تفسير سورة التوبة

العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير .
لمؤلفه الشنقيطي - العذب النمير . المتوفي سنة 1393 هـ
تفسير سورة التوبة
نزلت هذه السورة الكريمة عام تسع، رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان بعض الصحابة يقول : آخر سورة نزلت بتمامها من القرآن براءة ١.
واعلم أن الصحابة ( رضي الله عليهم ) لم يكتبوا في المصاحف العثمانية سطر ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ قبل هذه السورة الكريمة، مع أنهم كتبوه في كل سورة من سور القرآن غير سورة التوبة هذه، والعلماء لهم أقوال معروفة في سبب [ عدم ] ٢ كتب ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ٣.
قال بعض العلماء : كانت سورة براءة طويلة قدر سورة البقرة، فنسخ الله أولها، فلما سقط أولها وكانت فيه البسملة سقطت البسملة مع المنسوخ الساقط منها.
وقال بعض العلماء : البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف والقتال ونقض العهود ؛ فلذا لم تكتب فيها ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾.
وقال بعض العلماء : لما أرادوا كتب المصاحف العثمانية اختلفوا في براءة، فقال بعضهم : هي والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم : كلتاهما سورة مستقلة، فلما جعلوا بياضا بياضا بين السورتين ليدل على قول من قال : هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وقامت حجة كل منهما في المصحف الكريم.
وأظهر الأقوال هو ما روي عن عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) رواه بعض أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس( رضي الله عنهما ) أنه قال : سألت عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) لم عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وجعلتموها في السبع الطوال ؟ ! !
فأجابه عثمان ( رضي الله عنه ) بما معناه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، تنزل عليه السور والآيات ذوات العدد فيأمر بعض من يكتب له ويقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا، وضعوا كذا في محل كذا، وكانت [ " الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة " وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها... ] ٤ كأنهما سورة واحدة، فمن ثم واليت بينهما وجعلت بينهما فصلا، ولم أكتب بينهما ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ٥.
وهذه السورة الكريمة نزلت عام تسع [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا بكر ( رضي الله عنه ) ليقيم للناس الحج ] ٦ وأرسل في أثره علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) على ناقته العضباء، وأمره أن يكون هو المتولي للأذان ببراءة في موسم الحج، وأن يقول للناس : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فكان علي بن أبي طالب ذهب في أثر أبي بكر فأدرك، قال بعض العلماء : أدركه بالجحفة، فقال له : أأمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور. وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله بصدر هذه السورة الكريمة ينادي به في الموسم ٧ – في موسم الحج – عام تسع من الهجرة، فكان أبو بكر هو أمير الحج الذي يقيم للناس حجهم، وكان علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) يؤذن في الناس بأول هذه السورة الكريمة، بعضهم يقول : بأربعين آية منها. وبعضهم ينقص، وبعضهم يزيد، والروايات متفقة على أنه أرسله بهذه السورة الكريمة، بشيء منها يؤذن بها في المواسم.
ومضمون ما كان يؤذن به علي ( رضي الله عنه ) راجع إلى أربع جمل : إحداها : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عهد فعهده إلى مدته.
وكان يؤذن في الناس بهذا. فعلم الكفار أنه لا عهود بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العام القابل وهو عام عشر لم يحج البيت كافر، ولم يطف بعدها عريان فحج النبي صلى الله عليه وسلم.
١ البخاري عن البراء (رضي الله عنه)، كتاب التفسير، باب ﴿براءة من الله ورسوله.....﴾ حديث رقم: (٤٦٥٤) (٨/ ٣١٦)..
٢ ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق..
٣ انظر: القرطبي (٨/ ٦١)، ابن كثير (٢/ ٣٣١)، الأضواء (٢/ ٣٢٦)..
٤ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام نقلتها من بعض روايات الحديث..
٥ أخرجه أحمد (١/ ٥٧، ٦٩)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (٢/ ١٠٠)، وفي غريب الحديث (٣/ ١٤٧ -)، (٤/ ١٠٤) وأبو داود في الصلاة، باب من جهر بها. رقم: (٧٧١) (٢/ ٤٩٥)، والترمذي في التفسير، باب ومن براءة. رقم: (٣٠٨٦) (٥/ ٢٧٢)، وابن حبان (الإحسان ١/ ١٢٦)، والحاكم (٢/ ٢٢١، ٢٣٠)، والبيهقي في الكبرى (٢/ ٤٢)، والدلائل (٧/ ١٥٣)، وابن أبي داود في المصاحف ص ٣٩، وابن جرير (١/ ١٠٢)، والطحاوي في شرح المعاني (١/ ٢٠١ - ٢٠٢)، وفي مشكل الآثار (١/ ٣٨)، (٢/ ١٥١ - ١٥٦)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (٢/ ٣٩٦)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢٠٧) وعزاه لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وضعفه أحمد أحمد شاكر في تعليقه على: المسند (١/ ٣٢٩)، ابن جرير (١/ ١٠٢)..
٦ في هذا الموضع انقطع التسجيل،" وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
٧ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا (رضي الله عنه) في حجة أبي بكر (رضي الله عنه). رواه جماعة من الصحابة منهم:
أبو هريرة (رضي الله عنه)، عند البخاري في الصلاة، باب ما يستره من العورة. حديث رقم: (٣٦٩) (١/ ٤٧٧) وأطرافه (١٦٢٢، ٣١٧٧، ٤٣٦٣، ٤٦٥٥؟، ٤٦٥٦، ٤٦٥٧)، ومسلم (من غير ذكر علي رضي الله عنه) في الحج، باب: لا يحج البيت مشرك... حديث رقم (٣٠٩٠) (٥/ ٢٨٥).
أنس (رضي الله عنه)، عند الترميذي في التفسير، باب: ومن سورة براءة. حديث رقم (٣٠٩٠) (٥/ ٢٧٥).
ابن عباس (رضي الله عنه)، عند الترمذي في التفسير، باب: (ومن سورة براءة) حديث رقم (٣٠٩١) (٥/ ٢٧٥) وانظر: الإرواء (٤/ ٣٠٣).
زيد بن أثيع أنه سأل عليا (رضي الله عنه)... عند أحمد (١/ ٧٩)، والدرامي (١/ ٣٩٤)، والحميدي (٤٨) والترمذي في التفسير. باب (ومن سورة براءة) حديث رقم: (٣٠٩٢) (٥/ ٢٧٦) وانظر الإرواء (٤/ ٣٠١). وأخرجه أحمد (١/ ٣) عن زيد بن أثيع عن أبي بكر (رضي الله عنه).
جابر (رضي الله عنه)، عند النسائي في الحج، باب الخطبة يوم التروية. حديث رقم: (٢٩٩٣) (٥/ ٢٤٧)..

ومعنى قوله :﴿ براءة ﴾ البراءة مصدر كالشناءة والدناءة. وإعرابه ١ قال بعض العلماء : هو مبتدأ خبره محذوف، أي : هذه براءة من الله ورسوله.
وقال بعض العلماء : لا مانع من كون قوله :﴿ براءة ﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله :﴿ من الله ورسوله ﴾ كما قال ٢ :
.......................... ورجل من الكرام عندنا
وأن قوله :﴿ إلى الذين عهدتم ﴾ خبر المبتدأ، والوجهان من الإعراب كلاهما صحيح، والمعنى : هذه براءة من الله. أو براءة من الله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. ولفظة ( من ) في قوله :﴿ من الله ﴾ هي المعروفة بابتداء الغاية، أي : ابتداء هذه الغاية ومنشؤها كائن من الله. ومعنى براءة الله منهم : أنه ( جل وعلا ) برئت ذمته من عهودهم فلا يلتزم لهم عهدا ولا ذمة ؛ لأنهم نقضوا العهود أو كادوا.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا غزوة تبوك كان المنافقون يرجفون أراجيف كثيرة، فسمع بها الكفار فأرادوا نقض العهود وتغيروا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت بينه وبين بعض القبائل عهود ومواثيق، مصالحات ومهادنات، فلما سمع الكفار بأراجيف المنافقين نقض بعضهم، وبعضهم خيف منه النقض، فأنزل الله براءته من جميع الكفار إلا ما سيأتي استثناؤه إن شاء الله.
واعلم أن الكفار أقسام ٣ : منهم من كان له عهد مؤجل بأجل، وهؤلاء قسمان : من عهده أقل من أربعة أشهر، ومن عهده أكثر من أربعة أشهر، ومنهم من لا عهد له أصلا، ومن له عهد مطلق لم يقيد بزمن معين، فهذه فرق الكفار، وهذه الآية تضمنت نقض العهود في هذه كلها إلا في صورة واحدة على التحقيق.
أما من كان له عهد إلى مدة أقل من أربعة أشهر فالتحقيق عند جمهور العلماء أنه يرفع عهده إلى أربعة أشهر ثم بعد الأربة أشهر هو حرب لله ولرسوله، ومن كان له عهد مطلق فله أربعة أشهر يسيح فيها ويهب في الأرض مقبلا ومدبرا آمنا، ثم بعد انتهاء تلك الأربة الأشهر هو حرب لله ولرسوله.
ومن لم يكن عنده عهد أصلا فقال بعض العلماء : له هذه الأربعة الأشهر. وهذا أظهر القولين، بناء على أن قوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ [ التوبة : آية ٥ ] أنها أشهر الإمهال هذه الأربة، لا الأشهر الحرم الأربعة.
وقال بعض العلماء : هي الأشهر الحرم الأربعة، وعلى ذلك لم يبق من عهده إلا خمسون يوما، عشرون من ذي الحجة، والشهر الذي بعده الذي هو المحرم، فتنقضي عهودهم على خمسين يوما على هذا القول.
فقوله :﴿ براءة من الله ﴾ هذه البراءة كائنة من الله ﴿ إلى الذين عهدتم ﴾ يعني النبي وأصحابه. وإنما خاطبهم جميعا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى عقد العهود لأنهم أتباعه وأعوانه، وهم معه في كل شيء من حل وعقد، فكل حل وعقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهم أصحابه وأعوانه وأتباعه، فهم معه فيه ؛ ولذا قال :﴿ إلى الذين عهدتم من المشركين ﴾ الكفار الذين يعبدون الأصنام ويشركون بالله ( جل وعلا ).
والتحقيق : أن هذه ما نزلت إلا في غزوة تبوك، وما زعمه ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما من أن صدر هذه السورة نزل قبل عام الفتح، بعد نقض قريش وبني بكر لمعاهدة صلح الحديبية ؛ فهو خلاف الظاهر، مع أنه قال به ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما ٤. قالوا : كان أول هذه السورة نزل قبل هذا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري ( رضي الله عنه ) كان خزاعة دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان ذلك الصلح دخلت فيه قبائل من بني كنانة منهم بنو الديل ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو مدلج بن بكر بن كنانة، وبنو ضمرة بن بكرة بن كنانة، فهي أربع قبائل من كنانة دخلوا في ذلك الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك بين كنانة وخزاعة دم، وكان الدم خصوص بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة من قبائل كنانة، فانتهزوا الفرصة وعدوا على خزاعة، وأعانهم قريش على خزاعة الإعانة المشهورة التي هي سبب غزوة الفتح ؛ لأن بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة لما عادوا على خزاعة ونقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلحه الذي أبرمه معهم في الحديبية، وأعانتهم قريش على ذلك بالسلاح، بل بعض رجال قريش دخل معهم في قتالهم، كما قاله بعض العلماء، وأرسل خزاعة عمرو بن سالم ( رضي الله عنه ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستنصره، وجاءه هنا في المدينة – حرسها الله – وأنشده رجزه المشهور ٥ :
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا٦ *** ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريش أخلفوك المواعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجي أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
فادع عباد الله يأتوا مددا *** فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل الشمس يجري صعدا *** في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا *** هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا *** فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال صلى الله عليه وسلم :﴿ لا نصرت إن لم أنصركم ﴾ ٧.
وكان ذلك سبب غزوة [ الفتح ] ٨. هكذا قالوا إن هذا هو الذي جاءت فيه هذه الآيات، وأن قريشا وبنو الديل من بني بكر بن كنانة نقضوا وبقيت كنانة الآخرين، وهم : بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، وبنو مدلج، وبنو ضمرة لم ينقضوا العهود كما سيأتي في قوله :﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ [ التوبة : آية ٧ ] هكذا قالوا أنها نزلت قبل غزوة الفتح.
والتحقيق أنها ما نزلت بعد غزوة تبوك، وأرسل النبي بها أبا بكر ( رضي الله عنه ) ينادي في الناس بها، ثم أتبعه علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ).
ومعنى الآية الكريمة : هذه براءة من الله، أو براءة من الله إلى الذين عاهدتم من المشركين جميعا. يعني : من كان له منهم عهد أقل من أربعة أشهر، ومن لا عهد له أصلا، ومن كان له عهد مطلق، ومن له عهد مؤقت إلا أنه خيف منه أن ينقض ؛ لأن المعاهد من المشركين إذا خيف منه النقض وظهرت منه علامات ذلك وبوادره وجب إعلامه بنبذ العهد إليه ونقض عهده، كما قدمناه في سورة الأنفال في قوله تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ﴾ [ الأنفال : آية ٥٨ ] فعرفنا أن قوله :﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ﴾ [ التوبة : آية ١ ] صادق بمن لهم عهد غير مؤقت، وعهد مؤقت بأقل من أربعة أشهر، وعهد مؤقت بأكثر منها إن خيفت منهم الخيانة، بقي قسم واحد هو الآتي استثناؤه مرتين وهو من كان له عهد مؤقت معين محدد بوقت معين أكثر من أربعة أشهر، وهو ثابت على عهده، فهؤلاء باقون على عهدهم على التحقيق الذي لا شك فيه. وما قاله بعض العلماء من نقض عهودهم جميعا ؛ خلاف التحقيق ؛ لأن الله يقول :﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموه إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ [ التوبة : آية ٤ ] ويقول :﴿ إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام فما استقموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ [ التوبة : آية ٧ ] كما سيأتي إيضاحه ؛ لأن المراد بالذين عاهدوه عند المسجد الحرام عند الحديبية وأطلق علها : " المسجد الحرام " قال بعض العلماء : لأن بعضها الذي وقعت فيه المعاهدة كان من الحرم، والمسجد يطلق غالبا على جميع الحرم، وسيأتي هناك – إن شاء الله – أن هؤلاء الذين عاهدوا دخل فيهم قبائل من كنانة مع قريش، وأن الذي غدر : بنو الديل من كنانة فقط وقريش، وبقي قبائل كنانة الأخرى ثابتة على عهدها. وهذا معنى قوله :﴿ إلى الذين عهدتم من المشركين ﴾ [ التوبة : آية ١ ].
١ انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٥)، الدر المصون (٦/ ٥)..
٢ هذا هو الشطر الثاني من أحد أبيات الخلاصة ص ١٧، وشطره الأول:
"وهـــل فـــتـــى فــــيــــكـــم فـــمـــا خـــل لنــا "........................................

٣ انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٦)، القرطبي (٨/ ٦٤)، الأضواء (٢/ ٤٢٨)..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ٦٤ - ٦٥)..
٥ مضى عند نفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال، ووقع فيها هنا تقديم وتأخير كما وقع في الوضع السابق. وقد أثبتنا نص الأبيات هناك في الهامش فليراجع. انظر: القرطبي (٨/ ٦٥)..
٦ في ابن هشام: (١٢٣٥): "قد كمتن ولدا وكنا والدا"..
٧ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال..
٨ في الأصل: "بدر" وهو سبق لسان،.
ثم هنا التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي فقولوا للذين عاهدتم من المشركين : سيحوا في الأرض أربعة أشهر ( سيحوا في الأرض ) معناه : اذهبوا في أرض الله مقبلين ومدبرين حيث ما أردتم، وأين أحببتم أن تتوجهوا، آمين لا خوف عليكم، لا ينالكم منا سوء ؛ لأنها أشهر أمان وإمهال لا ينالكم منا فيها سوء.
والحكمة في أن الله ( جل وعلا ) أجلهم هذه الأشهر الأربة ليروا رأيهم، ويتأملوا في شأنهم لعل الله أن يهديهم إلى صوابهم. وهذا معنى قوله :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ أي : اذهبوا في جوانب أرض الله مقبلين ومدبرين آمنين، لا خوف عليكم في مدة هذه الأشهر الأربعة.
ثم قال :﴿ واعلموا ﴾ أي : أيقنوا علما يقينا لا يتطرق إليه الشك ﴿ أنكم غير معجزي الله ﴾ ﴿ معجزي ﴾ أصله : معجزين بالنون، فحذفت النون للإضافة. والمعجزون جمع المعجز، وهو اسم فاعل ( أعجزه ) العرب تقول : " أعجزه يعجزه " إذا صار غير قادر عليه. أنكم لا تفوتونه ولا تتعذرون عليه، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وقهره، هو قادر عليكم واعلموا أيضا ﴿ أن الله ﴾ جل وعلا ﴿ مخزي الكفرين ﴾ [ التوبة : آية ٢ ] المخزي : اسم فاعل أخزى، ومعنى إخزائه للكافرين : أنه مذلهم ومهينهم، يذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، ويهينهم بذلك وفي الآخرة بعذاب الله، كما سيأتي في قوله :﴿ قتلوهم يعذبهم الله وبأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ( ١٤ ) ﴾ الآية [ التوبة : آية ١٤ ] وهذا معنى قوله :﴿ وأن الله مخزي الكفرين ﴾ [ التوبة : ٢ ].
ثم قال تعالى :﴿ وأذن من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ﴿ وأذن من الله ورسوله إلى الناس ﴾ جملة معطوفة على جملة ؛ لأن جملة :﴿ وأذن من الله ورسوله إلى الناس ﴾ [ التوبة : آية ٣ ] معطوفة على قوله :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ( ١ ) ﴾ [ التوبة : آية ١ ] ويجوز في قوله :﴿ وأذان من الله ﴾ من الإعراب الوجهان الجائزان في ( براءة ) ١ يجوز أن يكون ( أذان ) خبر مبتدأ محذوف، أي : هذا أذان من الله. ويجوز أن يكون ( أذان ) مبتدأ سوغ الابتداء فيه بالنكرة كونها وصفت بقوله :﴿ من الله ورسوله ﴾.
والأذان معناه : الإعلام، وهو اسم مصدر ( أذن ) ( يؤذن ) ( أذانا )، ( وآذن ) ( يوذن ) ( أذانا ) والعرب ربما جعلت ( الفعال ) قائما مقام " التفعيل " ؛ لأن العرب تقول : آذنته أعلمته، وأذنت أعلمت. ومعروف في علم التصريف أن ( فعل ) بالتضعيف ينقاس مصدرها على ( التفعيل )، ولكنه يسمع كثيرا إتيان المصدر منها على ( الفعال ) كما قالوا : سلم عليه سلاما، أي " تسليما. وكلمه كلاما، أي : تكليما. وطلقها طلاقا، وبينه بيانا. إلى غير ذلك من الأوزان. وكذلك ربما جاء ( الفعال ) في موضع ( الإفعال ) كقول العرب : آمنته أومنه إيمانا. إذا جعلته في أمان. فإنهم يقولون : آمنه أمانا، وآذنه أذانا، أي : أعلمه إعلاما. والأذان في لغة العرب : الإعلام. قال بعض العلماء : هو الإعلام المقترن بنداء ؛ لأن اشتقاقه من الأذن ؛ لأن النداء يقع في الأذن فيحصل بذلك الفهم والإعلام، ومنه الأذان للصلاة ؛ لأنه إعلام بها بنداء. وكون الأذان بمعنى الإعلام معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الحارث بن حلزة ٢ :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
يعني أعلمتنا ببينها.
﴿ وأذان من الله ﴾ هذا الأذان كائن مبدؤه ورسوله ﴿ إلى ﴾ جميع ﴿ الناس يوم الحج الأكبر ﴾ [ التوبة : آية ٣ ] أصل الحج في لغة العرب جرى على ألسنة العلماء أنهم يقولون : الحج في اللغة القصد ٣. والحج في لغة العرب أخص من مطلق القصد ؛ لأن الحج في اللغة لا يكاد تطلقه العرب إلا على قصد متكرر لأهمية في المقصود. فكل حج قصد، وليس كل قصد حجا ؛ لأن الحج هو القصد المتكرر لأجل الأهمية الكائنة في المقصود. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول المخبل السعيدي حيث قال ٤ :
ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخطاني ريب المنون لأكبرا
وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
" سبه " يعني به عمامته، أي : يقصدون عمامته – عبر بها عن شخصه – قصدا كثيرا متكررا لأهمية ما يرونه عنده من النوال هذا أصل الحج.
ومعروف أن الحج في اصطلاح الشرع ٥ : هو الأفعال والأقوال التي تقال في المنسك المعروف.
قال بعض العلماء : وإنما قال له الأكبر ؛ لأن العرب ربما كانوا يقولون : حج أصغر، وحج أكبر، يعنون الأصغر : العمرة لنقصان أعمالها عن أعمال الحج ٦.
واختلف في يوم الحج الأكبر ٧ فذهبت جماعة من العلماء إلى أن المراد به يوم عرفة. وعليه فمبدأ النداء بالأربعة الأشهر كائن ابتداء تأجيله من يوم عرفة. وقالت جماعة آخرون : هو يوم النحر. وخلاف العلماء في يوم الحج الأكبر هل هو يوم عرفة أو يوم النحر مشهور معروف، وكان بعض المحققين يختار أنه يوم النحر لأمور، منها : أنه جاءت بذلك روايات صحيحة، كرواية أبي هريرة في صحيح البخاري ٨. وقالوا : ولأن أكثر أفعال الحج إنما تكون يوم النحر ؛ لأنه هو اليوم الذي يطاف فيه طواف الإفاضة، وينحر فيه، ويحلق فيه، ويقضى فيه التفث، وأن يوم عرفة لا يختص بشيء خاص من مناسك الحج ؛ لأن الوقوف وإن كان ركنا من أركان الحج فنفس اليوم لا يختص به عن الليلة لإجماع العلماء على أن من أركان الحج فنفس اليوم لا يختص به عن الليلة لإجماع العلماء على أن من وقف بعرفة ليلة النحر أن ذلك يجزئه، بعضهم يقول : يلزمه دم لفوات النهار، وبعضهم يقول : حجة كامل – كمالك وأصحابه – ولا دم عليه. وقولهم : " الحج عرفة "، قالوا : لا يرد على هذا ؛ لأن عرفة شامل لليل والنهار، فالوقوف الذي هو الركن الأعظم في الحج يكون في الليل، ولا يشترط أن يكون في النهار، والكلام في خصوص اليوم.
وقال بعض العلماء : يوم الحج الأكبر هو جميع أيام الحج ؛ لأن العرب تقول : يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم بعاث، وهو زمن يتناول أياما معدودوة متعددة، وأنه يشمل الجميع. وهذا أيضا لا بأس به.
وجمهور العلماء على أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة هي من يوم النحر، وأن انقضاؤها في العاشر من ربيع الثاني ؛ لأن هذه الأشهر الأربعة عشرون منها من ذي الحجة من يوم الحج الأكبر، ثم منها المحرم كاملا، وصفر كاملا، وربيع الأول كاملا، وعشر من ربيع الثاني، فتتم هنالك الأشهر الأربعة، وعلى هذا جماهير العلماء.
وقد اشتهر قول هنا عن الزهري لا شك في غلطه، وإن كان قائله جليلا ؛ لأنهم ذكروا عن الزهري ( رحمه الله ) أن أول هذه الأشهر الأربع أنه من ابتداء شوال، وأنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وتنتهي بانتهاء المحرم ٩. وهذا لا يتمشى مع أن ابتداء الأذان صرح الله بأنه يوم الحج الأكبر.
فالتحقيق هو ما قاله الجمهور لا ما قاله الزهري ( رحمه الله )، إن صح عنه فهو غلط منه. وهذا معنى قوله :﴿ وأذن من الله ورسوله إلى الناس ﴾ عامة ﴿ يوم الحج الأكبر ﴾ هذا الإعلام هو إعلام بأن الله بريء من المشركين، ورسوله بريء منهم أيضا، فالله بريء من المشركين بريء من ذمتهم وعهدهم، لا عهد لهم عليه يأمر به، ولم يلتزم لهم بشيء، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال لهم :﴿ فإن تبتم ﴾ عن ذنوبكم وشرككم ﴿ فهو خير لكم ﴾ وصيغة التفضيل هنا ليست على بابها ؛ لأن الكفر بالله لا خير فيه أصلا، فلا معنى للتفضيل فيه ﴿ فهو خير لكم وإن توليتم ﴾ أي : ثبتم على كفركم وما أنتم عليه من الشرك.
﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ فسرناه الآن.
﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ اعلم أن التحقيق أن ( البشارة ) في لغة العرب هي الإخبار بما يسر، والإخبار بما يسوء أيضا. فمن أخبرته بما يسره فقد بشرته، ومن أخبرته بما يسوؤه فقد بشرته ١٠ ؛ ولذا قال :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : الآية ٢١ ] والقرآن في غاية الفصاحة والإعجاز، وإطلاق البشارة على الإخبار بما يسر معنى معروف في كلام العرب، ومنه قوله الشاعر ١١ :
أبشرني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الثاني ١٢ :
يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلك من بشير
هذا هو التحقيق أنها أساليب عربية، وأن البشارة تغلب للإخبار بما يسر، وأنها تطلق على الإخبار بما يسوء، هذا هو الظاهر، ومعلوم أن علماء البلاغة يقولون : إن البشارة حقيقة في الإخبار بما يسر، وأما البشارة بما يسوء فهي مما يسمونه الاستعارة ( العنادية ) المعروفة عندهم، وهي منقسمة إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف مقرر في علم البيان عند أهله ١٣.
ونحن نقول دائما : إن مثل هذا أساليب عربية نطقت بها العرب، وكلها أسلوب عربي فصيح في محله، هذا معنى قوله :﴿ فبشرهم بعذاب ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] الظاهر أن تنكير العذاب هنا للتفخيم والتعظيم، ومن المعاني التي يستجلب لها التنكير : التفخيم والتعظيم، ويدل على هذا قوله :﴿ أليم ﴾ والأليم :( فعيل ) بمعنى ( مفعل ) أي : مؤلم. واعلم أن إتيان ( الفعيل ) بمعنى ( المفعل ) لا يكون في اللغة بمعنى ( المفعل ) فهو خلاف التحقيق ١٤. فمعنى أليم : مؤلم، أي : شديد الألم، وإتيان ( الفعيل ) بمعنى ( المفعل ) أسلوب عربي معروف يكثر في كتاب الله وفي لغة العرب، ومن إتيانه في القرآن قوله :﴿ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ [ سبأ : آية ٤٦ ] وقوله :﴿ نذير ﴾ أي : منذر فهو ( فعيل ) بمعنى ( مفعل ) ﴿ أليم ﴾. بمعنى مؤلم. وقوله : ضرب وجيع. بمعنى : موجع، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وله أمثلة في القرآن كقوله :﴿ بديع السموت ﴾ [ البقرة : آية ١١٧ ] أي : مبدعهما ﴿ إني لكم نذير ﴾ أي : منذر، ومن نظائره من كلام العرب قول غيلان بن عقبة ذي الرمة ١٥ :
ويرفع من صدر شمردلات يصك وجوهها وهج أليم
وقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي ( رضي الله عنه ) ١٦ :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
فقوله : " السميع " يعني : المسمع. وقوله في قصيدته هذه ١٧ :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أي : ضرب موجع. وهذا معنى قوله :﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : آية ٣ ].
١ انظر: الدر المصون (٦/ ٦)..
٢ مضى عند تفسير الآية (١٦٨) من سورة الأنعام..
٣ انظر: القاموس (مادة: الحج) ٢٣٤، المفردات (مادة: حج) ٢١٨، المصباح المنير (مادة: حج) ص ٤٧..
٤ البيتان في المشوف المعلم (١/ ٢٣١)، ولفظ البيت الأول فيه:
ألـــم تــعـــلـــمـــي يـــا أم عــــمـــرة أنـــنــــي تـــخــــطـــانـــــي ريــــــب الــــزمـــــان لأكــــــبــــرا
.

