أنت حكما على ما ترى وما تسمع، بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولادك، وبيدك أنت الزمام إن شئت سمعت، وإن شئت أغلقت الجهاز، فلا حجة لك لأن أحدا لا يستطيع أن يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره.
ففي رمضان مثلا، وهو شهر للعبادة نصوم يومه، ونقوم ليله، وينبغي أن نكرمه، ونحتفظ فيه بالوقار والروحانية، ومع ذلك يخرجون علينا بألوان اللهو الذي يتنافى والصيام، فإن سألتهم قالوا : الناس مختلفو الأمزجة، وواجبنا أن نوفر لهم أمزجتهم، لكن للمؤمن ولاية على نفسه وهو يملك زمامها، فلا داعي أن تتهم أحدا ما دام الأمر في يدك، وعليك أن تنفذ الولاية التي ولاك الله، فإن فعلت ففي يدك خمسة وتسعون بالمائة من حركة الحياة، ولغيرك الخمسة الباقية.
ثم إن ما يحل من الغناء مشروط بوقت لا يكون سمة عامة ولا عادة ملحة على الإنسان يجعلها ديدنه ؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( روحوا القلوب ساعة بعد ساعة )٥.
وهؤلاء المغنون والمغنيات الذين يدخلون في الغناء ما ليس منه من الحركات والرقصات لا يدرون أنهم ي
١ سبب نزول الآية: قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنيات. [أسباب النزول للواحدي ص ١٩٧]..

٢ الحدو: سوق الإبل والغناء لها، فإنه من أكبر الأشياء على سوقها وبعثها. [لسان العرب ـ مادة حدا]..
٣ قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا يكنى أبا مارية. وقد كان حسن الصوت بالحداء [الإصابة في تمييز الصحابة ١/٦٨] ترجمة (٢٥٩)..
٤ أخرجه البخاري في صحيحه (٦٢٠٢)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٣٢٣) من حديث أنس ابن مالك قال: كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن يسوق بهن سواق، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أي أنجشة، رويدا سوقك بالقوارير"..
٥ أورده العجلوني في كشف الخفاء (١/٥٢٤) وعزاه للديلمي وأبى نعيم والقضاعي عن أنس رفعه. وقال: ويشهد له ما في مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم (يا حنظلة ساعة ساعة) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٥٠) عن حنظلة الأسيدي..
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا.. ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] بعد قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ٦ ) ﴾ [ لقمان ] يدلنا على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمر دعوته، حتى لمن يعلم عنه أنه ضل في نفسه، بل ويريد أن يضل غيره.
ومعنى ﴿ وَلَّى ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : أعرض وأعطانا ( عرض أكتافه ) كما نقول، وتولى وهو مستكبر ﴿ وَلَّى مُسْتَكْبِرًا ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] أي : تكبّر على ما يدعى إليه، أنت دعيت إلى حق فاستكبرت، ولو كنت مستكبرا في ذاتك لما لجأت إلى باطل لتشتريه، إذن : فكيف تستكبر عن قبول الحق وأنت محتاج حتى إلى الباطل ؟
ولماذا تتكبر وليس عند مقومات الكبر ؟ ومعلوم أنك تستكبر عن قبول الشيء إن كان عندك مثله، فكيف وأنت لا تملك لا مثله ولا أقل منه ؟
إذن : فاستكبارك في غير محله، والمستكبر دائما إنسان في غفلة عن الله ؛ لأنه نظر إلى نفسه بالنسبة للناس وربما كان لديه من المقومات ما يستكبر به على الناس لكنه غفل عن الله، ولو استحضر جلال ربه وكبرياءه سبحانه لاستحى أن يتكبر، فالكبرياء صفة العظمة وصفة الجلال التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكبرياؤه سبحانه شرف لنا وحماية تمنعنا أن نكون عبيدا لغيره سبحانه.
لذلك نسمع في الأمثال العامية ( اللي ملوش كبير يشترى له كبير ) فإن كان لي كبير خافني الناس واحتميت به، كذلك المؤمن يحتمي بكبرياء ربه ؛ لأن كبرياء الله على الجميع والكل أمامه سواسية، لا أحد يستطيع أن يرفع رأسه أمام الحق سبحانه.
إذن : فكبرياؤه تعالى لصالحنا نحن.
وهذا المستكبر استكبر عن سماع الآيات ﴿ كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] أي : ثقل وصمم ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] ونحن نعلم أن البشارة لا تكون إلا في الخير، فهي الإخبار بأمر سار لم يأت زمنه، كما تبشر ولدك بالنجاح قبل أن تظهر النتيجة.
أما البشارة بالعذاب فعلى سبيل التهكم بهم والسخرية منهم، كما تتهكم من التلميذ المهمل فتقول له : أبشرك رسبت هذا العام. واستخدام البشرى في العذاب كأنك تنقله فجأة من الانبساط إلى الانقباض، وفي هذا إيلام للنفس قبل أن تقاسي ألم العذاب، فالتلميذ الذي تقول له : أبشرك يستبشر الخير بالبشرى، ويظن أنه نجح لكن يفاجأ بالحقيقة التي تؤلمه.
والشاعر يصور لنا هذه الصدمة الشعورية بقوله :
كما أبرقت يوماعطاشاغمامة فلمارأوهاأقشعت وتجلت١
ويقول آخر :
فأصحبت من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الأصابع
لذلك يقولون : ليس أشر على النفس من الابتداء المطمع يأتي بعده الانتهاء الموئس، وسبق أن مثلنا لذلك بالسجين الذي بلغ به العطش منتهاه، ورجا السجان، إلى أن جاء له بكوب من الماء، ففرح واستبشر، وظن أن سجانه رجل طيب أصيل فلما رفع الكوب إلى فيه ضربه السجان من يده فأراقه على الأرض.
ولا شك أن هذا آلم وأشد على نفس السجين، ولو رفض السجان أن يأتي له بالماء من البداية لكان أخف ألما، وهذا الفعل يسمونه " يأس بعد إطماع " فقد ابتدأ معه بداية مطمعة، وانتهى به إلى نهاية موئسة، نعوذ بالله من القبض بعد البسط.
ثم يذكر الحق سبحانه عقوبة الإضلال عن سبيل الله والتولي والاستكبار ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] فعذابهم مرة ( مهين ) ومرة ( أليم ).
١ انقشع الغيم وأقشع وتقشع الريح أي: كشفته فانقشع. وتقشع السحاب أي تصدع وأقلع. [لسان العرب ـ مادة: قشع]. والبيت لكثير عزة في ديونه (ص ١٠٧) وعزاه له شهاب الدين محمود الحلبي في "حسن التوسل" (ص ١٢١)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ٨ ) ﴾.
وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مقابل الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني ؛ لأن ذكر الشيء مع مقابله يوضح المعنى ويعطيه حسنا، كما في قوله تعالى :
﴿ إن الأبرار لفي نعيم ( ١٣ ) وإن الفجار لفي جحيم ( ١٤ ) ﴾ [ الانفطار ]
فالجمع بين المتقابلات يفرح المؤمن بالنعيم، ثم يفرحه بأن يجد أعداءه من الكفار الذين غاظوه واضطهدوه وعذبوه يجدهم في النار.
وقلنا : إن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان يردفه بالعمل الصالح ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( ٨ ) ﴾ [ لقمان ] لأن الإيمان أن تعلم قضايا غيبية فتصدق بها، لكن ما قيمة هذا الإيمان إذا لم تنفذ مطلوبه ؟
وكذلك في سورة العصر :﴿ والعصر ( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... ( ٣ ) ﴾ [ العصر ] ففائدة الإيمان العمل بمقتضاه، وإلا فما جدوى أن تؤمن بأشياء كثيرة، لكن لا توظف ما تؤمن به، ولا تترجمه إلى عمل وواقع ؛ لذلك إن اكتفيت بالإمان ككلمة تقال دون عمل، فقد جعلت الإيمان حجة عليك لا حجة لك.
ومعنى ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( ٧ ) ﴾ [ لقمان ] أي : الصالح، والحق سبحانه خلق الكون على هيئة الصلاح، فالشيء الصالح عليك أن تزيد من صلاحه، فإن لم تقدر فلا أقل من أن تدع الصالح على صلاحه فلا تفسده.
ثم يذكر سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح :﴿ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ٨ ) ﴾ [ لقمان ] فهي جنات لا جنة واحدة، ثم هي جنات النعيم أي : المقيم الذي لا تفوته ولا يفوتك.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيز ُالْحَكِيمُ ( ٩ ) ﴾
حين نتأمل هذه الآيات نلمس رحمة الله بعباده حتى الكافر منهم الذي ضل وأضل، ومع ذلك فالله رحيم به حتى في تناول عذابهم، ألا ترى أن الله تعالى قال في عذابهم أنه مهين، وأنه أليم، لكن لم يذكر معه خلودا كما ذكر هنا الخلود لنعيم الجنات، كما أن العذاب جاء بصيغة المفرد، أما الجنة فجاءت بصيغة الجمع، ثم أخبر عنها أنها ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا( ٩ ) ﴾ لقمان
والوعد يستخدم دائما لعدة بخير يأتيك، وقلنا : إن العبد يعد، وقد لا يفي بوعده، لأنه لا يملك كل مقومات الوفاء. أما الوعد إن كان من الله فهو محقق لأنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء، ولا يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد، لأنه سبحانه ليس له شريك، كالرجل الذي أراد أن يذم آخر فقال له : الدليل على أن الله ليس له شريك أنه خلقك، فلو كان له شريك لقال له : لا داعي لأن تخلق هذا.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نردف وعدنا بقولنا : إن شاء الله حتى نكون منصفين لأنفسنا من الناس، ولا نتهم بالكذب إذا لم نف، وعندها لي أن أقول : أردت ولكن الله لم يرد، فجعلت المسألة في ساحة ربك عز وجل.
وبهذه المشيئة رحم الله الناس من ألسنة الناس، فإذا كلفتني بشيء فلم أقضه لك فاعلم أن له قدرا عند الله لم يأت وقته بعد، واعلم أن الأمر لا يقضي في الأرض حتى يقضى في السماء، فلا تغضب ولا تتحامل على الناس، فالأمور ليست بإرادة الناس، وإنما بإرادة الله.
لذلك حين تتوسط لأخيك في قضاء مصلحة وتقضى على يديك، المؤمن الحق الذي يؤمن بقدر الله يتأدب مع الله فيقول : قضيت معي لا بي، يعني : شاء الله أن يقضيها فأكرمني أن أتكلم فيها وقت مشيئته تعالى، كذلك يقول الطبيب المؤمن : جاء الشفاء عندي لا بى.
ولو فهم الناس معنى قدر الله لاستراحوا، فحين ترى المجد العامل يقصى ويبعد، وحين ترى الخامل والمنافق يقرب ويعتلى أرفع المناصب فلا تغضب، وإذا لم تحترمه لذاته فاحترم قدر الله فيه.
فالمسائل لا تجري في كون الله بحركة ( ميكانيكية )، إنما بقدر الله الذي يرفع من يشاء ويضع من يشاء، وله سبحانه الحكمة البالغة في هذه وتلك، وإلا لقلنا كما يقول الفلاسفة : إن الله تعالى خلق القضايا الكونية ثم تركها للناس يسيرونها.
والحق سبحانه ما ترك هذه القضايا، بدليل قوله تعالى :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ( ٤٩ ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ( ٥٠ ) ﴾ [ الشورى ].
فبعد هذه الآية لا يقل أحد : إن فلانا لا ينجب أو فلانة لا تنجب، لأن هذه مرادات عليا لله تعالى، ولو أن العقيم احترم قدر الله في العقم لجعل الله كل من يراهم من الأولاد أولاده، وما دام الله تعالى قال ﴿ يهب ( ٤٩ ) ﴾ [ الشورى ] فالمسألة في كل حالاتها هبة من الله تعالى لا دخل لأحد في الذكورة أو الأنوثة أو العقم. فلماذا إذن قبلت هبة الله في الذكور، ولم تقبل هبة الله في العقم ؟
وسبق أن تحدثنا عن وأد البنات قبل الإسلام، لأن البنت كانت لا تركب الخيل، ولا تدافع عن قومها، ولا تحمل السلاح.. الخ، فلما جاء الإسلام حرم ذلك وكرّم المرأة، وأعلى من شأنها، لكن ما زالت المفاضلة قائمة بين الولد والبنت.
والآن احتدم صراع مفتعل بين أنصار الرجل وأنصار المرأة، والإسلام بريء من هذا الصراع ؛ لأن الرجل والمرأة في الإسلام متكاملان لا متضادان، وعجيب أن نرى من النساء من تتعصب ضد الرجال وهي تجن إن لم تنجب الولد، وهذه شهادة منهن بأفضليته.
وكأن الحق تبارك وتعالى يعلمنا أن من يحترم قدره في إنجاب البنات يقول الله له : لقد احترمت قدري فسوف أعطيك على قدري، فيعطيه الله البنين، أو ييسر لبناته أزواجا يكونون أبرّ به من أولاده وأطوع.
ثم ألا ترى أن الله تعالى قدم البنات في الهبة، فقال :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( ٤٩ ) ﴾ [ الشورى ]. لماذا ؟ لأنه سبحانه يعلم محبة الناس للذكور :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( ٥٨ ) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ٥٩ ﴾( النحل )
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) ﴾ [ لقمان ] العزيز الذي لا يغلب، ولا يستشير أحدا فيما يفعل ﴿ الْحَكِيمُ ( ٩ ) ﴾ [ لقمان ] أي : حين يعد، وحين يفي بالوعد.
ثم تنتقل الآيات إلى دليل من أدلة الإيمان الفطري بوجود الإله :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ١ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ١٠ ) ﴾.
أولا : ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملاحدة، وهي آية موجودة ومشاهدة، وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والأرض لم يعارضه أحد، ولم يأت من يعارضه فيقول : بل أنا خالق السماء والأرض.
وسبق أن قلنا : إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم يقم لها معارض، فإن كانت هذه القضية صحيحة، والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهت المسألة، وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين هو ؟ هل درى أن واحدا آخر أخذ منه الخلق، ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقه ؟ أو أنه لم يدر بشيء فهو إله ( نائم على ودنه )، وفي كلا الحالين لا يصلح أن يكون إلها يعبد.
لذلك قال تعالى ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ( ١٨ ) ﴾ [ آل عمران ]، فهذه شهادة الذات للذات، ولم يعارضها معارض فصحت لصاحبها إلى أن يوجد معارض.
وسبق أن مثلنا لذلك ولله المثل الأعلى بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفض مجلسهم وجد صاحب البيت حافظة نقود لا يعرف صاحبها، فاتصل بمن كانوا في مجلسه، وسألهم عنها فلم يقل واحد منهم أنها له، إلى أن طرق الباب أحدهم وقال : والله لقد نسيت حافظة نقودى هنا، فلا شكّ إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدّعها واحد آخر منهم.
والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾ [ الإسراء ] أي : لذهبوا يبحثون عمّن أخذ منهم الخلق والناس، وأخذ منهم الألوهية.
فإن قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردّ الحق عليهم :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( ٥١ ) ﴾ [ الكهف ].
وقوله تعالى :﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] حين تدور في أنحاء الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلك، ومع سعة السماء لا تجد لها عمدا ترفعها، وكلمة ﴿ تَرَوْنَهَا ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] تحمل معنيين : إما هي فعلا بغير عمد، أو لها عمد لكن لا نراها ﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : لا نرى لها عمدا، لكن الحقيقة أن لها عمدا لا ترونها بإحساسكم ومقاييسكم.
فإن قلت، فما هذه العمد التي لا نراها ؟ البعض يقول : هي الجاذبية، وهذا القول مجانب للصواب، والحق سبحانه :﴿ .. ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ( ٦٥ ) ﴾ [ الحج ].
إذن : لا نملك إلا أن نقول إنها ممسوكة بقدرة الله، ولكي لا نحار في كيفية ذلك يقرب الله لنا هذه المسألة بمثال مشاهد لنا، فالطير يمسكه الله في جو السماء :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ... ( ٧٩ ) ﴾ [ النحل ].
وفي موضوع آخر يقول الحق سبحانه :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ( ٤١ ) ﴾ [ فاطر ] إذن : فهو سبحانه يمسكها بقانون، لكن لا نعرفه نحن ولا ندركه.
والسماء في اللغة : كل ما علاك فأظلّك، فالغيم الذي يعلوك وتراه قريبا منك يعد من السماء بدليل قول الله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] والماء ينزل من الغيم، لا من السموات العلا، والفرق بينهما أن الغيم تراه في مكان دون آخر، وتراه متقطعا منفطرا، أما السماء العليا فهي بشكل واحد، لا ترى فيها من فطور.
وحين تكلم الحق سبحانه عن الأرض والسماء قال : إنها سبع سماوات، ولم يقل سبع أراضين، بل ﴿ ومن الأرض مثلهن ( ١٢ ) ﴾ [ الطلاق ] فدلّ على أن الأرض سبع كالسماء، وإن كانت السماء كل ما أظلّك، فالأرض كل ما أقلّك، لكن أين هذه الأرضين السبع ؟
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بها في رحلة المعراج فقال في الأولى كذا وكذا، وفي الثانية كذا وكذا، وما دامت السماء كل ما أظلك، والأرض كل ما أقلك فالخلق في السماء الأولى مثلا سماؤهم السماء الثانية، وأرضهم سماؤنا الأولى، وهكذا وهكذا.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] أي : الجبال الراسية الثابتة المتصلة بالأرض اتصالا وثيقا بحيث لا تتخلخل منها، والعلة في خلق الجبال الرواسي على الأرض ﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] أي : تميل وتضطرب بكم، ولو أن الأرض مخلوقة على هيئة الثبات لما احتاجت إلى ما يثبتها.
إذن : فالأرض متحركة، وما خلقت الجبال إلا لتثبيتها وضبط حركتها، فدلّت هذه الآية على صدق النظرية القائلة بدوران الأرض، كذلك في قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( ٨٨ ) ﴾ [ النمل ].
إذن : فللجبال حركة مرتبطة بحركة الأرض، فإن قلت : ولماذا لا نراها ؟ نقول : لأن وحدة المكان تجعلك لا تدرك هذه الحركة، فالمتحد في مكان لا تختلف مرائي الأشياء بالنسبة له.
فلو تصورنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا صمّم على هيئة رحى تدور بنا، فهل نشعر بدورانه ونحن ندور بدورانه ؟ لا نشعر، لماذا ؟ لأن مواقعنا من بعض ثابتة لا تتغير، كذلك موقعنا من المكان ؛ لذلك لا نشعر بالحركة، لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركا بثابت، فلو فتحنا الباب مثلا أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد، عندها نشعر أننا نتحرك.
إذن : لا يمكن لمن على الأرض أن يشعر بحركتها ؛ لأنه يتحرك معها، وما دامت الجبال أوتادا في الأرض وهي أي الجبال تمر مرّ السحاب فلا بدّ أن الأرض كذلك تمر وتتحرك بنفس الحركة، وحركة الجبال ليست ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الأرض، والحق سبحانه شبه حركة الجبال بحركة السحاب، والسحاب حركته غير ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الرياح.
ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخلق الجبال :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] وسبق أن أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للإنسان وللحيوان والذي ينشأ من الزرع، وبينا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفتت بعوامل التعرية، ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان فتزيد من خصوبة الأرض بمقدار كل عام، ومن الجبال أيضا يتكون الماء في الأنهار أو في مسارب الأرض فنخرجه حين الحاجة إليه.
ومن حكمته تعالى أن جعل الجبال راسية ثابتة، وجعلها صلدة وإلا لو كانت هشّة لأذابتها الأمطار وفتتها في عدة سنوات، ثم حرمت الأرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال ؛ لذلك يقول الله تعالى :﴿ وما ننزّله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) ﴾ [ الحجر ] فمع زيادة السكان تزداد المساحة الخصبة التي يكونها الغرين الذي يتفتت من الجبال عاما بعد عام.
واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٩ ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا... ( ١٠ ) ﴾ [ فصلت ].
فالجبال جعلها الله راسية حتى لا تضطرب بنا الأرض، وجعلها صلبة لأنها مخزن الخصب الذي يمدنا بالزرع الذي به قوام حياتنا.
ومن رحمة الله بالإنسان أن جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة، فإن منع عنه الطعام أو الشراب تغذّى من المخزون في جسمه، فيأخذ أولا من الدهن، ثم من اللحم، ثم من العظم، لذلك قلنا : إن العظم هو آخر مخازن القوت في جسم الإنسان، وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا :﴿ إني وهن العظم مني ( ٤ ) ﴾ [ مريم ].
يعني : قد بلغت آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة.
فكان من رحمة الله بالخلق أن جعل حتى شره الإنسان للطعام والشراب رحمة به، حيث يتحول الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه، فإذا انقطعت به السبل أو تعذر عليه الطعام والشراب استمد مما في جسمه.
كذلك من رحمة الله بالإنسان أن جعله يصبر على الطعام إلى شهر، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب، أما الهواء فلا يصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير : لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خلقه بألا يملّك الهواء لأحد، فلو ملكه عدوك لمت قبل أن يرضى عنك.
وقوله :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] بث أي : نشر، والدابة : كل ما له دبيب على الأرض، والدبيب بحسب ما يدبّ على الأرض، وكل ما يمشي على الأرض له دبيب نسمعه في الحيوان الضخم مثلا، لكن لا نسمعه في النملة مثلا، فهي أيضا لها دبيب بدليل قولنا : فلان يسمع دبّة النملة، إذن : لها دبيب على الأرض، لكن أذن من التي تستطيع أن تسمعه ؟
وقوله تعالى :﴿ مِن كُلِّ دَابَّةٍ ( ١٠ ) ﴾ [ لقمان ] كل تعني سورا كليا يضم كل ما له حركة ودبيب على الأرض، يعني : كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الآن إلى أكبر حيوان على الأرض. وقوله ( من ) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلّ على الشمول.
ومن هذه الدواب ما أحله الله ومنها ما حرمه، لذلك يقول البعض : ما دام الله حرّم هذه الحيوانات، فما الضرورة في خلقها ؟ وهل كل شيء مخلوق يؤكل ؟
لا، ليس كل مخلوق من الحيوانات يؤكل، لأن له مهمة أخرى يؤديها.
ولو تأملت ما حرم عليك لوجدته يخدمك في ناحية أخرى، فمنه ما يمد الحيوانات التي تأكلها، ومنه ما فيه خاصية تحتاج إليها في غير الأكل، فالثعبان مثلا لا نرى فيه إلا أنه مخلوق ضار، لكن ألم نحتج إلى سمّه الآن، ونجعله مصلا نافعا ؟ ألسنا ننتفع بجلوده ؟ الخ، فإذا كنا لا نأكله فنحن نستفيد من وجوده في نواح أخرى.
