ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ الآية. قال مقاتل (١): إن أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعوار الأسلمي (٢) قدموا (٣) على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة بعد قتال أحد، ونزلوا على عبد الله بن أبي وقد اعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمان على أن يكلموه ومعهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي -عليه السلام-: ارفض ذكر آلهتنا، وقيل: إن لها شفاعة لمن عبدها، فشق ذلك عليه وأمر عمر رحمه الله بإخراجهم من المدينة، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾. وهذا قول ابن عباس في رواية أبي صالح (٤).قال الفراء: اتق الله في نقض العهد؛ لأنه كانت بينهم موادعة فأمر بأن لا ينقض العهد، وذلك أنهم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء فكرهها، فهم بهم المسلمون (٥).
(٢) هو: عمرو بن سفيان بن عبد شمس، أبو الأعور الأسلمي مشهور بكنيته. قال مسلم وأبو أحمد والحاكم في "الكنى" له صحبه، وبه قال جماعة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: أدرك الجاهلية ولا صحبة له وحديثه مرسل. وذكره البخاري في من اسمه عمرو، ولم يذكر له صحبة، كان أميرًا لجيش الشام في عمورية سنة ٢٣، ولم يذكر العلماء تاريخ وفاته -رضي الله عنه-.
انظر: "أسد الغابة" ٤/ ١٠٩، "الإصابة" ٤/ ٣٠٢.
(٣) في (ب): (مرا).
(٤) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٠.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ بما يكون قبل كونه. ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يخلقه.
٢ - قال الزجاج: قوله: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني: القرآن (٢). ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ بالياء للكافرين والمنافقين، وبالتاء على المخاطبة ويدخل فيه الغيب.
٤ - قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ قال (٣) الأخفش: إنما هو ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه، وجاءت (من) توكيدًا، [كما تقول: رأيت زيدًا نفسه فأدخل (من) توكيدًا] (٤) (٥). واختلفوا في سبب نزول هذا، فقال السدي وقتادة ومجاهد: نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب بن عبد الله الفهري (٦) وكان ظريفًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي لقلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، وكانت قريش تقول: إن لجميل قلبين في جوفه، وكان يسمى ذا القلبين.
(٣) في (أ): (قاله).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤٧٨٠.
(٦) هو: أبو معمر جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، شهد حرب الفجار مع والده، أسلم عام الفتح مسنا وكان يلقب ذا القلبين؛ لأنهم كانوا يقولون: له قلبان في جوفه من شدة حفظه، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ وشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حنيناً. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٢٣٧، "الإصابة" ١/ ٢٤٥، "أسد الغابة" ١/ ٢٩٥
وقال في رواية أبي طيبان: إن المنافقين قالوا: [إن] (٢) لمحمد قلبين قلبًا معكم وقلبا مع أصحابه (٣).
وقال الزهري: هذا مثل ضربه الله في شأن زيد بن حارثة تبناه النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان، فكذلك لا يكون رجل واحد ابن رجلين (٤).
وقال مقاتل بن حيان: هذا مثل ضربه الله للمظاهر أي: فكما لا يكون لواحد قلبان كذلك لا يكون المرأة المظاهرة أمه (٥) حتى يكون له أمان (٦).
والقول الأول عليه أهل التفسير (٧)، والآية تكذيب للمشركين الذين
(٢) زيادة لا يستقيم المعى بدونها وهي موافقة لما في "سنن الترمذي".
(٣) رواه الترمذي في "سننه" كتاب: التفسير، سورة الأحزاب ٥/ ٢٧، وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحزاب ٢/ ٤١٥، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٨٢ ب، "تفسير السمرقندي" ٣/ ٣٦.
(٥) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لا تكون امرأة المظاهر أمه.
(٦) ذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٠٦، وعزاه للزهري ومقاتل. وذكره الماوردي في "تفسيره" ٤/ ٣٧٧. وعزاه لمقاتل بن حيان. وذكره "الثعلبي" ٣/ ١٨٢ ب، وعزاه للزهري ومقاتل.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ١١٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣١٨، "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٧٠.
من اللائي لم يحججن يبغين حسنة | ولكن ليقتلن البريء المغفلا |
قوله تعالى: ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ أي: تتظهرون على وزن تتفعلون فأدغم التاء في الظاء. وقرأ عاصم: تظاهرون من المظاهرة، وقرأ حمزة: تظاهرون أراد تتظاهرون فحذف تاء تتفاعلون، وأدغم ابن عامر هذه التاء التي حذفها حمزة، فقرأ بفتح التاء وتشديد الظاء كل هذا لغات (٦). يقال: ظاهر من
(٢) "الحجة" ٥/ ٤٦٦.
(٣) في (ب): (ينشد).
(٤) البيت من الطويل، وهو لعائشة بنت طلحة في: "العقد الفريد" ٧/ ١٠٢، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٤٦، ١٥/ ٣٨، "الأغاني" ١٧/ ١٢١، "الأزهية" ص ٣٠٦.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤.
(٦) انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٥٣٤، "الحجة" ٥/ ٤٦٧، "الحجة في القراءات السبع" ص ٢٨٨.
قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ الأدعياء جمع الدعي، وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه، ويدعيه غير أبيه، ومصدره: الدعوة يقال: دعِيٌّ بيَّنُ الدعوة أي: ما جعل من تدعونه ابنا وليس بولد في الحقيقة ابنا (٢).
قال المفسرون: نزلت في زيد بن حارثة تبناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كالعادة التي كانت في العرب في الجاهلية، فلما تزوج زينب بنت جحش -وكانت امرأة زيد- قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، فأنزل الله هذه الآية إبطالًا لما قالوا وتكذيبًا لهم أنه ابنه. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهم (٣). وقوله: ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ المفسرون على أن هذا خطاب للذين ينسبون الدعي إلى من تبناه كقولهم: زيد بن محمد، يقول الله: هذا قول تقولونه بألسنتكم ولا حقيقة وراءه، فهو قول بالفم من غير إسناد إلى أصل (٤) كما قال: {ذَلِكُمْ قَوْلُهُمْ
(٢) انظر: "الصحاح" ٦/ ٢٣٣٦، "تهذيب اللغة" ٣/ ١٩، "اللسان" ١٤/ ٢٥٧.
(٣) انظر: "الثعلبي" ٣/ ١٨٣ ب، "الطبري" ٢١/ ١١٩، "زاد المسير" ٦/ ٣٥١، "الدر المنثور" ٦/ ٥٦٢ وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٨٣ ب، "بحر العلوم" ٣/ ٣٧.
٥ - قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ قال ابن عباس: انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم (٤). ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي: فهم إخوانكم في الدين. قال ابن عباس: يريد من أسلم [منكم] (٥) (٦) ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾ أي: بنو عمكم. وهو قول ابن عباس (٧)، واختيار المبرد (٨) والزجاج (٩). وأنشد المبرد:
مهلا بنو عمنا (١٠) مهلا موالينا (١١)
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٧ ب.
(٤) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٠، "الوسيط" ٣/ ٤٥٨.
(٥) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٦) لم أقف على من نسب هذا القول لابن عباس.
(٧) لم أقف على هذا القول منسوبًا لابن عباس.
(٨) "الكامل" ٣/ ١٢١٢.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٥.
(١٠) في (أ): (عما).
(١١) هكذا ورد في النسخ بنو! وهو خطأ، والصواب: بني؛ لأنه منادى مضاف. وهذا صدر بيت وعجزه: لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونًا. =
وقال قتادة: لو دعوت رجلاً لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس (٤).
فعلى هذا الخطاب أن يخطئ في نسبه من غير تعمد. وذكر أبو إسحاق قولًا ثالثًا فقال: ويجوز أن يكون: (ولا جناح عليكم في أن تقولوا بما هي (٥) على غير أن يتعمد أن يجريه مجرى الولد في الإرث) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لما كان من قولكم (٧) قبل النهي رحيما بكم.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٧ ب، وذكره الطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٥٢٨، ولم ينسبه لأحد.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢١، "زاد المسير" ٦/ ٧٠٦، " تفسير مقاتل" ٨٧ ب.
(٤) المصدرين السابقين.
(٥) هكذا في جميع النسخ! والظاهر أنه خطأ، وعبارة الزجاج: في أن تقولوا له: يا بني على غير أن تتعمد أنه تجريه مجرى الولد.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٥.
(٧) في (ب): (لما كان لقومن قولكم)، وهو خطأ.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٨٣ ب، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٢، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٢٤.
(٣) في (ب): (طاعتهم أنفسهم).
(٤) المراجع السابقة.
(٥) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٨٣ ب.
(٦) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٢. وذكره الماوردي ٤/ ٣٧٣، وقال: حكاه النقاش، "تفسير مجاهد" ص ٤١٥.
(٧) انظر: "تفسير السمرقندي" ٣/ ٣٨، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٠٨.
وقال السدي: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم في دينهم (٥).
وعلى هذا هو أولى بهم من أنفسهم فيما يأمرهم به من أمور
(٢) هكذا في جميع النسخ! وهو خطأ، والصواب: أبو.
(٣) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، ونص الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه" الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب. الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء ١/ ٣ رقم الحديث (٨)، والنسائي في "سننه" كتاب الطهارة، باب النهى عن الاستطابة بالروث ١/ ٣٨، وابن ماجه في "سننه" كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة ١/ ١١٤ رقم الحديث (٣١٣)، والإمام أحمد في "مسنده" ٢/ ٢٤٧، ٢٥٠
(٤) انظر: "الأم" ٥/ ١٢٦.
(٥) لم أقف عليه.
﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (٤) قال جميع المفسرين: أي في حرمة نكاحهن، فلا يحل لأحد التزوج (٥) بواحدة منهن كما لا يحل التزوج بالأم (٦). وهذه الأمومة تعود إلى حرمة نكاحهن لا غير؛ لأنه لم يثبت شيء من أحكام الأمومة بين المؤمنين وبينهن سوى هذه الواحدة، ألا ترى أنه لا يحل رؤيتهن ولا يرثن المؤمنين ولا يرثونهن، ولهذا قال الشافعي: وأزواجه أمهاتهم في معنى دون معنى، وهو أنهن محرمات على التأبيد، وما كن محرمات في الخلوة والمسافرة وغير ذلك (٧).
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٧ ب.
(٣) في (أ): (أنفسكم)، وهو خطأ.
(٤) في (أ): (أمهاته)، وهو خطأ.
(٥) في (أ): (المزوج)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٢، "السمرقندي" ٣/ ٣٨، "الثعلبي" ٣/ ١٨٤ أ.
(٧) انظر: "الأم" ٥/ ١٢٥.
ومن أصحابنا من فضَّل وقال: كل مطلقة كانت ممسوسة لم يحل نكاحها، وإن كانت غير ممسوسة حل نكاحها، يدل عليه ما روي أن الأشعث بن قيس تزوج بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المستعيذة (٣)، وهي التي قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعوذ بالله منك، لما دخل عليها، فقال: "الحقي بأهلك".
(٢) في (أ) زيادة: (على أنهم لو اخترن)، وهو خطأ.
(٣) لم أستطع الوقوف على اسم المستعيذة بعد طول بحث، وذلك لكثرة ما ورد من روايات وأقوال، حصل في أكثر الروايات التي وردت فيها هذه القصة اضطراب، فقيل: هي الكلبية، وقيل: الجونية، ثم الاختلاف في اسمها واسم أبيها جاء على أكثر من سبعة أقوال. أيضًا قيل: إنها ماتت كمدًا بعد فراق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، وقيل: بل عاشت وتزوجت، ثم هناك خلاف في من تزوجها وهل تزوجها أو هم ثم لم يفعل، أقوال كثيرة ذكرها ابن حجر في "فتح الباري" ٩/ ٤٤٥ إلى ٤٥٢، وكذا ذكرها القسطلاني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" ١٢/ ١٠ - ١٤.
قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ قال قتادة: وكان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئًا فأنزل الله هذه الآية فصارت المواريث بالملك والقرابات (١) وقال الكلبي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله حتى نزلت هذه الآية، فصارت المواريث للأدني فالأدنى من القرابات (٢).
وذكرنا الكلام في هذا في آخر سورة الأنفال ﴿فِي كِتَابِ اللَّه﴾ مذكور هناك (٣). قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾. قال أبو إسحاق: أي ذو الرحم أولى بذي رحمه منه بالمؤمنين (٤) والمهاجرين إذا لم يكن من ذوي رحمه (٥). والمعنى أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالهجرة والإيمان دون رحم. و ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ صلة أولى كما تقول: أنا أولى منك بهذا الأمر، والمعنى: أولى الأرحام أولى بالميراث من المهاجرين. وقد ذكر الفراء وجهًا آخر، فقال: وإن شئت
(٢) "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٨٤ ب، "السمرقندي" ٣/ ٣٨.
(٣) في آخر آية من سورة الأنفال، وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
(٤) في (ب): (منه من المؤمنين).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٦.
واختلفوا في معنى الأولياء هاهنا، فقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: إلا أن توصوا إلى أوليائكم الذين عاقدتموهم وصية (٣).
وقال مجاهد: خلفاؤكم الذين والى بينهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار (٤).
قال الكلبي: إلا أن يوصي الرجل لأخيه الذي آخى بينهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوصية فيجعل ذلك من ثلث الميت (٥).
وعلى هذا معنى الآية: هو أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة والمعاقدة أباح (٦) الوصية للحليف والمعاقد والولي والمهاجر. وهذا قول ابن زيد، وابن حيان (٧).
قال أبو إسحاق: هو أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٦.
(٣) ذكر هذا القول الطبري ٢١/ ١٢٤ ونسبه لابن زيد ثم رجحه. ولم أعثر على من نسبه لابن عباس.
(٤) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٤، "الماوردي" ٤/ ٣٧٦، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٦٧ عن مجاهد، وقال: أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٣.
(٦) في (ب): (أبلغ)، وهو خطأ.
(٧) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٤، "الثعلبي" ٣/ ١٨٤ ب.
قال عطاء: هو إعطاء المسلم الكافر بينهما قرابة وصية له (٣).
وقال قتادة: أولياؤكم من أهل الشرك وصية ولا ميراث لهم (٤). وهذا قول ابن الحنفية: لذي الرحم الكافر (٥). وهذا معنى الآية: إن الله تعالى لما رد التوارث إلى الرحم والملك (٦) أباح الوصية لذي الرحم الكافر. واختار بعضهم القول الأول، وقال: لا يجوز أن يكون المراد بالأولياء القرابة من أهل الشرك؛ لأن الله تعالى نهى عن ذلك بقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: ١]، وعدو الله والمؤمنين لا يكونون أولياء المؤمنين (٧). وعلى ما ذكره الحسن لا يبعد أن يكونوا أولياء في النسب.
قوله تعالى: ﴿مَعْرُوفًا﴾ كلهم قالوا: وصية، وفيه دليل على أن الوصية من باب المعروف لا من باب الواجبات، ولو كان واجبًا لكان أولى
(٢) "الدر المنثور" ٦/ ٥٦٨، وقال: أخرجه عبد الرزاق عن قتادة والحسن، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٢.
(٣) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٣، "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٥/ ٣٢٥.
(٤) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٤، "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٧٦، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٦٧، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٤، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٦٧، وعزاه لابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية.
(٦) في (أ): (الملة)، وهو خطأ.
(٧) اختار هذا القول الطبري ٢١/ ١٢٤ ورجحه.
قوله: ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ يعني: التوارث بالهجرة والإيمان الذي كان في ابتداء الإسلام في قول مقاتل (٢). وقال ابن زيد: (كان ذلك) يعني الذي ذكر من أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض (٣).
وقال قتادة: (كان ذلك) يعني أن المشرك لا يرث المسلم (٤) (٥).
وقال الكلبي: كان ذلك يعني الوصية، وأن يعود الفقير على الغني، وهو فعل معروف (٦).
قوله: ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس: يريد في اللوح المحفوظ (٧). قال القرظي: في التوراة، وهو قول الكلبي قال: كان في التوراة مكتوبًا: عليهم أن يصنع بنوا إسرائيل بعضهم على بعض معروفًا (٨). وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في آخر سورة الأنفال.
قوله: ﴿مَسْطُورًا﴾ قال ابن عباس: مكتوبًا (٩).
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٨ أ.
(٣) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٥.
(٤) في (ب): (أن المسلم لا يرث المشرك).
(٥) "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٥/ ٣٢٦، "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٢٦.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "تفسير ابن عباس" ص٣٥٠، ولم أجد من نسبه لابن عباس من المفسرين حسب علمي.
(٨) ذكر هذا القول وعزاه للقرظي: الطبري ١٤/ ١٢٦، البغوي ٣/ ٥٠٨، ولم أجد من نسبه للكلبي.
(٩) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٠.
قوله: ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ قال مجاهد: في ظهر آدم (٢).
قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر) (٣).
قال ابن عباس: أخذ الميثاق على النبيين خصوصًا، يصدق بعضهم بعضًا ويتبع بعضهم بعضًا (٤). قال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله أن يصدق بعضهم بعضًا وأن ينصحوا لقومهم (٥). وقال الكلبي: أن [....] (٦) بعضهم بعضًا.
وقوله: ﴿وَمِنْكَ﴾ أخرجه والأربعة الذين ذكرهم من جملة النبيين؛ تخصيصًا بالذكر، وتفضيلاً على غيرهم؛ لأنهم أصحاب الكتب والشرائع، كقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٩٨]، وقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨]. وقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذكر
(٢) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٦، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٢٧، "تفسير مجاهد" ص ٥١٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٦.
(٤) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥١، مع اختلاف في العبارة، وذكر هذا القول بعبارته الطبري ٢١/ ١٢٥، ونسبه لقتادة.
(٥) " تفسير مقاتل" ٨٨ أ.
(٦) مقدار كلمة مطموسة في جميع النسخ ولعلها [يصدق]. ولم أعثر على من نسب هذا القول للكلبي، وذكره الطبري منسوبًا لقتادة ٢١/ ١٢٥.
قال أبو إسحاق: فعلى هذا لا تقديم في هذا الكلام ولا تأخير. هو على ما نسقه قال: ومذهب أهل اللغة أن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن المذكور أولًا لا يستقيم أن يكون معناه التأخير (٢).
قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾. قال المفسرون: أي عهدًا شديدًا على الوفاء بما حملوا، وذلك العهد الشديد هو اليمين (٣) بالله -عز وجل- (٤).
٨ - قوله تعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾. قال مقاتل: (يقول أخذ ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين، يعني به: النبيين هل بلغوا الرسالة؟ (٥). وقال مجاهد: المبلغين [المؤدين] (٦) من الرسل (٧).
وقال الكلبي: يعني النبيين عن صدقهم بالبلاغ (٨).
وقال أبو إسحاق: معناه ليسأل المبلغين من الرسل عن صدقهم في
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٦ مع اختلاف يسير في العبارة.
(٣) في (ب): (الإيمان).
(٤) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٦٠، "زاد المسير" ٦/ ٣٥٥.
(٥) "تفسير مقاتل" ٨٨ أ.
(٦) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٧) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٦، "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٣١٩.
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٦٠ غير منسوب لأحد، وذكره "الماوردي" ٤/ ٣٧٨، وقال: حكاه النقاش مع اختلاف في العبارة.
واللام من قوله: ﴿لِيَسْأَلَ﴾ متعلقة بالأخذ المذكور قبلها، والتقدير: وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا لنسألهم عن تبليغ ما حملناهم من أداء الرسالة، وإنما قال: ليسأل بالياء؛ لكون الخطاب كما يرجع من المخاطبة إلى الكناية، وتم الكلام عند قوله: ﴿صِدْقِهِمْ﴾، ثم أخبر عما أعد للكفار فقال: ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾. قال الزجاج: أي للكافرين بالرسل (٢). ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
٩ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾. قال مقاتل وغيره من المفسرين: إن أبا سفيان بن حرب ومن معه من المشركين واليهود من قريظة والنضير تحزبوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام (٣) الخندق، فبعث الله عليهم بالليل ريحًا باردة وبعث الملائكة، فقلعت الريح الأوتاد وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكبرت الملائكة في جانب عسكرهم، فانهزم المشركون من غير قتال، فأنزل الله يذكرهم إنعامه عليهم في الرفع عنهم، وهو قوله: ﴿ذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ (٤). قال مجاهد والمفسرون: هم الأحزاب عيينة بن بدر وأبو سفيان وقريظة (٥).
قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٧.
(٣) في (ب): (يوم).
(٤) "تفسير مقاتل" ٨٨ أ، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٧، "الدر المنثور" ٦/ ٥٧١.
(٥) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٨، "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٧٨، "الدر المنثور" ٦/ ٥٧٣ كلهم عن مجاهد، وزاد السيوطي حيث عزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي.
قوله تعالى: ﴿وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾. قال: الملائكة، ولم يقاتل يومئذ (٢). قال مقاتل: ألف ملك عليهم جبريل (٣).
وقال ابن عباس: ﴿وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ يريد الملائكة تهلل وتكبر وتدعو للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين بالنصر (٤). ثم أخبر عن حالهم من أين جاءوا.
١٠ - وقوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾ إذ بدل من قوله: ﴿إِذ جَاَءَتكُمْ جُنُودُ﴾، وإذ ظرف لإنعام الله عليهم، كأنه قيل: اذكروا إنعام الله عليكم بالكفاية حين جاءتكم جنود، حين جاءوكم ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾. قال المفسرون: يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، قريظة وعليهم حيي بن أخطب، والنضير وعليهم مالك بن عوف (٥)، وغطفان وعليهم عيينة بن حصن ومعهم طليحة بن خويلد (٦) في بني أسد. وقوله: ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ يعني: من بطن الوادي
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٥١٥ هـ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لم تذكر كتب المغازي والسير هذا الاسم ضمن قواد هذه الغزوة. لكن ذكر في غزوة حنين (مالك بن عوف النصْري) كان رئيس المشركين، ثم أسلم، وكان من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على من أسلم من قومه.