٥ انظر: القاموس الفقهي: ص (٧٦ - ٧٧)..
٦ انظر: التمهيد (١/ ١٢٥)، ابن جرير (١٤/ ١٢٩)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٤٧)، والبغوي (٢/ ٢٦٨)، وابن عطية (٨/ ١٢٨)، والمجموع (٨/ ٢٢٣)، وابن كثير (٢/ ٣٣٢)، والدر المنثور (٨/ ١٢٨)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص ١٢٢..
٧ انظر سنن سعيد بن منصور (٥/ ٢٣٦ - ٢٤١)، التمهيد (١/ ١٢٥)، ابن جرير (١٤/ ١١٣)، القرطبي (٨/ ٦٩)، المجموع (٨/ ٢٢٣)، تفسير البغوي (٢/ ٢٦٨)، تفسير ابن عطية (٨/ ١٢٧)، تهذيب السنن لابن القيم (٢/ ٤٠٦)، زاد المعاد (١/ ٥٤)، تفسير ابن كثير (٢/ ٣٣٢ - ٣٣٥)، فتح الباري (٨/ ٣٢١)، الدر المنثور (٣/ ٢١١)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص ١١٦..
٨ ولفظه: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى...." البخاري في التفسير، باب ﴿فسيحوا في الأرض أربعو أشهر واعلموا....﴾ حديث رقم: (٤٦٥٥) (٨/ ٣١٧)..
٩ أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٠١)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٤٧)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (٢/ ٤١٢)، وذكره السيوطي في الدر (٣/ ٢١١) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام..
١١ السابق..
١٢ السابق..
١٣ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام..
١٤ مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف..
١٥ السابق..
١٦ مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف..
١٧ السابق..
وقوله تعالى :﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ﴾ [ التوبة : آية ٤ ].
قوله :﴿ إلا الذين ﴾ استثناء من قوله :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ( ١ ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ [ التوبة : الآيتان ١، ٢ ] هذه البراءة والتأجيل بخصوص أربعة أشهر لجميع الكفار المعاهدين وغيرهم ﴿ إلا الذين عهدتم ﴾ [ التوبة : آية ٤ ] ثم وفوا لكم بالعهود ولم ينقصوكم شيئا، وكان بعض العلماء يقولون ١ : هؤلاء أهل مكة، ومعلوم أن أهل مكة نقضوا. والتحقيق أنها في قبائل من كنانة بقوا على عهدهم ولم ينكثوا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفي لهم بعهدهم حتى تنتهي مدتهم، ومعلوم أن صلح الحديبية قد عاهد النبي فيه قبائل من كنانة، ذكرنا أن منهم بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبني ضمرة، وبني مدلج، وبني جذيمة بن عامر، وقد قدمنا في تفسير سورة النساء في الكلام على قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ( ٨٩ ) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثق ﴾ [ النساء : الآيتان ٨٩، ٩٠ ] إن هؤلاء القوم الذين بينكم وبينهم ميثاق الذين شرطوا أن من وصل إليهم فحكمه كحكمهم، منهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم حيث عقد العهد لبني مدلج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء القبائل كانت أربع قبائل من كنانة، وكان غيرهم عقد ذلك، كبني أسلم عقد لهم الصلح هلال بن عويمر الأسلمي، فهؤلاء لم ينقضوا.
وجرى على ألسنة علماء التفسير٢ أنه في هذه الآية الكريمة وهي قوله :﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ [ التوبة : آية ٤ ] وفي الآية الآتية :﴿ إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام فما استقموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ [ التوبة : آية ٧ ] يقولون : هؤلاء الذين ثبتوا وأمر النبي أن يفي لهم بعهدهم حتى تنقضي مدتهم هم خصوص بني ضمرة من قبائل بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومنهم عمرو بن أمية الضمري المشهور. والتحقيق أن قبائل كنانة لم يعرف أنه نقض منهم العهد إلا بنو الديل هم وقريش، أما قبائلهم الأخرى كبني جذيمة بن عامر وبني مدلج وبني ضمرة فلا يعلم أنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن جرى على ألسنة العلماء أنها في خصوص بني ضمرة دون غيرهم من قبائل كنانة، ومعنى الآية الكريمة : هذا الحكم الذي ذكرنا من نقض العهود وتأجيلهم أربعة أشهر فقط، كل هذا في جميع المعاهدين ﴿ إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ ﴿ لم ينقصوكم ﴾ من الشروط التي اشترطتم عليهم شيئا، ولم يخيسوا بشيء من عهدكم، ولم ينقصوكم مالا ولا نفسا ولا دما، بل ثبتوا على عهدهم ولم ينقضوا، ولم يظاهروا عليكم أحدا، ولم يعينوا عليكم أحدا كقريش الذين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ﴿ فأتموا إليهم عهدهم ﴾ ولا تعدوا عليهم حتى ينتهي عهدهم كاملا إلى مدتهم التي اتفقتم أنتم وهم عليها مدة الصلح والمهادنة بينكم حتى تنقضي.
قال بعض العلماء : كان وقت نزول هذه البراءة بقي من عهد هؤلاء تسعة أشهر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي لهم بها ٣. وهذا معنى قوله :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ﴾ [ التوبة : آية ٤ ] ومن المتقين الذين يوفون بعهدهم ولا ينقضونه، فدلت الآية على أن الوفاء بالعهود وعدم النكث والنقض أنه من تقوى الله ( جل وعلا ) وهو ككل.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٤ أن المتقين جمع تصحيح للمتقي، وأن أصل هذه المادة من ( وقى )، ففاء هذه المادة واو، وعينها قاف، ولامها ياء. مادة التقوى فاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء، فهي مما يسميه الصرفيون " اللفيف المفروق " هذا أصلها، إلا أنها دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب : اقترب، وفي كسب : اكتسب، وفي قطع : اقتطع، وفي " وقى " اوتقى.
والقاعدة المقررة في التصريف : أن كل فعل ( مثال ) – أعني معتل الفاء بالواو – إذا دخله تاء الافتعال وجب إبدال الواو تاء، وإدغام التاء في التاء، فقيل فيها : " اتقى ". هكذا ٥.
وأصل الاتقاء في لغة العرب ٦ : هو أن تتخذ وقاية تكون بينك وبين ما تكرهه فتقيك منه. تقول العرب : اتقيت الرمضاء بنعلي، واتقيت السيوف بمجني، ومنه قول نابغة ذبيان ٧ :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي : جعلت يدها بيننا وبين وجهها. وتفسير من قال : اتقتنا : استقبلتنا. تفسير بالمعنى الإجمالي لا بالحقيقة. وهذا أصله معنى التقوى.
وهي في اصطلاح الشرع : أن يجعل العبد وقاية بينه وبين عذاب ربه، هذه الوقاية مركبة من شيئين هما : امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله ٨، والوفاء بالعهود من ذلك ؛ لأن الوفاء بالعهود امتثال لأمر الله، وترك النقض انتهاء عما نهى الله عنه. وهذا معنى قوله :﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ [ التوبة : آية ٤ ].
١ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٣)..
٢ انظر: القرطبي (٨/ ٧١)..
٣ انظر: البحر المحيط (٥/ ٨)..
٤ مضى عند تفسير الآية (٧٨) من سورة البقرة..
٥ السابق..
٦ السابق..
٧ السابق..
٨ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( ٥ ) ﴾ [ التوبة ].
اختلف العلماء في المراد بهذه الأشهر الحرم ١ : فقال بعض العلماء : المراد بها الأشهر الحرم المعروفة الآتي ذكرها في قوله في هذه السورة الكريمة :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتب الله يوم خلق السموت والأرض منها أربعة حرم ﴾ [ التوبة : آية ٣٦ ] وهذه الأشهر الأربة الحرم ثلاثة منها سرد وواحد منها فرد، فثلاثتها المتتابعة هي : ذو القعدى، وذو الحجة، والمحرم، وآخر : رجب الفرد. هذه هي الأشهر الحرم.
وقال بعض العلماء : هذه هي المراد هنا في قوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ وعلى هذا القول فالباقي عن انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النداء بهذه الآيات من أول براءة في موسم الحج عام تسع، الباقي منها خمسون يوما فقط، وهي العشرون الباقية من ذي الحجة وتمام المحرم، فبانقضاء الخمسين تنتهي على هذا القول. / وهذا القول قاله بعض العلماء، وهو مبني على أن تحريم الأشهر الحرم لم ينسخ، ومعلوم أن العلماء مختلفون في تحريم الأشهر الأربعة المذكورة هل هو باق إلى الآن أو نسخ ٢ ؟ فكانت جماعة كثيرة من العلماء يقولون : إنه منسوخ. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الزمن الذي حاصر فيه ثقيفا في غزوة الطائف كان من ذي القعدة ٣. قالوا : فلو لم ينسخ تحريم الأشهر الحرم لكف وانصرف عنهم بإهلال ذي القعدة. وكنا نرى هذا القول أصوب، مكثنا كثيرا من الزمن ونحن ننصر هذا القول ونقرر أنه الأصوب، ثم ظهر لنا بعد ذلك أن أصوب القولين وأولاهما بالصواب أن تحريم الأشهر الحرم باق لم ينسخ. ومن أصرح الأدلة في ذلك : أنه دلت عليه الأحاديث الصحاح في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوله ( صلوات الله وسلامه عليه ) في حجة الوداع قبل موته بنحو ثمانين يوما قوله : " إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " ٤ نص دال على أن تحريم الأشهر الحرم باق لم ينسخ، وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
القول الثاني في هذه الآية الكريمة : أن المراد بقوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ أنها أشهر الإمهال الأربعة التي قدمنا بالأمس أن التحقيق أن أولها من يوم النحر من ذي الحجة عام تسع، وأنها تنقضي بالعشر من ربيع الثاني من ذلك العام، وإنما قيل لها " حرم " لأن الله حرم فيها قتال المشركين، وقال لهم فيها : سيحوا في الأرض أربعة أشهر، أي : آمنين مدبرين ومقبلين، قتالكم والتعرض لكم حرام. وهذا أظهر القولين هنا ؛ لأن اللام في قوله :﴿ الأشهر الحرم ﴾ [ التوبة : آية ٥ ] الألف واللام فيها للعهد، والأشهر الحرم المذكورة لم تكن معهودة هنا، والمعهود هنا هي الأربعة المذكورة في قوله :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ [ التوبة : آية ٢ ] وعلى هذا فانسلاخها هو ما قدمنا بعد انتهاء العشر الأول من ربيع الثاني كما لا يخفى. وقد بينا أن قول الزهري ( رحمه الله ) أن ابتداء أشهر الإمهال من شوال ٥ [ أنه إن صح عنه فهو غلط منه. والصحيح قول الجمهور، وهو أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة من يوم النحر، وتنقضي في اليوم العاشر من ربيع الثاني ].
وانسلاخ الأشهر : معناه انقضاء مدتها، يقول العرب : " انسلخ الشهر، وانسلخ العام " إذا مضى زمانه، وسلخته : إذا كنت في آخر يوم من أيامه وقد مضى علي. وهذا معروف في كلام العرب ٦، ومنه قول لبيد في معلقته ٧ :
حتى إذا سلخا جمادى ستة جزءا فطال صيامه وصيامها
والأشهر : جمع شهر. و " الأفعل " جمع قلة ؛ لأنها أربعة.
والحرم : جمع حرام، وهو الصفة المشبهة من حرم الشيء فهو حرام.
وإنما قيل للواحد منها " حرام " لأن الله حرم فيه القتال ٨. وهذا معنى قوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ على القولين المذكورين ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ الذين يشركون بالله ( جل وعلا )، اقتلهم كلهم ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ ( حيث ) : كلمة تدل على المكان، كما تدل ( حين ) على الزمان، وربما ضمنت معنى الشرط، ويجوز فيها لغة لا قراءة إبدال يائها واوا وتثليث ثائها ٩.
ومعنى ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ : في أي مكان من أمكنة الأرض وجدتموهم فاقتلوهم. وقال بعض العلماء : هذا ما لم يكونوا في الحرم ١٠. وقال : عموم هذه الآية يخصصه عموم قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكفرين ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ]. وعلى هذا القول يكون القتال لا يجوز في الحرم إلا إذا بدؤوا بالقتال. بهذا قال جماعة من العلماء. وقال جماهير من أهل العلم : إنهم يقتلون في كل مكان، كما دل عليه عموم ( حيث ) هنا، وإن كانوا في الحرم. قالوا : أما آية :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ] فإنها كانت من مراحل تشريع القتال. وإيضاح هذا المعنى : انه جرت العادة في كتاب الله أن الله ( تبارك وتعالى ) إذا أراد أن يشرع أمرا عظيما شاقا تشريعه على النفوس إنما يشرعه على سبيل التدريج لا مرة واحدة ؛ لأنه حكيم عليم. وهذا أمثلته كثيرة : فمنها : أنه لما أراد تحريم الخمر وكانت – قبحها الله – تصعب مفارقتها على من ألفها وتعهدها حرمها تدريجيا، ذمها أولا فقال :﴿ يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : آية ٢١٩ ] فبدأ بعيبها، وأن فيها الإثم الكبير، وقال :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ لتبتدئ نفس المؤمن تشمئز منها، ثم بعد ذلك حرمها في أوقات الصلاة، يعني أنها حرمت عليهم في بعض الأوقات دون بعض، فحرم عليهم شربها في الوقت التي تقرب فيه أوقات الصلاة، وكانوا إذا لا يشربونها إلا من بعد صلاة الصبح ؛ لأن من شربها بعد صلاة الصبح يصحو قبل صلاة الظهر، وكذلك بعد صلاة العشاء ؛ لأن من شربها بعد صلاة العشاء يصحو عادة قبل صلاة الصبح، أما غير هذا من الأوقات فحرم عليهم شربها، كما قال تعالى :﴿ لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ [ النساء : آية ٤٣ ]. ثم لما أنست نفوسهم بتحريمها في الجملة، وعيبها أولا، حرمهاا تحريما باتا في سورة المائدة بقوله :﴿ رجس من عمل الشيطن فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ [ المائدة : آية ٩٠ ] وعلق الفلاح على اجتنابه، فكان هذا أسهل للتدريج الذي وقع في تحريمها.
وكذلك لما أراد تشريع الصوم – والصوم عبادة شاقة على النفوس ؛ لأن فيها منع البطون والفروج عن شهواتها – شرعها تدريجا : كان أول ما بدئ : وجوب الصوم بثلاثة أيام من كل شهر مثلا، ثم لما فرض رمضان فرض أولا على سبيل الخيار بين الصوم وبين الإطعام كما تقدم في قوله :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ [ البقة : آية ١٨٤ ] فلما أنست النفوس بالصوم في الجملة وتمرنت عليه أوجب الصوم إيجابا تاما بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ [ البقرة : آية ١٨٥ ].
وكذلك القتال – وهو محل الشاهد – لما كان عظيما شاقا على النفوس ؛ لما فيه من تعريض المهج والأموال للتلف أذن فيه أولا من غير أمر به في قوله :﴿ أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( ٣٩ ) ﴾ [ الحج : آية ٣٩ ]. أذن فيه أولا ثم بعد ذلك أوجبه في حال دون حال، فأوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم – وهو محل الشاهد – في قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ] ثم لما استأنست النفوس بالقتال وتمرنت عليه أوجبه إيجابا باتا عاما بقوله هنا :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : آية ٥ ].
فهذه الآية الكريمة قوله :﴿ المشركين ﴾ هو صيغة عموم، فالألف واللام فيه تدل على العموم ؛ لأن ( المشركين ) : جمع ( المشرك )، وهو اسم فاعل، والألف واللام الداخلتان على اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة – على أحد القولين – يقول علماء العربية : إنها موصولة، والموصولات من صيغ العموم كما تقرر في الأصول ١١. وعلى القول بأن هذا اللفظ قد تتناسى وصفيته فتكون الصفة غير صريحة فيؤول إلى الأسماء – أسماء الأجناس الجامدة – فيكون عموما، فهو لفظ عام على كلا التقديرين يصدق بكل مشرك، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين تخصيص هذا العموم بنهيه عن بعض المشركين، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وكذلك الرهبان في الصوامع نهى عن قتلهم، وكذلك الشيوخ الفانية نهى عن قتلهم، إلا إذا كان الشيخ الفاني يستعان برأيه فإنه يقتل ؛ لأن رأيه عظيم على المسلمين ؛ ولأجل ذلك قتل الصحابة دريد بن الصمة يوم حنين، وكان ذا شيبة أعمى للاستعانة برأيه ؛ لأنه وضع لهم الرأي الحكيم السديد، وخالفه مالك بن عوف النصري كما سيأتي إيضاحه في غزوة حنين في هذه السورة الكريمة. وكذلك المعاهدون.
وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء ١٢ : قد لا تتناول أهل الكتاب ؛ لأن آيتهم مذكورة في هذه السورة ؛ لأن الله يقول :﴿ قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون ( ٢٩ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ] فالكتابي إذا أعطى الجزية يخرج من عموم هذه الآية.
واعلم أن بعض العلماء ١٣ قالوا : إن الكتابي لا يدخل في اسم المشركين : قالوا : لأن الله غاير بينهما في آيات كثيرة كقوله :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتب والمشركين ﴾ [ البينة : آية ١ ] فعطف المشركين على أهل الكتاب، وقال :﴿ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾ [ البينة : آية ٦ ] وقال :﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا ﴾ [ آل عمران : آية ١٨٦ ]. وقال تعالى :﴿ لتجدن أشد الناس عدوة للذين ءامنوا اليهود ﴾ الآية [ المائدة : آية ٨٢ ] فدلت هذه الآية على المغايرة بين المشركين وأهل الكتاب، والتحقيق أن الكتابيين نوع من المشركين، وقد أوضح الله في هذه الكريمة أن أهل الكتاب من المشركين حيث قال فيهم :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها وحدا لا إله إلا هو سبحنه عما يشركون ( ٣١ ) ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ] فصرح تعالى بأنهم مشركون إلا أنهم نوع خاص من المشركين، ربما أدخل في عمومهم، وربما أفرد منهم، كأنه غير داخل فيهم ؛ للفوارق التي بين الكتابيين وعبدة الأصنام كما هو معروف، وهذا معنى قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : آية ٥ ].
قال بعض العلماء : يؤخذ من عموم هذه الآية أن المسلم لو قدر على اغتيال الحربي لجاز له أن يغتاله.
وأخذ بعض العلماء من هذا قالوا : إذا لم يقدر عليهم إلا بالقتل بالنار كالضرب بمنجنيق من بعيد ونحو ذلك، أن هذا يتناوله العموم ١٤. وبعض العلماء يقول : هذا مثله، وقد نهى صلى الله علينه وسلم عن المثلة ١٥. وهذا معنى قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ أي : في أي مكان من أمكنة الأرض وجدتموهم.
وقوله :﴿ وخذوهم ﴾ يعني : بالأسر، فمعنى ﴿ وخذوهم ﴾ : أؤسروهم.
وهذه الآية الكريمة من براءة – وهي من آخر ما نزل من القرآن – تدل على أنه يجوز قتل المشركين وأخذهم بال
١ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٤)، القرطبي (٨/ ٧٢)، الأضواء (٢/ ٤٣٠)..
٢ انظر الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص ٢٠٦، الناسخ والمنسوخ للنحاس (١/ ٥٣٥)، ابن جرير (٤/ ٣١٣)، القرطبي (٣/ ٤٣)، (٨/ ١٣٤)، ابن كثير (٢/ ٣٥٥)..
٣ البخاري في المغازي، باب غزوة الطائف في شوال. حديث رقم: (٤٣٢٥) (٨/ ٤٤). ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة الطائف. حديث رقم: (١٧٧٨) (٣/ ١٤٠٢) وليس في رواية الصحيحين ما يدل على أن بعض الحصار وقع في ذي القعدة. ولكن أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح (٨/ ٤٤)..
٤ رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم)، منهم:
ابن عباس، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى. حديث رقم: (١٧٣٩) (٣/ ٥٧٣) وطرفه (٧٠٧٩).
أبو بكر (رضي الله عنه)، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى. حديث رقم: (١٧٤١) (٣/ ٥٧٣) وأطرافه (٦٧، ١٠٥، ٣١٩٧، ٤٤٠٦، ٥٥٥٠، ٧٠٧٨، ٧٤٤٧) ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. حديث رقم: (١٦٧٩) (٣/ ١٣٠٥).
عبد الله بن عمرو، عند البخاري في الحدود، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق. حديث رقم: (٦٧٨٥) (١٢/ ٨٥) وأطرافه (١٧٤٢، ٤٤٠٣، ٦٠٤٣، ٦١٦٦، ٦٧٦٨، ٧٠٧٧) ومسلم في الإيمان، باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا...." حديث رقم (٦٦) (١/ ٨٢).
سليمان ين عمرو بن الأحوص عن أبيه. عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة. حديث رقم: (٣٠٨٧) (٥/ ٢٧٣). وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (٢١٥٩). وقال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحذيم بن عمرو السعدي..

٥ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
٦ انظر ابن جرير (١٤/ ١٣٣ - ١٣٤)، القرطبي (٨/ ٧٢)، الدر المصون (٦/ ١١)..
٧ شرج القصائد المشهورات (١/ ١٤٤)..
٨ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٣٦)، القرطبي (٨/ ٧٢)..
٩ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.
١٠ انظر: القرطبي (٢/ ٣٥١، ٨/ ٧٣)..
١١ مضى عند تفسير الآية (١٣١) من سورة الأنعام..
١٢ انظر: القرطبي (٨/ ٧٢)..
١٣ السابق..
١٤ انظر: السابق (٨/ ٧٢)..
١٥ أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة. حديث رقم: (٥٥١٦) (٩/ ٦٤٣) من حديث عبد الله بن زيد (رضي الله عنه). وأخرجه في المغازي (باب قصة عكل وعرينة) عن قتادة – بلاغا – "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة". وقد وصله الحافظ (رحمه الله) في الفتح (٧/ ٤٥٩). وفي الباب أحاديث كثيرة رواها جماعة من الصحابة منهم: يعلى بن مرة، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، والحكم بن عمير، وعابد بن قرط، وعلى بن أبي طالب، وأبو أيوب الأنصاري، وابن عمر، وزيد بن خالد،" وأسماء بنت أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وغيرهم (رضي الله عنهم أجمعين)..
﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلم الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ( ٦ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦ ].
( إن ) هي الشرطية. وقوله :﴿ أحد ﴾ : يقول علماء العربية : إنه مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده. أي : وإن استجارك أحد من المشركين ؛ لأن ﴿ إن ﴾ أداة شرط لا تتولى إلا الجمل الفعلية، فلا تتولى الجمل الاسمية ؛ ولذا يقدر فعل بعدها. ف﴿ أحد ﴾ عند علماء العربية فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده ١.
والأحد معناه : الواحد، وأصل همزته مبدلة من واو، أصل الأحد :( وحد ) بواو ؛ لأن هذه المادة أصلها واوية الفاء، وكثيرا ما تقول العرب في الوحد : الأحد، وربما نطقت بلفظ الوحد على أصله ٢. ومن ذلك قول نابغة ذبيان ٣ :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
وقوله :﴿ استجارك ﴾ قد قدمنا أن السين والتاء للطلب فمن معاني ( استفعل ) أن السين والتاء للطلب، كقولهم : " استغفر ربه " أي : طلبه المغفرة. و " استطعم " طلب الطعام، و " استسقى " طلب السقيا، و " استنجد " طلب النجدة. وهكذا. فقوله :﴿ استجارك ﴾ طلب الإجارة منك. والإجارة : هي الأمان. أن تجيره وتؤمنه من أذى قومك حتى يسمع ما أنزل إليك. وهذا معنى قوله :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك ﴾ قال بعض العلماء : لما نادى علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) في الموسم بهذه الآية من سورة براءة، أتاه قوم فقالوا : إن انتهت هذه الأشهر الأربعة وانقضت أشهر الإمهال، وكان الواحد منا يريد أن يسمع من محمد ما يقول لينظر هل يتبعه أو لا، يقتل ؟ ! فقال لهم علي : لا يقتل ؛ لأن الله يقول :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ﴾ ٤.
معنى هذه الآية الكريمة بإيضاح : أن بعض المشركين إذا أراد أن يسمع ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفهم معنى ما ينزل عليه ويعرف الأوامر التي يأمر بها، والنواهي التي ينهى عنها، والأشياء التي يدعو إليها، ليستيقن في قرارة نفسه أهو حق فيتبعه أو يعلم أنه ليس بحق فيصد عنه، وطلب أن يجار، أن يؤمن، وألا يصل إليه أذى حتى يسمع القرآن، و يفهم ما أنزل على النبي ؛ ليكون على بصيرة من أمره في الأخذ والترك، فإنه يجب أن يعطى ذلك الأمان حتى يسمع ويتلى عليه القرآن، ويفهم بما فيه من الزواجر والمواعظ، ثم بعد ذلك إن أسلم فبها ونعمت، وإن أصر على كفره وجب أن يرد إلى مأمنه وهو محل داره التي يأمن فيها. هذا معنى قوله :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك ﴾ طلبك أن تجيره وتؤمنه.
﴿ حتى يسمع كلم الله ﴾ هو هذا القرآن العظيم. وهذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أن هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو بعينه كلام الله، فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ ؛ لأن الله صرح بأن هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم. فهذا المحفوظ في الصدور، المقروء في الألسنة، المكتوب في المصاحف، هو كلام الله ( جل وعلا ) بمعانيه وألفاظه. ولا شك أن أصل الكلام صفة الله ( جل وعلا ).
ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه ؛ لأن هذه الصفة هي منشأ البلايا والمحن ٥، ولكن نقول : إن الكلام صفة الله التي لم يزل متصفا بها، فلم يتجرد يوما عن كونه متكلما، فالكلام صفته المتصف بها أزلا لم يتجرد، ومع كونه متكلما فهو في كل وقت يتكلم بما شاء كيف شاء، على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فكلامه صفته ليس بمخلوق.
وقد أشرنا – مرارا – إلى المحنة التي ابتلى الله بها المسلمين في أيام الدولة العباسية بالامتحان بالقول بخلق القرآن ؛ لأن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون، ولم تزل في أيام المأمون حتى مات، واستفحلت في أيام المعتصم واستحكمت، وفي أيامه ضرب سيد المسلمين في زمانه أحمد بن حنبل ( رضي الله عنه وأرضاه )، يضرب حتى يرفع من محل الضرب لا يعرف ليلا من نهار، وإذا أفاق قالوا له : قل : القرآن مخلوق. فيقول : لا، القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وكذلك مضى زمن الواثق والمحنة قائمة على ساق وقدم، وقد أزالها الله على يد المتوكل غفر الله له وعفا عنه ؛ لأن محنة القول بخلق القرآن أزالها المتوكل على الله بعد أن مضت في زمن المأمون والمعتصم والواثق. وكان بعض المؤرخين يقولون : إنها في أخريات أيام الواثق أنها بردت وانكسرت شوكتها وضعف شرها.
وقد قدمنا في هذه الدروس السابقة ٦ أن ذلك على يد ذلك الشيخ الشامي، صاحب القصة المشهورة، وأنه شيخ جيء به من الشام أيام الواثق بالله، جيء به مكبلا بالحديد ليمتحن ويقتل في محنة القول بخلق القرآن، وجيء به، وجلس الواثق يوما – والرواية رواها الخطيب البغدادي عن ابن الواثق محمد من طرق أسانيدها فيها ما ينكر، ولكنها قصة معناها صحيح، تلقاها العلماء بالقبول – وذلك أن الواثق لما أراد قتل ذلك الشيخ الشامي ( رحمه الله ) كان إذا أراد قتل أحد أحضر ولده محمدا – وهو الذي روى الخطيب هذه القصة من طريقه – فجيء بالرجل مقيدا بالحديد، فقال للواثق : السلام عليك يا أمير المؤمنين ! ! قال : لا سلمك الله. فقال الشيخ : بئس ما أدبك مؤدبك يا أمير المؤمنين ! ! الله يقول :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ [ النساء : آية ٨٦ ] والله ما حييت بأحسن منها ولا رددتها. فقال الواثق : ائذنوا لأبي عبد الله – يعني الخبيث أحمد بن أبي دؤاد، عامله الله بما هو أهله ؛ لأنه سبب هذه البلايا والمحن – وأحضره، فقال له ابن ابي دؤاد : الرجل متكلم ! ! فقال الواثق لابن أبي دؤاد : ناظر هذا الرجل. فقال الشيخ الشامي : ابن أبي دؤاد أحقر من أن يناظرني – كما جاء في بعض روايات قصته – فقال له ابن أبي دؤاد : ما تقول في القرآن ؟ فقال الشيخ : يا بن أبي دؤاد : ما أنصفتني. يعني : أن الذي يراد أن يقدم للقتل أحق بأن يكون هو السائل. فقال له : سل. فقال : ما تقول يا بن أبي دؤاد في القرآن ؟ قال : أقول إنه مخلوق. قال : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، وتأمرهم بها، ويفتن الخلفاء فيها يمتحنون فيها الناس بفتياك ورأيك، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون – أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – هل كانوا عالمين بها أو لا ؟ فقال ابن أبي دؤاد : ما كانوا عالمين بها. فقال الشيخ الشامي : ما شاء الله ! ! ما شاء الله ! ! جهلها رسول الله وخلفاؤه الراشدون وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد ! !، فقال ابن أبي دؤاد : أقلني، والمناظرة على بابها. فقال له : ذلك لك. ثم قال له : ما تقول في القرآن ؟ قال : مخلوق. قال : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل كان رسول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا ؟ قال : كانوا عالمين بها، ولكنهم لم يدعو الناس إليها. فقال له الشيخ الشامي : يا بن أبي دؤاد : ألم يسعك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما وسع رسول الله في أمته، ووسع خلفاؤه الراشدين في رعياهم ؟ ! فألقمه حجرا وسكت، وقام الواثق وجلس في محل خلوته واضطجع، وجعل رجله على ركبته وقال : جهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد ؟ ما شاء الله ! ! ما شاء الله ! ! ثم قال : علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ولم يدعوا الناس إليها، ألم يسعك يا بن أبي دؤاد ما وسع رسول الله وخلفاؤه الراشدون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ثم دعا بالحداد وقال له : اذهب وفك قيد هذا الشيخ الشامي. وأعطاه أربعمائة دينار، وقال له : انصرف راشدا إلى أهلك. وذكر الخطيب في بعض روايات هذه القصة بأسانيد ليست قائمة أنه بعد ذلك لم يمتحن أحدا. بل روى – أيضا – عنه أن الواثق رجع عنها في أخريات حياته.
وعلى كل حال فالقرآن كلام الله وصفته الأزلية، ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو صفته الأزلية لم يتجرد عن كونه متكلما يوما ما، وهو في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكماله وجلاله ( جل وعلا ) من غير مشابهة للخلق، ومن غير تعطيل له من صفته ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ فأجره حتى يسمع كلام الله ﴾.
﴿ ثم أبلغه مأمنه ﴾ [ التوبة : آية ٦ ] أبلغه إياه : أوصله إليه. والمأمن هنا : اسم مكان – أيضا – كالمرصد، فالمأمن والمرصد كلاهما اسم مكان، فالمرصد مكان الرصد، والمأمن : مكان الأمن، أي : أبلغه مكان أمنه، وهو داره الذي جاء منها، وأهله الذي جاء من قبلهم. وهذا معنى قوله :﴿ أبلغه مأمنه ﴾ ثم قال :﴿ ذلك ﴾ المذكور من الأمر بإجازة المشرك المستجير حتى يسمع كلام الله ويتفهمه واقع بسبب أنهم ﴿ قوم لا يعلمون ﴾ لا يعلمون الوحي، ولا يفهمون عن الله، فإذا طلبوا أن يعلموا ويتعلموا ويسمعوا ما جاء عن الله فلا تمنعوهم من ذلك، فأمنوهم حتى يسمعوا ويتفهموا ويعرفوا الحق لعل الله يهديهم، وهذا معنى قوله :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾.
١ انظر: القرطبي (٨/ ٧٧)..
٢ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ٢٧٥..
٣ مضى عند تفسير الآية (٧١) من سورة البقرة..
٤ هذا الأثر ذكره القرطبي في التفسير عن سعيد بن جبير مرسلا (٨/ ٧٦) وأبو السعود (٤/ ٤٤)، والألوسي (١٠/ ٥٣)..
٥ يريد (رحمه الله) ما نشأ بسبب الاختلاف في هذه الصفة، وإلا فهي صفة كما من كل وجه..
٦ مضى عند تفسير الآية (١١٤) من سورة الأنعام..
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام فما استقموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ( ٧ ) ﴾ [ التوبة : آية ٧ ].
لما أنزل الله أول هذه السورة ﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ( ١ ) ﴾ [ التوبة : آية ١ ] فنبذ العهد إلى كل المعاهدين، وأعلمهم بأنهم حرب بعد مضي أربعة أشهر، ولم يستثن من ذلك إلا القوم الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقضوه، ولم يظاهروا أحدا على المؤمنين، بين في هذه الآية الكريمة أن ذلك الحكم المذكور في أول هذه السورة أنه حكم واقع في محله، وأن نبذ العهود إلى المشركين أمر في غاية الإحكام والصواب ؛ لأنه قال :﴿ كيف يكون للمشركين ﴾ ( كيف ) هنا حرف يدل على الاستبعاد، يستبعد جدا أن يكون للمشركين عهد يحفظون به ويأمنون به على أنفسهم وأموالهم، مع خبث ما يبطنونه من العداوة للمسلمين.
والمعنى : أن نبذ عهودهم إليهم حكم في غاية الصواب واقع في موقعه، موضوع في موضعه ؛ لأنهم أهل خبث وأهل عداوة ومكر للإسلام، يستحقون بنبذ عهودهم إليهم، وأن يكونوا حربا، إلا الطائفة الذين ثبتوا. وهذا معنى قوله :﴿ كيف يكون للمشركين عهد ﴾ يأمنون به على أنفسهم وأموالهم ﴿ عند الله ﴾ يأمر نبيه بالوفاء به ﴿ وعند رسوله ﴾ صلى الله عليه وسلم يعمل لهم بمقتضاه ﴿ إلا ﴾ الطائفة الثابتة التي لم يوجد منها غدر ولا مكر فهؤلاء مستثنون كما تقدم.
﴿ إلا الذين [ عهدتم عند المسجد الحرام فما استقموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ] ﴾ ١[ التوبة : آية ٧ ] لأن صلح الحديبية الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري ( رضي الله عنه ) دخل في حلف قريش ودخل في صلحهم معهم قبائل من كنانة بن مدركة، منهم : بنو الديل، وبنو ضمرة، وبنو مدلج أولاد بكر بن عبد منة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر، عامر هو ابن عبد مناة بن كنانة أخو بكر. فهم أربع قبائل من كنانة، هؤلاء القبائل الأربع من كنانة بن مدركة كانوا أهل عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، ثم نقض العهد منهم بنو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأن عدوا خزاعة، ونقض معهم قريش حيث أعانوهم على الخزاعيين، وبقي بنو ضمرة وبنو جذيمة بن عامر وبنو مدلج على عهدهم لم ينقضوا، وهم الذين استثناهم الله ٢.
وهذه المعاهدة وقع عهدها في الحديبية كما عليه جميع المؤرخين. والله ( جل وعلا ) أنها في المسجد الحرام، والتحقيق أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم. وهذه الآية تدل على أن معاهدة الحديبية وقعت في الطرف منها الذي هو من الحرم ؛ لأنه جرت العادة أن الله ربما أطلق المسجد الحرام وأراد به جميع الحرم، فالمراد به هنا : إلا الذين عاهدتم في حرم الله عند الحديبية.
وأطلق على اسم الحرم " المسجد الحرام " لأنه من أهم أجزائه، وهو أسلوب عربي معروف ٣، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ﴾ [ البقرة : آية ١٩١ ] أي : لا تقاتلوهم في جميع الحرم ؛ ولأجل هذه الإطلاقات سيأتيكم أن قوله :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ [ التوبة : آية ٢٨ ] أن المراد به لا يقربوا الحرم كله بعد هذا العام. وهذا معنى قوله :﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عهدتم ﴾ في صلح الحديبية ﴿ عند المسجد الحرام ﴾.
﴿ فما استقاموا لكم ﴾ ( ما ) مصدرية ظرفية، وهي منصوبة ب " استقيموا " ٤، أي : استقيموا لهم وأوفوا لهم بالعهد إلى تمام مدتهم في جميع المدة التي استقاموا فيها لكم، ولا تبدؤوهم بنقض العهد. وهذا معنى قوله :﴿ فما استقموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ كما تقدم في قوله :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ [ التوبة : آية ٤ ] هذا معنى قوله :﴿ فما استقموا لكم فاستقيموا لهم ﴾. ؟ والذين قالوا : إنها نزلت في قريش ٥. يظهر أن قولهم خلاف التحقيق ؛ لأن قريشا نقضوا العهد وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قبل نزول هذه الآيات من براءة ؛ لأنها نزلت عام تسع، وأرسل النبي بها علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بعد أبي بكر ينادي بها في الموسم عام تسع. وفي ذلك الوقت أهل مكة قد نقضوا قبل هذا بزمان، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة عنوة على التحقيق، وظفر بهم، وسموا الطلقاء، وأعطى عهدا لمن أراد منهم أن يتربص كصفوان بن أمية ومن في معناه. وهذا معنى قوله :﴿ إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام فما استقموا لكم فاستقيموا لهم ﴾.
﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ ويدخل في المتقين دخولا أوليا : الذين لا ينقضون العهود ويوفون بالعهود ؛ لأن الوفاء بالعهد وعدم نقضه ونكثه من تقوى الله ( جل وعلا )، والمتصف بالتقوى يحبه الله. وهذا معنى قوله :﴿ إن الله يحب المتقين ﴾.
١ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت بقية الآية وجعلت ذلك بين معقوفين..
٢ مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام،.
٣ سيأتي عند تفسير الآية (٢٨) من هذه السورة..
٤ انظر: الدر المصون (٦/ ١٥)..
٥ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٤٣)..
﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفوههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فسقون ( ٨ ) ﴾ [ التوبة : آية ٨ ].
هذا تأكيد بعد تأكيد ؛ لأن حكم الله بنبذ العهود إلى الكفار أمر في غاية الإحكام والصواب، واقع في موقعه، موضوع في موضعه، والفعل هنا محذوف دل ما قبله عليه ١. أي : كيف يكون لم عهد عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم ﴿ إن يظهروا عليكم ﴾ أي : إن يغلبوكم ويقهروكم ويجدوا فرصة يهينوكم بها لا يراعون فيكم العهود ولا الذمم، ولا يراعون شيئا، بل يقتلونكم، فمن كانوا بهذه المثابة من الغدر والمكر والخيانة وسوء الطوايا والنيات، نبذ عهودهم إليهم هو أمر في غاية الحكمة والإصابة. وهذا معنى قوله :﴿ كيف وإن يظهروا ﴾ كيف يكون لهم – للمشركين – عهد والحال أنهم إن يظهروا، وقد علم من اللغة العربية أن العرب ربما تحذف الفعل بعد ( كيف ) إذا تقدم ما يدل عليه ؛ لأن ( كيف ) هنا حذف بعدها قوله :﴿ كيف ﴾ يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله والحال أنه وغرة صدورهم، حرب أضداد ﴿ وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾ ونظير هذا من كلام العرب في حذف الفعل بعد كيف إذا دل المقام عليه الشاعر ٢ :
وخبرتماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وقليب
ويروى : " فكيف وهاتا هضبة وكثيب "، هذا قاله بدوي أعرابي قال له قوم : إن القرى والمدن والحضر فيها الوباء، يموت الناس فيها غالبا. والصحة أجود في الصحارى ؛ لأن أهلها أقل موتا ! ! فخرج إلى الصحراء، فلما خرج إلى الصحراء فإذا قبر في الصحراء بجنب كثيب وهضبة فقال :
وخبرتماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وقليب
أي : فكيف مات هذا وهو في البادية وليس في القرى ؟ وهذا معنى قوله :﴿ كيف وإن يظهروا عليكم ﴾ ﴿ يظهروا عليكم ﴾ معناه : يغلبوكم وينتصروا عليكم، تقول العرب : ظهروا عليهم : إذا غلبوهم وانتصروا عليهم. ومنه قوله تعالى :﴿ فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين ﴾ [ الصف : آية ١٤ ] أي غالبين منتصرين ؛ لأن أصل ( ظهر ) : علاه فطلع على ظهره، والغالب كأنه يعلو المغلوب حتى يقف على ظهره، ومنه قوله :﴿ فما اسطعوا أن يظهروه ﴾ أي : يعلوا ظهره ٣ ﴿ وما استطعوا له نقبا ﴾ [ الكهف : آية ٩٧ ]. كيف يكون لهم عهد وهم بهذه المثابة من خبث النيات والطويات، وشدة العداوة، وغرة صدورهم، والحال ﴿ إن يظهروا عليكم ﴾ أي : يغلبوكم وقهروكم وينتصروا عليكم ﴿ لا يرقبوا ﴾ أي : لا يراعوا فيكم.
﴿ إلا ولا ذمة ﴾ ولا يحفظوا لكم ﴿ إلا ولا ذمة ﴾ اعلموا أن المراد ب ( الإل ) هنا فيه لعلماء التفسير أقوال متقاربة ٤ :
قال بعض العلماء :( الإل ) اسم الله بالعبرانية. واستأنسوا لهذا ببعض القراءات الشاذة :( لا يرقبوا فيكم إيلا ولا ذمة ) ٥ والإيل من أسماء الله بالعبرية. فجبرائيل معناه : عبد الله، وإسرافيل : عبد الله، وإسرائيل : عبد الله. وهذا القول قال به جماعة من العلماء، أن ( الإيل والإل ) تطلق على الله، ومعروف في قصة أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) أنه لما جاءه قوم من أصحاب مسيلمة الكذاب وقال لهم : اقرؤوا علي مما يدعي أنه ينزل عليه. فقرؤوا عليه شيئا من ترهات مسيلمة الكذاب، فقال : أنتم تعلمون أن هذا لم يخرج من إل، أن هذا كلام لم يصدر من الله. وعلى هذا القول فالمراد : إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم الله، ولا يراعوا فيكم الله، ولا العهود. هذا قال به قوم.
وقالت جماعات من العلماء :( الإل ) هنا المراد به القرابة، أي : لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم. وبهذا قال جماعات من علماء التفسير، وإطلاق الإل على القرابة معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول تميم بن مقبل ٦ :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
أي : قطعوا القرابات ولم يصلوها، ومنه بهذا المعنى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه ٧ :
لعمرك إن لك في قريش كإل السقب من رأل النعام
يعني : إن قرابتك في قريش كذب كقرابة السقب الذي هو الحوار – أعني ولد الناقة – من رأل النعام، ولا قرابة بين أولاد الإبل وأولاد النعام، ومن هذا المعنى قول يزيد بن مفرغ الحمري في شعره الذي ينفي به نسب زياد بن أبيه عن قريش، ويعاتب معاوية في استلحاقه له ؛ لما كان بينه وبين عباد بن زياد من العداوة، وما أهانه به عباد بن زياد كما هو معروف، قال يزيد بن مفرغ الحميري في ذلك أبياته المشهورة التي يقول فيها ٨ :
ألا أبلغ معاوية بن حرب معغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عطف وترضى أن يقال أبوك زاني
إلى أن قال في ابن زياد :
فأشهد أن إلك من قريش كإل الجل من ولد الأتان
أي : إن قرابتك في قريش، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا القول ﴿ لا يرقبون ﴾ أي : لا يراعون ولا يحفظون فيكم ﴿ إلا ﴾ أي : قرابة ﴿ ولا ذمة ﴾ أي : لا قرابة ولا عهدا، وقال بعض العلماء : الإل هو الحلف، فالعرب تقول : بيني وبين فلان إل. إذا كان بينكما حلف. قالوا : واشتقاق ( الإل ) أنهم كانوا إذا تحالفوا وتماسحوا بالأيدي عند الحلف رفعوا أصواتهم، والعرب تقول : " أل، يؤل " إذا صرخ ورفع صوته، ومنه : " أليل المريض " أي : أنين المريض المرتفع، والعرب تقول : " دعت الجارية ألليها " إذا ولولت ؛ لأن الأليل صراخ وصوت. ومن قولهم : " دعت الجارية ألليها " إذا ولولت قول الكميت ٩ :
وأنت ما أنت في غبراء مظلمة إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
وقال قوم آخرون : إن ( الإل ) معناه العهد. وعلى هذا القول فهو شيء معطوف على نفسه باختلاف اللفظين، وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ١٠ أن عطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين أنه أسلوب عربي معروف ؛ لأن المغايرة في اللفظ ربما نزلتها العرب كمغايرة المعنى. وهذا الأسلوب في اللغة العربية وفي القرآن، فمن أشهر أمثلته في القرآن قوله تعالى :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ( ١ ) الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) والذي أخرج المرعى ( ٤ ) ﴾ [ الأعلى : الآيات ١ - ٤ ] لأن ( الذي ) و( الذي ) كلها واقعة على شيء واحد هو الله ( جل وعلا )، إلا أنه لما اختلفت الألفاظ صار العطف بسبب اختلافها، وهو أسلوب معروف في العربية، ومن شواهده المشهورة قول الشاعر ١١ :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وهو كثير في كلام العرب، ومما أنشده له صاحبه اللسان قول الشاعر ١٢ :
إني لأعظم في صدر الكمي على ما كان في زمن التجدير والقصر
وقول عنترة في معلقته ١٣ :
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
لأن ( الإقواء ) و( الإقفار ) معناهما واحد. و ( التجدير ) و( القصر ) معناهما واحد.
واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري – رحمه الله – أن هذه المعاني كلها يجب حمل ( الإل ) عليها ؛ لأنه شامل للعهد والقرابة، والحلف ١٤، أي : لا يراعون فيكم عهدا، ولا قرابة، ولا حلفا، ولا يراعون الله فيكم. وهذا الذي ذهب إليه هو من حمل المشترك على معانيه، وحمل المشترك على معنييه أو معانيه مما اختلف فيه علماء الأصول، والذي حرره المحققون من أصوليي أصحاب المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه أو على معانيه ١٥، فيجوز أن تقول مثلا : عدا اللصوص البارحة على عين زيد. تعني : أنه عوروا عينه الباصرة، وغوروا عينه الجارية، وسرقوا عينه التي هي ذهبه وفضته فتحمله على الجميع إذا قصدت ذلك وكان في كلامك ما يدل عليه، وهذا معنى قوله :﴿ لا يرقبوا فيكم إلا ذمة ﴾.
﴿ يرقبوا ﴾ معناه : يحفظوا ويراقبوا ويراعوا. والذمة : معناه العهد، وكل ما تجب المحافظة عليه ويؤاخذ بنكثه تسميه العرب ( ذمة ). وهو هنا : العهد، وهذا معنى قوله :﴿ لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾ ﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾ يعني : يبذلون لكم الكلام الطيب الحلو باللسان دون ما في القلوب ؛ لأن ما في قلوبهم من البغض وإضمار العداوة والشحناء لا يساعد وما تجري به ألسنتهم، فالألسنة تقول شيئا وما تنطوي عليه الصدور شيء آخر. وهذا معنى قوله :﴿ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ﴾ أن توافق ما ينطقون به بأفواههم لما هي منطوية عليه من الكفر والبغض وشدة العداوة لكم. وهذا معنى قوله :﴿ وتأبى قلوبهم وأكثرهم فسقون ﴾ والقلوب هنا جمع قلب. وهذه الآيات وأمثالها تدل على أن الذي يدرك ويقع فيه الإباء والانقياد وجميع أنواع الإدراك كله القلب ١٦. وذلك أمر لا شك فيه ؛ لأن الذي خلق العقل ومن بالعقل أعلم حيث وضع العقل، فالله ( جل وعلا ) في آيات كتابه يبين دائما أنه جعله في القلب كقوله :﴿ قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ﴾ [ الأعراف : آية ١٧٩ ] وقوله :﴿ فإنها لا تعمى الأبصر ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ [ الحج : آية ٤٦ ] ولم يقل الله يوما ما : " ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس ". ولم يقل : " فإنها لا تعمى الأدمغة " أبدا ؛ لأن العقل محله القلب هذا جاء به الوحي الصحيح وكلام من خلق القلب وتفضل بالقلب، فلم يأت في آية واحدة ولا في حديث واحد أن مركز العقل في الدماغ أبدا، لم يقل الله : " لهم أدمغة يفقهون بها " أبدا، ولكن يقول :﴿ لهم قلوب ﴾، و﴿ تأبى قلوبهم ﴾ ولم يقل : " وتأبى أدمغتهم " أبدا، والذي خلق القلب ومن به ووضعه لا شك أنه أعلم بالمحل الذي وضع به من فلسفات الكفرة الفجرة الجهلة وأذنابهم، وهذا معنى قوله :﴿ وتأبى قلوبهم وأكثرهم فسقون ﴾ الفسق : الخروج عن طاعة الله، فكل خارج عن طاعة الله فهو فاسق، ومنه قوله :﴿ إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ [ الكهف : آية ٥٠ ] أي خرج عن طاعة ربه، والعرب تقول : " فسق عن الطريق " إذا خرج منها. ومنه قول الراجز ١٧ :
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
فواسقا : أي : خارجات عن طريقهن.
والمراد بالفسق شرعا : هو الخروج عن طاعة الله. والخروج عن طاعة الله قد يعظم، وقد يكون بعضه أعظم من بعض، فالخروج الأكبر هو الكفر بالله، والمعاصي والكبائر خروج دون خروج ؛ ولذا سمي الكافر فاسقا ؛ لأنه خارج عن طاعة الله الخروج الأعظم، كقوله جل وعلا :﴿ وما يضل به إلا الفسقين ﴾ [ البقرة : آية ٢٦ ] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج، كالمرتكب لبعض الذنوب، كقوله :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ ﴾ [ الحجرات : آية ٦ ].
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال : لم قال :﴿ وأكثرهم فسقون ﴾ وهم جميعهم فاسقون، أكثرهم وأقلهم، كلهم فاسقون، فما وجه التعبير بقوله :﴿ وأكثرهم ﴾ ؟.
أجاب جماعة من العلماء عن هذا السؤال بأن المراد بالفسق هنا فسق خاص، وهو فسق نقض العهود وعدم الوفاء بها ١٨، أي : وأكثرهم ناكثون، ناقضون للعهود، فاسقون هذا النوع الخاص من الفسق، وإن كان الجميع مشتركين في أنواع الفسق والكفر. وهذا معنى قوله :﴿ وأكثرهم فسقون ﴾.
١ انظر: ابن جيري (١٤/ ١٤٥)، القرطبي (٨/ ٧٨)..
٢ البيت لكعب بن سعد الغنوي. وهو في ابن جرير (١٤/ ١٤٥)، القرطبي (٨/ ٧٨)..
٣ انظر: القرطبي (٨/ ٧٨)..
٤ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٤٦ - ١٤٩)، القرطبي (٨/ ٧٩)، الدر المصون (٦/ ١٧ - ٢٠)..
٥ انظر: المحتسب (١/ ٢٨٣)..
٦ البيت في ابن جرير (١٤/ ١٤٨)..
٧ ديوانه ص (٢١٢) والسقب: ولد الناقة. والرأل: ولد النام..
٨ الأبيات في تاريخ دمشق (٦٥/ ١٨٠ - ١٨١) ولفظ البيت الثالث فيه:
فـــأشـــهـــد أن رحــــمـــك مـــن زيــــاد كــــرحـــــم الـــفــــــيــــل مـــــن ولــــد الأتــــان.