كذلك الخنزير مثلا، البعض يقول : ما دام الله تعالى حرمه، فلماذا خلقه ؟ سبحان الله، هل خلق الله كل شيء لتأكله أنت ؟ ليس بالضرورة أن تأكل كل شيء، لأن الله جعل لك طعامك الذي يناسبك، أتأكل مثلا البترول ؟ كيف ونحن نرى حتى السيارات والقطارات والطائرات لكل منها وقوده المناسب له، فالسيارة التي تعمل بالبنزين مثلا لا تعمل بالسولار... الخ، فربك أعطاك قوتك كما أعطى لغيرك من المخلوقات أقواتها.
لذلك ؛ إذا نظرت في غابة لم تمتد إليها يد الإنسان تجد فيها جميع الحيوانات والطيور والدواب والحشرات... الخ دون أن تجد فيها رائحة كريهة أو منظرا منفرا، لماذا ؟
لأن الحيوانات يحدث بينها وبين بعضها توازن بيئي، فالضعيف منها والمريض طعام للقوي، والخارج من حيوان طعام لحيوان آخر.. وهكذا، فهي محكومة بالغريزة لا بالعقل والاختبار.
وكل شيء لا دخل للإنسان فيه يسير على أدق نظام فلا تجد فيه فسادا أبدا إلا إذا طالته يد البشر، ولك أن تذهب إلى إحدى الحدائق أو المتنزهات في شم النسيم مثلا لترى ما تتركه يد الإنسان في الطبيعة.
لكن، لماذا وصف الإنسان بهذا الوصف ؟ ولماذا قرن وجوده بالفساد ؟ نقول : لأنه يتناول الأشياء بغير قانون خالقها، ولو تناول الأشياء بقانون الخالق عز وجل ما أحدث في الطبيعة هذا الفساد.
وسبق أن بينا أن الإنسان لا قدرة له على شيء من مخلوقات الله إلا إ
١ ماد يميد: تحرك واهتزّ. ومادت الأرض: اضطربت وزلزلت. يقول تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم... (١٠)﴾ [لقمان] لئلا تميل وتضطرب فالجبال العالية توازن البحار العميقة. [القاموس القويم ٢/٢٤٦]..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ١١ ) ﴾.
والكلام هنا موجه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين لآيات الله :﴿ هَذَا.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : ما سبق ذكره لكم من خلق السماوات بغير عمد، ومن خلق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر وإحياء النبات.. الخ.
هذا كله ﴿ خَلْقُ اللَّهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] فلم يدّعه أحد لنفسه، وليس لله فيه شريك ﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : الذين اتخذتموهم شركاء مع الله، ماذا خلقوا ؟
وليس لهذا السؤال إجابة عندهم، حيث لا واقع له يستدلون به، ولا حتى بالمكابرة ؛ لأن الحق أبلج١ والباطل لجلج٢، لذلك لم نسمع لهم صوتا ولم يجرؤ واحد منهم مثلا على أن يقول آلهتنا خلقت الجبال مثلا أو الشمس أو القمر، فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم.
والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة لا تقف عند عدم قدرتهم على الخلق، إنما لا يعرفون كيف خلقوا هم أنفسهم :﴿ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ [ الكهف ].
وفي قول الله ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ [ الكهف ] دليل على صدق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه، فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيوجد مضلون يضلون الناس في مسألة الخلق، ويصرفونهم عن الحق بكلام باطل.
وفعلا صدق الله وسمعنا من هؤلاء المضلين من يقول : إن الأرض قطعة من الشمس انفصلت عنها، وسمعنا من يقول إن الإنسان في أصله قرد.. الخ، ولولا هذه الأقاويل وغيرها ما صدقت هذه الآية، ولجاء أعداء الإسلام يقولون لنا : أين المضلون الذين اخبر عنهم القرآن ؟
فكأن كل كلام يناقض ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] هو كلام مضل، وكأن هؤلاء المضلين في غفلة منهم ودون قصد يؤيدون كلام الله ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) ﴾ [ الكهف ].
ونجد هذه المسألة أيضا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يطلع علينا من حين لآخر من ينكر سنة رسول الله ويقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلال حللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه.
وعندها نقول : سبحان الله، كأن الله تعالى أقامكم دليلا على صدق رسوله، فقد أخبر الرسول عنكم، وعما تقولونه في حقّ سنته، حيث قال : " يوشك رجل يتكئ على أريكته، يحدث بالحديث عني فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه " ٣.
ومعنى :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : مخلوقاته ﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] ولن نطلب منك خلقا كخلق السماء والأرض والجبال، ولا إنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات، بل اخلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي ترونها، وليس هناك أقل من الذباب :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ] بل وأبلغ من ذلك ﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ].
ثم يختم الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : ضلال محيط بهم من كل اتجاه، والضلال المبين المحيط لا ترجى معه هداية، فلن يهتدي هؤلاء، وما عليك إلا أن تصبر على دعوتك يا محمد حتى يبدلك الله خيرا من هؤلاء، ويكونون لك جنودا يؤمنون بك، وينصرون دعوتك. وقد كان.
١ أبلج الحق: ظهر، ويقال: هذا أمر أبلج أي واضح. والبلوج: الإشراق وصبح أبلج بيّن البلج أي مشرق مضيء. وكذلك الحق إذا اتضح. [لسان العرب ـ مادة: بلج]..
٢ اللجلج: المختلط الذي ليس بمستقيم. [لسان العرب ـ مادة لجج]..
٣ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٤/١٣٢) والترمذي في سننه (٢٦٦٤) وابن ماجة (١٢) والدارقطني (٢٨٦/٤) في سننهم. من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ١ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ١٢ ) ﴾.
الحق سبحانه آتانا قبل أن يخلقنا، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم والى إلينا بمواكب الرسالات التي تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمل عبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في ( افعل ) و( لا تفعل ) وأن يحذر كيد الشيطان.
وقد مرّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه الله للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء بعد أن كلف بالنبوة فيقولون : كيف يعصى آدم ربه، وهو نبي والنبي معصوم ؟
ونقول : نعم، عصى آدم ربه، لكن قبل النبوة، وهو ما يزال بشرا عاديا ؛ لذلك قال سبحانه في حقه :﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( ١٢١ ) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ١٢٢ ) ﴾ [ طه ].
إذن : جاء الاجتباء بعد المعصية، فإن قلت : فما الداعي للعصيان يصدر من آدم، وهو يعد للنبوة ؟ قالوا : لأنه أبو البشر، والبشر قسمان : بشر معصومون، وهم الأنبياء، وبشر ليست لهم عصمة وهم عامة الناس غير الأنبياء، ولا بدّ لآدم أن يمثل النوعين لأنه أبو الجميع، فمثل البشر عامة حين وقع في المعصية، ومثّل الأنبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه، فجمع بذلك بين الملحظين.
هنا يقول سبحانه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا.. ( ١٢ ) ﴾ [ لقمان ] والإيتاء يطلق على الوحي مع الفارق بينهما، فإن أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من الله، ويعرف الوحي عامة بأنه إعلام بخفاء.
ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملائكة :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ... ( ١٢ ) ﴾ [ الأنفال ].
ويوحي للبشر، قال تعالى :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ.. ( ٧ ) ﴾ [ القصص ].
ويوحي للحيوان ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا.. ( ٦٨ ) ﴾ [ النحل ].
ومن ذلك أيضا يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس أو الجن :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم... ( ١٢١ ) ﴾ [ الأنعام ].
كذلك يوحي الله إلى أهل الخير من أتباع الرسل :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي.. ( ١١١ ) ﴾ [ المائدة ].
هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو : إعلام بخفاء، فإن قصدت الوحي الشرعي الاصطلاحي : فهو إعلام من الله لرسوله بمنهجه. وهذا التعريف يخرج كل الأنواع السابقة.
والحق سبحانه عبّر عن الإيتاء العام بقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء... ( ٥١ ) ﴾ [ الشورى ].
والإيتاء يقصد به الإلهام، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لاتصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها، كما يلتقط ( الراديو أو التلفزيون ) الإرسال، فإن انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب، أما الإرسال فموجود لا ينقطع، ولله تعالى المثل الأعلى.
وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده، لا يلتقطه إلا من صفت آلة استقباله، وصلحت للتلقي عن الله، وهذه الآلة لا تصلح إلا إذا كانت على المنهج في افعل ولا تفعل، لا تصلح إذا تكونت من الحرام وتغذت به، لأن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها الله في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ الأعراف ].
فهذه الذرية لو ظلت على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ الله عليها العهد، ولو التزمت منهج ربها في ( افعل ) و( لا تفعل ) لكانت أهلا لإلهام الله، لأن آلة استقبالها عن الله سليمة.
وتأمل في وحي الله إلى أم موسى :﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي.. ( ٧ ) ﴾ [ القصص ].
فأي آلة استقبال هذه التي استقبلت هذا الأمر ونفذته دون أن تناقشه، واطمأنت إليه قبل أن تفكر فيه ؟ وكيف تقتنع الأم أن الموت المحقق ينجي وليدها من موت مظنون ؟
لذلك نقول : إذا صادف الإلهام آلة استقبال سليمة فإنه لا يوجد في النفس ما يصادره، ولا ما يبحث عن دليل، فقامت أم موسى ونفذت الأمر كما ألقى إليها، هذا هو الإيتاء.
ومنه أيضا قوله تعالى :﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( ٦٥ ) ﴾ [ الكهف ] والعبد الصالح٢ لم يكن نبيا، ومع ذلك آتاه الله بدون واسطة، فكان هو معلما للنبي، وما ذلك إلا لأنه عبد لله على منهج موسى، وأخلص لله تعالى فآتاه الله من عنده.
واقرأ قول الله تعالى :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الأنفال ] وقال سبحانه :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( ١٧ ) ﴾ [ محمد ].
إذن : كلّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أن نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي، الذي لم يخالط جسمه حرام، والذي لا يغفل عن منهج ربه، لذلك آتاه الله الحكمة، وقال فيه :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. ( ١٢ ) ﴾ [ لقمان ].
وقد اختلف العلماء فيه : أهو نبي أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي٣، لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحس المرهف والإدراك الدقيق العميق، فتتكون لديه مدركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته، فيسعد بها في نفسه، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن، كذلك كان لقمان٤.
وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته، فمنهم من ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا، لكنه مع ذلك كان أبيض القلب نقي السريرة، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحكم الرقيقة والمعاني الدقيقة٥.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال :( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )٦.
لذلك حين ترى من هو أقل منك في مال، أو صحة، أو جاه، أو منظر فلا تغتر بذلك، وانظر وتأمل ما تميّز به عليك ؛ لأن الخالق سبحانه كما قلنا وزّع فضله بين عباده بالتساوي، بحيث يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولا تفاضل بين المجموعات إلا بالتقوى : " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح " ٧.
فالذين يحلو لهم أن يقسموا المهن مثلا إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول : ليست هنالك مهنة حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ولا تستقيم حركة الحياة إلا بها، فكيف تحقرها ؟ وكيف نحقر أهلها ؟ والله لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعا ما حدث شيء، لكن لو تعطل عمال النظافة مثلا أو الصرف الصحي ليوم واحد لحدثت مشكلة، ولأصبحت الدنيا ( خرارة ).
وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها، وهم يرضون باليسير، ويتحملون ما لا يطيقه غيرهم. كيف نحقرهم، والله تعالى يقول :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم.. ( ١١ ) ﴾ [ الحجرات ].
فإن قلت : ما دام ليس نبيا، فكيف يؤتيه الله ؟ نقول : بالمدد والإلهام الذي قال الله فيه :﴿ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ( ٢٩ ) ﴾ [ الأنفال ] فمن يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة.
كما لو طلب منك ولدك مبلغا من المال يتاجر به في السوق، فتعطيه مبلغا يسيرا تجربه به، فإن أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الأولى، كذلك الإنسان إن أحسن صحبته لربه داوم الله عليه فضله ووالى إليه فيضه.
لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز٨ : ما قصر بنا في علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا يعني : لو كان أهلا للزيادة لزادنا، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظفناه في حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي، أما إن أخذنا العلم فألقيناه جانبا ولم نعمل به، فما الداعي للزيادة، وأنت لم تستفد بما عندك ؟
وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسّط معه في الحديث : ألم تكن عبدا تخدم فلانا ؟ قال : بلى، قال : فبم أوتيت الحكمة ؟ قال : باحترامي قدر ربي، وأدائي الأمانة فيما وليت من عمل، وصدق الحديث، وعدم تعرضي لما لا يعنيني٩.
وهذه الصفات كافية لأن تكون منهجا لكل مؤمن، ولأن ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.
لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبيا ولا رسولا، وسميت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذكر في مصاف الرسل والأنبياء.
ويروى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مضغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفي اليوم التالي قال له : اذبح لي شاة وأتني بأخبث مضغتين فيها، فجاءه أيضا بالقلب واللسان فسأله : ألم تأت بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة ؟ قال : بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا شيء أخبث منهما إذا خبثا١٠.
وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا الدرس فيقول : "... ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ١١.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر :( من حفظ ما بين لحييه١٢ وما بين رجليه دخل الجنة )١٣.
ويروى أن لقمان كان يفتي الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفّ لقمان عن الفتيا، فلما سألوه : لماذا امتنعت عن الفتيا ؟ فقال وهذه أيضا من حكمته : ألا أكتفى إذا كفيت ؟
يعني : لماذا أتمسك بها وقد بعث الله لي من حملها عني، وهو يعلم تماما أنه مجرد عبد صالح ( أي : أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال )، أما داود فرسول من عند الله، ومن الحكمة أن يفسح له هذا المجال، ويترك له ساحة الفتيا في القوم لعله يأتي بأفضل مما عند لقمان ؛ لذلك تركها له عن رضا وطيب خاطر.
والبعض يقول : إن الله خيّره بين أن يكون نبيا أو حكيما، فقال : أما وقد خيرتني يا رب،
١ كان لقمان عليه السلام عبدا حبشيا نجارا. قاله ابن عباس فيما أخرجه عنه الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وغيرهما. وقال سعيد بن المسيب: إن لقمان عليه السلام كان أسود من سودان مصر، ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم. أورد السيوطي هذه الآثار في الدر المنثور (٦/٥٠٩، ٥١٠). وقال القرطبي: هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح. قال وهب ابن منبه: كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. انظر تفسير القرطبي (٧/٥٣١٦)..
٢ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٩٢): "هذا هو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرج البخاري (٣٤٠٢) وأحمد والترمذي (٣١٥١) وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمّي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". أورده السيوطي في الدر المنثور (٥/٤٢٠) قال ابن حجر في فتح الباري (٦/٤٣٤): "قال الطبري في تاريخه: كان الخضر في أيام أفريدون في قول عامة علماء الكتاب الأول، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر". وأخرج النقاش أخبارا كثيرة تدل على بقائه لا تقوم بشيء منها حجة، قاله ابن عطية".
.

٣ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه قال: خيّر الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوة. فاختار الحكمة على النبوة، فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم، فذرّ عليه الحكمة، فأصبح ينطق بها فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة، وقد خيّرك ربك؟ فقال: لو أنه أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكنه خيّرني، فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إليّ. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٥١١) والقرطبي في تفسيره (٧/٥٣١٧)..
٤ عن أبي الدرداء أنه ذكر لقمان الحكيم فقال: ما أوتي ما أوتي عن أهل، ولا مال، ولا حسب ولا خصال، ولكنه كان رجلا صمصامة (الشديد الصلب المجتمع الخلق) سكيتا، طويل التفكر عميق النظر، لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد يبزق ولا يتنحنح ولا يبول ولا يتغوط ولا يغتسل ولا يعبث ولا يضحك، كان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها. [عزاه السيوطي في الدر المنثور (٦/٥١٢) لابن أبي حاتم]..
٥ مما يروى من أخبار لقمان الحكيم انه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. [تفسير القرطبي ٧/٥٣١٧]..
٦ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (٢٥٦٤)، وأحمد في مسنده (٢/٢٨٥، ٥٣٩) وابن ماجة في سننه (٤١٤٣) واللفظ لمسلم..
٧ أخرجه الإمام احمد في مسنده (٥/٤١١)، عن أبي نضرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٣/١٠٠) عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى"..
٨ هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان الموي، أبو حفص، ولد بالمدينة (٦١ ه) ونشأ بها، وولى إمارتها للوليد، ثم استوزره سليمان بن عبد الملك بالشام، وولى الخلافة بعهد من سليمان سنة ٩٩ه، فبويع في مسجد دمشق، ومنع سبّ على بن أبي طالب وكان من سبقه من الأمويين يسبونه على المنابر، توفي وهو في الأربعين من عمره عام (١٠١ه)، مدة خلافته سنتان ونصف..
٩ أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت" (حديث رقم ٦٧٥) ط. دار الاعتصام ١٩٨٦ م وابن جرير عن عمرو بن قيس قال: مرّ رجل بلقمان عليه السلام والناس عنده. فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى. قال: ألست الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما الذي بلغ بك ما أرى. ؟ قال: تقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السكوت عما لا يعنيني، وأورده السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦/٥١٢)..
١٠ أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير عن خالد الربعي، فيما ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦/٥١٦)..
١١ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٢٠٥١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وتمام الحديث: (عن الحلال بين، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، أو إن حمى الله محارمه" الحديث..
١٢ اللحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي [لسان العرب ـ مادة لحا]..
١٣ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٣/٢٥٢) من حديث سهل بن سعد بهذا اللفظ، وأصله في البخاري (٦٤٧٤) عن سهل بلفظ "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه اضمن له الجنة"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ١٣ ) ﴾.
يعطينا الحق سبحانه طرفا من حكم لقمان التي رواها القرآن الكريم :﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ... ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] قوله :﴿ وَإِذْ.. ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] أي : اذكر يا محمد حين قال لقمان لابنه، وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لابنه يدلنّا على صدق ما روي عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم قبل سيدنا داود عليه السلام، فلما جاء داود أمسك لقمان وقال : ألا أكتفى وقد كفيت، ثم وجه نصائحه لمن يحب وهو ولده.
ولذلك، فالإمام أبو حنيفة رضوان الله عليه عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى١ إلى الخليفة أنه يفند شكاواه وأحكامه، فأرسل إليه الخليفة بأن يترك الفتوى، وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته وقالت له : يا أبي حدث لي كذا وكذا تريد أن تستفتيه فماذا قال لها وهي ابنته ؟ قال : سلي أخاك حمادا، فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفتيا.
وفرق بين أن يتكلم الإنسان مع عامة الخلق، وبين أن يتكلم مع ولده، فالابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يودّ أبوه أن يكون الابن أفضل وأحسن حالا منه، ويتمنى أن يعوّض ما فاته في نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.
ومعنى ﴿ وَهُوَ يَعِظُهُ.. ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] الوعظ : هو التذكير بمعلومة علمت من قبل مخافة أن تنسى فالوعظ لايكون بمعلومة جديدة، إنما ينبه غفلتك إلى شيء موجود عندك، لكن غفلت عنه، فهناك فرق بين عالم يعلم، وواعظ يعظ، والوعظ للابن يعني أنه كان على علم أيضا بالمسائل، وكان دور الوالد أن يعظه ويذكره.
ونلحظ في أسلوب الآية أن الله تعالى لما أخبر عنه قال :﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ.. ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] ولما تكلم لقمان عن ابنه قال ﴿ يَا بُنَيَّ.. ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] ولم يقل يا ابني، فصغره تصغير التلطف والترقيق، وليوحي له : إنك لا تزال في حاجة إلى نصائحي، وإياك أن تظن أنك كبرت وتزوجت فاستغنيت عني.
وأول عظة من الوالد للولد ﴿ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ... ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] وهذه قمة العقائد ؛ لذلك بدأ بها ؛ لأنه يريد أن يصحح له مفهومه في الوجود، ويلفت نظره إلى أن الأشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك لا تزال تعطي في الكون، ومن العجيب أنها باقية، وهي تعطى في حين يموت المعطى المستفيد بها.
وتأمل منذ خلق الله الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس ؟ ومع ذلك اندثروا جميعا، وما زالت الشمس باقية، كذلك القمر والهواء والجبال.. الخ. فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول عمرا منك ؟
إذن : على العاقل أن يتأمل، وعلى الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات أن يقول : لا بدّ أن لي عمرا أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني، وهذا لا يتأتى إلا حين تصل عمرك في الدنيا بعمرك في الآخرة، وهذا يستدعي أن تؤمن بالله وألاّ تشرك به شيئا، فهو وحده سبحانه الذي خلق لك هذا كله، وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد.
واقرأ :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.. ( ١١ ) ﴾ [ لقمان ].
فكيف تدعى أن لله شركاء في الخلق، وهم أنفسهم لم يدّعوا أنهم آلهة، أو أنهم خلقوا شيئا في كون الله ؟ كيف وأنت تسير في الصحراء، فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتسويه وتجعله إلها ولو هبّت الريح لأطاحت به ؟
ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه الآلهة بم أمرتكم وعمّ نهتكم. ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها، وماذا أعدت من عذاب لمن كفر بها ؟ إذن : فهذه آلهة بلا تكليف، والعبادة في حقيقتها أن يطيع العابد أمر معبوده، إذن : هي آلهة باطلة لا يخفى بطلانها على العاقل.
لذلك يقول لقمان ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ] نعم الشرك ظلم، لأن الظلم يعني : نقل حق الغير إلى الغير، وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق الله، وتعطيه لغير الله، ألا ترى أن الصحابة ضجوا لما نزل قوله تعالى :٢ ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( ٨٢ ) ﴾ [ الأنعام ]
وقالوا : يا رسول الله، ومن منا لم يخالط إيمانه ظلم ؟ فهدأ رسول الله من روعهم وطمأنهم لأن المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي : الشرك بالله ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ].
١ هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، الأنصاري الكوفي: قاض، فقيه، من أصحاب الرأي. ولد ٧٤ ه. ولى القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبنى العباس، واستمر ٣٣ سنة، له أخبار مع الإمام أبي حنيفة وغيره، مات بالكوفة عام ١٤٨ ه عن ٧٥ عاما (الأعلام للزركلي ٦/١٨٩)، (تذكرة الحفاظ للذهبي ١/١٧١)..
