تفسير سورة الأحزاب

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الأحزاب
آياتها ثلاث وسبعون وهي مدنية
قال أبي بن كعب لزركم تعدون سورة الأحزاب ؟ قال ثلاثا وسبعين آية قال فوالذي يحلف به أبي إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم.

أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة ابن ربيعة دعووا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطرا من أموالهم وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فأنزل الله تعالى :
﴿ يا أيها النبي اتق الله ﴾ الآية ناده بالنبي ولم يقل يا محمد وأمره بالتقوى تعظيما وتفخيما لشأن التقوى وقال البغوي نزلت الآية في أبي سفيان بن الحرب وعكرمة ابن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن أبي سعد وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ( وعنده عمر بن الخطاب ) ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر يا رسول الله أئذن لي في قتلهم فقال إني قد أعطيتهم الأمان فقال أخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوهم من المدينة فأنزل الله تعالى هذه الآية : قيل الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة وقال الضحاك معناه إتق ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم للأمر بالثبات عليه ليكون مانعا عما نهى عنه بقوله ﴿ ولا تطع الكافرين ﴾ من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور ﴿ والمنافقين ﴾ من أهل المدينة عبد الله ابن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق ﴿ إن الله كان عليما ﴾ بخلقه ومصالحهم ومفاسدهم ﴿ حكيما ﴾ لا يحكم إلا على وفق الحكمة.
﴿ واتبع ما يوحى إليك من ربك ﴾ من التوحيد والإخلاص لله هذه الجملة بمنزلة التأكيد للتقوى وعدم إطاعة الكفار ﴿ إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ قرأ أبو عمرو بالياء في يعملون خبيرا يعملون بصيرا للغيبة والضمير عائد للكافرين والمنافقين يعني أن الله خبير بمكائدهم يجازيهم عليها وقرأ الباقون بالتاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن الأمر بالتقوى وإن كان بصيغة الواحد لكن المراد هو وأمته وعلى هذا الجملة تأكيد لامتثال الأمر طمعا في حسن الجزاء وخوفا عن قبحه.
﴿ وتوكل على الله ﴾ أي ثق به ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ موكولا إليه الأمور كلها تذييل وقال الزجاج عطف على توكل لفظه خبر ومعناه أمر أي اكتف بالله وكيلا تميز من النسبة أي أكتف بالله وكيلا يعني أكتف بوكالته وفي صيغة الأمر إشعار على التعليل للأمر بالتوكل والاكتفاء يعني من كان الله مع كمال علمه وقدرته ورحمته موكولا إليه أموره لا يحتاج إلى توكيل غيره فتوكيل أموره إلى غيره سفه والله أعلم.
﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين ﴾ من زائدة وهو في محل النصب على أنه مفعول أول لجعل ولرجل مفعوله الثاني ﴿ في جوفه ﴾ظرف لغوا وصفة لقلبين أعلم أن القلب معدن للروح الحيواني ومنبع للقوى بأسرها وذلك يمنع التعدد إذ لو كان لرجل قلبان فإما أن يفعل بكل واحد منهما شيئا واحدا من أفعال القلوب فالثاني فضله لا حاجة إليه وإما أن يفعل بكل واحد غير ما يفعل به الآخر وحينئذ يفضي إلى التناقض. ذكر البغوي وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن نجيح عن مجاهد إنها نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري كان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه إلا وله قلبان وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل مما عقل محمد فلما انهزم قريش يوم بدر وانهزم فيهم أبو معمر لقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى برجله فقال له يا أبا معمر ما حال الناس قال انهزموا قال مالك إحدى نعليك بيدك والأخرى برجلك قال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده وأخرج ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير مجاهد وعكرمة قالوا كان رجل يدعى ذا القلبين فنزلت فيه وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس مثله ومن طريق قتادة عن الحسن مثله وزاد وكان يقول نفسي يأمرني ونفسي ينهاني وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطر خطرة فقال المنافقون الذين معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية ١ وقال الزهري ومقاتل هذا مثل ضربه الله عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره يقول فكما لا يكون لرجل قلبان لامتناع اجتماعهما لا تكون امرأة المظاهر أما له لامتناع اجتماع النسبتين ولا يكون ولد غيره ولدا له لامتناع اجتماع النسبتين.
﴿ وما جعل أزواجكم اللائي ﴾ قرأ قالون وقنبل اّلآء هنا وفي المجادلة والطلاق بالهمزة من غير ياء وورش بياء مختلسة الكسرة خلفا من الهمزة وإذا أوقف صيرها ياء ساكنة والبزي وأبو عمرو بياء ساكنة بدلا من الهمزة في الحالين والباقون بالهمزة بعدها ياء في الحالين وحمزة إذا وقف جعل الهمزة بين بين على أصله ومن همز منهم ومن لم يهمز أشبع التمكين للألف في الحالين إلا ورشا فإن المد والقصر جائزان ﴿ تظهرون ﴾ قرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء من المفاعلة وحمزة والكسائي بفتح التاء والهاء وبالألف مخففا من التفاعل بحذف إحدى التائين وقرأ ابن عامر بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء وبالألف أيضا من التفاعل لكن بإدغام التاء بعد القلب بالظاء والإسكان في الظاء والباقون بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء بغير ألف من التفعل بإدغام التاء في الظاء على ما بينا ﴿ منهن ﴾ عدى التظاهر بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية فعدل في الشرع إلى الحرمة المنتهية بالكفارة ﴿ أمهاتكم ﴾ صورة المظاهر أن يقول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي وقد ذكرنا مسائل الظهار في سورة المجادلة قال البيضاوي ذكر الظهر في الظهار للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكرته تقارب ذكر الفرج أو
للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء ﴿ وما جعل ﴾ الله ﴿ أدعياءكم ﴾ أي الذين تبنيتهم جمع دعي على الشذوذ وكان قياسه دعوى كجرحى جمع جريح لأنه فعيل بمعنى مفعول كأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه كتقي وأتقياء وسخي وأسخياء وشقي وأشقياء ﴿ أبنائكم ﴾ فلا يثبت بالتبني شيء من أحكام البنوة من الإرث وحرمة النكاح وغير ذلك في الآية رد لما كانت العرب تقول من أن اللبيب لا ريب له قلبان والزوجة المظاهر منها تبين من زوجها وتحرم عليه كالأمر ودعي الرجل ابنه يرثه ويحرم بالتبني ما يحرم بالنسب وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخا بينه وبين حمزة بن عبد المطلب فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعدما طلقه زيد وكان امرأته وقال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عن ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ ذالكم ﴾ إشارة إلى كل ما ذكر ﴿ قولكم بأفواهكم ﴾ يعني لا حقيقة لها في الأعيان كقول الهاذي ﴿ والله يقول الحق ﴾ يعني ما له حقيقة في الأعيان تطابق قوله ﴿ وهو يهدي السبيل ﴾ أي يرشد إلى سبيل الحق روى الدارمي عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهل بن عمرو ( وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة ابن ربيعة ) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن سالما مولى أبي حذيفة يدخل علينا وإنا فضل وإنما نراه ولدا وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فأنزل الله تعالى :﴿ ادعوهم لآبائهم ﴾
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣١٩٩)..
﴿ ادعوهم لآبائهم ﴾ يعني أنسبوهم إلى آبائهم الذين خلقوا من نطفهم إفراد للمقصود من أقواله الحقة ﴿ هو ﴾ الدعاء لآبائهم ﴿ أقسط عند الله ﴾ تعليل لقوله ﴿ ادعوهم لآبائهم ﴾ وأقسط اسم تفضيل أريد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق وأخرج البخاري عن ابن عمر قال ما كنا نقول زيد بن الحارثة إلا زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴿ فإن لم تعلموا آبائهم ﴾ حتى تنسبوا إليه ﴿ فإخوانكم في الدين ومواليكم ﴾ أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم فقولوا هذا أخي في الدين ومولاي ﴿ وليس عليكم جناح ﴾ أي إثم ﴿ فيما أخطا تم به ﴾ أي فيما نسبتم المتبني إلى المتبني مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان ﴿ ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾ أي لكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو لكن ما تعمدت قلوبكم ففيه الجناح عن سعيد بن أبي وقاص وأبي بكرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " ١ رواه الشيخان في الصحيحين واحمد وأبو داود وابن ماجه وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة " رواه أبو داود وقال السيوطي صحيح ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ يعفوا عن المخطئ قال البيضاوي أعلم أن التبني لا عبرة له عندنا ( يعني عند الشافعي رحمه الله ) وعند أبي حنيفة رحمه الله يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن إلحاقه به وهذا سهو منه فإن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يعتق المملوك بقوله تبنيتك وجعلتك ابني وكذا لا يثبت النسب إذا قال لمجهول النسب تبنيتك وجعلتك ابني بل عنده إن السيد إذا قال لعبده هذا ابني يعتق عليه سواء كان يولد مثله لمثله أولا تصحيحا لكلامه وحملا له على المجاز كأنه قال هذا حر إطلاقا للسبب على المسبب إذ البنوة سبب للحرية لقوله صلى الله عليه وسلم :" من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه " ٢.
رواه أحمد وأصحاب السنن وقد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما إذا قال لعبده هو أكبر سنا منه هذا ابني فإنهما قالا لا يعتق بناء على خلافية في الأصول إن المجاز عنده خلف عن الحقيقة في التكلم دون الحكم فإذا صح التكلم بالحقيقة لم يصح التجوز خلفا ولم يعتق عليه ومن قال لمجهول النسب هذا ابني وهو بحيث يمكن ثبوت النسب منه يثبت نسبه لكونه مأخوذا بإقراره وإلتزام النسب خالص حقه ولأجل ذلك من قال لمجهول النسب هذا أخي لا يثبت نسبه من أبيه غير أنه إذا مات المقر بالنسب على الغير مصرا على إقراره ولم يكن له وارث آخر يرث المقر له منه لعدم المزاحم وهو مقدم على بيت المال عندنا لا على احد من الورثة وإن كانوا من ذوي الأرحام ولا علم الموصي له بجميع المال والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المعازي باب: غزوة الطائف (٤٣٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم (٦٣) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الحدود باب: من ادعى إلى غيريه أو تولى غير مواليه (٢٦١٠) وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب باب: في الرجل ينتمي على غير مواليه (٥١٠٤)..
٢ عند أصحاب السنن بلفظ "من ملك ذا رحم فهو حر" أخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام باب: ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (١٣٦٣) وأخرجه أبو داود في كتاب: الفتن باب: فيمن ملك ذا رحم محرم (٣٩٤٣)..
قال البغوي قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا فنزلت :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ يعني من بعضهم لبعض في نفوذ الحكم عليهم ووجوب طاعته عليهم فلا يجوز إطاعة الآباء والأمهات في مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه قال ابن عباس وعطاء يعني إذا دعاهم النبي إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعتهم للنبي أولى بهم من طاعتهم لأنفسهم وذلك لأنه عالم بمصالحهم ومفاسدهم بتعليم الله تعالى ولا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا ما فيه صلاحهم ونجاحهم قال الله تعالى :﴿ حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾ ١ بخلاف أنفسهم فإنها إمارة بالسوء إلا من رحم الله وهي ظلوم جهول فيجب عليهم أن يكون الله أحب إليهم من أنفسهم فأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقته أوفر من شفقتها عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " ٢ متفق عليه من حديث أنس وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة إقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " ٣ رواه البخاري ﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجنبيات قال الله تعالى :﴿ وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ﴾ ٤ ولا يقال لبنا تهن أخوات المؤمنين ولا لإخوتهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت أم المؤمنين عائشة ولم يقل هي خالة المؤمنين قلت وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته بعلي وعثمان قال البغوي روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه فقال لست لك بأم إنما أنا أم رجا لكم وكذا أخرج البيهقي في سننه فبان بهذا أنه تعالى أراد تحريم النكاح وفي قراءة أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم يعني في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما بها لحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ أي في حكم أو في اللوح المحفوظ أوفي القرآن وهو هذه الآية أو آية المواريث يعني في التوارث ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه وعصبته من كانوا " ﴿ من المؤمنين والمهاجرين ﴾ صلة لأولي ومن تفصيلية والآية ناسخة لما كان في ابتداء الإسلام آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس التوارث بالهجرة والموالاة في الدين قال البغوي. . . . . قال قتادة كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وقال الكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس وكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر عصبة حتى نزلت ﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ وهذه الآية بعمومه حجة لنا على الشافعي في توريث أولي الأرحام ممن ليس بذي فرض ولا عصبة عنه عدم ذوي الفروض والعصبات وعند عدم أحد من أولي الأرحام ممن ليس بذي فرض ولا عصبة عنه عدم ذوي الفروض والعصبات وعند عدم أحد من ذوي الأرحام يوضع المال في بيت المال ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم ﴾ أي أصدقائكم من المؤمنين والمهاجرين ﴿ معروفا ﴾ أي وصية فالموصى له من الأصدقاء أولى من الورثة وهذا عام خص منه البعض بالسنة والإجماع فهو أولى من الورثة في ثلث المال دون كله وهذا استثناء من أهم ما يقدر الأولوية فيه من النفع أو منقطع وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي بمن يتولاه بما أحب من الثلث وقيل من في قوله تعالى :﴿ من المؤمنين والمهاجرين ﴾ بيانية والمعنى وأولوا الأرحام من المؤمنين بعضهم أولى ببعض يعني لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم ﴾ أي أقربائكم وصية وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة قال البغوي هذا قول قتادة وعكرمة وعطاء قلت وعلى هذا يخلو فعل من اللام والإضافة ومن التفضيلية ثم كون أولى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض لا يقتضي نفي التوارث بين المسلم والكافر لا بالمنطوق وهو ظاهر ولا بالمفهوم لان كون المؤمن أولى لا يدل على نفي ميراث كافر من مؤمن عند عدم وارث مؤمن والله أعلم ﴿ كان ذلك ﴾ أي ما ذكر ﴿ في الكتاب ﴾ أي في اللوح المحفوظ أو القرآن وقيل في التوراة ﴿ مسطورا ﴾ ثابتا مرقوما.
١ سورة التوبة الآية: ١٢٨..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (١٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد (٤٤)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الاستقراض باب: الصلاة على من ترك دينا (٢٣٩٩)..
٤ سورة الأحزاب الآية: ٥٣..
﴿ و ﴾ أذكر ﴿ إذا أخذنا من النبيين ﴾ أجمعين ﴿ ميثاقهم ﴾ عهودهم حين أخرجوا من صلب آدم قال أخذ الله ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس على عبادته وينصر بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم ﴿ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وابن مريم ﴾ خصهم بالذكر بعد التعميم لفضلهم لكونهم أصحاب الشرائع والكتب وأولى العزم من الرسل وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر تعظيما له وإشعارا بما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال :" كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث " رواه سعد عن قتادة مرسلا ورواه البغوي متصلا عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة وقال قال قتادة وذلك قول الله عز وجل ﴿ وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ﴾ الآية فبدأ به صلى الله عليه وسلم قبلهم وروى ابن سعد وأبو نعيم في الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن أبي الجدعاء والطبراني في الكبير عن ابن عباس بلفظ " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " ﴿ وأخذنا منهم ميثاقا ﴾ عهدا على الوفاء بما عهدوا ﴿ غليظا ﴾ شديدا عظيم الشأن أو مؤكدا بالإيمان والتكرير لبيان هذا الوصف
﴿ ليسأل الصادقين عن صدقهم ﴾ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم قالوه لقومهم أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق أو المؤمنين الذين صدقوا عهودهم حتى أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم ﴿ وأعد للكافرين عذابا أليما ﴾ عطف على أخذنا من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين أو على ما دل عليه مقوله ليسأل كأنه قال فأثاب للمؤمنين ﴿ وأعد للكافرين عذابا أليما ﴾
﴿ يأيها الذين آمنوا أذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم ﴾ ظرف لنعمة ﴿ جنودا ﴾ أي كفار قريش وغطفان ويهود قريظة كانوا زهاء اثني عشر ألف حتى حاصروا المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقا حولهم ﴿ فأرسلنا عليهم ريحا ﴾ يعني الصبا روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " ١ أرسل الله عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية فقطعت الأوتاد وأطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وجالت الخيل بعضها في بعض " ﴿ وجنودا ﴾ من الملائكة ﴿ لم تروها ﴾ حتى كثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم وألقى الرعب في قلوبهم حتى كان سيد كل قوم يقول يا بني فلان هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء أبيتم فانهزموا من غير قتال ولم تقاتل الملائكة يومئذ ﴿ وكان الله بما تعملون ﴾ أيها المؤمنون من حفر الخندق والتهييء للقتال هذا على قراءة الجمهور وأما على قراءة البصريين فالمعنى وكان الله بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة ﴿ بصيرا ﴾ رائيا وكان ذلك الوقعة في شوال سنة أربع من الهجرة كذا في مواهب اللدنية من قول موسى بن عقبة بعد ثمانية أشهر من إجلاء بني النضير وكان إجلاؤهم وتفرقهم في البلاد ولحوق سلام بن أبي الحقيق وكناية بن الربيع وحيي بن أخطب وغيرهم بخيبر في ربيع الأول سنة أربع والمشهور أنه في شوال سنة خمس من الهجرة كذا قال محمد بن إسحاق.
قال البغوي قال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير عن عروة بن الزبير وعن عبد الله بن كعب بن مالك وعن الزهري وعاصم بن عمرو بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن محمد بن كعب القرظي وغيرهم من علمائنا دخل حديث بعضهم بعضا أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن وائل ( وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال لهم قريش يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه ؟ قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ( قال فهم الذين أنزل الله فيهم :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ إلى قوله ﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾ فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قولوا ونشطوا إلى ما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوا لذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم على ذلك واخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه وأن قريشا قد بايعوهم فأجابوهم.
قلت " روى أنه كان رجال بني نضير وبني وائل نحوا من عشرين رجلا فقال لهم أبو سفيان بن حرب مرحبا بكم أحب الرجال عندنا من عاهدنا على عداوة محمد فقالوا لأبي سفيان اختر لنا خمسين رجلا من بطون قريش وتكون منهم حتى ندخل نحن وانتم في أستار الكعبة ونلزق صدورنا بجدران الكعبة ثم نحلف على أن نتفق على عداوة محمد وتكون كلمتنا واحدة ونتعاهد على أن نحارب محمدا ما بقي منا رجل واحد ففعلوا ذلك ولما قدم اليهود على غطفان بعد المعاهدة مع قريش حرضوهم على القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم على ذلك بتمر سنة ما كان على نخيل خيبر وقيل بنصف ذلك فأجاب عيينة بن حصين الفزاري رئيس غطفان قولهم بذلك الشرط أي بشرط إعطاء تمر سنة وكتب عيينة إلى حلفائه من بني أسد فجاءوا عنده قال البغوي فخرجت قريش قائدهم أبو سفيان بن حرب وغطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المزي في بني مرة ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع قلت روي أن أبا سفيان جمع العسكر أربعة آلاف رجل وأعطى رايته عثمان بن أبي طلحة وكان في عسكرهم ثلاث مائة فرس وألف بعير حين خرجوا من مكة ونزلوا من الظهران واجتمع هناك أسلم وأشجع وبنو كنانة وفزارة وغطفان حتى صاروا عشرة آلاف وساروا بأجمعهم على المدينة ولذلك سمى غزوة الأحزاب.
قال البغوي فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحكموه قلت : روى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع الخبر قال حسبنا الله ونعم الوكيل وجمع أسراء المهاجرين والأنصار واستشارهم في ذلك وأشار سلمان بضرب الخندق فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وخرج غازيا وأعطى لواء المهاجرين زيد بن حارثة ولواء الأنصار سعد بن عبادة وخرج معه ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار قلت : روي أن معهم ستة وثلاثون فرسا وخرج معه صبيان لم يبلغوا الحلم فردهم على المدينة من كان منهم لم يبلغ خمسة عشر سنة وأجاز منهم للقتال من كان منهم ابن خمسة عشر سنة منهم عبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وبراء بن عازب فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعا لأجل الخندق في بعض أطراف المدينة فاختار موضعا بقرب جبل سلع جعل جبل سلع على ظهر العسكر و خط خطا للخندق بينه وبين الكفار قال البغوي أخبرنا عن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب ثم قطع لكل عشر أربعين ذراعا قال احتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سلمان منا أهل البيت "
قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا بجنب ذي باب اخرج الله من بطن الخنق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلت يا سلمان أرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإن رأى أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية قال فخرجت صخرة بيضاء من مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فأنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة التي في الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لأبتيها حتى لكأن مصباحا في بيت جوف مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لأبتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها فأخذ بيد سلمان ورقى فقال سلمان بأبي أنت يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم قال ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبرائيل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربة الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمرة من الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد الله الذي موعده صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الغرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال فنزل القرآن ﴿ وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا١٢ ﴾٢ وأنزل في هذه القصة ﴿ قل اللهم ملك الملك ﴾ الآية.
روى البخاري في الصحيح عن أنس قال :" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :
إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا " ٣
وروى أيضا في الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل تراب الخندق حتى وارى على الغبار جلد بطنه وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا عينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته بآخرها وفي رواية والله لولا الله ما اهتدينا إلى آخره قلت : روى أن سلمان كان رجلا قويا يعمل في الخندق عمل عشرة من الرجال ويروى أنه كان يحفر الخندق كل يوم خمسة أذرع في عمق خمسة أذرع فأصابه عين من قيس بن أبي صعصعة فصرع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسا أن يتوضأ لسلمان ويجعل وضوءه في إناء ويغسل به سلمان ويلقي الإناء خلفه منكوسا ففعلوا ذلك فبريء سلمان.