٩ البيت في اللسان (مادة: ألل) (١/ ٨٦)، الدر المصون (٦/ ٢٠)..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة..
١١ السابق..
١٢ البيت في اللسان (مادة: جدر) (١/ ٤١٧)..
١٣ البيت في ديوانه ص ١١٨..
١٤ تفسير ابن جرير (١٤/ ١٤٨)..
١٥ انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ١٨٩ - ١٩٥)، البحر المحيط في أصول الفقه (٢/ ١٢٦ – ١٤٨، ٣/ ١٦٦ - ٤٧٢)، مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٤٠ - ٣٤١)، زاد المعاد (٥/ ٦٠٦)، قواعد التفسير (٢/ ٨١٩)..
١٦ مضى تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة..
١٧ مضى تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة..
١٨ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٠)، البغوي (٢/ ٢٧١)، القرطبي (٨/ ٨٠)..
﴿ اشتروا بئايت الله ثمنا قليلا ﴾ الاشتراء في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه : الاستبدال، فكل أحد استبدل شيئا من شيء تقول العرب : اشتراه، فالاشتراء في لسانها يتناول كل استبدال كائنا ما كان، ومن هذا المعنى قول الراجز ١ :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
أي : كما تبدل المسلم، إذا أخذ النصرانية بدل الدين.
والثمن في لغة العرب : تطلقه على كل عوض كائنا ما كان، تسميه العرب ثمنا. أما إطلاق ( الشراء ) على الثمن والمثمن، وتسميه المبيع ( مثمنا )، والمدفوع فيه ( ثمنا ) فهو اصطلاح خاص للفقهاء في البيوع. ومن إطلاق ( الشراء ) على الاستبدال و( الثمن ) على كل عوض في اللغة العربية قول علقمة بن عبدة التميمي ٢ :
والحمد لا يشترى إلا له ثمن مما تضن به النفوس معلوم
ومن هذا المعنى قول اين أبي ربيعة المخزومي ٣ :
إن كنت حاولت دنيا أو قمت لها ماذا أخذت بترك الحج من ثمن
أي : من عوض يخلفه لك. وهذا معنى ﴿ اشتروا بئايت الله ﴾ استبدلوا بآيات الله الشرعية – التي هي هذا القرآن العظيم – تركوها وتعوضوا منها ثمنا قليلا. واختلف العلماء بالمراد بهذا الثمن القليل ٤، فقال جماعة من العلماء : هي نزلت في قوم من الأعراب الذين كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم أبو سفيان بن حرب، وأطعمهم أكلة، ونقضوا العهود بسبب ذلك. وهذا قاله جماعة كثيرة من المفسرين في هذه الآية وهو مستبعدا جدا ؛ لأن هذه الآية من براءة نزلت بعد إسلام أبي سفيان ؛ لأن أبا سفيان أسلم عام الفتح عام ثمان، وهذه نزلت عام تسع.
وقال بعض العلماء : هي في اليهود ؛ لأنهم هم الذين تبدلوا الرشا من بيان الحق، وهو ضعيف أيضا.
والتحقيق – إن شاء الله – أن المعنى : أن الكفار تبدلوا من آيات الله والعمل بما جاء عن الله ثمنا قليلا من متاع الحياة الدنيا، وهو – مثلا – عدم التقيد بالشرع، وبقاؤهم على ما كانوا عليه، واتباعهم أهواءهم، كما قال ( جل وعلا ) :﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ﴾ [ البقرة : آية ٩٠ ] فتعوضوا من هذا اتباعهم هواهم وبقاءهم على ما كانوا عليه ؛ لأنه أحب إليهم. وهذا شيء تافه تعوضوا منه سعادة الدنيا والآخرة. وهذا معنى قوله :﴿ اشتروا بئايت الله ثمنا قليلا ﴾.
﴿ فصدوا عن سبيله ﴾ الظاهر أن ( صد ) ٥ هنا هي المتعدية، والمفعول محذوف. أي : فصدوا عن سبيله ؛ لأن صدودهم في أنفسهم معلوم من قوله :﴿ اشتروا بئايت الله ثمنا قليلا ﴾ لأن من اشترى بآيات الله ثمنا قليلا فهو صاد عن سبيل الله، فبين أنهم ضلال بقوله :﴿ اشتروا بئايت الله ثمنا ﴾ وبين أنهم مضلون بقوله :﴿ فصدوا عن سبيله ﴾ أي : صدوا غيرهم عن سبيل الله ( جل وعلا ).
والسبيل : معناه الطريق. وسبيل الله : دين الإسلام ؛ لأنه طريق الله التي أمر بها ووعد الجزاء الحسن لمن اتبعها ؛ ولذا سميت :( سبيل الله ) أي : طريقه التي يدعو إليها، والتي توصل إلى رضاه، وإلى نيل ما عنده من الكرامة.
وقد قدمنا أن ( السبيل ) تذكر وتؤنث ٦، فمن تذكيرها في القرآن : قوله تعالى :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه ﴾ [ الأعراف : آية ١٤٦ ] برجوع الضمير مذكرا على السبيل. ومن تأنيث السبيل :﴿ هذه سبيلي أدعوا إلى الله ﴾ [ يوسف : آية ١٠٨ ] ولم يقل : " هذا سبيلي أدعو إلى الله ".
وهذا معنى قوله :﴿ فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ [ التوبة : آية ٩ ].
﴿ ساء ﴾ : فعل جامد لإنشاء الذم. هو بمعنى ( بئس ) ؛ لأن ( ساء ) بمعنى ( بئس ) وتعمل عمل ( بئس ) (..... ) ٧.
و ( ما ) إذا جاءت بعد ( بئس ) أو ( نعم ) قال بعض العلماء : يجوز أن تكون نكرة مميزة للفاعل الذي هو الضمير المحذوف، ويجوز أن تكون هي فاعل ( بئس ) و( ساء ) و( نعم ) ٨. وهذا معنى قوله :﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ فعلى أنها مميزة فالتقدير :( ساء هو ) أي : بئس هو شيئا كانوا يعملونه. وعلى أنها فاعل فالأمر واضح. وهذا معنى قوله :﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾.
١ مضى تفسير الآية (٧٩) من سورة البقرة..
٢ مضى تفسير الآية (٧٩) من سورة البقرة..
٣ السابق..
٤ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٠)، البغوي (٢/ ٢٧١)، القرطبي (٨/ ٨٠)..
٥ مضى تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف..
٦ مضى تفسير الآية (٥٥، ١١٦) من سورة الأنعام..
٧ في هذا الموضع كلمة غير واضحة..
٨ انظر: التوضيح الكامل (٢/ ١١٧)..
﴿ لا يرقبون في مؤمن ﴾ [ التوبة : آية ١٠ ] كائنا من كان ﴿ إلا ولا ذمة ﴾ أي : قرابة ولا عهدا. أو : لا يرقبون في مؤمن الله، لا يرقبون الله ولا يخافونه في المؤمنين فيتقون الله فيهم.
ثم قال :﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ المعتدي :( مفتعل ) من العدوان، والعدوان : مجاوزة الحد. والمارد بالمعتدين : الذين يجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم. وهذا معنى قوله :﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾.
ثم قال :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة ﴾ [ التوبة : آية ١١ ] فسرناها بالأمس.
﴿ فإخوانكم ﴾ أي : فهم إخوانكم في الدين. مفهومه : أنهم إن لم يتوبوا من الشرك، أو لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة لا يكونون إخواننا في الدين. وهذا معنى قوله :﴿ فإخوانكم في الدين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ونفصل الأيت ﴾ آيات هذا القرآن العظيم، نفصلها معناه : نبينها ونوضحها، ولا نترك بها إجمالا.
﴿ لقوم يعلمون ﴾ أنما خص القوم الذين يعلمون لأنهم هم المنتفعون بها ؛ لأن من لم يرزقهم الله علما لا ينتفعون بها. وجرت العادة في القرآن أنه يخص بالشيء العام المنتفعين به دون غيرهم، كقوله :﴿ إنما أنت منذر من يخشها ( ٤٥ ) ﴾ [ النازعات : آية ٤٥ ] لأنه المنتفع بالإنذار، وإن كان منذرا للأسود والأحمر ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ [ يس : آية ١١ ] لأنه المنتفع مع أنه منذر للأسود والأحمر ﴿ فذكر بالقرءان من يخاف وعيد ﴾ [ ق : آية ٤٥ ] لأنه هو المنتفع، وإن كان يذكر جميع الخلق بالقرآن ١. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. ونرجو الله ( جل وعلا ) أن نكون ممن يفهم عن الله تفصيله لآياته ؛ لأن هذا القرآن العظيم فصل الله فيه كل شيء، وأوضح فيه كل شيء ﴿ ولقد جئنهم بكتب فصلنه على علم هدى ورحمة ﴾ الآية [ الأعراف : آية ٥٢ ].
١ مضى تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام..
[ هذه ] ١ الآيات من سورة براءة يكاد المفسرون من الصحابة فمن بعدهم يجمعون على أنها نازلة في نقض أهل مكة للعهد الذين عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ٢، وذلك يدل على أن بعض هذه الآيات من سورة براءة نزلت قبل التاريخ الذي كنا نقول ؛ لأن هذا نازل قبل عام تسع على القول بأنها في أهل مكة، وعامة المفسرين يقولون : إنها فيهم، ولا نعلم أحدا ممن اشتهر عنهم أخذ العلم يقول في غيرهم إلا القول المروي عن حذيفة بن اليمان ( رضي الله عنه ) أن هذه في قوم لم يقاتلوا بعد وقت نزولها٣. وعلى هذا القول فلا تحفظ تفاصيل لهذا النكث والنقض، بل الظاهر والسياق يقتضي أنها في أهل مكة ؛ لأن قوله :﴿ وهموا بإخراج الرسول ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ] الذين هموا بإخراجه هم أهل مكة، وعلى هذا عامة المفسرين.
ومعنى الآية الكريمة :﴿ وإن نكثوا أيمنهم من بعد عهدهم ﴾ [ التوبة : آية ١٢ ] النكث في لغة العرب : هو تفكيك طاقات الشيء المفتول، فالحبل المفتول – مثلا – إذا فككت طاقاته، وجعلت كل واحدة منها على حدة فقد نكثته، وقد نقضته، كما في قوله :﴿ كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكثا ﴾ [ النحل : آية ٩٢ ] جمع نكث. وعلماء البلاغة يقولون : إن النكث والنقض حقيقة في الحسيات، كل مفتول فككت بين طاقاته فقد نقضته وقد نكثته، وأنها في المعنويات كالعهود مستعارة ٤. ونحن دائما نقول : إنها أساليب عربة نطقت بها العرب منذ تكلمت بلغتها، ونزل بها القرآن، يطلق النكث على تفكيك طاقات الحبل، ويطلقه أيضا على الإخلال بالعهود ونقضها وإبطالها.
﴿ وإن نكثوا أيمنهم ﴾ الأيمان : جمع يمين. قال بعض العلماء : هي العهود ٥. وقال بعض العلماء : هي الأيمان التي تؤكد به العهود ؛ لأنهم إذا أخذت عليهم العهود أكدوها بالأيمان.
وقوله :﴿ من بعد عهدهم ﴾ أي : من بعد العهد الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإن نكثوا أيمنهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم ﴾ الطعن في الدين معناه : استنقاصه وثلبه بالمعايب. يقولون : إن دين الإسلام ليس بشيء، أنهم يعيبونه إذا نقضوا العهد وعابوا الدين وثلبوه.
﴿ فقتلوا أئمة الكفر ﴾ الأصل : فقاتلوهم، إلا أن هؤلاء الذين ينقضون العهود ويسبون الدين أجرى الله العادة أنهم الرؤساء المتبوعون ؛ لأن الله أجرى عادته بأن الذين يناصبون الرسل بالعداوة هم القادة المتبوعون المترفون، كما قال تعالى :﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها ﴾ [ الزخرف : آية ٢٣ ] المتنعمون الكبار منها. وهذه سنة الله في خلقه ؛ ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان في حديثه الصحيح المشهور : أأشراف الناس يتبعونه أم ضعافهم ؟ فقال : بل ضعافهم. قال : أولئك أتباع الأنبياء ٦. وهذه سنة الله في كونه ؛ ولذا قال :﴿ فقتلوا أئمة الكفر ﴾.
قرأ هذا الحرف من السبعة نافع وابن كثير وابن عامر :﴿ أئمة الكفر ﴾ بجعل الهمزة الأخيرة بين بين ٧، وقرأه عامة الباقين من السبعة :﴿ أئمة ﴾ بتحقيق الهمزتين.
والأئمة جمع إمام، وأصله : أأممه وزنه ( أفعلة ) جمع ( فعال ) كمقال وأمثلة. توصل فيه إلى الإدغام بتسكين الميم الأولى، ونقلت حركتها إلى الهمزة فقيل فيه :( أئمة ) ٨ والأئمة جمع الإمام، والإمام هو : المقتدى به. وللكفر أئمة يقتدى بهم فيه – والعياذ باه – كما قال تعالى :﴿ وجعلنهم أئمة يدعون إلى النار ﴾ الآية [ القصص : آية ٤١ ].
﴿ فقتلوا أئمة الكفر ﴾ أي : رؤساء الكفر وعظماءه الذين عابوا دينكم ونقضوا عهودكم. والعادة أن الذي يتصدى لتكذيب الرسل وعنادهم وعداوتهم الرؤساء المتبوعون، شياطين الإنس. وما جرى على ألسنة كثير من العلماء هنا أنهم : أبو جهل وأمية بن خلف وسهيل بن عمرو إلى أشراف المذكورين في غزوة بدر، فهو خلاف الظاهر ٩ للإجماع على تأخر هذه الآيات كثيرا إلى عام تسع، أو إلى أنها نزلت قبل الفتح عام ثمان، وهذا معنى قوله :﴿ إنهم لا أيمن لهم ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر :﴿ إنهم لا أيمن لهم ﴾ بفتح الهمزة. وهم جمع يمين، وقرأه ابن عامر من السبعة :﴿ إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ ١٠.
فعلى قراءة الجمهور ١١ :﴿ لا أيمن لهم ﴾ جمع يمين، التحقيق فيها : أن نفي أيمانهم على قراءة الجمهور إنما يراد به أنهم لا يوفون بها وهي عندهم كلا أيمان ؛ لأنهم ينقضونها، وهذا أسلوب عربي معروف ؛ تقول العرب لمن يكذب وينقض العهود : لا تغتر بيمين هذا فلا يمين له، يعني : لا يفي بها ولا يبرها ولا يوفي بعهد، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول الحماسي ١٢ :
وإن حلفت لا ينقص البين عهدها فليس لمخضوب البنان يمين
يعني ليس للنساء أيمان ؛ لأنهن ينقضنها غالبا. هذا مراده.
وقد تمسك الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – بظاهر هذه الآية فقال : لا تقبل يمين من كافر، ويمين الكافر كلا شيء، فلا يمين له، لأن الله يقول :﴿ إنهم لا أيمن لهم ﴾ ١٣.
وعلى قراءة ابن عامر :﴿ إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ ففي معنى الآية الكريمة وجهان واضحان معروفان من التفسير :
أحدهما : أن المراد بالإيمان المنفي عنهم هو الإيمان الذي هو دين الإسلام، يعني : لا إسلام لهم ولا دين.
القول الثاني :- وهو أظهرهما – أنه مصدر :( آمنه يؤمنه إيمانا ) إذا أمنه وجعله في مأمن. فالعرب تقول : " آمنت فلانا أومنه " معناه : أمنته وجعلت له الأمان، وهو معنى مشهور في كلام العرب ؛ منه قول الشاعر ١٤ :
أيان نؤمنك تؤمن غيرنا وإذا لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وهذا أظهر القولين ؛ لأن نفي الإيمان عن أئمة الكفر معروف واضح، وهذا معنى قوله :﴿ إنه لا أيمن لهم لعلهم ينتهون ﴾.
قوله :﴿ لعلهم ينتهون ﴾ متعلق بقوله :﴿ فقتلوا أئمة الكفر ﴾ فقاتلوهم لأجل أن يكون قتالكم لهم رادعا وسببا لانتهائهم.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ١٥ أن من أشهر معاني ( لعل ) في القرآن معنيان :
أحدهما : أنها على معناها الظاهر من الترجي، والمعنى : قاتلوهم على رجائكم أن ذلك القتال بكون موجبا لانتهائهم عن الكفر والطعن في الدين، وهذا بحسب ما يظهر للناس الذين يجهلون العواقب، أما الله ( جل وعلا ) فهو عالم بما كان وما يكون، وعلى هذا المعنى فقوله :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر ﴾ [ طه : آية ٤٤ ] أي : رجائكما بقدر علمكما أن يكون ذلك سببا لأن يتذكر أو يخشى.
الوجه الثاني : هو ما قاله بعض علماء التفسير من أن كل ( لعل ) في القرآن فهي بمعنى : التعليل، إلا التي في الشعراء ﴿ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ( ١٢٩ ) ﴾ [ الشعراء : آية ١٢٩ ] قالوا : هي بمعنى كأنكم تخلدون. وإتيان " لعل " بمعنى التعليل معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر ١٦ :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فقوله : " كفوا الحروب لعلنا نكف " أي : كفوا لأجل أن نكف عنكم.
وقوله :﴿ ينتهون ﴾ أي : يرتعدون ويكفرون وينزجرون عما هم عليه من الكفر والطعن في الدين.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة من سورة براءة : أن الذي يطعن في دين الإسلام بلسانه ويستخف به أنه يقتل ١٧، أما إذا كان ذميا عقدت له ذمة المسلمين فطعن في الإسلام أو سب النبي صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه يقتل ١٨ ؛ لأن ذلك ينتقض به عهده ويبطل به عهده. وقال بعض العلماء : إنه لا يقتل ولكنه يؤدب ويعزز ؛ أنه أعطي له الأمان وهو على كفره. والأول أظهر. وهذا معنى قوله :﴿ إنهم لا أيمن لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي : قاتلوهم لعلهم ينتهون عن كفرهم.
١ في هذا الموضع وجد انقطاع يسير في التسجيل وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
٢ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٤)، القرطبي (٨/ ٨٤)..
٣ أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٥٦)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦١)، وأورد البغوي (٢/ ٢٧٢) عن مجاهد قوله: "هم أهل فارس والروم"..
٤ انظر: المفردات (مادة: نكث) (٨٢٢)، القرطبي (٨/ ٨١)، فتح القدير (٢/ ٣٤١)، التحرير والتنوير (٩/ ٧٣)..
٥ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٦)..
٦ مضى عند تفسير الآية (٩٣) من سورة الأنعام..
٧ قال ابن مجاهد في كتاب السبعة ص ٣١٢: "قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (أيمة) بهمز الألف وبعدها ياء ساكنة. غير أن نافعا يختلف عنه في ذلك... وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (أئمة)" بهمزتين ا. هـ وانظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٥، النشر (١/ ٣٧٨ - ٣٧٩) وقد فصل في كيفية تسهيل الهمزة الثانية، ونقل مذاهب القراء في ذلك..
٨ انظر: القرطبي ()٨/ ٨٤، حجة القراءات ص ٣١٥، الدر المصون (٦/ ٢٥)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ٢٧..
٩ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٤)، ابن عطية (٨/ ١٤١)، القرطبي (٨/ ٨٤)، فتح القدير (٢/ ٣٤١)..
١٠ انظر: السبعة ص (٣١٢)، المبسوط لابن مهران ص (٢٢٥)..
١١ في توجيه القراءتين انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥٧)، القرطبي ()٨/ ٨٥، حجة القراءات ص (٣١٥)، الدر المصون (٦/ ٢٥)..
١٢ البيت في القرطبي (٨/ ٨١)، الدر المصون وفي القرطبي: "لا ينقض النأي" وفي الدر المصون: "لا تنقض الدهر"..
١٣ انظر: المبسوط للسرخسي (٨/ ١٤٧)..
١٤ البيت في البحر المحيط (٤/ ٤١٩)، الدر المصون (٥/ ٥٢٩)..
١٥ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة..
١٦ ايابق..
١٧ انظر: القرطبي (٨/ ٨٢)..
١٨ السابق: (٨/ ٨٣)..
قال تعالى :﴿ ألا تقتلون قوما نكثوا أيمنهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ( ١٣ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ].
( ألا ) هنا حرف تحضيض، والتحضيض معناه الطلب بحث وشدة.
والمعنى : إن الله هنا طلب منهم بحث وشدة أن يقاتلوا هؤلاء الكفرة أئمة الكفر، وبين لهم أن قتالهم إياهم الذي حضض عليهم فيه أن له أسبابا متعددة، كل واحد منها يستوجبه بانفراده، فكيف بها مجموعة ؟
الأول منها : أنهم نكثوا أيمانهم.
الثاني : أنهم هموا بإخراج الرسول ( صلوات الله وسلامه عليه ).
الثالث : أنهم بدؤوكم بالقتال.
فهذه الأسباب حرية بأن يقاتل الذين اقترفوها وجاؤوا بها. وهذا معنى قوله :﴿ ألا تقتلون قوما ﴾.
قد قدمنا مرارا ١ أن ( القوم ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأنه في الوضع العربي يختص بالذكور دون الإناث، بدليل قوله :﴿ لا يسخر قوم من قوم ﴾ ثم قال :﴿ ولا نساء من نساء ﴾ [ الحجرات : آية ١١ ] وأن المرأة ربما دخلت في اسم ( القوم ) بحكم التبع إذا اقترن بما يدل عليه، كقوله :﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين ( ٤٣ ) ﴾ [ النمل : آية ٤٣ ].
وقال بعض العلماء : سمي قوم الرجل قوما لأنه لا قوام للإنسان إلا بجماعة ينضم إليها ويدخل في جملتها. وهذا معنى قوله :﴿ قوما نكثوا أيمنهم ﴾ أي : نقضوا عهودهم، أو نقضوا العهود وأخلوا بالأيمان التي حلفوها توكيدا للعهود.
﴿ نكثوا أيمنهم وهموا بإخراج الرسول ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ] الجماهير على أن هؤلاء الذين هموا بإخراج الرسول هم كفار مكة ٢ حين دبروا له المكيدة التي قدمناها موضحة في سورة الأنفال ٣ في قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال : آية ٣٠ ] والله ( جل وعلا ) نص في بعض الآيات أنهم أخرجوهم بالفعل ؛ لأنهم في الحقيقة اضطروه وألجؤوه ( صلوات الله وسلامه عليه ) إلى الخروج ؛ لأن عمه أبا طالب ما دام حيا كان يكفهم عنه، ويردعهم عنه، ولا يقدرون أن يبلغوا منه المبلغ الذي بلغوا بعد أن مات، وكان يقول له ٤ :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
اصدع بأمرك ما عليك غضاضة ***...........................
فلما توفي أبو طالب ضيقوا عليه حتى خرج ( صلوات الله وسلامه عليه ) ودخل هو وصاحبه الصديق في الغار كما ستأتي قصة ذلك مفصلة في هذه السورة الكريمة – سورة براءة – حيث نص الله عليه فيها. وقد قال جل وعلا :﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ﴾ [ محمد : آية ١٣ ] فصرح بأنهم أخرجوه. وقال ( جل وعلا ) :﴿ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ [ الممتحنة : آية ١ ] وقال :﴿ الذين أخرجوا من ديرهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ [ الحج : آية ٤٠ ] وقال تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ الآية [ الإسراء : آية ٧٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والرسول هو سيدنا محمد ( صلوات الله وسلامه عليه ). وأصل الرسول ( فعول ) بمعنى ( مفعل ) رسول بمعنى مرسل. وأصل الرسول مصدر، وإتيان المصادر على وزن ( الفعول ) مسموع بقلة، كرسول بمعنى الرسالة، وقبول، وولوع، في أوزان قليلة ٥. والتحقيق أن أصل الرسول مصدر، ومن إطلاقه مصدرا قول الشاعر ٦ :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم *** بقول ولا أرسلتهم برسول
يعني : ما أرسلتهم برسالة. ومن فوائد كون أصل الرسول مصدرا ؛ لأن هذا الأصل يحل به بعض الإشكالات في القرآن ؛ لأن من المقرر في علم العربية أن المصدر إذا نعت به ألزم الإفراد والتذكير، وربما تنوسي كونه مصدرا فجمع ٧، وقد جاء ( الرسول ) مجموعا بلفظ المفرد، وقد جاء مثنى بلفظ المفرد ؛ لأن الله قال في سورة طه :﴿ إنا رسول رب العلمين ﴾ بالإفراد. ووجه الإفراد في آية الشعراء : أن أصل الرسول مصدر، والمصادر إذا نزلت منزلة الأوصاف أفردت وذكرت، ويدل لهذا أنه سمع في لغة العرب إطلاق الرسول مرادا به الجمع ؛ لأن أصله مصدر، ومنه بذلك المعنى قول أبي ذؤيب الهذلي ٨ :
ألكني إليها وخير الرسول *** أعلمهم بنواحي الخبر
يعني : وخير الرسل. وهذا معنى قوله :﴿ وهموا بإخراج الرسول ﴾.
ثم قال :﴿ وهم بدءوكم أول مرة ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ] حذف المتعلق لقوله :﴿ بدءوكم ﴾ والظاهر أن المعنى : بدؤوكم بالقتال والعدوان عليكم أول مرة، واختلف العلماء في وجه ذلك على قولين ٩ :
أحدهما : أن ابتداءهم للقتال هو ما قدمناه مفصلا في سورة الأنفال في غزوة بدر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فيها للعير خاصة ولم يخرج للقتال، فلما ساحل أبو سفيان بالعير، ونجت العير، واستنفر النفير، وجاءهم الخبر أن عيرهم قد سلمت، كان من حقهم في ذلك الوقت أن يرجعوا، كما أشار عليهم به عمير بن وهب وعتبة بن ربيعة وحكيم بن حزام، ولكن الخبيث أبا جهل قال : والله لا نرجع حتى نرد بدرا – وكانت من مواسم العرب – وتعزف علينا الغواني، ونشرب الخمر. وفي بعض الروايات أنه قال : لا نرجع حتى نستأصل محمدا وأصحابه ١٠. فلما نجت عيرهم وجاؤوا بعد ذلك إلى بدر معناه أنهم يريدون الشر، فكان هذا ابتداؤهم بالشر.
وقال بعض العلماء :- وهو أظهرهما – أن معنى :﴿ وهم بدءوكم ﴾ أي : بدؤوكم بنقض العهود وقتل من كان في حلفكم كما وقع من قريش في إعانتهم لبني الديل بن بكر على خزاعة فقتلوهم، كما قال راجزهم ١١ :
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
فابتداء هذا القتل كأنهم بدؤوا بالقتل ونقض العهود، وخزاعة في ذلك الوقت لهم حكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لدخولهم في عهده. وهذا معنى قوله :﴿ وهم بدءوكم أول مرة ﴾ كان في المرة الأولى ابتداء السوء حاصلا منهم. وهذا معنى قوله :﴿ وهم بدءوكم أول مرة ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ].
ثم إن الله لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقتال الكفار أنكر عليهم أن يخافوا الكفار، قال :﴿ أتخشونهم ﴾ بهمزة الإنكار. يعني : لا تخشوا هؤلاء أبدا فإنهم كفرة فجرة، والله ( جل وعلا ) أحق أن تخشوه فتمتثلوا أمره، وتقاتلوا أئمة الكفر الذين هموا بإخراج الرسول، وبدؤوا بالشر أو مرة. وهذا معنى قوله :﴿ أتخشونهم ﴾.
﴿ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ﴾ ( إن ) في قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ تشكل دائما على المتعلمين وبعض العلماء ١٢، و( إن ) هذه هي التي اختلف فيها البصريون والكوفيون، وهي كثيرة في القرآن، فالبصريون يقولون : إن ( إن ) هذه أنها صيغة شرط جيء بها مرادا بها التهييج وقوة الحمل على الامتثال، وهو أسلوب عربي معروف، أن العرب تنطق بأداة الشرط ولا تريد به حقيقة تعليق جزاء على شرط، وإنما تريد به التهييج والدعوة الصارمة إلى الامتثال، كما تقول للرجل : " إن كنت فلان فافعل في كذا " وأنت تعلم أنه ابن فلان، إلا أنك تستنهضه وتستحثه، ومن هذا المعنى قول واحد من أولاد الخنساء لما أوصتهم بالجهاد في سبيل الله ١٣ :
لست لخنساء ولا للأخرم *** ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجمي *** ماض على الهول خضم خضرم
يعني : إن لم أرد في الجيش فلست ابنا لأبي ولا لأمي. لا يقصد التعليق وإنما يقصد تحريض نفسه على هذا. هذا معناها عند البصريين فيما يصح فيه هذا وفيما لا يصح فيه هذا كقوله :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ﴾ [ الفتح : آية ٢٧ ] وهم داخلون قطعا. وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الزيارة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ١٤ وهم لاحقون بهم قطعا، قالوا : السر في هذا التعليق ليعلم الله خلقه أنهم لا يتكلمون عن مستقبل إلا بتعليقه على مشيئة من له المشيئة، ولو كان أمرا واقعا لا محالة فكيف بغيره.
أما الكوفيون فإنهم يقولون : إن ( إن ) هذه بمعنى ( إذ ) وأنها تعليلية، ويقولون : " فالله أحق أن تخشوه إذ كنتم مؤمنين " أي : لأجل كونكم كنتم مؤمنين فذلك يستوجب منكم الخشية، وإطلاق ( إن ) بمعنى ( إذ ) ربما سمع في كلام العرب، وأنشد له بعض علماء العربية قول الفرزدق ١٥ :
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا *** جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
يعني : أتغضب لأجل " إذ حزت أذنا قتيبة ؛ لأجل أن حزتا " وهذان الوجهان في قوله :﴿ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ].
١ مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام..
٢ انظر: القرطبي (٨ ٨٦)، ، الأضواء (٢/ ٤٣٠)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
٤ الأبيات في البداية والنهاية (٣/ ٤٢)، ولفظ البيت الثاني هناك:
فــامض لأمــرك مـــا عــلـــيــــك غــــضــــاضـــة أبــــشـــــر وقــــر بــــذاك مــــنــــك عــــيــــونـــــا.