٢ عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. (٨٢)﴾ [الأنعام،] شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا العبد الصالح ﴿إن الشرك لظلم عظيم (١٣)﴾ [لقمان] إنما هو الشرك" حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٧٦)، وكذا مسلم في صحيحه (١٤٢) كتاب الإيمان..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ١٤ ) ﴾.
أهذه وصية من وصايا لقمان لابنه، أم هي كلام جديد من الله تعالى جاء في سياق كلام لقمان ؟ قالوا١ : هو من كلام الحق تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا... ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ].
ومن التكريم للقمان أن الله تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لابنه، فجاءت وكأنها حكاية عنه.
ومعنى ﴿ ووصينا.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : علمنا ووعظنا، وهما يدلان على معلومات تبتدئ بعلمنا ويذكر بها في وعظنا، ويوفي بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة ؛ لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب الناس في حجة الوداع٢ ذكر أمهات الفضائل، لماذا ؟ لأنه آخر كلامه إليهم، والموقف لا يناسب أن يذكر فيه تفاصيل الدين كله، فاكتفى بذكر أسسه وقواعده، كالرجل منّا حين تحضره الوفاة يجمع أولاده، ويوصيهم، فيختار الأمور الهامة والخلاصة في أضيق نطاق.
الله تعالى يقول :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] والوصية بالوالدين بالذات أخذت رقعة واسعة في كتاب الله، في هذه الآية ذكر علة الوصية، فقال ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ].
وفي خمس آيات أخرى وردت كلمة ( إحسانا )، في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا.. ( ٨٣ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي سورة النساء :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. ( ٣٦ ) ﴾ [ النساء ].
وفي الأنعام :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. ( ١٥١ ) ﴾ [ الأنعام ].
وفي الإسراء :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الإسراء ].
وفي الأحقاف :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
وفي آية واحدة وردت كلمة ( حسنا ) في سورة العنكبوت :﴿ ووصينا الإنسان بوالدين حسنا.. ( ٨ ) ﴾ [ العنكبوت ].
وفي آية واحدة أيضا جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين :( حسنا وإحسانا ) هي الآية التي نحن بصدد الحديث عنها.
لكن، ما الفرق بين ( إحسانا ) و( حسنا ) ؟ الفرق أن الإحسان مصدر أحسن، وأحسن حدث، تقول : أحسن فلان إحسانا. أما حسنا فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول : فلان عادل، فوصفته بالعدل، فإن أردت أن تبالغ في هذا الوصف تقول : فلان عدل أي : في ذاته، لا مجرد وصف له.
إذن : فحسنا آكد في الوصف من إحسانا، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ( ٨ ) ﴾ [ العنكبوت ]. قالوا : لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمس قمة العقيدة، فسوف يطلب الوالدان من الابن أن يشرك بالله.
لذلك احتاج الأمر أن نوصي الابن بالحسن في ذاته، وفي أسمى توكيداته فلم يقل هنا ( إحسانا ) إنما قال ( حسنا ) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما، أو التخلي عنهما، لذلك يعلمنا ربنا :﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ].
وإن كانت الوصية هنا بالوالدين إلا أن حيثيات الوصية خاصة بالأم ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] فلم يذكر شيئا عن دور الأب، لماذا ؟ قالوا : لأن الكلام هنا كلام رب، وما عليك إلا أن تعمل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.
الله تعالى يذكرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صنعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما أفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كبرك وإدراكك للأمور من حولك، فالابن يعرف ما قدّم أبوه من أجله.
فكأن أفعال الأب وجدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي، ففهم الابن ما فعل أبوه، وكثيرا ما سمع الابن : أبوك ذهب إلى كذا، أبوك أحضر لك كذا، وهذا الأمر عندما يأتي أبوك.. الخ، فدور الأب ظاهر على خلاف دور الأم ؛ لذلك ذكره الحق تبارك وتعالى هنا ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ].
ويأتي من يقول : أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم، فهما فيه سواء ؟ ونقول : بلى، لكن مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالشهوة لزهد الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.
ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لأنه يريد أن يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها : أليس الولد ولدكما معا ؟ قالت : بلى، ولكنه حمله خفّا ووضعه شهوة، وحملته وهنا على وهن، فحكم لها.
ومعنى :﴿ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] أي : ضعفا على ضعف، والمرأة بذاتها ضعيفة، فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها، ويكبر في أحشائها يوما بعد يوم ؛ لذلك قلنا : إن من حكمة الله تعالى في خلق الرحم أن جعله قابلا للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أن يزيد الجنين زيادة لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذانا بولادة إنسان جديد وخلق آخر كما قال تعالى :﴿ ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فالجنين كان خلقا تابعا لأمه في غذائه وفي تنفسه وحركته، لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأ خلقا آخر له مقومات حياة مستقلة غير متصل بأمه.
ويقولون في هذه العملية ( القرن طش ) كما تنفجر البالونة إذا نفخت لدرجة أكثر مما تتحمل، ومن العجيب أن الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.
ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصلا عن رزق أمه، فلكل منهما رزق لا يأخذه الآخر، ومعلوم أن المرأة حين يقدر لها حمل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل، هذا الدم هو الذي جعله الله غذاء للجنين الجديد.
أما إذا لم يقدر لها حمل فإن جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ولا يستفيد به، لماذا ؟ لأنه ليس غذاءها، وكأن الخالق عز وجل ينبهنا أن لكل منا رزقه الذي لا يتعداه إلى غيره.
وأيضا من حكمته تعالى في وضع الجنين في بطن أمه عند الولادة أن ينزل برأسه، وهذا هو الوضع الطبيعي لولادة طفل سليم، لأن أول ضروريات الحياة للطفل ساعة ينفصل عن أمه أن يتنفس، فإذا نزل برأسه وهذا الوضع يحاول أطباء التأكد منه استطاع التنفس حتى وإن تعسر نزول باقي جسمه، أما إن نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أن يتم نزوله.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] الفصال : أي الانفصال عن الأم في مسألة الرضاعة، ومنه : يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها : الفصيل أي الذي فصل عن أمه، وأصبح قادرا على أن يأكل، وأن يعيش دون مساعدتها، وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها مشقة وألم للأم.
أما العملية الجنسية التي أثمرت الولد فكانت شركة بينهما، وبذلك لا بدّ أن نعترف أن للأم الدور الأكبر وعليها العبء الأكبر في مسألة الأولاد، لذلك كان لها الحظ الأوفر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله : من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك٣، فأعطى كلا منهما على قدر ما قدّم.
ومسألة الفصال هذه شرحت في آيات أخرى، ففي سورة البقرة :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.. ( ٢٣٣ ) ﴾ [ البقرة ] وهذه تؤكد ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ].
وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معا :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ] وبخصم العامين من الثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل مدة للحمل.
وهذه المسألة اعتمد عليها الإمام علي رضي الله عنه حينما رأى عمر رضي الله عنه يريد أن يقيم الحد على امرأة ولدت لستة أشهر، لأنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر : يا أمير المؤمنين، الله يقول غير ذلك، فقال : وماذا يقول الله ؟ فذكر عليّ الآيتين السابقتين٤.
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. ( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
والأخرى :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ].
ثم بيّن له علي أن أقل مدة للحمل بناء على هاتين الآيتين ستة أشهر، فقال عمر : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن٥.
وقوله تعالى :﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] فالله تعالى هو المستحق للشكر أولا ؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم، وأمدّ من عدم، ثم الوالدان لأنهما السبب في الإيجاد وإنشاء الولد.
فكأن الحق سبحانه مسبب أعلى، لأنه خلق من لا شيء، والوالدان سبب من أسباب الله في الوجود، إذن : لا تسحن شكر الله الخالق الأول والمسبب الأعلى حتى تحسن شكر الوالدين، وهما السبب الثاني في وجودك.
فقوله سبحانه :﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] أي : على الإيجاد، لكن في موضع آخر :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾ [ الإسراء ] وهذه للإيجاد وللتربية وللرعاية، فكما أن هناك أبوة للإيجاد هناك أبوة للتربية، فكثيرا ما نجد الطفل يربيه غير أبيه وغير أمه، ولا بدّ أن يكون لهؤلاء نصيب من الشكر ومن الولاء والبرّ ما دام أن الله تعالى ذكرهم في العلة ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا لم يكن للأب الحقيقي وجود، فالأبوة لمن ربّى، وله نفس حقوق الأب من حيث الشكر والبر والمودة، بل ينبغي أن يكون حقه مضاعفا ؛ لأن في الأب الحقيقي عطف البضع على البضع، وفي الأب المربى عطف الدين على الدين، وهذه مسألة أخرى غير مجرد الأبوة.
لكن، هل شكر الله أولا دربة على أن تشكر الوالدين، وهما السبب المباشر في وجودك ؟ أم أن شكر الوالدين دربة على أن تشكر الله الذي خلقك وأوجدك ؟ نقول : هما معا، فشكر الله يستلزم شكر الوالدين، وشكر الوالدين ينتهي إلى شكر الله.
وقوله :﴿ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] أي : المرجع، والمعنى : أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أن تخالف وصيتي، لأنني أقدر على أن أعاقب من خالف.
١ قيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه، أخبر الله به عنه، أي: قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى.
وقيل: وإذ قال لقمان لابنه لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه.
قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٣٢٠): "ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص جماعة المفسرين"..

٢ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة هذه الحجة "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام على أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.." الخطبة بتمامها أوردها ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٦٠٣، ٦٠٤)..
٣ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٩٧١)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٥٤٨) كتاب البر والصلة، من حديث أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك"..
٤ قال ابن كثير في تفسيره (١٥٧/٤): "قد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية ﴿وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.. (١٥)﴾ [الأحقاف] مع التي في لقمان ﴿وفصاله في عامين.. (١٤)﴾ [لقمان] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي صحيح ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة..
٥ أخرج الحاكم في مستدركه (١/٤٥٧) والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: "حججنا مع عمر رضي الله عنه، فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع" وهو حديث طويل وفيه أن عمر رضي الله عنه قال: "أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن"، وذلك بعد أن قال له علي: بل إنه يضر وينفع!! أليس يشهد يوم القيامة لمن قبله؟.
ثم يقول الحق سبحانه١ :
﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٥ ) ﴾.
يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مستدرك، فليس لأحد أن يستدرك على الله، وكأن واحدا كان يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل : كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعة لهما ؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة.
وفي آية العنكبوت :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ( ٨ ) ﴾ [ العنكبوت ].
فذكر فيها ( حسنا ) ولم يقل فيها ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا... ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] فكأن كلمة الحسن، وهي الوصف الجامع لكل مدلولات الحسن أغنت عن المصاحبة بالمعروف.
ومعنى ﴿ جَاهَدَاكَ.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] نقول : جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جاهد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول : جاهد فلان فلانا مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت : شارك عمرو زيدا، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر.
فمعنى ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] لا تعني مجرد كلمة عرضا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتهما في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ].
ثم إياك أن تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سببا في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفا.
وقوله تعالى :﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] أي : لن تكون وحدك، إنما سبقك أناس قبلك تابوا وأنابوا فكن معهم ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ... ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] أي : مأواكم جميعا.
قالوا : إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خالي سعد، فليرني امرؤ خاله )٢ ولما أسلم سعد غضبت أمه٣ وكانت شديدة الحب له فكادت تجن وحلفت لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأن تتعرّى في حرّ الشمس حتى يرجع عن دينه، فلما علم سعد بذلك قال : دعوها والله لو عضها الجوع لأكلت، ولو عضّها العطش لشربت، ولو أذاها القمل لاغتسلت، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلت ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ].
ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغيره من المؤمنين أن يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم أن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.
وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الأرض : " رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم، فقد طعم خيرك، ومنع شكرك، وقالت السماء : رب ائذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك، ومنع شكرك.. الخ، فقال الحق تبارك وتعالى : لو خلقتموهم لرحمتموهم " ٤.
ذلك لأنهم عباد الله وصنعته، وهل رأيتم صاحب صنعة يحطّم صنعته، وجاء في الحديث النبوي " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة ". ٥
إذن : فنعم الرب هو.
ويروى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام جاءه ضيف، فرأى أن سمته غير سمت المؤمنين، فسأله عن دينه فقال : إنه من عبّاد النار، فردّ إبراهيم الباب في وجهه، فانصرف الرجل، فعاتب الله نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال : يا إبراهيم، تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة، وقد وسعته طوال عمره، وهو كافر بي ؟
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب الله له، فقال الرجل : نعم الرب ربّ يعاتب أحبابه في أعدائه، ثم شهد ألا إله إلا الله.
فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن الله يوصى به وهو كافر، ويرقق له القلوب لعاد إلى ساحة الإيمان بالله، لذلك كثيرا ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون الإسلام فيختارونه، فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم : كن في دينك الجديد أبرّ بهم من دينك القديم، ليعلموا محاسن دينك، فضاعف لهم البر، وضاعف لهم المعروف، لعل ذلك يرقق قلوبهم ويعطفهم نحو دينك.
وتأمل عظمة الأسلوب في ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا... ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] فلم يقل مثلا أعطهم معروفا، إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقد شأنهما، بحيث يعرف الابن حاجة أبويه، ويعطيهما قبل أن يسألا، فلا يلجئهما إلى ذلّ السؤال، وهذا في ذاته إحسان آخر.
كالرجل الذي طرق بابه صديق له، فلما فتح له الباب أسرّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى صديقه ما طلب، ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته : لم تبكي وقد وصلته ؟ فقال : أبكي لأنني لم أتفقد حاله فأعطيه قبل أن يذّل نفسه بالسؤال.
والحق تبارك وتعالى حين يقول بعد الوصية بالوالدين :﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ] إنما لينبهنا أن البرّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لن ينسى لك ذلك، إنما سيكتب لك، وسيكون في ميزانك، لأنك أطعت تكليفي وأمري، وأدّيت، فلك الجزاء لأنك عملت عملا إيمانيا لا بدّ أن تثاب عليه.
١ سبب نزول الآية: قال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.. (١٥)﴾ [لقمان] كنت رجلا برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي، فيقال يا قاتل أمه. قلت: يا أمه لا تفعلي فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكث يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما آخر وليلة وقد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/٥٢١) وعزاه لأبي يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي..
٢ ذكره ابن حجر العسقلاني في "الإصابة" (ترجمة ٣١٨٧) وعزاه للترمذي من حديث جابر قال: أقبل سعد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خالي فليرني امرؤ خاله). وأخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٤٩٨) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن سعد في الطبقات (٣/١٢٨)..
٣ هي: حمنة بنت سفيان بن أمية. قال ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة" (ترجمة ٣١٨٧) في ترجمة ابنها سعد: "هي بنت عم أبي سفيان بن حرب ابن أمية"..
٤ أورده الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (٤/٥٢) من قول بعض السلف ولفظه "ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به، واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفا، فيقول الله تعالى للأرض والسماء: كفّا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه، ولو خلقتماه لرحمتماه، ولعله يتوب إليّ فأغفر له، ولعله يستبدل صالحا فأبدله له حسنات"..
٥ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٣٠٩) وكذا مسلم في صحيحه (٢٧٤٧) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وفي لفظ عبد مسلم "لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"..
﴿ يَا بُنَيَّ... ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] نداء أيضا للتطلف والترقيق ﴿ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية،
وكأنه يقول له : إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على الله تعالى ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( ١٤ ) ﴾ [ الملك ].
وكما أن الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل، حتى إن كانت في باطن صخرة، أو في السموات، أو في الأرض، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دقّت، ومهما حاول صاحبها إخفاءها.
وقلنا : إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خلقه، وعند قوله تعالى :﴿ يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( ١١٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] يقولون : الله يمتنّ بعلم ما نكتم، فكيف يمتن بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع ؟
ونقول : الحق سبحانه في قوله :﴿ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( ١١٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] لا يخاطب فردا، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جهر الجماعة في وقت واحد، ومثّلنا لذلك بمظاهرة مثلا، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى، منها ما يعاقب عليه القانون، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تميّز بينها، وترجع كل كلمة إلى صاحبها ؟
إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق تبارك وتعالى فيعلم كل كلمة، ويعلم من نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه. إذن : من حقه تعالى أن يمتنّ بعلم الجهر، بل إن علم الجهر أعظم من علم السرّ وأبلغ.
وقوله تعالى ﴿ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] أي : وزن حبة الخردل، وكانت أصغر شيء وقتها، فجعلوها وحدة قياس للقلة، وليس لك الآن أن تقول : وهل حبة الخردل أصغر شيء في الوجود ؟ فالقرآن ذكرها مثالا للصغر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقل منها.
لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد ( أي الجزء الذي لا يتجزأ )، واستطاعوا تفتيت الذرة، ظنوا أن في هذه العملية مأخذا على القرآن، فقد ذكر القرآن الذرة، وجعلها مقياسا دينيا في قوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( ٨ ) ﴾ [ الزلزلة ] لكن لم يذكر الأقل منها، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله.
ونقول : قرأتم شيئا وغابت عنكم أشياء، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطا لما توصلتم إليه، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة :﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( ٦١ ) ﴾ [ يونس ].
بل نقول : إن الاحتياط هنا احتياط مركب، فلم يقل صغير إنما قال ( أصغر ) وهذا يدل على وجود رصيد في كلام الله لكل مفتت من الذرة.
وقوله :﴿ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] ﴿ فِي صَخْرَةٍ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] أي : على حبكة الوجود، وفي أضيق مكان ﴿ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : في المتسع الذي لا حدود له، فلا في الضيق المحكم، ولا في المتسع يخفى على الله شيء ﴿ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.. ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] واستصحب حيثيات الإتيان بها بوصفين لله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ].
وجمع بين هاتين الصفتين ؛ لأنك قد تكون خبيرا بالشيء عالما بمكانه، لكنك لا تستطيع الوصول إليه، كأن يكون في مكان ضيق لا تنفذ إليه يدك، وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلا، فالخبرة موجودة، لكن ينقصك اللطف في الدخول.
والحق سبحانه وتعالى لطيف، فمهما صغرت الأشياء ودقت يصل إليها، فهو إذن عليم خبير بكل شيء مهما صغر، قادر على الإتيان به مهما دقّ ؛ لأنه لطيف لا يمنعه مانع، فصفة اللطف هذه للتغلغل في الأشياء.
ونحن نعلم أن الشيء كلما دقّ ولطف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمن بنى بيتا في الخلاء، وأراد أن يؤمن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة، فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة، ثم تذكّر الفئران والثعابين فضيّق الحديد، ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ، إذن : كلما كان عدوك لطيفا دقيقا كان أعنف، واحتاج إلى احتياط أكثر.
فقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( ١٦ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : لا يعوزه علم بالمكان، ولا سهولة ويسر في الوصول إلى الأشياء.
كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده، ولم يأمره حتى الآن بشيء من التكاليف، إنما حرص أن ينبهه : أنك قد آمنت بالله وبلغك منهجه واستمعت إليه، فأطع ذلك المنهج في افعل ولا تفعل، لكن قبل أن تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغيب عنه شيء، فادخل على المنهج بهذا الاعتقاد.
وإياك أن تتغلب عليك شبهة أنك لا ترى الله، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، واعلم أن عملك محسوب عليك، وإن كان في صخرة صماء ضيقة، أو في سماء، أو في أرض شاسعة.
ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم، فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ؟ ".
بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف، فيقول له :
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( ١٧ ) ﴾.
هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلاة، والصلاة هي الركن الأول بعد أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وعلمنا أن الصلاة لأهميتها فرضت بالمباشرة، ولأهميتها جعلت ملازمة للمؤمن لا تسقط عنه بحال، أما بقية الأركان فقد تسقط عنك لسبب أو لآخر، كالصوم والزكاة والحج، فإذا سقطت عنك هذه الأركان لم يبق معك إلا الشهادتان والصلاة، لذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين.
ولذلك بدأ بها لقمان ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] لأنها استدامة إعلان الولاء لله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة، فحين يناديك ربك ( الله أكبر ) فلا ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء الخالق، وإلا فما موقف الأب مثلا حين ينادي ولده فلا يجيبه ؟ فاحذر إذا ناداك ربك ألا تجيب.
ثم تأمل النداء للصلاة الذي اهتدت إليه الفطرة البشرية السليمة، وأقرّه سيدنا رسول الله : الله أكبر الله أكبر، يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه، فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو تجارة عن إقامة الصلاة.
وقد ناقشت أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة، فقال : كيف أترك عملية جراحية من أجل الصلاة ؟ فقلت له : بالله لو اضطررت لقضاء الحاجة تذهب أم لا ؟ فضحك وقال : أذهب، فقلت : فالصلاة أولى، ولا تعتقد أن الله تعالى يكلف العبد تكليفا، ثم يضن عليه باتساع الزمن له، بدليل أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته، ففي السفر مثلا يشرع لك الجمع والقصر.
فبإمكانك أن توفق صلاتك حسب وقتك المتاح لك، إما بجمع التقديم أو التأخير، وكم يتسع وقتك ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعت الظهر والعصر جمع تقديم، والمغرب والعشاء جمع تأخير في آخر وقت العشاء ؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمع تأخير، فتصليهما قبل المغرب، ثم تصلى المغرب والعشاء جمع تقديم ؟
إذن : المسألة فيها سعة، ولا حجة لأحد في ترك الصلاة بالذات، أما الذين يقولون في مثل هذه الأمور ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... ( ٢٨٦ ) ﴾ [ البقرة ] وأن هذا ليس في وسعي.. فنقول لهم : لا ينبغي أن تجعل وسعك هو الحكم، إنما التكليف هو الحكم في الوسع، وما دام ربك عز وجل قد كلفك فقد علم سبحانه وسعك وكلفك على قدره بدليل ما شرعه لك من رخص إذا خرجت العبادة عن الوسع.
وقال ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] لأن الصلاة أول اكتمال في الإجماع لمنهج الله، وبها يكتمل إيمان الإنسان في ذاته، وسبق أن قلنا : إن هناك فرقا بين أركان الإسلام وأركان المسلم، أركان الإسلام هي الخمس المعروفة، أمّا أركان المسلم فهي الملازمة له التي لا تسقط عنه بحال، وهي الشهادتان والصلاة، وإن كان على المسلم أن يؤمن بها جميعا، لكن في العمل قد تسقط عنه عدا الصلاة والشهادتين.
ثم يبين لقمان لولده : أن الإيمان لا يقف عند حدّ الاستجابة لهذين الركنين الأساسيين، إنما من الإيمان ومن كمال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له :﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كملت في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان.
وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهى عن المنكر لا تظن أنك تتصدق على الآخرين، إنما تؤدي عملا يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية ؛ لأنك أديت التكاليف في حين قصّر غيرك وتخاذل.
ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضا، وإلا فالمجتمع كله يشقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله.
ومن إعزاز العلم أنك لا تنتفع به الانتفاع الكامل إلا إذا عدّيته للغير، فإن كتمته انتفع الآخرون بخيرك، وشقيت أنت بشرهم. إذن : لا تنتفع بخير غيرك إلا حين تؤدي هذه الفريضة، فتأمر غيرك بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتحب لهم ما تحب لنفسك، وبذلك تنال الحظين، حظك عند الله لأنك أديت، وحظك عند الناس لأنك في مجتمع متكامل الإيمان ينفعك ولا يضرك.
ولك أن تلحظ أن هذه الآية لم تقرن إقامة الصلاة بإيتاء الزكاة كعادة الآيات، فغالبا ما نقرأ :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.. ( ٤٣ ) ﴾ [ البقرة ].
وحين نستقرئ كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلاثين مرة، اثنتان منها ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر، وذلك في قوله تعالى في قصة الخضر وموسى عليهما السلام :﴿ أقتلت نفسا زكية بغير نفس.. ( ٧٤ ) ﴾ [ الكهف ].
ثم قوله :﴿ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ٨١ ﴾( الكهف )
والمعنى : طهرناهم حينما رفعنا عنهم بابا من أبواب الفتنة في دين الله.
والموضع الآخر في قوله تعالى :﴿ وحنانا من لدنا وزكاة.. ( ١٣ ) ﴾ [ مريم ] فالمعنى : وهبنا لمريم شيئا نزكيها به ؛ ذلك لأن الزكاة أول ما تتعدّى من واجد لمعدم، ومريم لم تتزوج فهي معدمة في هذه الناحية ؛ لذلك وهبها الله النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح من عنده تعالى.
وفي موضع واحد، جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال، لكن غير مقرونة بالصلاة، وذلك في قوله تعالى :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( ٣٩ ) ﴾ [ الروم ].
وفي هذه الآية قال لقمان لولده :﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] ولم يقل : وآت الزكاة، فلماذا ؟
ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلاة والزكاة، لأن الصلاة فيها تضحية بالوقت، والوقت زمن العمل، والعمل وسيلة الكسب والمال، إذن : ساعة تصلي فقد ضحيت بالوقت الذي هو أصل المال، فكأن في الصلاة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت، أما في الزكاة فأنت تتصدق بالعشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر، ويبقى لك معظم كسبك، فالواقع أن الزكاة في الصلاة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها.
إذن : لما كانت الزكاة في كل منهما، قرن القرآن بينهما إلا في هذا الموضع، ولما تتأمله تجده من دقائق الأسلوب القرآني، فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده، ولنا فيه ملحظان :
الأول : أن الله تعالى لم يكلف العبد إلا بعد سنّ البلوغ إلا في الصلاة، وجعل هذا التكليف موجها إلى الوالد أو ولي الأمر، فأنابه أن يكلف ولده بالصلاة، وأن يعاقبه إن أهمل في أدائها، ذلك ليربي عند ولده الدربة على الصلاة، بحيث يأتي سنّ التكليف، وقد ألفها الولد وتعوّد عليها، فهي عبادة تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردّ. وهذا أنسب للسنّ المبكرة.
والوالد يكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له، والسبب المباشر في وجوده، وكأن الله تعالى يقول : أنا الموجد لكم جميعا وقد وكلتك في أن تكلف ولدك، لأن معروفك ظاهر عنده، وأياديك عليه كثيرة، فأنت القائم بمصالحه الملبّى لرغباته، فإن أمرته قبل منك وأطاعك، فهي طاعة بثمنها.
وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أن أوكّلك في العقوبة، فإن حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك، لا من الولد ؛ لأنني لم أكلفه إنما كلفتك أنت.
لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة، لأنه مكلف بهذا الأمر، فولده ما يزال صغيرا بدليل قوله ﴿ يا بني.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] فالتكليف هنا من الوالد، فإن كان الولد بالغا حال هذا الأمر فالمعنى : لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة.
أما الزكاة، وهي تكليف من الله أيضا فلم يذكرها هنا وهذه من حكمة لقمان ودقة تعبيره، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.
ثانيا : إن كلفه بالزكاة فقال : أقم الصلاة وآت الزكاة فقد أثبت لولده ملكية، ومعروف أن الولد لا ملكية له في وجود والده، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( أنت ومالك لأبيك )١ وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال : إذن ملكت أمري٢ فأمره ليس ملكا له في حياة أبيه، لذلك لم يأمر ولده بالزكاة، فالزكاة في ذمته هو، لا في ذمة ولده.
وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ.. ( ٦١ ) ﴾ [ النور ].
فالله تعالى رفع عنّا الحرج أن نأكل من هذه البيوت، ونلحظ أن الآية ذكرت الأقارب عدا الأبناء، وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم : أو بيوت أبنائكم، فلماذا لم يذكر هنا بيوت الأبناء ؟ قالوا : لأنها داخلة في قوله : بيوتكم، فبيت الابن هو بيت الأب، والولد وما ملكت يداه ملك لأبيه.
ثم يقول لقمان لولده :﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.. ( ١٧ ) ﴾ [ لقمان ] الصبر : حمل النفس على التجلد للأحداث، حتى لا تعين الأحداث على نفسك بالجزع، فأنت أمام الأحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة، فكيف تضعف نفسك أمامها ؟
والمصيبة تقع إما لك فيها غريم، أو ليس لك فيها غريم، فالذي يسقط مثلا، فتنكسر ساقه، أو الذي يفاجئه المرض.. الخ هذه أقدار ساقها الله إليك بلا سبب فلا غريم لك فيها ؛ لذلك يجعلها في ميزانك : إما أن يعلى بها درجاتك، وإما أن يكفر بها سيئاتك ؛ لذلك كان الكفار يفرحون إذا أصاب المسلمين مصيبة، كما فرحوا يوم أحد، وقد ردّ الله عليهم وبيّن غباءهم، وقال سبحانه :﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا.. ( ٥١ ) ﴾ [ التوبة ] وتأمل الجار والمجرور ( لنا ) ولم يقل كتب علينا، إذن : فالمصيبة في حساب ( له ) لا ( عليه ) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين ؟
وأوصى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الذي يتعرض لهذين الأمرين لا بدّ أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، فإن تعرضت للإيذاء فاصبر، لأن هذا الصبر يعطيك جزاء واسعا.
وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )٣.
فالله أمرك أن تغير المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها، فالدين يريدك مصلحا لكن لا يريد أن تلقي بنفسك إلى التهلكة، فلك أن تغير المنكر بيدك فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك.. إلخ.
فلك أن تضربه مثلا إن رأيت سيجارة في فمه، أو أن تكسر له كأس الخمر إن شربها أو تمزق ل
١ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي اجتاح مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم" أخرجه ابن ماجه في سننه (٢٢٩٢) وأحمد في مسنده (١/١٧٩). واللفظ لابن ماجة..
٢ أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد عن عبد الله بن دينار: إن لقمان قدم من سفر فلقيه غلام في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات. قال: الحمد لله ملكت أمري [الدر المنثور ٦/٥١٩]..
٣ أخرجه مسلم في صحيحه (٤٩) كتاب الإيمان، وأحمد في مسنده (٣/٢٠، ٤٩، ٥٢)، والترمذي في سننه (٢١٧٣) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ١٨ ) ﴾.
معنى : تصعر من الصعر، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخذّه، ويعرض عن الناس تكبرا، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر ( فلان ماشى لاوى رقبته ).
فقول الله تعالى﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.. ( ١٨ ) ﴾ [ لقمان ] واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه ينبهنا أن التكبر وتصعير الخدّ داء، فهذا داء جسدي، وهذا داء خلقي. وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال :
فدع كل طاغية للزمان فإن الزمان يقيم الصعر
يعني : إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر، فدعه للزمان فهو جدير بتقويمه، وكثيرا ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياما أو قعودا، بل لا يستطيع أن يذب الطير عن وجهه.
والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين، بدليل أنه إذا رأى من هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوّم من صعره، ومثّلنا لذلك ب ( فتوة ) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلا واضعا قدما على قدم، غير مبال بأحد، فإذا دخل عليه ( فتوة ) آخر أقوى منه نجده تلقائيا يعتدل في جلسته.
وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول ( اتق شر من أحسنت إليه ) لماذا ؟ لأن الذي أحسنت إليه مرت به فترة كان ضعيفا محتاجا وأنت قوي فأحسنت إليه، وقدمت له المعروف الذي قوّم حياته فأصبح لك يد عليه، وكلما رآك ذكّرته بفترة ضعفه، ثم إن الأيام دول تدور بين الخلق، والضعيف يصبح قويا ويحب أن يعلى نفسه بين معارفه، لكنه لا بدّ أن يتواضع حينما يرى من أحسن إليه، وكأن وجود من أحسن إليه هو العقبة أمام علوّه وكبريائه ؛ لذلك قيل :( اتق شر من أحسنت إليه ).
ثم إن الذي يتكبر ينبغي أن يتكبر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له، وإذا رأيت في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا هم به عليك، وساعة تنظر إلى الخلق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلا.
لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال، فقالت سيدتها : لكني مشفقة عليك، لأنك سوداء لن ينظر أحد إليك، فقالت الجارية : يا سيدتي، اذكري أن حسنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قبحى فالذي تراه أنت قبيحا هو في ذاته جميل، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة ثم قالت : يا هذه، لا تغضبي الله بشيء من هذا، أتعيبين النقش، أم تعيبين النقاش ؟ ولو أدركت ما فيّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.
ويقول الشاعر في هذا المعنى :
فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
والله تعالى يعلمنا هذا الدرس في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ.. ( ١١ ) ﴾ [ الحجرات ].
فإذا رأيت إنسانا دونك في شيء ففتش في نفسك، وانظر، فلا بدّ انه متميز عليك في شيء آخر، وبذلك يعتدل الميزان.
فالله تعالى وزّع المواهب بين الخلق جميعا، ولم يحاب منهم أحدا على أحد، وكما قلنا : مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر.
وسبق أن ذكرنا أن رجلا قال للقمان : لقد عرفناك عبدا أسود غليظ الشفاه، تخدم فلانا وترعى الغنم، فقال لقمان : نعم، لكني أحمل قلبا أبيض، ويخرج من بين شفتي الغليظتين الكلام العذب الرقيق١.
ويكفي لقمان فخرا أن الله تعالى ذكر كلامه، وحكاه في قرآنه وجعله خالدا يتلى ويتعبد به، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه.
ولنا ملحظ في قوله تعالى ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.. ( ١٨ ) ﴾ [ لقمان ] فكلمة للناس هنا لها مدخل، وكأن الله تعالى يقول لمن يصعر خده : لا تدع الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبّرك عليهم وإظهار مزاياك وستر مزاياهم، فقد تصادف قليل الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبرا متعاليا وهو حقير متواضع، فإن كنت محترف صعر و( كييف ) تكبّر، فليكن ذلك بينك وبين نفسك، كأن تقف أمام المرآة مثلا وتفعل ما يحلو لك مما يشبع عندك هذا الداء.
فكأن كلمة ﴿ لِلنَّاسِ.. ( ١٨ ) ﴾ [ لقمان ] تعني : أن الله تعالى يريد أن يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال، لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.
ثم يقول لقمان :﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا.. ( ١٨ ) ﴾ [ لقمان ] المرح هو الاختيال والتبختر، فربك لا يمنعك أن تمشي في الأرض، لكن يمنعك أن تمشي مشية المتعالي على الناس، المختال بنفسه، والله تعالى يأمرنا :﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( ١٥ ) ﴾ [ الملك ].
فالمشي في الأرض مطلوب، لكن بهيئة خاصة تمشي مشيا سويا معتدلا، فعمر رضي الله عنه رأى رجلا يسير متماوتا فنهره، وقال : ما هذا التماوت يا هذا، وقد وهبك الله عافية، دعها لشيخوختك.
ورأى رجلا يمشي مشية الشطار يعني : قطاع الطرق فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي.
إذن : المطلوب في المشي هيئة الاعتدال، لذلك سيأتي في قول لقمان ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.. ( ١٩ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : لا تمش مشية المتهالك المتماوت، ولا تقفز قفز أهل الشر وقطاع الطريق.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( ١٨ ) ﴾ [ لقمان ] المختال : هو الذي وجد له مزية عند الناس، والفخور الذي يجد مزية في نفسه، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك ؛ لأنه سبحانه يريد أن يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى رب الجميع، وهو سبحانه المتكبر وحده في الكون، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أن يتكبر علينا غيره، على حدّ قول الناظم :
والسجود الذي تجتويه من ألوف السجود فيه نجاة
فسجودنا جميعا للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل متكبر متجبر، فكأن كبرياء الحق تبارك وتعالى في صالح العباد.
١ أورده القرطبي في تفسيره (٧/٥٣١٧): "قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض"..
ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام :
﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( ١٩ ) ﴾.
القصد : هو الإقبال على الحدث، إقبالا لا نقيض فيه لطرفين، يعني : توسطا واعتدالا، هذا في المشي، ﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ... ( ١٩ ) ﴾ [ لقمان ] أي : اخفضه وحسبك من الأداء ما بلغ الأذن.
لكن، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت ؟ قالوا : لأن للإنسان مطلوبات في الحياة، هذه المطلوبات يصل إليها، إما بالمشي فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.
إذن : إما تذهب إلى مطلوبك، أو أن تستدعيه إليك. والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء، لأن كل شيء له طرفان لا بدّ أن يكون في أحدهما مبالغة، وفي الآخر تقصير، لذلك قالوا : كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ثم يقول سبحانه مشبها الصوت المرتفع بصوت الحمار :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( ١٩ ) ﴾ [ لقمان ] والبعض يفهم هذه الآية فهما يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشر الحمير بالغباء وبالذلة، لذلك يقول الشاعر :
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشد فلا يرثي له أحد
ونعيب على الشاعر أن يصف عير الحي والمراد الحمار بالذلة، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا ( أذل من وتد ) لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين، فلا يعترض عليك، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد، فالحمار مسخر، وليس ذليلا، بل هو مذلل لك من الله سبحانه.
ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السرج، وفي فمه اللجام، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.
وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق : أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلا، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تل أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.
لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( ١٩ ) ﴾ [ لقمان ] فنهيق الحمار ليس منكرا من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه منكر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار ؟
إنك تلحظ الجمل مثلا وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمّلته حملا فإنه ( ينعّر ) إذا ثقل عليه، أما الحمار فتحمله فوق طاقته فيحمل دون أن يتكلم أو يبدي اعتراضا، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلا إلى ( القناة ) فإن كانت في طاقته قفز، وإن كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها.
أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أن يتحمّل مالا يطيق. ويقال : إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطانا، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه، وأنها تقطع قيودها وتفرّ إلى الخلاء، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب، ولاحظناه في زلزال عام ١٩٩٢ م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.
ثم إن الحمار إن سار بك في طريق مهما كان طويلا فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أن توجهه أنت، ويذهب إليه مرة أخرى دون أن يتعداه، لكن المتحاملين على الحمير يقولون : ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف، إنما يضع الخطوة على الخطوة، ونحن نقول : بل يمدح الحمار حتى وإن لم يتصرف ؛ لأنه محكوم بالغريزة.
كذلك الحال في قول الله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا... ( ٥ ) ﴾ [ الجمعة ].
فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد ؟ المعنى : حملوها أي : عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم، ولم يحملوها أي : لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها، مثلهم في ذلك ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا... ( ٥ ) ﴾ [ الجمعة ] فهل يعد هذا ذما للحمار ؟ لا، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب، إنما يذمّ منهم أن يحملوا كتاب الله ولا يعملوا به، فالحمار مهمته أن يحمل، وأنت مهمتك أن تفقه ما حلمت وأن تؤديه.
فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يعلمنا الحق سبحانه :﴿ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ( ١١٠ ) ﴾ [ الإسراء ] أما ما تسمعه من ( الجعر ) في مكبرات الصوت والنّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم لم يزيدوا شيئا ب ( الميكروفونات ).
كذلك الذين يرفعون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه : هذا يريد أن يصلي، وهذا يريد أن يسبح أو يستغفر، وهذا يريد أن يقرأ في كتاب الله، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت ؟
بعد أن عرضت لنا الآيات طرفا من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد :
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ( ٢٠ ) ﴾.
التسخير : هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في التنقل منها، كما سخر الله الشمس والقمر.. إلخ، فعلى الرغم من أن كثيرا من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبّ الشمس في يوم من الأيام أن تشرق عليهم، ولا امتنع عنهم الهواء، ولا ضنت عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها، لماذا ؟ لأنها مسخرة لا اختيار لها.
ولا نفهم من ذلك أن الله سخر هذه المخلوقات رغما عنها، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خيّر، إنما الحقيقة أن الكون كله خير، وهذا واضح في قول الله تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
إذن : فالجميع خيّر، خيّرت السموات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مسخرة لا إرادة لها، وخيّر الإنسان فاختار أن يكون مختارا، لأن له عقلا يفكر به ويقارن بين البدائل.
ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج، والدليل على ذلك أنك إذا صدت طيرا وحبسته في قفص ومنعته من أن يطير في السماء وتريد أن تعرف : أهو مسخّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام ؟ فافتح له باب القفص، فإن ظلّ في صحبتك فهو مسخر لك، راض عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددته له، وإن خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مسخّر لك، ولا يحقّ لك أن تستأنسه رغما عنه.
لذلك سيدنا عمر رضي الله عنه لما مرّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أن يعلمه درسا وهو ما يزال ( عجينة ) طيّعة، فأقنعه أن يبيعه العصفور، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه، فقال الغلام : فوالله ما قصرت بعدها حيوانا على الأنس به.
وسبق أن تكلمنا عن مسألة التسخير، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يسخر لك مثلا البرغوث فلو لم يذلل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك.
وقوله تعالى :﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ] أسبغ : أتم وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود :﴿ أن اعمل سابغات.. ( ١١ ) ﴾ [ سبأ ] أي : دروعا ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكانا آخر.
وروي أن لقمان رأى داود عليه السلام يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادره بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال : نعم لبوس الحرب أنت، فقال لقمان : الصمت حكم وقليل فاعله١ فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فمعنى أسبغ علينا النعمة : أتمها إتماما يستوعب كل حركة حياتكم، ويمدكم دائما بمقومات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع، لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيت قصورا في ناحية، فالقصور من ناحية الخلق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قوما قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضت عندهم الخيرات حتى ألقوها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعا وفقرا.
إذن : فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مقومات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى :﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجا منها تتناسلون ؟
هل تنكرون أنه خلق السموات بما فيها من الكواكب والمجرات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم ؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالا ومهمة تؤديها دون أن تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نعم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى ﴿ ظَاهِرَةً.. ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ] أي : التي ظهرت لنا ﴿ وَبَاطِنَةً.. ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ] لم نصل إليها بعد، ومن نعم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.
تأمل في نفسك مثلا الكليتين وكيف تعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازا يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكلية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.
وقالوا : إن الفشل الكلوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدّت مهمتها وتوقفت دون أن تتنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونعم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكن نعرف شيئا عن الكهرباء مثلا، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.. إلخ.
كلها نعم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نعم الله تجده حوالي ٣% ونسبة ٩٧% عرفها الإنسان بالصدفة.
وقلنا : إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول : إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته، لأنه باق ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقق قوله تعالى :
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ.. ( ٢٤ ) ﴾ [ يونس ].
وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئا آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا : لقد رأيتم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.
ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا.. إلخ.
لذلك نقول : من أدب العلماء أن يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا ؛ لأن آيات الله ونعمه مطمورة في كونه تحتاج لمن ينقب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أن قلنا : إن كل سرّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرما من الله تعالى على خلقه الذين قصرت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
وفي هذا إشارة ومقدمة لأن نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دمنا قد رأينا نعمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أن نؤمن بما يخبرنا به من الغيب، وأن نأخذ من المشاهد دليلا على ما غاب.
واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. ( ٢٥٥ ) ﴾ [ البقرة ] أي : شاء سبحانه أن يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أن كان مطمورا، فإن صادف بحثا جاء مع البحث، وإن لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مقدمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنى بقوله تعالى :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ( ٢٦ ) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الجن ].
وقال سبحانه ﴿ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخارا آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.
وقد حاول العلماء أن يعدّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهرا، والباطنة ما أخبرنا الله بها، فمثلا حين تريد الجهاد في سبيل الله تعدّ لذلك عدته من سلاح وجنود.. الخ وتأخذ بالأسباب، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم تروها، كما قال سبحانه :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ.. ( ١٢ ) ﴾ [ الأنفال ].
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة، فيقول : " للمؤمن ثلاثة هي له وليست له يعني ليست من عمله أما الأولى : أن المؤمنين يصلون عليه، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به يعني : لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حي، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي شرعه، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتكفر به عن سيئاتك وتطهر به ذنوبك أما الثالثة : أن الله تعالى ستر مساويك عن خلقه، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك ".
إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خلق الله، ولو خيرت أيّ إنسان : أتحب أن تعرف غيب الناس ويعرفوا غيبك ؟ فلا شكّ في أنه لن يرضى بذلك أبدا. والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله : " لو تكاشفتم ما تدافنتم " يعني : لو ظهر المستور من غيب الإنسان، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إن مات لا يدفنونه، ولقالوا دعوه للكلاب تأكله، جزاء له على ما فعل.
لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يسرع بحمله ودفنه، كما قال القائل : محا الموت أسباب العداوة بيننا. لكن من غباء الإنسان أن ينبش عن عيوب الآخرين، وأن يتتبع عوراتهم، فهل ترضى أن يعاملك الناس بالمثل، فيتتبعون عوراتك، ويبحثون عن عيوبك ؟
ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تزهدهم في كل حسناتك، والله تعالى يريد أن ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.
ثم يقول تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ( ٢٠ ) ﴾ [ لقمان ].
المجادلة : الحوار في أمر، لكل طرف فيه جنود، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر، والجدل ل
١ أخرج العسكري في الأمثال والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن لقمان عليه السلام كان عبدا لداود، وهو يسرد الدرع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان عليه السلام يتعجب ويريد أن يسأله وتمنع حكمته ان يسأله، فلما فرغ منها صبها على نفسه وقال: نعم درع الحرب هذه. فقال لقمان: الصمت من الحكمة وقليل فاعله، كنت أردت ان أسألك فسكت حتى كفيتني..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( ٢١ ) ﴾.