(٦) هو: طليحة بن خويلد الأسدي، يقال: طليحة الكذاب؛ لأنه ارتد بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى النبوة، كان من فصحاء العرب وشجعانهم، أسلم بعد ردته في زمن =
وقال الكلبي على الضد مما ذكرنا فقال: من فوقكم يريد من مكة، ومن أسفل منكم يريد أسد وغطفان (٢). ونحو ذلك قال الفراء: من فوقكم مما يلي مكة، ومن أسفل منكم مما يلي المدينة (٣).
قوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ ومعنى زاغت في اللغة: عدلت ومالت، يقال: زاغت الشمس تزيغ زيوغًا وزيغانًا (٤)، قال قتادة ومقاتل: شخصت فرقًا (٥)، والشخوص غير الزيغ؛ لأن الشخوص هو أن يفتح [عينه] (٦) ينظر إلى الشيء فلا يطرف؛ يقال: شخص بصر الميت (٧). وإنما فسروا الزيغ بالشخوص هاهنا. لأن المعنى أن الأبصار مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا من كل جانب، كأنها اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.
(١) "الثعلبي" ٣/ ١٨٦ وما بعدها، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٢٩ وما بعدها، "القرطبي" ١٤/ ١٤٤.
(٢) ذكره ابن كثير ٣/ ٤٧٤، ولم ينسبه للكلبي وإنما هو من رواية حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- في حديثه الطويل المشهور بشأن تلك الغزوة.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٦
(٤) انظر: "اللسان" ٨/ ٤٣٢ (زيغ)، "الصحاح" ٤/ ١٣٢٠ (زيغ).
(٥) "تفسير مقاتل" ٢/ ٢٣٢، وذكره الطبري ٢١/ ١٣١، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ١١٣ منسوبًا لقتادة.
(٦) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٧١ (شخص)، "اللسان" ٧/ ٤٥ (شخص).
وقال الفراء: زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها (٢). متحيرة تنظر إلى عدوها، وهذا الذي ذكره شرح شاف.
قوله تعالى: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ االحنجرة: جوف الحلقوم، وكذلك الحنجور. قال قتادة: شخصت من مكأنها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت (٣). قال عكرمة: لو أن القلوب تحركت أر زالت لخرجت نفسه، ولكن إنما هو الفزع (٤).
قال ابن قتيبة: معناه وكادت القلوب تبلغ الحناجر (٥). و (كاد) مضمر في الآية.
قال ابن الأنباري: وهو غلط؛ لأن كاد لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم يوجد مظهر (٦). فإنه ولو جاز هذا لجاز: قام عبد الله بمعنى كاد عبد الله يقوم، فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله، والمعنى ما ذهب إليه الفراء، وهو أنهم جبنوا وجزع أكثرهم. وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٦.
(٣) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٣، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٧٦ عنه وقال: أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣١، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٧٦ عنه، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٤٨.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٣٥٨ عن ابن الأنباري.
قال أبو سعيد: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله: فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: فقولوا: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال: فقلناها فضرب وجوه أعداء الله بالريح فهزموا (٣).
وقوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ قال ابن عباس: يريد خفتم كثرتهم حتى قنطتم، وكان الله لكم ناصرًا (٤).
وقال مقاتل: يعني الإياس من النصر واختلاف الأمر والنهي (٥) أن ظنونكم اختلفت، فظن بعضكم بالله النصر ورجاء الظفر والكفاية، وبعض يئس وقنط. وقال الكلبي: ظن به يومئذ ناس من المنافقين ظنونًا مختلفة، يقولون: هلك محمد وأصحابه (٦). فعلى القول الأول (تظنون) خطاب للمؤمنين، وعلى قول الكلبي خطاب للمنافقين، والمؤمنون كانوا واثقين بنصر الله ووعده بالنصر لدينه ورسوله.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٣٦ مع اختلاف في العبارة.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" ٣/ ٣، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٧٣، وعزاه لأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب.
(٦) ذكر هذا القول البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥١٦ غير منسوب لأحد، والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٥٣٢ غير منسوب لأحد.
الظونا والرسولا والسبيلا: ثلاثة أوجه من القراءة؛ إثبات ألفاتها وقفا ووصلا، وحذفها في الحالين، وإثباتها في حال الوقف وحذفها في الوصل. قال أبو الحسن الأخفش: العرب تلحق الواو والياء والألف في أواخر القوافي، فشبهت أواخر الآي بالقوافي (٢).
وقال أبو علي: أواخر الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، كما كانت القوافي مقاطع فكما ثبتت قوله: ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ [الفجر: ١٥] ﴿رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٦] في حذف الياء بنحو:
من حذف (٣) الموت أن يأتين
و:
إذا ما انتسبت له أنكرن (٤)
كذلك تشبه في إثبات الألف بالقوافي) (٥). نحو قوله:
(٢) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٨٠، وانظر: "علل القراءات" ٢/ ٥٣٥، "الحجة في القراءات السبع" ص ٢٨٩.
(٣) هكذا في النسخ، وهو خطأ والصواب حذر.
(٤) عجزا بيتين من المتقارب للأعشى، والبيتان هما:
فهل يمنعني ارتيادي البلاد | من حذر الموت أن ياتين |
ومن شأني كاسفٍ وجهه | إذا ما انتسبت له أنكرن |
(٥) "الحجة" ٥/ ٤٦٩.
أقلي اللوم عاذل والعتابا | وقولي إن أصبت لقد أصابا (١) |
فمن أثبت في الوقف دون الوصل، وهو اختيار أبي عبيد (٣) قال: العرب تثبت هذه الألفات في قوافي أشعارهم ومصاريفها؛ لأنها مواضع قطع وسكت، فتعمد الوقوف على هذه الألفات موافقة للخط، وإذا وصلت حذفت كما تحذف (٤) غيرها مما يثبت في الوقف، نحو التشديد الذي يلحق الحرف الموقوف عليه، قال أبو عبيد: وأكره أن يثبتها مع إدماج القراءة؛ لأنه خروج من العربية (٥) لما يعد هذا عندهم جائزًا في اضطرار ولا غيره، وأما من أثبت في الوصل فوجهه أنها في المصحف ثابتة، وإذا أثبتت (٦) في الخط فينبغي (٧) ألا تحذف كما لا تحذف هاء الوقف من (حسابيه) (وكتابيه)
والشاهد فيه: إجراء المنصوب المقرون بالألف واللام مجرى غير المقرون بها في ثبات الألف لوصل القافية؛ لأن المنون وغير المنون في القوافي سواء.
(٢) انظر: "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٤٧١، ٦٧٧، ٧٢٦.
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ٤٥٩، "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٤٥. تقدم في سورة الأنفال.
(٤) في (أ) جاء الكلام هكذا: كما تحذف [الكسر، فمن أثبت في الوقف دون الوصل دون الوصل] غيرها مما يثبت وهي زيادة خطأ.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٤٥.
(٦) في (ب): (أثبت).
(٧) في (ب): (ينبغي).
وإذا كان كذلك فثباتها في الفواصل كما ثبتت في القوافي حسن، وأما من طرحها في الحالين فإنه لم يعتد بها ولم يشبه [المنثور بالمنظوم] (٣) وفيه مخالفة لخط المصحف (٤).
١١ - قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ﴾ يقال: هنا للقريب من المكان، وهنالك للبعيد، وهناك للوسيط بين القريب والبعيد، وسبيله سبيل ذا وذلك وذاك، وذكرنا فيما تقدم (٥) أن هنالك يجوز أن يشار به إلى المكان وإلى الوقت، والمراد بقوله (هنالك) في هذا الموضع الإشارة إلى الوقت الذي تقدم ذكره، وهو قوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾ ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾. قال مقاتل: يعني عند ذلك (٦). وقال أبو إسحاق: أي في ذلك المكان (٧).
وقوله: ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ قال الفراء والزجاج: اختبروا (٨). وقال
(٢) انظر قول الأخفش في: "الخصائص" ٢/ ٩٧، ولم أقف عليه في "معانيه".
(٣) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣٢، "الحجة" ٥/ ٤٦٨، "الحجة في القراءات السبع" ص ٢٨٩، "البحر المحيط" ٨/ ٤٥٨، "الدر المصون" ٩/ ٩٨.
(٥) عند قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)﴾. آية ٣٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٩ مع اختلاف في العبارة.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٦، "معاني القرآن وإعرابه للزجاج" ٤/ ٢١٩.
وقال عطاء: بالجزع (٣).
قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ أي: أزعجوا وحركوا، يقال: زل فلان عن مكانه وزلزله غيره. ﴿زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾، قال أبو إسحاق: ويجوز فتح الزاي والمصدر من المضاعف يجيء على فعلال وفعلال نحو: قلقلته قلقالًا وقلقالًا والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف من هذا البناء مكسور الأول نحو: دحرجته دحراجًا، لا يجوز فيه غير الكسر (٤).
وقال الفراء: الزلزال بالكسر المصدر وبالفتح الاسم، وكذلك الوِسواس والوَسواس (٥). قال الكلبي ومقاتل: جهدوا جهدًا شديدًا (٦).
وقال عبد الله بن مسلم: أي شدد عليهم وهول (٧). والزلزال: الشدة والزلزال: الشدائد، وأصلها من التحريك.
وقال أبو إسحاق: (أزعجوا إزعاجًا شديدًا) (٨). والمعنى أن من كان
(٢) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب.
(٣) لم أعثر على من ذكر هذا القول من المفسرين.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٨ مع اختلاف في العبارة.
(٥) "معاني القرآن" ٣/ ٢٨٣.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب، ولم أجد من نسب القول للكلبي.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٤٨.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٩.
١٢ - ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾. قال الزجاج: موضع (إذ) نصب، المعنى: واذكر إذ يقول المنافقون (١).
قال ابن عباس: يعني أوس بن قبطي (٢) ومعتب بن بشير (٣) وطعمه بن أبيرق وسهل بن الحارث (٤) ووداعة (٥) وعبد الله بن أبي، وعدة نحوًا من سبعين رجلاً، قالوا يوم الخندق: إن محمدًا يعدنا أن يفتح مدائن كسرى وقيصر واليمن، ونحن لا نأمن أن نذهب (٦) إلى الخلاء (٧).
وقوله تعالى: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾. قال قتادة: قال أناس
(٢) هو: أوس بن قبطي بن عمرو بن زيد بن جشم الأنصاري الأوسي، شهد أحدًا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقال: إنه كان منافقًا، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ١/ ٥٥، و"الإصابة" ١/ ٩٨، "أسد الغابة" ١/ ١٤٨.
(٣) هو: معثب بن بشير، ويقال بن قشير الأوسي الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا. وقال ابن هشام بأنه ليس من المنافقين. وقيل: إنه تاب مما قاله يوم أحد. انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٤٤٢، "الإصابة" ٣/ ٤٢٢، "أسد الغابة" ٤/ ٣٩٤.
(٤) لم أقف له على ترجمة
(٥) لم أقف له على ترجمة.
(٦) في (ب): (يذهب)، وهو خطأ.
(٧) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٤٦٢ دون تسمية المنافقين.
وقال مقاتل: قال معتب: يعدنا محمد قصور اليمن وفارس والروم، ولا يستطيع أحدنا أن يبرز إلى الخلاء، هذا والله هو الغرور (٤).
وقال محمد بن إسحاق عن أشياخه: قال معتب أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن يأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لايقدر يذهب إلى الغائط (٥).
١٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ يعني: من المنافقين، قال بعضهم لبعض: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾ في عسكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لكم به موضع إقامة. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين (٦). وقال السدي: يعني عبد الله بن أبي وأصحابه (٧).
وقال ابن عباس: قالت اليهود للمنافقين: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ (٨). قال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض المدينة، ومدينة الرسول -عليه السلام-
(٢) في (أ): زيادة: (يعدنا محمدًا قصور اليمن وفارس والروم ولا يستطيع أحدنا أن يبرز إلى [ثم وضع نقط هكذا] أن يفتح قصور الشام وفارس)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ٢١/ ١٣٣، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٧٧ وقال: أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) "تفسير مقاتل" ٨٨ ب.
(٥) انظر "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣٣ ونسب القول لقتادة ولمجاهد، وذكر السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٧٧، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة والسدي.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨٩ أ.
(٧) انظر: "الكشاف" ٣/ ٢٣٠، "زاد المسير" ٦/ ٣٥٩، "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٨١.
(٨) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٤٨.
سأهدي لها في كل عام قصيدة | وأقعد مكفيا بيثرب مكرما |
قوله: ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾. قال أبو إسحاق: لا مكان لكم تقيمون فيه (٤). والمقام اسم الموضع، يقال: مقام إبراهيم، ومنه قيل للمجلس والمشهد: مقام ومقامة. قال الله تعالى: ﴿وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء ٥٨، الدخان: ٢٦]. قال الشاعر:
فأيي ما وأيك (٥) كان شرًّا | فقيد إلى المقامة لا يراها (٦) |
(٢) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" ٤/ ٢٨٥ عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة هي طابة" وذكره ابن كثير في "التفسير" ٥/ ٣٤٣، وقال: تفرد به الإمام أحمد، وهو ضعيف.
(٣) نظر: "اللسان" ١/ ٢٣٤ (ثرب).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٩.
(٥) في (ب): (ما واك).
(٦) البيت من الوافر، وهو للعباس بن مرداس في "ديوانه" ص ١٤٨، "خزانة الأدب" ٤/ ٣٦٧، "الكتاب" ٢/ ٤٠٢، "لسان العرب" ١٢/ ٥٠٦، "الحجة" ٥/ ٤٧١.
المقامة: بالضمة المجلس وجماعة الناس، والمراد: أعماه الله حتى صار يقاد إلى مجلسه.
قال الفراء (٢) والزجاج (٣): من ضم الميم كان المعنى: لا إقامة لكم، يقال: أقمت إقامة ومقامًا.
وقال أبو علي: يجوز في قول من ضم الميم أن يكون المعنى: لا موضع إقامة لكم، وهذا أشبه؛ لأنه في معنى من فتح، يقال: لا مقام لكم (٤). والمقام بضم الميم يكون (٥) مصدرًا ويكون اسمًا لموضع الإقامة.
وقوله: ﴿فَارْجِعُوا﴾ قال المفسرون: أي إلى المدينة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينه وبين القوم، فقال هؤلاء الذين يثبطون الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس لكم هاهنا موضع إقامة؛ لكثرة العدد وغلبة الأحزاب، فارجعوا إلى المدينة (٦).
قوله -عز وجل-: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ أي: في الرجوع إلى المدينة. قال مقاتل: وهم بنو حارثة وبنو سلمة قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- إن بيوتنا عورة (٧).
قال الليث: العورة سوأة الإنسان وكل أمر يستحي (٨) منه فهو عورة،
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٩.
(٤) "الحجة" ٥/ ٤٧١.
(٥) في (ب): زيادة: (يكون المعنى لا موضع)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣٥، "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٨٢، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٥، "زاد المسير" ٦/ ٣٦٠.
(٧) "تفسير مقاتل" ٨٩ أ.
(٨) في (أ): (يستحق)، وعلق في الهامش: يستحي.
قوله: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾: أي ليست بحريزة. ويقال في التذكير (١) والتأنيث والجمع عورة لمصدر (٢). قال الزجاج: يقال: عور المكان يور عورا وعورة فهو عور، وبيوت عورة، وعورة على ضربين فمن سكن كان المعنى: ذات عورة) (٣).
قال الفراء: يقال: أعور منزلك إذا بدت منه عورة، وأعور الفارس اذا كان فيه موضع خلل للضرب، وأنشد:
له الشدة الأولى إذا القرن (٤) أعورا (٥)..
وقال ابن قتيبة: أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ، وكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت، فإذا ذهبوا عنها أعورت البيوت، تقول العرب: أعور منزلك إذا ذهب سترها وسقط جدارها، وأعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب والطعن (٦).
قال مجاهد والحسن ومقاتل: قالوا: بيوتنا ضائعة (٧) نخشى عليها
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ١٧٣ (عار).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٠ مع اختلاف يسير.
(٤) في (ب): (القرآن)، وهو خطأ.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٧.
وهذا شطر بيت لم أهتد إلى تمامه وقائله. قال الفراء: أنشدني أبو ثروان، وفي "تهذيب اللغة" ٣/ ١٧٢، و"اللسان" ٤/ ٦١٧ (عور) وقال: إنه في وصف أسد.
(٦) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٤٨.
(٧) طمس في (ب).
وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، ولا نأمن على أهالينا (٢).
وقال الكلبي: بيوتنا عورة أي خلاء (٣) يعني من الرجال (٤).
وقال أبو إسحاق: فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الهرب والفرار (٥) فقال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ قال مقاتل: ما يريدون إلا فرارًا من القتال ونصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (٦).
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾. قال مقاتل والفراء: لو دخلت عليهم المدينة (٧).
وقال الزجاج: لو دخلت البيوت (٨). يعني: لو دخلها عليهم هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب من أقطارها من نواحيها، واحدها قطر، والقطر والفتر الجانب الواحد والناحية.
قوله: ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ يعني: الشرك في قول جميع المفسرين (٩).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ١٣٦، "مجمع البيان للطبرسي" ٨/ ٥٤٥.
(٣) في (أ): (خال)، وهو خطأ.
(٤) "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٨٣.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١٩.
(٦) "تفسير مقاتل" ٨٩ أ.
(٧) "تفسير مقاتل" ٨٩ أ، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٣٧.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٠.
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣٦، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٣٧، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٣٣، "زاد المسير" ٦/ ٣٦١.
قال ابن عباس ومقاتل: يقول الله لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشرك لأشركوا (٢).
وقال الكلبي (٣): يقول لو دخل عليهم من أطراف المدينة الخيل والرجال، ثم دعوهم إلى الشرك بالله لأعطوا ذلك وهو قوله: ﴿لَآتَوْهَا﴾ أي: لما امتنعوا منها. وقرأ الحجازيون: لأتوها قصرًا أي: لفعلوها (٤).
قال الفراء: من قولك: أتيت الشيء إذا فعلته، تقول: أتيت الخير أي فعلت الخير، والمعنى: ثم سئلوا فعل الفتنة لفعلوها (٥).
وقال الزجاج: من قرأ بالقصر كان المعنى لقصدوها (٦). والاختيار المد؛ لقوله: سئلوا، فالإعطاء مع السؤال حسن. قاله الفراء وأبو علي (٧).
وقال أبو عبيد (٨) قد جاءت الآثار في الذين كانوا يفتنون بالتعذيب في الله أنهم أعطوا ما سألهم المشركون غير بلال، وليس في شيء من الحديث أنهم جاءوا ما سألوهم، ففي هذا اعتبار للمد.
(٢) انظر: "مجمع البيان" للطبرسي ٨/ ٥٤٥. "تفسير ابن عباس" ص ٣٥١، "تفسير مقاتل" ٨٩ أ.
(٣) لم أقف على قول الكلبي.
(٤) انظر: كتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ٢/ ١٩٦.
(٥) لم أقف على قول الفراء في معاني القرآن له، ولا فيما لدي من مراجع.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٠.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٧، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٧٢.
(٨) لم أقف على قول أبي عبيد.
قوله: ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ قال ابن عباس: لم يلبثوا باعطاء الشرك إلا يسيرًا (٢).
وقال مقاتل: وما أحسوا من الشرك إلا قليلاً حتى يعطوها طائعين (٣).
وقال قتادة: وما أحبسوا من الإجابة إلى الكفر إلا قليلاً، وهذا قول أكثر المفسرين (٤).
وقال السدي: وما تلبثوا بها أي: بالمدينة إلا يسيرًا بعد إعطاء الكفر حتى يهلكوا (٥).
وقال الحسن: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يعذبوا. وهذا القول اختيار الفراء (٦) وابن قتيبة (٧). والكناية في (بها) على القول الأول تعود إلى الفتنة، يقال: تلبث بالشيء تربص به إذا آخره ومنعه. وعلى القول الثاني يعود إلى المدينة، وهي مذكورة في قوله: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾. وروى عطاء عن ابن عباس قولًا ثالثًا فقال: يريد لم يقيموا مع النبي
(٢) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٥، "تفسير ابن عباس" ص ٣٥١.
(٣) "تفسير مقاتل" ٨٩أ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ١٣٦، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٥، "زاد المسير" ٦/ ٣٦١.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٦/ ٣٦٢، "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٥٠.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٧.
(٧) "غريب القرآن" ص ٣٤٩. وانظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٥، "القرطبي" ١٤/ ١٥٠.
وذكر أبو علي هذه الآية في "المسائل الحلبية" فقال: (من قرأ: لآتوها بالمد فلمكان المسألة، كأنه لو سئلوا لأعطوها ولأتوها من الإتيان حسن؛ لأن قوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ دليل على أنهم يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الإتيان والوقوف معه، فكان المعنى: ويستأذن فريق منهم النبي في أن لا يأتوه لاشتغالهم بحفظ بيوتهم المعورة في زعمهم.
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي: لو بلغت البيوت في أعوارها أن دخل عليهم من جوانبها كلها لفرط عوارها، ثم سئلوا معونة العدو على المسلمين، لأتوها وأسرعوا إليها ولم يعتلوا عليهم بأن بيوتهم معورة كما اعتلوا به في تأخرهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ونصرهم، فالمعنى: يستأذنون النبي في أن يقعدوا عنه ولم يأتوه، وهم يأتون العدو لينصروهم ويعينوهم على المسلمين لو سألوهم، فالقراءة بالقصر أشكل بما قبله وما بعده (٣). ألا ترى أن بعدها: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. ومن قرأ بالمد فهو راجع إلى هذا؛ لأن إعطاء الفتنة هو راجع إلى هذا؛ لأن إعطاءهم الفتنة
(٢) في (ب): (ولا بالمقامة).