٥ مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام..
٦ السابق..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام..
٨ مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام..
٩ انظر: القرطبي (٨/ ٨٦)..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٥) من سورة الأنفال..
١١ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال..
١٢ مضى عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام..
١٣ هذان البيتان سبق ذكرهما عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام..
١٤ السابق..
١٥ السابق..
[ ﴿ قتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ] وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾.
لما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقاتلة أئمة الكفر وعدهم عده الجميل – وهو لا يخلف الميعاد – ليستنشط هممهم بهذا الوعد على امتثال الأمر ﴿ قتلوهم ﴾ أي : قاتلوا الكفرة وأئمة الكفر ﴿ قتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ " يعذب " فعل مضارع مجزوم بجزاء الطلب، وجماهير من علماء العربية يقولون : إن جزم المضارع في جزاء الطلب أن أصله مجزوم بشرط مقدر دل الأمر عليه، وتقديره : إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وهو جائز، فالجزم يجوز، ولو لم يجزم لكان جائزا ؛ لأن الجزم في جزاء الطلب لم يتعين. ﴿ قتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ هذا التعذيب الذي يعذبهم الله بأيديهم هو القتل بالضرب الوجيع الذي يصل به صاحبه إلى النار.
﴿ ويخزهم ﴾ أي : يذللهم ويهينهم بالأسر، فإن القتل تعذيب، والأسر خزي وإهانة وإذلال، وهذا معنى قوله :﴿ يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ﴾.
﴿ وينصركم عليهم ﴾ أي : ويعنكم عليهم حتى تقتلوا منهم وتأسروا.
﴿ وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ١٤ ] ( يشف ) معناه : يداوي داء قلوبهم ؛ لأن المؤمن يكون وغر الصدر حانقه على الكافر، كأن قلبه لما فيه من شدة الغضب، وكون صدره وغرا على الكفار لكفرهم بالله وقتلهم للمسلمين فإذا أمكنه الله منهم وقتلهم وأسرهم شفى ذلك صدره لأن الغيظ كأنه داء في صدره، والتمكن من الأعداء والتسليط عليهم وقتلهم وأسرهم يشفي ذلك الداء الكامن في الصدر، فينشرح الصدر، ويزول ما كان فيه من كامن المرض الدفين والحقد على الكفار. وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل جدا، ومنه قول مهلهل بن ربيعة ١ :
ولكنا نهكنا القوم ضربا *** على الأثباج منهم والنحور
هتكت به بيوت بني عباد *** وبعض القتل أشفى للصدور
لأن طالب الثأر كأنه وغر الضمير حران فإذا قتل صاحبه بردت غلته وشفي ما في صدره. وهذا كثير معروف في كلام العرب مشهور. وهذا معنى قوله :﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ١٤ ] قال جماهير من أهل التفسير : إن المراد بالقوم المؤمنين أنهم خزاعة ٢ حيث تمالأ عليهم البكريون وقريش وقتلوهم في الحرم، واستنجدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أرسلوا عمرو بن سالم في قوم منهم بديل بن ورقاء، وقال عمرو رجزه الذي ذكرنا قبل هذا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نصرت إن لم أنصر بني كعب " ٣ يعني من خزاعة، وقد كان ذلك سببا لغزاة الفتح، وقد قتل جماعة من المشركين يوم الفتح، قال بعض المؤرخين : قتل منهم اثنا عشر رجلا يوم فتح مكة، والأظهر كما قدمنا مرارا أن أهل مكة قتلت منهم جماعات. وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على ذلك ٤، ويدل على ذلك رجز حماس بن قيس المشهور الذي هو مشهور عند العلماء ؛ لأن حماس بن قيس كان في مكة، وكان يقول لامرأته : لأخدمنك نساء محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجعلهن لك خدما. وكان يقول لها : إذا جئتك منهزما فأغلقي الباب دوني. فكان في ذلك اليوم في الطائفة التي وقع فيها القتل والقتال فجاءها مذعورا منهزما، وكان يقول قبل يوم الفتح ٥ :
إن يقبلوا اليوم فما لي علة *** هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السله
فلما جاء زوجته ووجهه كأنه زعفران من الخوف، وقال لها تفتح له الباب، فقالت له : أين الذي كنت تقول ؟ فقال ٦ :
إنك لو شهدت يوم الخندمة *** إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة *** لهم نهيت خلفنا وهمهمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه *** ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لم تنطقي باللوم أدنى كلمه
وهذا صريح في أنهم قاتلوا وقتلوا. وفي صحيح مسلم : أنهم لم يتعرض لهم ذلك اليوم أحد إلا أناموه ٧ كما هو معروف. وقد ذكرناه مفصلا في سورة الأنفال ٨. فهذا القتل قتل قريش وإذلالهم وقهرهم، شفى صدور الخزاعيين حيث أخذوا بثأرهم وأذل الله عدوهم.
١ مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال..
٢ انظر: ابن جرير (١٤/ ١٦٠)، القرطبي (٨/ ٨٧)..
٣ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال..
٤ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال..
٥ تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر..
٦ تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤١) من سورة الأنفال..
٨ السابق..
وهذا معنى قوله :﴿ ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ( ١٤ ) ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ [ التوبة : الآيتان ١٤، ١٥ ] لما نالوا من شفاء غليل صدورهم من قهر أعدائهم كما قال الشاعر ١ :
تعلم شفاء النفس قهر عدوها فبالغ بلطف في التحيل والمكر
وهذا معنى ﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾.
﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ قراءة الجمهور :﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ لأنها ليست معطوفا على الجزاء، والأفعال المعطوفة على الجزاء جزمت، والقراءة هنا هي الجزم.
أما اللغة فيجوز في الأفعال المعطوفة على الشرط والجزاء معا بعد أن تستكمل أداة الشرط شرطها وجزاءها، فالأفعال المعطوفة عليها معلوم أنها يجوز فيها ثلاث لغات : الجزم كما في قراءة هذه الآيات، والرفع، والنصب، وهو معنى معروف في كلامهم، وفي أوجه العربية الثلاثة يروى قول نابغة ذبيان ٢ :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
فيه : " ونأخذ "، " ونأخذ "، " ونأخذ " بالجزم، والنصب، والفتح. وهذا معنى قوله :﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ بعد ذلك يتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه، قد يوفق بعض المشركين فيتوب عليهم. وتوبة الله على عبده هي أن يقيل عثرته، ويقبل منه رجوعه حتى يكون الذي صدر منه كأنه لم يكن.
﴿ على من يشاء ﴾ أن يتوب عليه، فمفعول المشيئة محذوف.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ كثير العلم يبالغ في علم نفسه لإحاطة علمه بكل شيء ﴿ حكيم ﴾ لأنه حكيم في شرعه وفي أقواله وأفعاله وتدبيره وجزائه، فهو حكيم في كل شيء، وله الحكمة البالغة ( جل وعلا ).
١ البيت في أوضح المسالك (١/ ٢٩٥)، شذور الذهب ص ٣٦٢..
٢ ديوان النابغة ص ١٥٧..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ( ١٦ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٦ ].
( أم ) هنا هي المنقطعة. ومعنى ( أم ) المنقطعة عند علماء العربية : أنها تأتي بمعنى استفهام الإنكار، وبمعنى ( بل ) الإضرابية، وتأتي بمعناها معا، وهو أجودها ١.
و ( حسبتم ) معناه ظننتم. والإنكار الذي في قوله : " أم " يتوجه إلى من ظن أنه يدخل الجنة من غير ابتلاء ولا امتحان. والمعنى : أحسبتم، أي : أظننتم أن الله يترككم من غير أن يختبركم بالمشاق التي يظهر بالاختبار بها المطيع من العاصي، والمحق من المبطل، والصادق من الكاذب ؟ والمعنى : لا بد أن يبتليكم الله ويمتحنكم بأنواع الابتلاء، ومن أعظمها : الأمر بالجهاد في سبيل الله الذي فيه تعريض المهج والأموال للتلف والضياع ؛ لأن ذلك يظهر به الزائف من الخالص، ويتبين به الصادق من الكاذب، وهذا معنى قوله :﴿ أم حسبتم ﴾ يعني أظننتم ؟ الحسبان معناه الظن ﴿ أن تتركوا ﴾ أن يترككم الله من غير اختبار ولا امتحان ولا ابتلاء ؟ لا. لا يكون ذلك أبدا ﴿ ولما يعلم الله ﴾ هي ( لم ) النافية دخلت عليها ( ما ) المزيدة لتوكيد النفي، وهي تدل على توقع حصول الأمر ولم يحصل بالفعل. وقوله :﴿ ولما يعلم الله ﴾ أي : يترككم الله ولم يختبركم اختبارا يعلم به من هو الصادق منكم ومن هو الكاذب، ومن هو المخلص وغيره.
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن التي ربما يفهم الجاهل منها أن الله يختبرهم ليطرأ له علم بذلك الاختبار، هذا لا يراد ؛ لأن عالم الغيب والشهادة، عالم بما كان، وما سيكون، وما يقع، وعالم بالمعدودات والموجودات، والجائزات والمستحيلات، حتى إنه من إحاطة علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد وأنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون، كما أوضحناه مرارا ٢.
وجرت العادة في القرآن أن الله تبارك وتعالى إذا جاء عنه بعض الآيات التي فيها شبه خفاء لا بد أن يبينه ويوضحه في بعض المواضع، وقد أوضح هذا في آية من سورة آل عمران قدمناها مرارا، أوضح فيها أنه يختبر ويبتلي ليظهر للناس حقيقة الناس، ويعلموا المخلص من الزائف، والصادق من الكاذب، وتلك الآي هي قوله تعالى :﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ﴾ [ آل عمران : آية ١٥٤ ] بين أن ما أوقع بهم يوم أحد من تسليط المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أنه فعل ذلك لأجل أن يبتليهم ويختبرهم ويمحص ما في قلوبهم، فظهر المنافقون من الصادقين، ومع هذا قال بعد قوله :﴿ وليبتلي ﴾ قال :﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ [ آل عمران : آية ١٥٤ ] ومن هو عالم بما يخطر في الضمائر لا يستفيد بالاختبار علما سبحانه ( جل وعلا ) عن ذلك. فالمراد ب ﴿ ولما يعلم الله ﴾ هنا إظهار معلومه للناس، أو العلم الذي يترتب عليه الثواب والجزاء ؛ لأن الله عالم بأفعالهم قبل أن يفعلوها، وعلمه بها أولا لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعالم أيضا بها وقت فعلها وذلك العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب. وقال البغوي ( رحمه الله ) في تفسيره هذه الآية الكريمة :﴿ ولما يعلم الله ﴾ يعني : أحسبتم أن يترككم الله ولم ير الله عملكم حتى يتبين للناس المخلص من غيره ٣.
وعلى هذا التفسير الذي فسرها به فالمعنى يشبه قوله :﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ [ التوبة : آية ١٠٥ ] وعلى كل حال فيجب على كل مسلم أن يعتقد أن علم الله محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، يعلم ما كان، وما سيكون وما سبق في علمه أنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٤ الآيات الكثيرة الدالة على إحاطة علمه حتى المعدومات الذي سبق في علمه أنها لا توجد، وأنه عالم بأنها لو وجدت أنها لا تكون، وأنها لو كانت يعلم كيف تكون، دلت على هذا آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله في سورة الأنعام :﴿ فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بئايت ربنا ونكون من المؤمنين ﴾ [ الأنعام : آية ٢٧ ] إذا رأى الكفار الحقائق يوم القيامة ندموا على تكذيب الرسل وتمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ويصدقوا الرسل، وهذا الرد الذي تمنوه الله عالم بأنه لا يكون، ومع ذلك فقد صرح بأن هذا الرد الذي لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون ﴾ [ الأنعام : آي ٢٨ ] والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبدا ؛ لأن الله ثبطهم عنها لحكمة وإرادة كما صرح به في قوله :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ﴾ [ التوبة : آية ٤٦ ] وخروجهم هذا الذي لا يكون صرح بعلمه أن لو كان كيف يكون حيث قال :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة.... ﴾الآية [ التبة : آية ٤٧ ].
ونظائر هذا كثيرة في كتاب الله ( جل وعلا ) وهذا معنى قوله :﴿ ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ﴾ [ التوبة : آية ١٦ ] يعني : يعلمهم علما يظهرهم به للناس حتى يتميزوا به، أما هو فهو عالم بكل ما يصنعون وما يؤولون إليه، كما قال تعالى :﴿ ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عملون ﴾ [ المؤمنون : آية ٦٣ ] يعلمها قبل أن يعملوها. هذه الآية نص الله على ما دلت عليه هنا في آيات كثيرة كقوله :﴿ الم ( ١ ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ( ٢ ) ﴾ [ العنكبوت : الآيتان ١، ٢ ] لا يكون ذلك ﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكذبين ( ٣ ) ﴾ ومن نظائرها قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين ( ١٤٢ ) ﴾ [ آل عمران : آية ١٤٢ ] وقوله :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ﴾ الآية [ البقرة : آية ٢١٤ ]. وقوله :﴿ وما أصبكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ( ١٦٦ ) وليعلم الذين نافقوا ﴾ [ آل عمران : الآيتان ١٦٦، ١٦٧ ] أي : يميز بينهم بما يعلمنه من الاختبار ﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ [ آل عمران : آية ١٧٩ ] ﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلوا أخباركم ( ٣١ ) ﴾ [ محمد : آية ٣١ ] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المصرحة أنه قد اقتضت حكمة الله أن لا يترك خلقه من غير ابتلاء وامتحان بل لا بد أن يمتحنهم ويبتليهم بالشدائد والعظائم ليظهر الذي هو على الحق من الذي هو على الباطل، ويتبين الصادق من الكاذب. وهذا معنى قوله :﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ [ التوبة : آية ١٦ ].
﴿ ولم يتخذوا ﴾ معطوف على فعل الصلة، والمعنى : ولما يعلم الله الذين جهدوا ويعلم الذين لم يتخذوا من دون الله وليجة، والمعنى : لا بد أن يمتحنكم حتى يعلم المجاهد في سبيل الله والمخلص الذي لم يتخذ وليجة من دون الله ولا رسوله ؛ لأن بعض الناس ظهر نفاقهم وبعضهم ظهر اتخاذهم الوليجة من دون الله.
واعلم أن الوليجة في لغة العرب : كل شيء أدخلته في شيء فهو وليجة ٥. والمراد بها هنا : بطانة السوء ؛ لأنهم يدخلون في المسلمين وليسوا منهم ؛ لأن كثيرا من غير المخلصين يتخذون أعداء الله أولياء، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، ويطلعونهم على حقائقهم، وهم أعداء للمسلمين، كما كان عبد الله بن أبي وأصحابه يفعلون، هم مع الكفار واليهود، والمعنى :﴿ ولم يتخذوا من دون الله ﴾ ولم يتخذوا من دون رسول الله، ولم يتخذوا من دون المؤمنين وليجة، أي : أولياء وبطانات سوء يوالونهم دون المسلمين ؛ لأن الأعداء خارجون عن المسلمين، فإدخالهم فيهم كأنه وليجة لهم وإدخال لمن ليس منهم فيهم.
فالوليجة هنا : بطانة السوء، وأولياء السوء، يتخذهم بعض غير الصادقين في إيمانهم أولياء، كما تقدم في قوله :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ [ آل عمران : آية ٢٨ ] فاتخاذ هذه الأولياء هو الوليجة، لأن العدو الموالى من المسلمين المدخل فيهم وليجة فيهم وليس منهم، والعرب تقول للرجل في القوم ليس منهم : هو وليجة. يعني داخل فيهم وليس منهم. ووليجة الأمر : دخيلته، وهؤلاء وليجة فلان، معناه : أصحاب سره وداخله، وتطلق على المفرد والجمع. وهذا معنى ﴿ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ [ التوبة : آية ١٦ ] أي : دخيلة من الأعداء يتخذونهم أولياء، ويوالونهم، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، كما كان يفعله المنافقون، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبان بن العرب :
فبئس الوليجة للهاربين والمعتدين وأهل الريب
وهذا معنى قوله :﴿ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ أي : بطانة سوء وأوياء يدخلونهم ويولجونهم في المسلمين وليسوا من المسلمين، بل هم أعداء المسلمين، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، كما قال :﴿ لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ﴾.
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ يعني : الخبير أخص من العالم، والخبرة أخص من العلم ؛ لأن العلم يطلق على كل علم، والخبرة لا تطلق في اللغة إلا على علم خاص، وهو علم الشيء الذي من شأنه أن يخفى، فالعرب تقول في الشيء الذي شأنه أن يخفى : على الخبير سقط، وأنا خبير بهذا. فلو قلت مثلا : أنا عالم بأن الواحد نصف الاثنين : وأن الكل أكبر من الجزء، كان هذا كلاما عربيا، ولو قلت : أنا خبير بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، لما كان هذا ينبغي ؛ لأن العرب لا تكاد تطلق الخبرة إلا على المعرفة بما من شأنه أن يخفى، كما قال الشاعر في العيافة ٦ :
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت
ومعنى خبرته ( جل وعلا ) : أنه يعلم الخفايا والخبايا كما يعلم الظاهر، فلا تخفى عليه خافية. وهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي نوهنا عنه مرارا كثيرة ولا نزال ننوه عنه. وهذا معنى قوله :﴿ والله خبير بما تعملون ﴾.
١ انظر: الكليات ص ١٨٢، معجم الإعراب والإملاء ص ٧٨..
٢ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
٣ تفسير البغوي (٢/ ٢٧٣)..
٤ راجع ما سبق عند الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
٥ انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو، باب الواو واللام وما واللام وما يثلثهما. (مادة: ولج) ص ١١٠٣..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنعام..
قال تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خلدون ( ١٧ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ] ﴿ مسجد الله ﴾ مساجد هنا ذكرت مرتين :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله ﴾ والثانية في قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله ﴾. أما الأولى منهما وهي قوله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله ﴾، فقد قرأه عامة السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو :﴿ أن يعمروا مسجد الله ﴾ بصيغة جمع التكسير. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ ١.
أما مساجد الثانية وهي قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله ﴾ فقد أجمع جميع القراء على قراءتها بصيغة الجمع ﴿ إنما يعمر مسجد الله ﴾ ولم يقرأها أحد بالإفراد كما هو معروف.
وقوله :﴿ ما كان للمشركين ﴾ سبب نزولها أن كفار قريش صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام، وقالوا : هو بيتنا ونحن أولياؤه، وافتخروا بعمارة المسجد الحرام، كما يأتي. يفتخرون دائما ببيت الله الحرام وأنهم عماره وأهله، كما سيأتي في قوله :﴿ فكنتم على أعقبكم تنكصون ( ٦٦ ) مستكبرين به سمرا تهجرون ( ٦٧ ) ﴾ [ المؤمنون : الآيتان ٦٦، ٦٧ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ تهجون ﴾ ٢. ﴿ مستكبرين به ﴾ أي : بالبيت، على أظهر التفسيرين ؛ لأنهم يتكبرون به بأنهم قطانه وعماره وأولياؤه، فرد الله عليهم في هذه الآية الكريمة. وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة الأنفال في قوله :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٣٤ ) ﴾ [ الأنفال : آية ٣٤ ]. وقال هنا :﴿ ما كان للمشركين ﴾ ما يصح ولا ينبغي ولا يمكن هذا التناقض ؛ لأن المساجد بيوت الله، أسست على طاعته والتقرب إليه بما يرضيه، والمشركون كفرة فجرة، أعمالهم في المساجد كلها كفر وتمرد على الله وعدوان، كيف يكون هذا يجتمع مع هذا ؟ ! لأن المساجد إنما بنيت لطاعة الله، وتؤسس على ما يرضي الله ( جل وعلا ) وهؤلاء كفرة أعمالهم كلها كفر وصد عن سبيل الله، فهذا من الشيء الذي لا يمكن أن يجتمع ؛ لأن فيه اجتماع النقيضين. وهذا معنى قوله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ] وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو :﴿ يعمروا مسجد الله ﴾ هو المسجد الحرام، مسجد مكة حرسها الله.
وقوله :﴿ شهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ هذا محل التناقض ؛ لأن عمارة المسجد الحرام فعل المطيعين والمتقربين إلى الله، كيف يفعلون هذا في وقت الحال التي هم شاهدون فيها على أنفسهم بالكفر ؟
وقوله :﴿ شهدين ﴾ حال من واو الفاعل في قوله :﴿ يعمروا ﴾ أي : يعمروها في حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر.
قال بعض العلماء ٣ : شهادتهم على أنفسهم بالكفر إنما هي بأفعالهم ؛ لأن من سجد ووضع جبهته للصنم فقد شهد على نفسه ونادى بأعظم الكفر وأفظعه. وعلى هذا في شهادة حال.
وقال بعض العلماء : هي شهادة مقال أيضا، فهم شاهدون بالحال والمقال. قالوا : يراد بذلك أنهم في تلبيتهم وطوافهم بالبيت في المسجد الحرام يقولون : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك [ وقال بعض العلماء : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن الكافر إذا قلت له : ما دينك ؟ فيقول :] ٤ النصراني نصراني، والصابىء صابئ، والمشرك يقول : مشرك ؛ لأنه يعبد مع الله غيره. والله ( جل وعلا ) ذكر مثل هذا من شهادتهم على أنفسهم في غير هذا الموضع كقوله :﴿ إن الإنسن لربه لكنود ( ٦ ) وإنه على ذلك لشهيد ( ٧ ) ﴾ [ العاديات : الآيتان ٦، ٧ ] أي : الإنسان، وفيه الأقوال المذكورة هنا. وهذا معنى قوله :﴿ شهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ لأن عمارة مساجد الله هي من القربة والطاعة لله لا تمكن من أحد هو في حال وقت فعله إياها شاهد على نفسه بأنه كافر.
وعمارة المسجد الحرام تشمل أمرين :
أحدهما : العمارة الحسية، وهي مرمته وبناؤه وتزيين بنائه.
والثانية : عمارته المعنوية، وهي عبادة الله وطاعته فيه، واللائق بالكفار هنا هو الأول ؛ لأنهم كانوا يسدنون البيت وقد بنوه، كما قال زهير ٥ :
وأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
وبناء قريش له معروف، حضره النبي صلى الله عليه وسلم في صغره كما هو معروف. وهذا معنى قوله :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ].
﴿ أولئك ﴾ الكفرة الشاهدون على أنفسهم بالكفر ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ ومنها عمارتهم للبيت الحرام ؛ لأن الكفر يحبط جميع الأعمال. ومعنى ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ اضمحلت وكانت لا فائدة فيها ؛ لأن أفعال الكفار تضمحل ولا تنفعهم يوم القيامة ؛ لأن الله يقول :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا ( ٢٣ ) ﴾ ويقول تعالى :﴿ من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعملهم فيها وهم فيها لا يبخسون ( ١٥ ) أولئك الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وبطل ما كانوا يعملون ( ١٦ ) ﴾ [ هود : الآيتان ١٥، ١٦ ] أما أفعال الكافر من قربه فإنها تنفعه في الدنيا ؛ لأن الكافر إذا أطاع الله في الدنيا مخلصا في طاعته لوجه الله كأن يبر والديه، ويصل الرحم، ويقري الضيق، وينفس عن المكروب، ويعين [ المظلوم ] ٦، فإذا فعل الكافر هذه القرب يقصد بها وجه الله فإن الله يعاوضه في الدنيا ويعطيه ثوابه في الدنيا من الصحة والرزق والمال، ولا شيء له يوم القيامة، كما دلت على هذا آيات من كتاب الله، كقوله :﴿ نوفي إليهم أعملهم فيها وهم فيها لا يبخسون ﴾، ﴿ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الأخرة من نصيب ﴾ [ الشورى : آية ٢٠ ]. وثبت معناه في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه ٧. وهذا معنى قوله :﴿ أولئك حبطت أعملهم وفي النار هم خلدون ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ] النار – والعياذ بالله – هي دار الخزي التي أعد الله لأعدائه يوم القيامة. والألف التي بين النون والراء منقلبة عن واو، فأصلها من مادة الأجوف واوي العين، أصلها ( نور ) ولذا يقولون في النظر من بعيد إلى النار : تنورتها. فلو كانت يائية العين لقالوا : تنيرتها. قالوا واشتقاقها من : نارت الظبي. إذا ارتفعت جافلة ؛ لأن طبيعة النار الارتفاع ٨.
﴿ وهم فيها خلدون ﴾ خلود الكفار في النار خلود أبدي سرمدي لا انقطاع له، كما قال تعالى :﴿ كلما خبت زدنهم سعيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٨ ]، ﴿ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ( ٣٠ ) ﴾ [ النبأ : آية ٣٠ ]، ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾ [ البقرة : آية ١٦٢ ].
ومعروف في هذا إيراد يورده الكفرة الملاحدة وأذنابهم ومن تعلق بهم يقولون : إن الله ( جل وعلا ) في غاية الحكمة والعدالة، وهو العدل الحكيم ( جل وعلا ) والكافر إنما عصى في الدنيا أياما معدودة، قالوا : فكيف يكون العمل في أيام معدودة والجزاء دائم لا ينقطع أبدا ؟ وأين الحكمة والإنصاف في هذا ؟ قبح الله من يقول هذا ! ! وهذا يتمسك به الملاحدة وأذناب الكفرة ٩.
والجواب عن هذا أن الكافر – قبحه الله – خبثه الذي ينطوي عليه الذي هو سبب كل ما جاءه من البلايا هو دائم أبدا لا يزول ولا ينقطع، فكان جزاؤه دائما لا يزول ولا ينقطع، والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ﴾ [ الأنفال : آية ٢١ ] ( خيرا ) نكرة في سياق الشرط وهي تعم، فلا يكون في قلوبهم خيرا أبدا في وقت ما كائنا ما كان. ومما يوضح ذلك : أنهم لما عاينوا النار، وشاهدوا الحقائق، وكشف الله بأن ما طبعوا عليه وما جبلوا عليه من الكفر لا يزول أبدا، صرح الله بأن ما طبعوا عليه وما جبلوا عليه من الكفر لا يزول أبدا، وأنه لو ردهم إلى الدنيا لرجعوا إلى كفرهم ؛ لأنهم منطوون عليه لا يفارقهم أبدا، كما قال :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون ﴾ [ الأنعام : آية ٢٨ ] فهذا يدل على أنهم لا ينفكون عن كفرهم، وأنهم دائمون عليه أبدا، فكان جزاؤه دائما عليهم أبدا، جزاء وفاقا، ولله ( جل وعلا ) الحكمة في كل ما يفعله، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير. وهذا معنى قوله :﴿ وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون ﴾.
١ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٦..
٢ السابق ص ٣١٢..
٣ في معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر. انظر ابن جرير (١٤/ ١٦٥)، القرطبي (٨/ ٨٩)، ابن كثير (٢/ ٣٤٠)..
٤ في هذا الموضع وجد انقطاع في انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام.
انظر: ابن جرير (١٤/ ١٦٥)، ابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٥)، القرطبي (٨/ ٩٠)..