كلمة ﴿ مَا أَنزَلَ اللَّهُ.. ( ٢١ ) ﴾ [ لقمان ] عامة تشمل كل الكتب المنزّلة، وأقرب شيء في معناها أن نقول : اتبعوا ما أنزل الله على رسلكم الذين آمنتم بهم، ولو فعلتم ذلك لسلمتم بصدق رسول الله وأقررتم برسالته.
أو : يكون المعنى ﴿ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ.. ( ٢١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : تصحيحا للأوضاع، واعرضوه على عقولكم وتأملوه.
لكن يأتي ردهم :( بل ) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل الله ﴿ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا.. ( ٢١ ) ﴾ [ لقمان ] وفي آية أخرى ﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.. ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ].
فما الفرق بين ( وجدنا ) و( ألفينا ) وهما بمعنى واحد ؟ قالوا : لأن أعمار المخاطبين مختلفة في صحبة آبائهم والتأثر بهم، فبعضهم عاش مع آبائه يقلدهم فترة قصيرة، وبعضهم عاصر الآباء فترة طويلة حتى ألف ما هم عليه وعشقه ؛ لذلك قال القرآن مرة ( ألفينا ) ومرة ( وجدنا ).
والاختلاف الثاني نلحظه في اختلاف تذييل الآيتين، فمرة يقول :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ] ومرة أخرى يقول :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ].
فما الفرق بين : يعقلون ويعلمون ؟
الذي يعقل هو الذي يستطيع بعقله أن يستنبط الأشياء، فإذا لم يكن لديه العقل الاستنباطي عرف المسألة ممّن يستنبطها، وعليه فالعلم أوسع دائرة من العقل ؛ لأن العقل يعلم ما عقله، أما العلم فيعلم ما عقله هو وما عقله غيره، فقوله ( يعلمون ) تشمل أيضا ( يعقلون ).
إذن : إذا نفي العقل لا ينفي العلم، لأن غيرك يستنبط لك فالرجل الريفي البسيط يستطيع أن يدير التلفزيون مثلا ويستفيد به ويتجول بين قنواته، وهو لا يعرف شيئا عن طبيعة عمل هذا الجهاز الذي بين يديه، إنما تعلمه من الذي يعلمه، فالإنسان يعلم ما يعقله بذاته، ويعلم ما يعقله غيره، ويؤديه إليه ؛ لذلك فنفي العلم دليل على الجهل المطبق الذي لا أمل معه في إصلاح الحال.
ونلحظ أيضا أن القرآن يقول هنا :﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا.. ( ٢١ ) ﴾ [ لقمان ]، وفي موضع آخر يقول :﴿ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] فقولهم : نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فيه دلالة على إمكانية اتباعهم للحق، فالإنكار هنا بسيط، أما الذين قالوا ﴿ حَسْبُنَا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] يعني : يكفينا ولا نريد غيره، فهو دلالة على شدة الإنكار، لذلك في الأولى نفى عنهم العقل، أما في الأخرى فنفى عنهم العلم، فعجز الآيات يأتي مناسبا لصدرها.
وهنا يقول تعالى في تذييل هذه الآية ﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( ٢١ ) ﴾ [ لقمان ] لأن آباءهم ما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من عبادة الأصنام والكفر بالله إلا بوسوسة الشيطان، فالشيطان قدر مشترك بينهم وبين آبائهم.
وهذا يدلنا على أن منافذ الإغواء مرة تأتي من النفس، ومرة تأتي من الشيطان، وبهما يطمس نور الإيمان ونور المنهج في نفس المؤمن.
وسبق أن بينا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية التي تأتيك من قبل الشيطان، والتي تأتيك من قبل نفسك، فالشيطان يريدك عاصيا على أي وجه من الوجوه، فإذا تأبيت عليه في ناحية نقلك إلى ناحية أخرى.
أما النفس فتريد معصية بعينها تقف عندها لا تتحول عنها، فالنفس تميل إلى شيء بعينه، ويصعب عليها أن تتوب منه، ولكل نفس نقطة ضعف أو شهوة تفضلها، لذلك بعض الناس لديهم كما قلنا ( طفاشات ) للنفوس، لأنهم بالممارسة والتجربة يعرفون نقطة الضعف في الإنسان ويصلون إليه من خلالها، فهذا مدخله كذا، وهذا مدخله كذا.
لكن نرى الكثيرين ممن يقعون في المعصية يلقون بالتبعة على الشيطان، فيقول الواحد منهم : لقد أغواني الشيطان، ولا يتهم نفسه، وهذا يكذّبه الحديث النبوي في رمضان.
" إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفّدت الشياطين " ١.
فلو أن المعاصي كلها من قبل الشيطان ما رأينا معصية في رمضان، ولا ارتكبت فيه جريمة، أما وتقع فيه المعاصي وترتكب الجرائم، فلا بدّ أن لها سببا آخر غير الشيطان، لأن الشياطين مصفّدة فيه مقيدة.
١ أخرجه مسلم في صحيحه (١٠٧٩). والإمام احمد في مسنده (٢/٣٥٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ( ٢٢ ) ﴾.
يعني : من أراد أن يخلص نفسه من الجدل بغير علم، وبغير هدى، وبغير كتاب منير، فعليه أن يسلم وجهه إلى الله، لأن الله تعالى قال في آية أخرى :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( ٨٢ ) ﴾ [ ص ] ثم استثنى منهم ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) ﴾ [ الحجر ].
وقال سبحانه :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ( ٦٥ ) ﴾ [ الإسراء ].
ومعنى ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] أخلص وجهه في عبادته لله وحده، وبذلك يكون في معية الله، ومن كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته، ولا يضيع وقته معه، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه، فالذي ينجيك من الشيطان أن تسلم وجهك لله.
وقد ضربنا لذلك مثلا بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فلا يجرؤ أحد من الصبيان أن يتعدى عليه، أما إن سار بمفرده فهو عرضة لذلك، لا يسلم منه بحال، كذلك العبد إن انفلت من يد الله ومعيته.
وهذا المعنى ورد أيضا في قوله سبحانه :﴿ بلى من أسلم وجهه لله.. ( ١١٢ ) ﴾ [ البقرة ] وهنا قال ﴿ إِلَى اللَّهِ.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] فما الفرق بين حرفي الجر : إلى، اللام ؟
استعمال ( إلى ) تدل على أن الله تعالى هو الغاية، والغاية لا بدّ لها من طريق للهداية يوصل إليها، أمّا ( اللام ) فتعني الوصل لله مباشرة دون قطع طريق، وهذا الوصول المباشر لا يكون إلا بدرجة عالية من الإخلاص لله.
فقوله تعالى :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : أنك على الطريق الموصل إلى الله تعالى، وأنك تؤدي ما افترضه عليك.
ومن إسلام الوجه لله قول ملكة سبأ :﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٤ ) ﴾ [ النمل ] الكلام هنا كلام ملكة، فلم تقل : أسلمت لسليمان، لكن مع سليمان لله، فلا غضاضة إذن.
وإسلام الوجه لله، أو إخلاص العمل لله تعالى عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى قدر كبير من المجاهدة ؛ لأن النفس لا تخلو من هفوة، وكثيرا ما يبدأ الإنسان العمل مخلصا لله، لكن سرعان ما تتدخل النفس بما لها من حب الصيت والسمعة، فيخالط العمل شيء من الرياء ولو كان يسيرا.
لذلك ؛ فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على عمله، فيقول في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك، فخالطني فيه ما ليس لك " ١.
والنبي صلى الله عليه وسلم ليس مظنة ذلك، لكن الحق سبحانه علّمه أن يتحمل عن أمته كما تحمّل الله عنه في قوله تعالى :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الأنعام ] أي : أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذبا.
﴿ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( ٣٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
وقوله تعالى :﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] كلمة استمسك تدل على القوة في الفعل والتشبث بالشيء ؛ كما نقول ( تبت فيه )، وهي تعني : طلب أن يمسك ؛ لذلك لم يقل مسك إنما ( استمسك ).
وأول مظاهر الاستمساك أنك لا تطمئن إلى ضعف نفسك، فيكون تمسكك بالعروة الوثقى أشد، كما لو أنك ستنزل من مكان عال على حبل مثلا فتتشبث به بشدة، لأنك إن تهاونت في الاستمساك به سقطت، وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك، وأنه لا ينجيك من الهلاك، ولا واقي لك إلا أن تستمسك بهذا الحبل.
كذلك الذي يسلم وجهه لله ويمسك بالعروة الوثقى، فليس له إلا هذه منجية وواقية.
وكلمة ﴿ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] العروة : هي اليد التي تمسك بها الكوز أو الكوب أو الإبريق، وهي التي تفرق بين الكوب والكأس، فالكأس لا عروة لها، إلا إذا شرب فيها الشراب الساخن، فيجعلون لها يدا.
ومعنى ﴿ الْوُثْقَى.. ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] أي : المحكمة، وهي تأنيث أوثق، نقول : هذا أوثق، وهذه وثقى، مثل أصغر وصغرى، وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطا وثيقا بأصله، فإن كان دلوا فهي وثقى بالدلو، وإن كان كوبا فهي وثقى بالكوب، فهي الموثقة التي لا تنقطع، ولا تنفصل عن أصلها.
والعروة تختلف باختلاف الموثق، فإن صنع العروة صانع غاش، جاءت ضعيفة هشة، بمجرد أن تمسك بها تنخلع في يدك، وهذا ما نسميه " الغش التجاري " وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة يقبل عليها المشتري، ثم يكون المعوض في ارتفاع قطع الغيار، كما نرى في السيارات مثلا، فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعا.
إذن : إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع، فإذا كان الموثق هو الله تعالى فليس أوثق من عروته.
وفي موضع آخر يقول الحق عنها ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ آل عمران ] فالعروة الوثقى هي حبل الله المتين الذي يجمعنا فلا نتفرق، لذلك في الاصطلاح نسمي الفتحة في الثوب والتي يدخل فيها الأزرار ( عروة ) لماذا ؟ لأنها هي التي تجمع الثوب، فلا يتفرق.
وفي آية أخرى وصف العروة الوثقى بقوله سبحانه :﴿ لا انْفِصَامَ لَهَا.. ( ٢٥٦ ) ﴾ [ البقرة ].
ثم يقول سبحانه :﴿ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ( ٢٢ ) ﴾ [ لقمان ] أي : مرجعها، فلا نظن أن الله تعالى خلقنا عبثا، أو أنه سبحانه يتركنا سدى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) ﴾[ المؤمنون ]. ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في الدنيا أوفر حظا من المستقيم، وما كان الله تعالى ليغش عبده الذي آمن به، وسار على منهجه، أو يسلمه للظلمة والمنحرفين.
وإذا كانت لله تعالى عاقبة الأمور أي : في الآخرة، فإنه سبحانه يترك لنا شيئا من ذلك في الدنيا نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها، ومن ذلك مثلا ما نجريه من الامتحانات للطلاب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل، وإلا تساوى الجميع ولم يذاكر أحد، ولم يتفوق أحد ؛ لذلك لا بدّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة، فإذا كنا نجري هذا المبدأ في دنيانا، فلماذا نستنكره في الآخرة ؟
فهل يليق بهذا العالم الذي خلقه الله على هذه الدقة، وكوّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هملا يستشري فيه الفساد، ويرتع فيه المفسدون، ثم لا يحاسبون ؟ إن كانت هذه هي العاقبة، فيا خسارة كل مؤمن، وكل مستقيم في الدنيا.
١ قال سفيان بن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: "اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أف لك به. وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت" ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص٢٧) وانظر حلية الأولياء (٢/٢٠٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٢٣ ) ﴾.
بعد أن بيّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية الأمور كلها، أراد أن يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وَمَن كَفَرَ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] أي : بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى وبالكتاب المنير، وبعدما بيناه من ضرورة إسلام الوجه لله، من يكفر بعد ذلك ﴿ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ].
وهذا القول من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يدل على أن الله علم أن رسوله يحب أن تكون أمته كلها مؤمنة، وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك، وقد كرر القرآن هذا المعنى في عدة مواضع، منها قوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( ٦ ) ﴾( الكهف ) ويقول :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾[ الشعراء ].
فالله تعالى يريد أن يقول لرسوله : أناأرسلتك للبلاغ فحسب، فإذا بلغت فلا عليك بعد ذلك، وكثيرا ما تجد في القرآن عتابا لرسول الله في هذه المسألة، وهو عتاب لصالحه لا عليه، كما تعاتب ولدك الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفا عليه.
ومن ذلك قوله تعالى معاتبا نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ( ١ ) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ( ٢ ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( ٣ ) ﴾ [ عبس ].
والعتاب هنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور دينه، وذهب يدعو الكفار والمكذبين به، فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير، إذن : فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول لا ضده، كما يظن البعض في فهمهم لهذه الآيات.
كذلك الأمر في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.. ( ١ ) ﴾ [ التحريم ] فالله يعاتب رسوله لأنه ضيق على نفسه، فحرّم عليها ما أحله الله لها.
ثم يقول سبحانه :﴿ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : إذا لم تر فيهم عاقبة كفرهم، وما ينزل بهم في الدنيا، فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الآخرة، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم.. ( ٧٧ ) ﴾ [ غافر ] أي : ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب ﴿ أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( ٧٧ ) ﴾ [ غافر ].
إذن ﴿ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] هذه هي الغاية النهائية، وهذه لا تمنع أن نريك فيهم أشياء تظهر عزتك وانتصارك عليهم وانكسارهم وذلتهم أمامك، وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أن دخل النبي مكة منتصرا ومتواضعا يطأطئ رأسه بأدب وتواضع ؛ لأنه يعلم أن النصر من الله، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لأهل مكة : لقد كنتم تريدون الملك لتتكبروا به، وأنا أريده لأتواضع به، وهذا هو الفرق بين عزة المؤمن وعزة الكافر.
لذلك لما تمكن رسول الله من رقابهم بعد أن فعلوا به ما فعلوا جمعهم وقال قولته المشهورة : " يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " ١.
ولك أن تلحظ تحول الأسلوب من صيغة الإفراد في ﴿ وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] إلى صيغة الجمع في ﴿ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] ولم يقل : إليّ مرجعه ؛ لأن من في اللغة تقوم مقام الأسماء الموصولة كلها، فإن أردت لفظها فأفردها، وإن أردت معناها فاجمعه.
وقوله تعالى :﴿ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا.. ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] لأننا نسجله عليهم ونحصيه، كما قال سبحانه :﴿ أحصاه الله ونسوه.. ( ٦ ) ﴾ [ المجادلة ] ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٢٣ ) ﴾ [ لقمان ] أي : بنات الصدر ومكنوناته يعلمها الله، حتى قبل أن تترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو قولي، فالله يعلم ما يختلج في صدورهم من حقد أو غلّ أو حسد أو تآمر.
و﴿ عَلِيمٌ.. ( ١١٩ ) ﴾ [ آل عمران ] صيغة مبالغة من العلم، وفرق بين عالم وعليم : عالم : ذات ثبت لها العلم، أما عليم فذات علمها ذاتي، لذلك يقول تعالى :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ].
١ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٤١٢) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد ان فتح الله عليه مكة: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ( ٢٤ ) ﴾.
الحق سبحانه يبين لكل مؤمن ألاّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رغد من العيش، وسعة وعافية وتمكن ؛ لأن ذلك كله متاع قليل، والحق سبحانه يريد من أتباع الأنبياء أن يدخلوا الدين على أنه تضحية لا مغنم.
وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن نفرق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد، هو استهلال الاثنين، فالداخل في مبدأ الحق مستعد لأن يضحي، والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أن يأخذ المقابل ؛ لذلك ضحّى المسلمون الأوائل في سبيل دينهم بالأنفس والأموال، وتركوا بلادهم وأبناءهم لماذا ؟ لأنهم مكلفون بأداء مهمة إنسانية عالمية، لا يحملها إلا من كان مستعدا للعطاء، أما أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فلا بدّ أن يأخذوا أولا.
لذلك روي أن صحابيا حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشرى بالجنة، وأنه ليس بينه وبينها إلا أن يحارب فيقتل ألقى تمرات كانت في يده، ولم ينتظر حتى يمضغها، وأسرع إلى المعركة مبتغيا الشهادة وطامعا فيما عند الله، وقد سمع منهم في ساحة القتال أن ينادي أحدهم : هبي يا رياح الجنة، وآخر يقول : إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
فقوله تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ( ٢٤ ) ﴾ [ لقمان ] هذا التمتع بزينة الحياة الدنيا ما هو إلا استدراج لهم لا تكريم، وقلنا : إنك لا تلقي بعدوك من على الحصيرة مثلا، إنما تعليه وترفعه ليكون أخذه أليما وشديدا، كذلك الحق سبحانه يمتعهم، لكن لفترة محدودة لتكون حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم.
واقرأ في هذا المعنى قول الله تعالى :﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ] أي : يائسون.
وكلمة الفتح لا تؤدي نفعا إلا إذا جاءت معرفة ( الفتح ) وقلنا : هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك، فتح لك أي : لصالحك، أما فتح عليك أي : أعطاك الدنيا لتكون حملا فوق رأسك.
إذن : فإذا رأيت لهم هذا الفتح فلا تغتر به، واعلم أنهم نسوا ما ذكروا به. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه.
ذلك ليظل في سعة ورغد عيش وعلو مكان، حتى إذا أخذه الله آلمه الأخذ واشتد عليه، فأخذ الكافر وهو في أوج قوته وجبروته يدل على قوة الأخذ وقدرته، أما الضعيف فلا مزية في أخذه، كالذي يريد أن يحطم الرقم القياسي مثلا، فإنه يعمد إلى أعلى الأرقام فيحطمها ليثبت جدارته.
ومن ذلك أيضا نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلاغته وفصاحته تحدى العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وفن الأداء البياني، ولا معنى لأن يتحدى عييا لا يقدر على الكلام.
ومعنى ﴿ نَضْطَرُّهُمْ.. ( ٢٤ ) ﴾ [ لقمان ] نلجئهم أي : نضيق عليهم الخناق، بحيث لا يجدون إلا العذاب الغليظ، أو : أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه، كما جاء في الحديث من " أن الشمس تدنو من الرؤوس، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو إلى النار ".
ووصف العذاب هنا بأنه { غَلِيظٍ ( ٢٤ ) [ لقمان ] والغلظ يعني السمك، فالمعنى أنه عذاب كبير يصعب قلقلة النفس منه، فلو كان رقيقا لربما أمكن الإفلات منه.
ثم يعود السياق إليهم :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٥ ) ﴾.
هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو خالق السموات والأرض، وتعجب بعد ذلك لأنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة من لا يخلق ولا يرى ولا يسمع.
لذلك بعد الشهادة منهم، وبعد أن قالوا ( الله ) يتبعها الحق سبحانه بقول ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ] أي : الحمد لله، لأنهم أقروا على أنفسهم، ونحن في معاملاتنا نفعل مثل هذا، فحين يعترف لك خصمك تقول : الحمد لله.
وهذه الكلمة تقال تعليقا على أشياء كثيرة، فحين يعترف لك الخصم بما تريد تقول : الحمد لله، وحين يخلصك الله من أذى أحد الأشرار تقول : الحمد لله أي : الذي نجانا من فساد هذا المفسد.
فلو بلغنا خبر موت أحد الأشقياء أو قطاع الطرق نقول : الحمد لله أي : الذي خلصنا من شره، وأراح منه البلاد والعباد، ومن ذلك قول الله تعالى :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٥ ) ﴾ [ الأنعام ].
كذلك تقال حينما ينصف المظلوم، وترد إليه مظلمته، أو تظهر براءته، كما سنقول إن شاء الله في الآخرة :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( ٣٤ ) ﴾ [ فاطر ].
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ٧٣ ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( ٧٤ ) ﴾ [ الزمر ].
فالحمد لله تقال أيضا عند خلوصك إلى غاية تخرجك مما كنت فيه من الضيق، ومن الهم، ومن الحزن، وتقال حين ندخل الجنة، وننعم بنعيمها ونعلم صدق الله تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.
هذا كله حمد على نعمه، وهناك الحمد الأعلى : ألم تقرأ الحديث القدسي : " إن الله يتجلى على خلقه المؤمنين في الجنة فيقول : يا عبادي، ألا أزيدكم ؟ فيقولون : وكيف تزيدنا وقد أعطيتنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ؟ قال : أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدها أبدا " ١ فماذا بعد هذا الرضوان ؟
يقول تعالى :﴿ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٧٥ ) ﴾ [ الزمر ].
هذا هو الحمد الأعلى، فقد كنت في الحمد مع النعمة، وأنت الآن في الحمد مع المنعم سبحانه.
ثم يقول سبحانه :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ] وهم أهل الغفلة عن الله، أو ﴿ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ] أي : العلم الحقيقي، النافع، وإن كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير، أو : يعلمون العلم الذي يحقق لهم شهواتهم.
١ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٥٤٩)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨٢٩) من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيء أفصل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا..
ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه :
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٦ ) ﴾
بعد أن سجّل الله تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السموات والأرض، أراد سبحانه أن يبين لنا أن السموات والأرض ظرف لما فيهما، وفيهما أشياء كثيرة، منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه، والمظروف دائما أغلى من المظروف فيه، فما في ( المحفظة ) من نقود عادة أغلى من المحفظة ذاتها، وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفس من الخزانة وأهم.
لذلك قلنا : إياك أن تجعل كتاب الله حافظة لشيء هام عندك، لأنه أغلى من أي شيء فينبغي أن نحفظه، لا أن نحفظ فيه.
وكان في الآية إشارة إلى أنهم كما أقروا لله تعالى بخلق السموات والأرض ينبغي أن يقروا كذلك بأن له سبحانه ما فيهما، وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم، فما دامت السموات والأرض لله، فله ما فيهما، وهب أن لك قطعة أرض تمتلكها، ثم عثرت فيها على شيء ثمين، إنه في هذه الحالة يكون ملكك شرعا وعقلا.
وينبغي للعاقل أن يتأمل هذه المسألة : لله تعالى ما في السموات وما في الأرض، ومن هذه الأشياء الإنسان الذي كرّمه الله، وجعله سيدا لجميع المخلوقات وأعلى منها، بدليل أنها مسخرة لخدمته : الحيوان والنبات والجماد، فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمرا منه ؟
فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة، وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل : أيكون الجماد الذي يخدمني أطول عمرا مني ؟
إذن : لا بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني، وهذا لا يكون إلا في الآخرة حيث تنكدر الشمس، وتتلاشى كل هذه المخلوقات ويبقى الإنسان.