وروى أحمد والبخاري في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال :" كنا يوم الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت لنا كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية من الجبل عرضت فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول فعادت كثيبا أهيل أو أهيم فقلت يا رسول الله ائذن لي البيت فقلت لامرأتي إني رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا أما في ذلك صبر فعندك شيء فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي في قدر كادت أن تنضج ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت طعيم لي يا رسول الله فقم أنت ورجل أو رجلان قال كم هو فذكرت له قال كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة والخبز من التنور حتى آتيكم واستقر صحافا ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أهل الخندق عن جابرا صنع لكم فحي هلا بكم فقلت ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم فقالت بك وبك هل سألك فقلت نعم فقالت الله ورسوله أعلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادخلوا ولا تضاغطوا فأخرجت له عجينا فبسق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيها وبارك ثم قال يا جابر ادع خابزة فلتخبز معك واقدحي من برمتك ولا تنزلوها وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم يخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب على أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف اللحم حتى شبعوا وهم ألف قال جابر فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب (٤١٠٥).
٢ سورة الأحزاب: الآية: ١ ٢..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المعازي باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب (٣٨٧٣)..
﴿ إذا جاءوكم ﴾ بدل من ﴿ إذا جاءتكم ﴾ ﴿ من فوقكم ﴾ أي من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان عليهم مالك بن عوف النظري وعيينة بن حصين الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة ﴿ ومن أسفل منكم ﴾ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم كناية وقريش عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعهم وأبو أعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق ﴿ وإذ زاغت الأبصار ﴾ أي مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا من العدو ﴿ وبلغت القلوب الحناجر ﴾ رعبا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فترتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي طرف الحلقوم وهذا مثل يعبر عنه عن شدة الخوف ﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ أنواعا من الظن فظن المنافقون استئصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لما سبقهم من الوعد في إعلاء دينه ولحق ضعفاء القلوب التزلزل قرأ أبو بكر وأهل المدينة وابن عامر الظنونا الرسولا السبيلا بإثبات الألف وصلا ووقفا لأنها مثبتة في المصاحف وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير ألف في الحالين على الأصل والباقون بالألف في الوقف لموافقة رؤوس الأى وأتباع الخط وبغير ألف في الوصل على الأصل
﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك الوقت ﴿ ابتلى المؤمنون ﴾ أي امتحنوا ليمتاز المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل ﴿ وزلزلوا زلزالا شديدا ﴾
﴿ وإذ يقول المنافقون ﴾ وهم معقب بن قشير وعبد الله بن أبي وأصحابه وإذ بدل من هنالك ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ ضعف اعتقاد وجبن ﴿ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ﴾ قال البغوي هذا قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قال فقال رجل يعني منافق من الأنصار يدعى بشير بن معتب فذكر نحوه.
﴿ وإذ قالت طائفة منهم ﴾ أي من المنافقين وهو أوس بن قبطي وأصحابه ﴿ يا أهل يثرب ﴾ يعني المدينة وقال أبو عبيدة اسم أرض مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية منها قال البغوي ورد في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طابة كأنه كره هذا اللفظ لأنه مشتق من ثربه يثربه وثربه وعليه وأثربه لامه وعيره بذنبه والمثرب القليل العطاء كذا في القاموس ﴿ لا مقام لكم ﴾ قرأ الجمهور بفتح الميم أي لا موضع قيام لكم هاهنا وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام ﴿ فارجعوا ﴾ إلى منازلكم عن القتال ورفاقة محمد صلى الله عليه وسلم أولا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا أو لا مقام لكم يثرب فارجعوا إلى الشرك وأسلموا لتسلموا﴿ ويستأذن فريق منهم النبي ﴾ وهم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿ يقولون ﴾ حال من فاعل يستأذنون﴿ إن بيوتنا عورة ﴾ أي غير حصينة يجيء عليها العدو والسارق فكذبهم الله وقال ﴿ وما هي بعورة إن يريدون ﴾ أي ما يريدون بذلك القول الكاذب ﴿ إلا فرارا ﴾ من القتال
﴿ ولو دخلت ﴾ المدينة أي دخل هؤلاء الأحزاب ﴿ عليهم ﴾ في المدينة أو في بيوتهم وحذف الفاعل إيماء بأن دخول هؤلاء الأحزاب وغيرهم في اقتضاء الحكم المترتب عليه سواء ﴿ من أقطارها ﴾ أي جوانبها ﴿ ثم سئلوا الفتنة ﴾ أي الشرك أو مقاتلة المسلمين ﴿ لأتوها ﴾ قرأ أهل الحجاز بالقصر أي لجاءوها وفعلوها والباقون بالمد أي لأعطوا ما سألوا من الفتنة ﴿ وما تلبثوا بها ﴾ أي بالفتنة يعني بإتيانها وإعطائها ﴿ إلا يسيرا ﴾ أي زمانا يسيرا يعني زمان السؤال والجواب كذا قال أكثر المفسرين وقيل معناه ما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا زمانا قليلا ثم يهلكون أو يجلون
﴿ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ﴾ غزوة الخندق ﴿ لا يولون ﴾ عدوهم ﴿ الأدبار ﴾ أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان وهم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يقتلوا بني سلمة فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها وقال قتادة هم أناس قد غابوا عن وقعة بدر ولما رأوا ما أعطاه الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا فلتقاتلن فسلق الله إليهم ذلك ﴿ وكان عهد الله مسؤولا ﴾ عن الوفاء به يجازي عليه
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ﴾ لأنه من حضر أجله لا بد له من أن يموت سواء بالقتل أو حتف أنفه ومتى لا يحضر أجله لا يموت قطعا ﴿ وإذا ﴾ أي إذا فررتم ﴿ لا تمنعون ﴾ في الدنيا حيا ﴿ إلا قليلا ﴾ أي تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا وقيل معناه إن نفعكم الفرار فرضا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا قليلا لكون الدنيا فانية لا محالة
﴿ قل من ذا الذي يعصمكم من الله ﴾ أي من عذابه ﴿ إن أراد بكم سوءا ﴾ أي عذابا ﴿ أو أراد بكم رحمة ﴾ يعني ومن ذا الذي يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فأختصر الكلام كما في قوله متقلدا سيفا ورمحا وجاز أن يكون حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع ﴿ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ﴾ قريبا ينفعهم ﴿ ولا نصيرا ﴾ يدفع عنهم الضر.
﴿ قد يعلم الله المعوقين منكم ﴾ من التعويق بمعنى التصريف والعوق الصرف والعائق الصارف عن الخير والمراد الذين يصرفون الناس عن ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون ﴿ والقائلين لإخوانهم ﴾ من ساكني المدينة ﴿ هلم ﴾ أي قربوا أنفسكم ﴿ إلينا ﴾ ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون لإخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس وكانوا لحما لالتقمه أبو سفيان وأبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك وقال مقاتل إن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنهم إن قدروا في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وأنا مشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هلم إلينا فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعنون اليهود فلم يزدادوا المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا فنزلت تلك الآية قوله تعالى :﴿ ولا يأتون ﴾ أي المنافقون ﴿ البأس ﴾ أي الحرب ﴿ إلا قليلا ﴾ أي إتيانا ﴿ قليلا ﴾أو زمانا أو بأسا قليلا فإنهم كانوا يعتذرون ويثبطون المؤمنين ما أمكن لهم أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلا رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا وقيل أنه تتمة كلامهم معناه ولا يأتي محمد وأصحابه حرب الأحزاب ولا يقادمونهم إلا قليلا.
﴿ أشحة ﴾ جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل يأتون أو المعوقين أو على الذم يعني بخلا ﴿ عليكم ﴾ بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر والغنيمة ﴿ فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ﴾ في أحداقهم من الخوف ﴿ كالذي يغشى عليه من الموت ﴾ أي كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه أو مشبهين وشبهة بعينيو ذلك أن من قرب موته وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص أبصارهم لشدة الخوف ﴿ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ﴾ قال ابن عباس يعني نقصوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة وقيل آذوكم ورموكم في حالة الأمن وقال قتادة بسطوا ألسنتكم منكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا قد شهدنا معكم القتال فلستم أحق منا بالغنيمة ﴿ أشحة على الخير ﴾ نصب على الحال أو الذم وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه ﴿ أولئك لم يكونوا ﴾ بقلوبهم ﴿ فأحبط الله أعمالهم ﴾ يعني أبطل الله أعما لهم يعني لم يعتد بها لعدم الإخلاص وحسن النية وإنما الأعمال بالنيات كذا قال مجاهد ﴿ وكان ذلك ﴾ الإحباط ﴿ على الله يسيرا ﴾ هينا لأن تعلق الإرادة يكفي لوجود كل ممكن لأراد لفعله
﴿ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ﴾أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا ففروا إلى داخل المدينة ﴿ وإن يأت الأحزاب ﴾ كرة ثانية ﴿ يودوا ﴾ تمنوا ﴿ لو أنهم بادون ﴾ يعني لو ثبت أنهم خارجون إلى البدو يقال بدا يبدأ بدوا وبداوة إذا خرج إلى البادية ﴿ في الأعراب ﴾ حال من الضمير في بادون أو خبر بعد خبر لأن أي كائنون في الإعراب ﴿ يسألون ﴾ كل قادم من المدينة ﴿ عن أنبائكم ﴾ أي عما جرى عليكم جملة يسألون خبر بعد خبر أو حال مترادف أو متداخل وجواب لو محذوف يعني لكان خيرا ﴿ ولو كانوا ﴾يعني هؤلاء المنافقين ﴿ فيكم ﴾ ولم يفروا من عند كم في هذه الكرة وكان قتال ﴿ ما قاتلوا إلا قليلا ﴾رياء وخوفا من التعيير كذا قال مقاتل
﴿ لقد كان لكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ في رسول الله أسوة حسنة ﴾ الأسوة معناه القدوة وهو ما يقتدي به والمراد هاهنا أن لكم في شأن رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤسي بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد أو هو يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديد أي من في البيضة هذا القدر من الحديد وقيل هو فعلة من الأيتساء كالقدوة من الاقتداء اسم وضع موضع المصدر أي لكم برسول الله اقتداء حسن أي تنصرون دين الله كما هو ينصر وتصبرون على ما يصيبكم كما هو يصبر كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنوا بسنته ﴿ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ﴾ أي يرجوا ثواب الله ولقائه ونعيم الآخرة كذا قال ابن عباس أو أيام الله واليوم الآخر خصوصا وهذا كقولك أرجو زيدا وفضله وقال مقاتل أي يخشى الله ويخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وقوله ﴿ لمن كان ﴾ صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدل من لكم والأكثر على أن الضمير المخاطب لا يبدل منه ﴿ وذكر الله كثيرا ﴾ في السراء والضراء قرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدي إلى دوام الطاعة فإن المؤسى بالرسول من كان كذلك.
﴿ ولما رأى المؤمنين الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ﴾بقوله تعلى في سورة البقرة ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ﴾ إلى قوله :﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾١ فإن الآية يتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بوقعة الأحزاب قبل وقوعه ﴿ وصدق الله ورسوله ﴾فيما أخبر به ﴿ وما زادهم ﴾ تحزب الأحزاب ﴿ إلا إيمانا ﴾ أي تصديقا بما جاء به الرسول عليه السلام﴿ وتسليما ﴾ لأمره وقدره.
١ سورة البقرة الآية: ٢١٤..
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عليه ﴾ أي قاموا بما عاهدوا رسول الله من الثبات معه في القتال مع أعداء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق فإن العاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه ﴿ فمنهم من قضى نحبه ﴾ أي فرغ من نذره ووفى بعهده فلم يبق في ذمته شيء ما عاهده يعني صبر على الجهاد والطاعة حتى استشهدا ومات والنحب النذر والنحب أيضا الموت يقال قضى نحبه أي أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأشباهه وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان في مسيرة يومه وليلته أجمع ﴿ ومنهم من ينتظر ﴾ والفراغ من نذره يرجو أن يموت على الوفاء ﴿ وما بدلوا ﴾ العهد ولا غيره ﴿ تبديلا ﴾ شيئا من التبديل روى الشيخان والترمذي وابن أبي شيبة والطيالسي وابن سعد والبغوي عن أنس بن مالك أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك غاب عن بدر فشق عليه وقال أو مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال أنس بن النضر اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ أليك مما فعل هؤلاء يعني المشركين فانتهى إلى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم فقال ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل القوم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد إنا معك قال سعد فا ستقبل أنس القوم فلم أستطع أن أصنع ما صنع أنس فقال يا سعد ( وفي لفظ يا أبا عمرو ) هالريح الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل فوجدوا في جسده بضعا وثمانين ضربة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قال أنس ووجدنا قد مثل به المشركون فما عرفه أحد منا إلا أخته بشامة ببنانه فكنا نرى أو نظن أن هذه نزلت فيه وفي أشباهه ﴿ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ﴾١ وروى البغوي عن خباب بن الأرث قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئا نكفن فيه إلا نمرة فكنا إذا وضعنا على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعنا على رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه الأذخر " ومنا من انبعث له ثمرته فهو يهديها وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال :" من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " ٢ وروى البخاري عن قيس بن حازم قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ٣ وروى الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم من حديث الزبير مرفوعا أوجب طلحة
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير باب: قول الله تعالى: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ (٢٨٠٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب: ثيوت الجنة للشهيد (١٩٠٣) وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢٠٠)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢٠٣)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: ﴿إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما﴾ (٤٠٦٣).
﴿ ليجزي الله الصادقين ﴾ في العهود ﴿ بصدقهم ﴾ أي جزاء صدقهم أو بسبب صدقهم وهو الوفاء بالعهد ﴿ ويعذب المنافقين إن شاء ﴾ أن يموتوا على الكفر والنفاق فيعذبهم ﴿ أو يتوب عليهم ﴾ إن تابوا وأخلصوا دينهم لله قوله :﴿ ليجزي ﴾ متعلق بقوله صدقوا ما عاهدوا الله تعليل للمنطوق والمعرض به كأن المنافقين قصدوا بالتبديل التعذيب كما قصد المخلصون بالوفاء الثواب ﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾ لمن تاب
﴿ ورد الله الذين كفروا ﴾ أي الأحزاب من قريش وغطفان ﴿ بغيظهم ﴾ أي كائنين بغيظهم متغيظين لعدم نيلهم بما أرادوا ﴿ لم ينالوا خيرا ﴾ أي ظفرا ولا مالا حال بعد حال يتداخل أو يعاقب ﴿ وكفى الله المؤمنين القتال ﴾ بالريح والملائكة ﴿ وكان الله قويا ﴾ في ملكه على إحداث ما يريده ﴿ عزيزا ﴾ في انتقامه.
﴿ وأنزل الذين ظاهروهم ﴾ أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ من أهل الكتاب ﴾ وهم بنوا قريظة ﴿ من صياصيهم ﴾ أي من حصونهم جمع صيصة وهي ما يحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك والحائك صئصة ﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ أي الخوف ﴿ فريقا تقتلون ﴾ وهم الرجال فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ست مائة وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبع مائة وقال السهيلي المكثر يقول أنهم ما بين ثمان مائة إلى تسع مائة وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح إنهم كانوا أربع مائة مقاتل فيحتمل في طريق الجمع أن يقال أن الباقين كانوا إتباعا وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل إنهم كانوا تسع مائة ﴿ وتأسرون فريقا ﴾ وهم النساء والذراري وكانوا سبع مائة وخمسين وقيل تسع مائة وذكر في سبيل الرشاد أن السبي كان ألفا من النساء والصبيان.
﴿ وأورثكم أرضهم ﴾ مزارعهم ﴿ وديارهم ﴾ حصونهم ﴿ وأموالهم ﴾ من النقود والأجناس والمواشي ﴿ وأرضا لم تطؤها ﴾ بعد.
قال مقاتل وابن زيد يعني خيبر وقال قتادة كنا نحدث أنها مكة وقال الحسن فارس والروم وقال عكرمة كل أرض يفتح إلى يوم القيامة ﴿ وكان الله على كل شيء قديرا ﴾ فيقدر على ذلك.
قصة غزوة بني قريظة قال محمد بن عمر عن شيوخه لما انصرف المشركون عن الخندق خاف بنوا قريظة خوفا شديدا وروى أحمد والشيخان مختصرا والبيهقي والحاكم وصححه مطولا عن عائشة وأبو نعيم والبيهقي من وجه آخر عنها وابن عابد عن حميد بن هلال وابن جرير عن ابن أبي أوفى والبيهقي عن عروة وابن سعد عن الماجشون وعن يزيد بن الأصم ومحمد بن عمر عن شيوخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما رجعوا عن الخندق مجهودين وضعوا السلاح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة ودعا بماء فأخذ يغسل رأسه وذكر البغوي أنه صلى الله عليه وسلم كان عند زينب بنت جحس وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه قالت عائشة فسلم علينا رجل ونحن في البيت قال محمد بن عمر وقف موضع الجنائز فنادى عذيرك من محارب فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فوثب وثبة شديدة فخرج إليه فقمت في أثره أنظر من خلل الباب فإذا هو دحية الكلبي فيما كنت أرى وهو ينفض الغبار عن رأسه ( فقال ابن إسحاق معتجرا بعمامة ) فقال يا رسول الله ما أسرع ما حللتم عذيرك من محارب عفا الله عنك قد وضعتم السلاح ما وضعت الملائكة منذ نزل بك العدو وفي لفظ منذ أربعين ليلة وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم حتى بلغنا حمراء الأسد يعني الأحزاب وقد هزمهم أن الله يأمرك بقتال بني قريظة وأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة لأزلزل بهم الحصون فأخرج بالناس قال حميد بن هلال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في أصحابي جهدا فلو أنظرتهم أيا ما فقال انتهض إليهم فوالله لأدقنهم كدق البيض على الصفا ثم لأضغضغنها قا لت عائشة فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت من ذاك الرجل الذي كنت تكلمه قال ورأيته قلت نعم قال بمن تشبهيه ؟ قلت بدحية الكلبي قال ذاك جبرئيل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة قال حميد فأدبر جبرئيل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار قال أنس فيما رواه البخاري كأني أنظر إلى الغبار ساطعا وقال قتادة فيما رواه ابن عابد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يومئذ مناديا ينادي يا خيل الله اركبي وأمر بلالا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة وروى الشيخان عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة وابن عقبة والطبراني عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :" عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر " : ووقع في مسلم في حديث ابن عمر " صلاة الظهر إلا ببني قريظة " فأدرك بعضكم صلاة العصر وفي لفظ صلاة الظهر في الطريق فقال بعضهم لا نصليها حتى نأتي بني قريظة إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من أثم فصلوا العصر ببني قريظة حين وصلوها بعد غروب الشمس وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا أن ندع الصلاة فصلوا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا من الفريقين ١
فائدة :
وجه الجمع بين حديث صلاة الظهر وصلاة العصر أن طائفة منهم راحت بعد طائفة قيل للطائفة الأولى لا يصلين الظهر إلا ببني قريظة وقيل للطائفة الأخرى لا يصلين العصر وقيل في وجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل القوة أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر وقال لغيرهم أحد العصر.
مسألة :
هذا الحديث يدل على أن المجتهد لا إثم عليه إن أخطأ حيث لم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد من الفريقين من صلى في الطريق ومن لم يصل قال في زاد المعاد ما حاصله إن كلا من الفريقين مأجور بقصده إلا إن صلى في الطريق جاز الفضيلتين فضيلة امتثال الأمر في الإسراع في المشي إلى بني قريضة لأن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوا إلا في بني قريضة المبالغة في الإسراع مجازا وفضيلة امتثال الأمر في المحافظة على الوقت والله أعلم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فدفع إليه لواءه وكان اللواء على حاله لم يحل عن مرجعه من الخندق فابتدره الناس قال محمد بن عمرو بن سعد وابن هشام والبلاذري استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم قال محمد بن عمرو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع بقين من ذي القعدة قال البغوي سنة خمس من الهجرة ولبس السلاح والدرع والمغفر والبيضة وأخذ قناه بيده وتقلد الترس وركب فرسه اللحيف ولحق به أصحابه قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل وكانت ستة وثلاثين فرسا فسار في أصحابه والخيل والرجال حوله قال ابن سعد وكان معه ثلاثة آلاف.
مسألة :
هذه القصة تدل على جواز البداية بالقتال في شهر الحرام لكن خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وفيها المنع من القتال في الأشهر الحرام متأخر عنه ولعل الله سبحانه أحل لرسوله ذلك القتال في أشهر الحرم كما أباح له القتال في حرم مكة من النهار عام الفتح ويمكن أن يقال أن هذا ليس بداية بالقتال بل كانت البداية من بني قريظة حيث ظاهروا قريشا ومن معهم والله أعلم.