(٣) (ما) ساقطة من (أ).
وقوله: ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ يقرب من قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ لآية، إلا أنهم في هذه الآية كأنهم أشد يأسًا من (٣) النصرة لقطعهم على أن ما وعد الله والرسول به غرور، ويجتمعان في الإخبار عنهم بأن قلوبهم لم تثلج بالإيمان ولم تسكن إلى قول الرسول والإيمان والقرآن وما اجترءوا (٤) به من الظفر ووعدوا به من الفتح والنصر في قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣، الفتح: ٢٨، الصف: ٩]) (٥)، وقوله: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦]، وقوله: ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ أي: تلبثوا بدورهم إلا زمانًا قليلًا حتى يأتوا العدو ناصرين لهم عليكم، ويجوز أن يكون المعنى: لو أتوا العدو ناصرين لهم ومظهرين ما هم مبطنون لاستؤصلوا بالسيوف ويغلبوا كما غلب العدو، ونزل بهم من العذاب ما يهلكهم إذا باينوكم في الدار. ثم ذكرهم الله تعالى عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالثبات في المواطن فقال:
(٢) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: متثاقلين.
(٣) هكذا هي في جميع النسخ! وفي "المسائل الحلبيات" في.
(٤) هكذا في جميع النسخ! وفي "المسائل الحلبيات": (ما أخبروا به)، وهو الصواب.
(٥) "المسائل الحلبيات" ص ٣٦٠ - ٣٦٢ مع اختلاف يسير في العبارة.
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغا (١)
البيت.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ أي عنه، فحذف للعلم به، كقوله في سورة بني إسرائيل: ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٤]، وقد مر.
وقال صاحب "النظم": معنى مسئولًا هاهنا مطلوبًا بمعنى مطالبًا به ممن صنعه، كما تقول: أسألك حقي أي: أطالبك حقي، أخبر الله تعالى أنهم يسألون في الآخرة عن عهدهم.
١٦ - ثم أخبر أنهم إن جبنوا عن العرب وخذلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حرصًا على الحياة، وخوفًا من الموت لم ينفعهم ذلك، فقال قوله: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ قال ابن عباس: لأن المراد إذا حضر أجله مات أو قتل (٢).
قوله تعالى: ﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: لا يمتعون في الدنيا بعد
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.
وهو لطرفة في "ديوانه" ص ٣٢، "خزانة الأدب" ١/ ١١٩، "الإنصاف" ٢/ ٥٦٠، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٨٥.
والشاهد فيه: قوله: أحضر، حيث روي بالرفع على حذف أن الناصبة وارتفاع الفعل بعدها، وروي بالنصب بإضمار أن.
(٢) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٦٣، ولم أجد من نسب هذا القول لابن عباس غير الواحدي.
وقال الكلبي: تمتعون إلى آجالكم، وهو القليل؛ لأن كل ما هو آت قريب (٣).
١٧ - ثم أخبر أن ما قدر عليهم وأراده بهم لم يدفع عنهم بقوله: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: يجيركم ويمنعكم منه. ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾ قال الكلبي: هلاكًا (٤). وقال مقاتل: يعني الهزيمة (٥). ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ قال: يعني: خير، وهو النصر (٦). وقال الكلبي: هي العافية (٧). هذا كله أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبهم بهذه الأشياء، ثم يخبر عنهم مؤكدًا لما سبق بقوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يعني قريبًا ينفعهم ولا ناصرًا ينصرهم (٨).
انظر: "الطبقات الكبرى" ٦/ ١٨٢، "حلية الأولياء" ٢/ ١٠٥، "السير" ٤/ ٢٥٨.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٣٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٢١، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٦٠، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(٣) لم أقف عليه عن الكلبي، وأورده القرطبي ١٤/ ١٥١، ولم ينسبه.
(٤) لم أقف على هذا القول.
(٥) "تفسير مقاتل" ٨٩ ب.
(٦) المرجع السابق.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٤٢٠.
(٨) "تفسير مقاتل" ٨٩ ب، ولم أقف على من نسبه لابن عباس.
وقال مقاتل: (المعوقين) هم المنافقون، عبد الله بن أبي وأصحابه] (٣) و (القائلين) هم اليهود، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين أيام الخندق فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بأيدي أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة ما استبقوا منكم أحدًا، وإنا نشفق عليكم؛ فإنكم إخواننا ونحن جيرانكم هلم إلينا، فأقبل المنافقون على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، فذلك قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ يعني: المنافقين، ويعلم (القائلين لإخوانهم) يعني اليهود حين دعوا إخوانهم المنافقين: (هلم إلينا) (٤). وذكرنا الكلام في (هلم) في سورة الأنعام (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٨٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥١٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٤/ ١٥١، وقد نسبه لمقاتل وقتادة وغيرهما، ولم أجد من نسبه لابن عباس.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وكتب بالهامش.
(٤) "تفسير مقاتل" ٨٩ ب.
(٥) عند قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ الآية: ١٥٠.
وقال أبو إسحاق: (لا يأتون العرب مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تعذيرًا يوهمونهم أنهم معهم).
١٩ - قوله: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ منصوب على الحال، المعنى: يأتون العرب بخلا عليكم، قاله الزجاج (٣). وأشحة: جمع شحيح، مثل دليل وأدلة، وعزيز وأعزة. قال الفراء: (ويجوز أن يكون حالًا من ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾ المعنى: يعوقون أشحة، وإن شئت من ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ أي: وهم هكذا. قال: ويجوز أن يكون نصبًا على الذم كما ينصب على المدح، مثل قوله: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ [الأحزاب: ٦١]) (٤). قال مجاهد وقتادة والكلبي: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ بالغنيمة والخير والمنفعة في سبيل الله (٥).
(٢) "تفسير مقاتل" ٩٠ أ، ولم أجد من نسبه للكلبي، ونسبه الماوردي للسدي ٤/ ٣٨٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٠.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٣٨ مع اختلاف في العبارة.
(٥) انظر: "الدر المنثور" ٦/ ٥٨١، وقال: أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وابن أبي حاتم عن السدي، وابن أبي حاتم عن قتادة. وانظر: "تفسير مقاتل" ٩٠ أ، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٦، "ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٢١.
ولقوله: ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ (٥) تأويلان: أحدهما: أنهم يلوذون بك من الخوف فلا يرفعون بصرهم عنك، والثاني: أن معناه: بيان حالتهم عد الخوف، يقال: ينظرون إليك بالصفة التي ذكر تدور أعينهم، ليس معنى الدوران هاهنا الاضطراب والحركة؛ لأن عين الخائف لا توصف بذلك، وإنما توصف بالشخوص والحيرة، يؤكد هذا أنه شبه أعينهم بعين الذي يغشى عليه من الموت، وعينه تشخص فلا تطرف، ويقال للميت: دارت عينه ودارت حماليق عينه إذا شخص بصره فلم يطرف، وكذلك فعل الفزع الواجد ينظر إلى الشيء شاخص البصر لذهوله بالخوف.
قوله تعالى: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ يعني: كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي قرب من حالة الخوف وغشيته أسباب الموت، يقال: غشي عليه فهو مغشي عليه، وهو الغشية، وكذلك غشية الموت، والذي يغشي عليه من الموت هو الذي يذهل ويذهب عقله (٦).
(٢) في (أ): (حكيم)، وهو خطأ.
(٣) "تفسير مقاتل" ٩٠ أ.
(٤) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢.
(٥) في (أ) زيادة: (إليك بالصفة التي ذكر تدور أعينهم)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "اللسان" ٧/ ٤٥ (شخص)، "الصحاح" ٣/ ١٠٤٢ (شخص).
قال الأعشى:
فيهم الحزم والسماحة والنجدة | فيهم والخاطب السلاق (٣) (٤) |
(٢) الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية ١/ ١٠٠ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق" والإمام أحمد في "مسنده" ٤/ ٣٩٦، وأبو داود في "سننه" كتاب: الجنائز، باب: في النوح ٣/ ١٩٤ كلهم عن أبي موسى.
قال في "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" ٨/ ٢٨٥: ومعنى قوله: "ليس منا" أي: ليس من أهل سنتنا وطريقتا الكاملة، وقوله: "من حلق" أي حلق شعره عند المصيبة، "وسلق" بالسين المهملة، ويروى بالصاد المهملة، أي: رفع صوته بالبكاء، "وخرق" أي: شق ثوبه، وكان ذلك من صنيع أهل الجاهلية. أهـ.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٣٥ مع اختلاف في العبارة. وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٩٧/ ١.
(٤) البيت من الخفيف، وهو للأعشي في "ديوانه" ص ٢٦٥، "تهذيب اللغة" ٨/ ٤٠٢، "اللسان" ١٠/ ١٦٠ (سلق).
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٩. وانظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ٤٠٣.
وقال ابن قتيبة مثل قول الفراء، ثم قال: وأصل السلق الضرب (٣).
قال ابن عباس: أي: استقبلوكم بالأذى (٤).
وقال ابن زيد: كلموكم بألسنة ذرية، أي: آذوكم بالكلام (٥).
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق فيها منا، فأما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأ قوم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق، وهذا قول المفسرين (٦).
وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد يتناولونكم بألسنة حداد، يريد بنعون فيكم وينتقصونكم ويغتابونكم (٧). فعلى القول الأول سلقهم (٨)
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢١.
(٣) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٤٩.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٢٢، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٨١، وزاد نسبته لابن المنذر.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤١.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٢٢ عن قتادة، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٦.
(٧) "تفسير ابن عباس" ٣٥٢، "تفسير البغوي" ٣/ ٥١٨.
(٨) في (أ): (سلقتم)، وهو خطأ.
وقوله: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر﴾ أي: بخلاء بالغنيمة يشاحون المؤمنين عند القسمة، هذا قول المفسرين.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿عَلَى الْخَيْرِ﴾ يريد على المال، لا ينفقون في سبيل الله (٢). وانتصب (أشحة) على الحال من قوله: سلقوكم، أي: خاطبوكم، وهم أشحة على المال والغنيمة. ثم أخبر أنهم غير مؤمنين وإن أظهروا كلمة الإيمان.
قوله: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾. قال أبو إسحاق: (أي: هم وإن أظهروا كلمة الإيمان ونافقدا فليسوا بمؤمنين) (٣). وقال مقاتل: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ أي: لم يصدقوا بتوحيد الله (٤). ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾. قال مقاتل: أبطل الله جهادهم؛ لأن أعمالهم الحسنة وجهادهم لم يكن في إيمان (٥).
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ يعني: إحباط أعمالهم. ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ قال ابن عباس: يريد سهلًا أن يحبط أعمالهم ويعذبهم على النفاق (٦).
٢٠ - ثم أخبر بما دل عليه جبنهم بقوله: ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾
(٢) ذكر هذا القول الماوردي ٤/ ٣٨٦ ونسبه للسدي، والقرطبي ١٤/ ١٥٤ ونسبه للسدي كذلك، وانظر: "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢١.
(٤) "تفسير مقاتل" ٩٠ أ.
(٥) المرجع السابق.
(٦) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢.
قال ابن عباس: يقول بحسب هؤلاء المنافقين أن الأحزاب (١) معسكرون مقيمون (٢).
وقال مقاتل: من الخوف والرعب الذي نزل بهم يحسبون الأحزاب لم يذهبوا إلى مكة (٣). قال أبو إسحاق: (أي: يحسبون الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، لجبنهم وخوفهم منهم) (٤).
وقوله ﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ يقول: وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال.
﴿يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾ قال ابن عباس: يريد: يتمنى المنافقون لو كانوا في البادية (٥).
وقال الكلبي: يقول: خارجون في الأعراب من الرهبة (٦). والبادون خلاف الحاضرين، ويقال: بدا يبدو إذا خرج إلى البادية، وهي البَداوة
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٩/ ٣١٢٢ نحوه عن مجاهد قال: يحسبونهم قريبًا لم يبعدوا.
(٣) " تفسير مقاتل" ٢/ ٢٧٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢١.
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٦١، "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٥٤.
(٦) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: المصدرين السابقين.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾. الأظهر أن قوله: (يسألون) صفة للنكرة التي هي بادون بتقدير: بادون سائلون عن أنبائكم أي: ودوا أنهم بالبعد منكم وهم يسألون عن أخباركم يقولون: ما فعل محمد وأصحابه فيعرفون حالهم (١) وما أنتم فيه بالاستخبار لا بالمشاهدة، وهذا معنى قول المفسرين (٢).
وقال الكلبي: يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة، فزعًا وفرقًا من القتال (٣). وعلى هذا القول (يسألون) ابتداء كلام وخبر عنهم، والمعنى: أنهم لجبنهم أبدًا يسألون عن أخبار المؤمنين هل قصدهم عدو وأضلتهم حرب، وذلك أنهم يحتاجون أن يشاهدوا معهم القتال، وإن كرهوا ذلك فلذلك يكثر سؤالهم عن حالهم حتى إن لم يقصدهم عدو ولم يعرض لهم حرب فرحوا، هذا معنى ما ذكره الكلبي. ويجوز أن يكون سؤالهم عن أنبائهم؛ لأنهم يتربصون بهم الدوائر فيهم (٤) أبدًا يفحصون عن حالهم شماتة بهم إذا أصابتهم نكاية أو عرض لهم عارض شر، والصحيح ما ذكرنا أولاً، وهو أن قوله: ﴿يَسْأَلُونَ﴾ متصل بما قبله؛ لقوله: {وَلَوْ
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤٢، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٧، "القرطبي" ١٤/ ١٥٥
(٣) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "القرطبي" ١٤/ ١٥٥.
(٤) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: فهم.
قال الكلبي: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ رميًا بالحجارة (١). ولو كان ذلك القليل لله كان كثيرًا.
وقال مقاتل: يعني ما قاتلوا إلا رياء وسمعة من غير خشية (٢).
٢١ - ثم عاتب من تخلف بالمدينة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قال المفسرون (٣): قدوة صالحة. يقال: فلان أسوتك في هذا الأمر أي: مثلك (٤)، وفلان يأتسي فلان (٥) أي: يرضى لنفسه ما رضي، ويقتدي به وكان في مثل حاله، والقوم أسوة في هذا الأمر أي: حالتهم (٦) فيه واحدة.
قال الليث: والتأسي في (٧) الأمور من الأسوة (٨). وفيها لغتان: أسوة وإسوة، ويقال: لي في فلان أسوة أي: لي به اقتداء، والأسوة من الاتساء كالقدوة من الاقتداء، اسم يوضع موضع المصدر.
قال ابن عباس: يريد يقتدون به حيث خرج بنفسه (٩).
ومعنى الآية على ما ذكره أهل التفسير: أن الله يقول: كان لكم رسول
(٢) "تفسير مقاتل" ٩٠ أ.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩١ أ، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤٣.
(٤) في (أ) زيادة: (أي [حللتم فيه] مثلك)، وهو خطأ.
(٥) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: يأتسي بفلان.
(٦) في (ب): (حاللتم).
(٧) في (ب): (من).
(٨) "تهذيب اللغة" ١٣/ ١٤٠ (أسى).
(٩) لم أجد من نسب هذا القول لابن عباس.
قوله: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾. قال الفراء: خص الله بها المؤمنين (٢). يعني قوله بمن (٣) بدل من قوله لكم، وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين بالأسوة.
قال ابن عباس: يرجو ما عند الله من الثواب والنعيم (٤). ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ أي: ذكراً كثيرًا باللسان (٥)، وذلك أن ذاكر الله هو الذي يأتمر لأوامره بخلاف الغافل عن ذكر الله.
٢٢ - ثم ذكر المؤمنين ووصف حالهم بقوله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ﴾ يعني: أبا سفيان وأصحابه. ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ قال قتادة ومقاتل: كان الله وعدهم في ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ إلى قوله ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤]. فأخبرهم بما سيكون من الشدة التي تلحقهم من عدوهم، فلما رأوا يوم الأحزاب ما
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٩.
(٣) في (ب): (ممن)، وكلاهما لا يتضح به الكلام، وإنما هي كما جاءت في القرآن: لمن.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥١٩، "زاد المسير" ٦/ ٣٦٨، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٨.
(٥) في (أ): (ذكر)، أسقط الألف، وهو خطأ.
قال أبو إسحاق في هذه الآية: وصف الله تعالى حال المنافقين في حرب الكافرين وحال المؤمنين، وصف المنافقين بالفشل والجبن والروغان والمسارعة إلى الفتنة، ووصف المؤمنين بالثبوت عند الخوف (٢). والتصديق بما وعد الله ورسوله من النصر عند شدة الأمر، وذلك أنهم لما (٣) زلزلوا زلزالًا شديدًا أعلموا أن النصر وجب له (٤)؛ لأن الله كان قد أنزل عليهم في الآية التي وصف بها ما أصاب أصحاب الأنبياء قبلهم من الشدة قوله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤]. هذا معنى ما ذكره وبعض لفظه.
قال الفراء: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أصحابه بمسير الأحزاب إليهم فذلك قوله: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا﴾ أي ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا، قال: ولو كان ما زادوهم إلا إيمانًا يريد الأحزاب كان جائزًا كما قال في سورة أخرى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: ٤٧] ولو كانت ما زادكم إلا خبالا كان (٥) صوابًا، يريد ما آذاكم خروجهم، وهذا من
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٢.
(٣) في (ب): (كما).
(٤) هكذا في جميع النسخ! ولعل الصواب: لهم.
(٥) في (ب): (لكان)، وهو خطأ.
وهذا الذي ذكره الفراء هو قول الكلبي، قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: إن الأحزاب قد خرجوا إليكم وهم سائرون إليكم تسعًا تسعًا أو عشرًا، فلما رأوهم قد قدموا للميعاد قال المؤمنون: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ للميعاد وذلك لعدة الأيام التي قال لهم (٢).
وقال المبرد (٣): وفي قوله: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا﴾ أي ما زادهم رؤيتهم إلا إيمانًا لدلالة الفعل عليه، وهو قول أي المؤمنين ومثله كثير: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨٠] أي البخل، يكنى عن المصدر لدلالة الفعل عليه.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ قال مقاتل: المعنى ليلة العقبة (٤). قال أبو إسحاق: موضع (ما) نصب بصدقوا كما تقول صدقتك الحديث، والمعنى: عاهدوا على الإسلام فأقاموا على عهدهم (٥) بخلاف من كذب في عهده، وخان الرسول بقلبه وهم المنافقون. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ النَّحْب في اللغة هو: النذر (٦)، والنحب: الموت،
(٢) لم أجد من نسب هذا القول للكلبي، وقد ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٧/ ٢١٦، ونسبه لابن عباس، وكذلك هو في "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٩٠ ب.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٢.
(٦) في النسخ: (البدر)، وهو خطأ، إذ الصحيح النذر، فليس من معاني نَحْب بدر كما ذكر أهل اللغة.
بطفخة جالدنا الملوك وخيلنا | عشية بسطام جرين على نحب |
يحدن لها عرض الفلاة وطولها | كما سار عن يمنى يديه المنحب (٣) |
ألا تسألان المرء ماذا يحاول | أنحب فيقضي أم ضلال وباطل (٤) |
وقال الفراء: قضى نحبه أي أجله (٦). ونحو ذلك قال الزجاج (٧).
(٢) في (ب): (قول).
(٣) البيت من الطويل، وهو للكميت بن زيد في "ديوانه" ١/ ٩٦، "تهذيب اللغة" ٥/ ١١٦، "اللسان" ١/ ٧٥١، "تاج العروس" ٤/ ٢٤٥. ومعنى البيت كما فسره ثعلب كما في "تاج العروس" ٤/ ٢٤٥: هذا الرجل حلف إن لم أغلب قطعت يدي، كأنه ذهب به إلى معنى النذر- يعني النحب.
(٤) البيت من الطويل، وهو للبيد بن ربيعة في "ديوانه" ص ٢٥٤، "خزانة الأدب" ٢/ ٢٥٢ - ٢٥٣، ٦/ ١٤٥، "الكتاب" ٢/ ٤١٧، "اللسان" ١/ ٧٥١ (نحب).
(٥) "تهذيب اللغة" ٥/ ١١٥ (نحب) مع اختلاف يسير في العبارة.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٠.
(٧) "معانىِ القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٢.
عشية فر الحارثيون بعد ما | قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر (١) (٢) |
روى حميد عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، وشق عليه لما قدم، وقال [غبت] (٥) عن أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله لئن أشهدني قتالا ليرين ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء ومشى بسيفه فقاتل حتى قتل.
قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة، فما عرفناه
(٢) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في "ديوانه" ٢/ ٦٤٧، "خزانة الأدب" ٤/ ٣٧١، "لسان العرب" ٥/ ٢٤٨ (هبر)، وأراد بهوبر ابن هوبر، وهو رجل.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٠ ب، البغوي ٣/ ٥١٩، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٩.
(٤) هو: أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن النجار الخزرجي الأنصاري، عم أنس بن مالك خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غاب عن قتال بدر فأقسم إن شهد قتالًا لا يفر منه فحضر أحدًا، فلما انهزم المسلمون قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، فقاتل حتى قتل شهيدًا -رضي الله عنه-.
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ١/ ٤٣، "الإصابة" ١/ ٨٦، "أسد الغابة" ١/ ١٣١.
(٥) طمس في كل النسخ، والتصحيح من "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩١ ب.
وقال مقاتل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ يعني: أجله مات أو قتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه (٢).