إذن : أنت محتاج لما في الأرض ولما في السماء من مخلوقات الله، وبه وحده سبحانه قوامها مع أنه سبحانه غني عنها لا يستفيد منها بشيء، فالله سبحانه خلق ما هو غني عنه ؛ لذلك يقول :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٦ ) ﴾ [ لقمان ] لأنه سبحانه بصفات الكمال خلق، فلم يزده الخلق صفة كمال لم تكن له، فهو محي قبل أن يوجد من يحييه، معز قبل أن يوجد من يعزه.
وقلنا : إنك لا تقول فلان شاعر لأنك رأيته يقول قصيدة، بل لأنه شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.
فمعنى ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ.. ( ٢٦ ) ﴾ [ لقمان ] أي : الغني المطلق، لأن له سبحانه كل هذا الملك في السموات وفي الأرض، بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والأرض بالنسبة لملك الله تعالى كحلقة ألقاها ملق في فلاة، فلا تظن أن ملك الله هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها، رغم ما توصّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.
فالله سبحانه هو الغني الغنى المطلق، لأنه خلق هذا الخلق وهو غني عنه، ثم أعطاه لعبيده وجعله في خدمتهم، فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محمودا ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٢٦ ) ﴾ [ لقمان ] وحميد فعيل بمعنى محمود، وهو أيضا حامد كما جاء في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( ١٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] لكن، شاكر لمن ؟
قالوا : إذا كان العبد يشكر ربه، وقد علمه الله : أن الذي يحييك بتحية ينبغي عليك أن تحييه بأحسن منها، فربك يعاملك هذه المعاملة، فإن شكرته يزدك، فهذه الزيادة شكر لك على شكرك لربك. أي : مكافأة لك.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾.
قوله تعالى ﴿ مِن شَجَرَةٍ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] من : هنا تفيد العموم أي : من بداية ما يقال له شجرة، وفرق بين أن تقول : ما عندي مال، وما عندي من مال، فالأولى لا تمنع أن يكون نفيت جنس المال قليله وكثيره، وتقول : ما في الدار أحد. وربما يكون فيها طفل مثلا أو امرأة، أمّا لو قلت : ما في الدار من أحد، فهذا يعني خلوها من كل ما يقال له أحد.
والشجرة : هي النبات الذي له ساق، وقد تشابكت أغصانها، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.. ( ٦٥ ) ﴾ [ النساء ].
أما النبات الذي ليس له ساق فهو العشب أو النجم الذي ينتشر على سطح الأرض، خاصة بعد سقوط الأمطار، وهذا لا تؤخذ منه الأقلام، إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع.
وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلام معجز، فقال سبحانه :﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( ٥ ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( ٦ ) ﴾ [ الرحمن ] فالشمس والقمر ﴿ بِحُسْبَانٍ ( ٥ ) ﴾ [ الرحمن ] أي : حساب دقيق محكم، لأن بهما حساب الزمن، ﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( ٦ ) ﴾ [ الرحمن ] أي : في خضوع لله تعالى.
وكلمة النجم هنا يصح أن تضاف إلى الشمس والقمر، ويصح أن تضاف للشجر، فهو لفظ يستخدم في معنى، ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره.
وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة، فقال :
أراعي النجم في سيري إليكم ويرعاه من البيدا جوادي
فهو ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره، ويرعى جواده نجم الأرض، ومن ذلك أيضا كلمة العين، فتأتي بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس، وبمعنى عين الماء، وبمعنى العين المبصرة.
ومعنى :﴿ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] أي : يعينه ويساعده إن نفذ ماؤه. ولك هنا أن تسأل : لماذا جعل الإمداد للماء، ولم يجعله للشجر ؟ قالوا : لأن القلم الواحد يكتب بحبر كثير لا حصر له، فالحبر مظنة الانتهاء، كما أن الشجر ينمو ويتجدد، أما ماء البحر فثابت لا يزيد.
واقرأ أيضا في هذه المسألة :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( ١٠٩ ) ﴾ [ الكهف ].
والعدد سبعة هنا ﴿ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] لا يراد به العدد، إنما يراد به الكثرة كما في قوله تعالى :﴿ سبع سموات.. ( ١٢ ) ﴾ [ الطلاق ] فهذه في مجرتنا الشمسية، فما بالك بالسموات في المجرات الأخرى، وقد علمنا أن السماء هي كل ما علاك فأظلك.
إذن : يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة، والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد، لأن العدد معناه الأرقام التي تبين المعدود، فهناك فرق بين العدد والمعدود، ولما تبينا هذا الفرق استطعنا أن نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجات، فالعدد يعني ١، ٢، ٣، ٤، ٥. أما المعدود، فما يميز هذه الأعداد.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن ينهى التعدد المطلق للزوجات لما أنزل الله عليه أن يأمر الناس أن من معه أكثر من أربع زوجات أن يمسك أربعا منهن ويفارق الباقيات١.
وكان عند رسول الله في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهن هذا الحكم، فقالوا : لماذا استثنى الله محمدا من هذا الحكم ؟ وكيف يكون عنده تسع، وعند أمته أربع ؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد والمعدود : هل استثنى الله تعالى رسوله في العدد، أم في المعدود ؟
نقول : استثناه في المعدود، لأنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى :﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ.. ( ٥٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] ففرض على رسول الله أن يقتصر على هؤلاء، لا يزيد عليهن، ولا يتزوج بعدهن حتى لو متن جميعا.
إذن : لم يستثنه في العدد، وإلا لكان من حقه إذا ماتت واحدة من زوجاته أن يتزوج بأخرى، وإن متن جميعا يأتي بغيرهن.
ولك أن تقول : ولماذا جعل الله الاستثناء في المعدود لا في العدد ؟ قالوا : لأن زوجات غير النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلقها زوجها لها أن تتزوج بغيره، لكن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم، فإن طلّق رسول الله إحدى زوجاته بقيت بلا زواج.
لذلك أمر رسول الله أن يمسك زوجاته التسع، شريطة ألاّ يزيد عليهن، في حين يباح لغيره أن يتزوج بأكثر من تسع، بشرط ألا يبقى معه أكثر من أربع، وعليه، فهذا الحكم ضيّق على رسول الله في هذه المسألة في حين وسّع على أمته.
ونعلم أن معظم زوجات النبي كنّ كبيرات في السنّ، وبعضهن كنّ لا إربة لهن في مسألة الرجل، لكنهن يحرصن على شرف الانتساب لرسول الله، وعلى شرف كونهن أمهات المؤمنين، لذلك كانت الواحدة منهن تتنازل عن قسمها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف٢.
إذن : التفريق بين العدد والمعدود خلصنا من إفك المستشرقين، ومن تحاملهم على رسول الله واتهامهم له بتعدد الزوجات، وأنه صلى الله عليه وسلم وسع على نفسه وضيّق على أمته.
ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيرت حتى الدارسين للنحو، فلا إشكال في العدد واحد والعدد اثنان ؛ لأننا نقول في المفرد المذكر : واحد والمؤنث : واحدة. وللمثنى المذكر : اثنان، وللمؤنث : اثنتان. فالعدد يوافق المعدود تذكيرا وتأنيثا، لكن الخلاف يبدأ من العدد ثلاثة، حيث يذكر العدد مع المعدود المؤنث، ويؤنث مع المعدود المذكر، فمن أين جاء هذا الاختلاف ؟
قالوا : لاحظ أن التذكير هو الأصل : ولذلك احتاج التأنيث إلى علامة، أما المذكّر وهو الأصل فلا يحتاج إلى علامة، تقول : قلم. وتقول : دواة. فاحتاجت إلى علامة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو الأصل.
وتعال إلى الأعداد من ثلاثة إلى عشرة، تقول : ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة.. إلخ فالعدد نفسه مبني على التاء، وليست هي تاء التأنيث، لأنها أعداد مجردة بلا معدود، فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه تاء لا نضيف إليه تاء أخرى، إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علامة التأنيث ويبقى العدد مع المذكر على الأصل بالتاء.
فما حكاية العدد سبعة بالذات ؟ قالوا : إن العدد واحد هو الأصل في الأعداد ؛ لأن العدّ ينشأ من ضم واحد إلى آخر، فواحد هو الخامة التي تتكون منها الأعداد فتضم واحدا إلى واحد وتقول : اثنان وتضم إلى الاثنين واحدا، فيصير العدد ثلاثة.. وهكذا.
ومعلوم أن أقلّ الجمع ثلاثة، والعدد إما شفع وإما وتر، الشفع هو الذي يقبل القسمة على الاثنين، والوتر لا يقبل القسمة على الاثنين، والله تعالى يقول :﴿ والشفع والوتر ( ٣ ) ﴾ [ الفجر ] فبدأ بالشفع وأوله الاثنان ثم الثلاثة، وهي أول الوتر، أما الواحد فقد تركناه لأنه كما قلنا الخامة التي يتكون منها جميع الأعداد.
وما دام الله تعالى قال :﴿ والشفع والوتر ( ٣ ) ﴾ [ الفجر ] فالاثنان أول الشفع، والثلاثة أول الوتر، وأربعة ثاني الشفع، وخمسة ثاني الوتر، وستة ثالث الشفع، وسبعة ثالث الوتر.
وقلنا : عن الجمع أقله ثلاثة، فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وترا وزوجا، وانتهت عند هذا العدد، فإذا أرادوا العدّ أكثر من ذلك أتوا بواو يسمونها واو الثمانية، وقد سار القرآن الكريم في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب.
واقرأ إن شئت هذه الآيات :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.. ( ٧١ ) ﴾ [ الزمر ].
أما في الجنة فيقول سبحانه :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.. ( ٧٣ ) ﴾ [ الزمر ].
فما الفرق بين الآيتين ؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية، ولفم تذكر في الأولى ؟
قالوا : لأن ﴿ فتحت.. ( ٧١ ) ﴾ [ الزمر ] في الأولى جواب شرط، وهذا الجواب كانوا يكذبونه وينكرونه. والشرط تأسيس ﴿ حتى إذا جاءوها.. ٧١ ﴾( الزمر )ماذا حدث ؟ ﴿ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.. ( ٧١ ) ﴾ [ الزمر ]. إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يكذبون بهذا اليوم ؟
إذن ف :﴿ فتحت.. ( ٧١ ) ﴾ [ الزمر ] هنا لا تكون جوابا، لأنهم يعلمون يقينا أنها ستفتح، أما الجواب فسيأتي في :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ٧٣ ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( ٧٤ ) ﴾ [ الزمر ].
ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو، أما في الجنة فذكر الواو، لأن أبوابها ثمانية.
كذلك اقرأ قول الله تعالى ولاحظ متى تستخدم الواو :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾ [ التحريم ].
تجد الواو قبل الثمانية، ذلك لأن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد.
وقوله تعالى :﴿ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] أي : يجعل مدادا لكلمات الله ﴿ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] كلمات الله هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة، لأن الله تعالى يقول :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] فكل مراد من شيء سببه كن.
وهنا عجيبة ينبغي أن نتأملها : فالله تعالى يقول للشيء وهو لم يخلق بعد ( كن )، كأن كل الأشياء موجودة في الأزل ومكتوبة، تنتظر هذا الأمر ( كن )، فتبرز إلى الوجود، كما يقول أهل المعرفة : أمور يبديها ولا يبتديها.
إذن :﴿ كَلِمَاتُ اللَّهِ.. ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ] هي كن وكل مرادات الله في كونه، ما علمنا منه وما سنعلم، وما لم نعلم إلا حين تقوم الساعة.
ألم يقل في العجيب من أمر عيسى عليه السلام :﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.. ( ١٧١ ) ﴾ [ النساء ] والمعنى أنه لم يخلق بالطريق الطبيعي في خلق البشر من أب وأم، إنما خلق بهذه الكلمة ( كن ). لماذا ؟
لأن الله تعالى يريد أن يثبت لنفسه طلاقة القدرة في الإيجادات، وأنه سبحانه يخلق كما يشاء، فمرة يخلق بلا أب وبلا أم، كما خلق آدم عليه السلام، ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه السلام، ومرة يخلق بأب وأم، ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء. إذن : القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها.
إذن : مع طلاقة القدرة لا اعتبار للأسباب، فأنت إن أردت أن تكون مثلا قطرة الماء، فعليك أن تأتي بالأكسوجين والأيدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإلا فلا، أما الخالق عز وجل فيخلق بالأشياء وبدون شيء، لأن الأشياء بالنسبة لله تعالى ليست فاعلة بذاتها، وإنما هي فاعلة بمراد الله فيها.
ثم يقول سبحانه :{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢
١ أخرج الإمام مالك فغي الموطأ (ص ٥٨٦) كتاب الطلاق بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف، أسلم عشر نسوة حين أسلم الثقفي: "أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن" ووصله الترمذي في سننه (١١٢٨) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخير أربعا منهن، وسمّى الرجل "غيلان بن سلمة الثقفي"..
٢ فعلت هذا سودة بنت زمعة زوجة رسول الله، وقد وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها في مقابل ألا يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلة للنبي صلى الله عليه وسلم: "أبقني يا رسول الله وأهب ليلتي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء". الإصابة لابن حجر (٨/١١٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( ٢٨ ) ﴾. الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما على قضية البعث والقيامة، ويريد سبحانه أن ينصب للناس في حركة حياتهم موازين الجزاء، لأن كل عمل لا توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملا باطلا، ولا يمكن أن يستغنى عن الجزاء ثوابا وعقابا إلا من كان معصوما أو مسخرا، فالمعصوم قائم دائما على فعل الخير، والمسخر لا خيار له في أن يفعل أو لا يفعل.
إذن : إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثوابا وعقابا في غير هذين لا بدّ أي يوجد فساد، إذا لم يثب المختار على الفعل، ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة، حتى في المجتمعات التي لا تؤمن بإله وضعت لنفسها هذا القانون، قانون الثواب والعقاب.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا مثالا لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين :﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُل ّشَيْء سَبَبًا ( ٨٤ ) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٥ ) ﴾ [ الكهف ].
أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكن في الأرض له مهمة، هذه المهمة هي شكر الله على التمكين ولا يكون إلا بإقامة ميزان العدالة في الكون ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ.. ( ٨٦ ) ﴾ [ الكهف ] أي : في رأي العين، وإلا فهي لا تغرب أبدا، إنما تغرب عن جماعة في مكان، وتشرق على جماعة في مكان آخر.
﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( ٨٦ ) ﴾ [ الكهف ].
ولا يفوض إنسان في أن يعذب أو يتخذ الحسنى إلا إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة، وقد قال الله عنه :﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُل ّشَيْء سَبَبًا ( ٨٤ ) ﴾ [ الكهف ] أي : نعمة وميزانا لتوزيع هذه النعمة، فلم تقتصر نعمة الله عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت، إنما عنده المقومات الحياتية، وعنده ميزان العدالة الذي يضبط استطراق النعم في الكون كله.
فالذي خير في أن يفعل أو لا يفعل أراد أن يبين منهجه في أنه لم يأخذ الإختيار وسيلة لتثبيت الأهواء، لذلك قال بعدها :﴿ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ( ٨٧ ) ﴾ [ الكهف ] هذا هو العقاب ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( ٨٨ ) ﴾ [ الكهف ] أي : بعد أن ينال ثوابه، نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه، ونقيم له حفلة تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه.
إذن : فقضية الثواب والعقاب أمر لازم، وإذا كان هذا في الأمور الحياتية الجزئية، فهو أولى في أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة، لا بدّ من وقت للثواب وللعقاب، وإلا استشرى الظلم واغتال الناس،
وقضى عليهم، وأخذ منهم كل متع الحياة، فانتفع بذلك المفسد، وخاب كل من التزم بدين الله وقيم منهجه.
لذلك تجد الحق تبارك وتعالى يؤكد دائما على مسألة البعث والقيامة والحساب، وترى أعداء الدين يحاولون أن يشككوا في هذه القضية، وأن يزحزحوا الناس عن الإيمان بها بطرق شتى.
فالفلاسفة لهم في ذلك دور، وللملاحدة دور، ولأهل الكتاب دور، لذلك تجد التوراة مثلا تكاد تخلو من إشارة عن اليوم الآخر، وهذا أمر غريب لا يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج حياة.
وما ذلك إلا لأن أهل التوراة أرادوا أن يزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لأنفسكم سلطة زمنية مادية، حتى إنهم طمعوا في أن يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى الله تعالى، كما حكى القرآن عنهم :﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.. ( ٥٥ ) ﴾ [ البقرة ].
ولما أنزل الله عليهم المنّ، وهو مادة حلوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم، وأنزل عليهم السلوى، وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة معدة للتناول رفضوا عطية الله لهم، وطعامه الذي أعدّ من أجلهم، وقالوا : بل نريد طعاما نصنعه بأيدينا، وقالوا :﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ.. ( ٦١ ) ﴾ [ البقرة ]، فقال لهم :﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ.. ( ٦١ ) ﴾ [ البقرة ].
وما دام الأمر بالنسبة لهؤلاء ماديا فلا بدّ أن يزحزح نفسه عن الآخرة وعن القيامة والحساب، لذلك راحوا يشككون فيها، أما الفلاسفة فقالوا : حين يبعث الله إنسانا بعد الموت وقد تحللت أعضاؤه وصارت ترابا، ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذت من هذا التراب، وأكل إنسان آخر من ثمارها وانتقلت إليه بعض خلايا وجزئيات الأول، فإذا كان هناك بعث أتبعث هذه الجزئيات مع الأول أم مع الآخر ؟ فإن كانت مع الأول فهي نقص في الآخر والعكس. هذه هي شبهة الفلاسفة.
وقد تخبّط الفلاسفة هذا التخبط، لأنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيما للغيبيات، وقد أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم : لو أن إنسانا يزن مائة كيلو مثلا أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو من وزنه، فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه ؟
هذه المسألة يتحكم فيها أمران : الغذاء والإخراج، ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من الخارج، أما في فترة الشيخوخة مثلا فالخارج أكثر، فإن توازن الأمران كانت حالة من الثبات لا يزيد فيها الشخص ولا ينقص، وهي فترة الثبات.
فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو، ثم شفاه الله وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد إلى حالته الطبيعية، فهل تغيّر الشخص حال نقصان وزنه ؟ وهل تغيّر حال عودته إلى طبيعته ؟ أم ظلت الشخصية والذاتية هي هي ؟
إذن : المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات، إنما هي شخصية معنوية خاصة وإن تكونت من جزئيات المادة وهي الستة عشر عنصرا التي تكون جسم الإنسان، والتي تبدأ بالأكسوجين وتنتهي بالمنجنيز، وهي نفس العناصر المكونة لتربة الأرض التي نأكل منها، وهذه العناصر بنسب تختلف من شخص لآخر.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( ٤ ) ﴾ [ ق ] يعني : نعرف ما نقص من كل إنسان : كذا من الحديد، وكذا من الأكسوجين، وكذا من الفسفور.. إلخ.
إذن : حين يبعث الله الإنسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الأجزاء المعروفة، فيأتي الشخص هو هو.
ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث والالتباسات التي يحاولونها يقولون : الله تعالى يخلق الإنسان في مدة تسعة أشهر، أو ستة أشهر، يمر خلالها بعدة مراحل : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسو هذه العظام لحما، هذا للإنسان الواحد، فكم تستغرق إعادة خلق البشر من لدن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة ؟
ونقول : لقد ذكرتم كيفية خلق سلالة الإنسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر، لكن لم تذكروا خلق الأصل، وهو آدم عليه السلام، وقد خلقه الله على هيئته وصورته التي كان عليها، فلم يكن صغيرا وكبر، إنما خلق كبيرا مستويا كاملا، ثم نفخت فيه الروح.
ثم إن عناصر الفعل هي : الفعل، والفاعل، والمنفعل، يضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل، فأنا أريد أن أنقل هذه ( الحملة ) من هنا إلى هناك، فنقلنا فعل، وأنا الفاعل، والحملة هي المنفعل، ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزئيات الزمن، فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتا طويلا، فإن خطه بالماكينة أخذ وقتا أقل بكثير.
إذن : فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت، وكان لكل منطقة عامل يصعد على سلم إلى كل فانوس ليشعله، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغطة زر واحد. إذن : كلما زادت القوة قلّ الزمن.
فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت : أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك ؟ إنها بقوة الله عز وجل، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها، إنما يفعل سبحانه بكن. إذن : فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن توزع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن.
ولم تستبعد هذا في حق الله تعالى، وقد أعطاك ربك طرفا منه رغم قدرتك المحدودة ؟ ألست تجلس في مثل هذا المجلس فترانا جميعا مرة واحدة في نظرة واحدة، كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة ؟ ألست تقوم بمجرد أن تريد أن تقوم، وتنفعل جوارحك لك بمجرد أن يخطر الفعل على بالك ؟ أتفكر أنت في العضلات التي تحركت والإشارات التي تمت بداخلك لتقوم من مجلسك ؟
وقد سبق أن أوضحنا هذه المسألة حين قارنا حركة الإنسان في سلاستها وطواعية الجوارح لمراد صاحبها بحركة الحفار مثلا، فهو لا يؤدي حركة إلا بالضغط على زر خاص بها.
فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الأشياء، فهل تستبعد في حق الله أن يفعل بكلمة كن ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أن تقولها، مجرد الإرادة منك تفعل ما تريد.
فإن قلت : كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كن، وأنا أفعل بدون أن أقولها ؟ نقول : نعم أنت تفعل بدون كن ؛ لأن الأشياء ليست منفعلة لك أنت، إنما هي مسخرة بكن الأولى حين قال الله لها كوني مسخرة لإرادته، إذن : أنا أفعل بدون كن ؛ لأنها ليست في مقدوري أنا، فكان كن الأولى من الله تعالى هي كن لنا جميعا.
وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج، واستطعنا الرد على منكريها، فالله يقول :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.. ( ١ ) ﴾ [ الإسراء ].
فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا : كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهرا. لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن، أما محمد فلم يقل سريت، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال : أسري بي١.
إذن : فهو محمول على قدرة أخرى، فالفعل لا ينسب إليه إنما إلى حامله إلى الله، وقلنا : كلما زادت القوة قلّ الزمن، فإذا كانت القوة قوة الحق تبارك وتعالى فلا زمن ؛ لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.. ( ٢٨ ) ﴾ [ لقمان ].