٥ مضى عند تفسير الآية (٧٢) من سورة الأعراف..
٦ في الأصل: "الظالم" وهو سبق لسان..
٧ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأعراف..
٨ مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام..
٩ راجع هذه الشبهة والجواب عنها، عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام..
﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله واليوم الأخر وأقام الصلوة وءاتى الزكوة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( ١٨ ) ﴾ [ التوبة : ىية ١٨ ].
[ المقرر ] ١ عند علماء العربية أن ( إنما ) أداة حصر وإثبات. يعني :﴿ إنما يعمر مسجد الله ﴾ العمارة المعنوية بالعبادات وذكر اسم الله فيها، والعمار الحسية، من بنائها وترميمها، هذا كله من شأن المؤمنين، لا من شأن الكفار، وهذا قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله ﴾. ( من ) فاعل قوله ﴿ يعمر ﴾ الذي آمن بالله هو الذي يعمر مساجد الله، لا الكافر الذي عمله ضد لما بنيت له المساجد، فهذا تناقض لا يمكن أن يكون عامرا للمساجد، وعمله ضد ما بنيت له المساجد، وهذا معنى قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله ﴾ أي : صدق به ( جل وعلا ) وبكل ما يجب التصديق.
﴿ واليوم الأخر ﴾ هو يوم القيامة. وجرت العادة أن الله يذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان ؛ لأن الكفر باليوم الآخر سبب لكل البلايا وأنواع الكفر والجحود ؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين : هما : جلب النفع، ودفع الضر، والذي لا يصدق بيوم القيامة لا يرغب في خير في ذلك اليوم، ولا يخاف من شر في ذلك اليوم، فلا ينزجر عن شيء، ولا يرعوي عن شيء ؛ ولذا كان التكذيب بالبعث من أشنع أنواع الكفر بالله ( جل وعلا ) وقد صرح الله بأن المكذبين بالبعث والشاكين فيه من حطب جهنم في آيات كثيرة كقوله :﴿ وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ﴾ [ الفرقان : آية ١١ ] وقوله في المنكرين للبعث :﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد ﴾ استفهام إنكار منهم في الخلق الجديد بعد الموتة الأولى، قال الله :﴿ أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلل في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خلدون ﴾ [ الرعد : آية ٥ ]. وهذا معنى قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله واليوم الأخر وأقام الصلوة ﴾ يعني : الصلوات المكتوبات الخمس. ﴿ وءاتى الزكوة ﴾ الحقوق الواجبة في الأموال كما بيناه مرارا.
﴿ فعسى أولئك ﴾ جماهير العلماء يقولون :( عسى ) من الله واجبة ٢ لأن الله كريم لا يطمع في شيء إلا هو فاعله لشدة كرمه ( جل وعلا ) ﴿ أن يكونوا من المهتدين ﴾ أي : السالكين طريق النجاة والصواب الموصلة إلى الجنة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) أنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) قال : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " ٣ لأن الله يقول :﴿ إنما يعمر مسجد الله من آمن بالله ﴾ [ التوبة : آية ١٨ ] وقال أبو بكر بن العربي في الكلام على هذا الحديث في قوله : " فاشهدوا له بالإيمان " اشهدوا له شادة ظاهرة ؛ لأن فعله يدل عليها، وتعاهد المساجد يدل على إيمانه ظاهرا كما دل عليه قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله ﴾ أما حقيقة الباطن فهي عند الله جل وعلا. وهذا معنى قوله :﴿ إنما يعمر مسجد الله من ءامن بالله واليوم الأخر وأقام الصلوة وءاتى الزكوة ﴾.
وقوله :﴿ ولم يخش إلا الله ﴾ لم يخف أحدا إلا الله. وفي هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن سؤال معروف، وهو أن يقال : لا يوجد أحد إلا هو يخشى من غير الله، ويخاف من غير الله ؛ لأن كل المخاوف والمحاذير جبلت طبائع البشر على الخوف والخشية منها، والذي لم يخش شيئا من المخاوف والمحاذر هذا أمر صعب.
والعلماء يجيبون عن هذا بجوابين ٤ :
بعضهم يقول : الخشية التي هي شرك بالله يحذر الله منها هي خشية الأصنام، والخوف من المعبودات من دون الله، وهذا النوع دلت عليه آيات كثيرة ؛ لأن عبدة الأصنام يخوفون من يسب الأصنام بأن الأصنام ستفعل له وتفعل، كما قالوا لنبي الله هود :﴿ إن نقول إلا اعترك بعض ءالهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ﴾ الآية [ هود : الآيات ٥٤ - ٥٦ ] وكذلك لما خوفوا منها نبي الله إبراهيم ( عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ) وقالوا له : سوف تفعل بك أصنامنا وتفعل، قال لهم :﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( ٨١ ) ﴾ [ الأنعام : آية ٨١ ] وخوفوا بها نبي الله ( صلوات الله وسلامه عليه )، كما نص الله عليه في سورة الزمر في قوله :﴿ ويخوفونك بالذين من دونه ﴾ ثم قال ردا عليهم :﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ [ الزمر : آية ٣٦ ] وفي القراءة الأخرى ٥ :﴿ بكاف عباده ﴾ وهذا كثير في القرآن، فهذه الخشية التي يخاف صاحبها من عاقبة الأصنام هذا كفر بالله وشرك به.
وقال بعض العلماء : هي الخشية الدنيوية من الناس إذا كانت تحمل الإنسان على أن يعصي الله، كالذي يخشى من الكفار ويجبن عن الجهاد في سبيل الله، كما تقدم في قوله :﴿ أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ١٣ ] أما ما يعرض للإنسان من الخوف من الأشياء والمحاذير بجبلته فهذا أمر لا مؤاخذة به ؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها كما هو معلوم، وهذا معنى قوله :﴿ ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾ [ التوبة : آية ١٨ ].
١ في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
٢ مضى عند تفسير الآية (١٢٩) من سورة الأنعام..
٣ أخرجه أحمد (٣/ ٦٨، ٧٦)، والدارمي (١/ ٢٢٢)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة. حديث رقم: (٣٠٩٣) (٥/ ٢٧٧)، وابن ماجه في المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة. حديث رقم: (٨٠٢) (١/ ٢٦٣)، والبيهقي (٣/ ٦٦)، والحاكم (١/ ٢١٢، ٢/ ٣٣٢)، وابن حبان (الإحسان ٣/ ١١٠). وابن أبي حاتم في التفسير (٦/ ١٧٦٦)، وانظر: ضعيف ابن ماجه ص ٦٢، المشكاة (٧٢٣)، ضعيف الجامع (١/ ١٨٤)..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ٩٠)..
٥ انظر: المبسوط لابن مهرن ص ٣٨٤..
﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الأخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظلمين ( ١٩ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٩ ].
قال بعض العلماء : نزلت هذه الآية الكريمة في العباس بن عبد المطلب، ذلك أنه لما أسر يوم بدر كان علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) يلومه ويشدد عليه في قتاله للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يعيرونه وأصحابه بالشرك بالله، فقال لهم : تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ! ! فقال له علي : ألكم محاسن ؟ قال : نعم، نحن نعمر بيت الله الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، ونفعل ونفعل ١.
وقال بعض العلماء : نزلت في عثمان بن طلحة، أو شيبة بن طلحة وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب. قال العباس : أنا صاحب السقاية. وقال صاحب بني عبد الدار : أنا سادان البيت، عندي مفتاح الكعبة، لو أشاء لبت فيها. وقال علي بن أبي طالب : صليت إلى القبلة قبل أن يصلي الناس إليها، وذكر الجهاد ونحو ذلك، فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ ٢.
وأكثر المفسرين أن سبب نزولها هو افتخار الكفار بسقايتهم الحاج، وعمارتهم المسجد الحرام، وجعلهم ذلك مثل إيمان المؤمنين، وأن لهم من الأجر مثل ما للمؤمنين، فأنكر الله عليهم.
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة حديث مشكل، لأنه خرج جماعة عن النعمان بن بشير ( رضي الله عنه )، ومن جملة من خرج حديثه مسلم بن الحجاج ( رحمه الله ) في صحيحه، أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة وعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم رجال، فقال واحد منهم : لا أبالي أن أفعل شيئا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال الثالث : الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فزجرهما عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا يوم جمعة. فإذا صلى الجمعة استفتيت رسول الله فيم اختلفتم فيه. وأنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد ﴾ سبب نزل هذه الآية على هذا السياق أخرجه مسلم في صحيحه وجماعة ٣، وهو مشكل جدا ؛ لأنا لو فرضنا أن نزولها في المؤمنين لا يناسب قوله في آخرها :﴿ والله لا يهدي القوم الظلمين ﴾ [ التوبة : آية ١٩ ] فدل على أن الصحيح أنها في الكفار، وهذا الحديث أصله فيه إشكال معروف في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد أبو عبد الله القرطبي ( رحمه الله ) في تفسير هذه الآية إزالة هذا الإشكال ٤، وكلامه فيه أجود ما وقفت عليه في إزالة إشكاله، قال : إنهم لما اختلفوا وذكر واحد منهم عمارة المسجد، وذكر الثاني سقاية الحاج، وذكر الثالث الجهاد، وسأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي إنما قرأ الآية – وكانت نازلة قبل – مستدلا بها لحكم ما اختلفوا فيه، وهي قوله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ فظن الراوي أن قراءة النبي لها أن ذلك وقت نزولها، وذلك ليس بوقت نزولها، فهي نازلة قبل ولكنه ذكرها استشهادا واستدلالا لما اختلفوا فيه. وهذا هو الأظهر والله تعالى أعلم.
وقوله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الظاهر أن ( جعل ) هنا هي التي بمعنى اعتقد، وأنه أنكر عليهم اعتقادهم تساوي هذين الأمرين وهما بعيد من المساواة، بينهما بون عظيم، وبون شاسع.
وكان بعضهم يقول : لا يبعد أن تكون هي التي بمعنى ( صير ) أي : صيرتم هذا كهذا وادعيتم أنه مثله.
وقد ذكرنا في هذه الدروس مرارا ٥ أن لفظة ( جعل ) تأتي في اللغة العربية لأربعة معان، ثلاثة منها موجودة في كتاب الله، ورابعها موجود في اللغة العربية ولم يوجد في كتاب الله، من هذه المعاني الأربعة : كون ( جعل ) بمعنى ( اعتقد ) وجعل التي بمعنى اعتقد أصلها تنصب المبتدأ والخبر مفعولين، ومنها قوله :﴿ وجعلوا الملئكة الذين هم عبد الرحمن إنثا ﴾ [ الزخرف : آية ١٩ ] وفي القراءة الأخرى ٦ :﴿ الذين هم عند الرحمن إناثا ﴾ والمعنى جعلوا الملائكة إناثا، أي : اعتقدوهم إناثا ؛ لأنهم لم يصيروهم إناثا ولا يقدرون، فهي ( جعل ) بمعنى ( اعتقد ).
والثانية ( جعل ) بمعنى ( صير ) ومنه قوله :﴿ جعلنهم حصيدا خمدين ﴾ [ الأنبياء : آية ١٥ ] أي : صيرناهم. وهذه أيضا تنصب المبتدأ والخبر مفعولين.
والثالثة ( جعل ) بمعنى ( خلق ) وهي تتعدى إلى مفعول واحد، ومن هذا قوله في أول سورة الأنعام :﴿ الحمد لله الذي خلق السموت والأرض وجعل الظلمت والنور ﴾ [ الأنعام : آية ١ ] أي : خلق الظلمات والنور، بدليل عطفه على قوله :﴿ خلق السموت والأرض ﴾.
هذه ثلاثة معاني كلها في القرآن :( جعل ) بمعنى ( اعتقد )، ( جعل ) بمعنى ( صير )، ( جعل ) بمعنى ( خلق ).
الرابع منها :( جعل ) بمعنى ( شرع ) جعل يفعل كذا إذا شرع فيه. وهذه ليست موجودة في كتاب الله، وهي موجودة في كلام العرب بكثرة، ومنه قول الشاعر ٧ :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكير
وهذا معنى قوله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ [ التوبة : آية ١٩ ].
والسقاية هي إحدى الوظائف ؛ لأن قصي بن كلاب – وهو مجمع – لما جمع قريشا وأخذ سدانة الكعبة من خزاعة، وجمع قريشا وكان يسمى مجمعا ؛ لأنه جمع قبائل قريش بمكة، وهو الذي يقول فيه ابن حذافة ٨ :
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
جعل الوظائف وهي السقاية والرفادة والندوة واللواء وحجاجة البيت هذه الوظائف كلها جعلها لعبد الدار بن قصي ؛ لأن أولاد قصي أربعة : عبد بن قصي، وكان عبد الدار بن قصي، وعبد العزى بن قصى، وعبد مناف بن قصي. وكان عبد الدار بن قصي أقل أولاده شرفا وأكثرهم خمولا، فأعطاه جميع الوظائف. وجعل إلى عبد الدار السقاية، والرفادة، والحجاجة، ودار الندوة، واللواء.
اللواء هو حمل اللواء في الميدان عند التحام الحرب.
ودار الندوة : هي الدار التي كانوا لا يعقدون ولا يحلون إلا بها، اشتراها بعد ذلك حكيم بن حزام وباعها وتصدق بثمنها ٩. ولما قالوا له : يا أبا خالد : بعت مأثرة قريش ! ! قال لهم : الشرف بالدين لا بالديار.
والسقاية : كان قصي يجمع أموالا على قريش يجعل منها الرفادة والسقاية.
الرفادة : مال يكون عندهم يكون رفدا لمن تعطل، إذا مات بعير حاج اشتروا له بعيرا، وإذا افتقر أحد أو انقطعت به النفقة زودوه منه حتى يصل إلى أهله. كل هذا يفعله قصي ويأخذ هذا المال على قريش.
والسقاية : كانوا يأخذون النبيذ والشراب الطيب ويجعلونه في الموسم في الأماكن التي تغشاها الناس، فيأتي الناس فيشربون مجانا. وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أن أعرابيا جاء واستسقاهم من سقايتهم فسقوه نبيذا، فقال الأعرابي : سبحان الله إن الناس يسقون في سقايتهم اللبن والعسل وأنتم تسقون النبيذ ! ! يعيبهم بأن سقايتهم نبيذ. فاخبره ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بهم وسقوه من نبيذها، وأمرهم أن يسقوا الناي منه. قال : لا نزيد على ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ١٠. ومعلوم أن هذا النبيذ الذي يسكر كثيره لا ينبغي أن يقدم على شربه ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ١١ كما هو معروف. فهذه هي سقاية الحاج.
والرفادة والحجاجة التي هي سدانة البيت كانت كلها لعبد الدار، ولما شب أولاد عبد مناف وأرادوا نزع هذه الأشياء من بني عبد الدار، ووقعت المخالفة بين قريش، وتحالفوا للقتال الحلف الذي يقال فيه " حلف المطيبين " و " حلف لعقة الدم " كما هو معروف، ثم اصطلحوا على أن تبقى السقاية والرفادة أن ترد لبني عبد مناف، ويبقى للعبدريين اللواء والندوة وحجاجة البيت، أي : سدانة الكعبة حرسها الله. فهذه السقاية كانوا يفتخرون بها ويقولون : نحن نسقي الحاج ونعمر بيت الله ! ! ويجعلون هذا أفضل ممن يؤمن بالله، فأنكر الله عليهم فقال :﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ [ التوبة : آية ١٩ ] الحجاج يقدمون عليكم فتسقونهم ﴿ وعمارة المسجد الحرام ﴾ كترميمه وبنائه.
﴿ كمن ءامن بالله ﴾ لا بد أن يقدر مضاف في أحد الأمرين ١٢. قال بعض العلماء : يقدر في الأول، والمعنى : أجعلتم أصحاب سقاية الحاج، أو أهل سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن، آي : كالذين آمنوا بالله ؟
وقال بعض العلماء : يقدر المضاف في الثاني ﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد ﴾ كعمل من آمن بالله. والأمران جائزان، وأظهرهما : تقديره في الأول، والمعنى : أجعلتم أهل السقاية الحاج وأصحاب عمارة المسجد كالذين آمنوا بالله، لا يكونوا مثلهم أبدا. ويستأنس لهذا بالقراءة الشاذة المروية عن ابن الزبير وأبي بن كعب وأبي وجزة وغيرهم في قوله : " أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام " ١٣ السقاة : جمع الساقي، كقاضي وقضاة. والعمرة : جمع عامر، ككاتب وكتبة، وظالم وظلمة. فهي قراءة شاذة إلا أنها يستأنس بها للمعنى.
والحاج : اسم جنس لكل من يحج بيت الله الحرام، وسقايتهم : كما كانوا يسقون النبيذ والشراب الحلو في المواسم أيام الحج.
﴿ وعمارة المسجد الحرام ﴾ كما بناه قريش في صغر النبي صلى الله عليه وسلم. جعلتم واعتقدتم هذا ﴿ كمن ءامن بالله ﴾ لا يكون مثله.
ثم قال :﴿ لا يستون عند الله ﴾ لا يستوي هؤلاء وهؤلاء ؛ لأن عمل هؤلاء باطل للكفر ؛ لأن الله قال :﴿ وبطل ما كانوا يعملون ﴾ [ هود : آية ١٦ ] وقال ( جل وعلا ) :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا ( ٢٣ ) ﴾ [ الفرقان : آية ٢٣ ] وقال :﴿ والله لا يهدي القوم الظلمين ﴾ [ التوبة : آية ١٩ ] أي : ومنهم الكفرة الذين يفتخرون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فهم قوم ظالمون لا يهديهم الله ( جل وعلا ).
١ أخرجه نحو ابن جرير (١٤/ ١٧٠)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٨) وإسناده صحيح، والواحدي في أسباب النزول ص (٢٤٤)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). كما أورده عنه مختصرا وعزاه لابن مردويه.
وقد جاء في هذا المعنى جملة من الآثار منها:
الشعبي: أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧١)، وابن حاتم (٦/ ١٧٦٨)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن مردويه وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
عبد الله عبيدة: أورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن مردويه وأبي الشيخ.
ابن سيرين: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (٢٤٤)، وعزاه في الدر (٣/ ٢١٨) للفريابي.
الضحاك: أخره ابن جرير (١٤/ ١٧٢)..

٢ أخرجه ابن جري (١٤/ ١٨١) والواحدي في أسباب النزول ص (٢٤٤) عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وقد جاء بمعناه عدة آثار منها:
عن الحسن البصري: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (٢٤٤)، وعزاه في الدر (٣/ ٢١٩) لعبد الرزاق.
أنس بن مالك (رضي الله عنه): أورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٩) وعزاه لأبي نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر.
السدي: أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٧٢).
الشعبي: أخرجه ابن أبي حاتم (٦/ ١٧٦٧)..

٣ مسلم في الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. حديث رقم: (١٨٧٩) (٣/ ١٤٩٩)..
٤ تفسير القرطبي (٨/ ٩٢)..
٥ مضى عند تفسير الآية (١٠٠، ١١٢) من سورة الأنعام والآية (١٨٩) من سورة الأعراف..
٦ مضت عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
٧ مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
٨ تقدم هذا البيت في سبيل الهدى والرشاد (١/ ٢٧٥)..
٩ أخرجه الطبراني من طريقين (٣/ ١٨٦ - ١٨٧) وقال في المجمع (٩/ ٣٨٤): "رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن" ا. ـ..
١٠ أخرجه ابن سعيد (٢/ ١٣١)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٢١٩) وعزته لابن سعد..
١١ مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام..
١٢ تنظر: القرطبي (٨/ ٩١)، الدر المصون (٦/ ٣١)..
١٣ ذكرها ابن جني في المحتسب (١/ ٢٨٥)، والقرطبي (٨/ ٩١)، وأبو حيان في البحر (٥/ ٢٠) ولم أجد من عزاها لأبي بن كعب..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ الذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله بأموالهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ( ٢٠ ) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضون وجنت لهم فيها نعيم مقيم ( ٢١ ) خلدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ( ٢٢ ) ﴾ [ التوبة : الآيات ٢٠ - ٢٢ ].
لما قال أهل مكة مفتخرين بأنهم يسقون الحاج، ويعمرون المسجد الحرام، ويفكون العاني – أي : الأسير – وافتخروا بمثل هذه الخصال، وأنكر الله عليهم تسويتهم بين ذلك وبين الجهاد والإيمان في قوله الذي ذكرنا أمس ﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله ﴾ الآية [ التوبة : آية ١٩ ] صرح هنا بأن الإيمان بالله والهجرة والجهاد في سبيل الله أعظم درجة وأفضل مما يفتخر به أهل مكة. والظاهر أن صيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف ؛ لأن كفار أهل مكة لا درجة لهم في سقاية الحاج ولا عمارة المسجد ؛ لأن الله يقول :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله ﴾ [ التوبة : آية ١٨ ] ومعنى الآية الكريمة :﴿ الذين ءامنوا ﴾ بالله وبكل ما يجب به الإيمان ﴿ وهاجروا ﴾ أوطانهم وديارهم وأموالهم ﴿ في سبيل الله ﴾ ولإعلاء كلمة الله هؤلاء ﴿ أعظم درجة عند الله ﴾ ( درجة ) : تمييز محول عن الفاعل، أي : أرفع رتبة ومكانة ﴿ وأولئك ﴾ المذكورون ﴿ هم الفائزون ﴾ الظافرون بالحظ الأكبر ؛ لأن العرب تقول : " فاز فلان ". إذا ظفر بما كان يتمنى، وظفر بأكبر مطلوب، يقولون : " فاز " : نال الفوز، ومنه :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ [ آل عمرتن : آية ١٨٥ ]. والإتيان بضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله :﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ يدل على اختصاصهم بالفوز دون الذين قالوا : نحن نسقي الحاج ونعمر المسجد الحرام. وهذا معنى قوله :﴿ أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ﴾.
﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضون ﴾ [ التوبة : آية ٢١ ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة ﴿ يبشرهم ﴾ مضارع بشره يبشره. وقرأه حمزة من السبعة ١ :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ﴾ الآية، فعلى قراءة حمزة :﴿ يبشرهم ﴾ مضارع ( بشره ) ثلاثيا مجردا ( يبشره ) بالضم. وعلى الجمهور :﴿ يبشرهم ﴾ مضارع ( بشره ) بالتضعيف ( يبشره، تبشيرا ).
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٢ أن البشارة في لغة العرب هي الإخبار بما يسر، فكل من أخبرك بما يسرك فقد بشرك، وبشرك على اللغة الأخرى، وأنه يطلق أيضا على البشارة بما يسوء، فالعرب أيضا تسمي الإخبار بما يسوء ( بشارة ) إذا اقترن بما يدل على ذلك، وهو كثير في القرآن، كقوله :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : آية ٣٤ ] وقد ذكرنا أنه أسلوب عربي معروف. تقول العرب : " بشره بكذا ". إذا أخبر بما يسوؤه، ومنه قول الشاعر ٣ :
يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير
وبين أهله مما يسوؤه الإخبار به. وقول الآخر ٤ :
أبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
فجفاء الأحبة إخبار بما يسوء. ومعلوم أن الذين تكلموا في البلاغة والذين كانوا يقسمون الكلام إلى حقيقة ومجاز يقولون : إن البشارة حقيقة في الإخبار بما يسر، وهي في الإخبار بما يسوء استعارة عندهم، ويجعلونها من الاستعارة المسماة في اصطلاح البيانيين بالاستعار العنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله ٥. ونحن نقرر دائما أنها أساليب عربية، كلها حقيقة في محله، وقد وضعنا في ذلك رسالة تسمى ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) وهذا معنى قوله :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضون ﴾ [ التوبة : آية ٢١ ] الرحمة : مصدر رحمه، والرحمة من صفات الله ( جل وعلا )، ونحن معاشر المسلمين نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونثبت له ما أثبت لنفسه، منزهين خالق السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، فلا نميل إلى التعطيل، ولا إلى التمثيل، بل نقر بصفات الله ونؤمن بها على سبيل المخافة لصفات الخلق، كما علمنا الله في قوله :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] ومرارا نوضح مذهب السلف في آيات الصفات عند كل المناسبات.
ومعنى قوله :﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضون ﴾ [ التوبة : آية ٢١ ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة – أبي بكر – عن عاصم :﴿ ورضون ﴾ بكسر الراء. وقرأه شعبة عن عاصم ﴿ ورضوان ﴾ بضم الراء ٦ وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان ؛ لأن العرب تقول في مصدر رضي تقول : رضي يرضي رضاء ورضوانا. وتزيد فيه الألف والنون، والألف والنون تزادان في بعض المصادر كثيرا كالكفران والرجحان والغفران والرضوان. والكسر والضم لغتان فيه، ورضوان الله : رضاه ( جل وعلا )، والرضا أيضا صفة من صفات الله ( جل وعلا ) أثبت لنفسه الاتصاف بها إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه، كما قال تعالى :﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ [ البينة : آية ٨ ] ونحن دائما نوصي أنفسنا وإخواننا وعامة المسلمين أن يعتقدوا في مذهب السلف المعتقد الواضح الذي هو في ضوء القرآن العظيم، الذي لا إشكال فيه ولا قيل ولا قال، وصاحبه يلقى الله سالما من البلايا التي وقع فيها الناس الذين أكثروا الخوض في ذلك بقيل وقال.
وإيضاح مذهب السلف في آيات الصفات كما بينه القرآن وأوضحه هذا المحكم المنزل أنه يتأسس على ثلاثة أصول من جاء بها كاملة لقي الله سالما، ومن أخل بواحد منها أوقع نفسه في بلية فلا يدري هل يتخرج منها أو لا ؟ ٧.
أول هذه الأسس : هو الأساس الأعظم للتوحيد، والحجر الأساسي لمعرفة الله على طريق صحيح، هذا الأساس الأعظم هو : أن يعتقد الإنسان أن خالق السماوات والأرض منزه عن مشابهة جميع خلقه في جميع صفاتهم وأفعالهم وذواتهم، فالخلق صنعة، والخالق ( جل وعلا ) صانع ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾ [ ]النمل : آية ٨٨ والصنعة لا تشبه صانعها، فمن رزقه الله فهم هذا الأساس عن الله وعلم أن الخلائق صنعة، وأن خالقهم هو صانعهم ومدبرهم ومنشئهم علم أنه لا مناسبة بين صفاته وصفاتهم، وأنه منزه كل التنزيه، مقدس كل التقديس عن مشابهة خلقه، لا في ذواتهم، ولا في صفاتهم، ولا في أفعالهم. هذا الأساس الأعظم، فمن رزقه الله هذا الأساس، وفهمه عن الله، وطهر قلبه من أدران التشبيه، وأقذار التمثيل، كان يهون عليه بعد ذلك أن يصدق الله فيما وصف به نفسه، ويؤمن بصفات الله على الوجه اللائق بكماله وجلاله ٨.
وهذا الذي أقوله لكم ليس من تلقاء نفسي بل هو من تعليم خالق السماوات والأرض في المحكم المنزل الذي هو أعظم كتاب أنزله الله على أشرف رسول، لأن الله يقول فيه :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] فوضع الأساس الأول الذي هو أساس التنزيه ومخالفة الخلق في ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم بقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : آية ١١ ] ثم وضع بعده الأساس الثاني وهو الإيمان بصفات الله على أساس ذلك التنزيه، لا إيمانا دنسا وسخا ذاهبا إلى صفات الخلق، لا.. لا.. لا، بل هو إيمان منزه مبني على أساس التنزيه. وقوله :﴿ وهو السميع البصير ﴾ بعد قوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فيه سر أعظم، ومغزى أكبر، وتعليم عظيم من رب العالمين، كأنه يقول لك : تعقل يا عبدي وتفهم، ولا تنفي عني سمعي وبصري بدعوى أن المخلوقات تسمع وتبصر، وأن إثبات ذلك فيه تشبيه، لا.. لا.. ، راع في إثبات السمع والبصر أول الآية، وابنه على نفي المماثلة والمخالفة، اربط أول الآية بآخرها، فأولها تنزيه، وآخرها إيمان بالصفات على أساس ذلك التنزيه، فلا تقطع أول الآية من آخرها، ولا آخرها من أولها، بل اربط بينهما، ولا تقل : المخلوقات تسمع وتبصر، وإثبات السمع والبصر لله تشبيه. لا، أثبت السمع والبصر، ولكن إثباتا مبينا على ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ لا إثباتا وسخا نجسا قذرا ذاهبا إلى صفات الخلق، لا.. لا، فأول الآية تنزيه بلا تعطيل، وآخرها إيمان بالصفات وإثبات لها بلا تمثيل.
الأصل [ الثالث ] ٩ من هذه الأصول الثلاثة : هي أن يعلم الإنسان قدره، ويقف عند حده ؛ لأن خالق السماوات والأرض أعظم وأجل وأكبر من أن تحيط بع العقول المخلوقة المسكينة، والله يقول :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( ١١٠ ) ﴾ [ طه : آية ١١٠ ] فنفى الإحاطة للعلم البشري عن خالق السماوات والأرض نفيا باتا.
فمن لقي الله وهو متمسك بهذه الأسس الثلاثة في ضوء كتاب الله لقيه في سلامة وفي غير ندامة. ونحن الآن في طريقنا في إسراع وحث إلى الوقوف بين يدي الله ( جل وعلا ) ؛ لأن هذه اللحظات والدقائق والثواني يظن الجاهل أنها هادئة وأنها واقفة، وهي تقطع بنا آلاف الأميال إلى المحشر، فعن قريب ونحن قائمون بين يدي الله في صعيد واحد، ينفذنا البصر ويسمعنا الداعي، ويسألنا الله، والله يقول :﴿ فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين ( ٦ ) ﴾ [ الأعراف : آية ٦ ] ﴿ فوربك لنسئلنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ( ٩٣ ) ﴾ [ الحجر : الآيتان ٩٢، ٩٣ ] فيوشك أن يقول لنا : ماذا كان موقفكم من صفاتي التي كنت أثني بها على نفسي في كتابي، ويثني بها علي رسولي صلى الله عليه وسلم ؟
[ ولا يقول لك الله : لم نزهتني عن مشابهة خلقي ؟ لا والله، لا يقول لك ذلك ] ١٠/ أبدا بل تنزيه رب السماوات عن مشابهة خلقه في ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم طريق سلامة محققة لا شك فيه، ولا يقول لك الله : لم صدقني فيما مدحت به نفسي، وأثنيت به على نفسي، وأنزلته في كتابي معلما خلقي أن يمدحوني به ؟ ! لا يقول لك : هذا ابدا، ولا يقول لك : لم تقف عند حدك، وتقر بما لا تعلم ؟ لأن الله يقول :﴿ ولا يحيطون به علما ﴾ بل هي كلها طرق سلامة محققة.
واعلموا أيها الإخوان أن أول البلايا ومنشأ الرزايا كله من أنجاس القلوب بسبب التشبيه، كل البلايا منشؤها الوحيد بسبب أنجاس القلوب من أقذار التشبيه. هذا أصل البلاء والمحن والفتن الذي طبقت وجللت هذه المعمورة ؛ لأن السلفي – مثلا – العامل بضوء القرآن، إذا سمع الله يثني على نفسه بصفة من الصفات التي أثبتها لنفسه، سواء كانت صفة ذات أو صفة فعل، كقوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ [ الفرقان : آية ٥٩ ] امتلأ قلبه إجلالا وتعظيما وإكبارا، وعلم أن هذا الاستواء الذي أثنى الله به على نفسه في سبع آيات من كتابه أنه بالغ من غايات الكمال والجلال والتنزيه والتقديس والمباعدة عن صفات المخلوقين ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. أما إذا كان قلب الإنسان فيه بعض أقذار التشبيه فأول ما يسبق على ذهنه أن هذا الاستواء ظاهره استواء المخلوقات – سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا – فيخطر في ذهنه أنه انتصاب كانتصاب هذا، فيتقذر القلب من أقذار التنجيس والتشبيه، فعند ذلك تأتي البلايا، وبعد ذلك إذا قال : ظاهر هذا هو مشابهة صفات المخلوقين جاءت البلايا من هنا، ثم إنه دعاه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي هذه الصفة عن الله، ومن ينفي عن الله وصفا أثبته لنفسه فهو " أجرأ من خاصي الأسد " ١١. ثم إذا نفى هذه الصفة عنه ذهب يتلمس إلى وصف في زعمه ملائم، ثم يبدل الاستواء بالاستيلاء فيقول : استوى معناه استولى ! ! ويضرب لهذا مثلا بقول الراجز في بشر بن مروان ١٢ :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فهذا غلط شديد كبير أيها الإخوان ! ! ونحن نرجو الله أن الذين وقعوا فيه من العلماء أن يعفو الله عنهم ويغفر لهم لحسن نياتهم، فهم كما قال الشافعي رحمه الله ١٣ :
رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا
ونرجو الله ألا يكونوا كالذين قال الله فيهم :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( ٥٩ ) ﴾ [ البقرة : آية ٥٩ ]. وهذا الذي ذهبوا إليه أعظم وأشر وأضر من الذي فروا منه ؛ لأنا نقول : أيها الإنسان الذين ضربت مثلا لاستيلاء الله على عرشه الذي فسرت به الاستواء من تلقاء نفسك باستيلاء بشر بن مروان على العراق وضربت له المثل ببيت الرجز المذكور :
قد استوى بشر على العراق من غي سيف ودم مهراق
أما تستحي من الله ؟ أما تخاف الله ؟ وبأي مبرر سوغت لنفسك أن تشبه استيلاء الله على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر بن مروان على العراق ؟ وهل يوجد في الدنيا تشبيه أنتن وأخس وأقبح من هذا ؟ ! شبهت العرش بالعراق، ورب السماوات والأرض ببشر بن مروان، وهذا يفتح بابا إلى بحور من أنواع التشبيه لا ساحل لها أبدا ؛ لأنه فيه تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم بكل مخلوق قهر مخلوقا فغلبه فاستولى عليه ! ! فمن هنا يضطر هذا القائل أن يقول : الاستيلاء الذي فسرت به الاستواء استيلاء منزه عن استيلاء المخلوقين. ونحن نقول : كيف تنزه وأنت تضرب له المثل باستيلاء بشر بن مروان ؟ ثم نقول : إذا لزمنا أن ننزه أحد الكلمتين : إما الاستواء الذي نص الله عليه في كتابه في سبع آيات من القرآن كتابا يتلى أو الاستيلاء الذي جئت به، أيهما أحق بالتنزيه ؟ والجواب : ولا شك أن كلام رب العالمين الذي أنزله وحيا يتلى من فوق سبع سماوات أحق بالتنزيه من
١ انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩)..
٢ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام..
٣ تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام..
٤ السابق..
٥ السابق..
٦ انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩)..
٧ راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام..
٨ وهذا هو الأساس، والأصل الثاني من الأصول الثلاثة المشار إليها..
٩ في الأصل: "الثاني"، وهو سبق لسان..
١٠ في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها المعنى..
١١ انظر: الأمثال لأبي عبيد ص ٣٧٥..
١٢ مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام..
١٣ مضى عند تفسير الآية (١٤٨) من سورة الأنعام..
﴿ خلدين فيها أبدا ﴾ [ التوبة : الآية ٢٢ ] على الدوام لا يزولون، كما قال جل وعلا :﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ [ الكهف : آية ١٠٨ ] لا يتحولون عنها إلى غيرها.
﴿ إن الله ﴾ ( جل وعلا ) ﴿ عنده أجر عظيم ﴾ الأجر في لغة العرب : جزاء العمل. ومعنى ﴿ أجر عظيم ﴾ أي : جزاء عملهم وهو الجنة، ووصفه بالعظم لما في الجنة من عظيم الشأن ؛ لأن الله يقول فيها :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( ١٧ ) ﴾ [ السجدة : آية ١٧ ] ولأجل هذا وصف هذا الجزاء بالعظم. وقد جاء مفصلا في القرآن جميع ملاذه، كالمناكح في النساء التي هن في غاية الجمال، والملابس التي هي في غاية الجمال، والمشارب، والأواني، والحلي، والولدان، والغلمان إلى غير ذلك من نعيم الجنة المفصل في آيات هذا القرآن العظيم، وهذا معنى قوله :﴿ خلدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ( ٢٢ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٢ ].
﴿ يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخونكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمن ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظلمون ( ٢٣ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٣ ].
سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه كان رجال من المسلمين يؤمنون بالله ويريدون الهجرة، فإذا أراد الواحد منهم أن يهاجر إلى رسول الله ليشارك المسلمين فيما فيه من الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله جاءته امرأته وأولاده وأبوه وأخوه يناشدونه بالله ألا يذهب عنهم، ويقولون له : إلى من تكلنا ؟ ويثبطونه فبعضهم يمكث من أجل هذا. فنهاهم الله عن هذا، وسيأتي في سورة التغابن آية التغابن النازلة في عوف بن مالك الأشجعي، وهي قوله :﴿ إن من أزوجكم وأولدكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ [ التغابن : آية ١٤ ] لأنها نزلت في عوف بن مالك، كان كلما أراد الهجرة جاءت امرأته وأولاده وناشدوه بالله، وقالوا : إلى من تكلنا ؟ فيتثبط، فلما هاجر بعد ذلك وجد المسلمين سبقوه بكل خير، فندم وأراد أن يضرب امرأته وأولاده بسبب تثبيطهم إياه. فأمر الله المسلمين أن يتحفظوا من الأولاد والأزواج لئلا يثبطوهم عن الجهاد في سبيل الله، وأنهم إن وقع منهم شيء أن لا يؤاخذوهم، بل يعفوا عنهم ويصفحوا ١، كما قال في آية التغابن :﴿ إن من أزواجكم وأولدكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ [ التغابن : آية ١٤ ] ثم قال :﴿ إن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ أي : اصفحوا عنهم واغفروا لهم ولا تؤاخذوهم. وهذا معنى قوله :﴿ يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخونكم ﴾ [ التوبة : آية ٢٣ ] قالوا : لم يذكر الأولاد هنا وذكرها في غير هذا الموضع، لا تتخذوهم أولياء توالونهم إذا كانوا يريدون أن يقطعوكم عن الهجرة.
﴿ إن استحبوا الكفر على الإيمن ﴾ قرأ الهمزة الثانية من قوله :﴿ أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمن ﴾ نافع وابن كثير وأبو عمرو مسهلة بين بين، والباقون بتحقيقها كما هو معلوم ٢.
ومعنى ﴿ استحبوا الكفر ﴾ معناه : اختاروه وآثروه على الإيمان، إن آثروا الكفر واختاروه على الإيمان لا تتخذوهم أولياء، بل قاطعوهم وهاجروا ولا تركنوا إليهم. ويتعدد في القرآن إطلاق ( استحب ) بمعنى :( اختار ) و ( آثر ) ومنه قوله :﴿ وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ [ فصلت : آية ١٧ ] أي : فاختاروه وآثروه عليه. ومنه قوله :﴿ الذين يستحبون الحيوة الدنيا على الأخرة ﴾ [ إبراهيم : آية ٣ ] أي : يؤثرونها ويقدمونها عليها. وهذا معنى قوله :﴿ إن استحبوا الكفر على الإيمن ومن يتولهم منكم ﴾ [ التوبة : آية ٢٣ ] فيكون معهم فيما هم فيه ويترك الهجرة ﴿ فأولئك هم الظلمون ﴾.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٣ أن أصل مادة ( الظلم ) مادة الظاء واللام والميم، ( ظلم ) أنها في لغة العرب التي نزل بها القرآن أصلها في الوضع العربي : هو وضع الشيء في غير محله. فمن وضع شيئا في غير محله تقول العرب : إنه ظلم ؛ لأنه وضع الشيء في غير محله. ومنه قالوا للذي يضرب لبنه قبل أن يروب : " ظالم " ؛ لأنه وضع الضرب في غير محله ؛ لأنه يفسد زبده، ومنه قول الشاعر ٤ :
وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم
وقول الآخر ٥ :
وصاحب صدق لم تردني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
أصل الظلم هو وضع الشيء في غير محله، وجاء في القرآن في موضع واحد بمعنى النقص، وهو :﴿ كلتا الجنتين ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ [ الكهف : آية ٣٣ ] أي : ولم تنقص منه شيئا. وأصل الظلم وضع الشيء في غير محله، وأعظم أنواع وضع الشيء في غير محله : الكفر بالله ؛ لأنه وضع للعبادة في غير من خلق، فالذي يأكل رزق الله، ويتقلب في نعيمه، ويعبد غيره قد وضع عبادته في غير موضعها، فهو ظالم، وهذا أكبر أنواع الظلم ؛ ولأجل هذا يكثر في القرآن العظيم إطلاق الظلم على الكفر، كما قال تعالى :﴿ والكفرين هم الظلمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ] وقال تعالى :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظلمين ( ١٠٦ ) ﴾، ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] وقد ثبت في صحيح البخاري ٦ أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله تعالى :﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم ﴾ [ الأنعام : آية ٨٢ ] قال : بشرك. ثم تلا آية لقمان :﴿ يبني لا نشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ هذا أصل الظلم. وقد يكون ظلم دون ظلم ؛ لأن من أطاع الشيطان وعصى ربه بغير ما يكفر به قد وضع الطاعة في غير موضعها، ووضع المعصية في غير موضعها حيث عصى ربه وأطاع عدوه. ومن كفر بالله وضع العبادة في غير موضعها ؛ ولذلك هنالك ظلم هو كفر، وهنالك ظلم دون ظلم هو خروج عن طاعة الله لا يبلغ بصاحبه الكفر، وهذا معنى قوله :﴿ فأولئك هم الظلمون ﴾ لأنهم وضعوا الأمر في غير موضعه فاتخذوا من يضرهم أولياء، وتركوا ما ينفعهم من الهجرة والجهاد في سبيل الله. وهذا معنى قوله :﴿ فأولئك هم الظلمون ﴾.
١ الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التغابن. حديث رقم (٣٣١٧) (٤/ ٤١٩)، والحاكم (٢/ ٤٩٠)، وابن جرير (٢٨/ ١٢٥) وانظر: صحيح الترمذي (٣/ ١٢١)..
٢ انظر: الإتحاف (٢/ ٨٩)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
٤ السابق..
٥ السابق..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
﴿ قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزوجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجرة تخشون كسادها ومسكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى بأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفسقين ( ٢٤ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٤ ].
سبب نزولها هو ما أشرنا له آنفا ؛ لأن بعض الناس كان إذا أسلم عاقته هذه العوائق عن الهجرة والجهاد في سبيل الله ( جل وعلا ) بأن تعطله والتجارات التي يخاف أن تضيع بالكساد ويضيع ربحها، إن كان هذا كله أحب إليكم من الله ومن رسول ومن الجهاد في سبيله ﴿ فتربصوا ﴾ هو أمر تهديد كما يأتي.
وقوله :﴿ ءاباؤكم ﴾ اسم كان. و ﴿ أحب ﴾ خبرها.
ومعنى الآية الكريمة : قل يا نبي الله لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة في سبيل الله بسبب هذه العوائق الآتية، قل لهم : إن كانت هذه الأمور التي عاقتكم أحب إليكم من الله ومن رسوله ومن جهاد في سبيله فانتظروا أمرا يأتيكم من الله. وهذا معنى قوله :﴿ قل إن كان ءاباؤكم ﴾.
الآباء جمع أب، والعرب تقول : " أب " إذا نكرتها تعربها على العين وتحذف لامها ولا تعوض منه شيئا، وهي من الأسماء التي تعرب على العين عند التنكير والتعريف. أما إذا أضيفت فإن لا مها ترجع لها ١، وأصل لام ( الأب ) واو، أصله ( أبو ) فلام الكلمة واو، فإنها إذا أضيفت – مثلا – أعربت بالواو والألف والياء، فرجعت لها لامها كما هو معروف. وإذا نكرت أو عرفت أسقطت لامها وأعربت على العين ٢.
والإخوان جمع أخ. وأصل ( أخ ) أيضا لامه المحذوفة واو ؛ ولهذا رجعت في جمع التكسير في قوله :﴿ وإخونكم ﴾ فالأخ أصله ( أخو ) بالواو، فلامه المحذوفة واو ٣، وهو كالأب في جميع ما كنا نذكر. هذا معنى قوله :﴿ قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم ﴾. الأبناء جمع الابن وهو معروف.
﴿ وأزواجكم ﴾ الأزواج جمع زوج، وزوج الرجل امرأته، ومفرده ( زوج ) بلا هاء، وهذه هي اللغة الفصيحة. العرب تقول : هذه زوجه، أي : امرأته، وزعم بعض علماء العربية أن قولهم ( زوجته ) بالتاء أنها من لحن الفقهاء، وأنها لا أساس لها في العربية. والتحقيق أن اللغة الفصحى في امرأة الرجل أنها ( زوجه ) بلا تاء، وأن التاء لغة فيها مسموعة وليست لحنا كما يقول بعضهم ٤. ومن إطلاق الزوجة بالتاء على امرأة الرجل قول الفرزدق، همام بن غالب، وهو عربي قح ٥ :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
ومنه قول الحماسي ٦ :
فشكا بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية : إنها زوجتي ٧. فالتحقيق أن الزوجة بالتاء لغة لا لحن، وأن اللغة الفصحى في امرأة الرجل أن يقال فيها :( زوجه ) بلا هاء. وهذا معنى ﴿ وأزواجكم ﴾ أي : نساؤكم.
﴿ وعشيرتكم ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة – غير أبي بكر عن عاصم – ( أعني بأبي بكر : شعبة ) قرؤوه كلهم ﴿ وعشيرتكم ﴾ بالإفراد. وقرأه شعبة عن عاصم :﴿ وعشيراتكم ﴾ ٨ بجمع التصحيح، جمع عشيرة، وعشيرة الرجل ثبت في صحيح البخاري وغيره ما يدل على أنها تشمل إلى الجد العاشر ؛ لأنه ثبت في الصحيح ٩ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ( ٢١٤ ) ﴾ [ الشعراء : آية ٢١٤ ] أنه امتثلها فنادى بني فهر، وفهر هو جده العاشر صلى الله عليه وسلم، فدل هذا الحديث الصحيح على أن العشائر تشمل إلى الجد العاشر من الرجل، وهذا معنى ﴿ وعشيرتكم ﴾.
﴿ وأموال اقترفتموها ﴾ الاقتراف في لغة العرب معناه الاكتساب، أموال اكتسبتموها تخافون إن سافرتم عنها أن تضيع ﴿ وتجرة تخشون كسادها ﴾ تخافون إذا هاجرتم عنها أن تكسد ولا تجد رواجا وربحا، وكان بعض العلماء يقول : إن التجارة التي يخاف كسادها من عنده بنات – مثلا – إذا خرج كسدن ولم يجدن أزواجا يتزوجونهن ١٠. والأول هو ظاهر القرآن، وهو ظاهر اللغة، وإن كان الثاني قال به جماعة.
﴿ ومسكن ﴾ جمع المسكن وهي الديار والقصور ﴿ ترضونها ﴾ يعني ترضونها سكنا وتحبون الإقامة والسكنى فيها، إن كان هذا كله أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ﴿ فتربصوا ﴾ قد ثبت في الصحيح ١١ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحد حتى يكون رسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده بل ومن نفسه التي بين جنبيه، فلا يؤمن أحد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ومن كل شيء كائنا ما كان. وكذلك محبة الله ( جل وعلا )، فالمسلم يحب الله ( جل وعلا ) ويحب رسول صلى الله عليه وسلم، واعلموا أيها الإخوان أن العلامة الواضحة لمحبة الله ورسوله هي امتثال أمر الله واجتناب نهي الله فيما بلغه عنه رسول محمد صلى الله عليه وسلم. هذا هو علامة المحبة. واعلموا أن كل من يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخالفه أنه كذاب، كذاب، لا يحب الله ولا رسوله، ومن يخالف الله فالحب منتقص بقدر المخالفة، والمحب جدا لا يخالف محبوبه، فعلامة حب الله وحب رسوله الواضحة والشهادة به القاطعة هي اتباع ما جاء عن الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومصداق هذا في كتاب الله :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ [ آل عمران : آية ٣١ ] فمحبة الله ومحبة رسول الله علامتها القاطعة اتباع رسول الله، فكل من يدعي أنه يحب الله ويحب رسول الله ويرتكب الأمور المخالفة لما جاء به رسول الله عن الله فهو كذاب، كذاب، كذاب في دعواه المحبة. وهذا أمر معروف عند الناس ؛ لأنه من الجبلة المعروفة عند العامة أن المحبة تقتضي الاتباع :
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع ١٢
وقد صدق من قال ١٣ :
قالت وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
هذا في محبة مخلوق على وجه غير لائق فكيف بمحبة الله ورسوله ؟ فالمحب لله هو مطيع الله، والمحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو متبع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ فتربصوا ﴾ التربص في لغة العرب : الانتظار، ومنه :﴿ يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء ﴾ [ البقرة : آية ٢٢٨ ].
تربصن بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها ١٤
قال بعض العلماء :﴿ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ الظاهر أنه واحد الأمور، ولا شك أن في هذه الآية تهديدا وتخويفا لمن دام على إيثاره هذه الأشياء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ حتى يأتي الله بأمره والله ﴾ جل وعلا { لا يهدي القوم الفسقين.
مثل هذه الآيات فيه سؤال معروف للعلماء، كقوله :﴿ والله لا يهدي القوم الفسقين ﴾ ﴿ لا يهدي القوم الظلمين ﴾ فالله ( جل وعلا ) نفى هدايته للفاسقين، ونفى هدايته للظالمين، مع أنا نشاهد بعض الفسقين الظالمين يهديه الله، وكم من كافر شديد في الكفر، ظالم فاسق يهديه الله. هذا وجه الإشكال.
وأجاب العلماء عن هذا بجوابين :
أحدهما : أن قوله :﴿ لا يهدي القوم الظلمين ﴾، ﴿ لا يهدي القوم الفسقين ﴾ من المخصوص، وأن المراد بها الذين سبق في علم الله أنهم لا يهتدون من الفسقة والظلمة الذين قال الله فيهم :﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ( ٩٦ ) ولو جاءتهم كل ءاية ﴾ الآية [ يونس : الآيتان ٩٦ - ٩٧ ].
وقال بعض العلماء : لا يهديهم ما زالوا متصفين بالظلم والفسق، فإذا نزعوا عن ذلك برحمة الله وهدايته زال عنهم اسم الفسق والظلم فلا مانع إذا من هداهم. هكذا قاله بعض العلماء والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ والله لا يهدي القوم الفسقين ﴾ [ التوبة : آية ٢٤ ].
١ انظر: شرح قطر الندى ص ٤٦..
٢ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ٧..
٣ انظر: المصدر السابق ص ١٧..
٤ راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٨٩) من سورة الأعراف..
٥ السابق..
٦ السابق..
٧ السابق..
٨ انظر: المبسوط لابن مهران ص (٢٢٦)..
٩ البخاري في التفسير، باب: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين (٢١٤)﴾ حديث رقم: (٤٧٧٠) (٨/ ٥٠١) وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم: (٤٩٧١) ومسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين (٢١٤)﴾ حديث رقم: (٢٠٨) (١/ ١٩٣) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). وقد جاء نحوه عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين..
١٠ انظر: القرطبي (٨/ ٩٥)..
١١ البخاري في الإيمان، باب: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان. حديث رقم: (١٥) (١/ ٥٨)، ومسلم في الإيمان، باب: وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. حديث رقم: (٤٤) (١/ ٦٧)، من حديث أنس (رضي الله عنه). وأخرجه البخاري في الموضع السابق (١٤) من حديث أب هريرة (رضي الله عنه). وقد ذكره الشيخ بمعناه، ولفظه: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي بعض الألفاظ: "من أهله وماله والناس أجمعين"..
١٢ البيت في تاريخ دمشق (١٣/ ٣٧٩) ونسبه للحسن بن محمد بن الحنفية..
١٣ البيتان في ديوان يزيد ص ٨٣، وهي أيضا في (قرى الضيف) ص ١١٨، بالإسناد إلى أبي المطاع ذي القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد من شعره. وذكرهما الأبشيهي في المستطرف (٢/ ٣٨٥)، وابن الجوزي في المدهش ص ٣١٤، بدائع الفوائد (٣/ ٢١٦) ولفظهما هناك:
قالت لطيف خيال زارها ومضى بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته يا برد ذاك الذي قالت على كيدي.