وقال الليث: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ قتلوا في سبيل الله فأدركوا ما تمنوا فذلك قضاء النحب (٣).
وقال محمد بن إسحاق: فرغ من عمله ورجع إلى ربه يعني: من استشهد يوم أحد (٤).
وقال الحسن: قضى أجله على الوفاء والصدق (٥).
وقال مجاهد: قضى عهده بقتل أو بصدق في لقائه (٦).
وروى عكرمة عن ابن عباس: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ قال: الموت (٧).
(٢) "تفسير مقاتل" ٩٠ ب.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٥/ ١١٥ (نحب)، وذكره صاحب "تاج العروس" ٤/ ٢٤٣ غير منسوب لأحد.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤٥، "تهذيب اللغة" ٥/ ١١٦ (نحب)، و"اللسان" ١/ ٧٥٠ (نحب).
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٤٩.
(٦) انظر: "الطبري" ٢١/ ١٤٦، "البحر المحيط" ٧/ ٢١٧، "تفسير مجاهد" ص ٥١٧.
(٧) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٨٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٣٨.
وقال ابن قتيبة: قضى نحبه أي قتل، وأصل النحب النذر، كان قومًا نذروا أن يلقوا (٢) العدو وأن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله، فقتلوا فقيل: فلان قضى نحبه إذا قتل (٣).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ أجله على الوفاء. قال مجاهد: ينتظر يومًا في جهاد فيقضى عهده فيقتل (٤). وقال مقاتل: من المؤمنين من ينتظر أجله بالوفاء بالعهد (٥).
﴿وَمَا بَدَّلُوا﴾ العهد ﴿تَبْدِيلًا﴾ كما بدل المنافقون، والمعنى: ما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم كما غير المنافقون.
٢٤ - قوله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ فهذه اللام تتعلق بما فيها قبل من فعل المنافقين والمؤمنين عند رؤية الأحزاب، كأنه قيل: صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم الله بصدقهم ويعذب المنافقين بنقض العهد إن شاء.
قال السدي: يمتهم على نفاقهم إن شاء فيوجب لهم العذاب أو يتوب عليهم، أي: وأن ينقلهم من النفاق إلى الإيمان (٦).
(٢) هكذا في النسخ، وفي "تفسير غريب القرآن": إن لقوا، وهو المناسب للسياق.
(٣) "تفسير غريب للقرآن" ص ٣٤٩.
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٠، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٤٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٠ ب.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٠، "الوسيط" ٣/ ٤٦٦.
فمعني شرط المشيئة في عذاب المنافقين إماتتهم على النفاق إن شاء ثم يعذبهم أو يتوب عليهم [ليس أنه] (٢) فيغفر لهم، ليس أنه يجوز أن لا شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق.
وقال بعضهم: الله تعالى إذا عذب عذب بمشيثته (٣)، وإذا عما عفا بمشيئته، ليس لأحد عليه حكم ولا يجب عليه أن يعاقب الكفار ولا أن يرحم المؤمنين بخلاف ما زعمت القدرية، لكنه إذا وعد لم يخلف الميعاد، فعلى قوله: (إن شاء) بيان أنه يعذب بمشيئته لا بأن ذلك واجب عليه. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ قال ابن عباس: غفورًا لمن تاب رحيمًا به (٤).
٢٥ - وقوله: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ﴾ أي: صدهم ومنعهم عن المسلمين وعن الظفر بهم، يعني الاْحزاب بغيظهم، أي لم يشف صدورهم بنيل المراد وردهم فيهم غيظهم على المسلمين، والباء في (بغيظهم) بمعنى مع كما يقال: خرج بثيابه وركب الأمير بسلاحه.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ قال ابن عباس: يريد ما كانوا يؤمنون (٥) من الظفر والمال (٦).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
(٣) في (ب): (لمشيئته).
(٤) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢.
(٥) هكذا في النسخ! ولعل الأصوب: يؤملون.
(٦) لم أقف عليه.
﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ بالريح والملائكة التي أرسلت إليهم (٢) عليهم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا﴾ في ملكه. ﴿عَزِيزًا﴾ في قدرته. قاله ابن عباس (٣). ثم ذكر ما ليهود (٤) بني قريظة بقوله:
٢٦ - ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ أي: وازروا الأحزاب وأعانوهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني قريظة، وذلك أنهم نقضوا العهد، وصاروا يدًا واحدة مع المشركين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فلما هزم الله المشركين بالريح والملائكة أمر رسول الله بالمسير إلى قريظة فسار إليهم وحاصرهم عشرين ليلة ثم نزلوا (٥) على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم سعد أن يقتل مقاتليهم ويسبى ذراريهم (٦)، فذلك قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾. قال ابن عباس وعكرمة ومقاتل: من حصونهم (٧).
وقال مجاهد: من قصورهم (٨).
(٢) هكذا في النسخ! والظاهر أن "إليهم" زائدة.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (ب): (باليهود).
(٥) في (ب): (ثم حاصروهم)، وهو خطأ.
(٦) ذكره الطبري ٢١/ ١٥١، والماوردي ٤/ ٣٩٢.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥١، "زاد المسير" ٦/ ٣٧٤، "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٥/ ٣٤٠، "تفسير مقاتل" ٩٠ ب.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥٠، "الدر المنثور" ٦/ ٥٩١، وقال: أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
وقال أبو عبيدة: الصيصة القرون (٢)، وأنشد:
وسادة قومي حتى بقيت فريدًا كصيصة الأعصب (٣).
ثم تسمى شوكة الديك وشوكة الحائك: صيصة، تشبيهًا بالقرن، ومنه قول دريد (٤):
كوقع الصياصي في النسيج الممد (٥)
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ١٣٦.
(٣) لم أقف على تمام البيت وقائله، وهكذا ورد في النسخ، والذي يظهر لي والله أعلم أنه خطأ، فقد بحثت وكررت البحث حسب طاقتي وجهدي فلم أقف على هذا الشعر، والله أعلم.
(٤) هو: دريد بن الصمة بن الحارث بن معاوية بن جداعة، فارس مشهور، شاعر جاهلي، كان سيد قومه وفارسهم وقائدهم، أدرك الإسلام ولم يسلم، قتل في حنين سنة ٨ هـ.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٥٠٦، "تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ١٨٥، "معجم الشعراء" ص ١١٤.
(٥) عجز بيت وصدره:
فجئت إليه والرماح تنوشه
وهو من الطويل لدريد بن الصمة في "ديوانه" ص ٦٣، "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٦٦، (صيص)، "لسان العرب" ٦/ ٣٦١ (نوش)، ٧/ ٥٢ (صيص)، ١٠/ ١٩٣ (شيق)، ١٤/ ٤٧٣ (صيا)، كتاب "العين" ٧/ ١٧٦.
قوله تعالى: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾. قال ابن عباس: ألقى في قلوبهم الخوف (٢). ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ يعني: المقاتلة. قال مقاتل: منهم أربعمائة وخمسون رجلاً. ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ وتسبون طائفة يعني الذراري. قال مقاتل: سبعمائة وخمسين (٣).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾. قال المفسرون: عقارهم ونخلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء. قال: فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أرضهم وديارهم للمهاجرين؛ لأنهم لم يكونوا ذوي عقار (٤).
قوله تعالى: ﴿وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾. قال الكلبي: لم تملوكها، والمعنى لم تطئوها بعد بأقدامكم، وهي مما سيفتحها الله عليكم (٥).
قال مقاتل والكلبي وابن زيد: يعني خيبر فتحها الله عليهم بعد (٦) بني قريظة (٧). واختار الفراء هذا القول وقال: عني خيبر، ولم يكونوا نالوها
(٢) "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٢، مع اختلاف في العبارة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥٠، "الدر المنثور" ٦/ ٥٩١، وقال: أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٥) ذكر هذا القول أكثر المفسرين، ولم أجد من نسبه للكلبي. انظر: "الطبري" ٢١/ ١٥٠ وما بعدها، "زاد المسير" ٦/ ٣٧٥.
(٦) في (ب): (يعني).
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٩١ أ، "الطبري" ٢١/ ١٥٥، "الماوردي" ٤/ ٣٩٣.
وقال قتادة: مكة (٢). وقال الحسن: هي الروم وفارس (٣).
وقال عكرمة: كل أرض لم يظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة (٤). ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ من العفو والانتقام (قديرًا). وقال مقاتل: من القرى يفتحها (٥) على المسلمين (٦).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ (٧).
قال المفسرون: إن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سألنه شيئاً من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهم على بعض، فآلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهن شهرًا. وأنزل الله آية التخيير، وهو قوله: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ وكن يومئذ تسعًا: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة (٨)، وأم سلمة (٩)،
(٢) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٣، "زاد المسير" ٦/ ٣٧٥.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٣، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥٥.
(٤) انظر: "الماوردي" ٤/ ٣٩٣، "زاد المسير" ٦/ ٣٧٥.
(٥) في (ب): (وفتحها).
(٦) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٧) قوله: (وزينتها قعالين أمتعكن) ساقط من (أ).
(٨) هي: أم المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية، وهي أول من تزوج بها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة ١٠ من البعثة، وهبت يومها لعائشة بعدما كبرت، توفيت رضي الله عنها في آخر خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة.
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ٤/ ٣١٧، "الإصابة" ٤/ ٣٣٠، "أسد الغابة" ٥/ ٤٨٤.
(٩) هي: أم المؤمنين هند بنت أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، أم سلمة زوج =
(١) هي: أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، تزوجها قبل إسلامها سلام بن أبي الحقيق، ثم أخوه كنانة، فقتل عنها يوم خيبر وسبيت وصارت في سهم دحية الكلبي، ثم أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعوضه عنها، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وجعل عتقها صداقها وكانت شريفة عاقلة ذات حسب وجمال ودين رضي الله عنها، توفيت سنة ٣٦ هـ، ـ وقيل ٥٠ هـ بالمدينة.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٣٩١، "الإصابة" ٤/ ٣٩٧، "أسد الغابة" ٥/ ٥٥٠.
(٢) هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن صعصعة الهلالي، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وخالة خالد بن الوليد وابن عباس، تزوجها أولًا مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإسلام ففارقها وتزوجها أبو رهم بن عبد العزى فمات، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما فرغ من عمرة القضاء سنة ٧ هـ وهي من سادات النساء، ماتت رضي الله عنها سنة ٦١ هـ في خلافة يزيد ولها ٨٠ سنة، وقيل ماتت سنة ٥١ هـ.
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ٤/ ٣٠٦، "الإصابة" ٤/ ٣٠٧، "أسد الغابة" ٥/ ٤٦٣.
(٣) هي: أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رياب، ابنة عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أمها أميمة بنت عبد المطلب ابن هاشم، كانت عند زيد مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- فطلقها ثم تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، زوجها إياه ربه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين، وكانت من سادة النساء دينًا وورعًا وجودًا ومعروفًا، ماتت رضي الله عنها سنة ٢٠ هـ وصلى عليها عمر.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٢٥١، "الإصابة" ٤/ ٢٥٧، "أسد الغابة" ٥/ ٤١٩.
(٤) هي: أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقبة سبيت يوم غزوة المريسيع سنة ٥ هجرية وكانت من أجمل النساء وأسلمت وتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطلق الأسارى من قومها، وكان أبوها سيدًا مطاعًا في قومه، وقد قدم على =
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ يعنى متعة الطلاق، وقد ذمنا أحكامها في سورة البقرة (٢). ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد الطلاق (٣).
﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ قال مقاتل: يعني حسنًا في غير ضرار (٤)، وهذا كقول: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقد مر. التسريح صريح في الطلاق، وصريح الطلاق عند الشافعي ثلاثة: الطلاق والفراق والسراح، وسائر الألفاظ كنايات، وهي غير محصورة (٥).
والسراح اسم من التسريح يقام مقام المصدر كما يقال: أدى أداء.
٢٩ - قال الحسن وقتادة: أمر الله رسوله أن يخير الرسول (٦) أزواجه بين الدنيا والآخرة والجنة والنار، فأنزل قوله (٧): ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ﴾،
انظري: "الاستيعاب" ٤/ ٢٠١، "الإصابة" ٤/ ٢٥٧، "أسد الغابة" ٥/ ٤١٩.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٥ أ، "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥٦،"تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٥.
(٢) عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [آية: ٢٣٦]
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٥) انظر: "الأم" للشافعي ٥/ ٢٤٠، "المغنى" ١٠/ ٣٥٥.
(٦) في جميع النسخ: (أن يخير الله)، وهو خطأ.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٢١/ ١٥٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٢٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٥٩٦، وزاد نسبته لابن المنذر.
قال المفسرون: فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعائشة وخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعلت سائر أزواجه مثل ما فعلت عائشة وقلن: ما لنا وللدنيا، إنما خلقت الدنيا دار فناء والآخرة هي الباقية، والباقية أحب إلينا من الفانية (٣). فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فأنزل: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [الأحزاب: ٥٢] الآية، فقصره الله عليهن ورفع منزلتهن على سائر النساء بالتميز عنهن في العقوبة على المعصية والأجر على الطاعة، وهو قوله (٤):
٣٠ - ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾. قال مقاتل: يعني العصيان البين (٥). وقال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق (٦). ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ قال مقاتل: يضاعف لها العذاب في الآخرة (٧).
(٢) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٣) أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التفسير، باب ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ٤/ ١٧٩٦ رقم ٤٥٠٧، ومسلم في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بنية ٢/ ١١٠٣ رقم (١٤٧٥)، والطبري ٢١/ ١٥٧، وابن كثير ٣/ ٤٨٠.
(٤) في (ب) زيادة: (وهو قوله: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء).
(٥) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٧، "زاد المسير" ٦/ ٣٧٩، "البغوي" ٣/ ٥٢٧.
(٧) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
قال الزجاج: وليس هذا بشيء؛ لأن معنى يضاعف يجعل عذاب جرمها كعذاب جرمين. الدليل عليه قوله: ﴿نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾، فلا يكون أن تعطى على الطاعة أجرين وعلى المعصية ثلاث أعذبة (٢).
وقال الأزهري: الذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وما يتعارفونه في خطابهم، وقد قال الشافعي ما يقارب قوله في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانًا ضعف ما يصيب ولدي. قال: يعطى مثله مرتين، ولو قال ضعفي ما يصيب ولدي نظرت فإن أصابه مائة أعطيته ثلاثمائة.
قال: وقد قال الفراء (٣) شبيها بقولهما في قول الله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: ١٣] قال الأزهري: والوصايا يستعمل العرف (٤) الذي يتعارفه المخاطب والمخاطب، وما يسبق إلى الأفهام فيما يذهب الوهم إليه، فأما كلام الله -عز وجل- فهو عربي مبين، ويرد تفسيره إلى موضع كلام العرب، ولا يستعمل فيه العرف إذا خالف اللغة، والضعف في
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٦.
(٣) في جميع النسخ: (القراة)، والصحيح: الفراء، كما في "تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٠.
(٤) في النسخ: (العرب) والصواب: العرف، كما في "تهذيب اللغة"، وهنا سقط حرف ولذلك فالكلام موهم، وهو في "تهذيب اللغة": يستعمل فيها العرف.
وقال أبو علي الفارسي: (معنى ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ زيد في عذابها ضعف كما زيد في ثوابها ضعف في قوله: ﴿نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾
(٢) المقصود به أبو عبيدة، كذا قال الأزهري.
(٣) في "تهذيب اللغة" (زيادة) بدل ثلاثة.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٠ (ضعف)، مع اختلاف في العبارة واختصار.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٥٠.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ يقول: كان عذابها على الله هينا. وقال الربيع بن أنس: في هذه الآية أن الحجة على الأنبياء أشد منها على الأتباع في الخطيئة، وأن الحجة على العلماء أشد منها على غيرهم، وأن الحجة على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد منها على غيرهن (٣).
٣١ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا﴾ قال ابن عباس: يعني الذين كانوا فيه من طاعة الله (٤). ﴿وَتَعْمَلْ صَالِحًا﴾ قال ابن عباس: [ولم] (٥) يختلف القراء في يأت ويقنت أنهما بالياء، واختلفوا في (تعمل صالحًا) فقرأ حمزة والكسائي بالياء وكذلك نؤتها، وقرأ الباقون بالتاء، نؤتها بالنون، فمن قرأ بالياء فلأن الفعل مسند إلى (من) ولفظ مذكر، ومن قرأ بالتاء حمل على المعنى وترك اللفظ فأنث، ومما يقوي الحمل على المعنى تأنيث الضمير في قوله: (نؤتها) وكان ينبغي على هذا القياس أن يحمل هذه الأفعال على التأنيث ويجعل الكلام على المعنى (٦).
(٢) "الحجة" ٥/ ٤٧٣.
(٣) "تفسير ابن أبي حاتم" ٢٩/ ٣١٢٩.
(٤) لم أعثر عليه.
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٦) انظر: "الحجة" ٥/ ٤٧٤، "الكشف عن وجوه القراءات السبع.. " ٢/ ١٩٦.
٣٢ - وقوله: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ قال أبو عبيدة: (أحد) يقع على الأنثى والذكر وعلى ما ليس من الآدميين، يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير (٣).
وقال أبو إسحاق: لم يقل كواحدة من النساء؛ لأن أحدًا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة (٤). قال الله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧].
قال قتادة: لستن كأحد من نساء هذه الأمة (٥)
قال عطاء عن ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر الصالحات من النساء، أنتن أكرم علي وأنا (٦) بكم أرحم، وثوابكن أعظم من ثواب جميع الخلائق (٧) لأنكن أزواج حبيبي -صلى الله عليه وسلم- ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ يريد إن خفتن الله، وشرط عليهن التقوى في كونهن أفضل النساء بيانًا أن فضلهن
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ١٣٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٤.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٦، "الطبري" ٢٢/ ٢، "الماوردي" ٤/ ٣٩٨.
(٦) في (ب): (فأنا).
(٧) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٦٩، "البغوي" ٣/ ٥٢٧، "زاد المسير" ٦/ ٧٨.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ قال ابن عباس: يريد لا تلن الكلام لغير رسول الله (١). وقال السدي: لا ترققن القول (٢). ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ قال ابن عباس والسدى: يريد زنا (٣).
وقال مقاتل: يعني: (٤) الفجور في أمر الزنا (٥). وقال قتادة: نفاق (٦).
والمعنى: لا تقلن قولًا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى أن يطمع في موافقتكن له، ولهذا قال أصحابنا: المرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة. لأن ذلك أبعد من الطمع في الزينة، وكذلك إذا خاطبت محرمًا عليها بالمصاهرة. ألا ترى أن الله تعالى أوصى أمهات المؤمنين وهن محرمات على التأبيد بهذه الوصية.
قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قال ابن عباس: يكلمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٧). وقال الكلبي: صحيحًا جميلًا لا يطمع فاجر (٨).
(٢) انظر: "ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٣٠، "ابن كثير" ٣/ ٤٨٢، "زاد المسير" ٦/ ٥٩٩.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٣٩٩، "تفسير ابن عباس" ص ٣٥٣.
(٤) في (ب): (يريد).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٣، "القرطبي" ١٤/ ١٧٧، "مجمع البيان" ٨/ ٥٥٨.
(٧) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٧٨، ولم أجد من ذكر هذا القول غيره.
(٨) انظر: "الماوردي" ٤/ ٣٩٩، وذكر القول ابن الجوزي ٦/ ٣٧٩، ولم ينسبه لأحد.
٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ قال: يقِر يقَر وقارًا إذا سكن، والأمر منه: قر، وللنساء: قرن، مثل عدن وزن، ونحو ذلك بما حذف منه الفاء وهي واو، فتبقى من الكلمة علن ومعناه: الأمر لهن بالتوقير والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن، ويجوز أن يكون أمرًا لهن من قر في مكانه يقر، فإذا أمرتهن قال: أقررن، فتبدل من العين الياء كراهية التضعيف كما أبدل في قيراط ودينار، ويصير لها حركة الحرف المبدل فيكون في التقدير: أقرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهية لتحرك ما بعدها فتصير الياء بالكسر [فتسقط التاء] (٣) لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فتصير قرن. وقرأ أهل المدينة وعاصم: و (قرن) بفتح القاف (٤).
وقال أبو إسحاق: هو من قررت بالمكان أقر والمعنى واقررن، فإذا خففت صار: وقرن، حذف العين لثقل التضعيف وألقيت حركتها على القاف (٥).
قال الفراء: وهو كما قال: هل أحسست (٦) صاحبك. يريد وإن
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٤.
(٣) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٤) انظر: "الحجة" ٥/ ٤٧٥، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" ٢/ ١٩٧
(٥) "الحجة" ٥/ ٤٧٥.
(٦) هكذا هي في (أ)، وفي (ج) عباس هكذا: هل أحسم أحسب صاحبك، وهو خطأ، والصواب هل أحست، كما في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٢.
وقال أبو علي: الوجه في القراءة الكسر؛ لأنه يجوز من وجهين لا إشكال في جوازه وهما من القرار والوقار، وفتح القاف فيه خلاف؛ لأن قررن ثبت في المكان أقر، لا يجوزه كثير من أهل اللغة، وأبو عثمان يزعم أن قررت في المكان لا يجوز إنما يكون الكسر في قولهم: قررت به عينا (٢).
وقال أبو عبيد: كان أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح (٣). وأجاز الفراء والزجاج وأبو عبيدة وأبو الهيثم: قررت في المكان أقر، وجعلوا وجه هذه القراءة من قررت بالكسر على تخفيف المضاعف (٤) كما بينا (٥).
وقال ابن قتيبة: لم تسمع يقر بفتح القاف إلا في قرة العين، فأما (٦) في الاستقرار فإنما يتوقر بالمكان يقر مكسورة القاف، ولعل الفتح لغة (٧).