روى الطبراني عن أبي رافع وابن عباس أن رسول صلى الله عليه وسلم لما أتى بني قريظة ركب على حمار عري يقال له يعفور والناس حوله وروى الحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن عائشة ومحمد بن عمرو عن شيوخة وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من بني النجار بالصورين فيهم حارثة بن النعمان قد صفوا عليهم السلاح فقال هل مر بكم أحد ؟ قالوا نعم دحية الكلبي مر على بغلة عليها رحاله عليها من استبرق وأمرنا بحمل السلاح فأخذنا سلاحنا فصففنا وقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن قال حارثة بن النعمان وكان صفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبرئيل بعث إلى بني قريظة لتزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم وسبق علي بن أبي طالب في نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو قتادة. روى محمد بن عمر عن أبي قتادة قال انتهينا إلى بني قريظة فلما رأينا أيقنوا با لشر وغرز علي الراية عند أصل الحصن فاستقبلونا في صياصيهم يشتمون رسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه قال أبو قتادة وسكتنا وقلنا السيف بيننا وبينكم وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريبا من حصنهم على بئر إنا بأسفل حرة بني قريظة فلما رآه علي رضي الله عنه رجع إليه وأمرني أن ألزم اللواء فلزمته وكره أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذاهم وشتمهم فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنوا من هؤلاء الأخابيث فقال أتأمرني بالرجوع فقال أظنك سمعت منهم أذى قال نعم فقال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدمه أسيد بن حضير فقال يا أعداء الله لا نبرح عن حصونكم حتى تموتوا جوعا إنما أ نتم بمنزلة ثعلب في جحر فقالوا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج فقال لا عهد بيني وبينكم ولا إل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترسنا عنه ونادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال أجيبوا ي يا أخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت هل أخزاكم الله أنزل بكم نقمته أتشتموني فجعلوا يحلفون ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفي لفظ ما كنت فا حشا واجتمع المسلمون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء وبعث سعد بن عبادة بأحمال تمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان طعامهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نعم الطعام التمر " وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرا وقدم الرماة فأحاطوا بحصون يهود وراموهم بالنبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى أمسوا فباتوا حول الحصون وجعل المسلمون يعتقبون يعقب بعضهم بعضا فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى براميهم حتى أيقنوا الهلكة وتركوا رمي المسلمين فقالوا دعونا نكلمكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فأنزلوا نباش بن قيس فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنوا النضير من الأموال والحلقة ونخرج من بلادك بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلا الحلقة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد نباش إليهم بذلك فلما عاد نباش إلى قومه وأخبرهم الخبر قال كعب بن أسد يا معشر بني قريظة والله قد نزل بكم ما ترون وإني أعرض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا ما شئتم منها قالوا وما هي ؟ قال نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه إني نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون به على دمائكم وأموالكم ونسائكم والله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي وما منعنا معه من الدخول إلا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيا من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله تعالى ولقد كنت كارها لنقض العهد والعقد ولكن البلاء والشؤم من هذا الجالس يعني حيي بن أخطب ( وكان حيي دخل معهم في حصنهم حين رجعت منهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه ) أتذكرون ما قال لكم ابن جواس حين عليكم تركت الخمر والحمير والتأمير وحنت إلى الشفاء والتمر والشعير قالوا وما ذاك ؟ قال أنه يخرج بهذا القرية نبي فإن يخرج وأنا حي أتبعه وأنصره وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه وقد آمنتم بالكتابين كلاهما الأول والآخر وأقرءوه مني السلام وأخبروه أني مصدق به قال فتعالوا فلنبايعه ولنصدقه فقالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين بالسيوف لم نترك ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك ورائنا فصلا نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء قالوا لا نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم قال فإن أبيتم عن هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة قالوا نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان من قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ فقال ما بات منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر جازما فقال ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بن عبيد ابن عمهم وهو نفر من هذيل ليسوا من بني قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك وهو بنو عم القوم يا معشر بنوا قريظة والله إنكم لتعلموا أنه رسول الله وإن صفته عندنا حد ثنا بها علماؤنا وعلماء بني النضير هذا أولهم يعني حيي بن أخطب مع خبر بن الهيان أصدق الناس عندنا هو أخبر بصفته عند موته قالوا لا نفارق التوراة فلما رأى هؤلاء النفر آباءهم نزلوا تلك الليلة في صبحها فأسلموا وأمنوا على أ نفسهم وأهليهم وأموالهم وقال عمرو بن سعد يا معشر يهود إنكم خالفتم محمدا على ما خلفتموه عليه فنقضتم عهده الذي كان بينكم وبينه ولم أدخل فيه ولم أشرككم في غدركم فإن أبيتم فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية فوالله ما أدري يقبلها أم لا قالوا فنحن لا نقر للعرب بخرج في رقابها يأخذونه القتل خير من ذلك قال فإني بريء منكم
١ أخرجه البخاري في كتاب: الخوف باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء (٩٤٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والغزو باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (١٧٧٠).
ذكر البغوي وغيره أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهم على بعض فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فقال عمر لأعلمكم ما شأنه فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ قال لا قلت يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال نعم إن شئت فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت الآية :﴿ وإذا جاءكم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول الله وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه ﴾١ فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ﴾ أي السعة والتنعم فيها وزخارفها ﴿ فتعالين ﴾ أصل تعال أن يقوله من كان في مكان مرتفع لمن كان في مكان دونه ثم كثر استوت في استعماله الأمكنة كلها بمعنى أقبل إلي والمعنى هاهنا أقبلن بإرادتكن واختياركن لطلب الطلاق ﴿ أمتعكن ﴾ أي أعطكن المتعة ﴿ وأسرحكن ﴾ أي أطلقن ﴿ سراحا ﴾ طلاقا ﴿ جميلا ﴾ من غير ضرار
١ سورة النساء الآية: ٨٣.
﴿ وإن كنتن تردن الله ﴾ أي مراتب القرب إلى الله ومرضاته قرب ﴿ ورسوله ﴾ نعماء ﴿ والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن ﴾ يعني لمن أرادت رضوان الله ورسوله والدار الآخرة فإنها هي المحسنة إذ الإحسان أن تعبد ربك بالحضور كأنك تراه ﴿ أجرا عظيما ﴾ قال البغوي وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمرو أم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أمية وسودة بنت زمعة وأربع من غير قريش زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية ولما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ورأت الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن على ذلك وقصره عليهن فقال :( لا يحل لك النساء من بعد ).
أخرج مسلم وأحمد والنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال أقبل أبو بكر ليستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤذن له ثم أقبل عمر فا ستأذن فلم يؤذن له ثم أذن لهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه واجما ساكتا قال فقال عمر لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو رأيت بنت خارجة سألني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هن حولي كما ترى يسأ لنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر على حفصة يجأ عنقها كلاهما يقولان لا تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا ما ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا وتسعا وعشرين ثم نزلت هذه الآية قال فبدأ بعائشة قال يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك فقال وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآيات فقالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة أسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك قال لا تسأ لني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني جحودا ولا مفتنا ولكنه بعثني مبشرا معلما ١ وفي الصحيح عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت فبدأني فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا فإنك بتسع وعشرين أعدهن قال :" إن الشهر تسع وعشرون ".
فائدة :
قال البغوي اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق حتى يقع الطلاق بنفس اختيارها نفسها أم لا ؟ فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم أنه لم يكن تفويض الطلاق بل خيرهن في طلب الطلاق فإن اخترن الدنيا فارقهن بدليل قوله تعالى :﴿ فتعالين أمتعكن وأسرحكن ﴾ وذهب قوم إلى انه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقا.
مسألة :
إذا قال الزوج لامرأته اختاري ونوى بذلك أن تطلق نفسها إن شاءت فلها أن تطلق نفسها ما دامت في المجلس فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها لأنه تمليك الفعل منهيا والتمليكات يقتضي جوابا في المجلس كما في البيع قال صاحب الهداية لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وقال ابن همام قال ابن المنذر اختلفوا في الرجل يخير زوجته ؟ فقالت طائفة أمرها بيدها في المجلس فإن قامت من مجلسها فلا خيار لها روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم وفي أسانيدها مقال وبه قال جابر بن عبد الله وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرازي وقالت طائفة أمرها بيدها في المجلس وبعدها وهو قول الزهري وقتادة وأبي عبيدة وابن نصر قال ابن المنذر وبه نقول لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة " لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " وحكى صاحب المغني هذا القول من الصحابة عن علي رضي الله عنه وأجاب ابن الهمام عن قول ابن المنذر أن الرواية عن علي لم يستقر فقد روى عنه قول الجماعة كذا نص محمد في بلاغاته حيث قال بلغنا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم في الرجل يخبر امرأته أن لها الخيار ما دامت في مجلسها ذلك فإذا قامت من مجلسها فلا خيار لها ولم يرو عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك فكان إجماعا سكوتيا وقوله في أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقي الأمة بالقبول مع أن رواية عبد الرزاق عن جابر وابن مسعود جيدة وأما التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم " لا تعجلي " فضعيف لأنه ليس في الآية تخيير الطلاق وتفويضه كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ﴾.
مسألة :
لا بد من النية في قوله اختاري لأنه يحتمل تخيرها في نفسها ويحتمل تخيرها في تصرف آخر غيره.
مسألة :
إذ قال الزوج اختاري فقلت اخترت نفسي فالمروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس أنها تقع واحدة رجعية وبه أخذ الشافعي وأحمد لأن قوله اختاري بمنزلة قوله طلقي نفسك وقولها اخترت نفسي بمنزلة قوله طلقت نفسي والواقع بها رجعي إجماعا ويأتي الكتاب دل على أن الطلاق يعقب الرجعة إلا الثالث وروى عن زيد بن ثابت أنه يقع الطلقات الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل منه دعوى الواحدة. وجه قول زيد أن اختيارها يقتضي ثبوت اختصاصها بها بحيث لا يكون لزوجها إليها سبيل من غير رضاءها وإلا لا يحصل فائدة التخيير إذا كان له أن يراجعها في الحال شاءت أو أبت وذلك الاختصاص لا يتصور إلا في البائن والطلاق يعقب الرجعة بالكتاب إلا أن يكون ثلاثا فيقع الثلاث وثبت عن علي رضي الله عنه أن الواقع به واحدة بائنة وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لما ذكرنا أن اختصاصها بنفسها لا يتصور إلا بالبينونة والبينونة قد يكون بواحدة إجماعا كالطلاق بمال والطلاق قبل الدخول فيحمل عليه لحصول المقصود ولا وجه لجعله ثلاثا بعد حصول المقصود بواحدة وقد روى الترمذي عن ابن مسعود وعمر أن الواقع بها بائنة كما روى عنها الرجعية فاختلف الرواية عنهما قلت البينونة يتنوع إلى غليظة وخفيفة فإن نوى بها الزوج الغليظة لا بد أن يقع به ثلاثا لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول عن قوله اختاري لا يدل على البينونة بل يفيد الخلوص والصفاء والبينونة يثبت فيه اقتضاء فلا يعم بل يقدر بقدر الضرورة بخلاف أنت بائن ونحوه فلا يقع الثلاث بقوله اختاري وإن نوى الثلاث لان النية إنما تعمل فيما يحتلمه اللفظ ويقع بقوله أنت بائن ثلاثا عن نوى الثلاث وبخلاف قوله اختاري اختاري اختاري لأن تعدد اللفظ يدل على تعدد المقصود.
مسألة
لو قالت اخترت زوجي بعدما قال لها إختاري لا يقع شيء عند الجمهور لان الزوج لم يطلقها بل جعل أمرها باختيارها وهي لم تختر الطلاق بل اختارت إبقاء النكاح وعن علي رضي الله عنه يقع رجعية كأنه جعل نفس اللفظ إيقاعا قال ابن همام لكم قوله عائشة " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعد علينا شيئا " ٢ رواه الستة وفي لفظ الصحيحين " فلم يعدد : يفيد عدم وقوع شيء كما قاله الجمهور قلت لما ذكرنا فيما سبق أن تخيير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن تخييرا للطلاق بل كان تخييرا في طلب الطلاق فلا يكون قول عائشة حجت على ما قاله الجمهور والله أعلم
مسألة :
ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو كلامها حتى لو قال اختاري فقالت اخترت لا يقع الطلاق لأن هذا اللفظ للطلاق فكان القياس أن لا يقع بها شيء لأن التمليك فرع ملك المملك والزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ لكنا تركنا القياس وقلنا بوقوع الطلاق باختيارها بإجماع الصحابة والإجماع إنما هو في المفسر من أحد الجانبين بالنفس ولأن قوله اختاري مبهم يحتمل تخييرها في نفسها وتخييرها في تصرف آخر غيره والمبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم ولا تعيين مع الإبهام ولما كان وقوع الطلاق بقوله اختاري معدولا عن سنن القياس مقتصرا على مورد الإجماع لا يكتفي بالنية وإن كان مع القرينة الحالية دون المقالية لعدم الإجماع هناك وقال الشافعي وأحمد يكتفي بالنية مع القرينة الحالية بعد أن نوى الزوج وقوع الطلاق به وتصادقا عليه وقال أبو حنيفة النية بدون احتمال اللفظ يلغو وإلا لوقع بمجرد النية مع لفظ لا يصلح له أصلا كأسقني وإنما تركنا القياس بموضع الإجماع قلت لكن قوله النية بدون احتمال اللفظ يلغوا ليس في محله فإن لفظ اختاري واخترت بدون ذكر النفس يحتمل تخييرها الطلاق واختارها إياه وغير ذلك وإن لم تكن نصا فيه ولذلك لو قال اختاري فقالت اخترت نفسي يقع الطلاق إن نوى الزوج لأن كلامها مفسرة وما نواه الزوج من محتملات كلامه وكذا لو قال اختاري اختاره فقالت قد اخترت طلقت أيضا لان الهاء في اختياره ينبئ عن الإتحاد والإنفراد واختيارها نفسها يتحد مرة ويتعدد أخرى فصار مفسرا من جانيه.
مسألة :
ولو قال الزوج اختاري فقالت أنا اختار نفسي فهي طالق والقياس أن لا يطلق لان هذا مجرد وعد أو يحتمله فصار كما إذا قال طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي قال صاحب الهداية وجه الاستحسان قول عائشة لا بل أختار الله ورسوله واعتباره صلى الله عليه وسلم جوابا منها لا يقال ذكر فيما سبق إن قصة عائشة لم يكن تخيرا في التطليق بل في طلب الطلاق لأنا نقول مقصودنا يحصل باعتباره صلى الله عليه وسلم جوابا للاختيار سواء كان الاختيار متعلقا بالتطليق أو طلب التطليق ولأن قولها أنا اختار نفسي حكاية عن حالة قائمة وهو اختيار نفسها بخلاف قولها أطلق نفسي لان حمله على الحال متعذر لأنه ليس حكاية عن حالة قائمة والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية (١٤٧٨).
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الطلاق باب: في الخيار (٢٢٠٣) وأخرجه الكسائي في كتاب: النكاح باب: ما افترض الله على رسوله عليه السلام وحرمه على خلقه ليزيده إن شاء الله قربه إليه (٣١٩٤) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب: الرجل يخير امرأته (٢٠٥٢)..
﴿ يا نساء النبي ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب ﴿ من يأت منكن بفاحشة مبينة ﴾ قال ابن عباس أراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ﴿ يضاعف لها العذاب ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر نضعف بالنون على التكلم وكسر العين وتشديدها بغير ألف من التفعيل والعذاب بالنصب على المفعولية والباقون بالياء التحتا نية على الغيبة وفتح العين على صيغة المجهول والعذاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله فيقرأ أبو جعفر وأبو عمرو بتشديد العين بلا ألف من التفعيل والباقون بالتخفيف والألف من الأفعلا ﴿ ضعفين ﴾ أي ضعفي عذاب وغيرهن والضعف من الألفاظ المتضايفة التي يتوقف فهمه على شيء آخر كالنصف والزوج وهو تركب قدرين متساوين ومعنى أضعفت الشيء وضعفته واحد وهو ضممت إليه مثله وكذا ضاعفته والضعفين المثلين الذين يضم أحدهما إلى صاحبه كالزوجين فإن أحدهما يضاعف الآخر ويزاوجه وقد يطلق الضعف على مجموع المثلين كما في قوله تعالى حكاية عن الأتباع من الكفار ( فآتهم عذابا ضعفا ) ١ من النار أي مثلي ما نحن فيه من العذاب لأنهم ضلوا وأضلونا وإذا أضيف الضعف إلى عدد يراد به ذلك العدد مع مثله فضعف عشرة عشرون وضعف مائة مائتان وضعف الواحد اثنان وإذا أضيف الضعفين إلى واحد يثلثه وفي القاموس ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه أو الضعف المثل إلى ما زاد يقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثال لأنه زيادة غير محصورة وفسر الجزري في النهاية الضعف الواقع في حديث أبي الدحداح بأنه مثلي الآخر وقال يقال إن أعطيتني درهما فلك ضعفه أي درهمان وربما قالوا فلك ضعفاه وقيل ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وقال الزهري الضعف في كلام العرب المثل فما زاد وليس بمقصود على مثلين فأقل الضعف محصور في الواحد وأكثره غير محصور ومنه الحديث :" تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة " ٢ وقال تعالى :﴿ يضاعف له أضعافا كثيرة ﴾٣ أي يزاد عليها يقال ضعفت الشيء وأضعفته وضاعفته إذا زدته قال البغوي ضعف وضاعف لغتان مثل بعد وباعد قال أبو عمرو وأبو عبيد ضعفته إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله وشدد أبو عمر وهاهنا لقوله تعالى : ضعفين وقوله تعالى ضعفين منصوب على المفعولية لأن التضعيف والمضاعفة يتضمنان معنى التصيير أو على المصدرية من قبيل ضربته ضربتين أو ضربته سوطين أو على الحال من العذاب ووجه تضعيف العذاب أن الذنب منهن مع توافر النعمة أقبح ولذلك جعل حد الحر ضعف حد العبد ولأن في صدور الذنب منهن هتك حرمة مصاحبة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وذلك أشد وأقبح ﴿ وكان ذلك ﴾ أي تضعيف العذاب ﴿ على الله يسيرا ﴾ جملة معترضة
١ سورة الأعراف: الآية: ٣٨.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان باب: وجوب صلاة الجماعة (٦٤٥).
٣ الآية هي ﴿فيضاعفه له أضعافا كثيرة﴾ سورة البقرة: الآية: ٢٤٥..
﴿ ومن يقنت ﴾ القنوت الطاعة قرأ يعقوب من تأت وتقنت بالتاء الفوقانية فيهما نظرا على المعنى والباقون بالياء التحتا نية نظرا إلى كلمة من يعني من يدم على الطاعة ﴿ منكن لله ورسوله وتعمل ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتا نية حملا على لفظه من الباقون بالتاء الفوقانية نظرا إلى المعنى ﴿ صالحا ﴾ منصوب على المصدرية أو المفعولية ﴿ نؤتها أجرها مرتين ﴾ أي مثلي أجر غيرها مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة. قال مقاتل مكان كل حسنة عشر حسنات. قرأ حمزة والكسائي يؤتها بالياء التحتا نية على أن فيه ضمير اسم الله تعالى والباقون بالنون على التكلم ﴿ واعتدنا لها رزقا كريما ﴾ أي جليل القدر وهو الجنة زيادة على أجرها. قلت وذلك لأنهن يرزقن بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ما يرزق النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ يا نساء النبي لستن ﴾ أي ليست كل واحدة منكن، أو المعنى لم توجد جماعة واحدة من جماعات النساء مثلكن في الفضل ﴿ كأحد من النساء ﴾ وجملة لستن تعليل لمضمون ما ذكروا، أصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير. قال ابن عباس أي ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي. هذه الآية تدل على فضلهن على سائر النساء ويعارضها قوله تعالى في حق مريم ابنة عمران :﴿ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾١ والقول بأن المراد من نساء العالمين نساء زمانه يأباه ما رواه الترمذي عن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون " ٢ فالواجب أن يقال إن النساء في قوله تعالى :﴿ لستن كأحد من النساء ﴾ من حيث أنكن أزواج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، يعني ليست أحد من النساء شريكة لكن في هذا الفضل. والجمهور على أن أفضل نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة بنت خويلد خير نساء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وعائشة الصديقة بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى الشيخان في الصحيحين، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " ٣. وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " ٤، وفي رواية كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض. وفي الصحيحين من حديث عائشة عن فاطمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين " ٥، وعن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أ نه قال :" إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " ٦ رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب. ﴿ إن اتقيتن ﴾ مخافة حكم الله ورضاء رسوله شرط استغنى عن الجزاء بما مضى ﴿ فلا تخضعن بالقول ﴾ الفاء للسببية، يعني إذا ثبت فضلكن على سائر النساء بشرط التقوى فلا بد أن لا يظهر منكن ما ينافى التقوى من الخضوع بالقول للرجال، يعني أن تكلم المرأة مع الرجل الأجنبي كلاما لينا بما تطمعه منها، وذكر الجزري في النهاية نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخضع الرجل لغير امرأته، أن يلين لها بالقول بما يطمعها منه، والخضوع، والانقياد ، والمطاوعة، وذكر أيضا في النهاية أن رجلا مر في زمان عمر رضي الله عنه برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه فأهدره عمر رضي الله عنه، أي لينا بينهما الحديث، وتكلما بما يطمع كلا منهما من الآخر. وروى الطبراني بسند حسن عن عمروبن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يكلم النساء إلا بإذن أزواجهن " . وروى الدارقطني في الأفراد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم " نهى أن يتمطى الرجل في الصلاة، أو عند النساء إلا عند إمرأته وجواريه " . ﴿ فيطمع ﴾ في الفجور منصوب في جواب النهي بان المقدرة بعد الفاء " الذي في قلبه مرض'' أي شائبة من النفاق ؛ فان المؤمن الكامل الذي مطمئن بالإيمان، ويرى برهان ربه لا يطمع فيما حرمه الله تعالى ، والذي إيمانه ضعيف كان فيه شائبة النفاق يشتهي إلى ما حرم الله عليه. وفي غير المتواتر من القراءة فيطمع مجزوم عطفا على محل النهي ؛ فهو نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول.