١٤ البيت في القرطبي (٣/ ١٠٨)، واللسان (مادة: ربص) (١/ ١١٠٦)، والدر المنثور (٦/ ١٢٠) وعزاه لابن الأنباري في الوقف والابتداء، وهو أيضا في فتح القدير (١/ ٢٣٢) (٥/ ٩٩)..
﴿ لقد نصركم الله ﴾ اللام جواب قسم محذوف، والله لقد نصركم الله. أي : أعانكم على أعدائكم ﴿ في مواطن كثيرة ﴾ أي : في مشاهد ومواضع كثيرة، كما نصركم يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم فتح مكة، وإلى غير ذلك ﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾ [ التوبة : آية ٢٥ ] بين الله في هذه الآية الكريمة أن النصر من عند الله وحده، لا بكثرة العدد ولا بكثرة العدد، ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصبرين ﴾ [ البقرة : آية ٢٤٩ ] لأن أكثر غزاة قبل تبوك غزاها النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، كانوا اثني عشر ألفا، عشرة آلاف مقاتل فتح بهم مكة، وألفان من مسلمة الفتح من قريش ومن معهم وهم الطلقاء. وكان بعض العلماء يقول : إنه دخل مكة وفتحها باثني عشر ألفا. فيكون المجموع : أربعة عشر ألفا. ذكروا أن الصحابة قالوا : لن نغلب اليوم من قلة. بعضهم يقول : إن هذه قالها أبو بكر ( رضي الله عنه )، وقيل : قالها رجل آخر. فلما أعجبتهم الكثرة وأنهم كانوا اثني عشر ألفا، أو أربعة عشر ألفا، وقيل : ستة عشر ألفا. وأكثر الروايات أنهم كانوا اثني عشر ألفا، عشرة آلاف فتح بهم مكة، وألفان من أهل مكة أسلموا وغزوا معه. ﴿ فلم تغن عنكم ﴾ هذه الكثرة ﴿ شيئا عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ وهذا نص الله فيه على ما وقع بالمسلمين أول وقعة حني، يبين لهم أن النصر من عنه ( جل وعلا ) وحده لا من كثرة العدد والعدد.
ونحن دائما في هذه الدروس إذا جاءت غزوة من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآيات القرآنية نفصلها ونذكر تفاصيلها لتمام الفائدة كما أوضحنا فيما مضى غزوة أحد في سورة آل عمران، وغزوة [ بدر ] ١ في سورة [ الأنفال ] ٢، وسيأتي في سور القرآن العظيم أكثر مغازيه صلى الله عليه وسلم.
وهذه الغزوة التي أشار لها الله هنا وبين أن الصحابة أعجبتم كثرتهم فيها، وأن كثرتهم لم تغن عنهم شيئا، وأنهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولوا مدبرين، هي غزوة حنين، وسنشير الآن إلى هذه الغزوة ونذكر تفاصيلها.
أما حنين فهو واد من أودية تهامة بين مكة والطائف غير بعيد من ذي المجاز، وأما الذين غزاهم فهم هوازن، وهوازن قبيلة من قبائل قيس عيلان بن مضر ؛ لأن هوازن هو ابن منصور بن خصفة بن عكرمة ٣ بن قيس عيلان بن مضر.
قال بعض أصحاب المغازي و السير ٤ : لما سمع هوازن بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من [ المدينة ] ٥ ظنوا أنه يقصدهم في غزاة الفتح فتجمعوا، جمعهم رئيسهم في ذلك الوقت، ورئيسهم في ذلك الوقت مالك بن عوف النصري من بني نصر بن بكر بن هوازن. ثم لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة جمعهم مالك بن عوف وعزموا على مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بأخبارهم فأرسل إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ( رضي الله عنه ) عينا يعرف له أخبارهم، فدخل في القوم مختفيا وسمع أخبارهم، وعرف أنهم عازمون على حرب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة في رمضان من سنة ثمان.
قال بعض أصحاب المغازي ٦ : فتحها لعشرين خلت من رمضان وعشر بقيت، وأنه أقام العشر الأواخر من رمضان بمكة بعد أن فتح مكة وخمس ليال من شوال، ثم غزا بعد خمس عشرة ليلة من فتحه مكة غزا هوازن باثني عشر ألفا من أصحابه، عشرة آلاف الذين فتح بهم مكة، والألفان الذين أسلموا وخرجوا غازين معه من الطلقاء أهل مكة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بأن هوازن تجمعوا له في وادي حنين فقصدهم ( صلوات الله وسلامه عليه ) وقد صلى ( صلوات الله وسلامه عليه ) الصبح، وفي مخرجه هذا من مكة إلى حنين. مر بذات أنواط، وهي سدرة خضراء كبيرة كان المشركون يأتونها يوما من السنة يذبحون عندها، ويعكفون عندها، ويعلقون عليها سلاحهم تسمى " ذات أنواط " وكان كثير ممن معه حديث عهد بالإسلام، فقالوا له : يا نبي الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال ( صلوات الله وسلامه عليه ) : الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده ما قال قوم موسى لموسى :﴿ اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون ﴾ [ الأعراف : آية ١٣٨ ] ٧ وكان العباس بن مرداس السلمي قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قاصدا هوازن قال قصيدة يصف فيها جيش رسول الله صلى الله وسلم وما يعزم عليه من غزو هوازن منها أنه يقول ٨ :
أبلغ هوازن أعلاها وأسلفها *** عني رسالة نصح فيه تبيان
إني أظن رسول الله صابحكم *** جيشا له في فضاء الأرض أركان
فيهم سليم أخوكم غير تارككم *** والمسلمون عباد الله غسان
وفي عضادته اليمنى بنو أسد *** والأجربان بنو عبس وذبيان
تكاد ترجف منه الأرض رهبته *** وفي مقدمه أوس وعثمان
يعني ب( أوس وعثمان ) قبيلتي مزينة من قبائل أد بن طابخة بن إلياس، ومزية أمهم. فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان قريبا منهم كان مالك بن عوف جمع جميع من طاوعه من هوازن، وكانت خرجت معه بنو نصر كلها ( بنو نصر بن بكر بن هوازن )، وبنو جشم كلها، ( جشم بن بكر بن هوازن ) وبنو سعد كلهم، ( سعد بن بكر بن خوزان )، ولم يخرج معه كثير من بني عامر بن صعصعة من قبائل هوازن، تخلف عنه بنو ربيعة، وبنو كلاب، وجاء معه أوزاع قليلة من بني هلال بن عامر بن صعصعة، وجماعة من بني عمرو بن عامر بن صعصعة، وبني عوف بن عامر بن صعصعة، وجاء معه ثقيف كلها، وكانت ثقيف كلها ترجع إلى قبيلتين، وثقيف أهل الطائف، وثقيف هو ابن بكر بن منبه بن هوازن، هم من قبائل هوازن، وإن كان كثير من الناس يظن أنهم مع هوازن، فهم من هوازن ؛ لأن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن جاءت معه ثقيف كلها لم يبق منهم أحد، وكان رئيس الجميع مالك بن عوف النصري، وكان في ثقيف أهل الطائف رئيسان، رئيس الأحلاف، ورئيس بني مالك ؛ أما رئيس الأحلاف ذلك اليوم فهو قارب بن الأسود بن مسعود بن المعتب، ورئيس بني مالك هو ذو الخمار، وهو سبيع بن الحارث، وأخوه أحمر بن الحارث. وجاء دريد بن الصمة من بني جشم بن بكر، وكان سيدا عظيما من سادات هوازن، مجربا في الحروب، وكان في ذلك الوقت شيخا فانيا يرتعش، لا فائدة فيه إلا التيمن برأيه، جاء راكبا في شجار ٩ له، وكان جماع الناس إلى مالك بن عوف النصري، فقال دريد : هذا المحل الذي أنتم فيه أي واد أنتم فيه ؟ قالوا : نحن الآن بوادي أوطاس. قال : نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس ولا سهل دهس. ثم إنه قال : ما لي أسمع بكاء الصغير، ونهاق الحمير، ورغاء البعير، ويعار الشاء ؟ قالوا له : جمع مالك بن عوف مع هوازن مواشيهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم ! ! فقال : أين مالك ؟ فدعي له مالك بن عوف، فقال : يا مالك ! ! لقد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده، فما لي أسمع رغاء البعير، وبكاء الصغير ونهاق الحمير، ويعار الشاء ؟ قال : سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأولادهم. قال : ولم ؟ قال : أريد أن يكون عند ظهر كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم ولا يفر. فقال دريد يهزأ بمالك ( أنقض به ) – أي أخرج من فمه صوتا استهزاء به – وقال : راعي ضأن والله، هل يرد المنهزم شيء ؟ ! هذا ليس برأي ؛ لأنها إن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فكان الأولى أن تردهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، فإن كانت لك فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. فقال مالك : والله لا أفعل غير هذا. ثم قال : يا معشر هوازن والله لتطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ! ! فقالوا : أطعناك. فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. ثم قال : هل حضر أحد من بني كعب أو كلاب ؟ قالوا : ما حضرها أحد من بني كعب ولا كلاب. يعني كعبا وكلابا أولاد عامر بن صعصعة. قال : غاب الجد والحد ١٠ لو كان يوم رفعة وعلاء لم يغب عنه كعب وكلاب. وقال : من حضرها من عامر ؟ قالوا : بنو عوف بن عامر، وبنو عمرو بن عامر قال : ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران. ثم قال دريد ١١ :
يا ليتني فيها جذع *** / أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع *** ١٢ كأنها شاة صدع١٣
ثم إن مالك بن عوف أمرهم فكمنوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مضايق وادي حنين وأحنائه كانوا في مضايق الوادي بجنبتي الوادي كامنين له.
وقال لهم ملكهم – مالك بن عوف النصري - : إذا أقبل عليكم القوم فشدوا عليهم شدة رجل واحد. فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح وسار بأصحابه في الغلس – يعني : بقية ظلام الليل مختلطة بضياء الصبح – فانحدروا في وادي حنين يمشون، فلم يشعروا بشيء إلا وقد دخلوا في مكمن القوم، فشدوا عليهم شدة رجل واحد، وصارت الرماح والسهام كأنها رجل جراد منتشر عليهم، فوقع ما وقع، وزل المسلمون، ووقع ما قال الله :﴿ فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ فثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء، وبعضهم يقول : الشهباء ؛ لأن لونها بياض فيه شهبة. والعباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) آخذ بزمامها. وبعضهم يقول : آخذ بركابها الأيمن، أو حكمتها، وآخذ بركبها الثاني أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مع النبي جماعة من آل بيته، منهم علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه )، والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، والفضل بن العباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه )، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الثبات العظيم، وكان يركض البغلة في نحر العدو يسرع إليهم ويقول :
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
وهذا من الشجاعة منقطع النظير ١٤ ؛ لأنه على بغلة لا تحسن الكر ولا الفر لا تصلح لكر ولا لفر، وقد انكشف عنه أصحابه ( صلوات الله وسلامه عليه )، وليس معه إلا قوم قليل، ومع هذا يركض في وجه العدو وينوه باسمه ليعرفه من لم يكن يعرفه ! ! وقال للعباس بن عبد المطلب – وكان رجلا ضخما قويا جهير الصوت جدا – ناد : يا أصحاب السمرة. فنادى العباس بأعلى صوته : يا أصحاب السمرة. والسمرة هي شجرة الحديبية التي وقعت تحتها بيعة الرضوان، وقد بايعوه فيها على أن يفروا عنه. وفي بعض المرات يقول : يا أصحاب السمرة، يا سورة البقرة. يدعوهم. فسمعوا نداءه فقالوا : يا لبيك. وتراجع إليه المسلمون من كل فج، وقد أعجزهم أن يردوا الأباعر التي يركبونها ؛ لأنها آلمها وقع السهام، فلم يقدروا على ردها ولا عطفها.
قال العباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) : فوالله لما ناديتهم فسمعوا صوتي فكأنما عطفوا عليه عطفة البقر على أولادها. وكان ( صلوات الله وسلامه عليه ) أخذ قبضة من تراب فرمى بها أوجه القوم وقال : شاهت الوجوه. وذكر ابن عبد البر وغير واحد أنه روى من طرق كثيرة عن أولاد أولئك الجيش الذين أسلموا بعد ذلك أنهم قالوا : لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما لبثنا أن هزمناهم واتبعناهم حتى أتينا على صاحب البغلة الشهباء فزجرنا زجرا قويا، وأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها في أوجهنا فلم تبق عين ولا فم إلا امتلأت من ذلك الحصى. ورجعوا منهزمين، فمن ذلك الوقت الذي رمى تلك القبضة في أوجه
١ في الأصل: "الأنفال". وهو سبق لسان..
٢ في الأصل: "بدر". وهو سبق لسان..
٣ في ابن هشام (١/ ١٧٦) ابن عكرمة بن خصفة..
٤ السابق ص ١٢٨٣..
٥ في الأصل: "مكة". وهو سبق لسان..
٦ السابق ص ١٢٨٢..
٧ أخرجه أحمد (٥/ ٢١٨)، وعبد الرزاق (٢٠٧٢٣)، وابن أبي عاصم في السنة (٧٦)، والترمذي في الفتن، باب ما جاء "لتركبن سنن من كان قبلكم" حديث رقم: (٢١٨٠) (٤/ ٤٧٥)، والحميدي (٨٤٨)، ، والطيالسي (١٣٤٦)، والطبراني في الكبير (٣٢٩٠، ٣٢٩٤)، وابن حبان (الإحسان ٨/ ٢٤٨)، وابن نصر في السنة ص ١٦، ١٧، وابن جرير (١٣/ ٨١، ٨٢)..
٨ القصيدة في سيرة ابن هشام ص ١٢٨٧..
٩ الشجار: يشبه الهودح لكنه غير مغطى من الأعلى..
١٠ الحد: يعني الحدة والشجاعة..
١١ ذكرهما ابن هشام في السيرة ص ١٢٨٥، مرويات غزوة حنين (١/ ٢٣٤)..
١٢ الوطفاء: طويلة الشعر.
الزمع: الشعر الذي فوق مربط قيد الدابة. فهو يذكر صفة فرس..

١٣ الشاة هنا: الوعل.
والصدع: الفتى القوي الشاب من الأوعال ونحوها..

