ﰡ
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله ﷺ ما كنا ندعوه إلاّ زيد بن محمد حتى نزل القرآن :﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجه الدعي، وتزوج رسول الله ﷺ بزينب بن جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عزَّ وجلَّ :
وقد جاء في الحديث :« ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلاّ كفر » ؛ وهذا تشديد وتهديد، ووعيد أكيد، في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى :﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، وفي الحديث :« إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطا فله أجر »، وفي الحديث الآخر :« إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه »، وقال تبارك وتعالى ههنا :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ أي إنما الإثم على من تعمد الباطل، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] الآية، وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، ثم قال : قد كنا نقرأ :[ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم ]، وفي الحديث الآخر :« ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ».
وقوله تعالى :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله ﴾ أي في حكم الله ﴿ مِنَ المؤمنين والمهاجرين ﴾ أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله ﷺ، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : أنزل الله عزَّ وجلَّ فينا خاصة معشر قريش والأنصار :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ ﴾، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه ( خارجة بن زيد )، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق ( ابن سعد الزرقي ) ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي الله عنه وواخيت أنا ( كعب بن مالك ) فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذٍ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش، والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية، وقوله تعالى :﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً ﴾ أي هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرغب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان إليّ فيجتمعون إليه فيقول : النجاء لما ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرغب، روى مسلم في « صحيحه » عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجل :
وأخرج الحاكم والبيهقي في « الدلائل » عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال :« ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله ﷺ، فقال جلساؤه : أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة لليهود أسفل منها نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي ﷺ ويقولون : أن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلاّ أذن له، ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله ﷺ رجلاً رجلاً، حتى أتى علي وما عليَّ جنة من العدو ولا من البرد إلاّ مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني ﷺ، وأنا جاث على ركتبي فقال :: من ذها؟ » فقلت : حذيفة، قال :« حذيفة؟ » فتقاصرت الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن اقوم فقمت، فقال :« إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم : قال : وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قراً قال : فخرجت فقال رسول الله ﷺ :» اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته «، قال : فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قراً في جوفي إلاّ خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً، قال : فلما وليت قال ﷺ :» يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني « قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويسمح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء الناء، فذكرت قول رسول الله ﷺ :» لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني «، قال : فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسم صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي ﷺ، فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين فقالوا : أخبر صابحك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله ﷺ وهو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأوما إلي رسول الله ﷺ بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملة، كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون »
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة | وفي الحرب أمثال النساء العوارك؟ |
قال مجاهد في قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ يعني عهده ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وقال الحسن :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ ﴾ يعني موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدلا تبديلاً، وقال بعضهم : نحبه نذره، وقوله تعالى :﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ أي ما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين
وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله ﷺ وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم ( سعد بن معاذ ) سيد الأوس رضي الله عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فعند ذلك استدعاه رسول الله ﷺ من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ :» قوموا إلى سيدكم « فقام إليه المسلمون، فانزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه سلم :» إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت « فقال رضي الله عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله وسلم :» نعم «، قال : نعلى من في هذه الخيمة؟ قال :» نعم «، قال : وعلى من هاهنا، وأشار إلى الجانب الذي في رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ :» نعم «، فقال رضي الله عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، وفقال له رسول الله ﷺ :» لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة «، ثم أمر رسول الله ﷺ بالأخاديد، فخدت في الأرض وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم »
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال :» أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله ﷺ، والناس ببابه جلوس، والنبي ﷺ جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي ﷺ جالس وحوله نساءه، وهو ﷺ ساكت، فقال عمر رضي الله عنه : لأكلمن النبي ﷺ لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، وقال :« هن حولي يسألنني النفقة »، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي ﷺ ما ليس عنده، فنهاهم رسول الله ﷺ فقلن : والله لا نسأل رسول الله ﷺ بعد هذا المجلس ما ليس عنده «
وقوله تعالى :﴿ وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين، ﴿ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ﴾، وهذا من باب عطف العام على الخاص، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ نص في دخول أزواج النبي ﷺ في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، روى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ نزلت في نساء النبي ﷺ خاصة، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن، فقد روى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب رضي الله عنه عن ابن عم له قال :
ورى مسلم في « صحيحه » عن يزيد بن حبان قال :« انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن سلمة إلى ( زيد بن أرقم ) رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال له الحصين : لقد لقيت يا زيداً خيراً كثيراً، رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا، فلا تكلفوا فيه، ثم قال : قام فينا رسول الله صلىلله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال :» أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستسمكوا به « فحث على كتاب الله عزَّ وجلَّ ورغب فيه، ثم قال :» وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي « فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال : ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال : نعم ». والذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه سلم داخلات في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله :﴿ واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة ﴾ أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله ﷺ في بيوتكن من الكتاب والسنّة، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، فإنه لم ينزل على رسول الله ﷺ الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث :
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال النساء للنبي ﷺ ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر والمؤمنات؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ﴾ دليل على أن الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى :﴿ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] وفي « الصحيحين » :« لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجمال المسلمين، فدل على أنه أخص منه. وقوله تعالى :﴿ والقانتين والقانتات ﴾ القنوت هو الطاعة في سكون، قال تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً ﴾ [ الزمر : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ البقرة : ١١٦، الروم : ٢٦ ] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو ﴿ الإيمان ﴾ ثم القنوت ناشىء عنهما ﴿ والصادقين والصادقات ﴾ هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة، وهو علامة على الإيمان كما أن الكذب أمارة على النفاق؛ ومن صدق نجا، « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر » الحديث ﴿ والصابرين والصابرات ﴾ هذه سجية الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه في أول وهلة ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها ﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾ الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث :« اعبد الله كأن تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ﴿ والمتصدقين والمتصدقات ﴾ الصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، وقد ثبت في « الصحيحين » :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله فذكر منهم ورجل تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ». وفي الحديث الآخر :« والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار » والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً.
﴿ والصائمين والصائمات ﴾ والصوم زكاة البدن، يزكيه ويطهره وينقبه من الأخلاط الرديئة، كما قال سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى :﴿ والصائمين والصائمات ﴾ ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة، كما قال رسول الله ﷺ :« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »
وروى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لو كتم محمد ﷺ شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ الوطر : هو الحاجة والأرب، أي لما فزع منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه الله عزَّ وجلَّ، بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، عن أنس رضي الله عنه قال :« لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة :» اذهب فاذكرها عليَّ « فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول : إن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر ربي عزَّ وجلَّ، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله ﷺ، فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله ﷺ وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس ويبقى رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل ﷺ يتتبع حجر نسائه يسلم عليهم ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به ﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] الآية كلها »
وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ. روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ قال :« مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون : لم تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة » حديث آخر : روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :
وعن عبد الله بن بشر قال :« جاء أعرابيان إلى رسول الله ﷺ، فقال أحدهما : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال ﷺ :» من طال عمره وحسن عمله «، وقال الآخر : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به، قال ﷺ :» لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى « » وفي الحديث :« أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون »، وقال رسول الله ﷺ :« ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة »، وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً ﴾ إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذب غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال :﴿ فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عزَّ وجلَّ :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثرة جداً.
وقوله تعالى :﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ أي عند الصباح والمساء، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ هذا تهييج إلى الذكر، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه سلم :« يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » والصلاة من الله تعالى : ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، وقال غيره : الصلاة من الله عزَّ وجلَّ : الرحمة، وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى :﴿ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾
قال ابن عباس : لما نزلت ﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن، فقال :
قال ابن جرير عن زياد عن رجل من الأنصار قال، قلت لأبي بن كعب، أرأيت لو أن أزواج النبي ﷺ توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال : وما يمنعه من ذلك؟ قال، قلت : قول الله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾ فقال : إنما أحل الله له ضرباً من النساء، فقال تعالى :﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ إلى قوله ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] ثم قيل له :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾، وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول الله ﷺ عن أصناف النساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾، فأحل الله فتياتكم المؤمنات، وامرأة إن وهبت نفسها للنبي، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [ المائدة : ٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] إلى قوله ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. وقال مجاهد :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾ أي من بعد ما سمى لك، لا مسلمة ولا يهودية، ولا نصرانية، ولا كافرة، وقال عكرمة ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ﴾، أي التي سمى الله، واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم « عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله ﷺ ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله ﷺ وأقرئه منى السلام وأخبره أن هذا منا له قليل، قال أنس : والناس يومئذٍ في جَهْد فجئت به، فقلت : يا رسول الله بَعثَتْ بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال :» ضعه « فوضعه في ناحية البيت ثم قال :» اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً « فسمى رجالاً كثيراً، وقال :» ومن لقيت من المسلمين «، فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت : يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال : كانو زهاء ثلاثمائة، قال أنس : فقال لي رسول الله ﷺ :» جىءْ به « فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا، وقال :» ما شاء الله « ثم قال :» ليتحلق عشرة عشرة وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه « فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله ﷺ :» ارفعه « قال : فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت، قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ﷺ وزوج رسول الله ﷺ التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله ﷺ وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول الله ﷺ على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا، وجاء رسول الله ﷺ حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله ﷺ في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي ﴾ الآيات، قال أنس : فقرأهن عليَّ قبل الناس فأنا أحدث الناس بهن عهداً ».