مسألة :
المرأة مندوب إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع ﴿ وقلن قولا معروفا ﴾ يعني ما يعرفه حسنا بعيدا من الريبة.
١ سورة آل عمران الآية: ٤٢..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: فضل خديجة رضي الله عنها (٣٨٨٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل النبي صلى الله عليه وسلم بابك فضل عائشة رضي الله عنها (٣٧٦٩) واخرجه مسلم في كتابه: فضائل الصحابة باب: في فضل عائشة رضي الله عنها (٢٤٤٦)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها (٣٨١٥) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها (٢٤٣٠)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان باب: من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه فإذا فات أخبر به (٥٢٨٥) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل فاطمة رضي الله عنها (٢٤٥٠)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: مناقب الحسن والحسين عليهما السلام (٣٧٩٠).
﴿ وقرن في بيوتكن ﴾ قرأ نافع وعاصم بفتح القاف من قريقر بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر، أصله أقررن حذفت الراء الأولى ونقلت حركتها إلى القاف واستغنى عن همزة الوصل. والباقون بكسر القاف من قريقر قرارا بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر وهما لغتان فيه ومعناهما واحد وكذا تعليلهما واحدة أمر بالقرار في البيوت وعدم الخروج بقصد المعصية كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ ولا تبرجن ﴾ فإنه عطف تفسيري وتأكيد معنى، وليس في الآية نهي عن الخروج من البيت مطلقا، وإن كان للصلاة، أو الحج، أو لحاجة الإنسان كما زعمه الذين في قلوبهم مرض من الروافض، حتى طعنوا في الصديقة الكبرى بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها خرجت من بيتها إلى مكة وذهبت منها إلى البصرة في وقعة الجمل، وكان خروجها إلى مكة للحج، وبعد خروجها استشهد عثمان رضي الله عنه، وأظهر أهل المصر فتنة في المدينة، حتى هرب منها طلحة والزبير رضي الله عنهما، ولحقا بعائشة، وأشارا بالخروج لإصلاح ذات البين، ولما أبت احتجا بقوله تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ ١ فخرجت إلى البصرة ووقع الصلح بين من كان معها ومن كان مع علي رضي الله عنهما، ثم أثار نار الفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق الذي تزي بزي شيعة علي رضي الله عنه حتى وقع القتال بين المسلمين في وقعة الجمل. وقد ذكرنا القصة في كتابنا السيف المسلول. والتبرج من البروج بمعنى الظهور والمراد بها إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال. وقال ابن نجيح التبرج التبختر. قال البيضاوي في تفسيره لا تبخترن في مشيتكن ﴿ تبرج الجاهلية الأولى ﴾ منصوب على المصدرية أي تبرجا مثل تبرج الجاهلية الأولى والمراد بالجاهلية الأولى جاهلية قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى جاهلية الفسق بعد الإسلام. قال الشعبي هي ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقال أبو العالية هي زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط للجانبين فيرى خلقها فيه. وقال الكلبي كان ذلك في زمن نمروذ الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال. وروى عكرمة عن ابن عباس الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكان ألف سنة وكان سبطين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يدموا الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه، فتبرج النساء للرجال، وتزين الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى الرجال والنساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهن، فذلك قوله تعالى :﴿ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ﴾ وقد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى :﴿ أهلك عادا الأولى ﴾٢ ولم يكن لها أخرى، أو المعنى الجاهلية التي كانت قبل زمانكم ﴿ وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ﴾ في كل ما أمرتن به ونهيتن عنه ؛فإن ذلك هو التقوى الذي هو شرط أفضليتكن على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من أولاده صلى الله عليه وسلم، ولقصد التعميم أورد ضمير المذكر، وقد أورد الله سبحانه هذا الكلام في مقام التعليل لما سبق، يعني إنما يريد الله سبحانه فيما أمركن به ونهاكن عنه لإذهاب الرجس، يعني عمل الشيطان من الإثم والقبائح الشرعية والطبيعة الذي ليس فيه مرضاة الله تعالى عنكن وعن غيركن من أهل البيت ﴿ أهل البيت ﴾ بيت النبي صلى الله عليه وسلم منصوب على النداء أو المدح. قال عكرمة ومقاتل أراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ؛ لأنهن في بيته، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى :﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ﴾ رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير عن عكرمة نحوه وهم استدلوا بسياق الآية وسباقها لكن القول بتخصيص الحكم بهن يأباه ضمير المذكرين. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهما إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم لحديث عائشة قالت :" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأد خله، ثم جاء الحسين بن علي فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأد خله، ثم قال :( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ٣ رواه مسلم. وحديث سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية ﴿ ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال :" اللهم هؤلاء أهل بيتي " رواه مسلم وحديث واثلة بن الأسقع أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ﴾ الآية وقال لعلي وفاطمة وابنيهما " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " وأخرج الترمذي، وغيره، عن عمر بن أبي سلمة، وابن جرير وغيره، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا لما نزلت هذه الآية :﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ﴾ فجللهم بكساء فقال :" اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " ٤ وهذه الأحاديث ونحوها لا تدل على تخصيص الحكم بهؤلاء الأربعة رضي الله عنهم، ويأباه ما قبل الآية وما بعدها، ويأباه العرف واللغة ؛لان الأصل في استعمال أهل البيت لغة النساء، وأما الأولاد وغيرهم فإنما يطلق عليهم تبعا ؛لان لهم بيوتا متغايرة غالبا، وقد قال الله تعالى حكاية عن قول الملائكة لسارة امرأة إبراهيم عليه السلام ﴿ أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ ٥ والحق ما ذكرنا أن الآية تعم جميع أهل البيت، وإن كان سوق الكلام للنساء. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :" في بيتي أنزلت ﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ﴾ قالت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين فقال :" هؤلاء أهل بيتي " فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت ؟قال :" بلى إن شاء الله " رواه البغوي وغيره. هذا الحديث يدل على أن أهل البيت يعم كلهم، وكلمة إن شاء الله للتبرك. وقال زيد بن أرقم أهل بيته من حرم عليه الصدقة آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وآل الحارث بن عبد المطلب. ﴿ ويطهركم تطهيرا ﴾ من نجاسة الآثام بالحفظ في الدنيا والمغفرة في الآخرة.
بين الله سبحانه أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسوله المأثم وليتصفوا بالتقوى. استعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهارة لان عرض المقترف بالمعاصي ملوث كما يتلوث بدنه بالنجاسة، والمتقي نقي كالثوب الطاهر النقي ؛ولكمال المناسبة بين الآثام والأرجاس قال أبو حنيفة يتنجس الماء المستعمل للقربة أو لرفع الحدث ولما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره " ٦ متفق عليه من حديث عثمان، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء " الحديث رواه مسلم. احتجت الروافض بهذه الآية على أن عليا وفاطمة والحسن والحسين معصومون، وهم الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم، وعلى أن إجماعهم ومن دونهم من الأئمة حجة ؛قالوا إذا أراد الله تطهيرهم فهم معصومون ؛لأن مراد الله تعالى لا ينفك عن الإرادة والأثيم غير طاهر والعصمة شرط للإمامة وأبو بكر وعمر وعثمان غير معصومين بالإجماع فهم الأئمة لا غيرهم. وهذا الاستدلال باطل بوجوه : الأول أن الآية غير مختص حكمها بعلي وفاطمة وابنيهما كما ذكرت، بل هي نازلة في أمهات المؤمنين، لكن هؤلاء الكرام داخلون في حكمهن. والثاني أن الآية لا تدل على العصمة وقد ورد مثل ذلك في آية الوضوء لجميع الأمة حيث قال :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ﴾ ٧ لا يقال مقتضى آية الوضوء إن الله يريد أن يطهر أبدانكم من الأنجاس والأحداث إن توضأتم، ومقتضى هذه الآية يريد الله أن يطهركم من الآثام فأين هذا من ذلك، لأنا نقول إنها من واد واحد، فإن الله كما يريد أن يطهر أبدان المؤمنين إذا توضؤا واستعملوا الماء في مواضعه، كذلك يريد أن يطهر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الآثام إن اتقوا ؛ ولذلك بين لهم طريقة استعمال الماء لطهارة الظاهر وبين لهم التقوى بقوله فلا تخضعن لطهارة الباطن، فكما أن طهارة ظاهر البدن يتوقف على اختيار العبد في استعمال الماء، كذلك الطهارة من الآثام يتوقف على اختياره التقوى والله أعلم. والثالث أن العصمة ليست بشرط الإمامة بل يجوز أن يكون الإمام غير معصوم مع وجود المعصوم فيهم، ألم تر أن الله تعالى جعل الملك والإمامة لطالوت مع وجود النبي المعصوم فيهم، وهو اشموئيل وداود عليهما السلام ﴿ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ﴾ ٨ إلى قوله تعالى :﴿ وقتل داود جالوت ﴾ ٩ والله أعلم.
١ سورة النساء الآية: ١١٤.
٢ سورة النجم الآية: ٥٠..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (٢٤٢٤)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (٣٧٩٦)..
٥ سورة هود الآية: ٧٣..
٦ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة باب: خروج الخطايا مع ماء الوضوء (٢٤٥)..
٧ سورة المائدة الآية: ٦..
٨ سورة البقرة الآية: ٢٤٧..
٩ سورة البقرة الآية: ٢٥١..
﴿ واذكرن ﴾ عطف على أطعن الله ورسوله وما بينهما اعتراض للتعليل ﴿ ما يتلى في بيوتكم من آيات الله ﴾ يعني القرآن ﴿ والحكمة ﴾يعني الوحي الغير المتلو وهو السنة. وقال مقاتل يعني أحكام القرآن ومواعظه. وقال البيضاوي يعني أذكرن الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير لما أنعم الله عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة حثا على الائتمار والانتهاء فيما كلفن به ﴿ إن الله كان لطيفا ﴾ بكم يعظكم ويعلمكم ما يصلح في الدين ﴿ خبيرا ﴾ بكل شيء يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته وفي صحبته قال الله تعالى :﴿ الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ﴾١ والله أعلم.
١ سورة النور الآية: ٢٦..
ذكر البغوي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعة الله فأنزل الله تعالى :﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾ الآية وروى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن سعد عن قتادة نحوه، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فنزلت ورواه ابن جرير من حديث قتادة مرسلا وأخرج الترمذي وحسنه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما أرى كل شيء إلا للرجال وما نرى النساء يذكرن بشيء فنزلت. وذكر البغوي أنه قال مقاتل قالت أم سلمة بنت أبي أمية وآسية بنت الكعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، نخشى أن لا يكون فيهن خيرا فنزلت هذه الآية. وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن لا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن النساء في خيبة وخسارة قال ومم ذلك. قالت إنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾ أي المنقادين لحكم الله ورسوله المفوضين أمورهم إلى الله المتوكلين عليه من الرجال والنساء ﴿ والمؤمنين والمؤمنات ﴾ المصدقين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أمن الناس من يوابقهم من الرجال والنساء ﴿ والقانتين والقانتات ﴾ المداومين على الطاعة من الفريقين ﴿ والصادقين والصادقات ﴾ في القول والعمل أعني عاملين أعمالا يصدق من يثني عليها ﴿ والصابرين والصابرات ﴾ في المصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي وإتباع الشهوات ﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾ المتواضعين غير متكبرين من الرجال والنساء ﴿ والمتصدقين والمتصدقات ﴾ مما رزقهم الله ابتغاء مرضاة الله ﴿ والصائمين والصائمات ﴾ فرضا ونقلا ﴿ والحافظين فروجهم والحافظات ﴾ فروجهن عما لا يحل ﴿ والذاكرين لله كثيرا والذاكرات ﴾ الله تعالى بقلوبهم وألسنتهم.
قال البغوي قال مجاهد لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا، يعني لا يفتر ذكرهم في حين من الأحيان قلت وذلك لا يتصور إلا بعد فناء القلب واستغراق القلب في الذكر وحصول الحضور الدائم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " ١ رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع " رواه البيهقي في الدعوات الكبير من حديث عبد الله بن عمر، وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة ؟ قالوا الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. قيل يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة " ٢ رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث غريب. وعن مالك قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كا ن يقول :" ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين، وذاكر الله في الغافلين كغصن شجر اخضر في شجر يابس، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي، وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم، والفصيح بنو آدم والأعجم بهائم " رواه رزين.
قال البغوي : قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله فهو داخل في قوله : إن المسلمين والمسلمات، ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله والمؤمنين والمؤمنات، ومن أطاع الله في الفرائض والرسول في السنة فهو داخل في قوله ﴿ والقانتين والقانتات ﴾ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله ﴿ والصادقين والصادقات ﴾ ومن صبر على الطاعة وخاف من المعصية وصبر على الرزية فهو داخل في قوله :﴿ والصابرين والصابرات ﴾ ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله :﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾ ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله :﴿ والمتصدقين والمتصدقات ﴾ ومن صام في كل شهر أيام البيض ( الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ) فهو داخل في قوله :﴿ والحافظين فروجهم والحافظات ﴾ ومن صلى الصلوات الخمس فهو داخل في قوله :﴿ والذاكرين لله كثيرا والذاكرات ﴾ قال البيضاوي عطف الإناث على الذكور ضروري لاختلاف الجنسين، وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين ليس بضروري ؛ ولذلك ترك في قوله تعالى : مسلمات مؤمنات قانتات الخ. وفائدته الدلالة على أن الأعداد والموعود لهم للجمع بين هذه الصفات ﴿ أعد الله لهم مغفرة ﴾ لما صدر منهم من الذنوب ﴿ وأجرا عظيما ﴾ على طاعتهم والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: الحث على ذكر الله تعالى (٢٦٧٦)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات باب: في العفو والعافية (٣٥٩٦).
أخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهو يريد لزيد بن الحارثة فظنت أنه يريدها لنفسه فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت فأنزل الله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ﴾ الآية فرضيت وسلمت. قال البغوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه فلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وكرهت، وكذلك أخوها عبد الله بن جحش كره ذلك ( وكانت أم زينب وأخيها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ). وأخرج ابن جرير من طريق عكرمة، ومثله من طريق العوفي عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فا ستنكفت منه وقالت أنا خير منه حسبا فأنزل الله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ﴾ يعني عبد الله بن جحش ﴿ ولا مؤمنة ﴾ يعني زينب بنت جحش يعني لا يجوز لأحد ﴿ إذا قضى الله ورسوله أمرا ﴾ يعني آمرا أمرا على وجه التحتم ﴿ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ يعني أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل يجب عليهم ما أمرهم الله به، وأن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله. وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما نكرتين في حيز النفي، وجمع الثاني للتعظيم. قرأ الكوفيون وهشام يكون بالياء التحتا نية لأجل الفصل بين الفعل وفاعله، والباقون بالتاء الفوقانية لأجل التأنيث. والخيرة والخيار بمعنى واحد. وهذه الآية دليل على أن مطلق الأمر للوجوب ويستفاد من هاهنا أن العالم ومن له فضل من حيث الدين كفؤ للعلوي وغيره من الشرفاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال نزلت الآية في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول من هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها، وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره فنزلت الآية ﴿ ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلال مبينا ﴾ بين الإنحراف عن الصواب، فإن كان عصيان رد وإنكار فهو ضلال كفر، و إن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فضلال فسق. جملة ( فقد ضل ) تعليل لجزاء الشرط المحذوف تقديره يهلك فقد ضل.
قال البغوي : فلما نزلت هذه الآية وسمعت زينب بنت جحش وأخوها رضيا بذلك وسلما، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، فدخل بها وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وإزارا ومحلفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، ومكثت عنده حينا. ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى ذات يوم كحاجة فأبصر زينب قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال سبحان الله مقلب القلوب فأنصرف، فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن فألقى في نفسه كراهتها في الوقت، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال مالك أرأيت منها شيئا، قال لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أمسك عليك زوجك وأتق الله " في أمرها. كذلك روى ابن جرير عن أبي زيد فأنزل الله تعالى :﴿ واذكر ﴾ إذ تقول يا محمد الآية.
وأخرج الحاكم عن أنس قال : جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك أهلك " فنزلت ﴿ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ﴾
﴿ للذي أنعم الله عليه ﴾ أي هداه للإسلام ورزقه مصاحبتك وألقى في قلبك محبته والرحمة عليه ﴿ وأنعمت عليه ﴾ بالإنفاق والإعتاق وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه ﴿ أمسك عليك زوجك ﴾ يعني زينب بنت جحش ﴿ واتق الله ﴾ في أمرها فلا تطلقها فإن الطلاق من أبغض المباحات ﴿ وتخفي في نفسك ما الله مبديه ﴾ قوله أمسك مقولة تقول وجملة تخفي معطوف على قوله تقول يعني وكنت تسر في نفسك ما الله مظهره أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة قال الحسن أعجبه قول زيد وأخفى رسول صلى الله عليه وسلم ذلك في نفسه حياء وكرما وقيل وقع في قلبه أنه لو فارقها زيد تزوجها وقال ابن عباس حبها وقال قتادة ود أنه طلقها.
وقال البغوي : روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام ما يقول الحسن في قوله عز وجل ﴿ وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾ قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إني أريد أن أفارق زينب أعجبه ذلك فقال :" أمسك عليك زوجك واتق الله " : قال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد وقال إني أريد أن أطلقها قال أمسك عليك زوجك فعاتبه الله وقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمناك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لان الله تعالى أعلم أن يبدئ ويظهر ما أخفاه ولم يظهر الله غير تزويجها منه فقال :( زوجناكها ) فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك وإنما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إ ستحياء أن يقول لزيد التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي قال البغوي وهذا قول مرضي حسن وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد لا يقدح في حال الأنبياء لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه فإن مثل هذه الأشياء ما لم يقصد لا إثم فيه لأن الود وميل النفس من طبع البشر وقوله أمسك عليك زوجك واتق الله أمر بالمعروف وهو حسنة لا إثم فيه قلت بل هو أعظم أجرا فإنه أمر بالمعروف على خلاف طبعه قال الله تعالى :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ ١ وما قال الحسن يؤيده قوله لله حين رأى زينب سبحان الله مقلب القلوب فإنها تدل على أنه تعالى قلب قلب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتزوجها بعدما كان في قلبه أن يتزوجها زيدا ﴿ وتخشى الناس ﴾ عطف على تخفي يعني تخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلا أن يطلق إمرأته ﴿ والله أحق أن تخشاه ﴾ الجملة حال من فاعل تخشى قال عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد من هذه الآية وروي عن مسروق قال قالت عائشة لو كتم النبي صلى الله صلى عليه وسلم شيئا مما أوحى إليه لكتم ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) قال البغوي لم يرد الله بهذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الله فإنه صلى الله عليه وسلم قال :" إني أخشاكم وأتقاكم " قلت وقد قال الله تعالى في شأن الأنبياء كلهم ﴿ يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ﴾ ٢ ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء قلت فمعنى الآية أنك تخشى لائمة الناس وتخشى الله أشد خشية من خشية الناس فإن الله أحق أن تخشاه فمن أجل خشية الناس والحياء منهم أخفيت ما أضمرت ومن أجل خشية الله أمرت بالمعروف ولم تترك شيئا مما أمرك الله به ولا منافاة بينهما ومعنى قوله تعالى :﴿ لا يخشون أحدا إلا الله ﴾ أنهم لا يخشون أحدا فيما يقضي خشيتهم ترك امتثال أمر الله تعالى وأما خشية الناس حياء فيما عدا ذلك فحسن " فإن الحياء من الإيمان " متفق عليه مرفوعا من حديث ابن عمر وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قوله صلى الله عليه وسلم " الحياء خير كله " ٣ وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر "
وفي رواية ابن عباس " فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر " رواه البيهقي في شعب الإيمان وروى مالك عن زيد بن طلحة مرسلا وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وابن عباس أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء " ٤ والله أعلم.