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ يريد الحجاب، يعني
(٢) "الحجة" ٥/ ٤٧٥ مع اختلاف شديد في العبارة
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٣.
(٤) في (ب): (المضعف).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٢، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٢٥، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٣٧، "تهذيب اللغة" ٨/ ٢٧٨ (قر).
(٦) في (ب): (وأما).
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٥١.
وانظر: "علل القراءات" ٢/ ٥٤٠ "الحجة" ٥/ ٤٧٥، "الدر المصون" ٩/ ١٢٠.
وقال مقاتل بن سليمان: ولا يخرجن (٢).
وقال مقاتل بن حيان: أن يستقررن في بيوتهن (٣) (٤).
قوله: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ قال أبو عبيدة: التبرج أن تخرج محاسنها (٥). وقال أبو إسحاق: التبرج إظهار الزينة مما يستدير به شهوة الرجل (٦).
وقال المبرد: التبرج أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله من البرج يقال: في عينه برج أي: سعة، وكذلك في أسنانه برج إذا تفرق ما بينهما، وجملته إظهار ما ينبغي أن يخفى (٧).
وقال الليث: تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها، وترى مع ذلك من عينيها حسن نظر (٨). ومعنى ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ الأمر بالعفة ولزوم البيت قاله مقاتل (٩).
وقال مجاهد: التبرج التبختر (١٠).
(٢) "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(٣) في (ب): (بيوتكن).
(٤) لم أعثر عليه.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ١٣٨.
(٦) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٥.
(٧) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٧٩.
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٥٥ (برج).
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(١٠) "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ أ.
قوله: ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ معناه تبرج (٢) أهل الجاهلية فحذف المضاف، واختلفوا في الجاهلية الأولى، متى كانت؟ فقال الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة كانت نساؤهم قباحًا ورجالهم حسانًا، وكانت المرأة تتكلف في إظهار محاسنها للرجل (٣).
وروى عكرمة عن ابن عباس: الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة، وكان في ذلك الزمان بطنان من ولد آدم، أحدهما يسكن الجبل وكانت نساؤهم قباحًا ورجالهم صباحًا، والآخر كان يسكن السهل ونساؤهم صباحًا وكان في رجالهم ذمامة، فاتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يزمر فيه الرعاء وجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فانتابوه واجتمعوا عليه، فرأى رجال الجبال نساء السهل وصباحتهن فتحولوا إليهن ونزلوا مع أهل السهل وتبرجت النساء للرجال الصباح من أهل الجبل وظهرت فيهم الفاحشة (٤).
وقال الكلبي: الجاهلية الأولى هي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم -عليه السلام-، كانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم
(٢) في (أ): (التبرج).
(٣) انظر: "الثعلبي" ٣/ ١٩٧/ أ، "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤، "القرطبي" ١٤/ ١٧٩.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ ب، "الطبري" ٢٢/ ٤، "السمرقندي" ٣/ ٤٩.
قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد (٣). وهو قول مقاتل بن سليمان، قال: هو قبل أن يبعث محمد رسولاً (٤). ونحوه قال ابن عباس (٥). وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام (٦).
وقال أبو إسحاق: والأشبه أن تكون زمان عيسى إلى زمان محمد -عليه السلام-. لأنهم هم الجاهلية المعروفون، وكانوا يتخذون البغايا يغللن لهم، قال: ومعنى الأولى هاهنا التقدم، يقال لكل شيء متقدم ومتقدمة: أولى وأول، وتأويله أنهم تقدموا أمة محمد -عليه السلام- (٧).
وقال المبرد: معنى الأولى القديمة، وكانوا يبدلون أمورًا بحسب الظن بها، من ذلك أن المرأة تجتمع مع زوجها وخلمها (٨) فيكون للزوج نصفها الأسفل والأعلى للخلم لا يمنع من ترشفها وتقبيلها، ولهذا يقول أحد الخلوم لزوج صاحبته:
(٢) انظر:"البحر المحيط" ٧/ ٢٢٣.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤، "الماوردي" ٤/ ٤٠٠، "زاد المسير" ٦/ ٣٨٠.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٢٧٥.
(٥) انظر: "الدر المنثور" ٦/ ٦٠٢، وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ ب، "البغوي" ٣/ ٥٢٨، "مجمع البيان" ٨/ ٥٥٨.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٥.
(٨) الخلم هو: الصديق، يسمى خلمًا لألفته. انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٤٣٢ (خلم).
فهل لك في البدال أبا خبيب | فأرضى بالأكارع والعجوز (١) |
٣٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ يقال: أردت لأفعل كذا وأن أفعل كذا، قال الله تعالى بما أوصاكن من الطاعة ولزوم البيت.
﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾. قال ابن عباس: يريد عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا (٤). وقال مقاتل: يعني الإثم الذي يحصل مما نهاهن عنه وأمرهن بتركه (٥).
وقال قتادة: يعني السوء (٦). وقال أبو عمرو بن العلاء: القذر الرجس (٧). وهذا مما سبق الكلام في تفسيره (٨).
واختلفوا في المراد بأهل البيت هاهنا، من هم؟ فقال ابن عباس في
(٢) و (٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٢٨. "مجمع البيان" ٨/ ٥٥٨.
(٥) "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ ب،"تفسير الطبري" ٢٢/ ٥، "البغوي" ٣/ ٢٧٥.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) لعله عند قوله تعالى في المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: من الآية: ٩٠]
وقال عكرمة: إنما هو في أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة (٢).
وقال مقاتل: يعني بها نساء النبي كلهن؛ لأنهن في بيته (٣).
وقال الكلبي: يعني بذلك نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- (٤).
وهؤلاء احتجوا بما تقدم من الخطاب وما تأخر، وهو قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى﴾ الآية. وكل ذلك خطاب لأزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة. قالوا: وإنما ذكر الخطاب في قوله: عنكم ويطهركم، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر (٥).
وقال آخرون: هذا خاص في النبي -عليه السلام- وفاطمة وعلي والحسن والحسين.
وهو قول أبي سعيد الخدري (٦)، ورووا في هذا روايات عن أم سلمة وعائشة وواثلة بن الأسقع (٧)، وأنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غشا هؤلاء
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٨،"القرطبي" ١٤/ ١٨٢، "الدر المنثور" ٦/ ٦٠٣، وقال: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة، "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٣٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ٩١ ب.
(٤) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٧/ ٢٢٤.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ ب.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٧ ب، "تفسير الطبري" ٦/ ٢٢، "الدر المنثور" ٦/ ٦٠٤، وقال: أخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري.
(٧) هو: واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر الليثي من أصحاب الصفة، أسلم سنة ٩ هـ، وشهد غزوة تبوك، وكان من فقراء المسلمين -رضي الله عنه-، وقد اعتمده البخاري وغيره، توفي -رضي الله عنه- سنة ٨٣ هـ، وقيل: ٨٥ هـ وكان آخر من مات من الصحابة بدمشق.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٦٠٦، "الإصابة" ٤/ ٥٨٩، "سير أعلام النبلاء" ٣/ ٣٨٣.
قوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾. قال مقاتل: من أثم ما ذكر في هذه الآيات (٤). والمعنى من نجاسات الجاهلية؛ لأن ما أمرن به كله مضاد لأهل معان الجاهلية، ثم وعظهن ليتفكرن وامتن عليهن [بقوله] (٥).
٣٤ - قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: القرآن. ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾. قال مقاتل: يعني أمره ونهيه في القرآن (٦).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٦.
(٣) المرجع السابق.
(٤) لعل الكلام هنا خطأ، والصواب كما في "تفسير مقاتل" ٩٢ أ: من الإثم الذي ذكر في هذه الآيات.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
وقال غيره: آيات الله القرآن، والحكمة النبوة، وهي في بيوتهن. ونحو هذا قال قتادة في قوله: ﴿آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ قال: القرآن والسنة (٢). وهذا حث لهن على حفظ القرآن ومذاكرتهما (٣)؛ للإحاطة بحدود الشريعة. والخطاب وإن اختص نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فغيرهن داخل فيه، فإن كثيرًا من الخطاب يختص لفظه ويعم معناه. قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ أي بأوليائه. ﴿خَبِيرًا﴾ بجميع خلقه، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: لطف علمه إن خضعن بالقول خبيرًا به (٤).
٣٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية؛ فروى قابوس عن ابن عباس قال: قالت النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ماله ليس يذكر النساء، [فأنزل الله إلا المؤمنين وليس يذكر المؤمنات (٥) بشيء] (٦) فأنزل الله هذه الآية (٧).
وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله يذكر الرجال ولا يذكر
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٩،"تفسير البغوي" ٣/ ٥٢٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٤٩.
(٣) لعل مراد المؤلف أن الضمير يعود إلى القرآن والسنة.
(٤) "تفسير مقاتل" ٩١ أ.
(٥) في (ب): (المؤمنين منات)، وهو خطأ.
(٦) ما بين المعقوفين يظهر أنه زيادة.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٠، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٠٨، وزاد نسبته للطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
وقال الكلبي ومقاتل: إن أم سلمة وأنيسة بنت كعب (٢) أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالتا: يا رسول الله ما نرى ربنا يذكر النساء في شيء من كتابه، إنما يذكر الرجال بالفضيلة والجزاء نخشى أن لا يكون فيهن خير ولا لله فيهن حاجة، فنزلت هذه الآية (٣).
وقال عكرمة: أتت أم عمارة الأنصارية للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى للنساء (٤) يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية (٥).
وقال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء (٦) بنت جحش من الحبشة
(٢) هي: أنيسة، ويقال نسيبة بنت كعب، أم عمارة، هي التي قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما لنا لا نذكر بخير فأنزل الله هذه الآية.
انظر: "الإصابة" ٤/ ٢٤١، "أسد الغابة" ٥/ ٤٠٧.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ أ، وذكره الثعلبي ٣/ ٩٩ أ، عن مقاتل أيضًا ولم أقف على من نسبه للكلبي.
(٤) هكذا في النسخ! والصواب: النساء.
(٥) انظر: "القرطبي" ١٤/ ١٨٥ ونسبه للترمذي عن أم عمارة.
(٦) هكذا في المخطوط! والصحيح أنها بنت عميس، وهي: أسماء بنت عميس بن معد بن الحارث الخثعمبة من خثعم، وكانت رضي الله عنها من المهاجرات إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب، وقد ولدت منهم جميعًا.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٢٣٠، "الإصابة" ٤/ ٢٢٥، "أسد الغابة" ٥/ ٣٩٥.
وقال قتادة: لما ذكر الله نساء النبي دخل نساء من المسلمات عليهن فقلن: ذكرتم ولم نذكر، فأنزل الله هذه الآية (٢).
وقال الفراء: الخطاب إذا ورد بلفظ التذكير اشتمل على الذكور والإناث جميعًا، فإذا قيل المسلمون والمؤمنون كانت الإناث في جملتهم، غير أنهن أردن أن يخصصن بالذكر ويذكرون باللفظ الخاص لهن فذكرهن لذلك، هذا معنى كلام الفراء (٣).
٣٥ - وقوله: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين أسلموا في الظاهر والباطن ولم يعدلوا به شيئاً، وسلم جميع الخلق من غشهم، وأحبوا للناس ما أحبوا لأنفسهم، وكانوا لليتيم مثل الأب، وللأرملة مثل الزوج، ونصحوا لله في أنفسهم وفي خلقه (٤).
وقال مقاتل: يعني المخلصين بالتوحيد (٥).
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ٣/ ٥٠، "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٠، "زاد المسير" ٦/ ٣٨٤.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٣.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
قال ابن عباس: يريد الذين صدقوا بتوحيد الله وبما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقوا بالبعث والثواب والعقاب (٣).
وقال مقاتل: يعني المصدقين بالتوحيد والمصدقات (٤).
وقال عطاء: من أقر بأن الله ربه ومحمدًا رسوله ولم يخالف قلبه لسانه، فهو من هذه الجملة (٥).
وقوله: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: المطيعين لله فيما افترض وأمر ونهى والمطيعات (٦).
وقال عطاء: من أطاع الله في الفرض والرسول في السنة فهو من هذه الجملة (٧). ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ قال ابن عباس: في المواطن وفيما نذروا لله وفيما ساءهم وسرهم (٨).
وقال مقاتل: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ في إيمانهم (٩).
وقال عطاء: من صان قوله عن الكذب فهو من هذه الجملة (١٠).
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ أ، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢أ.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ أ، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٦) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٤٢٢، "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوى" ٣/ ٥٣٠.
(٨) لم أقف عليه عن ابن عباس وانظر: "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٦٩.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
(١٠) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
وقال عطاء: من صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو من هؤلاء (٣).
قوله تعالى: ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد والذين خشعت قلوبهم من خوف الله (٤). ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ من خشية الله وازدادوا لله يقينًا وللدنيا بغضًا. وقال مقاتل: يعني المتواضعين والمتواضعات (٥). قال عطاء: من صلى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو منهم (٦).
وقوله: ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ قال ابن عباس: يتصدقون بالأموال ومما رزقهم الله من الثمار والمواشي وكل ما ملكوا يطلبون ما عند الله موقنين بالخلف والثواب (٧).
قال عطاء: من صدق (٨) في كل أسبوع بدرهم فهو من هذه الجملة (٩).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٤) لم أقف عليه
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ أ.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٩٩/ ٣ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: تصدق، وهكذا ذكره الثعلبي ٣/ ١٩٩.
(٩) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
وقال عطاء: من صام من كل شهر الأيام البيض فهو من هذه الجملة (٣).
قوله: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ واستغنى عن ذكر الهاء بما تقدم، ومثله: (ونخلع ونترك من يفجرك) المعنى: ونخلع من يفجرك ونتركه، وأنشد:
وكمتا مدماة كأن متونها | جرى فوقها واستشعرت لون مذهب (٤) |
وقوله تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ قال ابن عباس: يريد
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٤) البيت من الطويل، لكميت الغنوي في "ديوانه" ص ٢٣، "تهذيب اللغة" ١٤/ ٢١٧ (كمت)، "اللسان" ٢/ ٨١ (كمت)، "الكتاب" ١/ ٧٧.
وكمتا جمع أكمت، والكمتة: لون بين السواد والحمرة يكون في الخيل والإبل وغيرهما.
ومدماة: أي مشوبة بلون الدم.
انظر: "اللسان" ٢/ ٨١ (كمت)، ١٤/ ٢٧٠ (دمى).
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٢٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٥٠.
وقال أبو إسحاق: المعنى والذاكراته وحذف الهاء. على ما ذكرناه (٥) في الحافظات (٦).
وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ (٧).
وقوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً﴾. قال ابن عباس ومقاتل: مغفرة لذنوبهم (٨). ﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ثوابًا جزيلًا وهو الجنة.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١١٧.
(٣) في (ب): (وصليا).
(٤) أخرجه أبو داود في "سقط كتاب الصلاة، باب قيام الليل ٢/ ٣٣، رقم الحديث ١٣٠٩ عن أبي هريرة، وابن ماجه في "سننه" أبواب إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل ١/ ٢٤٢، رقم الحديث ١٣٢٩ عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، والحاكم في "المستدرك"، كتاب صلاة التطوع، باب: توديع المنزل بركعتين ١/ ٣١٦ عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
(٥) الضمير (الهاء) ساقط من (ب).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢٢٧/ ٤.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
(٨) انظر: "تفسير ابن عباس" (٣٥٤)، "تفسير مقاتل" ٩٢ ب.
وقوله ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ يعني: عبد الله بن جحش. ﴿وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾ يعني: أخته زينب، ﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا﴾ حكماً بذلك، ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ﴾ جمعت الكناية لأن المراد بقوله: ﴿لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾ كل مؤمن ومؤمنة في الدنيا. والخيرة: الاختيار، وذكرنا تفسيرهما [فيما تقدم] (٢) في سورة القصص (٣).
قال أبو إسحاق: أعلم الله أنه لا اختيار على ما قضى الله ورسوله (٤). وهذه الآية دليل على أن كل امرأة أراد رسول الله أن يزوجها من رجل، لم يكن لها أن تمتنع ولا لوليها، وأن رسول الله أولى بتزويجها من وليها كما ذلك في قوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: ٦] الآية. ولأنه أيضًا دليل على أن كل حكم ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كما ثبت عن الله، فليس لأحد
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٣) عند الآية ٦٨، قال هناك: والخيرة اسم من الاختيار يقام مقام المصدر، والخيرة اسم للمختار، يقال: محمد خيرة الله من خلقه.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٨.
قال أبو علي: وهذه الآية تدل على أن (ما) في قوله: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] (ما) فيها نفي، وليست بموصولة، ألا ترى أنه نفى الاختيار على العباد في هذه الآية، كذلك في تلك (١).
قال مقاتل: فلما زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدًا مكثت عنده حينًا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى زيدًا فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش، فهواها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "سبحان الله مقلب القلوب". ففطن زيد فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرًا يعظم علي، وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك عليك زوجك واتق الله" (٢).
وقال ابن عباس: إن زيدًا حين تزوج زينب أقامت عنده ما شاء الله أن تقيم، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزل زيد يطلبه، فبعث الله ريحًا حتى رفعت الستر وزينب منفصلة على منزلها، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب فوقعت في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتى زيد فأخبرته، فوقع في نفس زيد أن يطلقها، وأقام زيد لا ينشر عليها من يومئذ، وكان زيد يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: إني أريد أن أطلق زينب. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أمسك عليك زوجك واتق الله". (٣)
وقال مقاتل بن حيان: قالت زينب لما نزل قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ الآية: أمري بيدك يا رسول الله، فأنكحها رسول الله زيدًا ودخل بها، فلم تمكث إلا يسيرًا حتى شكى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلقى منها، وكانت امرأة لسنة،
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢ ب.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠٠ ب، "تفسير السمرقندي" ٣/ ٥١، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠.
٣٧ - ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ أي: الهداية للإسلام.
﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بأن أعتقته من الرق قاله جميع المفسرين، قالوا: وكان زيد من سبي الجاهلية، فاشتراه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعكاظ في الجاهلية وأعتقه وتبناه (٢)، ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ في أمرها فلا تطلقها.
قال أبو إسحاق: (أمره بالتمسك بزينب وكان يحب أن يتزوجها، إلا أنه أمره بما يجب من الأمر بالمعروف، فقال: "أمسك عليك زوجك واتق الله" (٣). ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ﴾، وتستر وتضمر في قلبك من إرادة تزوجها، قاله الكلبي (٤): وقال قتادة: ود أنه طلقها (٥)، ﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾، قال ابن عباس: مظهره لاْصحابك وغيرهم (٦).
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٥٠ ب، "تفسير السمرقندي" ٣/ ٥٢، "الدر المنثور" ٦/ ٦١٦ وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٢٩.
(٤) انظر: "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٧٠.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٥١، "زاد المسير" ٦/ ٣٨٨.
(٦) لم أقف عليه عن ابن عباس، وذكره هود بن محكم في "تفسيره" ٣/ ٣٧٠ ولم ينسبه.
قالت عائشة: لو كتم النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية (٢): ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾.
وقوله: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ قال مقاتل: تكره قالة الناس في أمر زينب (٣). يعني: تخاف لائمتهم أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يصوب رأي زيد في طلاقها من حيث ميل النفس وهوى القلب، ولكنه خاف قالة الناس فذلك قوله: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾، وقيل: الخشية هاهنا بمعنى الاستحياء، يعني تستحي من الناس أن تأمر رجلاً بطلاق زوجته ثم تتزوجها. والاستحياء قول ابن عباس والحسن والفراء (٤).
وقال عطاء عن ابن عباس: والمراد بالناس هاهنا اليهود، وكانوا يعيبون المؤمنين فخشي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تزوجها أن يقولوا تزوج محمد امرأة
(٢) أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء ٦/ ٢٦٩٩، رقم الحديث ٦٩٨٥، عن أنس، ومسلم في كتاب: الإيمان، باب في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ ١/ ١٦٠، رقم الحديث ٢٨٨ عن عائشة.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٢/ ب.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣١، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٣.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾. وقال ابن عباس: يريد [..] (٢) وتخافه (٣).
وروي عن علي بن الحسين أنه قال في هذه الآية: كان الله -عز وجل- قد أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، وأن زيدًا سيطلقها (٤). وعلى هذا جوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- معاتبًا (٥) على قوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله به، ويكون قوله: ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ في كتمان ما أخبرك به وإنما كتم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأنه استحيا واستبشع أن يقول: إن زوجتك ستكون امرأتي (٦).
(٢) في جميع النسخ قدر كلمة غير واضحة، ولعلها: تخشاه.
(٣) لم أقف عليه
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠١ أ، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٢. "مجمع البيان" ٨/ ٥٦٤.
(٥) في (أ): (بناها).
(٦) هذه الروايات التي أوردها المؤلف رحمه الله من أن زينب رضي الله عنها وقعت في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أحبها وتمنى تطليق زيد لها، أو أنه قال حين رآها: "سبحان مصرف القلوب". أقول: كل ذلك مما ينبغي أن ينزه عنه المصطف -صلى الله عليه وسلم-، فزينب ابنة عمته وكان يعرفها قبل أن يزوجها من زيد.
يقول: القشيري فيما نقله عنه القاضي عياض في "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" ٢/ ٨٨٠: وهذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي -صلى الله عليه وسلم- وبفضله.
ثم قال القاضي عياض: وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت؟ ولا كان النساء يحتجبن منه -صلى الله عليه وسلم- وهو زوجها لزيد، وإنما جعل الله =
انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٩ ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٠، ٦٧٢.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذكر هذه الأقوال: وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقًا واضحًا حسنًا ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوجها إياه، ثم أعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعد أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا: تزوج امرأة ابنه وكان قد تبني زيدًا قال: بعد أن ذكر بعض الروايات التي استحسنها بعض العلماء، قال عن هذه الرواية وسندها: وهو أوضح سياقًا وأصح إسنادًا. ثم قال: وقد وردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد، والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل معلق الخشية والله أعلم. أ. هـ.