حديث آخر : قال مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال :» أتانا رسول الله ﷺ ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعيد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال : فسكت رسول الله ﷺ حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله ﷺ :« قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم » «.
( فضائل الصلاة على النبي ﷺ )
روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال :« أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة » حديث آخر : وروى الترمذي عن أبي بن كعب قال :« كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال :» يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاء الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه « قال أبي : قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال :» ما شئت « قلت الربع، قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت فالنصف قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : فالثلثين، قال :» ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : أجعل لك صلاتي كلها، قال :» إذن تُكفى همك ويغفر لك ذنبك « » طريق أخرى : روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال :« قام رسول الله ﷺ فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست فرفع رأسه فقال :» من هذا قلت : عبد الرحمن، قال :« ما شأنك؟ » قلت : يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكن الله قبض روحك فيها، فقال :« إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عزَّ وجلَّ يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت فسجدت لله عزَّ وجلَّ شكراً » « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه :» أن رسول الله ﷺ جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك، فقال :« إنه أتاني الملك فقال : يا محمد أما يرضيك أن ربك عزَّ وجلَّ يقول : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلاّ صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلاّ سلمت عليه عشراً قال : بلى » «
حديث آخر : قال الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :» رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة « وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي ﷺ كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب أخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، بل تستجب، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :
فصل
وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث : اللهم صلي على محمد وآله وأزواجه وذريته، فهذا جائز بالإجماع، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم، فقال قائلون : يجوز ذلك، واحتجوا بقول الله تعالى :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ]، وبقوله :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ]، وبقوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] الآية. وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال :« كان رسول الله صلى اليه عليه سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال :» اللهم صلِّ عليهم « فأتاه أبي بصدقته فقال :» اللهم صلى على آل أبي أوفى « »، وقال الجمهور من العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة، لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء، إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه، أو قال علي صلى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحاً، كما لا يقال : قال محمد عزَّ وجلَّ، وإن كان عزيزاً جليلاً، لأن هذا من شعار ذكر الله عزَّ وجلَّ، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعاراً لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته، وهذا مسلك حسن. وأما السلام، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال : علي عليه السلام، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال : سلام عليك وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه، انتهى ما ذكره.
( قلت ) : وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه، هذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين، قال عكرمة عن ابن عباس : لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي ﷺ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عَدْلَ الصلاة على النبي ﷺ، فإذا جاءك كتابي هذا، فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.
تمشي النسور إليه وهي لاهية | مشي العذارى عليهن الجلابيب |
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة أهل الذمة وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى :﴿ وَنِسَآءِ المؤمنين ﴾، وقوله :﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء وكان مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهم، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد : يتجببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة، وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك، ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ﴿ والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا، ﴿ والمرجفون فِي المدينة ﴾ يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب، وهو كذب وافتراء، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق ﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ قال ابن عباس : أي لنسلطنك عليهم، وقال قتادة : لنحرشنك إليهم، وقال السدي : لنعلمنك بهم، ﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ ﴾ أي في المدينة ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ ﴾ حال منهم في مدة أقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين ﴿ أَيْنَمَا ثقفوا ﴾ أي وجدوا، ﴿ أُخِذُواْ ﴾ لذلتهم وقلتهم، ﴿ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾. ثم قال تعالى :﴿ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ﴾ أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم، ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ أي وسنّة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.