وأخرج مسلم وأحمد والنسائي وأبو يعلي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وذكره البغوي وهذا لفظ البغوي عن أنس أنه قال لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذهب فادكرها علي " فأنطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال زيد فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت ما أنا بصانعة حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجد ها ونزل القرآن ﴿ فلما قضى زيد منها وطرا ﴾ الآية وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم و دخل عليها بغير إذن فقال لقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أ طعمنا ا لخبز واللحم حتى أمتد النهار فخرج الناس وبقي رجلان يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويسلمن عليه ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فقال ما أدري أنا أخبرت أن القوم قد خرجوا أو أخبروني فأنطلق حتى دخل البيت قال أنس فذهبت أد خل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب قوله تعالى ﴿ فلما قضي زيد منها ﴾ أي من أهله وهي زينب بنت جحش ﴿ وطرا ﴾ أي حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها قيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق ﴿ زوجناكها ﴾ أي جعلناها زوجتك روى البخاري وأحمد والترمذي والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد والبيهقي في سننه عن أنس أنه قال :" كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات " ٥ وفي لفظ إن الله تولى نكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن قال البغوي قال الشعبي كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك إمرأة تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير لجبرئيل عليه السلام و وعن أنس قال :" ما أو لم النبي ما أو لم بزينب أولم بشاة " ٦ وعن أنس قال : أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزا ولحما ﴿ لكي لا يكون على المؤمنين حرج ﴾ أي ضيق بالتحريم ﴿ في أزواج أدعيائهم ﴾ جمع دعي وهو المتبني يعني زوجناك زينب امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتبني حلال وإن كان قد دخل بها المتبني بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب وفيه د ليل على أن حكم الرسول وحكم الأمة واحد ما لم يقم دليل على تخصيص الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إذا قضوا ﴾ أي الأدعياء ﴿ منهن ﴾ أي من أزواجهم ﴿ وطرا وكان أمر الله ﴾ أي قضاؤه ﴿ مفعولا ﴾ مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.
١ سورة الحشر الآية: ٩..
٢ سورة الأحزاب الآية: ٣٩..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: بيان عدد شعب الإيمان أفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان (٣٧)..
٤ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد باب: الحياء (٤١٨١) وفيه ضعف..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد باب: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ (٧٤٢٠) وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢١٢)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح باب: الوليمة ولو بشاة (٥١٦٨) وأخرجه أبو داود في كتاب: الأطعمة باب: في استحباب الوليمة للنكاح (٣٧٣٨)..
﴿ ما كان على النبي ﴾ متعلق بمضمون من حرج لا من لفظة لأن معمول المجرور لا يتقدم على الجار ﴿ من حرج ﴾ أي ضيق من زائدة وحرج اسم كان ﴿ فيما فرض الله له ﴾ أي فيما قسم له وقدر له من عدد النساء من قولهم فرض له في الديوان ومنه فروض العسكر لأرزاقهم وقيل معنا فيما أحل له ﴿ سنة الله ﴾ مصدر لفعل محذوف أي سن الله سنة أو منصوب بنزع الخافض أي كسنة الله أو على الإغراء أي التزموا سنة الله ﴿ في الذين خلوا من قبل ﴾ من الأنبياء الماضين قال الكلبي أراد داود عليه السلام حيث جمع بينه
بين المرأة التي هواها فكذلك جمع بين محمد صلى الله عليه وسلم وزينب وقيل أشار بالسنة إلى النكاح فإنه سنة الأنبياء وقيل أشار إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليه السلام ﴿ وكان أمر الله قدرا مقدورا ﴾ أي قضاء ماضيا لا محالة.
﴿ الذين يبلغون رسالات الله ﴾ صفة للذين خلوا من قبل أو مدح لهم منصوب أو مرفوع ﴿ ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ﴾ كما أنت تخشى الله ولا تخشى غيره فيما أمرك الله به ونهاك عنه ﴿ وكفى بالله حسيبا ﴾ كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلا منه.
أخرج الترمذي عن عائشة أنها قالت لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ﴾١ يعني ليس محمد صلى الله عليه وسلم أبا لزيد ابن حارثة فيحرم عليه نكاح زوجته فإن قيل كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وكذلك الحسن والحسين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن إن ابني هذا سيد ؟ قلنا إن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم ماتوا صغارا لم يبلغوا مبلغ الرجال وإطلاق الابن على الحسنين عليهما السلام على التجوز ﴿ ولكن رسول الله ﴾ وكل رسول أب لأمته لكن لا من حيث النسب حتى يحرم عليه ما يحرم بالنسب بل من حيث الشفقة والنصيحة ﴿ وخاتم ﴾ قرأ عاصم بفتح التاء على الاسم بمعنى الآخر والباقون بكسر التاء على وزن فاعل يعني الذي ختم ﴿ النبيين ﴾ حتى لا يكون بعده نبي قال ابن عباس يريد الله سبحانه أنه لو لم يكن أختم له النبيين لجعلت ابنه بعده نبيا وروى عطاء عن ابن عباس أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يعني رجلا أخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال في إبراهيم حين توفي لو عاش لكان نبيا ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا ينزل يكون على شريعته مع أن عيسى عليه السلام صار نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد ختم الله سبحانه الاستنباء بمحمد صلى الله عليه وسلم وبقاء نبي سابق لا ينافي ختم النبوة ﴿ وكان الله بكل شيء عليما ﴾ فيعلم من يليق به ختم النبوة وكيف ينبغي شأنه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة فكنت أنا سددت موضع اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل " وفي رواية " فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " ٢ متفق عليه وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي " ٣ متفق عليه وعن أبي موسى الأشعري قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة " ٤ رواه مسلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب: (٣٢٠٧)..
٢ أخرجه البخاري فيكتب: المناقب باب: خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (٣٥٣٤) وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل باب: ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (٢٢٨٦)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣٥٣٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم (٢٣٥٤)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم (٢٣٥٥)..
﴿ يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا٤١ ﴾ قال ابن عباس لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله فأمر به في الأحوال كلها فقال :﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ ١ وقال :﴿ اذكروا الله ذكرا كثيرا ﴾ بالليل والنهار في البر والبحر والصحة والسقم والسر والعلانية وقال مجاهد الذكر الكثير أن لا ينساه أبدا قلت وهذا لا يتصور إلا بعد فناء القاب ودوام الحضور
١ سورة النساء الآية: ١٠٣..
﴿ وسبحوه ﴾ أي صلوا له ﴿ بكرة ﴾ يعني صلاة الصبح ﴿ وأصيلا ﴾ قال الكلبي يعني صلاة الظهر والعصر والعشائين وقال مجاهد يعني قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته وقيل المراد بالذكر الكثير هذه الكلمات يقولها الطاهر والمحدث والجنب قلت أمر الله سبحانه أولا بتعميم الذكر أبدا بحيث لا ينساه ثم خصه بأوقات مخصوصة فالمراد بالأول هو الذكر الخفي والحضور الدائم وبالثاني الذكر الجلي والعبادات الراتبة من الفرائض والسنن وقيل خص أول النهار وآخره بالذكر لأن ملائكة الليل والنهار يجتمعون فيها عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم ( وهو أعلم بهم ) كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون " ١ متفق عليه وقيل : بكرة وأصيلا يعني أدوا الصلوات وسائر العبادات ذاكر الله حاضرين غير غافلين عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت وإذا التفت انصرف عنه " ٢ رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي
١ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة باب: فضل صلاة العصر (٥٥٥) وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: فضل صلاتي الصبح والعصر (٦٣٢)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة باب: الالتفات في الصلاة (٩٠٨) وأخرجه النسائي في كتاب: السهو باب: التشديد في الالتفات في الصلاة (١١٨٩)..
قال البغوي قال أنس لما نزلت ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ قال أبو بكر ما خصك الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله تعالى ﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ﴾ وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه قال البغوي الصلاة من الله رحمة من الملائكة استغفار وقيل الصلاة من الله على العبد إشاعة الذكر الجميل له في العباد وقيل الثناء عليه وفي القاموس الصلاة الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله تعالى على رسوله وعبادة فيها ركوع وسجود وهذه العبارة تقتضي كونها لفظا مشتركا فمن أجاز استعمال اللفظ المشترك في الأكثر من معنى واحد أجاز أن يكون معناه أن الله يرحم عليكم وملائكته يستغفرونه لكم وأما عند الجمهور فلا يجوز عموم المشترك فيقال المراد بالصلاة هاهنا المعنى المجازي المشترك بين المعنيين الحقيقيين وهو العناية لصلاح أمركم وظهور تشرفكم ويسمى عموم المجاز وقال كثير من أهل اللغة الصلاة هو الدعاء يقال صليت عليه أي دعوت له قال عليه السلام إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب إن كان صائما فليصل " ١ أي ليدع لأهله وقال تعالى :﴿ صل عليهم إن صلاتك سكن لهم ﴾٢ وإنما سميت الأركان المخصوصة صلاة لاشتمالها على الدعاء وهو قوله :﴿ اهدنا الصراط المستقيم٦ ﴾ تسمية الكل باسم الجزء والصلاة من الله تعالى على عباده أن يطلب من نفسه لأجل عباده الرحمة والمغفرة ويناسب الطلب من نفسه الإيجاب من نفسه على نفسه المستفاد من قوله تعالى :﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾٣ فإن الإيجاب والطلب بمعنى واحد فإن الطلب حتما هو الإيجاب والمراد بالإيجاب الالتزام تفضلا وإذا أريد بالصلاة هاهنا الدعاء لا يلزم عموم المشترك قال البغوي قال النبي صلى الله عليه وسلم قالت بنوا إسرائيل لموسى أيصلي ربنا فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أن قل لهم إني أصلي وإن صلاتي رحمتي وسعت كل شيء ﴿ وليخرجكم ﴾ يعني أنه برحمته ودعاء الملائكة يديم إخراجكم ﴿ من الظلمات ﴾ أي ظلمات الكفر والمعاصي ﴿ إلى النور ﴾ أي نور الإيمان والطاعة ويمكن أن يقال ليخرجكم ساعة بعد ساعة أبدا من ظلمات البعد إلى نور القرب ومن استوى يوماه فهو مغبون ﴿ وكان بالمؤمنين رحيما ﴾ حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإعلاء قدرهم واستعمل في دعائهم الملائكة المقربين الجملة معطوفة على الصلة أي الذي يصلي عليكم والذي كان بالمؤمنين رحيما
١ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح باب: الأمر بإجابة الداعي إلى الدعوة (١٤٣١)..
٢ سورة التوبة الآية: ١٠٣..
٣ سورة الأنعام الآية: ٥٤..
﴿ تحيتهم ﴾ أي تحية المؤمنين منه تعالى أضيف المصدر إلى المفعول أي يحيون منه تعالى ﴿ يوم يلقونه ﴾ يعني يوم لقائهم إياه سبحانه يعني عند الموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة أو عند رؤية الله سبحانه ﴿ سلام ﴾ أي يسلم الله عليهم تحية ويسلمهم الله من جميع المكاره قال البغوي روي عن البراء بن عازب قال :" تحيتهم يوم يلقونه يعني يوم يلقون ملك الموت سلام أي لا يقبض روح مسلم إلا سلم عليه " وعن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرئك السلام وقيل يسلم عليهم الملائكة ويبشرهم حين أخرجوا من قبورهم ﴿ وأعد لهم أجرا كريما ﴾ يعني الجنة ورؤية الله ورضوانه
﴿ يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ﴾ على أمتك أخرج ابن المبارك عن سعيد ابن المسيب قال ليس من يوم إلا ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم ولذلك يشهد عليهم أو شاهدا لامتك مصدقا لهم حين يشهدون للرسل على الأمم بالتبليغ أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير أحد فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته الحديث " ١ وفي الباب أحاديث كثيرة فهو حال مقدرة كقولك مررت برجل معه صقر صائدا به غذا ﴿ ومبشرا ﴾ بالجنة من آمن بالرسل ﴿ ونذيرا ﴾ بالنار لمن كذب الرسل
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير بابك ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾ (٤٤٨٧) وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة البقرة (٢٩٦١) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد باب: صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم (٤٢٨٤)..
﴿ وداعيا إلى الله ﴾ أي إلى توحيده وطاعته أو إلى جنته أو لقائه الغير المتكيفة ﴿ بإذنه ﴾ أي بأمره وتيسيره قيد به الدعوة إيذانا بأنه أمر صعب لا يتأتى إلى بمعونة من جنات قدسه خصوصا الدعوة على لقائه فإن إيصال العبد إليه تعالى أمر لا يمكن إلا بفضله قال الله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾١ إلى صراط مستقيم عن ربيعة الجرشي قال " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له لتنم عيناك ولتسمع أذنك ولتعقل قلبك قال فنامت عيني وسمعت أذناي وعقل قلبي قال فقيل لي سيد بني دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة " ٢ رواه الدارمي ﴿ وسراجا منيرا ﴾ سماه سراجا لأنه يستضاء به ويهتدي به كالسراج يستضاء به ويهتدي به في ظلمة الليل يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان بلسانه داعيا إلى الله وبقلبه وقالبه وكان مثل السراج يتلون المؤمنون بألوانه ويتنورون بأنواره كالعالم يتنور بنور الشمس والبيت بالسراج ولأجل ذلك اختصت الصحابة رضي الله عنهم بمزيد الفضل على الناس فإن علومه التي تلقتها الأمة من لسانه لم يتفاوت فيه الناس من الصحابة وغيرهم بل رب مبلغ أوعى من سامع وأما التنور بأنواره فإنه وإن كان حاصلا للناس بتوسط أصحابه وأصحاب أصحابه إلى يوم القيامة لكن ليس النائب فيه كالشاهد بل مثله كمثل بيت تنور بنور الساحة التي تنورت بنور الشمس لأجل مقابلتها وأين هذا من ذلك والله أعلم عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا٤٥ ﴾ وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عمياء وآذنا صماء وقلوبا غلفا " ٣رواه البخاري وكذا الدارمي عن عطاء بن سلام نحوه والله أعلم.
١ سورة القصص: الآية: ٥٦. ض.
٢ أخرجه الدارمي في لمقدمة باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب قبل مبعثه (٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع باب: كراهية السخب في السوق (٢١٢٥)..
أخرج البيهقي في دلائل النبوة عن الربيع بن أنس أنه قال لما نزلت ﴿ ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ ثم نزل بعدها ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ قال رجال من المؤمنين هنيئا لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ﴿ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا٤٧ ﴾ وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن وقال أنس الفضل الكبير الجنة والجملة معطوفة على إنا أرسلناك
﴿ ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾ فيما يخالف شريعتك تحريض له على ما هو عليه من مخالفتهم ﴿ ودع أذاهم ﴾ قال ابن عباس وقتادة يعني اصبر على إيذائهم إياك فالمصدر مضاف إلى الفاعل والمعنى إجعل إيذائهم إياك في جانب ولا تبال به ولا تخف منه وقال الزجاج يعني لا تجادلهم ولا تتصد على أذاهم يعني لا تؤذهم فالمصدر مضاف إلى المفعول وعلى هذا قيل أنه منسوخ ﴿ وتوكل على الله ﴾ فإنه يكفيك ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ يعني إذا جعلت الله موكولا إليه أمورك فهو يكفيك لا يدع حاجة لك إلى غيره قال البيضاوي وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمس صفات وقابل كلا منها بخطاب يناسبه فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهي عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي إلى الله بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراح المنير بالاكتفاء به فإنه من أناره برهانا على جميع خلقه كان حقيقا أن يكتفي به عن غيره.
﴿ يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ﴾ خص المؤمنات بالذكر مع أن نكاح المؤمنين بالكتابيات أيضا جائز وحكمهن في الطلاق قبل الدخول مثل حكم المؤمنات إيماء إلى أن اللائق بالمؤمنين أن ينكح المؤمنة دون الكتابية ﴿ ثم طلقتموهن ﴾ قال البغوي فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا أنكحتك فأنت طالق أو قال كل امرأة أنكحها فهي طالق فنحكها لا يقع الطلاق وهو قول علي وابن عباس ومعاذ وجابر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير وعروة والقاسم وطاووس والحسن وعكرمة وعطاء وسلميان بن يسار ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وكذا قولهم في الإعتاق المعلق بالملك وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي أعني أبا حنيفة وأصحابه وقال ربيعة والأوزاعي ومالك إن عين إمرأة يقع وإن عمم إمرأة لا يقع وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال كذبوا على ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم وإن قال في الرجل إن تزوجت فلانة فهي طالق يقول الله ﴿ يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ﴾ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن واستدل البغوي بحديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا طلاق قبل النكاح ".
قلت : أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه وقال أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه وهو على شرطهما وقال أحمد إن علق طلاق الأجنبية بالنكاح ينعقد وإنعلق العتاق بالملك فعن أحمد فيه روايتان وقال مالك إن خص بلدا أو قبيلة أو صنفا أو امرأة وعلق طلاقها بالنكاح ينعقد وأحتج ابن الجوزي لمذهب أحمد بستة أحاديث.
أحدهما : حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم " ليس على رجل طلاق فيما لا يملك ولا عتاق فيما لا يملك ولا بيع فيما لا يملك " ١ رواه ابن الجوزي من طريق أحمد ورواه أصحاب السنن وقال الترمذي هو أحسن شيء روي في هذا الباب ورواه البزار بلفظ " لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك " قال البيهقي في الخلافيات قال البخاري هذا أصح شيء في الباب.
ثانيها : حديث عمرو بن شعيب عن طاوس عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يجوز طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا وفاء نذر فيما لا يملك " رواه الدارقطني وروى الدارقطني من طريق آخر عن إبراهيم أبي إسحاق الضرير عن يزيد بن عياض عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا طلاق إلا بعد نكاح وإن سميت المرأة بعينها " قال الحافظ ابن حجر منقطع ويزيد بن عياض متروك وذكر الذهبي في استيعاب أسماء الرجال قال مالك يزيد بن عياض كذاب وقال يحيي بن معين ضعيف ليس بشيء وقال أحمد بن صالح كان يضع للناس يعني الحديث وقال البخاري ومسلم منكر الحديث وقال أبو داود ترك حديثه وقال النسائي متروك وقال في موضع آخر كذاب.
ثالثها : ما رواه الدارقطني قال حدثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن أبي ثعلبة الخشني قال قال لي عم لي أعمل بي عملا حتى أزوجك ابنتي فقلت إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا ثم بدا لي أن أتزوجها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال لي :" تزوجها فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح " فتزوجها فولدت لي أسعد وسعيدا قال الذهبي في الميزان قال النسائي وغيره بقية بن الوليد إذا قال حدثنا وأخبرنا فهو ثقة قال غير واحد كان مدلسا فإذا قال عن فليس بحجة وثور بن يزيد ثقة صحيح الحديث مشهور بالقدر وهذا رواية بقية بلفظ عن وطعن ابن همام على هذا وقال فيه علي بن قرين كذبه أحمد قلت : ما رواه ابن الجوزي ليس من طريق الدارقطني وليس فيه على بن قرين والله أعلم.
رابعها " حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل انه قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق قال :" طلق ما لا يملك " رواه الدارقطني وفيه أبو خالد الوسطي وهو عمرو بن خالد قال الذهبي ضعفه أبو حاتم وقال ابن همام قال احمد وابن معين كذاب ورواه ابن عدي عن نافع عنه بلفظ " لا طلاق إلا بعد نكاح " قال ابن حجر إسناده ثقات.