وللوقوف على كلام أهل العلم أكثر مما أثبته حول هذه القصة انظر: "الشفا" لعياض ٢/ ٨٨٠ وما بعدها، "فتح الباري" ٨/ ٦٧١ وما بعدها، "محاسن التأويل" للقاسمي ٨/ ٢٦٦ وما بعدها، "أضواء البيان" ٦/ ٥٨٠ وما بعدها.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٠ (وطر).
ودعني قبل أن أودعه... لما قضى من شبابها الوطرا (٢)
وقال المبرد (٣): الوطر الشهوة والمحبة، يقال: ما قضيت من لقائك وطرًا، أي ما استمتعت بك حتى تنتهى، وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما... قضى وطرا منها جميل من معمر (٤)
قال ابن عباس في قوله: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾ أي لذته ونهمته (٥). وقال مقاتل: يعني الجماع (٦).
وقال مقاتل: يعني حاجة وطلقها (٧). وقال قتادة: طلقها (٨).
ومعنى قضى الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، فمعنى قضى وطرًا منها بلغ ما أراد من حاجته فيها. ويجوز أن يكون عبارة
انظر: "سمط اللآلي" ص ٨٠٢، "الخزانة"، "تفسير ابن عباس" ص ٣٨٣، "الأعلام" ٣/ ١٥.
(٢) البيت من المنسرح وهو للربيع بن ضبع في "الكتاب" ١/ ٨٩، "لسان العرب" ١٣/ ٢٥٩ ضمن، "أمالي المرتضى" ١/ ٢٥٥.
(٣) انظر: "الدر المصون" ٩/ ١٢٦، "روح المعاني" ٢٢/ ٢٥.
(٤) البيت من الطويل، ولم أهتد إلى قائله، وهو في "الكامل" ١/ ٣٩٧، "الدر المصون"، "البحر المحيط" ٣/ ٢١١، غير منسوب.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ أ.
(٧) لم أقف عليه عن مقاتل، وانظر: "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٧١.
(٨) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٠٦، "تفسير القرطبي" ١٤/ ١٩٤.
وروى ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب فاذكرها علي". قال: فانطلقت فقلت يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرك، ونزل القرآن، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخل عليها بغير إذن (٣).
قال أصحابنا: وهذه الآية دليل على أن كل امرأة أراد رسول الله نكاحها فهو مستغن عن الولي والشهود، وذلك أنه لما نزل قوله ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ دخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء
(٢) "تفسير ابن أبي حاتم" ٩/ ٣١٣٥، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٢، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٦١٢، وزاد نسبته لابن سعد وأحمد وأبي يعلى والطبراني وابن مردويه عن أنس.
(٣) أخرجه الإمام مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب ٢/ ١٠٤٨ رقم (١٤٢٨)، وأخرجه الإمام أحمد ٣/ ١٩٥ عن ثابت عن أنس، والنسائي في "سننه" كتاب: النكاح، باب: صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ٦/ ٧٩ عن ثابت عن أنس. وأورد السيوطي في "الدر" ٦/ ٦١٢ وعزاه لابن سعد وأحمد والنسائي وأبي يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أنس.
وذكر قضاء الوطر هنا بيانًا أن امرأة المتبنى تحل وإن وطئها المتبنى وهو قوله (٢): ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾، أي: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته لكي (٣) تظن أنه من تُبُنِّيَ لم تحل امرأته للمتبني. قاله الزجاج (٤)، وهو قول جميع المفسرين (٥).
قوله تعالى: ﴿إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ أي: جامعوهن وطلقوهن، قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبين الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبنين وإن أصابوهن، بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم بنفس العقد، وامرأة المتبني لا تحرم وإن وطئها (٦).
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ قال مقاتل: يقول تزوج النبي زينب كائنًا لابد (٧). وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ماضيًا مفعولًا.
(٢) (يقوله) مكررة في (أ).
(٣) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لكيلا.
(٤) انظر: "معاني القرآن واعرابه" ٤/ ٢٢٩.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠١ أ، "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٤، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٠٧، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٣.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ أ.
قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سن الله لمحمد -عليه السلام- في التوسعة عليه في إباحة النكاح كسننه في الأنبياء الماضين، وهذا قول ابن عباس (٣).
واختار الفراء والزجاج قالوا: عني كثرة أزواج داود وسليمان (٤).
وقال مقاتل: يعني داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع الله بينه وبينها، يقول: كذلك أجمع بين محمد وزينب إذ هويها كما فعلت بداود. ونحو هذا مقاتل بن حيان سواء (٥).
وقال عبد الله بن مسلم: أي لا حرج على أحد فيما لم يحرم عليه (٦). وعلى هذا ﴿الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ (٧)، كان من تقدمه ممن قد مضى ولا
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠١ أ، "الطبري" ٢٢/ ١٤، "الماوردي" ٤/ ٤٠٧.
(٣) ذكره القرطبي ١٤/ ١٩٥ بمعناه غير منسوب لأحد، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٣٩٢، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٤٧٤ عن ابن عباس والكلبي والمقاتلين.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٤، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٠.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ أ، انظر: "الثعلبي" ٣/ ٢٠١ أ، "البغوي" ٣/ ٥٣٣.
ولعل هذه الأقوال التي أوردها المؤلف لا تصح، بل هي فاسدة؛ لأنه مناف لمقام النبوة.
(٦) انظر: "غريب القرآن" ص ٣٥١.
(٧) كذا في المخطوط! ولعل الصواب: كل.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾. قال الكلبي: قضاء مقضيا، وكان من قدره أن يولد سليمان من تلك المرأة التي هويها داود ويملك من بعده (٣).
وقال مقاتل: قدر الله لداود ولمحمد تزويجها (٤) (٥).
وقال ابن حيان: أخبر الله أن امرأة (٦) زينب كان من حكم الله وقدره وفرضه (٧).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ﴾ قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون (الذين) في موضع خفض نعت، لقوله: ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا﴾. ويجوز أن يكون نعتًا على المدح، المعنى: هم الذين. ويجوز أن يكون نصبًا على معنى أعني الذين (٨).
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٠.
(٣) ذكر هذا القول الثعلبي ٣/ ٢٠١ ب ونسبه لابن عباس. ولم أقف على من نسبه للكلبي.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ أ.
(٥) هكذا في النسخ! والذي في تفسير مقاتل: تزويجهما.
(٦) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: أن نكاح زينب.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٠.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ قالت عائشة رضي الله عنها: لما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله هذه الآية (٤). يعني أنه ليس بأب لزيد فتحرم (٥) عليه زوجته. قال ابن عباس: يريد لم يكن في قضائي وقدري أن له ابنا يعيش حتى يصير رجلاً (٦).
وقال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له ذكور: إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر (٧). وقال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لزيد: لست لك بأب، فقال زيد: يا رسول الله أنا زيد بن حارثة بن مروة بن شراحيل الكلبي معروف نسبي (٨).
(٢) لم أقف على قول سعيد بن جبير.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) رواه الترمذي حديث رقم (٣٢٦٠) عن عائشة، وابن أبي حاتم، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٦١٣ وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة.
(٥) في (أ): (فيحرم).
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٤.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠١ ب، "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٦، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٢٩.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب.
قال أبو عبيد: الوجه الكسر؛ لأن التأويل أنه ختمهم، فهو خاتمهم (٤).
وكذلك روي عنه في صفة نفسه أنه قال: "أنا حاتم النبيين" (٥). لم يسمع أحد من فقهائنا يرويه إلا بكسر التاء، قال الفراء: ويدل عليه قراءة عبد الله: ختم النبيين، ومن قرأ بفتح التاء فمعناه: آخر النبيين، وخاتم النبيين (٦) آخره، ومنه قوله ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ (٧).
وقال الحسن: الخاتم الذي ختم به (٨).
وقال أهل اللغة: الخاتم بالكسر الفاعل، والخاتم بالفتح ما يوضع
(٢) في (أ): (الهاء).
(٣) انظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" ٢/ ١٩٩، "النشر" ٢/ ٣٤٨.
(٤) لم أقف على اختيار أبي عبيد.
(٥) الحديث متفق عليه عن أبي هريرة، وهو جزء من حديث أخرجه البخاري في المناقب، باب: خاتم النيين -صلى الله عليه وسلم-" ٣/ ١٣٠٠ رقم (٣٣٤٢)، ومسلم في الفضائل، باب: كونه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين ٤/ ١٧٩٠ رقم (٢٢٨٦).
(٦) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: آخرهم.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٤.
(٨) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٧٤، "الحجة" ٥/ ٤٧٧.
قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ قال ابن عباس: يريد علم ما يكون قبل أن يكون (٢).
٤١ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ قال الكلبي ومقاتل: ذكرًا كثيرًا باللسان (٣). وقال مجاهد: هو ألا ينساه أبدًا (٤). وقال الكلبي: ويعني ذكرًا كثيرًا بالصلوات الخمس (٥).
وقال ابن حيان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال وهو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (٦). وبلغنا أن هؤلاء الكلمات يتكلم بهن صاحب الجنابة والغائط والحدث (٧).
٤٢ - وقوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ أي: صلوا لله صلاة الفجر والعصر. قاله مقاتل وقتادة (٨). وقال ابن حيان: صلوا لله بالغداة
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب، ولم أقف على من نسبه للكلبي.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٦٨.
(٥) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٧٥، "زاد المسير" ٦/ ٣٩٦.
(٦) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٦٨، "زاد المسير" ٦/ ٣٩٦.
(٧) ذكر ابن قدامة في "المغنى" ١/ ١٣٤ بأنه لا خلاف في أن للحائض والجنب ومن في حكمهما ذكر الله -سبحانه وتعالى-، وهذه الألفاظ من الذكر.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٠٩، "الطبري" ٢٢/ ١٧.
٤٣ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ﴾ قال ابن عباس: لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ جاء المهاجرون والأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهنئونه، فقال أبو بكر: يا رسول الله أهذا لك خاصة ليس لنا فيه شيء، فأنزل الله هذه الآية (٤). قال المفسرون وأهل المعاني كلهم: ﴿يُصَلِّي﴾ (٥): يرحمكم ويغفر لكم (٦)، ومضى الكلام في تفسير الصلاة من الله عند قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٥٧].
قوله: ﴿وَمَلَائِكَتُهُ﴾ قال ابن عباس: وملائكته تدعوا الله لكم (٧).
(٢) انظر: "تفسير الماوردي" ٩/ ٤٠٩، "مجمع البيان" ٨/ ٣٩٧، "زاد المسير" ٦/ ٥٦٨.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]
(٤) ذكر هذا الأثر السيوطي في "الدر المنثور" ٦/ ٦٢٢، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٥٣٤ عن أنس، وذكره القرطبي ١٤/ ١٩٨ عن ابن عباس.
(٥) في (أ): زيادة واو (ويصلي عليكم).
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠٢/ أ، "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٧، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٥، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٣١، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٥٧.
(٧) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٦٨.
قال الكلبي: صلاة الله على العباد مغفرته، فإذا رضي على العبد قال للملائكة: إني قد غفرت لعبدي فلان فاستغفروا له، وصلاة الملائكة: الاستغفار (٢).
قوله -عز وجل-: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ قالوا: من الشرك إلى الإيمان، يعني: أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجوكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بسبب توحيدكلم وتصديقكم رحمته ودعاء ملائكته (٣).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ قال مقاتل: يعني تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب (٤). وقال الكلبي: تحييهم الملائكة على أبواب (٥) الجنة بالسلام، فإذا دخلوها حيا بعضهم بعضا بالسلام، وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام (٦). والكناية في قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ يجوز أن تكون عن الملائكة، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل. ويجوز أن تكون عن المؤمنين، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعلين؛ لأن المؤمنين يحيون بالسلام ويحيى بعضهم بعضًا. قال ابن عباس في قوله: {يَوْمَ
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٧، "بحر العلوم" ٣/ ٥٤، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٧.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣/ ب.
(٥) في (ب): (باب).
(٦) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ٥٤.
ومعنى الكلام في معنى لقاء الله في مواضع. وروي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية قال: "يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه" (٢). والكناية على هذا في قوله ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ للمؤمنين، أي: تحيتهم من ملك الموت يوم يلقونه. والكناية في يلقونه لملك الموت وقد سبق ذكره في قوله: ﴿وَمَلَائِكَتُهُ﴾.
وقوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ أي: ثوابًا عظيمًا ورزقًا حسنًا في الجنة.
٤٥ - قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ قال ابن عباس: يريد على أمتك وجميع الأمم (٣).
وقال مقاتل: شاهدًا على هذه الأمة بتبليغ الرسالة، ومبشرًا بالجنة والنصر في الدنيا لمن صدقك وآمن بك (٤).
﴿وَنَذِيرًا﴾: ومنذرًا بالنار لمن كفر بك وكذبك.
٤٦ - ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾: إلى توحيد الله وطاعته وما يقرب منه
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التفسير، "تفسير سورة إبراهيم -عليه السلام-" ٢/ ٣٥١، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" واْورده السيوطي في "الدرر" ٦/ ٦٢٣ وزاد نسبته لابن أبي شيبة في "المصنف" وابن أبي الدنيا في "ذكر الموت" وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الشعب".
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٠، "الدر المنثور" ٦/ ٦٢٤، وقال: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب.
قوله تعالى: ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ يجوز أن يكون هذا من صة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكون المعنى من اتبعه اهتدى به كالسراج في الظلمة يستضاء به، وهذا معنى قول ابن عباس (٢).
وقال المبرد: هذا تمثيل، والمعنى أن ضياء الهدى منه قد شمل القلوب كما شمل ضياء السراج الأبصار (٣). ويجوز أن يكون المراد بالسراج المنير: القرآن وهو قول ابن عباس قال: وكتابًا مبينًا (٤).
واختاره الزجاج فقال: (والمعنى وذا سراج منير أي: ذا كتاب نير قال: وإن شئت كان المعنى وداعيًا إلى الله وتاليًا كتابًا بينًا) (٥).
٤٧ - ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾، قال مقاتل: يعني الجنة (٦).
٤٨ - وقوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ أي إن دعوك إلى تقصر (٧) في بلاغ ما أرسلت به. قال ابن عباس: يريد الكافرين من أهل مكة
(٢) انظر: قول ابن عباس في "تنوير المقباس" ص ٣٥٥.
(٣) لم أقف على قول المبرد.
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١١، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٢٤، وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢١١.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب.
(٧) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: إلى أن تقصر.
﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ قال ابن عباس وقتادة: يريد اصبر على أذاهم (٢).
قال ابن عباس: هذا منسوخ نسخه السيف (٣).
قال أبو إسحاق: (تأويل ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ لا تجازيهم عليه إلا أن تؤمر فيهم بأمر) (٤) وعلى هذا التقدير دع مكافأة أذاهم، ولهذا صار المعنى: اصبر على أذاهم.
وقال مجاهد: دع أذاهم: أعرض عنهم (٥). ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فإني أكفيك (٦) إذا توكلت علي.
٤٩ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: تجامعوهن. وقرئ: تماسوهن (٧). ومعنى الكلام في القراءتين في البقرة [: ٢٤٦].
قوله -عز وجل-: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ قال أبو إسحاق: (أسقط
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٩، "تفسير البغوي" ٣/ ٥٣٥، "الدر المنثور" ٦/ ٦٢٥، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٠٢، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٢، "قبضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن" ص ٢٠، "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله" ص ١٤٤، "ناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٤٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣١.
(٥) "تفسير مجاهد" ص ٥١٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٤١.
(٦) في (أ): (أكفيكم).
(٧) انظر: "الحجة" ٥/ ٤٧٧ "إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ٢٠٣.
وقوله: ﴿تَعْتَدُّونَهَا﴾ أي: تحصون العدة عليهن (٤) بالأقراء والأشهر وقال صاحب النظم: معنى الاعتداد هاهنا استبقاء العدة منهن؛ لأنها حق للأزواج على النساء استبراء من أن يلحق بهن (٥) من ليس منهم، ولانقطاع الأمر في النفقة والسكنى، يقال: عددته ألف درهم فاعتدها أي: استوفاها، وكذلك وزنته حقه فاتزنه، وكلته فاكتاله، أي: استوفاه وزنا وكيلا. كذلك هاهنا: استوفاها عددا.
وروى ابن أبي بزة (٦) عن ابن كثير: تعتدونها مخففة، قال قنبل والقواس (٧):
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب.
(٤) في (ب): (عليها).
(٥) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: بهم؛ لأن الضمير يعود للأزواج.
(٦) هو: مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة المخزومي مولاهم الفارسي الأصل، كان مولده سنة ١٧٠ وهو أستاذ محقق ضابط متقن، قرأ على أبيه وعلى عبد الله بن زياد وعكرمة بن سليمان، وعليه قرأ إسحاق بن محمد الخزاعي والحسن بن الحباب وغيرهم، روى عنه القراءة قنبل، توفي -رحمه الله- ٢٥٠ وعمره ثمانون سنة.
انظر: "غاية النهاية" ١/ ١١٩، "السير" ١٢/ ٥٠، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٥٤.
(٧) هو: أبو الحسن أحمد بن محمد بن علقمة بن نافع بن عمر بن صح بن عون المكى النبال المعروف بالقواس، قرأ على ابن كثير وأبي الإخريط وهب بن واضح =
قوله تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ اختلفوا في هذه المتعة قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقًا، فإذا فرض لها صداقًا فلها نصفه (٣)، هذا هو الأصح من مذهب الشافعي، وهو أن المطلقة قبل المسيس لا تستحق المتعة مع نصف المهر؛ لأن الله لم يذكر المتعة مع نصف المهر في سورة البقرة، وهو قوله: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٧] (٤).
انظر: "النشر" ١/ ١٢٠.
(١) انظر:: "الحجة" ٥/ ٤٧٧ - ٤٧٨.
(٢) ذكر قول قتادة أبو علي في "الحجة" ٥/ ٤٧٨ ولم ينسبه لقتادة، "البحر المحيط" ٨/ ٤٩٠.
(٣) انظر "الطبري" ٢٢/ ١٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٢٥ وعزاه لابن جرير المنذر وإبن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٤) انظر: "الأم" ٥/ ٥٤، "المغني" ١٠/ ١٤٢.
قال قتادة: نسخت هذه الآية التي قبلها في البقرة وهو قوله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٣٧] (٢). فدلت هذه الأقوال على أنها لا تستحق المتعة إذا طلقت قبل المسيس وبعد القرض، وإن طلقت قبلهما استحقت المتعة. روي أن شريحًا أخبر رجلاً طلق امرأته ولم يكن لها فرض ولم يدخل بها (٣)، وهو مذهب الزهري.
وقال مقاتل: فمتعوهن بنصف (٤)، فجعل هذه المتعة بما تستحق من نصف المهر، وهذا إنما يكون إذا كان قد فرض لها، فأما إذا لم يفرض لها فإنها تستحق المتعة واجبة لها على قول أكثر الناس، وبعضهم يقول نسخت ذلك ولا تجب في قوله: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ (٥) قال مقاتل: يعني: حسنًا في غير ضرر (٦).
٥٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾، ذكر الله تعالى في هذه الآية أنواع النسوة والأنكحة التي
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٠، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٢، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٣٤٨.
(٣) الكلام هنا ناقص لم يتم، والأسلوب غير مستقيم يبدو أن فيه سقطًا ولم أستطع الوقوف عليه.
(٤) لم أقف على قول مقاتل.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٩، "الماوردي" ٤/ ٤١٢، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٣ ب.
وقوله: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ قال المفسرون: يعني: مهورهن، والمعنى: أحللنا لك أزواجك اللاتي تزوجتهن بصداق (٣)، ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ يعني: الولائد: وهي مارية (٤) القبطية أم إبراهيم، وريحانة (٥) وصفية وجويرية. وقوله: ﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ أي: رجعه ورده إليك من الكفار بأن سبيته وملكته.
﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ يعني: القرشيات (٦) من بني تميم وعدي ومخزوم وأمية.
﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾ يعني نساء بني زهرة. وهذا مما تساويه الأمة فيه إلا العدد في الحرائر دون الإماء.
(٢) الأسلوب هنا فيه اضطراب، ولعل الصواب: دون ما سواه من الأمة.
(٣) انظر: "الطبري" ٢٢/ ٢٠ - ٢١، "الماوردي" ٤/ ٤١٣، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٣.
(٤) هي: مارية القطية مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأم ولده إبراهيم، أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم- المقوقس القبطي صاحب مصر، توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب سنة ١٦ هـ وصلى عليها عمر ودفنت بالبقيع.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٣٩٦، "الإصابة" ٤/ ٣٩١، "أسد الغابة" ٥/ ٥٤٣٩.
(٥) هي: سرية رسول الله -صلى الله عليه وسلم - واسمها: ريحانة بنت شمعون بن زيد بن قساعة من بني قريظة قتل زوجها في بني قريظة وكانت مع السبي، نفر لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما عرض عليه النبي وأرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قبس ثم دخل عليها وخيرها فاختارت الله ورسوله فأعتقها وتزوجها، ماتت رضي الله عنها سنة ١٠ هـ حينما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع.
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ٤/ ٣٠٢، "أسد الغابة" ٥/ ٤٦٠.
(٦) في (ب): (القريشيات).
قال صاحب النظم: نزلت هذه الآية قبل تحليل غير المهاجرات.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ أ.