فالأمر يسير على الله، لأن خلق النفس الواحدة وخلق جميع الأنفس يتم بكن، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر.
وضربنا مثلا لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادى مثلا، فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائيا إلى الزبادى الذي تريده، فهل جلست أمام كل علبة تحولها بنفسك، أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة، ثم تركت هذه المواد تتفاعل بذاتها ؟
كذلك شاء الله تعالى أن يوجد الإنسان جنينا في بطن أمه، وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها، إذن : خلق الإنسان لا يقاس بالنسبة لله تعالى بالزمن، وقد حلّ لنا الإمام على كرم الله وجهه هذه القضية حينما سئل : كيف يحاسب الله الناس جميعا من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة في وقت واحد ؟
فقال : يحاسبهم جميعا في وقت واحد،
١ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧١٠)، ومسلم في صحيحه ـ (١٧٠) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٩ ) ﴾هذه آيات كونية واضحة مرئية للجميع : للمؤمن وللكافر، للطائع وللعاصي، فالحق سبحانه يوزع لنا الوقت بين ليل ونهار، لكنه ليس توزيعا متساويا ( ميكانيكيا )، بحيث يكون كل منهما أربعا وعشرين ساعة ثابتة على التقدير الجبري كما يقولون ؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلا عن الأربع وعشرين ساعة عدة دقائق تضاف إلى زمن الليل أو العكس.
لذلك قالوا من أيام بطليموس : السنة ٣٦٥ يوما وخمس ساعات، وخمس وخمسون دقيقة، واثنتا عشرة ثانية بالدقة، بعدها انتهوا إلى أن السنة ٣٦٥ يوما وربع يوم عن طريق الجبر، فكل ثلاث سنين نجبر الرابعة، ويقولون : سنة بسيطة، وسنة كبيسة أي : طويلة، فالتي تقبل القسمة على أربعة سنة كبيسة، لذلك نجد شهر فبراير في هذه السنة ٢٩ يوما، ذلك لنعوض اليوم.
وكلمة يوم تعني الليل والنهار، لكن القسمة بينهما ليست متساوية، فالحق تبارك وتعالى بصنعته الحكيمة أراد أن يوزع الحرارة والبرودة على كل مناطق المعمورة، ويعطي لكل منطقة ما تحتاجه لتنبت أرضها، وتعطينا نحن مقومات حياتنا، بدليل أن من النباتات ما لا ينمو إلا في الصيف، ومنها ما لا ينمو إلا في الشتاء، كذلك في الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي.
لذلك، عرفنا أخيرا أن الخالق سبحانه جعل لمحور الأرض ميلا بمقدار ٢٣. ٥ درجة عن مستوى مدارها فهي إذن غير مستوية، ففي فصل الشتاء يكون القسم الكبير منها مواجها لليل، والآخر مواجها للنهار، فتجد ليل الشتاء أطول من ليل الصيف وأبرد منه، ويبلغ ليل الشتاء أقصى ما يمكن من الطول وهو ١٢ ساعة في شهر كيهك، حتى أن الفلاحين يقولون في كيهك ( كياك صباحك مساك قوم من نومك حضر عشاك ).
ومقابل ذلك في فصل الصيف، فكأن ميل محور الأرض سر من أسرار هندسة هذا الكون، ففي الحادي والعشرين من حزيران ( يونيو ) يبدأ الانقلاب الصيفي، وفي الثالث والعشرين من كانون الأول ( ديسمبر ) يبدأ الانقلاب الشتوي، ثم الاعتدال الربيعي في الحادي والعشرين من آذار ( مارس )، والاعتدال الخريفي في الثاني والعشرين من أيلول ( سبتمبر ). وفي الاستواء
الربيعي والاستواء الخريفي تجد أن الليل مساو للنهار، وجوهما معتدل لا حر ولا برد.
فقول الله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] يعني لا تظن أن الليل والنهار قسمة متساوية، لأن الله تعالى بحكمته يدخل جزءا من الليل في النهار، أو جزءا من النهار في الليل، فيزيد في أحدهما، وينقص من الآخر لحكمة أرادها سبحانه وتعالى لصالح الإنسان، وإمدادا له بمقومات حياته، لتعلم أن ما يطرأ على الليل أو النهار من تغيير الأشياء لها مناط في الحكمة الإلهية العليا.
وحين نقسم اليوم إلى ليل ونهار وهي قسمة كما قلنا ليست رتيبة ولا متساوية فإن لليل مهمة في الحياة وللنهار مهمة، كما بيّن لنا سبحانه :﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( ١٠ ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( ١١ ) ﴾ [ النبأ ].
معنى اللباس أن تسكن فيه وتكن وتستر نفسك، لذلك عرفنا فيما بعد أن الضوء أثناء النوم أمر غير صحي، وفهمنا قول رسول الله : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " ١.
والحق سبحانه يوضح لنا هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ وَالضُّحَى ( ١ ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ( ٢ ) ﴾ [ الضحى ] ويقول :﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( ١ ) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( ٢ ) ﴾ [ الليل ] ليبين لك أن لكل منهما مهمة في حركة حياتك، فالنهار للحركة، والليل للسكون، وعليك ألا تخلط بين هاتين المهمتين دون داع، وقد استثنينا من هذه القاعدة من تحتم عليهم طبيعة عملهم أن يعملوا بالليل ويرتاحوا بالنهار.
والخالق عز وجل جعل في حركة الليل والنهار أسرارا وعجائب ينبغي أن نتنبه إليها بمعطيات العلم، ومن حكمة الخالق سبحانه أن جعل لكل سر في الكون ميلادا يولد فيه، ونثر أسرار كونه على خلقه ولم يظهرها لجيل واحد، وإلا لو كشف القرآن كل أسراره للأمة الأمية التي عاصرت نزوله لانصرفت عن الدعوة الجديدة بتكذيب هذه القضايا التي لن تصدقها العقول حتى في العصر الحديث ورغم تقدم العلوم، فمثلا لما قال العلماء بكروية الأرض ودورانها حول الشمس لم نصدق هذه الحقائق حتى جاءتنا الصور الفضائية التي تؤكد ذلك.
وقلنا : إن ميلاد سرّ من أسرار الكون قد يصادف بحثا من البشر، فيأتي السر ويظهر على أنه نتيجة لهذا البحث، وإلا أظهره الله للناس بالمصادفة رحمة بهم وتفضلا عليهم، لذلك نجد أن معظم الاكتشافات جاءت صدفة، لم يسع إليها البشر، ولم يذهبوا إليها بمقدمات.
والقرآن الكريم حين يتحدث عن الليل والنهار يقول كلاما عاما يفهمه كل معاصر لمرحلة من مراحل التقدم العلمي :﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ.. ( ١٢ ) ﴾ [ الإسراء ].
ويقول ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ ) ﴾[ الفرقان ] ومعنى خلفة يعني : يخالف أحدهما الآخر ويأتي بعده، وهذا صحيح الآن، فنحن نرى الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لكن كيف نتصور هذه المسألة في بدء الخلق ؟
لو أن البداية كانت بخلق الأرض مواجهة للشمس، فالنهار إذن أولا ليس خلفة لشيء قبله، ثم تغيب الشمس فينشأ الليل ليكون خلفة للنهار، وفي المقابل إن وجدت الأرض غير مقابلة للشمس، فالليل هو الأول ليس خلفة لشيء قبله.
إذن : لا يحل لنا هذه المسألة إلا قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً.. ( ٦٢ ) ﴾ [ الفرقان ] أي : من بداية الخلق وهما خلفة، وهذا لا يتأتى ولا يسوغ إلا إذا كانت الأرض مكوّرة، بحيث يكون الجزء المقابل للشمس منها مكوّنا للنهار، والجزء الآخر لليل في وقت واحد، فلما تحركت الأرض في دورانها صار كل منها خلفة للآخر، إذن : معطيات القرآن يهضمها العقل، ولا يعارضها أبدا.
تذكرون في الثلاثينيات وبالتحديد عام ١٩٢٨ فسروا السموات السبع بأنها الكواكب السبعة السيارة التي تدور حول الشمس، ذلك ليقربوا العلم للناس، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يكتشفوا بعدها ( نبتون ) ثم ( بلوتو ) فصاروا تسعة كواكب، وأظهر الله لهم فساد هذا التأويل.
وفي الكون عجائب كثيرة نعرفها حتى عن طريق الكفار، وكأن الله سخّر حتى الكافر ليثبت إيمان المؤمن، فإذا كنا قد عرفنا اليوم عندنا على الأرض، وأنه ليل ونهار يكونان أربعا وعشرين ساعة، فماذا يعني اليوم بالنسبة للكواكب الأخرى ؟
لما عرفوا أفلاك الكواكب الأخرى التي تدور حول الشمس وجدوا أقربها للشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، ثم نبتون، ثم بلوتو، وهو أبعد الكواكب عن الشمس.
ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أن يوم الزهرة مثلا ٢٤٤ يوما بيومنا نحن، أما العام فيساوي ٢٢٥ يوما بيومنا، فكأن يوم الزهرة أطول من عامها، كيف ؟ قالوا : لأن المدار مختلف عن مدار الأرض، فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه، والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشمس.
وقوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] ولك أن تلحظ دقة الأداء القرآني في الانتقال من الفعل المضارع ﴿ يُولِجُ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] إلى الماضي ﴿ سَخَّرَ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] ففي الكلام عن حركة الليل والنهار قال ﴿ يُولِجُ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] ولما تكلم عن الشمس والقمر قال :﴿ سَخَّرَ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] لماذا ؟
قالوا : لأن التسخير ثم مرة واحدة، ثم استقر على ذلك، أما إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل فأمر مستمر يتكرر كل يوم، فناسبه المضارع الدالّ على التكرار.
وقوله تعالى :﴿ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] أي : إلى غاية محدودة، لذلك نسمي العمر النهائي، الأجل، والمراد بالأجل المسمى يوم القيامة، فكأن الخالق سبحانه ضمن لنا استمرار الشمس والقمر إلى قيام الساعة، فاطمئنوا.
ثم أي عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كله منذ خلقه الله وإلى قيام الساعة، دون صيانة ودون قطعة غيار، ذلك لأنه مبني على التسخير القهري الذي يمنع الاختيار، فليس للشمس أن تمتنع عن الشروق وكذلك القمر، ومن العظمة في الألوهية هذه الرحمانية الرحيمة التي تحتضن الجميع المؤمن بها والكافر.
وفي هذه الآية ورد التعبير بلفظ ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] وفي مواضع أخرى ورد بلفظ ﴿ لأجَلٍ مُّسَمًّى.. ( ٢ ) ﴾ [ الرعد ] باللام بدلا من إلى، وكذلك في سورتي فاطر ( ١٣ ) والزمر ( ٥ )، ولكل من الحرفين معنى :﴿ إِلَى أَجَلٍ.. ( ٢٩ ) ﴾ [ لقمان ] تعطينا الصورة لمشية الشمس والقمر قبل وصولهما الأجل، إنما ﴿ لأجَلٍ مُّسَمًّى.. ( ١٣ ) ﴾ [ فاطر ] أي : الوصول المباشر للأجل.
وكما أن لليل مهمة وللنهار مهمة، كذلك للشمس مهمة، وللقمر مهمة بيّنها الله في قوله :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا.. ( ٥ ) ﴾ [ يونس ].
وفي موضع آخر قال سبحانه :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) ﴾ [ الفرقان ] فالضياء للشمس فيه نور وحرارة، على خلاف نور القمر الذي يناسب حالما لا حرارة فيه.
ومن عجائب أمر القمر أننا كنّا نحسبه قطعة من اللؤلؤ مضيئة في السماء، حتى إن الشعراء درجوا على تشبيه المحبوبة بالقمر، ولو عرفوا حقيقة القمر التي عرفناها نحن اليوم ما صحّ منهم هذا التشبيه، فقد أطلعنا العلم أن القمر ما هو إلا حجارة وجسم معتم لا يضيء بذاته، إنما يعكس فقط ضوء الشمس، لذلك لما شبّه أحد الشعراء محبوبته بالقمر أنكرت عليه هذا الشبه :
شبهتها بالبدر فاستضحكت وقابلت قولي بالنكر
أي : تكلفت الضحك
وسفهت قولي وقالت متى سمجت حتى صرت كالبدر
ولك أن تسأل فمن أين عرفت سماجة البدر، وأنه حجارة لا جمال فيها ؟ تجيب هي حين تقول :
البدر لا يرنو بعين كما أرنو ولا يبسم عن ثغر
ولا يميط المرط عن ناهد ولا يشد العقد في نحر
ومن قاس بالبدر صفائي فلا زال أسيرا في يدي هجري
إذن : فحقيقة القمر التي عرفناها أخيرا آية من آيات الله الظاهرة والباطنة في الكون أطلعنا الله عليها بسلطان العلم، فلما تيسر للبشر الصعود إلى سطحه عرفنا أنه جسم معتم، وصخور لا تنير بذاتها، إنما تعكس أشعة الشمس، فتصل إلينا هادئة حالمة، وكأن القمر كما يقولون :( يصنع من الفسيخ شربات ).
ومن حكمة الخالق سبحانه في خلق الشمس والقمر أن تكون الشمس ميزانا لمعرفة اليوم، والقمر لمعرفة الشهر، وهو الأصل في التكليفات، لأن له شكلا مميزا في أول الشهر على خلاف الشمس، لذلك يقول سبحانه :{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب
١ أخرجه البخاري في صحيحه (٥٦٢٤) واحمد في مسنده (٣/٣٨٨) عن جابر بن عبد الله، واللفظ للبخاري..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٣٠ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ] إشارة إلى ما تقدم ذكره من دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر، ذلك كله ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير ؛ لأن الذي خلقه وأبدعه حق ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ].
وما دام الله تعالى هو ( الحق ) فما يدعونه من الشركاء هم الباطل ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ]، فلا يوجد في الشيء الواحد حقان، فإن كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل، فالحق واحد ومقابله الباطل. وأي باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عز وجل ؟
كيف وهي حجارة صوروها بأيديهم وأقاموا ليعبدوها من دون الله، والحجارة جماد من جمادات الأرض، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات، عبد للنبات، وعبد للحيوان، وعبد للإنسان، لأنه مسخر لخدمة هؤلاء جميعا.
فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرمك ربك وجعل لك عقلا مفكرا تتدنى بنفسك وترضى لها أن تعبد أدنى أجناس الوجود، وتتخذها شريكا مع الله، وأنت ترى الريح إذا اشتدت أطاحت باللات أو بالعزى، وألقته على الأرض، وربما كسرت ذراعه، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله، إذن ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ].
لذلك ؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس : إنها لا تنشب بين حقين ؛ لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقان، إنما هو حق واحد، والآخر لا بدّ أن يكون باطلا، أو تنشأ بين باطلين، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول ؛ لأن الباطل زهوق.
والعاقبة لا بدّ أن تكون للحق ولو بعد حين، أما الباطل فإنه زهوق، إنما تطول المعركة إن نشبت بين باطلين، فليس أحد الطرفين فيها أهلا لنصرة الله، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما، ولا يردهما إلا مذلة اللجوء إلى التصالح بعد أن فقدا كل شيء.
لذلك نرى هذه الظاهرة أيضا في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءا كبيرا من هذه التركة، حتى إذا ما صفت مما كان بها من أموال جمعت بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسيم ما بقي.
واقرأ إن شئت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر ) ومعنى : مهاوش يعني بالتهويش أو كما نقول ( بيهبش ) من هنا ومن هنا، وطبيعي أن يذهب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه.
وسبق أن أعطينا مثلا لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته، فيجد ابنه مريضا حرارته مرتفعة، فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب، ويتراءى له شبح المرض، فينفق على ابنه المئات، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون، فالأول أصاب ماله من مهاوش، والآخر أصابه من الحلال.
فقول الله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : أن الحق هو الظاهر وهو الغالب، فإن قلت كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه ؟ ونقول : نعم، قد يعلو الباطل لكن إلى حين، وهو في هذه الحالة يكون جنديا من جنود الحق، كيف ؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صولة لا بدّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه.
إذن : لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض، ويظهر لها علتها، فتطلب الدواء، فالألم جندي من جنود الشفاء، وقلنا سابقا : إن الكفر جندي من جنود الإيمان.
لذلك لا تحزن إن رأيت الباطل عاليا، فذلك في صالح الحق، واقرأ قول ربك عز وجل :﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.. ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ] يعني : يأخذ كل واد على قدره وسعته من الماء ﴿ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا.. ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.. ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ] أي : مثلا لكل منهما.
﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً.. ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ] يعني : مطرودا مبعدا من الجفوة ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ].
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أنه ﴿ الحق.. ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٣٠ ) ﴾ [ لقمان ] العلي الكبير يقولها الله تعالى، ويقولها رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقولها نحن ؛ لأن الله قالها ؛ ولأن النبي الصادق أخبرنا بها، لكن المسألة أن يشهد بها من كفر بالله.
لذلك يعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به، كما ورد في الآيات السابقة :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ].
فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول : الحمد لله، لأنها شهادة جاءت ممن كفر بالله وكذب رسوله وحاربه، وأيضا تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبى على منهج الله وكذّب رسوله حين يصيبه مرض مثلا، أيستطيع أن يتأبى على مرض كما تأبى على الله ؟ هذا الذي ألف التمرد على الله : أيتمرد إن جاءه الموت.
واقرأ قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ.. ( ٦٧ ) ﴾ [ الإسراء ] أي : لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله، لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، بالله أرأيتم إنسانا أحاطت به الأمواج، وأشرف على الهلاك يدعو يقول : يا هبل ؟ إذن : الله هو العلي وهو الكبير، وغيره شرك وباطل.
وسبق أن ضربنا مثلا للإنسان وأنه لا يغش نفسه، ولا يخدعها خاصة إذا نزلت به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما كانوا يطلقون عليه، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة الصحية، ويتهمه بعدم الخبرة، لكن حين مرض ولده وأحسّ بالخطر أخذ الولد وتسلل به في ظلام الليل، وذهب إلى الطبيب.
فلله وحده العلو، ولله وحده الكبرياء، بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتلجئه إلى ضرورة لا مخرج منها لا يقول إلا : يا الله يا رب.
فالله هو العلي بشهادة من كفر به، ثم أردف صفة ( العلي ) بصفة ( الكبير ) ؛ لأن العلي يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو، لكن الحق سبحانه هو العلي، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ٣١ ) ﴾.
بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض الآيات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أن يعطينا نموذجا آخر للآيات التي بين أيدينا في الأرض فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] ألم تر : يعني ألم تعلم ﴿ أَنَّ الْفُلْكَ.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : السفن.
وربما أن سيدنا رسول الله لم ير هذه السفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السفن العملاقة التي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله سبحانه :﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( ٢٤ ) ﴾ [ الرحمن ].
ومتى وجدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكونة من عدة أدوار ؟ لم توجد إلا حديثا، إذن : فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( ٣٣ ) ﴾ [ الزخرف ].
ومن يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه الآيات التي تثبت صدق القرآن وصدق رسول الله في البلاغ عن الله.
وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ الإسلامي، وقرأت في سيرة رسول الله أن المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله هؤلاء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل الله عليّ :﴿ والله يعصمك من الناس.. ( ٦٧ ) ﴾ [ المائدة ] فوقفت المرأة عند هذه الآية وقالت : والله لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعا ما خدع نفسه في حياته.
وقلنا في معنى ﴿ أَلَمْ تَرَ.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] أنها بمعنى ألم تعلم، لأن إعلام الله لك أوثق من رؤية عينيك.
وكلمة ﴿ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] الجري : حركة تودع فيها مكانا إلى مكان آخر، هذا التوديع إما أن تمشي الهوينا أو تجري. لكن ما هي نعمة الله في جريها ؟ أولا كانت أول سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدسر، وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيج من الماء بحجم وزن السفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلا فإنها تغطس بمقدار هذا الثقل، حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاج عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.
وهذه الفكرة هي التي تستخدم في الغواصات، فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء. والآن نرى السفن العملاقة والتي تصنع من الحديد، والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء السائل اللين ويجري به، ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد، حتى وإن كانت تسير عكس جريان الماء، ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه الريح، ويسمون هذه الحركة ( تسفيح ).
لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن :﴿ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ الشورى ].
وكأن الحق سبحانه يريد أن يبين لنا أن أقل الأشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الأشياء كثافة، وانظر إن شئت إلى جرارات النقل الثقيل، هذه الجرارات العملاقة التي تحمل عدة أطنان من الحديد مثلا على أي شيء تسير وتتحرك ؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والذي يأخذ قوته من هذا الضغط، بحيث إذا زدت في ضغط هذه العجلات تقوى على نفسها فتنفجر.
وقوله تعالى :﴿ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] أي : من عجائبه في كونه خاصة في البحار، ففي الماضي كنا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلا السمك الذي يصطاده الصيادون، أما الآن ومع تطور علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر مما نراه على اليابسة.
ثم يقول تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] قوله تعالى :﴿ لِّكُلِّ صَبَّار.. ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] توحي بأن آيات الله في كونه كثيرة، لكن على الإنسان أن يبذل جهدا في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبارا على مشقة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله فقد وجب علينا الشكر ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ٣١ ) ﴾ [ لقمان ] والشكر لا يكون إلا عن نعمة جدّت لم تكن موجودة من قبل.
إذن : الحق تبارك وتعالى يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبال بحث وتأمل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ( ١٠٥ ) ﴾ [ يوسف ].
وتقديم صبّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يؤتى نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ( ٣٢ ) ﴾.
معنى ﴿ غَشِيَهُم مَّوْجٌ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ لقمان ] يعني : غطاهم واحتواهم، لذلك قال ﴿ كَالظُّلَلِ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ لقمان ] جمع ظلة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله،
ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قوله الله تعالى :﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ.. ( ١٧١ ) ﴾ [ الأعراف ].
وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنت في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتما ستطمسك، حتى إذا ما وصلت إليك شاهدت فيها مظهرا من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
فالموج إذن شيء مخيف، لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك ﴿ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ لقمان ] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقل أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإن كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لا بدّ أن يخلصوا لله، لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.
فإن قلت : ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام ؟
قلنا : إن التدين طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صلبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ الأعراف ] فشهدوا.
فكل واحد منا فيه ذرة شهدت هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أن يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أن يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه عز وجل فيكون كمن قال الله فيه :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ( ١٢٤ ) ﴾ [ طه ].
النبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا هذه المسألة بقوله :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه )١.
فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدت أن الله هو الرب، لكن إذا تضببت فلا بدّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.