١٤ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام..
﴿ ثم أنزل الله سكينته ﴾ السكينة : فعيلة من السكون، ومعناها : الطمأنينة والأمنة المستوجبان لأكمل الثبات ﴿ ثم أنزل الله سكينته ﴾ [ التوبة : آية ٢٦ ] أي : أمنته من الخوف، وطمأنينته في القلوب المستوجبة لأكمل الثبات على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان على بغلته الشهباء ( دلدل ) يركضها إلى نحور العدو ويقول : " أقبلوا إلي عباد الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب " ١
﴿ وعلى المؤمنين ﴾ أي : وأنزل سكينته أيضا على المؤمنين. قال بعض العلماء : المراد بالمؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم : من ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء : يدخل فيهم الذين رجعوا بعد الفرار والهزيمة وقاتلوا معه عدوه. والتحقيق : أن الله أنزل سكينته على الجميع، الذين بقوا معه ولم يفروا والذين رجعوا إليه.
واختلف العلماء فيمن بقي معه ولم ينهزم ٢، وكان بعض العلماء يقول : عشر رجال أو أحد عشر رجلا، وقد ذكرناهم بالأمس، ومن جملتهم : شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كان يريد الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم فآمن في ذلك الوقت، وكان من الثابتين المقاتلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثير من أصحاب المغازي يقولون : ثبت معه نحو مائة رجل أو ثمانين. وبعض العلماء يوفق بين القولين يقول : أما العشرة أو الأحد عشر فلم يتحركوا، وأما المائة أو الثمانون فهم الذين رجعوا بسرعة وحملوا على عدو النبي صلى الله عليه وسلم، ذكروا أن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قتل ذلك اليوم أربعين رجلا بيده، وذكروا عن أبي طلحة أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ٣ أنه قتل عشرين رجلا فأخذ أسلابهم، وكان علي ( رضي الله عنه ) ذلك اليوم هو الذي أسقط الجمل الذي عليه راية هوازن ؛ لأن رايتهم كانت عند رجل على رمح طويل راكب على جمل أحمر، يتقدم أمام الناس، فإذا أدرك الناس طعنهم بالرمح، وإذا فاتوه رفع لواءه على الرمح ليراه من بعده ! ! فابتدره علي ( رضي الله عنه ) ورجل من الأنصار فضرب علي الجمل على عرقوبيه فسقط على عجزه، فابتدر الأنصاري الرجل فأطن رجله بنصف ساقه وانجعف عن رحله ٤.
ثم إن الله قال :﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ﴾ هذه الجنود هي الملائكة لم يرها المؤمنون ولكن الكفار رأوها، فذكر ابن عبد البر أنه روى من طرق كثيرة عن أولاد الذين كانوا من الكفار شهدوا حنينا عن آبائهم أنهم قالوا : لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما وقفوا لنا حلب شاة، فهزمناهم واتبعناهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء أو البغلة الشهباء رأينا رجالا بيضا على خيل بلق وقالوا لنا : " ارجعوا، شاهت الوجوه " ٥، وقد كان النبي قال أيضا هذه الكلمة " شاهت الوجوه انهزموا ". وجاء من روايات أخر أن مالك بن عوف النصري سيد هوازن أرسل عيونا يتجسسون له أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فجاؤوه وقد انخلعت أوصالهم. أي : كأن ما بين عظامهم متفكك. فقالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق فما تمالكنا أن وقع بنا ما ترى ٦.
والله ( جل وعلا ) في هذا القرآن العظيم ذكر التأييد بجنود الملائكة في أربع سور من كتابه، في ثلاثة منها يقول :﴿ لم تروها ﴾ وفي الرابعة لم يقل :﴿ لم تروها ﴾.
أما الثلاث التي قال فيها :﴿ لم تروها ﴾ فمنها : الملائكة الذين نزلوا في غزوة الخندق – غزوة الأحزاب – الآتي ذكرهم في قوله تعالى :﴿ يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ﴾ [ الأحزاب : آية ٩ ].
الثانية : الملائكة المنزلون في غزوة حنين هذه، المذكورون في قوله :﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ﴾ [ التوبة : آية ٢٦ ].
الثالثة : الملائكة الذين نزلوا بنبينا صلى الله عليه وسلم يوم دخل في الغار هو صاحبه، وسيأتي بط قصتهم – إن شاء الله – في هذه السورة الكريمة سورة براءة، وذلك في قوله :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ﴾ [ التوبة : آية ٤٠ ] ففي هذه المواضع الثلاثة كلها يقيد ب ( لم تروها ) ( لم تروها ) لأنه ينزل ملائكة لا يراهم بنو آدم ؛ لأنهم ليسوا من شكلهم ولا من جنسهم حتى يروهم. وفي الموضع الرابع لم يقيد بقوله :( لم تروهم ) وهو الملائكة النازلون يوم بدر، المذكورون في الأنفال وآل عمران، حيث قال الله في الأنفال :﴿ إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنب معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق ﴾ الآية [ الأنفال : آية ١٢ ]. وذكرهم أيضا في سورة آل عمران في قوله :﴿ ولقد نصركم الله ببدر.... ﴾ إلى قوله :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة ءالف من الملئكة منزلين ( ١٢٤ ) ﴾ [ آل عمران : الآيتان ١٢٣، ١٢٤ ] وقد قدمنا في سورة الأنفال ٧ أن أظهر الأقوال أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وأنها لم تقاتل في غيرها بل تأتي لتجبين الكفار وتقوية قلوب المؤمنين ونصرتهم، هذا هو الظاهر، وقد ذكر ( جل وعلا ) فرقا شاسعا بين من يفر في غزوة بدر كما تقدم في قوله :﴿ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ﴾ [ الأنفال : آية ١٦ ] بهذا التشديد العظيم، ولم يقل مثل هذا فيمن انهزم من الصحابة يوم أحد، ولا فيمن انهزم منهم يوم حنين ؛ لأن بعض الصحابة انهزموا يوم أحد، وبعضهم لم يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم :﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطن ببعض ما كسبوا ﴾ ثم قال :﴿ ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ﴾ [ آل عمران : آية ١٥٥ ] ثم قال هنا :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ [ التوبة : آية ٢٧ ] فأشار إلى أنه تاب عليهم من هزيمتهم. وهذا معنى قوله :﴿ وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا ﴾ وهم هوازن، عذابهم بأيدي المؤمنين حيث قتلوهم قتلا وجيعا وأسروهم وأخذوا أولادهم ونساءهم وأموالهم مصداقا لقوله :﴿ قتلوهم يعذبهم الله بأيدكم وخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ( ١٤ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٤ ] ﴿ وعذب الذين كفروا ﴾ الذين كانوا يقاتلون النبي وأصحابه كهوازن ﴿ وذلك ﴾ العذاب ﴿ جزاء الكفرين ﴾[ التوبة : آية ٢٦ ] ثم الله تعالى قال :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ [ التوبة : آية ١٧ ] قال بعض العلماء :﴿ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ يدخل فيه المنهزمون الذين انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رجع منهم وكر ومن لم يرجع. قالوا : ويدخل فيه الكافرون الذين قال الله :﴿ وعذب الذين كفروا ﴾ [ التوبة : آية ٢٦ ] لأن كثيرا منهم تابوا فتاب الله عليهم. وقد كان رئيس هوازن مالك بن عوف ( رضي الله عنه )، أسلم وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لما انهزمت هوازن راح مع فل الطائف – والفل هو بقية المنهزين – وتحصن بحصن الطائف، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم سرا : أنه إن قدم إليه رد إليه أهله وولده وأعطاه. فخاف إن أعلم ثقيفا بذلك أن يمنعوه، فأمر أن يرحل جمله في محل عينه لهم، ثم جاءنا مختفيا، وسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد إليه أهله وولده، وأعطاه مائة من الإبل كما المؤلفين. وقد كان مالك بن عوف سيد هوازن مدح النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أشعاره، ومن ذلك قوله لما رد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رد له وأعطاه مائة من الإبل ٨ :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** في الناس كلهم بمثل محمد
هذا يمدحه به رئيس الذين كانوا أعداءه بالأمس يقاتلونه، رجع في هذا الزمن القريب إلى مدحه والثناء عليه هذا الثناء الجميل :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي *** ومتى تشأ يخبرك عما في غد ٩
وإذا الكتيبة عردت أنيابها *** بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله *** وسط الهباءة خادر في مرصد
وهذا معنى قوله :﴿ وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكفرين ﴾ [ التوبة : آية ٢٦ ] فقسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بعد أن رد إليهم أولادهم ونساءهم، قسم غنائمهم بالجعرانة في ذي القعدة عام ثمان – ثم إنه أحرم بعد أن قسمها بعمرة ١٠– من الهجرة.
وكانت في السبايا التي جيء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، أمها حليمة السعدية، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، كانت تقول لهم : مهلا علي لا تزعجوني فإني أخت صاحبكم من الرضاعة، فلما جاءت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن العلامة فقالت له : عضة عضضتنيها في كتفي وأنا متوركتك. فعرف صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وأكرمها غاية الإكرام، وخيرها أن تبقى معه محبة مكرمة أو أن يردها إلى أهلها ويمتعها. فاختارت الرد إلى أهلها فمتعها. كانوا يقولون : من جملة ما أعطاها جارية وغلاما، زوجت الغلام من الجارية، قالوا : وكان عقبهما فيهم لا يكاد ينقطع ١١. وهذا من كرمه ووفائه ( صلوات الله وسلامه عليه )، فإن الإنسان إذا استعرض شيئا من سيرته ( صلوات الله وسلامه عليه ) رأى العظمة الهائلة من الشجاعة الكاملة، والحلم الكامل، والكرم الكامل، والوفاء الكامل ( صلوات الله وسلامه عليه ). وهذا معنى
١ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام..
٢ انظر: ابن هشام ص (١٢٨٩)، البداية والنهاية (٤/ ٣٢٦، ٣٣٠)، فتح الباري (٨/ ٢٩)، مرويات غزوة حنين (١/ ١٢٩ - ١٨٤)..
٣ مضى قريبا عند تفسير الآية (٢٥) من هذه السورة..
٤ أخرجه الواقدي (٣/ ٩٠٢)، والبيهقي في الدلائل (٥/ ١٢٧)، والطبري في التاريخ (٣/ ١٢٨)، وذكره ابن هشام ص ١٢٨٩، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٢٦) وانظر: مرويات غزوة حنين (١/ ١٦٤)..
٥ أخرجه الطبري في التفسير (١٤/ ١٨٦، ١٨٨)، وذكره ابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي والسير ص ١٦٨، وانظر: مرزيات غزوة حنين (١/ ٢٠٨ - ٢٠٩)..
٦ أخرجه الواقدي في المغازي (٣/ ٨٩٢)، وابن سعد في الطبقات (٢/ ١٠٨)، والطبري في التاريخ (٣/ ١٢٧)، وذكره ابن هشام في السيرة، وابن القيم في الهدي (٣/ ٤٦٧)، وابن الأثير في الكامل (٢/ ١٧٨)..
٧ مضى عند تفسير الآية (٩) من سورة الأنفال..
٨ هذا الخبر مع الأبيات أخرجه البيهقي في الدلائل (٥/ ١٩٨)، وأورده ابن هشام ص ١٣٤٣، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٦١). وانظر: مرويات غزوة حنين (٢/ ٤٦٩)..
٩ معلوم أنه لا يعلم ما في غد إلا الله تعالى..
١٠ عمرته صلى الله عليه وسلم بعد قسم غنائم حنين خرج حديثها البخاري في صحيحه، كتاب العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ حديث رقم: (١٧٧٨)(٣/ ٦٠٠)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم: (١٧٧٩، ١٧٨٠، ٣٠٦٦، ٤١٤٨)، ومسلم في الحج، باب بيان عدد النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن. حديث رقم: (١٢٥٣) (٢/ ٩١٦) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
١١ أخرجه الواقدي (٣/ ٩١٣)، والبيهقي في دلائل النبوة (٥/ ١٩٩، ٢٠٠)، والطبري في تاريخه (٣/ ١٣١)، وابن عبد البر في الاستيعاب (٤/ ٣٤٤)، وأورده ابن حزم في جوامع السيرة ص ٢٤٥، وابن هشام ص ١٣٠٦، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٣٦٣) وابن الأثير في أسد الغابة (٥/ ٢٥٧)، (٧/ ١٦٧)، والكامل (٢/ ١٨٠)، والحافظ في الإصابة (٣/ ٤٥٦)، (٤/ ٣٤٤)، وانظر: مرويات غزوة حنين (١/ ٢٦٥)..
قوله :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ [ التوبة : آية ٢٧ ] على من يشاء أن يتوب عليه، وهذه يفهم منها أنه تعالى تاب على الذين انهزموا وإن لم يصرح بها. أما الذين انهزموا يوم أحد فقد صرح بأنه تاب عليهم في قوله :﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطن ببعض ما كسبوا ﴾ [ آل عمران : آية ١٥٥ ]. وقوله هنا :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾
التوبة تطلق من الله على عبده، ومن العبد إلى ربه، فإذا أطلقت التوبة من العبد إلى ربه عديت ب ( إلى ) ولم تعد ب ( على ) تقول : تبت إلى الله. ولا تقول : تبت على الله. وإذا توجهت من الرب إلى عبده عديت ب ( على ) تقول : تاب الله عليه. ولم تقل : تاب إليه. أما التوبة الواقعة من المخلوقين فإن الوصف منها يطلق على ( تائب ) وعلى ( تواب ) بصيغة المبالغة. أما توبة الله على عبده فلم يأت الوصف منها إلا على ( تواب ).
وقد قدمنا مرارا ١ أن توبة العبد إلى ربه المستوجبة لتوبة الله على عبده أنها واجبة فورا من كل ذنب، وأن من أخرها كان ذلك ذنبا تجب منه التوبة.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٢ أن في التوبة إلى الله ( جل وعلا ) إشكالين معروفين عند العلماء :
أحدهما : إطباق العلماء على أن توبة العبد إلى ربه هي مركبة من ثلاثة أركان، وهي : إقلاعه عن الذنب إن كان متلبسا به، وندمه على ما صدر منه، ونيته أن لا يعود. فهذه هي الأركان التي تتألف منها توبة العبد النصوح إلى ربه، الذي إذا فعلها جاءته توبة الله ؛ لأن الله يتوب على من تاب عليه، كما قال ( جل وعلا ) :﴿ توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ التحريم : آية ٨ ] وهم يقولون : " عسى من الله واجبة " ٣. هذا فيه إشكالان معروفان :
أحدهما : أن التوبة واجبة بإجماع العلماء فورا من كل ذنب يجترم. فعلينا جميعا إذا صدر من الواحد منا ذنب أن يرجع إلى الله ويتوب إليه فورا ولا يؤخر التوبة من ذلك، فإن أخرها كان تأخيرها ذنبا يحتاج إلى توبة أخرى. والندم من أركانها بالإجماع، وركن الواجب واجب، والإشكال هنا في الندم ؛ لأن المعروف أن الندم من الانفعالات النفسية والتأثرات، لا من الأفعال الاختيارية كما هو مشاهد، والعلماء مجمعون على أنه لا تكليف إلا بفعل اختياري، وأن الانفعالات والتأثرات النفسانية لا يملكها أحد، فكيف يكلف بالندم ويوجب عليه وهو انفعال وتأثر نفساني ليس تحت طاقته، وأنت تشاهد الإنسان يجاهد نفسه ليطرد عنها الندم، لأنه انفعال وتأثر، كما أن بعض الناس يريد أن يندم ولا يندم إذا كان الذنب الذي وقع فيه – والعياذ بالله – مما كان يشتهيه جدا، كالذي يظفر بقبلة من امرأة يعشقها، إذا أخطر ذلك على قلبه يصعب عليه أن يندم عليه ؛ لأنها أمنيته التي كان يرجوها فإذا كان الندم قد يريده الإنسان ولا يجده، وقد يدفعه عنه ولا يندفع، وهو انفعال وتأثر نفساني فكيف يكون ركنا من أركان التوبة، ويكون واجبا، ومعلوم إجماع العلماء على أن الله لا يكلف إلا بفعل ؟
هذا الإشكال أجاب عنه العلماء بأن المراد بإيجاب الندم هو إيجاب الأخذ في أسبابه ؛ لأن الإنسان إذا أخذ بأسباب الندم أخذا صحيحا ولم يحاب نفسه لا بد أن يندم، ومن كانت أسبابه الموصلة إليه متيسرة في طوع المكلف فكأنه متيسر في طاقة المكلف ؛ لأن الإنسان إذا أخذ نفسه أخذا حقيقيا وعرفها في داخل قرارة نفسه أنه لا يوجد في الدنيا إنسان يبلغ من البله والتغفيل ما يستلذ به طعاما أو شرابا حلوا وفيه سم قاتل ؛ لأن عامة العقلاء لا يحبون الطعام الحلو ولا الشراب الحلو ولو كان في غاية اللذاذة والحلاوة إذا كان في داخله سم فتاك قاتل، هذا يعافه جميع الناس ويكرهونه، ولا شك أن حلاوات المعاصي ولذاذاتها عن الجهلة، وإنما هي منطوية عليه من السم القاتل الفتاك، وهو سخط خالق السماوات والأرض وغضبه، أن العاقل إذا تأمل في تأملا حقيقيا ولم يحاب نفسه لا بد أن يندم، ومن كانت أسبابه الموصلة إليه متيسرة في طوع المكلف فكأنه متيسر في طاقة المكلف ؛ لأن الإنسان إذا أخذ نفسه أخذا حقيقيا وعرفها في داخل قرارة نفسه أنه لا يوجد في الدنيا إنسان يبلغ من البله والتغفيل ما يستلذ به طعاما أو شرابا حلوا وفيه سم قاتل ؛ لأن عامة العقلاء لا يحبون الطعام الحلو ولا الشراب الحلو ولو كان في غاية اللذاذة والحلاوة إذا كان في داخله سم فتاك قاتل، هذا يعافه جميع الناس ويكرهونه، ولا شك أن حلاوات المعاصي ولذاذاتها عند الجهلة، وإنما هي منطوية عليه من السم القاتل الفتاك، وهو سخط خالق السماوات والأرض وغضبه، أن العاقل إذا تأمل في هذا تأملا حقيقيا ولم يحاب نفسه وأخذها بالتحقيق لا بد أن يندم ؛ لأن الإنسان لو نال ما نال من حلاوة الذنب فهو يعلم أن تلك الحلاوة منطوية على أشد السموم وأفتكها وهو سخط خالق السماوات والأرض وغضبه ؛ لأنه قد يستوجب هلاكه في الدنيا وعذابه السرمدي في الآخرة، وهذا معروف ؛ لأنه لا يأخذ الإنسان في أسباب الندم أخذا صحيحا حقيقيا ويعرف عواقب الذنب وسرعة انقضاء حلاوته.
فلا تقرب الأمر الحرام فإنما حلاوته تفنى ويبقى مريرها ٤
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من المعاصي ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار ٥
فمن عرف حقارة لذة المعصية وشدة السموم الفتاكة المنطوية عليها، وأعمل عقله تعميلا صحيحا لا بد أن يندم، فلما كانت الأسباب الموصلة إلى الندم متيسرة لا يعجز عنها إلا من حابى نفسه ولم يستعمل أسباب الندم صار الندم كأنه في طوق الإنسان.
الإشكال الثاني : هو ما ذكره العلماء في الإقلاع ؛ لأن الإقلاع عن الذنب والكف عن شر الذنب، وعدم التمادي فيه، هذا ركن من أركان التوبة، فلا توبة مع عدم الإقلاع ؛ لأن المتلبس بالذنب الذي لم يقلع عنه لا توبة له بإجماع العلماء، والإشكال في هذا أن بعض الناس يتوب مع تعذر الإقلاع عليه، كالذي كان ينشر بدعة من البدع حتى طارت في أقطار الدنيا، وصار يعمل بها في مشارق الأرض ومغاربها، ومعلوم أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. ثم إنه ندم على بدعته وأراد الإقلاع والرجوع عنها، لكن شره منتشر مستطير في أقطار الدنيا ؛ لأن البدعة التي بث وهي إلى الآن في أقطار الدنيا يتناقلها الناس بعضهم عن بعض، ويضلون بها بعضهم عن بعض، فهل نقول : هذا مقلع ؛ لأنه فعل غاية ما يستطيع، أو نقول : ليس بمقلع ؛ لأن فساده لم يزل فهو منتشر في أقطار الدنيا الآن ؟
ومن هذا القبيل : من غصب أرضا، كأن غصب أرضا مثلا عشرين ميلا في عشرين ميلا وهو جالس في وسطها، ثم إنه ندم على الغصب وأراد أن يخرج من الأرض المغصوبة نادما، الزمن الذي يمكثه قبل أن يخرج منها لو أدركه الموت وهو فيها هل نقول : هل هذا تائب ؛ لأن فعل في غاية ما يستطيع ؟ أو نقول : لم يقلع ؛ لأنه إلى الآن لم يتخل عن الشيء الذي غصبه، بل هو في جوزته على الآن، وهو يشغله بجسمه ؟ ومن هذا المعنى : من رمى إنسانا من بعيد بسهم ثم لما فارق السهم ندم والسهم في الهواء فتاب إلى الله ( جل وعلا ) والسهم في الهواء، ثم بعد أن تاب أصاب السهم في الرمية فقتله، هل نقول : هو تائب ؛ لأنه فعل في ذلك الوقت ما يستطيع، أو نقول : ليس بتائب ؛ لأن فساده منتشر، وأثر جريمته باق لم ينقطع ؟ هذه مسائل اختلف فيها علماء الأصول حول الإقلاع عن الذنب في التوبة ٦. والمحققون من علماء الأصول أن الإنسان إذا فعل غاية ما في وسعه وندم على ما صدر منه أن الله يغفر له بذلك ويتوب عليه ؛ لأن الله يقول :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ مفعول المشيئة محذوف، أي : ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه ﴿ والله ﴾ ( جل وعلا ) ﴿ غفور رحيم ﴾ كثير المغفرة والرحمة لعباده ؛ لأن الله غفور رحيم، فقد جاء في غزوة حنين هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي تصيح تطلب ولدها وهي في غاية التشويش إليه حتى وجدته فجعلت تقلبه وتضمه إليها من شدة شفقتها عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أترون هذه طارحة ولدها هذا في النار ؟ قالوا : لا. قال : ولم ؟ قالوا : لشفقتها عليه. قال : الله أرحم بكم من هذه بولدها ٧ ؟ فالله ( حل وعلا ) أرحم من كل شيء.
فلو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكا وزورا
أناب إلى الله مستغفرا لما وجد الله إلا غفورا ٨
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة فجاؤوا بأشنع كفر كيف يستعطفهم الله ويقول لهم :﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( ٧٤ ) ﴾ [ المائدة : آية ٧٤ ] هذا الاستعطاف والكلام اللين العظيم في الاستعطاف والوعد بالمغفرة للذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة يدل على عظمة رحمة الله وسعة مغفرته ( جل وعلا ) ﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : آية ٣٨ ] كائنا ما كان من شدة رحمة الله ومغفرته.
١ مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام..
٢ السابق..
٣ مضى عند تفسير الآية (١٢٩) من سورة الأنعام..
٤ البيت في تاريخ دمشق (١٤/ ٣٣٤) ونسبه للحسين بن مطير..
٥ البيتان قي الآداب الشرعية (٢/ ٢٢٧)، شعر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ص ٥١٦، وقد نسبها بعضهم لعثمان بن عفان (رضي الله عنه)..
٦ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام..
٧ البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. حديث رقم: (٥٩٩٩) (١٠/ ٤٢٦)، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث رقم: (٢٧٥٤) (٤/ ٢١٠٩)..
٨ مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة الأنفال..
يقول الله جل وعلا :﴿ يأيها الذي ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله عليم حكيم ( ٢٨ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٨ ] هذه مما كان ينادي به علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) في مواسم عام تسع، ولم يحج بعدها مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، خاطب الله عباده في هذه الآية الكريمة باسم الإيمان ليكون ذلك أدعى وأبعث على الامتثال، آمرا لهم أن يبعدوا الكفار عن مسجده ﴿ يأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس ﴾ صرح في هذه الآية الكريمة بأن المشركين نجس، والنجس أصله مصدر نجس الشيء ينجس نجسا فهو نجس بفتح فكسر، أصله مصدر. وهذا من النعت بالمصدر، والمصدر إذا نعت به أفرد وذكر، تقول : مشرك نجس، ومشركة نجس، ومشركان نجس، ومشركات نجس، ومشركون نجس. تطلقه بالإفراد على الواحد واثنين والجمع من الذكور والإناث.
قال بعض العلماء : هي نجاسة كالنجاسة الحسية ؛ ولذا قال بعض العلماء : ذات المشرك نجس كالكلب والخنزير. وعن الحسن البصري رحمه الله : من صافح مشركا فليتوضأ ١.
وجماهير العلماء – وهو الصواب إن شاء الله – على أن النجاسة في هذه الآية الكريمة معنوية، فهو نجس معنى، والمعنى أعظم من الحس ؛ لأن شركه بالله أنتن شيء وأقذره وأنجسه، وكان بعض العلماء يقول : نجاسته أيضا لأنه لم يتطهر من جنابة، ولم يتوضأ ولم يجتنب شيئا من القاذورات والأنجاس، فهو ملازم للنجاسة. وأكثر العلماء على أن الكافر الذي لم يتلبس بدنه بنجاسة أن نجاسته معنوية لا حسية، وأنه لأجل هذه النجاسة المعنوية أمر الله أن يبعد عن المسجد الحرام ولا يقرب منه.
قال عطاء ( رحمه الله ) وغير واحد من العلماء :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ [ التوبة : آية ٢٨ ] المراد بالمسجد الحرام : الحرم كله ٢، أي : لا يقرب المشركون حرم الله كله، بل يجب إبعادهم عن الحرم وعدم قربانهم إياه. وهذا القول هو الحق والصواب – إن شاء الله – لأنه دل استقراء القرآن العظيم على أن الله يطلق المسجد الحرام على جميع الحرم، وهذه الآية من جملة الآيات التي أطلق فيها المسجد الحرام وأراد الحرم كله، كقوله :﴿ سبحن الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ﴾ [ الإسراء : آية ١ ] والصحيح أن الإسراء وقع به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب في مكة في الحرم لا في نفس المسجد، وقد قدمنا في الآيات الماضية قوله :﴿ إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام ﴾ [ التوبة : آية ٧ ] والمعاهدة في طرف الحرم من الحديبية، فهذه الآيات دلت على أن منع الكفار والمشركين من القربان عام لجميع الحرم لا لخصوص المسجد وحده، خلافا لمن قام مع اللفظ.
والفاء في قوله :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ دل مسلك الإيماء والتنبيه من مسالك العلة في الأصول على أنها أداة تعليل، وكذلك قرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ٣، كقولهم : سهى فسجد. أي : لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده. أي : لعلة سرقته. وأساء فأدب. أي : لعلة إساءته. ﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ [ التوبة : آية ٢٨ ] لعلة نجاستهم التي يجب أن تبعد من المسجد ويتوقى إياها. والحاصل أن الصحيح – إن شاء الله – أنه لا يجوز أن يدخل جميع حرم مكة مشرك ٤. والصواب – إن شاء الله – أنها لا يدخلها الكتابيون من يهود ولا نصارى ٥، خلافا لما ذهب إليه جماعة من العلماء، وهو مروي عن أبي حنيفة ( رحمه الله ) أنه لا مانع من دخول اليهودي والنصراني الذمي – مثلا – الحرم، بل المسجد. قالوا : لأن الله إنما منع منه خصوص المشركين. قالوا : وأهل الكتاب ليسوا من المشركين ٦. واستدلوا بآيات من كتاب الله ظاهرها المغايرة بين أهل الكتاب والمشركين، كقوله :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتب والمشركين ﴾ [ البينة : آية ٦ ] وقوله :﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا ﴾ [ آل عمران : آية ١٨٦ ] وقوله :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين ﴾ [ البقرة : آية ١٠٥ ] وقوله :﴿ لتجدن أشد الناس عدوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ [ المائدة : آية ٨٢ ] إلى غير ذلك من الآيات التي عطف الله فيها أهل الكتاب على المشركين، قالوا : والعطف يقتضي المغايرة، فدل أنهم ليسوا من المشركين، والتحقيق الذي لا شك فيه – إن شاء الله – أن أهل الكتاب من المشركين، وقد نص الله على أنهم من المشركين في هذه الآية الكريمة من سورة براءة ؛ لأنه لما ذكر أهل الكتاب وقال :﴿ قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتب ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ] ثم صرح بأن أهل الكتابين من المشركين في قوله :﴿ وقالت اليهود عزير بن عبد الله وقالت النصرى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفوههم يضهئون قول الذين كفروا من قبل قتلهم الله أنى يؤفكون ( ٣٠ ) اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها وحدا لا إله إلا هو سبحنه عما يشركون( ٣١ ) ﴾ [ التوبة : الآيتان ٣٠، ٣١ ] فصرح بأنهم مشركون بعد أن صرح بمنع المشركين من المسجد الحرام أتبعه بأن الكتابيين من نفس المشركين، وهذا برهان واضح.
وقال :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا.... ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ] ومعلوم أن الذي اتخذ الأحبار والرهبان أربابا من المشركين شرك ربوبية كما لا يخفى. وسيأتي في هذه الآيات الكريمة من سورة براءة بيان أن كل من اتبع تشريع أحد ونظامه واتبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الله كل متبع لتشريع الشيطان الذي يشرعه على ألسنة أوليائه تاركا الله الذي شرعه على ألسنة رسله كافر مشرك بالله ٧، كما سنوضحه في هذه الآيات الآتية. ومن أصرح الأدلة عليه أنه لما وقعت تلك المناظرة المشهورة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام الحلال والحرام، وحزب الشيطان يقولون : إن ذلك الحكم حلال، ويستدلون بوحي شيطاني، وحزب الرحمن يقولون : إن ذلك الحكم حرام. ويستدلون بوحي قرآني، لما اختصروا وأدلى كل بحجته تولى الله الفصل بينهم فأتى بينهم فتوى سماوية تتلى قرآنا في سورة الأنعام في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ يعني الميتة ؛ لأن الكفار أوحى إليهم الشيطان : أن سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ فقال لهم : الله قتلها. فقالوا : إذن ما ذكيتموه وذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم أحسن من الله. فهؤلاء استدلوا بوحي إبليسي ! ! ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذن أحسن من الله ! ! والمسلمون استدلوا بوحي قرآني، وهو ﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾. فلما أدلى كل بحجته فصل الله بينهم فأفتى في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ منه الميتة، أي : وإن زعموا أنها ذبيحة الله. ثم قال :﴿ وإنه لفسق ﴾ [ الأنعام : آية ١٢١ ] أي : الأكل منها فسق. ثم قال :﴿ وإن الشيطن ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم ﴾ يعني قولهم : ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذن أحسن من الله. وهو محل الفتيا السماوية من رب العالمين :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ [ الأنعام : آية ١٢١ ] فصرح بأن من أطاع تشريع الشيطان في حل الميتة أنه مشرك برب العالمين، ولا شك أن اليهود والنصارى أطاعوا الشيطان فيما هو أعظم من إباحة الميتة كما لا يخفى، والشيطان عالم بأن الذين يتبعون نظامه وقانونه أنهم مشركون به، عالم هذا في قرارة نفسه، ولكنه في الدنيا يدلس لهم ويجحد، فإذا كان يوم القيامة الذي تظهر فيه الدفائن، وتبرز فيه الحقائق أوضح لهم تبرؤه من شركهم به كما سيأتي في سورة إبراهيم الخليل في الخطبة العظيمة التي ذكرها الله عن الشيطان، وهي قوله :﴿ وقال الشيطن لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان فلي عليكم من سلطن إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل ﴾ [ إبراهيم : آية ٢٢ ] فصرح بأنهم كانوا مشركين به من قبل، ولا شك أن اليهود والنصارى داخلون في هذا دخولا أوليا، وكذلك قوله :﴿ إنما سلطنه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( ١٠٠ ) ﴾ [ المحل : آية ١٠٠ ] واليهود والنصارى داخلون فيهم بلا شك، وهذا الشرك الشيطاني باتباع نظامه وشرعه هو الذي وبخ الله مرتكبه في سورة ( يس )، وبين مصيره النهائي في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطن إنه لكم عدو مبين ( ٦٠ ) وأن اعبدوني ﴾ [ يس : الآيتان ٦٠، ٦١ ] إلى أن قال موبخا لهم ناعيا عقولهم :﴿ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ( ٦٢ ) ﴾ [ يس : آية ٦٢ ] ثم بين مصيرهم النهائي الأخير في قوله :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون ( ٢٣ ) اصلوها اليوم ﴾ [ يس : الآيتان ٦٣، ٦٤ ] وهذا الشرك الشيطاني بالاتباع هو الذي نهى إبراهيم عنه أباه في قوله :﴿ يأبت لا تعبد الشيطن ﴾ [ مريم : آية ٤٤ ] وقال تعالى :﴿ بل كانوا يعبدون الجن ﴾ [ سبأ : الآية ٤١ ] وسيأتي لهذا المبحث زيادة إيضاح بالايات القرآنية قريبا في الآيات الآتية – إن شاء الله – في الكلام على قوله :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ] فهذه النصوص ولا سيما آية براءة هذه التي صرحت أن خصوص أهل الكتاب من المشركين تدل على منعهم من دخول الحرم، وما نقل عن بعض العلماء وروي عن الإمام أبي حنيفة من أنهم لا مانع من دخولهم الحرم، فيه نظر، والأصوب والأظهر أنهم يمنعون منه ؛ لأنهم نجس ؛ ولأن الله صرح بأنهم مشركون. والتحقيق –إن شاء الله – أن المراد بالمسجد الحرام فيها الحرم كله، فلا يجوز أن يدخل حرم مكة مشرك بالله ولا كافر، كتابيا أو غيره، وما روي عن جابر ( رضي الله عنه ) من أنه خصص هذه الآية الكريمة وقال : لا يدخل فيها العبد والأمة، إذا كان للمسلم عبد ذمي أو أمة ذمية مملوكان فلا مانع من دخولهما المسجد ٨. وروي فيه حديث مرفوع، والتحقيق عند المحدثين أن الموقوف على جابر هو الأثبت الصحيح والمرفوع ليس بصحيح ٩. وقول قاله جابر لا يمكن أن يخصص به النص الصريح، ولا سيما النص المبني حكمه على العلة ؛ لأنه صرح بأنهم نجس، وأشار بالفاء إلى أن تلك النجاسة هي سبب منعهم من قربان المسجد.
وعلى كل حال فالمشركون كعبدة الأوثان أجمع جميع العلماء على منعهم من دخول المسجد، واختلفا في الكتابي وفي غير المسجد من سائر الحرم، وقد بينا أن الصواب – إن شاء الله – منعهم من ذلك كله.
ولو جاءت من المشركين رسالة إلى سلطان المسلمين – وهو بمكة – لا يدخل الرسول، بل يخرج إليه خارج الحرم حتى يسمع منه ما يقول، ويعطيه الرد خارج الحرم، أو يرسل إليه من ينوب عنه في ذلك ١٠.
قال بعض العلماء ١١ – وبه قال جماعة من المالكية – إن الواحد منهم إن دخل مختفيا ومات ودفن في الحرم واطلع عليه أنه ينبش قبره، وتخرج عظامه من الحرم، ولا يترك في حرم الله ؛ لأنه نجس قذر – قبحه الله – فالتحقيق أنه لا يجوز أن يدخل حرم الله كافر، وأن الله نهى عن قربانهم إياها، لا يقربوه فضلا عن أن يدخلوه.
واختلف العلماء في غير المسجد الحرام من المساجد هل يدخل الكفار المساجد غير المسجد ا
١ أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٩٢)..
٢ السابق..
٣ مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة..
٤ في هذه المسألة انظر: ابن جرير (١٤/ ١٩١)، القرطبي (٨/ ١٠٤)، إعلام الساجد للزركشي ص ١٧٣..
٥ انظر: المغني (١٣/ ٢٤٥)..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥) من هذه سورة..
٧ مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام..
٨ أخرجه ابن جرير (١٤/ ١٩٦) من طريق عبد الرزاق؟.
٩ أخرجه أحم (٣/ ٣٣٩، ٣٩٢) وقال عنه ابن كثير: "تفرد به الإمام أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا" ا. هـ. تفسير ابن كثير (٢/ ٣٤٦)..
١٠ انظر: القرطبي (٨/ ١٠٤)..
١١ السابق، وانظر: إعلام الساجد للزركشي ص ١٧٥..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون ( ٢٩ ) ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ].
كان الصحابة ( رضي الله عنهم ) ينتظرون نزول هذه الآية الكريمة بسبب آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي من المنسأ الذي قدمناه في قوله :﴿ ما ننسخ من ءاية أو ننسها ﴾ [ البقرة : آية ١٠٦ ] على قراءة :﴿ ننسأها ﴾ ١ يعني : نؤخرها ؛ لأن الله يؤخر بعض الآيات إلى أمد معلوم، ثم يأتي ببدلها، تارة يأتي ببدلها ناسخا، وتارة تكون منسأة لا منسوخة ؛ لأنها كانت معلوما أنها مغياة بغاية. وإيضاح هذا : أن الله أنزل آيات في أهل الكتاب تدل على عدم قتالهم، كقوله في سورة البقرة :﴿ ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ [ البقرة : آية ١٠٩ ]. ﴿ فاعفوا واصفحوا ﴾ أي : عن أهل الكتاب ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ أي : حتى يأتيكم الأمر الأخير من الله. وكانت هذه الآية من سورة براءة فيها الأمر الذي كانوا ينتظرونه في آية البقرة، فأنزل الله :﴿ قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ]. لأن أهل الكتاب من يهود ونصارى وإن قالوا لا إله إلا الله وأقروا بالقيامة فهم كمن أنكر وجود الله وأنكر وجود القيامة ؛ لأنهم لما اتخذوا الأرباب معه وأشركوا به في الأرباب وقالوا : إن عزيرا ابنه، وإن المسيح ابنه ! ! هذا القول من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ؛ لأن الكافر إذا كفر بالله من وجه لا ينفعه الإيمان به من وجه آخر، فمن قال : لا إله إلا الله، وادعى لله ولدا، أو شريكا، أو ربا معه، فهذا لا يؤمن بالله ﴿ ولا باليوم الأخر ﴾، وهو يوم القيامة، ﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ بل يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾، الذي هو دين الإسلام.
وفي قوله :﴿ دين الحق ﴾ وجهان من التفسير ٢ :
أحدهما : أن ( الحق ) هو ضد الباطل، وأن دين الحق من إضافة الموصوف إلى صفته. أي : الدين الذي هو الحق الذي هو دين الإسلام. ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : آية ١٩ ].
الوجه الثاني : أن الحق هو الله، فالحق من أسماء الله. ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ أي : دين الله الذي شرعه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ من الذين أوتوا الكتب ﴾ بيان للذين أمروا بقتالهم الموصوفون بأنهم لا يؤمنون بالله إلى آخر ما ذكر.
﴿ من الذين أوتوا الكتب ﴾ من يهود ونصرى.
وعندما نزلت تجهز صلى الله عليه وسلم لقتال النصارى في غزوة تبوك كما سيأتي تفاصيله في هذه السورة الكريمة.
﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد ﴾ :( حتى ) حرف غاية، والمغيا هنا ﴿ قتلوا ﴾ أي : قاتلوهم وأمد ذلك القتال إلى غاية هي أن ﴿ يعطوا الجزية عن يد ﴾ إذا لم يؤمنوا بالله، فإن آمنوا بالله فذلك، وإلا فلا بد أن يعطوا الجزية.
الجزية :( فعلة ) وقد تقرر في علم العربية أن ( الفعلة ) كسر الفاء تأتي لبيان الهيئات، من هيئات المصدر. وأصلها من جزى يجزي ؛ لأن الكفار – أهل الكتاب - : ينعم عليهم المسلمون بحقن دمائهم وعدم قتلهم. والمدافعة عنهم، ومنع كل من أراد أن يظلمهم، فهذا الإحسان يجازونه نوعا من الجزاء عبر عنه بالجزية من ( جزى يجزي ) إذا كافأ ما أسدي إليه، تقول العرب : أحسن إلي فجزيته، أي : كافأته بما أسدى، ومنه قول الشاعر ٣ :
يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ عن يد ﴾ فيه أوجه من التفسير معروفة عند العلماء لا يكذب بعضها بعضا ٤ : قال بعض العلماء :﴿ يعطوا الجزية عن يد ﴾ : أي : عن قهر وتحت ذل وكل ما أعطاه الإنسان مقهورا ذليلا تقول العرب : أعطاه عن يد. وقال بعض العلماء : يعطيه عن يد معناه يسلمه بيده ولا يرسل به غيره، فالدافع واقف والآخذ جالس. وقال بعض العلماء :﴿ عن يد ﴾ أي : نقدا متسلما باليد لا نسيئة. وقال بعض العلماء :﴿ عن يد ﴾ أي " عن اعترافهم بنعمة المسلمين عليهم حيث قبلوا منهم العوض ولم يقتلوهم. والحال في هذا ﴿ وهم صغرون ﴾ الصاغرون : المتصفون بالصغار. والصغار في لغة العرب معناه : الذل والحقارة والهوان. ومعنى :﴿ وهم صغرون ﴾ أي : حقيرون ذليلون. وسنبين هنا – إن شاء الله – بعض أحكام الجزية :
اعلموا أولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن بجواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولكنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) بين أنهم وإن أخذت منهم الجزية فلا يجوز بحال من الأحوال ولا بوجه من الوجوه أن يتركوا يسكنون في جزيرة العرب، فإقامة الكفار وسكناهم في جزيرة العرب ممنوع لا يجوز بحال، فيجب على المسلمين أن يخرجوهم من جزيرة العرب جميعها ولا يتركوا فيها كافرا. وهذا من آخر ما أوصى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث، قال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم " قال الراوي : ونسيت الثالثة ٥. فهذا حديث صحيح أوصى به النبي عند موته. وقد أخرج مسلم وغيره أنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) قال : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما " ٦. وروى الإمام أحمد وغيره عن عائشة ( رضي الله عنها ) آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : " لا يترك بجزيرة العرب أنها قالت : آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : " لا يترك بجزيرة العرب دينان " ٧. وروى أحمد وغيره عن أبي عبيدة بن الجراح ( رضي الله عنه ) قال : آخر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب " ٨.
فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أنه لا يجوز أن يسكن كافر بجزيرة العرب كائنا ما كان، وأن على المسلمين إخراج الكفار من جزيرة العرب، ولكنهم لا يمنعون من الإتيان إليها لتجارة أو نحوه من غير إقامة بها، وكان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) إذا أراد بعض اليهود دخول الحجاز لتجارة أذن له وأجل لهم ثلاثة أيام يبيعون فيها ويشترون ثم يذهبون ٩.
واعلموا أن الجزية إذا أسلم الكافر اختلف العلماء هل تسقط عنه الجزية ١٠ ؟ وأظهر القولين : أنه تسقط عنه الجزية لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا جزية على مسلم " ١١ ولأنه لا تؤخذ منه وهو صاغر ؛ لأن المسلم لا يحقر ولا يهان.
وقال الشافعي في طائفة من العلماء : إذا أسلم لم تسقط عنه الجزية ؛ لأنها بقيت دينا فيه، فهي كسائر الديون، إلا أنه عند أدائها يؤديها غير صاغر ولا مهان، لأجل إسلامه، ولكنها تقررت في ذمته.
واختلف العلماء : في القدر الذي يؤخذ من أهل الجزية ١٢، وممن تؤخذ الجزية ١٣ ؟ فقال جماعة من العلماء : تؤخذ الجزية من كل كتابي عجميا كان أو عربيا، والجزية بالأديان لا بالأنساب. وهذا القول هو الصحيح والأظهر.
وقال بعض العلماء : تؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ١٤.
والحق أن الجزية تؤخذ من كل كتابي عربيا كان أو غيره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أرسله إلى اليمن أن يأخذ من كل حالم من كفار أهل اليمن – أهل الكتاب – الذين لم يسلموا أن يأخذ من كل حالم دينارا منهم ١٥. وبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر فأخذ من أكيدر الجزية ١٦. وأكيدر دومة معلوم أنه عربي، أصله من كندة، كما قاله غير واحد.
وأخذ الجزية من أهل نجران ١٧. وأكثر أهل نجران نصارى عرب. وهذا هو التحقيق، فالحق الذي لا شك فيه أن الكتابي الذي كان على دين أهل الكتاب قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم تؤخذ منهم الجزية بنص هذه الآية ؛ ولأنها لم تفصل.
وأما المجوس فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم تؤخذ منهم الجزية، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ١٨. وقد أخذ الجزية من أهل البحرين ١٩ وأكثرهم في ذلك الوقت كانوا مجوسا.
فالحق الذي لا شك فيه أنها تؤخذ من المجوس لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ٢٠ وثبت عن عبد الرحمان بن عوف أنه قال : أشهد فقد أخذ رسول الله الجزية من مجوس هجر. وكان عمر بن الخطاب توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمان بن عوف ( رضي الله عنه ) ٢١. والشافعي ( رحمه الله ) يقول : لا تؤخذ إلا من الكتابي عربيا كان أو عجميا، أو من المجوسي بالسنة. أما المشركون من عبدة الأوثان وما جرى مجراهم ٢٢ قال الشافعي : لا تؤخذ منهم الجزية. وقال به جماعة من العلماء. قالوا ووجهه : أن الله في المشركين ما نص إلا على القتل ﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم ﴾ [ التوبة : آية ٥ ] وفي أهل الكتاب قال :﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ] وفي المجوس ثبت أخذ الجزية منهم بالسنة. فالمشركون لهم السيف، وأهل الكتاب لهم الجزية بالقرآن، والمجوس لهم الجزية بالسنة، وبهذا قال جماعة من العلماء منهم الشافعي.
وقال مالك بن أنس ( رحمه الله ) في جماعة من العلماء : إنها تؤخذ من كل كافر وثنيا كان يعبد الأصنام أو مجوسيا، أو كتابيا، فتؤخذ من جميع الكفار. هذا قول مالك في طائفة من العلماء.
وأقل ما جاء في قدر الجزية على الرجل من أهل الكتاب دينار. قال جمهور العلماء : لا تنقص الجزية عن دينار ٢٣. وبعضهم يقول : لا حد لها، فما صالح عليه الإمام هو الذي يؤخذ.
وكان عمر بن الخطاب أخذ الجزية من أهل الشام ٢٤، وأخذها من أهل السواد ٢٥. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يأخذ الجزية من أهل اليمن من كل حالم دينارا ٢٦.
والتحقيق أنها لا تؤخذ من الصبيان والنساء، بل من الرجال المقاتلين، كما دل عليه حديث معاذ : " خذ من كل حالم دينارا " ٢٧. يعني : لا صبيا، ولا امرأة ؛ ولأن الصبيان والنساء ليسوا من المقاتلين ولا يجوز قتلهم. والله يقول في المقاتلين :﴿ قتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية ﴾. فدل أن الذي يعطي الجزية هم المقاتلون لا غيرهم. كان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أخذ الجزية من أهل الشام على الواحد أربعة دنانير ٢٨.
وعن ابن أبي نجيح أنه سأل مجاهدا ( رحمه الله ) : ما بال أهل اليمن أخذ منهم في الجزية دينار، وأهل الشام أربعة دنانير ؟ قال : ذلك باعتبار الفقير واليسار، وهؤلاء فقراء أخذ منهم دينار، وهؤلاء موسرون أخذ منهم أربة دنانير ٢٩. وكان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أخذ الجزية من أهل السواد، فأخذ من الفقير والمراد به الفقير الذي له حرفة وتسبب اثني عشر درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهمان ومن الغني ثمانية وأربعين درهما ٣٠.
وبعض العلماء يقول هذا، ويعضهم يقول : أربعة دنانير، وبعضهم يقول : دينار. وقد أمر النبي بدينار، وأخذ عم
١ انظر: المبسوط لابن مهران ص ١٣٤..
٢ انظر البحر المحيط (٥/ ٢٩)..
٣ البيت في القرطبي (٨/ ١١٤)، البحر المحيط (٥/ ٣٠)..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ١١٥)، البحر المحيط (٥/ ٣٠)..
٥ البخاري في الجزيرة والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة اليهود من جزيرة العرب. حديث رقم: (٣١٦٨) (٦/ ٢٧٠)، ومسلم في الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. حديث رقم: (١٦٣٧) (٣/ ١٢٥٧)..
٦ مسلم في الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. حديث رقم: (١٧٦٧) (٣/ ١٣٨٨) من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)..
٧ أخرجه أحمد (٦/ ٢٧٥) وقال الهيثمي في المجمع (٥/ ٣٢٥): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع" ا. هـ..
٨ أخرجه أحمد (١/ ١٩٥، ١٩٦)، وأبو يعلى (١/ ٨٧٢)، والحميدي (٨٥)، والدرامي (٢/ ١٥١ - ١٥٢)، والطيالسي (٢٢٩)، والبيهقي (٩/ ٢٠٨). وانظر: السلسلة الصحيحة (١١٣٢)..
٩ أخرجه البيهقي (٩/ ٢٠٩)..
١٠ انظر: بدائع الصنائع (٧/ ١١٢)، المغني (١٣/ ٢٢١ - ٢٢٢)، القرطبي (٨/ ١١٣ - ١١٤)..
١١ أخرجه أحمد (١/ ٢٢٣، ٢٨٥)، وأبو عبيد في الأموال ص ٤٩، وأبو داود في الخراج والفيء، باب الذمي الذي يسلم في بعض السنة. حديث رقم: (٣٠٣٧) (٨/ ٣٠٥)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء: ليس على المسلم جزية. حديث رقم: (٦٣٣) (٣/ ١٨)، البيهقي، والدرقطني (٤/ ١٥٦، ١٥٧)، وابن عدي (٥/ ١٨٤٥)، (٦/ ٢٠٧٢)، وأبو نعيم في الحلية (٩/ ٢٣٢). انظر: الإرواء (٥/ ٩٩)..
١٢ انظر: بدائع الصنائع (٧/ ١١ - ١١٢)، المغني (١٣/ ٢١١ - ٢١٢)، القرطبي (٨/ ١١١)، أحكام أهل الذمة (١/ ٢٦)..
١٣ انظر: الأم (٤/ ٢٤٠، ٢٨١)، القرطبي (٨/ ١١٠)، المغني (١٣/ ٢٠٢) فما بعدها، أحكام أهل الذمة (١/١) فما بعدها..
١٤ انظر: المدونة (٢/ ٤٦ - ٤٧)، بدائع الصنائع (٧/ ١١٠ – ١١١) المغني (١٣/ ٢٠٦ – ٢٠٧، ٢٠٨)..
١٥ أخرجه أحمد (٥/ ٢٣٠، ٢٣٣، ٢٤٠، ٢٤٧)، وعبد الرزاق (٤/ ٢١)، وابن أبي شيبة (٣/ ١٢٦ - ١٢٧)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. حديث رقم: (٦٢٣) (٣/ ١١) وقال: "هذا حديث حسم. وروي بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي... وهذا أصح" ا. هـ. وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (١٥٦١ - ١٢٦٢) (٤/ ٤٥٧) وفي الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢٢، ٣٠٢٣) (٨/ ٢٨٧)، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر. حديث رقم: (١٨٠٣) (٨/ ٢٨٧)، والنسائي في الزكاة، باب زكاة البقر. حديث رقم: (٢٤٥٠ - ٢٤٥٢) (٥/ ٢٥ - ٢٦)، والحاكم (١/ ٣٩٨)، والبيهقي (٤/ ٩٨)، (٩/ ١٩٣)، وابن خزيمة (٤/ ١٩)، وابن حبان (الإحسان ٧/ ١٩٥). وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢/ ٢٧٥): "إسناده متصل صحيح ثابت" ا. هـ.
وانظر: التلخيص (٢/ ١٥٢)، الإرواء (٧٩٥)، صحيح أبي داود (٢/ ٥٨٩)، صحيح ابن ماجه (١/ ٣٠٢)..