(٣) هي: أم هانئ فاختة وقيل فاطمة وقيل هند والأول أشهر، بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم، ابنة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت علي بن أبي طالب، أسلمت عام الفتح وهرب زوجها واسمه هبيرة بن أبي وهب إلى نجران، فلما انقضت عدتها خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله؛ لأنت أحب إلى من سمعي ومن بصري وحق الزوج عظيم وأنا أضيع حق الزوج.
انظر: "الاستيعاب بهامش الإصابة" ٤/ ٤٧٩، "الإصابة" ٤/ ٤٧٩، "أسد الغابة" ٥/ ٦٢٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٢٢/ ٢٠ - ٢١ ورواه الترمذي في "جامعه" كتاب: التفسير، تفسير سورة الأحزاب ٥/ ٣٣ رقم الحديث (٣٢٦٦) وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٢٠ وصححه ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٢٨ وزاد نسبته لابن سعد وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٤، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧١.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ أي آثر نكاحها وأراد ذلك. ﴿خَالِصَةً لَكَ﴾ قال الفراء: (نصب على القطع يعني: هذه الخصلة يعني: النية في النكاح خالصة لك ورخصة) (٣).
وقال الزجاج: (خالصة منصوب على الحال، المعنى: إنا جعلنا لك هؤلاء وأحللنا لك من وهبت نفسها خالصة لك) (٤). وقال صاحب النظم: خالصة مصدر كالخاطئة والكاذبة والملاعنة، والمعنى في قوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ﴾ أي: خاصة لك وخاصة أيضًا مصدر مثل خالصة أي خصوصًا لك ذلك من بين أمتك وهو قوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال أبو عبيدة: (رجع عن الغائبة إلى المخاطبة والعرب تفعل ذلك كقول عنترة:
سقت مزارها سفين.... البيت) (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ أ.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٥ مع اختلاف في العبارة.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٣.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ١٣٩. وهكذا ورد في النسخ! وفي "مجاز القرآن" وكذا في بقية المراجع جاء البيت هكذا: =
وقال ابن عباس: لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال (١).
قال المفسرون: هذا من خصائصه في النكاح وكان ينعقد النكاح له بلفظ الهبة من غير ولي ولا شهود، ولا ينعقد لأحد نكاح بلفظ الهبة (٢)، وهو مذهب الشافعي -رحمة الله- وأكثر الفقهاء (٣). وأجاز أهل الكوفة النكاح بلفظ الهبة إذا حضر الولي والشهود (٤). واختلفوا في الموهوبة، هل كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- موهوبة أم لا؟ فمذهب ابن عباس في رواية عكرمة ومجاهد أنه لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة إلا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وهذا شيء أباحه الله له، فإذا استباحه حل له (٥).
= شطت مزار العاشقين فأصبحت | عسرا على طلابها ابنة مخرم |
ومعى البيت: يقول: نزلت الحبيبة أرض أعدائي فأصبح طلبها عسيرًا علي. وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب انظر: "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" ٢/ ٤٨٤.
(١) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٤٢٤، وذكر الطبري نحوه ٢٢/ ٢١ ونسبه لمجاهد.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٣ - ٢٤، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٥، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٥.
(٣) انظر: "الأم" ٥/ ٣٣، "المغني" ٩/ ٣٤٥.
(٤) يروى هذا كما في "المغني" ٩/ ٣٤٥ عن ابن سيرين والقاسم بن والحسن محمد بن صالح وأبي يوسف.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٣، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧١.
وقال عروة: هي: خولة بنت حكيم (٣).
وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث (٤) وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة (٥) (٦).
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٤٤٥، "الإصابة" ٤/ ٤٤٦، "أسد الغابة" ٥/ ٥٩٤.
(٢) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٧١، ونسب القول لعلي بن الحسين والضحاك ومقاتل، وانظر أيضًا: "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٥ ولم ينسبه لأحد. وذكره "الماوردي" أيضًا ٤/ ٤١٤ ونسبه لعروة بن الزبير، وانظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ ب.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٣، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧١، وذكره "الماوردي" ٤/ ٤١٤، و"ابن الجوزي" ٦/ ٤٠٥ غير منسوب لأحد.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٣، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٤، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٦ ونسبه لابن عباس.
(٥) هي: زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقال لها: أم المساكين لكثرة إطعامها الطعام لهم، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدخل بها بعدما دخل بحفصة رضي الله عنها ثم لم تلبث فلنب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوى شهرين أو ثلاثة حتى ماتت رضي الله عنها، ولم أجد عند من ترجموا لها من ذكر أنها وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم.
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٣٠٥، "الإصابة" ٤/ ٣٠٩ "أسد الغابة" ٥/ ٤٦٦.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٤، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٠٦.
قوله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ قال أبو إسحاق: (ذلك اليمين لا يكون إلا ما يجوز سبيه) (٣) ممن يجوز حربه، فأما من كان له عهد فلا.
وقال صاحب النظم: انتظمت هذه الآية مجاوزة الأربع للنبي -صلى الله عليه وسلم- والهبة، وكان له أن يصطفي من النبي من شاء نبه الله بهذا على من خصه به (٤) دون غيره من أمته؛ لأنه لم يبح لهم من هذه الأصناف التي عددها في التحليل له شيئًا.
قوله -عز وجل-: ﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾. فيه تقديم، والمعنى: خالصة لك من دون المؤمنين كي لا يكون عليك، [أي: أحللنا لك ما ذكرنا لكي لا يكون عليك] (٥) ضيق في أمر النكاح ومنع من شيء تريده. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ في التزويج بغير مهر للنبي -عليه السلام- ﴿رَحِيمًا﴾ به في تحليل ذلك. قاله مقاتل (٦).
٥١ - قوله -عز وجل-: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ ذكرنا الكلام
(٢) انظر: "الطبري" ٢٢/ ٢٣ - ٢٤، "الماوردي" ٤/ ٤١٥، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٣.
(٤) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: على ما خصه به.
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ أ.
قال أبو إسحاق: (خيَّر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- فكان له أن يؤخِّر من أراد من نِسائه وله أن يردَّ من أحب إلى فراشه، وليس ذلك لغيره من أمته) (٦) وكان القسم والتسوية بينهن واجبًا عليه فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار فيهن، قال أبو زيد: وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن وكان ممن أرجى: سودة
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٥، "الماوردي" ٤/ ٤١٥، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٧.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥١٩، "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٥، "الماوردي" ٤/ ٤١٥.
(٤) في (ب): (فتؤتيها).
(٥) لم أقف على من نسبه للكلبي، وقد ذكر الطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٤ نحو هذا القول وعزاه لقتادة.
(٦) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٣.
قوله تعالى: ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ أي: إن أردت أن نؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن وأخرتهن من القسمة وتضمها إليك فلا جناح عليك (٣). لا ميل (٤) يلوم ولا عتب، والمعنى: أنك إذا أرجأت بعضًا وآويت ثم آويت من أرجأت فلا جناح عليك (٥)، وفي الكلام إيجاز بتقدير وأرجأت من آويت فلا جناح عليك، فدل أحد الظرفين على الثاني؛ لأنه إذا كان له إيواء من عزل وأرجأ كان له إرجاء من آوى.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ أي: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذا كان من عندنا، قال الفراء: (إذا علمن أن الله قد أباح ذلك رضين إذا كان من عند الله) (٦). قال أبو إسحاق:
(٢) انظر: " تفسير الطبري" ٢٦/ ٢٢، وقد ذكر قول ابن زيد لكنه لم يذكر أسماء من آوى ومن عزل. "تفسير ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٤٥ عن ابن زيد، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٤، ونسب القول لابن رزين، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٠٧ وعزاه لابن رزين أيضًا، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٣٥، ونسبه لابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي زيد.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٣.
(٤) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: لا لوم.
(٥) الكلام هنا موهم والأسلوب فيه اضطراب، والذي يظهر لي والله أعلم أن الكلام من قوله: (ميل) إلى قوله: (ثم إيواء من أرجأت فلا جناح عليك) كلام زائد وقع خطأ من النساخ.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٦.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي: من أمر النساء والميل إلى بعضهن، قال صاحب النظم: هذا يدل على أن الله قصد بها التخيير والتيسير (٣) والتسهيل محنة في كل ما أراد منهن، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بخلقه ﴿حَلِيمًا﴾ عن عقابهم. قاله ابن عباس (٤) وذكرت في قوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ قوال سوى ما ذكرنا، وسياق الآية [بعضها و] (٥) لا يوافقها فتركتها.
٥٢ - قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ ويقرأ بالتاء وقال أبو إسحاق: من قرأ بالياء فلأن النساء في معنى جميع النساء تدل على التأنيث فيستغنى عن تأنيث (يحل)، ومن قرأ بالتاء فعلى أن المعنى لا يحل (٦) لك جماعة (٧) النساء (٨).
وقال الفراء: (التاء للنساء والياء بمعنى لا يحل لك شيء من النساء) (٩)، وقال أبو علي: (الياء والتاء جميعًا حسنان؛ لأن تأنيث النساء
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٣.
(٣) في (ب): (التسير).
(٤) لم أقف عليه
(٥) هكذا في النسخ! ولعلها زيادة من النساخ؛ لأنه يخل بنظم الكلام.
(٦) في (ب): (لا تحل).
(٧) في (ب): (جميع).
(٨) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٤
(٩) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٦.
قال ابن عباس: لما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه اخترنه شكر الله تعالى ذلك لهن حيث اخترنه فأنزل الله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ (٢).
قال مقاتل: حرم عليه تزويج غير التسعة اللاتي اخترنه، فقال: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ أي: من بعد أزواجك التسعة اللاتي عندك (٣)، يقول: لا يحل لك أن تزداد عليهن ولا أن تبدل بهن، يعني: بنسائه التسعة من أزواج.
قال ابن عباس: يريد أن تبدل بهذه [العدة] (٤) غيرهن، فلا يحل لك إلا هؤلاء اللاتي خيرتهن واخترتهن (٥). وقال الضحاك: يعني: ولا أن تبدل بهن بأزواجك اللاتي من في حبالك أزواجًا غيرهن بأن تطلقهن وتنكح غيرهن (٦). فحرم عليه طلاق نسائه اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين، وحرمهن على غيره حين اخترنه، قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ أي: وإن أعجبك لجمالهن (٧)، فليس لك أن تطلق من نسائك وتنكح بدلها امرأة بجمالها.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٨، "الماوردي" ٤/ ٤١٦، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ ب.
(٤) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٩، "الماوردي" ٤/ ٤١٦، "زاد المسير" ٦/ ٤٠٩.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٣١، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٥، "زاد المسير" ٦/ ٤١٠.
(٧) هكذا في النسخ! ولعل الباء زيادة من النساخ.
قال الزجاج: موضع رفع المعنى لا يحل لك إلا ما ملكت يمينك، قال: ويجوز أن يكون نصبًا على معنى: لا يحل لك النساء، ثم استثني ما ملكت يمينك (٣).
قال أبو عبيدة: في هذه الآية حرم عليه النساء غيرهن (٤). فإن روي فيه غير ذلك فهذه الآية منسوخة، يعني: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحل له النساء (٥).
قال الشافعي: كأنها تعني اللاتي حظرن عليه (٦).
وهذه الآية منسوخة على ما قالت عائشة (٧)، وهذا الذي ذكرنا في هذه الآية قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن، قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن (٨). وفيها أقوال تركناها لضعفها لم نذكرها.
(٢) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٤٢٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٤.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٣٥٢.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٣٢، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤١١، وأخرجه الترمذي في "سننه" كتاب التفسير، تفسير الأحزاب ٥/ ٣٥ رقم (٣٢٦٩)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم ١٠/ ٣١٤٥ عن أم سلمة.
(٦) "الأم" ٥/ ١٢٥.
(٧) انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٣٨٥.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٩ - ٣٠، "تفسير المادردي" ٤/ ٤١٧، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٥، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤١٠، "تفسير مقاتل" ٩٤ ب.
٥٣ - قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بهذه الآية، إنه الحجاب، أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عروسًا بزينب بنت جحش، ودعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي وهي منهم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطالوا المكث، وجعلوا يتحدثون، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج ثم يرجع وهم قعود، فنزلت هذه الآية. قال: فقام القوم وضرب الحجاب (٣).
﴿إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ قال الزجاج: (موضع أن نصب المعنى إلا بأن يؤذن أو لا يؤذن لكم) (٤) ﴿إِلَى طَعَامٍ﴾ أي: إلا أن تدعوا إلى طعام، ومعنى ﴿يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾: يدعوا، ويجوز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير، فتقدير لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم.
وقوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ﴾ قال أبو إسحاق: (غير منصوبة على الحال، المعنى: إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين) (٥) ﴿إِنَاهُ﴾ أي: نضجه وإدراكه
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ ب.
(٣) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: قوله: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ ٤/ ١٤٩٩ رقم (٤٥١٣)، ومسلم في النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب ٢/ ١٠٤٨ رقم (١٤٢٨) كلاهما عن أنس.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٤.
(٥) المصدر السابق.
تمخضت المنون له بيوم | أنى ولكل حاملة تمام (٥) |
قال مقاتل: كانوا يجلسون عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الطعام وبعد الطعام
(٢) غير واضحة في جميع النسخ، والتصحيح من "تفسير مجاهد" ص ٥٢٠.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٢٠.
(٤) هكذا في النسخ! والذي في"مجاز القرآن لأبي عبيدة" ٢/ ١٤٠: أي: إدراكه وبلوغه، ويقال: أني لك أن تفعل يأني أنيًا، والاسم إني وأني: أبلغ أدرك.
(٥) البيت من الوافر، وهو للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص ١٠١ ضمن أبيات قالها حين عاد إلى النعمان فألفاه عليلا، "جمهرة أشعار العرب" ١/ ١٩٩.
والشاهد فيه قوله "حاملة" حيث جاء بهذا الوصف متصلاً بتاء التأنيث مع أنه خاص بالإناث لا يوسف به غيرهن، وذلك أنه جعل وصفًا جاريًا على الفعل.
(٦) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٥٣ (أنى).
(٧) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٢٠.
قال أبو إسحاق: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتمل إطالتهم كرمًا منه ويصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدبًا لهم ولمن بعدهم) (٣).
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾، معناه: لا يستحيي أن يبين لكم ما هو الحق وذكرنا معنى استحياء الله -عز وجل- عند قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ [البقرة: ٢٦]
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾، فنزل الأمر بالاستتار. قال ابن عباس: وذلك (٤) أن عمر -رضي الله عنه- كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلمة البيت فوافقت يده يد امرأة من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال والله لو أطاعني رسول الله لضرب عليكن الحجاب فأنزل الله هذه الآية (٥). وقال أنس: قال عمر: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٣/ ٨٧ (أنس)، "اللسان" ٦/ ١٥ (أنس).
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٥.
(٤) في (ب): وذلك أن الله تعالى عمر -رضي الله عنه-، وهو خطأ.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤١٩، "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٦.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: سؤالكم إياهن المتاع من وراء الحجاب ﴿أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ ومن الريبة ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: أي ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء (٢).
قال أبو عبيدة: العرب (٣) يدخلون كان يؤكدون بها الكلام وهو مستغنى عنه وأنشد الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديار قوم | وجيران لنا كانوا كرام (٤) |
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٥.
(٣) في (أ): (تدخل)، وهو خطأ.
(٤) البيت من الوافر وهو للفرزدق في "ديوانه" ٢/ ٢٩٠، "خزانة الأدب" ٩/ ٢١٧، ٢٢١، ٢٢٢، "الكتاب" ٢/ ١٥٣، "لسان العرب" ١٣/ ٣٧٠ (كنن).
والشاهد فيه قوله: "وجيران لنا كانوا كرام" حيث فصل بين الموصوف وهو قوله "وجيران" والصفة وهي قوله "كرام" بـ"كانوا" الزائدة.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ١٤٠.
(٦) لم أقف على هذا القول عن مقاتل بن حيان وقد ذكره أكثر المفسرين فقد ذكره الطبري ٢٢/ ٤٠ عن ابن زيد، ومقاتل في "تفسيره" ٩٤ ب، والنحاس في "معاني القرآن" ٥/ ٣٧٣ عن قتادة، والطبرسي ٨/ ٥٧٤ عن أبي حمزة الثمالى.
قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله قال لما نزلت آية الحجاب: نهانا محمد أن ندخل على بنات عمنا -يعني: عائشة- وهما من بني تميم بن مرة ثم قال: والله لئن مات محمد وأنا حي لأتزوجن عائشة، فأنزل الله في طلحة ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ إلى آخرها (٤). قال أبو إسحاق: أعلم الله أن ذلك محرم بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ أي: ذبنًا عظيمًا (٥).
٥٤ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ قال مقاتل: أعلم الله أنه يعلم سرهم (٦) ونجواهم وعلانيتهم (٧) فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ أي: تظهروا ﴿شَيْئًا﴾ من أمرهن يعني: طلحة (٨)؛
(٢) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٣) انظر: "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤١٦، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٤٣، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه وذكره الطبري ٢٢/ ٤٠ عن ابن زيد.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ ب، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٤٣، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي ولعبد الرزاق عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ولابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٥.
(٦) في (أ): (سرهن وعلانيتهن).
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٤ ب.
(٨) لا يصح مثل هذا عن صحابي كطلحة -رضي الله عنه- وقد سبق ذكر بعض أقوال العلم ممن أنكر هذه المقولة.
قال المفسرون (٣): لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ونحن أيضًا نكلمهن من وراء حجاب، فأنزل الله تعالى قوله:
٥٥ - ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ﴾ الآية أي: لا جناح عليهن في هؤلاء أن يروهن ويتركن الحجاب منهن.
قال أبو إسحاق: هذه الآية نزلت فيمن يحل للمرأة البروز له ولم يذكر العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين في الرؤية وقد جاء في القرآن تسمية العم أبا في قوله: ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة: ١٣٣] (٤).
وقال غيره: هذه الآية تتضمن بيان بعض المحارم (٥)، وقد سبق ذكر الحرم في سورة النور (٦) وهذه بعض تلك الآية.
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٢٨.
(٣) وانظر: "مجمع البيان" ٨/ ٥٧٧، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٣١، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤١٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٦.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٣١.
(٦) هكذا جاءت العبارة وهو خطأ ولعل الصواب: وقد سبق ذكر المحارم في سورة النور، وقد سبق ذكره في تلك السورة عند تفسير الآية رقم ٣١.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ (٦) من أعمال بني آدم ﴿شَهِيدًا﴾ قال مقاتل: يقول لم يغب عن الله شيء.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ قال ابن عباس: يريد إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له بالرحمة (٧). قال مقاتل: أما صلاة الرب فالمغفرة (٨) للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأما صلاة الملائكة (٩) فالاستغفار له (١٠).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ أ.
(٣) نظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٢، "الماوردي" ٤/ ٤٢٠، "زاد المسير" ٦/ ٤١٨.
(٤) في (ب): (ولا).
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٠، "زاد المسير" ٦/ ٤١٨، "القرطبي" ١٢/ ٢٣٤.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ أ.
(٧) لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس وقد ذكره الطبري غير منسوب لأحد ٢٢/ ٣، وذكره الماوردي ٤/ ٤٢١ عن الحسن وعطاء بن أبي رباح.
(٨) في (ب): (فللمغفرة)، وهو خطأ.
(٩) في (أ): (الاستغفار).
(١٠) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ أ.
وقال مقاتل: استغفروا ﴿وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ يعني: التسليم (٢) فيجوز أن (٣) يقول سلمك الله وسلام عليك والسلام عليك فمن قال: السلام على رسول الله أو سلام عليه (٤) أو سلمك الله يا رسول الله فقد سلم وإذا قال العبد اللهم صل على محمد وسلم، فقد أتى بالصلاة والتسليم (٥).
وروي عن كعب بن عجرة أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلنا يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: "فقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركلت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (٦).
ومعنى قوله: علمنا السلام عليك: ما نقول في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وهذه الآية بيان عما في نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحق الذي يقتضي الصلاة عليه كما صلى الله عليه وملائكته ولهذا قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا تصح صلاة في الشريعة إلا بالصلاة على رسول الله والسلام عليه (٧).
(٢) في (ب): (للتسليم).
(٣) في (ب): أن (تقول).
(٤) في (ب): (عليك).
(٥) لم أقف عليه وليس في "تفسير مقاتل".
(٦) رواه البخاري كتاب: التفسير، باب: قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ ٤/ ١٨٠٢ رقم الحديث (٤٥١٩)، ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد ١/ ٣٠٥ رقم الحديث (٤٠٦).
(٧) "الأم" ١/ ١٠٣.
يدل على صحة هذا التفسير ما روى عبد الله بن قيس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله أن يجعل له يدًا ويجعل له ولدًا وهو على ذلك معافيهم ومعطيهم ويرزقهم" (٥) وحقيقة معنى يؤذون الله يخالفون أمر الله ويعصونه ويقولون في وصفه ما هو منزه عنه والله تعالى لا يلحقه أذى ولكن لما كانت المخالفة فيما بيننا والخروج عن أمر الله يسمى إيذاء له خاطبنا الله بما نعرفه في تخاطبنا.
وقوله: ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قال مقاتل: يعني باللعنة في الدنيا: القتل والجلا وأما في الآخرة فإن الله يعذبهم بالنار فذلك قوله (٦)
(٢) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٣) ذكره ابن الجوزي في "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٠ غير منسوب لأحد، الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٨٢ وعزاه للمفسرين.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) رواه مسلم في "صحيحه" كتاب صفات المنافقين، باب: لا أحد أصبر على أذى من الله -عز وجل- ٤/ ٢١٦٠ رقم (٢٨٠٤) عن عبد الله بن قيس: قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًا ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم".