خامسها : حديث طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا نذر إلا فيما أطيع الله فيه ولا يمين في قطعة رحم ولا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك " رواه الدارقطني ورواه الحاكم من طريق آخر وفيه من لا يعرف كذا قال ابن حجر وروى الحاكم عن ابن عباس ما قالها ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق وقد قال الله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ﴾ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن وقيل لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا طلاق قبل نكاح " وأصح شيء فيه حديث المنكدر عن طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
سادسها : حديث عائشة قالت :" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ابن حرب على نجران اليمن فكان فيما عهد إليه أن لا يطلق الرجل ما لا يتزوج ولا يعتق ما لا يملك " قال ابن حجر قال ابن أبي حاتم في العلل حديث منكر ورواه الحاكم من طريق الحجاج ابن منهال عن هشام الدستوائي عن عروة عن عائشة مرفوعا قال ابن الجوزي وقد روي نحو هذا من حديث علي وجابر ولكنها طرق مجتنبة بمرة قلت أما حديث علي فرواه ابن ماجه عنه يرفعه لا طلاق قبل النكاح وفيه جويبر وهو ضعيف وأما حديث جابر فقد ذكرنا من قبل وفي الباب حديث المسور بن مخرمة أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك "
وجه قول أبي حنيفة أن المعلق بالشرط فإن التعليق بالشرط مانع من أن يكون السبب سببا دون الحكم فقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وكذا قوله إن نكحتك فأنت طالق يمين مانع من دخول الدار ومن النكاح الذين هما شرطان لوجود الطلاق فهو مانع من الطلاق فلا يصلح أن يكون سببا موجبا للطلاق لتمانع الوصفين أعني كونه مانعا وكونه سببا لكن له عرضة أن يصير طلاقا عند الحنث وهو وجود الشرط وإذا لم يكن طلاقا فلا يجوز الاحتجاج بالآية والأحاديث الناطقة بنفي الطلاق قبل النكاح وأما حديث ابن عمر وحديث أبي ثعلبة الخشني فلا يصح شيء منهما وقد ذكرنا وجه القدح فيهما فإن قيل إذا لم يكن المعلق بالشرط فما وجه الفرق بين قوله للأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق وإن نكحتك فأنت طالق حيث ينعقد الثاني دون الأول ؟ قلنا : وجه الفرق أن اليمين ما يكون مانعا من الفعل لها بخوف الإثم كما في اليمين بالله تعالى : وإما بخوف الوقوع فيما لا يريد من الطلاق والعتاق أو نحو ذلك ولا شك أن تعليق الطلاق والعتاق بالملك يصلح مانعا من التملك بخلاف تعليق الطلاق والعتاق للأجنبية بدخول الدار حيث لا يصلح أن يكون مانعا لها من دخول الدار فلا يصلح أن يكون يمينا كما لا يصلح أن يكون طلاقا فيلغو قال ابن همام ومذهبنا مروى عن عمرو ابن مسعود وابن عمرو وأخرج ابن أبي شبيه في مصنفه عن سالم والقاسم ابن محمد وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والزهري والأسود وأبي بكر بن عبد الرحمان ومكحول الشامي في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق أو لم أتزوجها فهي طالق أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق قالوا هو كما قال وفي لفظ يجوز عليه ذلك وقد نقل مذهبنا أيضا عن سعيد بن المسيب وعطاء وحماد بن أبي سليمان وشريح رحمهم الله وقال الشافعي المعلق بالشرط تطليق والتعليق ليس مانعا من سببية السبب بل هو مانع من الحكم كالبيع بشرط الخيار وحديث أبي ثعلبة الخشني نص فيه مفسر وقد ذكره ابن الجوزي بسنده ولم يتعرض بالطعن عليه وهو متهم في إظهار الحق وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا طلاق قبل النكاح " وما في معناه الظاهر أنه منع أو نفي لتعليق الطلاق بالنكاح وأما تنجيز الطلاق قبل النكاح فلا يتصور من عاقل وبطلانه ظاهر فلا يحمل عليه كلام الحكيم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فإنه حينئذ في قوة قول من يقول لا يحب الصلاة على من لم يولد بعد ﴿ من قبل أن تمسوهن ﴾ أي تجامعوهن ﴿ فما لكم عليهن من عدة ﴾ أيام يتربصن فيها ﴿ تعتدونها ﴾ تستوفون عددها هذا حكم أجمع عليه الأمة وفي قوله تعالى :﴿ فما لكم ﴾ دلالة على أن العدة حق الرجال لأنها لصيانة الماء وعدم وقوع الشك في النسب والنسب إلى الرجال ومن هاهنا قال أبو حنيفة إنه إذا طلق ذمي ذمية وكان معتقدهم أنه لا عدة فلا عدة عليها وأما إذا كان معتقدهم وجوب العدة يجب عليها العدة والحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها وإن تزوجت على الفور جاز نكاحها لأن الحربي يلحق بالجمادات حتى كان محلا للتملك فلا حق له إلا أن تكون حاملا لأن في بطنها ولد ثابت النسب وعن أبي حنيفة أنه يجوز النكاح ولا يطأها كالحبلى من الزنى والأول أصح ﴿ فمتعوهن ﴾ أي أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس هذا إذا لم يسم لها صداقا فلها المتعة فإن كان قد فرض لها صداق فلها نصف الصداق ولا متعة لها فالآية على قول ابن عباس مخصوصة وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ فنصف ما فرضتم ﴾ ٢ ومرجع القولين واحد يعني لا متعة وجوبا ولا استجابا لمن طلقت قبل المسيس وقد سمى لها مهرا وقيل هذا أمر ندب فالمتعة لها مستحب مع نصف المهر وروي عن الحسن وسعيد بن جبير أن المتعة لها واجب بهذه الآية ونصف المسمى بما في البقرة وقد ذكرنا في وجوب المتعة واستحبابها ومقدارها في سورة البقرة فلا نعيده ﴿ وسرحوهن ﴾ أي أخرجوهن من بيوتكم وخلوا سبيلهن إذ ليس لكم عليهن من عدة ﴿ سراحا جميلا ﴾ من غير ضرار.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الطلاق واللعان باب: ما جاء لا طلاق قبل النكاح (١١٧٧) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطلاق باب: لا طلاق قبل النكاح (٢٠٤٧)..
٢ سورة البقرة الآية: ٢٣٧..
﴿ يأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن ﴾ يعني مهورهن لان المهر أجر على البضع وتقييد الإحلال له بإعطائها إنما هو خرج على حسب الواقع ومخرج عادة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعطهن مهورهن معجلة أولا يثار الأفضل ولا مفهوم له إجماعا ﴿ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ﴾ يعني رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية وهذا القيد ليس للاحتراز أيضا ولا مفهوم لها عند القائلين بالمفهوم لأن مارية أم إبراهيم لم تكن مسبية بل كانت مما أهدي إليه مقوقس ﴿ وبنات عمك وبنات عماتك ﴾ يعني نساء قريش ﴿ وبنات خالك وبنات خالتك ﴾ يعني نساء بني زهرة ﴿ التي هاجرن معك ﴾ وكلمة مع للموافقة في نفس الفعل لا بحسب الزمان كما في قوله تعالى } ﴿ أسلمت مع سليمان ﴾١ والمراد المهاجرات مطلقا قال البغوي فمن لم يهاجر منهن لم يجز نكاحها أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء٢ وروى ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن أم هاني قالت نزلت في هذه الآية ﴿ وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك التي هاجرن معك ﴾ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني إذا لم أهاجر قال البغوي ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل وقيل المراد بالهجرة الإسلام أي أسلمن معك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " ٣ رواه البخاري وبتأويلهم ذلك يدل على أنه لم يكن نكاح غير المسلمة من اليهودية والنصرانية حلالا له عليه الصلاة والسلام ﴿ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ﴾ قال البغوي فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها له واختلفوا في أنه هل كان حلالا له نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر فذهب جماعة إلى أنه لا يحل له ذلك لقوله تعالى :﴿ وامرأة مؤمنة ﴾ وقد ذكرنا تأويل بعضهم قوله تعالى اللاتي هاجرن معك بالإسلام شرط مستغن عن الجزاء بما مضى وقوله وامرأة منصوب بفعل فسره ما قبله يعني ونحل لك امرأة مؤمنة أو عطف على ما سبق ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال فإن معنى الإحلال إن اتفق ولذلك نكرها ﴿ إن أراد النبي أن يستنكحها ﴾ شرط للشرك الأول معنى تقديره إن أراد النبي أن يستنكح الواهبة نفسها أحللنا له إن وهبت نفسها فإن هبتها نفسها شرط للنكاح فإنها بمنزلة الإيجاب منها لا توجب له حلها ما لم يرد النبي نكاحها فإنها جارية مجرى القبول بها يتم النكاح فالحل موقوف على كلا الشرطين وهما شطر العلة أي النكاح والعدول من الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا ثم الرجوع إليه بقوله ﴿ خالصة لك من دون المؤمنين ﴾ حيث يجب عليهم المهر بالوطء أو الموت وإن لم يذكر إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله وخالصة مصدر مؤكد على وزن عافية أي خلص إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك وهذا التأويل إنما يتصور إذا كانت القيود احترازية والظاهر أنه حال من الضمير في وهبت والمعنى أنه وهبت حال كونها خالصة لك بلا مهر أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله تعالى وامرأة مؤمنة الآية قال نزلت في أم شريك الدوسية وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدوسي أن أم شريك عزية بنت جابر بن حكيم الدوسي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جميلة فقلبها فقالت عائشة ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير قالت أم شريك فأنا تلك فسماها الله مؤمنة فقال :﴿ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ﴾ فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة إن الله يسرع لك في هواك.
أخرج ابن سعد عن أبي رزين قال : هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء منهن فأنزل الله تعالى :﴿ إنا أحللنا لك أزواجك ﴾ إلى قوله ﴿ ترجي من تشاء منهن ﴾ الآية وقوله تعالى :﴿ خالصة لك من دون المؤمنين ﴾ يدل على أنه كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن ينعقد النكاح في حقه بغير مهر وذلك هو المراد بقوله تعالى : إن وهبت نفسها للنبي يعني إن زوجت نفسها بغير مهر كما أن الزيادة على أربع من النساء كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقيل هذه الآية تدل على أن انعقاد حال نكاح بلفظ الهبة كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك لغيره قال البغوي وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي قالوا لا ينعقد النكاح لغير النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ النكاح والتزويج قلت وبه قال أحمد وذكر في ترجمة الآية في اختلاف الأئمة قول أحمد أنه ينعقد النكاح بلفظ الهبة مع ذكر المهر وقال أبو حنيفة انعقاد النكاح بلفظ الهبة ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بل يجوز نكاح كل أحد بلفظ الهبة والبيع والصدقة والتمليك وكل لفظ وضع لتمليك العين مؤبدا ولا يجوز بلفظ الإجارة والإعارة وقال الكرخي يجوز بلفظ الإجارة والإعارة أيضا لأن الثابت بهما تمليك المنفعة وذلك في النكاح أيضا وقد أطلق الله سبحانه لفظ الأجرة على المهر حيث قال ﴿ أزواجك التي آتيت أجورهن ﴾ قلنا الإجارة والإعارة ليسا سببين لملك المتعة فلا طريق للاستعارة هناك ولا بلفظ الوصية لأنها توجب الملك مضافا على ما بعد الموت وعن الطحاوي أنه ينعقد لأنه يثبت به ملك الرقبة في الجملة وعن الكرخي أنه قيد الوصية بالحال فإن قال أوصيت لك بنتي هذه الآن ينعقد لأنه صار به مجازا عن التمليك قلنا : الإضافة مأخوذ في مفهوم الوصية وعدمه في النكاح فيتضادان وقال قوم لا ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا كما لا يصح في حق الأمة لقوله تعالى :﴿ إن أراد النبي أن يستنكحها ﴾ وإنما أطلق لفظ الهبة في الآية على النكاح مجازا.
قال البيضاوي محتجا بهذه الآية على مذهب الشافعي أن اللفظ تابع للمعنى وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى إجماعا وهذا القول غير سديد فإن جواز إطلاق لفظ الهبة في النكاح إنما هو بطريق المجاز ولا وجه لتخصيص التكلم بالمجاز بحضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم والنكاح يصلح أن يكون معنى مجازيا للفظ الهبة ولا اختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمعناه المجازي فإن قيل معناه الحقيقي غير مراد في الآية البتة لان المعنى الحقيقي للهبة تمليك العين وهو غير مراد بل المراد تمليك البضع بغير عوض فإذا اختص به معناه المجازي واللفظ تابع للمعنى فلا يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم النكاح بلفظ الهبة مجازا قلنا المعنى المجازي للهبة غير منحصر في تمليك البضع بغير عوض بل يجوز أن يطلق لفظ الهبة وأريد به تمليك البضع مطلقا سواء كان بعوض أو بغير عوض وقال ابن همام إنما الكلام في تحقق طريق المجاز فنفاه الشافعي بناء على انتفاء ما يجوز به التجوز إما إجمالا فلأنه لو وجد لصح أن يتجوز بلفظ كل منهما عن الآخر بأن يقال نكحتك هذا الثوب مرادا به وهبتك أو ملكتك وليس فليس وإما تفصيلا فلأن التزويج هو التلفيق وضعا والنكاح الضم ولا ضم ولا ازدوج في المالك والمملوك ولذا يفسد النكاح عند ورود ملك أحد الزوجين على الآخر ولو كان لم ينافه تأكد به ولنا على الشافعي أولا النقص الإجمالي وهو أنه لولا العلاقة المصححة للمجاز بين الهبة والنكاح لما جاز نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة وذلك جائز ولما ثبت العلاقة المصححة للمجاز بينهما وبين النكاح بلا عوض ثبت بينها وبين مطلق النكاح أيضا لوجود الأعم في ضمن الأخص وثانيا أن معنى الحقيقي للهبة تمليك العين وتمليك العين سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وملك المتعة في محلها هو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز وأما عدم جواز إستعارة النكاح لتمليك العين فلما ذكر في الأصول أنه لا يجوز استعارة اسم المسبب للسبب عندنا إلا إذا كان المقصود من السبب شرعيته كالبيع لملك الرقبة وليس ملك المتعة الذي هو موجب النكاح هو المقصود من التمليك بل ملك الرقبة وقوله لا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوك ممنوع والله أعلم.
قال البغوي اختلفوا في أنه هل كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له قال ابن عباس ومجاهد لم تكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله ﴿ إن وهبت نفسها للنبي ﴾ على طريق الشرط والجزاء وقال آخرون كانت عنده منهن قال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الأنصارية يقال لها أم المساكين وقال قتادة ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسين عليهما السلام والضحاك ومقاتل هي أم شريك بنت جابر من بني أسد أخرج ابن سعد وابن أبي شبية وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن علي بن الحسين وابن سعد عن عكرمة أنها أم شريك بنت جابر وقال عروة بن الزبير هي خولة بنت حكيم من بني سليم.
﴿ قد علمنا ما فرضنا ﴾ أي ما أوجبنا ﴿ عليهم ﴾ أي على المؤمنين ﴿ في أزواجهم ﴾ من شرائط النكاح ووجوب القسم والمهر بالوطيء حيث لم يسم وأن لا يتزوجوا أكثر من أربع ﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ بالشراء وغيره بأن يكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية وأن يستبرأ قبل الوطىء وما وسع الله الأمر فيهن في العدد وعدم وجوب القسم والجملة معترضة ﴿ لكيلا يكون عليك حرج ﴾ متعلقة بقوله خالصة ﴿ وكان الله غفورا ﴾ لما يعسر التحرز عنه ﴿ رحيما ﴾ بالتوسعة في رمضان الحرج.
١ سورة النمل الآية: ٤٤..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢١٣)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (١٠).
أخرج الشيخان في الصحيحين عن عائشة " أنها كانت تقول أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها " فأنزل الله ﴿ ترجى من تشاء ﴾ الآية فقالت عائشة أرى ربك ليسارع لك في هواك ١ وفي لفظ قالت عائشة كنت أغار على اللآتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول أتهب المرأة نفسها فلما أنزل الله تعالى :﴿ لا ترجى من تشاء منهن ﴾ الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ترجى بإسكان الياء بغير همز والباقون بهمزة مضمومة أي تؤخر من تشاء ﴿ منهن وتؤوي إليك من تشاء منهن ﴾ قال البغوي اختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنها في القسم بينهن وذلك أن التسوية في القسم بينهن كان واجبا عليه فلما نزلت هذه الآية سقط عنه فصار الاختيار إليه فيهن قال أبو زيد وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهرا حتى نزلت آية التخيير فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن أبدا وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجى من يشاء منهن فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أو فضل بعضهن في النفقة والقسم فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط قلت وليس هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بل الحكم كذلك في الأمة أيضا فمن كان تحته نساء وقال لهن من تشاء منكن حقوق النكاح من النفقة والتسوية في القسم فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ومن رضي منكم أن تبقى في نكاحي بلا مطالبة في النفقة على أن آوي إلي من أشاء منكن وأرجى منكن من أشاء سواء أقسم لكن أولم أقسم أو أقسم لبعض دون بعض أو أفضل بعضكن على بعض في النفقة والكسوة والقسم فقلن له نحن نختارك وتركنا حقنا في النفقة والقسم يكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء والله أعلم.
قال البغوي : واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهن عن القسم فقال بعضهم لم يخرج أحدا بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسمة إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم وجعل يومها لعائشة وقيل أخرج بعضهن.
روى ابن جرير عن منصور أبي رزين قال لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن يا رسول الله أجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية ﴿ يرجى من تشاء منهن ﴾ فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وزينت وأم سلمة فكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمسا أم حبيبة وسودة وصفية وميمونة وجويرية وكان يقسم لهن ما يشاء. روى البخاري عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد ان أنزلت هذه الآية ﴿ ترجى من تشاء ﴾ الآية فقلت لها ما كنت تقولين قالت كنت أقول له إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا " ٢ وقال مجاهد معناه ترجى من تشاء منهن يعني تعزل منهن من تشاء بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد وقيل معناه تطلق منهن من تشاء وتمسك منهن من تشاء وقال الحسن معناه تترك نكاح من شئت وتنكح من تشاء من نساء أمتك وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل معناه تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي وهبن أنفسهن لك فتؤويها إليها وتترك من تشاء فلا تقبل.
روى البغوي عن هشام عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي امرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت هذه الآية ﴿ ترجي من تشاء منهن ﴾ فقلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ﴿ ومن ابتغيت ممن عزلت ﴾ أي طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن أنفسهن ﴿ فلا جناح ﴾ أي لا إثم ﴿ عليك ﴾ في شيء من ذلك﴿ ذلك ﴾ التفويض إلى مشيئتك ﴿ أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ﴾ أي أقرب على قرة أعينهن وعدم حزنهن ورضائهن جميعهن لان حكم كلهن فيه سواء ثم من أويت منهن إليك وجدت ذلك تفضلا ومن عزلت منهن علمت أنه بحكم الله وعلمت منك تفضلا أيضا حيث أبقيت في نكاحك من غير حاجة منك إليه ﴿ والله يعلم ما في قلوبكم ﴾ فاجتهدوا في إحسانه وفيه وعيد لمن لم ترض منهن بمشيئة رسول الله صلى الله وسلم وقيل معناه الله يعلم ما في قلوبكم من أمر النساء والميل إلى بعضهن وإنما خيرناك فيهن تيسيرا لك ﴿ وكان الله عليما ﴾ بذات الصدور ﴿ حليما ﴾ لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقي
١ أخرجه البخاري في كتاب: النكاح باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد (٥١١٣) وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع باب: جواز هبتها لضرتها (١٤٣٤)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: قوله: ﴿ترجى من تشاء منهن﴾ (٤٧٨٩)..
أخرج ابن سعد عن عكرمة قال لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه واخترن الله ورسوله أنزل الله تعالى :﴿ لا يحل ﴾ قرأ أبو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية لان تأنيث الجمع غير حقيقي ﴿ لك النساء من بعد ﴾ أي بعد هذا اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى ﴿ ولا أن تبدل ﴾ أصله تتبدل حذفت إحدى التائين من مضارع التفعل ﴿ بهن من أزواج ﴾ من مزيدة لتأكيد النفي يعني لا يجوز لك أن تطلق منهن واحدة وتنكح مكانها أخرى قال البغوي وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيرهن واخترن الله ورسوله شكرهن الله وحرم على نبيه النساء سواهن ونهاه عن تطلقيهن والاستبدال بهن وهذا قول ابن عباس وقتادة واختلفوا في أنه هل أبيح له من بعد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله أن يتزوج ما شاء من النساء إلا ذات محرم بقوله تعالى :﴿ ترجى من تشاء منهن وتؤوي من تشاء ﴾ فإن تلك الآية وإن تقدمها قراءة مسبوق بها نزولا وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة مثله واخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله وذكر البغوي قول أنس مات رسول الله على التحريم وقال البغوي قال عكرمة والضحاك معنى الآية لا يحل لك النساء بعد اللآتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج قال وما يمنعه من ذلك قيل قوله تعالى :﴿ لا يحل لك النساء من بعد ﴾ قال إنما أحل الله له ضربا من النساء فقال :﴿ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ﴾ الآية ثم قال :﴿ لا يحل لك من النساء من بعد ﴾ قال أبو صالح أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية ويتزوج من نساء قومه من بنات العم وبنات العمة وبنات الخال وبنات الخالة إن شاء ثلاث مائة وقال مجاهد لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن بقول لا يكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن وروى عن الضحاك معنى أن تبدل بهن أي ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي في حبالتك أزواجا غيرهن بأن تطلقهن وتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين أخترنه فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه وقال ابن زيد في قوله ﴿ ولا أن تبدل بهن من أزواج ﴾ إنهم كانوا يتبادلون في الجاهلية بأزواجهم يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي بأن تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتك فانزل الله تعالى ولا أن تبدل بهن من أزواج يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلا ما ملكت يمنيك فلا بأس بأن تبدل بجاريتك ما شئت وأما الحلائل فلا عن أبي هريرة قال دخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن وعائشة رضي الله عنها عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين الاستئذان ؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مصر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميرى على جنبك قال هذه عائشة أم المؤمنين قال عيينة أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة من هذا يا رسول الله ؟ قال هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ١ ﴿ ولو أعجبك حسنهن ﴾ أي حسن الأزواج المستبدلة وهو حال من فاعل تبدل دون مفعوله وهو قوله من أزواج لتوغله في التنكير وتقديره مفروضا إعجابك بهن قال البغوي يعني ليس لك أن تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها قال ابن عباس إنها بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فلما استشهد جعفر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهى عن ذلك إلا ما ملكت يمينك } محل ما الرفع استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء وقيل الاستثناء منقطع قال ابن عباس ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مارية يعني أم إبراهيم ﴿ وكان الله على كل شيء رقيبا ﴾ فتحفظوا أمركم ولا تتجاوزوا عما حد لكم.
مسألة :
قال البغوي في الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوا إلى نكاحها فليفعل " ٢ رواه أبو داود وعن المغيرة بن شعبة قال خطبت امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها ؟ قلت : لا قال :" فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ٣ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وعن أبي هريرة أن رجلا أراد ان يتزوج امرأة من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيء " ٤ رواه مسلم قال الحميدي فإن في أعينهن صفرة والله أعلم.
١ رواه البراز وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك. انظر مجمع الزوائد في كتاب: التفسير باب: سورة الأحزاب (١١٢٧٩)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: النكاح باب: في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (٢٠٨٣)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: النكاح باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة (١٠٨١) وأخرجه النسائي في كتاب: النكاح باب: إباحة النظر قبل التزويج (٣٢٢٦) وأخرجه ابن ماجه في كتاب: النكاح باب: النظر إلى المرأة إذا أراد ان يتزوجها (١٨٦٥)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح باب: نذب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها (١٤٢٤).