إذن : التدين طبع في النفس، لكن التدين الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أن يرضي نفسه بأن يكون متدينا، لكن يريد أن يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل ؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام.
لكن نقول لمن عبد الأصنام : لا بدّ أن يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربت من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لا بدّ أن تلجئك الأحداث إلى أن تلوذ به، لذلك يقولون في المثل ( اللي متحبش تشوف وجهه، يحوجك الزمن لقفاه ).
فأنتم أعرضتم عن الله وكفرتم به، فلما نزلت بكم الأحداث وأحاطت بكم الأمواج صرتم أرانب، فلماذا الآن تلجئون إلى الله ؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبركم حتى على الله ؟
ثم يقول تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ.. ( ٣٢ ) ﴾ [ لقمان ] وكان ينبغي عليهم بعد أن اعترفوا أن الله هو الإله الحق الذي يلجأ إليه ويستغاث به، وبعد أن نجاهم وأسعفهم، كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به، وأن يطيعوه، وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي زلزلتهم، إلا أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والإعراض عن الله، وطاوع نفسه وشهوته.
هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للابتلاء والتمحيص، فإنه ينتكس ولا يرعوى على خلاف المؤمن، فإنه إن تعرض لمثل هذا الاختبار يزداد إيمانا ويقينا.
والمقتصد هو البين بين، تأخذه الأحداث والخطوب، فترده إلى الله حال الكرب والشدة، لكنه إذا كشف عنه تردد وضعفت عنده هذه الروح، بدليل أن الله تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعا آخر منهم غير مقتصد ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ( ٣٢ ) ﴾ [ لقمان ]
فمنهم من بهت كفره حينما تنبه فيه الوازع الإيماني، لكنه لما نجا غرته الدنيا من جديد، ومنهم الجاحد الختّار أي : الغادر.
ولك أن تلحظ المقابلة بين صبّار وختّار، وبين شكور وكفور.
١ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٧٥)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٦٥٨) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" الحديث..
ثم يخاطب الحق سبحانه الناس، فيقول :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ٣٣ ) ﴾.
خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أن يسعدهم جميعا في الآخرة، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الأرض : يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم، وقالت البحار : نغرقه.. إلخ، فكان الرد من الخالق عز وجل " دعوني وخلقي، فلو خلقتموهم لرحمتموهم، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
وقوله تعالى :﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] التقوى أن تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك وتحميك ؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى ﴿ واتقوا النار.. ( ١٣١ ) ﴾ [ آل عمران ] وهما بمعنى واحد، لأن معنى اتقوا الله : اجعلوا بينكم وبين صفات جلال ربكم وانتقامه وجبروته وقاية، وكذلك في : اتقوا النار.
فالخطاب هنا عام للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، فالله تعالى يريد أن يدخلهم جميعا حيز الإيمان والطاعة، ويريد أن يعطيهم ويمن عليهم ويعينهم، وكأنه سبحانه يقول لهم : لا أريد لكم نعم الدنيا فحسب، إنما أريد أن أعطيكم أيضا نعيم الآخرة.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كان رحيما حتى بالكافرين والمعاندين له، كما ذكرنا في قصة اليهودي الذي اتهموه ظلما بسرقة درع أحد المسلمين، وقد عزّ على المسلمين أن يرمى واحد منهم بالسرقة، فجعلوها عند اليهودي، وعرضوا الأمر على سيدنا رسول الله، فأداره في رأسه : كيف يتصرف فيه ؟
فأسعفه الله، وأنزل عليه :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ.. ( ١٠٥ ) ﴾ [ النساء ] لا بين المؤمنين فحسب ﴿ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ( ١٠٥ ) ﴾ [ النساء ] أي : لا تخاصم لصالح الخائن، وإن كان مسلما، فالناس جميعا سواء أمام مسئولية الإيمان.
وفرق بين : اتقوا ربكم واتقوا الله، لأن عطاء الربوبية غير عطاء الألوهية، عطاء الربوبية إيجاد من عدم، وإمداد من عدم، وتربية للمؤمن وللكافر، أما عطاء الألوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ للأوامر، فاختار هنا الرب الذي خلق وربّى، وكأنه سبحانه يقول للناس جميعا : من الواجب عليكم أن تجعلوا تقوى الله شكرا لنعمته عليكم، وإن كنتم قد كفرتم بها.
ولا تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا، إنما ﴿ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] أي : خافوا يوما ترجعون فيه إلى ربكم، وكلمة ( يوم ) تأتي ظرفا، وتأتي اسما متصرفا، فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقول : خفت شدة الملاحظة يوم الامتحان، فالخوف من الحدث، لا من اليوم نفسه، أما لو قلت خفت يوم الامتحان، فالخوف من كل شيء في هذا اليوم، أي من اليوم نفسه.
فالمعنى هنا ﴿ وَاخْشَوْا يَوْمًا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] لأن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء فيه، وفي هذا اليوم ﴿ لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] خصّ هنا الوالد والولد ؛ لأنه سبحانه نصح الجميع، ثم خصّ الوالدين في الوصية المعروفة ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ].
ثم ذكر حيثيات هذه الوصية وقال ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ.. ( ١٤ ) ﴾ [ لقمان ] فجعل لهما فضلا وميزة ومنزلة عند الله، حتى أصبحا مظنة النفع حتى يوم القيامة، فأراد سبحانه أن يبين لنا أن نفع الوالد لولده ينقطع في الآخرة، فكل منهما مشغول بنفسه، فلا ينفع الإنسان حتى أقرب الناس إليه.
وفي سورة البقرة :{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا.. ( ٤٨ ) [ البقرة ] أي : مطلق النفس، لا مجرد الوالد والولد، إنما عامة الناس لا ينفع أحد منهم أحدا منهم أيا كان.
والآية بهذا اللفظ وردت في موضعين : اتفقا في الصدر، واختلفا في العجز، وهي تتحدث عن نفسين : الأولى هي النفس الجازية أي : التي تتحمل الجزاء، والأخرى هي النفس المجزية التي تستحق العقوبة.
فالآية التي نظرت إلى النفس المجزى عنها، جاء عجزها ﴿ لا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ.. ( ١٢٣ ) ﴾ [ البقرة ].
ومعنى : عدل أي فدية، فالنفس المجزى عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن تعرض الفدية، فلا يقبل منها فدية، لكنها لا تيأس، بل تبحث عمن يشفع لها من أصحاب الجاه والمنزلة يتوسط لها عند الله، وهذه أيضا لا تنفع.
أما النفس الجازية، فأول ما تعرض تعرض الشفاعة، فإن لم تقبل عرضت العدل والفدية، لذلك جاء عجز الآية الأخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل، إذن : ذيل الآية الأولى عائد على النفس المجزى عنها، وذيل الآية الثانية يعود على النفس الجازية.
وهنا﴿ لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] لأن الوالد مظنة الحنان على الولد، وحين يرى الوالد ولده يعذب يريد أن يفديه، فقدم هنا ( الوالد ) ثم قال :﴿ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] فقدم المولود، وكان مقتضى الكلام أن نقول : ولا يجزى ولد عن والده، فلماذا عدل عن ولد إلى مولود ؟
الكلام هنا كلام رب، وفرق كبير بين ولد ومولود، لأن المسلمين الأوائل كان لهم آباء ماتوا على الكفر، فظنوا أن وصية الله بالوالدين تبيح لهم أن يجزوا عنهم يوم القيامة، فأنزل الله هذه الآية تبين لهؤلاء ألا يطمعوا في أن يدفعوا شيئا عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر.
لذلك لم يقل هنا ولد، إنما مولود ؛ لأن المولود هو المباشر للوالد، والولد يقال للجد وإن علا فهو ولده، والجد وإن علا والده، فإذا كانت الشفاعة لا تقبل من المولود لوالده المباشر له، فهي من باب أولى لا تقبل للجد، لذلك عدل عن ولد إلى مولود، فالمسألة كلام رب حكيم، لا مجرد رصف كلام.
لكن، متى يجزي الوالد عن الولد، والمولود عن والده ؟ قالوا : الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج منه العطف والرعاية، فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أن يشفع له ويدفع عنه الألم، أما الولد فلا يدفع عن أبيه الألم لأنه كبير، إنما يدفع الإهانة، فالوالد يشفع في الإيلام، والولد يشفع في الإهانة، فلكل منهما مقام.
ثم يقول سبحانه :﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] عرفنا أن الوعد : إخبار بشيء يسر لم يأت وقته، وضده الوعيد، وهو إخبار بشيء يؤذي لم يأت وقته بعد، لكن ما فائدة كل منهما ؟
فائدة الوعد أن تستعد له، وتأخذ في أسبابه، فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يحقق لك هذا الوعد كأن تعد ولدك مثلا بجائزة إن نجح في الامتحان، وعلى العكس من ذلك الوعيد، لأنه يخوفك من عاقبتك فتحترس، وتأخذ بأسباب النجاة منه.
إذن : الوعد حق، وكذلك الوعيد حق، لكنه خصّ الوعد لأنه يجلب للنفس ما تحب، أما الوعيد فقد يمنعها من شهوة تحبها، ووضحنا هذه المسألة بأن الحق سبحانه وتعالى يتكلم في النعم أن منها نعم إيجاب، ونعم سلب.
واقرأ في ذلك قول ربك :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( ٣٥ ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ٣٦ ) ﴾ [ الرحمن ].
فإذا كانت الجنة وما فيها نعما تستحق الشكر، ويمتن الله بها علينا، فأي نعمة في الشواظ والنار والعذاب ؟ قالوا : هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه، وتنجو منه قبل أن تقع فيه، نعمة لأن الله لم يأخذنا على غرة، ونبهنا إلى الخطر قبل أن نقع فيه.
ووعد الله حق، لأنه وعد ممن يملك الوفاء بما وعد، وإنفاذ ما وعد به، أما غير الله سبحانه فلا يملك أسباب الوفاء، فوعده لا يوصف بأنه حق، لذلك قال سبحانه في سورة الكهف :﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( ٢٣ ) إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الكهف ].
فأنت وإن كنت صادقا فيما وعدت به إلا أنك لا تضمن البقاء إلى أن تفي بما وعدت، فإن بقيت فقد تتغير الأسباب فتحول بينك وبين الوفاء، وأنت لا تملك سببا واحدا من هذه الأسباب.
إذن : تأدب ودع الأمر لمن يملك كل أسباب إنفاذ الوعد، وقل سأفعل كذا إن شاء الله، حتى إذا لم تنفذ يكون لك حجة فتقول : أردت لكن الله لم يشأ.
وكأن ربنا عز وجل يزيد أن يداري كذبنا ويستره علينا، يريد ألاّ يفضحنا به، وأخرجنا من هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه، وكأن قدر الله في الأشياء صيانة لعبيده من عبيده. لذلك كثيرا ما نقول حينما لا نستطيع الوفاء : هذا قدر الله، وماذا أفعل أنا، والأمر لا يقضى في الأرض حتى يقضى في السماء.
وما دمنا قد آمنا بقدر الله والحكمة منه، فلا تغضب مني إن لم أف لك وأنت كذلك، والعاقل يعلم تماما حين يقضي أمرا لأحد أن قضاء الأمر جاء معه لا به، فالقدر قضاء، ووافق قضاؤه قضاء الله للأمر، فكأن الله كرّمه بأن يقضي الأمر على يديه، لذلك قلنا : إن الطبيب المؤمن يقول : جاء الشفاء معي لا بي، وأن الطبيب يعالج والله يشفي. إذن : لا يوصف الوعد بأنه حق إلا وعد الله عز وجل.
وما دام وعد الله حقا فعليك أن تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعدك عليه بشر، وألا تغرك الحياة ﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] أي : بزينتها وزخرفها، فهي سراب خادع ليس وراءه شيء، واقرأ قول الله تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ].
والحق سبحانه يضرب لنا مثلا للدنيا، لا لينفرنا منها، وإنما لنحتاط في الإقبال عليها، وإلا فحب الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للآخرة ومضمار للتسابق إليها.
يقول تعالى في هذا المثل :﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الكهف ] فسماها دنيا، وليس هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا ﴿ كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الكهف ] نعم، كذلك الدنيا تزدهي، لكن سرعان ما تزول، تبدأ ابتداء مقنعا مغريا، وتنتهي انتهاء مؤسفا.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( ٣٣ ) ﴾ [ لقمان ] والغرور بالفتح الذي يغرك في شيء ما، والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقول :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فمعنى غرّك : أدخل فيك الغرور، بحيث تقبل على الأشياء، وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى ضوئه.
والغرور بالفتح هو الشيطان، وله في غروره طرق وألوان، فغرور للطائعين وغرور للعاصين، فلكل منهما مدخل خاص، فيغر العاصي بالمعصية، ويوسوس له بأن الله غفور رحيم، وقد عصا أبوه فغفر الله له. لذلك أحد الصالحين سمع قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا
ثم يقول الحق سبحانه مختتما سورة لقمان :
﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ٣٤ ) ﴾.
بعد أن حذرنا ربنا تبارك وتعالى من الغرور في الحياة الدنيا يذكرنا أن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وقيامة وساعة ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ] والساعة لا تعني القيامة فحسب، إنما لكل منا ساعته، لأنه من مات فقد قامت قيامته.
لماذا ؟ لأنه انقطع عمله، ولا يمكنه تدارك ما فاته من الإيمان أو العمل الصالح، فكأن قيامته قامت بموته.
وقلنا : إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها، وإن كان عمر الدنيا على الحقيقة من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، لكن ماذا استفدت أنت من عمر غيرك ؟
إذن : لا ينبغي أن تقول : إن الدنيا طويلة، لأن عمرك فيها قصير، ثم إنك لا تعلمه، ولا تستطيع أن تتحكم فيه، وكما أبهم الله ساعة أبهم الأجل ؛ لأن في إبهامه أنفع البيان، فلما أبهم الله الأجل جعل النفس البشرية تترقبه في كل لحظة، فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت.
وهكذا أشاع الموت في كل الزمن، وما دام الأمر كذلك فلا بدّ أن ينتبه الإنسان ويخشى أن يموت وهو على معصية، فالإبهام هنا هو عين البيان.
وقلنا : إن الذين ماتوا من لدن آدم عليه السلام يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة، فإذا ما قامت القيامة ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( ٤٦ ) ﴾[ النازعاتِ ] لماذا ؟ قالوا : لأن قياس الزمن إنما يتأتى بالأحداث، فحيث لا توجد أحداث لا يوجد زمن.
ومثّلنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ومع ذلك لما سأل بعضهم بعضا ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... ( ١٩ ) ﴾ [ الكهف ].
لماذا ؟ لأن النوم يخلو من الأحداث، فلا يشعر النائم فيه بالزمن، كما أنهم لما رأى بعضهم بعضا بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة، ولم تتغير هيئته، فأقصى ما يمكن تصوره أن يقول : لبثنا يوما أو بعض يوم.
وكذلك الحال في قصة العزير الذي قال الله عنه :﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ] ؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها الإنسان.
ثم أخبره ربه ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ] ويريد الحق سبحانه أن يدلل على صدق الرجل في قوله يوما أو بعض يوم، وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام، فيقول سبحانه :﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ] أي : لم يتغير.
وهذا دليل على صدقه في يوم أو بعض يوم ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وهذا دليل على صدق الحق تبارك وتعالى في قوله ﴿ مِائَةَ عَامٍ.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ] فكلا القولين صادق، لأن الله تعالى هو القابض الباسط، يقبض الزمن في حق قوم، ويبسطه في حق آخرين.
وهذه الآية جمعت خمسة أمور استأثر الله تعالى بعلمها :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ].
فهل هذه هي كل الغيبيات في الكون ؟ نقول : في الكون غيبيات كثيرة لا نعرفها، فلا بدّ أن هذه الخمس هي المسئول عنها، وجاء الجواب على قدر السؤال، بالله لو هبّت الريح، وحملت معها بعض الرمال، أنعرف أين ذهبت هذه الذرات ؟ وفي أي ناحية ؟ أنعرف ورق الشجر كم تساقط منها ؟
هذه كلها غيبيات لا يعلمها إلا الله، أما نحن فلا نعلم حتى عدد النعم التي أنعم الله بها علينا ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا.. ( ٣٤ ) ﴾ [ إبراهيم ].
إذن : فهذه نماذج لما استأثر الله بعلمه، لأن الله تعالى قال :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ].
فلله تعالى في كونه أسرار لا تحصى، أجّل الله ميلادها ؛ لنعلم أننا في كل يوم نجهل ما عند الله، وكل يوم يطلع علينا العلماء والباحثون بجديد من أسرار الكون هذا ونحن لا نزال في الدنيا، فما بالنا في الآخرة، وفي الجنة إن شاء الله ؟
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال :( فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).
والإنسان يكتسب المعلومات، إما برؤية العين، أو بسماع الأذن، ومعلوم أن رقعة السمع أوسع من البصر، لأنك لا ترى إلا ما تراه عيناك، لكنك تسمع لمرائي الآخرين، ثم أنت تسمع وترى موجودا، لكن هناك ما لا يخطر على قلب بشر يعني : أشياء غيبية لم تطرأ على بال أحد، وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٧ ) ﴾ [ السجدة ].
وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه، أن رجلا من محارب، اسمه الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله : أريد أن أعرف متى الساعة، وقد بذرت بذري، وأنتظر المطر فمتى ينزل ؟ وامرأتي حامل، وأريد أن تلد ذكرا، وقد أعددت لليوم عدته، فماذا أعد لغد ؟ وقد عرفت موقع حياتي، فكيف أعرف موقع مماتي ؟
هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند الله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ].
وعجيب أن نرى من خلق الله من يحاول أن يستدرك على مقولة الله في هذه الغيبيات الخمس، كالذين حاولوا أن يتنبأوا بموعد قيام الساعة، وقد كذبوا جميعا، ولو قدّر لهم الإيمان بالله، والعلم بما قاله الله في قيام الساعة ما تجرأ منهم أحد على هذه المسألة.
وقلنا : إن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائما، وفي كل وقت، حتى الذين لا يؤمنون بها ويشكون فيها، وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها، واستعدوا لأهوالها، كما أخفى الله عن الإنسان ساعة موته ومكان أجله، وجعل الموت يدور على العباد على غير قاعدة.
فمنهم من يموت بعد دقائق من مولده، ومنهم من يعمر مئات السنين، كما أنه سبحانه لم يجعل للموت مقدمات من مرض أو غيره، فكم من مريض يعافى، وصحيح يموت، كما يقولون : كيف مريضكم ؟ قال : سليمنا مات، وصدق القائل :
فلا تحسب السقم كأس الممات
وإن كان سقما شديد الأثر
فرب عليل تراه استفاق
ورب سليم تراه استتر
كذلك الموت لا يرتبط بالسن :
كم بودرت غادة كعاب وغودرت أمها العجوز
يجوز أن تبطئ المنايا والخلد في الدهر لا يجوز
إذن : أخفى الله القيامة وأخفى الموت ؛ لنظل على ذكر له نتوقعه في كل لحظة، فنعمل له، ولنتوقع دائما أننا سنلقى الله، فنعد للأمر عدته، لأن من مات فقد قامت قيامته، لأنه انقطع عمله، ففي إبهام موعد القيامة وساعة الموت عين البيان لكل منهما، فالإبهام أشاعه في كل وقت.
وقوله :﴿ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ] وهذا أيضا، ومع تقدم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة.. إلخ، وربما صحّت حساباتهم، لكن فاتهم أن لله أقدارا في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيرا ما نفاجأ بتغير درجة الحرارة أو اتجاه الريح، فتنقلب كل حساباتنا.
لذلك من عجائب الخلق أنك كلما اقتربت من الشمس وهي مصدر الحرارة تقل درجة الحرارة، وكلما ابتعدت عنها زادت درجة الحرارة، إذن : المسألة ليست روتينية، إنما هي قدرة لله سبحانه، والله يجمع لك الأسباب ليثبت لك طلاقه قدرته التي تقول للشيء : كن فيكون.
ألسنا نؤمر في الحج بأن نقبل حجرا ونرمي آخر، وكل منهما إيمان وطاعة، هذا يباس وهذا يداس، هذا يقبل وهذا يقنبل، لماذا ؟ لأن الله تعالى يريد منا الالتزام بأمره، وانصياع النفس المؤمنة للرب الذي أحيا، والرب الذي كلف.
وقوله تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ] هذه أيضا من مفاتح الغيب، وستظل كذلك مهما تقدمت العلة، ومهما ادّعى الخلق أنهم يعلمون ما في الأرحام، والذي أحدث إشكالا في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه أذكر أم أنثى، فهذه الخطوة العلمية أحدثت بلبلة عند بعض الناس، فتوهموا أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام، وبناء عليه ظنوا أن هذه المسألة لم تعد من مفاتح الغيب التي استأثر الله بها.
ونقول : أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوّن ووضحت معالمه، واكتملت خلقته، أما الخالق عز وجل فيعلم ما في الأرحام قبل أن تحمل الأم به، ألم يبشر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه ؟ ونحن لا نعلم هذا الغيب بذواتنا، إنما بما علّمنا الله، فالطبيب الذي يخبرك بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنما معلم غيب.
والله تبارك وتعالى يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات، ومن ذلك ما كان من الصديق أبي بكر رضي الله عنه حين أوصى ابنته عائشة رضي الله عنها قبل أن يموت وقال لها : يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك، فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الإخوة سوى محمد وعبد الرحمن، ومن الأخوات أسماء، لكن كان الصديق في هذا الوقت متزوجا من بنت خارجة، وكانت حاملا وبعد موته ولدت له بنتا، فهل نقول : إن الصديق كان يعلم الغيب ؟ لا، إنما أعلم من الله. إذن : الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.
ثم إن الطبيب يعلم الآن نوع الجنين، إما من صورة الأشعة أو التحاليل التي يجريها على عينة من الجنين، وهذا لا يعتبر علما للغيب، و( الشطارة ) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها : أنت إن شاء الله ستلدين كذا أو كذا، وهذا لا يحدث أبدا.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ] الإنسان يعمل، إما لدنياه، وإما لأخراه، فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش، وإن كان من مسألة التكليف، فالنفس إما تعمل الخير أو الشر، الحسنة أو السيئة، والإنسان في حياته عرضة للتغير.
لذلك يقال في الأثر : " يا ابن آدم، لا تسألني عن رزق غد، كما لم أطالبك بعمل غد ".
وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. ( ٣٤ ) ﴾ [ لقمان ] وهذه المسألة حدث فيها إشكال ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأنصار أنه سيموت بالمدينة حي
Icon