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ أ.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ قال مجاهد: يقضون فيهم بعد ما علموا، يعني: يرمونهم بما ليس فيهم (١). وروي أن رجلَّا شتم علقمة فقرأ هذه الآية (٢).
وقال قتادة والحسن: إياكم وأذى المؤمن فإن الله يغضب له (٣).
واختلفوا في سبب نزوله، فقال عطاء عن ابن عباس: رأى عمر -رضي الله عنه- جارية من الأنصار متبرجة فضربها وكره ما رأى من زينتها، فذهبت إلى أهلها تشكو عمر، فخرجوا إليه فآذوه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يريد عمر بن الخطاب (٤).
وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن نفرًا من المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه (٥).
وقال السدي والكلبي: نزلت في أهل الفسق والفجور كانوا يتبعون الإماء بالمدينة يفجرون بهن فكانت المرأة من نساء المؤمنين تبرز للحاجة، فيتعرض لها بعض الفجار يرى أنها أمة وكان الزي واحداً فتصيح به،
(٢) انظر: "الوسيط" ٣/ ٤٨٢.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٥، وابن أبي حاتم ١٠/ ٣١٥٢ كلاهما عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٥٧ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر، عن قتادة والواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٨٢ ونسبه لقتادة والحسن والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٠ عن قتادة والحسن.
(٤) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٠٧، و"تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢١.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ أ، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٣.
٥٩ - ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء في الزي بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ جمع الجلباب يعني ملاءة المرأة التي تشتمل بها (٢).
وذكرنا تفسير الجلباب في سورة النور [النور: ٣٠ - ٣١]، قال المفسرون في قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ يغطين رءوسهن ووجوههن إلا عينًا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى من قول وهو قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ (٣) هذا قول ابن عباس وابن سيرين (٤).
قال أصحابنا: الحكم في الحرة إذا برزت لحاجة أن تلتحف حتى لا يرى منها سوى الصحيحين، وأما الأمة فإنها أيضًا يأمرها بالستر والتقنع وإن كانت لا تؤمر في ذلك الزمان. كما روى أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على أمة رآها متقنعه (٥). ويجوز تغير الحكم في الأزمنة بتغير أهلها ألا ترى أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع
(٢) انظر: "اللسان" ١/ ٢٧٢ (جلب)، "مقاييس اللغة" (٤٧٠) (حلب).
(٣) (أدنى) مكررة في (ب) وهو خطأ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٦، "ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٥٤، عن ابن عباس، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٠، ذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٥٩، وزاد نسبته لابن مردويه عن ابن عباس، وذكره الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٩.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٤٤، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٦٠ وعزاه لابن أبي شيبة عن أبي قلابة ولابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أنس.
(٢) قول المؤلف -رحمه الله- إن الفتوى تتغير الزمان هذا فيما يكون من الأحكام مبنيًّا على عادة النساء وعرفهم ومن المعلوم أن الشرع المطهر أوجب ملاحظة العرف والعادة عند تطبيق الأحكام ولذلك فمما يجب على المجتهد المفتي أن يكون مطلعًا على أحوال الناس عارفًا لمجاري كلامهم في عقودهم ومعاملاتهم فتكون فتواه على حسب ذلك.
ومن هنا تتغير الفتوى حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال. يقول القرافي رحمه الله فيما نقله عنه د/ عبد الله التركي في "أصول مذهب الإمام أحمد" ص ٦٦٤: " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة. اهـ
وليس معنى هذا أن أحكام الشريعة ونصوصها تتغير بل أن تغير الفتوى بتغير الزمان أو المكان أو حالة الناس هو تطبيق صحيح لأحكام الشريعة ونصوصها ذلك أن الشارع الحكيم جعل تطبيق هذه الأحكام مبنيًا على العرف والعادة. يقول د/ عبد الله التركي في المصدر السابق ص ٦٦٥: ولذلك أوجب العلماء على المفتين إذا جاءهم مستفت من غير بلادهم ألا يفتوه بما يفتون به أهل البلد، بل عليهم أن يسألوه عن العرف في بلده وهو يخالف عرف المفتي أو يتفق معه وهل تجدد لهم عرف إذا كان المفتي يعرف عرفهم السابق قال القرافي رحمه الله في هذا: "وهذا أمر متعين وواجب لا يختلف فيه العلماء وإن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء أن حكمهما ليس سواء". اهـ.
وقد عقد ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "أعلام الموقعين" فصلا عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأعراف وقد ضرب على ذلك أمثلة كثيرة بين فيها اختلاف الحكم من زمان إلى زمان ومن حال إلى حال وما ذاك إلا لاختلاف الزمان والحال "أعلام الموقعين" ١/ ١٤ ولمزيد من العلم في هذه المسألة راجع الكتب التالية "إعلام الموقعين" ١/ ٧٠، "الفروق" ١/ ٤٤ - ٤٧، "أصول مذهب الإمام أحمد". عبد الله التركي ص ٦٦٤ - ٦٧٠.
وقال مقاتل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ وفي تأخير العذاب ﴿رَحِيمًا﴾ حين لم يعجل بالعقوبة.
٦٠ - قال: ثم أوعدهم فقال: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ عن نفاقهم. ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ يعني: الفجور (٣)، وهم الزناة وهو قول جميع المفسرين (٤) ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ قالوا: هم قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من أمر عدوهم ويقولون: قد أتاكم العدو ويقولون [لسرايا] (٥) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنهم قتلوا وهزموا (٦) وذكر الفراء أن قومًا من المؤلفة قلوبهم كانوا يرجفون بأهل الصفة ويشنعون عليهم أنهم هم الذين يتناولون النساء لأنهم عزاب (٧)، ومعنى الإرجاف إشاعة الباطل للاغتمام به (٨). وهذا مما
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ ب.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٢٧، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٤، "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٨٢، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٢.
(٥) لعلها: (عن سرايا).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٨، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٤، "تفسير راد المسير" ٦/ ٤٢٢، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٦٢، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٩.
(٨) قال في "اللسان" (رجف) قال الليث: أرجف القوم إذا خاضوا في الأخبار السيئة وذكر الفتن، قال الله تعالى: ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ وهم الذين يولدون الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب في الناس.
قوله: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ قال ابن عباس: لنسلطنك عليهم (١)، وهو قول المفسرين وأهل المعاني (٢).
وقال مقاتل: لنحملنك على قتلهم (٣) ومعنى الإغراءت الدعاء إلى تناول الشيء بالتحريض عليه، وقد مر (٤). ومعنى الآية [إن لم] (٥) ينته هؤلاء أمرناك بقتلهم حتى تقتلهم وتخلي المدينة منهم وهو قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: لا يساكنوك في المدينة، قال ابن عباس: لا يقيمون معك بالمدينة ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ إلا يسيرًا حتى يهلكوا (٦). قال الفراء: (ويجوز أن تجعل (٧) القِلَّة من صفة الملعونين كأنك قلت إلا قليلاً ملعونين؛ لأن قوله ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا﴾ يدل على أنهم ملعونون فيعرفون) (٨).
٦١ - ﴿مَلْعُونِينَ﴾ مطرودين مبعدين عن الرحمة وعنكم قاله
(٢) انظر: المصادر السابقة و"معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٦، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٤٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٧٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٥ ب.
(٤) عند تفسير قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ آية: ١٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) ذكره الطبري ٢٢/ ٤٨، الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٨٣، والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٥٨١ ولم ينسبوه لأحد ولم أقف على من نسبه لابن عباس.
(٧) في (أ): (يجعل) بالياء.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٣٥٠ وعبارة الفراء هكذا وقد يجوز أن تجعل القلة من صفتهم صفة الملعونين كأنك قلت: إلا أقلاء ملعونين؛ لأن قوله: "أينما ثقفوا أخذوا" يدك على أنهم يقلون ويتفرقون. اهـ.
قال أبو إسحاق: (ملعونين منصوب على الحال لا يجاورونك إلا وهم ملعونين) (٢) وذكر الفراء: هذا القول وقولا آخر، فقال: (ملعونين على الشتم وعلى الفعل أي لا يجاورونك فيها إلا ملعونين والشتم على الاستئناف كما قال ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: ٤] فيمن نصب تم استئناف جزاء فقال: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ (٣) أي: مبعدين حيث ثقفوا مبعدين حيث ثقفوا فجعل قوله ملعونين متصلاً بما بعده.
قال أبو إسحاق: (ولا يجوز أن يكون [قوله] (٤) ملعونين منصوبًا بما بعد أيضًا لا يجوز أن يقال ملعونًا أينما أخذ زيد يضرب؛ لأن ما بعد حروف الشرط لا تعمل فيما قبلها) (٥) وقوله: ﴿أُخِذُوا﴾ قال مقاتل: (وجدوا وأدركوا): ﴿أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ قال يعني خذوهم واقتلوهم) (٦).
وقال المبرد: (أي الحكم فيهم هذا على جهة الأمر كما قال "العقرب يقتل" أي: هذا الحكم فيها) (٧).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ الآية قال أبو إسحاق: (المعنى سن
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٦.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٤٩ - ٣٥٠.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٦.
(٦) لم أقف عليه وليس في "تفسير مقاتل".
(٧) انظر: قول المبرد وفي "تفسير القرطبي" ١٤/ ٤٧، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٢٣، ولم ينسبه لأحد.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ﴾ قال الكلبي: إن أهل مكة سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة وعن قيامها فنزلت هذه الآية (٣). وقال مقاتل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب فسأله رجل عن الساعة فأوحى الله إليه [فقال] (٤) (٥): ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ (٦). ونظير هذه الآية في الأعراف [آية: ١٨٧].
قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ يقال: دريت الشيء عرفته وأدريته غيري إذا أعلمته ولا معنى أي شيء يعلمك علم الساعة حتى يكون قيامها أي [أنت] (٧) لا تعرفه. ثم قال: ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ والباقي ظاهر إلى قوله:
٦٧ - ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾ (وساده جمع سيد وهو فعله مثل كتبة وفجرة ووجه الجمع بالألف والتاء أنهم قالوا الجُرُزات (٨) والطرقات
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٤٩، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٥، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨١، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٣ "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٣٨٣.
(٣) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي وقد ذكر السمرقندي في "بحر العلوم" ٣/ ٦١ قريبًا منه غير منسوب لأحد، وكذا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٩٣.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط في (ب).
(٥) في (أ): (فقل)، وهو خطأ.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ أ.
(٧) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٨) في (ب): (الجردات).
قال الكلبي: قالوا ربنا أطعنا أشرافنا وعظماءنا فأزالونا عن طريق الهدى (٣). وقال مقاتل: أطعنا سادتنا في الشرف وكبراءنا وذوي الأسنان منا قال وهم المطعمون (٤) في غزوة بدر (٥).
﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ الهدى وهو التوحيد، والتقدير: أضلونا عن السبيل فلما حذف الجار وصار الفعل والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر كقوله: ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾ [الفرقان: ٢٩] قال أبو عبيدة: ﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ أضلونا عن السبيل (٦). وذكرنا الكلام في نحو قوله: السبيلا والرسولا في أول السورة (٧).
٦٨ - ثم قالت الأتباع: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ يعنون: القادة والرؤساء أي: عذبهم مثل عذابنا (٨) قوله تعالى: ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾
(٢) "الحجة" ٦/ ٤٨٠.
(٣) لم أقف على من نسبه للكلبي وقد ذكره "الماوردي" ٤/ ٤٢٣٥، والواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٨٣، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٦/ ٤٢٤.
(٤) هكذا في النسخ! ولعل الصواب: المطعمون كما في "تفسير مقاتل".
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ أ.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٤١ وعبارة أبي عبيدة: أضلني عن السبيل، ومجازه عن الحق والدين.
(٧) عند الآية ١٠.
(٨) هكذا في النسخ والظاهر أنه خطأ؛ لأنه عذاب القادة إذا كان مثل عذاب الأتباع فليس ضعفين وإنما هو مثله وليس كذلك معنى الآية فلعل الكلام مثلي عذابنا.
٦٩ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين ألا يؤذوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقولهم زيد بن محمد فإن ذلك أذى له كما آذت بنو إسرائيل موسى فزعموا أنه آدر وذلك أن موسى كان فيه حياء شديد وكان لا يغتسل إلا وعليه إزار وكانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، فقالوا ما يمنع موسى أن يتجرد كما نتجرد إلا أنه آدر فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام واستتر بصخرة فوضع ثيابه عليها [ففرت] (٥) الصخرة بثيابه فاتبعها موسى متجردًا حتى انتهى إلى [ملأ من] (٦) بني إسرائيل فنظرت إليه [بنو إسرائيل فإذا هو من أحسن (٧) خلقًا وأعدله
(٢) "الحجة" ٥/ ٤٨١.
(٣) هكذا في النسخ والذي يظهر أن ما بين المعقوفين زيادة من النساخ إذ لا معنى لها فهي خطأ والله أعلم.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٦) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٧) هكذا في النسخ وقد سقطت كلمة الرجال ففي بعض روايات الحديث من أحسن الرجال خلقًا.
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ الوجيه ذو الوجاهة [يقال] (٤) وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذا جاء (٥)، وقد قال ابن عباس: [كان (٦) عند الله] حظيًا لا يسأله شيئاً إلا أعطاه (٧).
وقال الحسن: كان مستجاب الدعوة (٨). وقال مقاتل: يعني مكينا (٩).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ قال الليث: يقال: قل قولًا سددًا أو سديدًا أي صوابًا [والسدد مقصور] (١٠) من
(٢) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ أ، "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥١، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٧، "تفسير كتاب الله لهود من محكم" ٣/ ٣٨٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٣، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٥.
والحديث رواه البخاري في "صحيحه" كتاب: الاغتسال، باب: من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة ١/ ٧٨٩ ومسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى -عليه السلام- ٤/ ١٨٤١.
(٤) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٥) انظر: "لسان العرب" ١٣/ ٥٥٨ (وجه).
(٦) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٧) انظر: "الماوردي" ٤/ ٤٢٧، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٣، "زاد المسير" ٦/ ٤٢٥.
(٨) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٨٤.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ ب.
(١٠) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
ماذا عليها وماذا كان ينقصها | يوم الترحل لو قالت لنا سددا (٢) |
قال ابن عباس: قوله: ﴿سَدِيدًا﴾ صوابًا (٤).
وقال الحسن: صادقًا (٥).
وقال مقاتل: عدلًا وهو التوحيد (٦). وقال عطاء عن ابن عباس: يريد شهادة ألا إله إلا الله (٧).
وقال عكرمة والكلبي: هو ألا إله إلا الله (٨).
ومعنى الآية: هو أن الله أمر المؤمنين بالتوحيد والتقوى ووعد عليهما
(٢) البيت من البسيط وهو مختلف في نسبته فهو لكعب كما قال المؤلف وكذا هو منسوب في كتاب: "العين" ٧/ ١٨٤، و"الأفعال" ٣/ ٥٥٠، و"أساس البلاغة" ص ٢٠٦ (سدد). وللأعشى في "لسان العرب" ٣/ ٢١٠ (سدد). وليس في "ديوان الأعشى" ولا في "ديوان كعب بن زهير" ولا "كعب بن مالك".
(٣) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٧٦ (سدد).
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٥٣، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٧.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٣، وعزاه الكلبي، و"تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٧ عن الحسن.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ ب.
(٧) انظر: "تفسير راد المسير" ٦/ ٤٢٧، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣٥٣.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٣، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٤.
٧١ - ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم (١). قال مقاتل: يزكي أعمالكم (٢).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ (٣) قال ابن عباس: الأمانة الفرائض التي افترضها الله على العباد (٤).
وقال الحسن: هو الدين، فالدين كله أمانة (٥).
وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به وما نهوا عنه (٦).
وقال مقاتل: الأمانة هي الطاعة (٧). والأمانة في هذه الآية في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي (٨) يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب (٩).
وروى زيد بن أسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الأمانة ثلاثة: الصلاة
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ ب.
(٣) قوله: (والجبال) ساقط من (ب) وهو خطأ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٤. "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٨٤، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٤.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨.
(٦) انظر: "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٢٨، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٤، وذكره السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٦٨، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦ ب.
(٨) في (ب): (الذي).
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٧، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٨٤، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٨، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٥٤.
وروي عن الحسن في هذه الآية قال: عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قلن (٢) لها: إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتم. قلن: لا، ثم عرضت على الأرضين السبع اللاتي شددن بالأوتاد وذللت للمهاد وأسكنت العباد، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قلن لها (٣): إن أحسنتن جزيتنن وإن أسأتن عوقبتن (٤). قلن: لا، ثم عرضت على الجبال الصم الشم الشوامخ البوادخ الصلاب الصعاب، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قيل: إن اْحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا. فذلك قوله: ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾.
وقال ابن جريج: قالت السموات: يا رب خلقتني وجعلتني سقفا محفوظًا، وأجريت في الشمس والقمر، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثوابًا ولا عقابًا (٥).
(٢) كذا في النسخ وهي في "الوسيط" قبل لهن.
(٣) في (ب): (وإن أسأتن جوزيتن عقوبتين)، وهو خطأ.
(٤) لم أقف عليه وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ١٠/ ٣١٦٠ نحو هذا القول عن مجاهد.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" ١٠/ ٣١٥٩ عن ابن جريح.
قوله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ قال ابن عباس: قال الله لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها أفتحملها أنت [بما فيها] (٣)؟ قال: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت (٤). قال: فأنا أتحملها بما فيها، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين الأولى والعصر حتى أخرجه الشيطان منها (٥).
(٢) هكذا في النسخ، والذي يظهر أنه خطأ، والصواب هو كما في "الوسيط" ٣/ ٤٨٤ أفهمهن خطابه.
(٣) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٤) في (ب): (عوقبتم).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٤، "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٥٣، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٧.
وقال ابن حيان: قال الله تعالى لآدم: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: وما لي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فذلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك. قال: قد رضيت ربي وتحملها، فقال الله قد حملتها فذلك قوله: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ (٢).
وقال ابن عثمان: عرضت على آدم الطاعة والمعصية وعرف ثواب الطاعة وعقاب المعصية (٣) قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، قال الكلبي: ظلمه حين عصى ربه فأخرج من الجنة وجهله حين احتملها (٤). وقال المقاتلان: ظلومًا لنفسه جهولًا بعاقبة ما تحمل (٥). وهذا معنى قول المفسرين.
(٢) ذكره ابن أبي حاتم ١٠/ ٣١٦٠ عن مجاهد، وابن كثير ٥/ ٥٢٤ وعزاه لابن أبي حاتم.
(٣) لم أقف عليه. وقد ذكر القرطبي في "تفسيره" ١٤/ ٢٥٣ نحو هذا القول عن ابن عباس.
(٤) لم أقف عليه وانظر: المصدر السابق.
(٥) لم أقف على قول ابن حبان، وانظر: قول ابن سليمان في "تفسيره" ٩٦ ب.
هذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآية مذهب الجمهور أهل التفسير، وقال السدي: الأمانة هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده وخيانته إياه في قتل أخيه، وذلك أن الله تعالى قال لآدم إن لي بيتًا بمكة فأته. قال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، فقال لقابيل، قال: نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فانطلق آدم ثم رجع وقد قتل قابيل هابيل (٢).
وقال أبو إسحاق: حقيقة تفسير هذه الآية -والله أعلم- أن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترض عليهم من طاعته، وائتمن السموات والأرض والجبال بقول: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] فعرفنا الله أن السموات والأرض لم تحمل الأمانة أي: [أدتها] (٣) فكل من خان الأمانة فقد حملها وكذلك من أثم فقد حمل الإثم ويسمى حاملًا للإثم والسموات والأرض أبين أن يحملن الأمانة وأديتها وأداؤهما طاعتهما فيما أمر الله به وترك المعصية، وحملها الإنسان، قال الحسن: أراد الكافر والمنافق حملا الأمانة أي: خانا ولم يطيعا، قال: فهذا المعنى والله أعلم صحيح، ومن أطاع الأنبياء والصديقين والمؤمنين لا يقال ظلومًا جهولًا وتصديق ذلك ما يتلو هذا من قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ﴾ (٤).
قال الأزهري: [وما علمت أحد شرح في هذه الآية ما شرحه أبو
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٦ - ٥٧، "تفسير زاد المسير" ٦/ ٤٢٨.
(٣) ما بين المعقوفين طمس في جميع النسخ والتصويب من "معاني القرآن وإعرابه".
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٣٨ باختصار واختلاف في العبارة.
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة | وتحمل أخرى أفرحتك الودائع) (٢) (٣) |
٧٣ - قوله تعالى: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ قال المقاتلان: ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل ونقضوا الميثاق الذي أقروا به حين أخرجهم من ظهر آدم ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بأدائهم الأمانة ووفائهم بالعهد والميثاق (٥).
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ﴾ فقالا: هؤلاء الذين خانوهما وهم الذين ظلموها (٦).
﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ هؤلاء أدوها. وقال ابن قتيبة:
(٢) "تهذيب اللغة" ٥/ ٩٣.
(٣) البيت من الطويل وهو لبيهس العذري في "لسان العرب" ٢/ ٥٤١ (فرح)، و"التنبيه والإيضاح" ١/ ٢٥٨، "تاج العروس" ١٧/ ١٣ (فرح). وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٥/ ٩٣، "المخصص" ١٢/ ٣١٤.
(٤) "الحجة" ٥/ ٢٤٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٩٦/ ب، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٣٠.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٨، "مجمع البيان" ٨/ ٥٨٧، "تفسير هود" ٣/ ٣٨٦.
والله تعالى أعلم بالصواب.
(٢) انظر: "مشكل القرآن" ص ٨٢.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" ص ٤٢٧ بهامش المصحف، "تفسير مقاتل" ٩٦/ ب.