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أنس قال :" لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا كأنه يتهيؤ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أنطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقي الحجاب بيني وبينه " فأنزل الله تعالى :{ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية ١ وذكر البغوي حديث ابن شهاب عن انس أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال أمهاتي يواطئني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين نزل كان أول ما نزل في مبني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي بها عروسا فدعى القوم فأصابوا من الطعام الحديث فذكر مثل رواية البخاري وفي رواية للبخاري قال أنس كنت أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت صنع طعاما ودعى القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى تلك الآية وضرب الحجاب وقام القوم وفي رواية له قال أنس أولم حين بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجيء القوم فيأكلون ويخرجون ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقلت يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه فقال ارفعوا طعامكم وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله فقالت عليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك فذهب إلى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما قال لعائشة ويقلن له كما قالت ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منعطفا نحو حجرة عائشة فما أدرى أخبرته أو أخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في إسكفة الباب داخلة الأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه ونزلت آية الحجاب وفي رواية للبخاري قال أنس أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بني بزينب فأشبع الناس خبزا ولحما ثم خرج إلى حجرات أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويدعو لهن ويسلمن عليه ويدعون له فلما رجع هو إلى بيته رأى رجلين جرى دخل البيت وأرخى الستر بيني وبينه وأخرج الترمذي وحسنه عن انس قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى باب إمرأة عرس بها فإذا عندها قوم فانطلق ثم رجع وقد خرجوا فدخل وأرخى بيني وبينه سترا فذكرته لأبي طلحة فقال لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء فنزلت آية الحجاب ٢
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت :" كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه فقال أوه لو أطاع فيكن ما رأتكم عين فنزلت آية الحجاب " وكذا أخرج البخاري في الأدب المفرد والنسائي وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه فقال للرجل لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم ؟فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قمت ثلاثا لكن يتبعني فلم يفعل فقال له عمر يا رسول الله لو اتخذت حجابا فإن نساءك لسن كسائر النساء وذلك أطهر لقلوبهم فنزلت آية الحجاب وقد مر في سورة البقرة ما رواه البخاري وغيره عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ وقلت يا رسول الله إن نسائك يدخلن عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب وأجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه من الغيرة لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك وكذا أخرج النسائي من رواية أنس وذكر البغوي نحوه عن ابن عباس وقال البغوي وقد صح في سبب نزول آية الحجاب أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن على المصانع وهو صعيد أفيح وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أحجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ذات ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فنادها عمر أن قد عرفناك على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها أطلق ونزول الآية بهذا السبب ولا مانع من تعدد السبب ﴿ إلا أن يؤذن لكم ﴾ إستثناء مفرغ منصوب على الظرف أو على المصدر أو على الحال يعني لا تدخلوا في وقت إلا وقت أن يؤذن لكم أو لا تدخلوا دخولا إلا دخولا مأذونا لكم أو لا تدخلوا في حال إلا حال أن يؤذن لكم ﴿ إلى طعام ﴾ متعلق بيؤذن لتضمنه معنى يدعي وفيه إشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما هو إشعار في قوله تعالى :﴿ غير ناظرين إناه ﴾ أي غير منتظرين وقت نضجه حال من فاعل لا تدخلوا أو المجرور في لكم داخل في الاستثناء أي لا تدخلوا إلا بإذن وإلا غير ناظرين وهذا الاستثناء مختص بمن أراد الدخول لأجل الطعام لا مطلقا أمال حمزة والكسائي إناه فهو حينئذ مصدر أني الطعام إذا أدرك يقال إني الحميم إذا انتهى حره وإني أن يفعل كذا أي حان وقال البغوي إني بكسر الهمزة مقصورة فإذا فتحتها مددت وقلت الآناء وفيه لغتان آني مثل رمي يرمي وأن يأبن مثل باع يبيع وفي القاموس إني الشيء يأني أينا وإناء بالكسر فهو إني كغنى حان وأدرك وإني الحميم انتهى حره فهو آن وبلغ وهذا أناه يعني بالفتح وبكسر يعني بلغ غايته أو نضجه أو إدركه ﴿ ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم ﴾ ويعني أكلتم الطعام ﴿ فانتشروا ﴾ يعني تفرقوا وأخرجوا من منزله ولا تمكثوا بعد الأكل ﴿ ولا مستأنسين لحديث ﴾ مجرور معطوف على ناظرين أو منصوب أي لا تدخلوها مستأنسين وقيل تقديره ولا تمكثوا مستأنسين فهو عطف جملة على جملة نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس يعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به ﴿ إن ذلكم ﴾ اللبث ﴿ كان يؤذي النبي ﴾ لتضيق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله بما لا يعنيه تعليل لما سبق ﴿ فيستحي منكم ﴾ ولا يخرجكم عطف على الجملة الإسمية السابقة ﴿ والله لا يستحي من الحق ﴾ عطف أو حال أو معترضة أي لا يترك الله تأديبكم حياء فإن التأديب حق وقال البيضاوي يعني إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لا يترك الله الحق فيأمركم بالخروج ﴿ وإذا سألتموهن ﴾ أي نساء النبي صلى الله عليه وسلم لدلالة بيوت النبي عليهن لان فيها نساؤه ﴿ متاعا ﴾ أي شيئا ينتفع به إستعارة أو إستهابا أو رد للعارية ﴿ فسألوهن ﴾ المتاع ﴿ من وراء حجاب ﴾ أي الستر الجملة الشرطية معطوفة على قوله ﴿ لا تدخلوا بيوت النبي ﴾ قال البغوي فبعد
آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة ﴿ ذلكم ﴾ أي السؤال من وراء الحجاب ﴿ أطهر لقلوبكم وقلوبهن ﴾ من الخواطر الشيطانية الجملة تعليل لما سبق.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقول لو توفي النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من بعده فنزلت ﴿ وما كان ﴾ أي ما صح ﴿ لكم أن تؤذوا رسول الله ﴾ أي تفعلوا ما يكرهه ﴿ ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ﴾ أي من بعد وفاته أو فراقة ﴿ أبدا ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده قال سفيان ذكر أنها عائشة وأخرج عن السدي قال بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث حدث لنتزوجن نساءه من بعده فأنزلت هذه الآية وأخرج ابن سعد عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم قال نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال يا رسول الله إنها ابنة عمي والله قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وإنه ليس أحد أغير مني فمضى فقال يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجها من بعده فأنزل الله تعالى هذه الآية قال ابن عباس فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته قال البغوي روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم روي أن الأشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم عمر برجمها فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم فارقها قبل أن يمسها فتركه من غير نكير ﴿ إن ذلكم كان عند الله عظيما ﴾ أي ذنبا عظيما قلت وجاز أن يكون ذلك لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره ولذلك لم يورث ولم يتئم أزواجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا أبلغته " رواه البيهقي في شعب الإيمان.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: قوله ﴿لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم﴾ (٤٧٩١) وأخرجه مسلم في كتاب: النكاح باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس (١٤٢٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢١٨)..
﴿ إن تبدوا شيئا ﴾ من أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو من نكاحهن ﴿ أو تخفوه ﴾ في أنفسكم قال البغوي نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فإن الله كان بكل شيء عليما ﴾ تعليل لجزاء محذوف أقيم مقامه تقديره يعلمه الله ﴿ فإن الله كان بكل شيء عليما ﴾ فيجازيكم عليه وفي هذا التعميم والبرهان على المقصود بعد التصريح بالنهي عن نكاحهن مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد ولذلك أعتق ذلك الرجل الذي هم بنكاح بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رقبة وحمل عشر أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته كما مر في حديث ابن عباس قال البغوي ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله تعالى :﴿ لا جناح عليهن في آبائهن ﴾.
﴿ لا جناح عليهن في آبائهن ﴾ أي في ترك الاحتجاب من آبائهن ﴿ ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ﴾ وإنما لم يذكر العم والخال لأنه لما ذكر أبناء أخوانهن وأبناء أخواتهن يظهر بدلالة النص حكم الأعمام والأخوال لأنهن عمات بالنسبة إلى أبناء الأخوة وخالات بالنسبة إلى أبناء الأخوات والعم والعمة من جنس واحد كالخال والخالة.
روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت :" استأذن أفلح أخ أبي القعيس بعدما أنزل الحجاب فقلت لا آذن حتى أ ستأذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : إن أفلح أخ أبي القعيس استأذن فأبيت أن أذن له حتى أستأذنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" تأذنين عمك ؟ فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فقال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " قال عروة فلذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب ١ ﴿ ولا نسائهن ﴾ يعني مؤمنات حرائر ﴿ ولا ما ملكت أيمانهن ﴾من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة كما ذكرنا في سورة النور ﴿ واتقين الله ﴾ هذه الجملة معطوفة على مضمون ﴿ لا جناح عليهن ﴾ يعني واتقين الله في البروز للأجانب وفي كل ما أمرتن به وفيه إلتفات من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التأكيد ﴿ إن الله كان على كل شيء ﴾ من أفعال العباد شهيدا } فيجازي عليه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: قوله: ﴿إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما﴾ (٤٧٩٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع باب: تحريم الرضاع من ماء الفحل (١٤٤٥).
.

﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ قال ابن عباس إن الله يرحم النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة يدعون له وعن ابن عباس أيضا يصلون أي يبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار قال أبو العالية صلاة الله عليه ثناؤه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء وقد ذكرنا الكلام في الصلاة في قوله تعالى :﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ﴾ ﴿ يأيها الذين آمنوا صلوا عليه ﴾ أدعوا له واسألوا الله تعالى أن يرحمه ﴿ وسلموا ﴾ عليه ﴿ تسليما ﴾ يعني حياة بتحية السلام وقولوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام في الجملة ولو في العمر مرة وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله واختاره الطحاوي قال ابن همام موجب الأمر القاطع الافتراض في العمر مرة لأنه لا يقتضي التكرار وقلنا به وقيل يجب في كل صلاة بعد التشهد في القعدة الأخيرة وبه قال الشافعي وأحمد قال في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير عند أبي حنيفة ومالك سنة وفرض عند الشافعي وقال أحمد في أشهر روايتيه يبطل صلاته وقال ابن الجوزي فرض عند أحمد وعنه أنها سنة وقيل يجب الصلاة كلما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم وبه قال الكرخي استدل من يقول بوجوبها في الصلاة بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا صلاة لمن لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم " رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني وفيه عبد المهيمن ابن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال الدارقطني عبد المهيمن ليس بالقوي وقال ابن حبان لا يحتج به ورواه ابن الجوزي بلفظ " لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ولا صلاة لمن لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار " وفيه عبد المهيمن ضعيف لا يحتج به وأخرج الطبراني عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه قالوا حديث عبد المهيمن أشبه بالصواب مع أن جماعة قد تكلموا في أبي بن عباس وبحديث أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاة لم يصل فيها علي ولا على بيتي لم يقبل منه " رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني قال ابن الجوزي وفيه جابر الجعفي ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه على ابن مسعود تارة ورفعه أخرى وذكره ابن همام عن ابن مسعود قال قال ابن الجوزي فيه جابر ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه تارة ورفعه أخرى وروى الحاكم والبيهقي عن يحيي بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام :" إذا تشهد أحدكم فليقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وأرحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات إلا هذا الرجل الحارثي فينظر فيه قال ابن همام حديث لا صلاة لمن لم يصل علي ضعفه أهل الحديث كلهم ولو صح فمعناه كاملة أو لمن لم يصل علي العمر مرة.
وقال الحافظ ابن حجر أقوى من هذا الحديث حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" عجل هذا " ثم دعاه ثم قال له ولغيره " إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال ولفظ الترمذي " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم إغفر لي وأرحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل علي ثم ادعه " قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" أيها المصلي أدع تجب " ١ رواه الترمذي وروى أبو داود والنسائي نحوه قلت : ويمكن الاستدلال على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بعد التشهد بأن المراد بالأمر في هذه الآية أن يصلي عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما إن المراد بقوله تعالى :﴿ وربك فكبر٣ ﴾ ٢ تكبير التحريمة وبقوله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾٣ وقوله تعالى ﴿ واركعوا وأسجدوا ﴾ والقيام والركوع والسجود في الصلاة وبقوله تعالى :﴿ فاقرأوا ما تيسر من القرآن ﴾٤ القراءة في الصلاة يدل على هذا ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة وكذا في حديث أبي سعيد الخدري : قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفنا فكيف الصلاة ؟ قال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره " ٥ يعني قد عرفنا السلام في التشهد وهو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فكيف نصلي حينئذ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ٦ بقوله :" اللهم صل على محمد " إلى آخره وقد تلقته الأمة بالقبول وأجمعوا على جعلها بعد التشهد وإن اختلفوا في كونها فريضة فعلم بهذا الحديث أن مراد الله سبحانه بالأمر في هذه الآية جعلها بعد التشهد والله أعلم.
واستدل من يقول بوجوب الصلاة كلما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل دخل علي رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحداهما فلم يدخلاه الجنة " ٧ رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وحديث جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وسلم " من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله عز وجل " وحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ :" أتاني جبرئيل من ذكرت عنده فلم يصل عليك فدخل النار فأبعده الله عز وجل " روى الحديثين الطبراني وروى ابن السني عن جابر مرفوعا بلفظ من ذكرت عنده فلم يصل على فقد شقي " وعن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي " رواه الترمذي ورواه أحمد عن الحسين ابن علي رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وروى الطبراني بسند حسن عن الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعا " من ذكرت عنده فخطى الصلاة علي خطى طريق الجنة " وروى النسائي بسند صحيح عن أنس " من ذكرت عنده فليصل علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه وسلم عشرا ".

فصل


في فضل الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بلى فأهدها لي فقال :" سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليك ؟ قال :" قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " ٨ متفق عليه إلا أن مسلما لم يذكر على إبراهيم في الموضعين وعن أبي حميد الساعدي قال قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " متفق عليه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا " رواه مسلم وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات " ٩ رواه أحمد والبخاري في الأدب والنسائي والحاكم وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة " ١٠ رواه الترمذي وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام " ١١ رواه النسائي والدارمي وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " ١٢ رواه أبو داود والبيهقي في الدعوات الكبير وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم يبلغني حيث كنتم " ١٣ وعن أبي طلحة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقال :" إنه جاءني جبرئيل فقال إن ربك يقول أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحدا من أمتك إلا سلمت عليه عشرا " ١٤ رواه النسائي والدارمي.
وعن أبي بن كعب قال قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال ما شئت قال الربع ؟ قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت النصف ؟ قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت فالثلثين ؟ قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال :" إذا تكفى هماك ويكفر لك ذنبك " ١٥ رواه الترمذي وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبي صلى الله عليه وسلم الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد " ١٦ رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال :" من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة " رواه احمد وعن رويفع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من صلى على محمد وقال : اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي " رواه أحمد وعن عبد الرحمن ابن عوف قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود حتى خشيت أن يكون الله توفاه قال فجئت أنظر فرفع رأسه فقال مالك ؟ فذكرت ذلك له قال فقال :" إن جبرئيل عليه السلام قال لي ألا أبشرك أن الله عز وجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه : رواه أحمد وعن عمر بن الخطاب قال عن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك : رواه الترمذي وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر " رواه البغوي وعن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى علي صلاة كتب له قيراط والقيراط مثل أحد " رواه عبد الرازق في الجامع بسند حسن وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى علي حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة " رواه الطبراني في الكبير بسند حسن.
مسألة
هل يجوز الصلاة والسلام على غير الأنبياء والصحيح أنه يجوز تبعا ويكره استقلالا كما يكره أن يقال محمد عز وجل مع كونه عزيزا جليلا لاختصاصه بالأنبياء عرفا كاختصاص ذلك بالله تعالى وقد ذكرنا هذه المسألة مبسوطا في سورة التوبة في تفسير قوله تعالى :﴿ وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ﴾ ١٧.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٤٧٧) وأخرجه النسائي في كتاب: السهو بابك التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة (١٢٧٧)..
٢ سورة المدثر الآية: ٣..
٣ سورة البقرة: الآية: ٢٣٨..
٤ سورة الحج الآية: ٧٧..
٥ سورة المزمل الآية: ٢٠..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء باب: ﴿يزفون﴾ (٣٣٦٩)..
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات باب: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل (٣٥٤٥)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (٦٣٥٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (٤٠٥)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: السهو باب: الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (١٢٩٠)..
١٠ أخرجه الترمذي في كتابك الوتر باب: ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (٤٨٠)..
١١ أخرجه النسائي في كتاب: السهو باب: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم (١٢٧٥).
١٢ أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك باب: زيارة القبور (٢٠٤١)..
١٣ أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك باب: زيارة القبور (٢٠٤٢)..
١٤ أخرجه النسائي في كتاب: السهو باب: فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم (١٢٧٦)..
١٥ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٥٧)..
١٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (٩٨١)..
١٧ سورة التوبة الآية: ١٠٣..
﴿ إن الذين يؤذون الله ﴾ قال البغوي قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا عزير ابن الله ويد الله مغلوبة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك أما تكذيبه أياي فقوله لن يعيدني كما بدا إني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحدا " ١ وفي رواية ابن عباس ﴿ وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " رواه البخاري وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر وأنا الدهر يبدي الأمر أقلب الليل والنهار " ٢ متفق عليه وقيل معنى يؤذني يلحدون في أسمائه وصفاته وقال عكرمة هم أصحاب التصاوير عن أبي زرعة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى :" ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة " ٣ متفق عليه وروى البخاري عن ابن عباس " من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيه الروح فليس بنافخ فيها أبدا " ٤ وقيل معنى الأذى مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وإنما ذكر على ما يتعارف الناس بينهم والله منزه من أن يلحقه أذى من أحد ويؤذون { رسوله ﴾ قال ابن عباس هو أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون وهذا الذي ذكرنا إنما يستقيم على قول من جوز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين وعند الجمهور معناه أن الذين يرتكبون ما يكرهه الله ورسوله وجاز أن يكون معنى الآية الذين يؤذون رسول الله وذكر الله لتعظيم الرسول كان من آذى الرسول فقد آذى الله أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبي وناس معه قذفوا عائشة الصديقة الطيبة فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت عن أنس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى :" من أهان- ويروي- من عادى وليا فقد بارزني بالمحاربة وما رددت في شيء أنا فاعله ما رددت في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه وما تقرب بي عندي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا ولا يعبدني بمثل ما افترضته عليه " ٥ رواه البخاري وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول :" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني " ٦ الحديث نحوه رواه مسلم قلت ولا شك أن معاداة الأولياء لما كان معاداة ومحاربة مع الله تعالى وأسند الله سبحانه مرض أوليائه إلى نفسه تعالى عن ذلك علوا كبيرا لأجل وصل غير متكيف فإسناد إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى أولى وقيل نظر إلى ما ذكرنا من الأحاديث معنى الآية ﴿ الذين يؤذون ﴾ أولياء الله على حذف المضاف كقوله تعالى :﴿ وسئل القرية ﴾٧ يعني أهل القرية وهذا القول عندي غير سديد لان ذلك يفضي إلى تقديم ذكر الأولياء على ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل هو تخصيص بعد تعميم فإن الرسول داخل في أولياء الله ؟ قلنا لو كان كذلك لزم التكرار في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما٥٦ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا٥٧ ﴾ جملة إن الذين يؤذون الله ورسوله مستأنفة كأنه في جواب من سأل أنا أمرنا بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فما شأن من آذاه فقال الله تعالى لعنهم الله إلخ.
مسألة
من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعن في شخصه أو دينه أو نسبه أو صفة من صفاته أو بوجه من وجوه الشين فيه صراحة أو كناية أو تعريضا أو إشارة كفر ولعنه الله في الدنيا والآخرة وأعد له عذاب جهنم وهل يقبل توبته ؟ قال ابن همام كل من أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه كان مرتدا فالسباب بالطريق الأولى ويقتل عندنا حدا فلا تقبل توبته في إسقاط القتل قالوا هذا مذهب أهل الكوفة ومالك ونقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا فرق بين أن يجيء تائبا بنفسه أو شهدوا عليه بذلك بخلاف غيره من موجبات الكفر فإن الإنكار فيها توبة ولا تعمل الشهادة معه حتى بقتل أن سب سكران ولا يعفى عنه ولابد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره باختياره بلا إكراه وإلا فهو كالمجنون وقال الخطابي لا أعلم أحدا خالف في وجوب قتله وأما قتله في حق من حقوق الله تعالى فتعمل توبته في إسقاط قتله ولا يحكم بارتداد من أتى بكلمة الكفر سكران في غير سباب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان السكر بسبب محظور باشره باختياره بلا إكراه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير بابك قوله: ﴿قل هو اله أحد﴾ (٤٩٧٤) وأخرجه النسائي في كتاب: الجنائز باب: أرواح المؤمنين (٢٠٦٩)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾ (٤٨٢٦) واخرجه مسلم في كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها بابك النهي عن سبب الدهر (٢٢٤٦)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: اللباس باب: نقض الصور (٥٩٥٤) وأخرجه مسلم في كتاب: اللباس والزينة باب: تحريم تصوير صورة الحيوان (٢١١١)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع بابك بيع التصاوير التي بيس فيها روح وما يكره من ذلك (٢٢٢٥)..
٥ أخرج البخاري بنحوه في كتاب الرقاق باب: التواضع (٦٥٠٢)..
٦ أخرجه مسلم في كتابك البر والصلة والآداب باب: فضل عيادة المريض (٢٥٦٩)..
٧ سورة يوسف الآية: ٨٢..
﴿ والَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ﴾ أي من غير أن يعملوا ما يوجب أذاهم وقال يقعون فيهم ويرمون بغير جرم﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثمًا مُّبِينًا ﴾ تنكير البهتان والإثم للتفخيم قال مقاتل نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيل نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها قلت اللفظ عام في كل من يؤذي مؤمنا أو مؤمنة بأي وجه كان وإن كان المورد خاصا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " ١ رواه الترمذي والنسائي وسب عائشة وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني " يعني عبد الله ابن أبي حين قذف عائشة فقول من قال هاهنا أنها نزلت في شأن عائشة معناه أن قوله تعالى :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله ﴾ على قوله :﴿ إثما مبينا ﴾ نزلت في شأن عائشة لا الجملة الأخيرة وحدها وكذا من سب عليا فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنت مني وأنا منك " ٢ رواه الشيخان في الصحيحين عن البراء بن عازب بل سب الصحابة عامتهم يفضي إلى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " ٣ رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب والله اعلم.
وقال الضحاك والكلبي نزلت الآية في شأن الزناة الذين يمشون في طرق المدينة وهم المنافقون يتبعون النساء إذا برزن في الليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحد يخرجن في درع وخمار الحرة والأمة فشكون ذلك إلى أزواجهن فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ثم نهين الحرائر أن يتشبهن بالإماء في الآية اللاحقة والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان باب: ما جاء أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (٢٦٢٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي باب: عمرة القضاء (٤٢٥١)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المتاقب باب: في من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (٣٨٧١)..
أخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك وأخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي قال كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين فشكون ذلك فقيل ذلك للمنافقين فقالوا إنما نفعله بالإماء فنزلت ﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين ﴾ أمر بتقدير اللام أي ليدنين ﴿ عليهن من جلابيبهن ﴾ جمع جلباب وهي الملحفة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار روى البخاري عن عائشة قالت :" خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانتا امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله تعالى إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ١ قلت يعني أذن لكن أن تخرجن متجلببات قال ابن عباس وأبو عبيدة أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدا ليعلم أنهن الحرائر ومن للتبعيض لأن المرأة ترخي بعض جلبابها ﴿ ذلك أدنى أن يعرفن ﴾ بإضمار إلى متعلق بأدنى أي أقرب إلى أن يعرفن أو بتقدير المضاف أي أدنى أسباب معرفتهن أنهن حرائر ﴿ فلا يؤذين ﴾ عطف على يعرفن أي فلا يتعرضهن أهل النفاق والفسق ﴿ وكان الله غفورا ﴾ لما سلف ﴿ رحيما ﴾ بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها قال أنس مرت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتشبهين بالحرائر ألقي القناع
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: قوله: ﴿وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب﴾ (٤٧٩٥) وأخرجه مسلم في كتاب: السلام بابك إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان (٢١٧٠)..
﴿ لئن لم ينته المنافقون ﴾ عن نفاقهم وعما يتعرضون للنساء ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ أي ضعف إيمان وقلة ثبات عليه أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم ﴿ والمرجفون في المدينة ﴾ الذين يوقعون في المدينة الرجفة وهو الزلزلة والاضطراب الشديد وذلك أن أناسا من المنافقين كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون في الناس الأخبار الكاذبة يقولون أنهم قتلوا وانهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوها وقال الكلبي ( يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) ويفشون الأخبار يعني الكاذبة ﴿ لنغرينك بهم ﴾ جواب لقسم محذوف لفظا وللقسم والشر طمعا معنى أي لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء أو لنسلطنك عليهم ﴿ ثم لا يجاورونك ﴾ عطف على لنغرينك لأنه يجوز أن يجاب به القسم لصحة قولك لان لم ينتهوا إلا يجاورونك ولما كان الجلاء عن الوطن من أعظم المصائب عطف بثم لبعد حاله عن حال المعطوف عليه أي لا يساكنونك ﴿ فيها ﴾ أي في المدينة ﴿ إلا قليلا ﴾ أي زمانا قليلا أو جوازا قليلا حتى يخرجوا منها أو يقتلوا
﴿ ملعونين ﴾ منصوب على الذم والشتم أو الحال والاستثناء شامل له أيضا أي لا يجاورنك إلا ملعونين ولا يجوز أن ينتصب بقوله تعالى :﴿ أين ما ثقفوا ﴾ أي وجدوا ﴿ أخذوا وقتلوا تقتيلا ﴾ لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبله والتشديد في قتلوا يدل على التكثير
﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ﴾ مصدر مؤكد أي سن الله ذلك في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا بالأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أين ما ثقفوا أو منصوب بنزع الخافض أي كسنة الله ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ لأن الله تعالى لا يبدل سنته وغيره لا يقدر على أن يبدلها.
﴿ يسألك الناس عن الساعة ﴾ أي عن وقت قيامها استهزاء أو تعنتا أو امتحانا فالمشركون كانوا يستهزئون ويسألون عن الساعة إنكارا واستهزاء واليهود كانوا يسألون إما تعنتا وإما امتحانا لان الله عمى وقتها في التوراة وفي سائر الكتب ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما علمها عند الله ﴾ لم يطلع الله عليه أحدا من الأنبياء والملائكة ﴿ وما يدريك ﴾ وأي شيء يعلمك وقت قيامها إذا لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه ﴿ لعل الساعة تكون قريبا ﴾ أي شيئا قريبا أو يكون الساعة عن قريب أو إنتصابه على الظرف ويجوز أن يكون تذكير قريب لان الساعة في معنى اليوم وكونه قريبا مبني على أن كل ما هو آت قريب ولعل لوجوب الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين
﴿ إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا٦٤ ﴾ نارا شديد الإيقاد
﴿ خالدين ﴾ حال من الضمير في لهم أي مقدرين خلودهم ﴿ فيها ﴾ أي في السعير ﴿ أبدا لا يجدون وليا ﴾ يحفظهم ﴿ ولا نصيرا ﴾ يدفع العذاب عنهم
﴿ يوم تقلب ﴾ ظرف لقوله لا يجدون أو منصوب باذكر أي يوم تصرف ﴿ وجوههم في النار ﴾ من جهة إلى جهة كاللحم يشوي بالنار أو من حال إلى حال خصت الوجوه بالذكر لأنها أكرم مواضع من الجسد أو الوجه عبارة عن الجملة ﴿ يقولون ﴾ حال من الضمير المجرور في وجوههم والمضاف جزء من المضاف إليه وهو مسند إليه فيصح وقوع الحال عنه ﴿ يا ليتنا ﴾ أي يا قومنا ليتنا وقيل يا للتنبيه ﴿ أطعنا الله ﴾ في الدنيا ﴿ وأطعنا ﴾ في الدنيا ﴿ الرسولا ﴾ فلم نبتل بهذا العذاب في الآخرة زيدت الألف في الرسولا والسبيلا لرعاية الفواصل والدلالة على انقطاع واستئناف ما بعده
﴿ وقالوا ربنا ﴾ يا ربنا ﴿ إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ﴾ يعنون قادتهم الذين سنوالهم الكفر قرأ ابن عامر ويعقوب ساداتنا بكسر التاء وألف قبلها على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بفتح التاء بلا ألف قبلها ﴿ فأضلونا السبيلا ﴾ بما زينوه لنا
﴿ ربنا ﴾ أي يا ربنا ﴿ آتهم ضعفين من العذاب ﴾ أي مثلي ما آتيتنا منه لأنهم ضلوا وأضلونا ﴿ والعنهم لعنا كبيرا ﴾ قرأ عاصم بالباء الموحدة أي أشد اللعن وأعظمه والباقون الثاء المثلثة أي كثير العدد.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين أذوا موسى ﴾يعني قالوا فيه ما يشينه ﴿ فبرأه الله مما قالوا ﴾ فأظهر براءته قيل ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن موسى كان رجلا حييا كريما ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة فأراد الله أن يبرئه مما قالوا فخلا وحده وخلع ثيابه ووضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها فإذا الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله فأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ موسى ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لبقيا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا فذلك قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا " ١ رواه البخاري والترمذي وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وعبد الرزاق وعبد بن حميد وقال أبو العالية هو أن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله فبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون وقد مر القصة في سورة القصص وقال قوم أذاهم موسى أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى إنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا أخرجه ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم والله أعلم.
روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال :" قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه فقال :" يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ٢ ﴿ وكان ﴾ موسى ﴿ عند الله وجيها ﴾ أي كريما ذا جاه يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذو جاه وقدر قال ابن عباس كان عند الله بحيث لا يسأل شيئا إلا أعطاه وكذا قال الحسن وقيل كان مجيبا مقبولا
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء (٣٤٠٤) وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأحزاب (٣٢٢١)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: فرض الخمس باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (٣١٥٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام (١٠٦٢)..
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا ﴾ في ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذي رسوله ﴿ وقولوا قولا سديدا ﴾ قال ابن عباس صوابا وقال قتادة عدلا وقال الحسن صدقا وقيل مستقيما وقيل قاصدا إلى الحق والمآل واحد يعني صدقا غير كذب ولا مجازفة فأن الكذب يمحق والصدق يبقى قيل المراد منه نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل وما خاضوا فيه من حديث إفك عائشة قال عكرمة هو قول لا إله إلا الله
﴿ يصلح ﴾ مجزوم في جواب الأمر وكذا ما عطف عليه ﴿ لكم أعمالكم ﴾ قال ابن عباس يقبل حسناتكم وقال مقاتل يزكي أعمالكم يعني يصلحها للقبول والإثابة عليها وقيل معناه يوفقكم للأعمال الصالحة ﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ أي يجعلها مكفرة باستقامتكم على القول والعمل ﴿ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾ أي ظفر بالخير كله يعيش في الدنيا حميدا أو يبعث في الآخرة سعيدا
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ﴾ وهاهنا أبحاث الأول في أن الأمانة ما هي الثاني في أن المراد بالسماوات والأرض والجبال ما هي أعيانها أو أهلها كما في قوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾١ يعني أهلها والثالث عن المراد بالعرض الخطاب اللفظي التي فرض الله تعالى على عباده عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال يعني على أعيانها بالخطاب اللفظي على أن أداتها أثابهن وإن ضيعتها عذبهن وقال ابن مسعود الأمانة أداء الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث والعدل في الكيل والوزن وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد الأمانة أداء الفرائض وحفظ الدين وقال أبو العالية ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع يعني ما لا مدخل للرياء فيه وقال عبد الله بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة والرجل أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له وقال بعضهم هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ومرجع هذه الأقوال أن الأمانة هي التكليفات الشرعية والمراد بالسماوات والأرض أعيانها قال البغوي هذا قول ابن عباس وجماعة وأكثر السلف والعرض بالخطاب اللفظي قال البغوي قال الله تعالى لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها ؟ قال إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن فقلن لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا قلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله أن لا يتأذى منهن حقه لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها وقيل المراد بالعرض الخطاب اللفظي وبالسماوات والأرض والجبال أعيانها وبالعرض اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن بآبائهن الآباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا ما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن أن يكون هذان الصفتان باعثتين للجمل عليه.
قال البيضاوي لعل المراد بالأمانة العقل أو التكليف ومن فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحدود الشرعية ومعظم مقصود التكليف تعديلها وكسر شوكتها وأيضا قال البيضاوي هذه الآية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة وسماها أمانة من حيث أنها واجبة الأداء والمعنى أنها لعظم شأنها بحيث لو عرضت على الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبت أن تحملها وأشفقت منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي بها والقائم بحقوقها بخير الدارين قلت ونظيره قوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ٢١ ﴾٢ فهذه الآية على هذا التأويل كأنه مثل ضرب وهذان القولان يعني قول من ارتكب التجوز في لفظ السماوات ونحوها وقول من ارتكب التجوز في العرض والخطاب مبنيان على استبعاد الخطاب مع الجمادات فقال بعضهم في دفع هذا الاستبعاد أنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فتحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا لو خامة عاقبته أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه وفيه فكان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة قدر ما بين الظهر والعصر.
وقيل في دفع الاستبعاد : إن الجمادات كلها وإن كانت غير عاقلة بالنسبة إلينا لكنها بالنسبة إلى الله تعالى عاقلة خاضعة مطيعة ساجدة له قال الله تعالى : للسماوات والأرض ﴿ ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾٣ وقال الله تعالى :﴿ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾٤ وقال الله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ﴾ ٥ قيل المراد بالإنسان في قوله تعالى :﴿ وحملها الإنسان ﴾ آدم عليه السلام قال الله تعالى لآدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها قال وأنت آخذ بما فيها قال يا رب وما فيها قال إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فحملها آدم فقال بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى إذا قبلت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فضع عليه حجابه وأجعل للسانك كحيين وغالقا فإذا خشيت فأغلق وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشف على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن حملها وبين ما خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر قلت : لعل الحكمة في إخراجه من الجنة بعد حمل الأمانة أن الجنة ليست محلا لأداء الأمانة بل هي محل للثواب على أدائها فأخرج إلى الدنيا التي هي مزرعة الآخرة لأداء الأمانة قال البغوي حكي النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربن منها وقلن لا نطيق حملها وجاء آدم من غير أن دعي وحرك الصخر وقال لو أمرت بحملها لحملتها فقال له احملها فحملها على ركبتيه ثم وضعها وقال والله إن أردت أن أزداد لزدت فقلن له أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال الله تعالى مكانك فإنما هي في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني المراد بالأمانة الطاعة التي يعم الطبيعية والاختيارية وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من الاختيار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل لأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فيبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانها بما يمكن أن يتأتى والظلم والجهالة للخيانة والتقصير قال الله تعالى :﴿ ويحملون أثقالهم ﴾٦ وحكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال وحملها الإنسان ويعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا قال البغوي قال السلف هو الأول قلت ولما كان مقتضي سياق الآية اختصاص الإنسان بحمل الأمانة دون غيره من المخلوقات فالقول بأن الأمانة هي التكليفات الشرعية غير مناسب لاشتراك الجن والملائكة فيها ويلزم منه فضل الملائكة على الإنسان لأدائهم الأمانة بكمالها لعصمتهم ﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون٢٠ ﴾ ٧ بخلاف الإنسان لان منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ومن ثم قالت الصوفية العلية المراد بالأمانة نور العقل ونار العشق فنور العقل يحصل به معرفة الله سبحانه بالاستدلال ونار العشق يحصل بها معرفة الله سبحانه بحرق الحجب والملائكة وإن كانوا عباد الله المقربين لكنهم مخلوقين في مقام معلوم من القرب والعرفان قال الله تعالى حكاية عنهم ﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾٨ فالترقي إلى المراتب الغير المتناهية بنار العشق إنما هو من خصائص الإنسان وعندي على ما استفدت من كلام المجدد للألف الثاني رضي الله عنه أن الأمانة ما أودع الله سبحانه في ماهية الإنسان من الاستعداد للتجليات الذاتية الدائمة فإن الجن وإن كان بعد الإيمان والإتيان بالأعمال الصالحة يلحق بالملائكة وتستعد للتجليات الصفاتية لكن التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاح له من الأرض وهذا الاستعداد هو المستوجب للخلافة وهذا العلم هو المعنى بقوله تعالى للملائكة في حق آدم عليه السلام ﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾٩ يعني اعلموا أن التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاح له من الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ إنه كان ظلوما ﴾ يعني مركبا للقوي السبعية الداعية إلى التفوق والتعلي المقتضية للترقيات إلى أعلى الشواهق ﴿ جهولا ﴾ مركبا للقوى البهيمية التي يطيق بها صاحبها تحمل رياضات ومشاق لا بد منها للعاشق في طلب وصل المحبوب فهو تعليل ومنقبة له وتلك القوتين جميعا ناشئتان من الأرض فإن مادة الأرض لكمال كثافة يتحمل التجلي الذاتي كما أن الأجرام الأرضية لكثافتها تتنور بنور الشمس دون الأجرام اللطيفة والملائكة المقربون منحصرون في مقاماتهم وولاياتهم وإن كانت ولا يتهم فوق ولاية الأنبياء لكونها مستفادة من الصفات من حيث البطون أعني من حيث قيامها بذات الله سبحانه وولاية الأنبياء من الصفات من حيث الظهور أعني من حيث هي لا من حيث قيامها بالذات ومن هذه الاعتبارات هي مبادئ لمبادي تعينات العالم لكن لاحظ للملائكة من التجلي الذاتي الذي هي كمالات النبوة ولأجل ذلك اختص النبوة بنوع البشر دون غيرهم وصار خواص البشر أي الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وصارت الجنة للبشر والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ومن قال إن المراد بالأمانة التكليفات الشرعية وبتحملها قبولها بالاختيار فمعنى هذه الجملة عندهم أنه كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا بوخامة عاقبته وما يلحقه العذاب بترك أدائه وليس فيه مذمة للإنسان بل هي بيان للواقع وقال البيضاوي حين قال هذه الآية تقرير للوعد السابق ما معناه أن الأمانة مع عظم شأنها بحيث لا يطيق حملها الأجرام العظام لو فرضت ذات شعور وحملها الإنسان مع ضعف بنيته فاز الراعي لها بخير الدارين أن قوله :﴿ إنه كان ظلوما ﴾ حيث لم يف بها ولم يراع حقها جهولا بكنه عاقبتها وصف للجنس باعتبار الأعم الأغلب وقال صاحب بحر المواج معناه أن الإنسان كان ظلوما حيث زعم نفسه قادرا على أداء ما أشفقت عنه السماوات وأمثالها ثم لم يؤدها جهولا لعجزه عن أدائها وهذا التأويل ليس عندي بمرض لأن تحمل الأمانة كان من آدم عليه السلام وهو المراد بالإنسان وهو كان نبيا معصوما قد أدى ما حمل عليه وضمير أنه راجع إلى من حمل وقالت الصوفية معنى الآية أنه أي الإنسان باعتبار أكثر أفراده كان ظلوما على نفسه حيث ضيع استعداده للمعرفة والتجليات الإلهية الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها جهولا يحسن ما فات عنه وقبح ما اكتسبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ١٠ الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة قلت : لما سمعت أن الظلم كناية عن القوة السبعية والجهل عن القوة البهيمية وحسن القوتين وقبحهما ليس إلا بحسب متعلقهما ومصرفهما ألا ترى أن القوة السبعية إن صرفت لدفع أعداء الدين من الشيطان وأمثاله وكسب التفوق والتعلي إلى مدارج القرب كانت حسنة ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص٤ ﴾ ١١وأن الله يحب معالي الهمم وإن صرفت في قهر المعصومين والتكبر والتعلي في مقابله رب العالمين كانت قبيحة ﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾١٢ ﴿ وإن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾١٣ وكذا القوة البهيمية إن صرفت في كسب السعادة كانت حسنة وإن صرفت في كسب اللذات كانت قبيحة ﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾١٤ ولا شك أن حسن تعلقهما موقوف على تزكية النفس والقلب والعناصر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن في جسد بني آدم لمضغة إذا صلحت
١ سورة يوسف الآية: ٨٢..
٢ سورة الحشر الآية: ٢١..
٣ سورة فصلت الآية: ١١..
٤ سورة البقرة الآية: ٧٤..
٥ سورة الحج الآية: ١٨..
٦ الآية هي: ﴿وليحملن أثقالهم﴾ سورة العنكبوت: الآية: ١٣..
٧ سورة الأنبياء الآية: ٢٠..
٨ سورة الصافات الآية: ١٦٤..
٩ سورة البقرة الآية: ٣٠..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز باب: ما قيل في أولاد المشركين ((١٣٨٥) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (٢٦٥٨)..
١١ سورة الصف الآية: ٤..
١٢ سورة هود الآية: ١٨..
١٣ سورة لقمان الآية: ١٨..
١٤ سورة البقرة الآية: ٢٨٦..
وعلى كلا التقديرين لما كانت الصفتان المذكورتان على تقدير عدم التزكية والخذلان من الله تعالى وكونهما مصروفتين في الباطل موجبتين للعذاب وعلى تقدير التزكية والتأييد من الله وكونهما مصروفتين في الحق موجبتين للرحمة والثواب حسن تعليل حمل الأمانة وعرضها الذي هو مقتضى تلك الصفتين المركبتين في الطبيعة الإنسانية بقوله تعالى :﴿ ليعذب الله ﴾ اللام للعاقبة كما في قوله : لدوا للموت وابنوا للخراب ﴿ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ المضيعين للأمانة والمنهمكين في الظلم واللذات ﴿ ويتوب الله ﴾ أي يرجع بالرحمة والمغفرة والجذب والاجتباء وإعطاء مراتب القرب ﴿ على المؤمنين والمؤمنات ﴾ المؤدين للأمانات المستغرقين في التجليات قال ابن قتيبة أي عرضنا الأمانة يعني التكليفات الشرعية أو الاستعداد المودع ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم الله ويظهر إيمان المؤمن ( قلت وعر فان العارف ) فيتوب عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات قلت وبالتجليات الذاتية الدائمة والوصل بلا كيف من غير حجاب وذكر التوبة في الوعد إشعار بأن كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم فلا يخلوا عن فرطات ﴿ وكان الله غفورا ﴾ للمؤمنين حيث تاب على فرطاتهم ﴿ رحيما ﴾ بهم حيث أثابهم على طاعاتهم تفضلا وأفاض عليهم تجلياته وبركاته.
Icon