١٦ أخرجه أبو في الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢١) (٨/ ٢٨٦)، والبيهقي (٩/ ١٨٦، ١٨٧). وانظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٨٩)..
١٧ أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم: (٣٠٢٥) (٨/ ٢٩١)، والبيهقي (٩/ ١٨٧)..
١٨ أخرجه البخاري في جزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (٣١٥٧) (٦/ ٢٥٧)..
١٩ أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم: (٣١٥٨) (٦/ ٢٥٧)، وطرفه (٤٠١٥، ٦٤٢٥)، ومسلم في الزهد والرقائق. حديث رقم: (٢٩٦١) (٤/ ٢٢٧٣) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري (رضي الله عنه).
وقد أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم: (١٥٨٨) (٤/ ١٤٧) من حديث السائب بن يزيد. وعقبه بقوله: "وسألت محمدا عن هذا فقال: هو مالك عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم" ا. هـ.
وقد أخرجه مالك ص ١٨٧ عن الزهري بلاغا..

٢٠ أخرجه مالك في الموطأ ص ١٨٨، والبيهقي (٩/ ١٨٩) من حديث عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه). وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢/ ١١٤): "هذا حديث منقطع" ا. هـ. وله شاهد من حديث السائب بن يزيد (رضي الله عنه)، قال في المجمع (٦/ ١٣): "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه" ا. هـ. انظر: الإرواء (٥/ ٨٨)..
٢١ مضى تخريجه قريبا..
٢٢ انظر: المدونة (٢/ ٤٦)، الأم (٤/ ١٧٢ - ١٧٤)، المغني (١٣/ ٢٠٣ – ١٠٤، ٢٠٨)..
٢٣ كما جاء في حديث معاذ (رضي الله عنه) لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمين، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا. وقد مضى تخريجه قريبا..
٢٤ سيأتي تخريجهما قريبا..
٢٥ سيأتي تخريجهما قريبا..
٢٦ مضى تخريجه قريبا..
٢٧ مضى تخريجه قريبا..
٢٨ أخرجه البيهقي (٩/ ١٩٥)..
٢٩ البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (٦/ ٢٥٧)..
٣٠ أخرجه ابن أبي شيبة (١٢/ ٢٤١)، والبيهقي (٩/ ١٩٦)..
﴿ ذلك قولهم بأفوههم يضهئون قول الذين كفروا من قبل قتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ [ التوبة : آية ٣٠ ] قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير عاصم والكسائي :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ بلا تنوين على الراء. وقرأه عاصم والكسائي :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ بتنوين الراء ١. وقرأ عامة السبعة غير عاصم :﴿ يضاهون قول الذين كفروا ﴾ بضم الهاء ليس بعدها همزة. وقرأ من السبعة عاصم وحده :﴿ يضهئون قول الذين كفروا ﴾ بكسر الهاء وهمزة بعده ٢.
وفي الآية التي قبل هذا أمر الله ( جل وعلا ) بعقوبة أهل الكتاب بقوله :﴿ قتلوا ﴾ ثم بين موجب تلك العقوبة بقوله :﴿ الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ﴾ ثم أكد موجب عقوبته بقوله هنا :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصرى المسيح ابن الله ﴾ يعني : هؤلاء الذين أمرنكم بقتالهم مرتكبون من الجرائم ما يستوجب قتالهم ﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون ﴾ [ التوبة : آية ٢٩ ] فأوجب على أهل الكتاب عقوبات شديدة، منها : قتالهم حتى يدفعوا الجزبة ﴿ عن يد وهم صغرون ﴾ أخساء أذلاء. وكذلك لحقارتهم على الله/ بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من جزيرة العرب [ وتطهيرها منهم ] ٣. ومن آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم تطهير جزيرة العرب من اليهود والنصارى وسائر المشركين ٤. ولا شك أن هذا أمر مهم، لو لم يكن مهما لما أوصى به النبي عند موته ( صلوات الله وسلامه عليه )، ولكنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) علمنا في هذا الدين العظيم أن له عزائم ورخصا، فهذا الدين العظيم أنزله الله منقسما إلى عزائم ورخص، فعزائمه : تستعمل عند الأوقات المناسبة لها، ورخصه : تستعمل عند الأوقات المناسبة لها ؛ لأن الدين السماوي لا بد أن يكون مشتملا على مواجهة التطورات والأحداث حيث ما كانت وأيا ما كانت، ففي كل حال له فيها مواجهة.
ونريد هنا أن نبين بعض الأشياء التي يجوز أخذها من الكفار والتي لا يجوز أخذها ؛ ليكون المسلم على بصيرة من ذلك، ويعلم ما ينبغي وما لا ينبغي، ويفرق بين ما يضر وما لا يضر. لا شك أنه إن كانت القوة كاملة للمسلمين من غير حاجة للكفار في شيء أنهم يقومون بأنفسهم ويقيمون عزائم الله في المشركين من قتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وتطهير جزيرة العرب منهم إلى غير ذلك مما قدمنا أنه لا بد منه في كل الأحوال وفي كل الظروف، أي : إذا كان محل العزائم والمسلمون في قوتهم كما ينبغي، أما إذا كان المسلمون في ضعف عن ذلك، أو في حاجة ماسة ضرورية إلى الكفار فلكل حال مقال، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم المخرج في جميع هذه الأشياء، فهو ( صلوات الله وسلامه عليه ) لما أمكنه أن يجلي بني قينقاع من غير حاجة المسلمين ولا ضرورة عليهم أجلاهم من المدينة إلى أطراف الشام، ولما أمكنه بعد ذلك أن يجلي بني النضير أجلاهم من المدينة إلى أطراف الشام كما سيأتي في قوله :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديرهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا... ﴾ إلى آخر الآيات [ الحشر : آية ٢ ]. ولما كانت حاجة المسلمين ماسة إلى عدم إجلاء خيبر لم يجلهم بل عاملهم ليتولوا القيام على نخل خيبر وأرضها، وأعطاهم شطر ثمار نخل خيبر وما يخرج من أرضها، وهو صلى الله عليه وسلم عازم على إخراجهم عندما أمكنت الفرصة، وصار وقت العزيمة، وانتهى وقت الرخصة ؛ ولذا ثبت في بعض الروايات الصحيحة أنهم لما قالوا له : أقرنا على الأرض نقوم على نخلها وزرعها بشطرها. قال لهم صلى الله عليه وسلم : " نقيمكم على ذلك ما شئنا، وإن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم " ٥ لأنه عازم على إخراجهم ( صلوات الله وسلامه عليه )، عندما تسنح الفرصة المواتية لذلك، فالعزيمة لها وقتها، وإذا كان الوقت للعزيمة لا يجوز أن تهمل بحال من الأحوال، فإذا كان الظرف مناسبا للرخص أعملت الرخص ؛ لأن دين الإسلام دين مرن صالح لمواجهة جميع التيارات والأحداث والتطورات، وقد قدمنا في سورة [ آل عمران ] ٦ طرفا جيدا من هذا في الكلام على قوله :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقة ﴾ [ آل عمران : آية ٢٨ ] أي : إلا أن تخافوا منهم خوفا فلذلك حال وحكم آخر.
واعلموا – أيها الإخوان – أن المؤسف كل المؤسف هو أن الذي يجوز لنا أن نأخذه من الكفار والذي يمتنع علينا أن نأخذه منهم معكوس في أقطار المعمورة الآن ! ! يأخذون منهم ما لا يحل أخذه، ويتركون ما لا ينبغي تركه، فيعكسون القضية عكسا تاما ! ! وإيضاح هذا المعنى أنه يجوز للمسلمين أن ينتفعوا بأعمال الكفار التي هي أمور دنيوية بحتة ويحذروا كل الحذر من أن يقلدوهم في شيء من أوامر الدين. وسنذكر لكم أمثلة من هذا يتضح بها المقام ٧ : هذا سيد الخلق محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – لما تواطأت عليه قوى الشر واضطروه أن يخرج من مسقط رأسه – كما قدمنا في سورة الأنفال في الكلام على قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال : آية ٣٠ ] ودخل هو وصاحبه في غار كما سيأتي تفصيله في هذه السورة الكريمة إن شاء الله – وجد في ذلك الوقت كافرا من بني دؤل بن كنانة يسمى عبد الله بن الأريقط، وكان في ذلك الوقت كافرا من عبدة الأوثان، إلا أن عنده خبرة دنيوية بالطرق من مكة إلى المدينة ؛ لأنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) في ذلك الوقت محتاج إلى خيبر بالطرق ؛ لأن الطرق المعهودة السابلة أمسكها الكفار وجعلوا جعائل من أتى بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعطوه الأموال الكثيرة، فصار لا يمكن أن يسير في الطرق المعهودة والسبل السابلة، بل لا بد أن يذهب من بنيات طرق ليست هي المعهودة، وهذه تحتاج إلى خبرة خاصة، ووجد هذه الخبرة عند كافر من بني دؤل بن كنانة يسمى عبد الله بن الأريقط، فأودعه رواحله وأعطاه الموعد، وكان ذلك الكافر أمينا معه، فجاءه في الموعد وذهب به وجاء به من طرق غير معهودة حتى أوصله المدينة بسلام ٨. فالنبي صلى الله عليه وسلم عند الحاجة انتفع بخبرة هذا الكافر ولم يقل : هذه خبرة نجسة قذرة لأنها من كافر، بل انتفع بها على حد قولهم " اجتن الثمار وألق الخشبة في النار ". وكذلك لما سمع بالكفار في غزوة الأحزاب قال له سلمان الفارسي – كما هو مذكور في الأخبار والسير – : كنا إذا خفنا خندقنا ٩. فأشار إليه بالخندق، وهو خطة حربية عسكرية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وانتفع بهذه الخطة الحربية العسكرية وإن كانت ابتدعتها أذهان فارس الذين هم كفرة يعبدون النار، ولم يقل : هذه خطة نجسة قذرة ؛ لأن أصلها من الكفار ! ! بل انتفع بما ينفعه في دنياه وهو محافظ على دينه. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يمنع الرجال من أن يطؤوا نساءهم في حالة إرضاعهم ؛ لأن العرب كانوا يظنون أن الرجل إذا أتى أبوه أمه وهي ترضعه أن ذلك يضعف عظمه ويترك فيه ضعفا طبيعيا ! ! كانوا إذا ضرب الرجل ونبا سيفه عن الضريبة قالوا : هذا من آثار الغيلة، وهي وطء المرضع ! ! وكان شاعرهم يقول ١٠ :
فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبوا في أكفهم السيوف
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فارس والروم أنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم ١١، فأخذ هذه الخطة الطبية من فارس والروم ولم يمنعه خبث من جاء بها عن أن يأخذها. فهذا تعليم الصادق المصدوق ( صلوات الله وسلامه عليه ).
ومما هو واضح أن ما جاء به الكفرة الفجرة الخنازير الذين يسمون أنفسهم ( أهل الحضارة ) أنهم جاؤوا بماء زلال، وجاؤوا بسم فتاك قاتل ؛ لأن ما في الحضارة الغربية من المنافع الدنيوية لا يحتاج أن ينوه عنه، فهم خدموا الإنسان – من حيث إنه جسم – خدمة هائلة ما كانت تخطر على البال ولا يحتاج أن ينوه عنها، ولكنهم بالنسبة إلى الروح وإلى عنصر الإنسان من حيث كونه روحا مفلسون كل الإفلاس. فعلى المسلمين أن يميزوا بين ما يضر وما لا يضر، فيأخذوا منهم الأمور الدنيوية فينتفعوا بخبرتهم في الأمور كما انتفع صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية من الكفار، أما أنهم يأخذون عنهم كفرهم وتمردهم على الله وإفلاسهم الروحي النهائي فهذا مما لا يجوز ولا كان ينبغي لعاقل أن يفعله.
ونحن دائما نبين الموقف السليم في الأوضاع الراهنة للإسلام والمسلمين، وتعرضه على الدليل العظيم المعروف عند علماء الأصول ب( السبر والتقسيم )، وعند علماء المنطق. ب( الشرطي المنفصل )، وعند علماء الجدل ب( الترديد والتقسيم ) ١٢، فنقول : إن موقف المسلمين مما أحدثته الحضارة الغربية التي صارت سبب ضلال ودمار مع ما أدخل في الثقافات من البلايا والولايات، نقول : وهو بالتقسيم الصحيح منحصر في أربعة أقسام حصرا استقرائيا ١٣، وقد تقرر في علم البحث والمناظرة، وعلم الأصول أن للحصر طريقين : أولهما : أن نقول : يجب علينا أن نأخذ جميع ما أنتجته الحضارة الغربية من مائها الزلال وسمها الفتاك ضارها، أو نأخذ ضارها ونترك نافعها، فهي أربعة أقسام بالحصر الاستقرائي، فإذا رجعنا لهذه الأقسام الأربة بالسبر الصحيح نجد ثلاثة منها باطلة، وواحد صحيحا، وهذه فائدة السبر والتقسيم، والتقسيم : يحصر الأوصاف، والسبر : يميز بين خبيثها وطيبها وصالحها وطالحها. فلو قلنا : نأخذ جميع ما أنتجته الحضارة الغربية، فإن من أراد أن يأخذ الماء الزلال ممزوجا بالسم الفتاك القتال لا ينتفع بالماء، ومن أراد تقدما من الأمور الدنيوية التي عندهم مع ما فيها من الانحلال، وضياع الأخلاق، والتمرد على نظام السماء، والإلحاد والكفر بخالق السماوات والأرض، فهذا لا ينفع معه شيء، إذا الدين لم يكن فلا كانت الدنيا. فهذا قسم باطل يقينا، ولو قلنا : نتركها جميعا، فهذا القسم باطل أيضا ؛ لأن ترك الأخذ بالقوة تواكل وعجز وتمرد على نظام السماء ؛ لأن الله يقول :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : آية ٦٠ ]. فترك القوة الاستعداد للعدو مخالف للشرع الكريم، ومخالف للفطر السليمة، فالحياة بتطوراتها الراهنة لا يجوز للمسلمين أن يتركوا استعمال القوة وجميع أنواع الوسائل لتكون عندهم قوة يدافعون بها عن أنفسهم ودينهم، فهذا القسم باطل أيضا.
القسم الثالث : وهو أن يؤخذوا سمها فقط، ويترك زلالها فمن وجد ماء زلالا وسما فاتكا قتالا، واختار السم على الماء فهذا مجنون أهوج ! !
أما أن نأخذ نافعها ونترك ضارها، فهذا هو اللائق بكل عاقل أن يأخذ ما ينفعه ويترك ما يضره.
والمؤسف كل المؤسف أن الذين تأثروا بهذه الحضارة من الناس الذين أصلهم مسلمون لم يأخذوا من هذه الحضارة إلا سمها الفتاك القتال، ولم ينتفعوا بمائها الزلال، فتراهم يقلدونهم في الإلحاد والكفر بالله والمسخرة من الدين، والاستهزاء بآيات الله، في الوقت الذي لم يأخذوا عنهم شيئا مما أنتجوه من الأمور النافعة في الدنيا.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ١٤
فهم يجمعون بين الكفر والإفلاس – والعياذ بالله – وهذا الشيء الذي طبق المعمورة وانتشر في أقطار الدنيا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعلى كل حال فدين الإسلام هو هو، وصلته با
١ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٦..
٢ السابق ص ٢٢٦..
٣ في الأصل: "وتطهيرهم منها". وهو سبق لسان..
٤ مضى تخريجه قريبا..
٥ البخاري في الحرث والمزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، حديث رقم: (٢٣٣٨) (٥/ ٢١)، ومسلم في المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. حديث رقم: (١٥٥١) (٣/ ١١٨٧)..
٦ في الأصل: "النساء". وهو سبق لسان..
٧ راجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام..
٨ السابق..
٩ السابق..
١٠ السابق..
١١ السابق..
١٢ مضى عند تفسير الآية (١٤٤) من سورة الأنعام..
١٣ مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام..
١٤ تقدم هذا البيت عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأنعام..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحنه عما يشركون ( ٣١ ) ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ].
ذكر الله ( جل وعلا ) في هذه الآيات الكريمات من سورة براءة جرائم اليهود والنصارى فعد منها أنهم نسبوا له الأولاد، وأتبع ذلك بقوله :﴿ قتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ [ التوبة : آية ٣٠ ] كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه، ويدعون للواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، يدعون له الأولاد فيقولون : عزير ابن الله، والمسيح ابن الله ؟ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم ذكر من معائبهم وإجرامهم بلايا أخر فقال :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ﴾ [ التوبة : آية ٣١ ] أي : واتخذوا المسيح بن مريم ربا من دون الله أيضا. وهذه الآية جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها لعدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) لما سأله عنها، فقد أخرج الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم : " اطرح هذا الوثن من عنقك " وسمعه يقرأ :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله ﴾ – وكان عدي في الجاهلية نصرانيا – فقال عدي : ما كنا نعبدهم من دون الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ألم يحلوا لكم ما حرم الله، ويحرموا عليكم ما أحل الله فتتبعوهم ؟ " قال : بلى. قال : " ذلك عبادتهم " ١. وهو معنى اتخاذهم أربابا. وهذا التفسير النبوي المقتضي أن كل من يتبع مشرعا فيما أحل وحرم مخالفا لتشريع الله أنه عابد له، متخذه ربا، مشرك به، كافر بالله هو تفسير صحيح لا شك في صحته، والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم، وسنبين – إن شاء الله – طرفا من ذلك :
اعلموا أيها الإخوان أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلاهما بمعنى واحد، لا فرق بينهما ألبتة، فالذي يتبع نظاما غير نظام الله، وتشريعا غير ما شرعه الله، وقانونا مخالفا لشرع الله من وضع البشر، معرضا عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله، من كان يفعل هذا هو ومن يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما ألبتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، فكلاهما مشرك بالله، هذا أشرك به في عبادته، وهذا أشرك به في حكمه، والإشراك به في عبادته، والإشراك به في حكمه كلاهما سواء، وقد قال الله ( جل وعلا ) في الإشراك به في عبادته :﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ١١٠ ].
وقال في الإشراك به حكمه أيضا :﴿ له غيب السموت والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ٢٦ ]. وفي قراءة ابن عامر من السبعة :﴿ ولا تشرك في حكمه أحدا ﴾ ٢ بصيغة النهي المطابقة لقوله :﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ١١٠ ] فكلاهما إشراك بالله ؛ ولذا بين النبي لعدي بن حاتم أنهم لما اتبعوا نظامهم في التحليل والتحريم وشرعهم المخالف لشرع الله كانوا عبدة لهم، متخذيهم أربابا، والآيات القرآنية في المصحف الكريم المصرحة بهذا المعنى لا تكاد تحصيها، ومن أصرحها : المناظرة التي أشرنا لها في الأيام الماضية، ووعدنا بإيضاح مبحثها هنا، وهي المناظرة التي وقعت بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم تحليل لحم الميتة وتحريمه، فحزب الشيطان يقولون : إن الميتة حلال، ويستدلون بوحي من وحي الشيطان، وهو أن الشيطان أوحى إلى أصحابه وتلامذته في مكة أن اسألوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها ؟ فلما قال : الله قتلها. احتجوا على النبي وأصحابه في تحريمهم الميتة بفلسفة من وحي الشيطان وقالوا : ما ذبحتموه وذكيتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون حرام ! ! فأنتم أحسن من الله إذا ! ! فهذا فلسفة الشيطان ووحي إبليس استدل بها كفار مكة على اتباع نظام الشيطان وتشريعه وقانونه بدعوى أن ما ذبحه الله أحل مما ذبحه الناس، وأن تذكية الله أطهر من تذكية الخلق، واستدل أصحاب النبي والنبي صلى الله عليه وسلم على تحريم الميتة بوحي الرحمن في قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : آية ٣ ] ﴿ إنما حرم عليكم الميتة ﴾ [ البقرة : آية ١٧٣ ] فأدلى هؤلاء بنص من نصوص السماء، وأدلى هؤلاء بفلسفة من وحي الشيطان، ووقع بينهم جدال وخصام، فتولى رب السماوات والأرض الفتيا في ذلك بنفسه فأنزلها قرآنا يتلى في سورة الأنعام معلما بها خلقه، أن كل من يتبع نظاما وتشريعا وقانونا مخالفا لما شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرك بالله كافر متخذ ذلك المتبوع ربا، فأنزل الله ذلك في قوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ منه الميتة. أي : وإن قالوا : إنها ذكاة الله، وأنها أطهر. ثم قال :﴿ وإنه لفسق ﴾ أي : إن الأكل من الميتة لفسق. أي : لخروج عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان ﴿ وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم ﴾ من الكفرة ككفار مكة ﴿ ليجدلوكم ﴾ لأجل أن يجادلوكم بوحي الشيطان، ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم أحسن من الله. ثم قال – وهو محل الشاهد - :﴿ وإن أطعتموهم ﴾أي : اتبعتموهم في ذلك النظام الذي وضعه الشيطان لأتباعه وأقام دليلا من وحيه عليه ﴿ إنكم لمشركون ﴾ بالله : متخذون من اتبعتم تشريعه ربا غير الله. وهذا الشرك في قوله :﴿ إنكم لمشركون ﴾ هو الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين، وهو الذي أشار الله إليه في قوله :﴿ إنما سلطنه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( ١٠٠ ) ﴾ [ النحل : آية ١٠٠ ] وهو الذي صرح به الشيطان في خطبته يوم القيامة المذكورة في قوله :﴿ وقال الشيطن لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدنكم فأخلفتكم ﴾ إلى قوله :﴿ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ﴾ [ إبراهيم : آية ٢٢ ] وهو المراد على أصح التفسيرين في قوله :﴿ بل كانوا يعبدون الجن ﴾ [ سبأ : آية ٤١ ] يعبدون الشياطين باتباعهم في أنظمتهم وتشريعاتهم على ألسنة الكفار، وهو الذي نهى إبراهيم أباه :﴿ يأبت لا تعبد الشيطن ﴾ [ مريم : آية ٤٤ ] أي : باتباع ما يقرر لك من نظام الكفر والمعاصي مخالفا لشرع الله الذي أنزله على رسله، وهذه العبادة بعينها هي التي وبخ الله مرتكبها وبين مصيره الأخير في سورة يس في قوله :﴿ ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطن إنه لكم عدو مبين ( ٦٠ ) ﴾ [ يس : آية ٦٠ ] ما عبدوه بسجود ولا ركوع وإنما عبدوه باتباع نظام وتشريع وقانون شرع لهم أمورا غير ما شرعه الله فاتبعوه وتركوا ما شرع الله فعبدوه بذلك واتخذوه ربا كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ( رضي الله عنه )، فهذا أمر لا شك فيه، وهو المراد بقوله :﴿ وإن يدعون إلا شيطنا مريدا ﴾ [ النساء : آية ١١٧ ] يعني : ما يعبدون إلا شيطانا مريدا، أي : عبادة اتباع نظام وتشريع. واعلم أن قوما زعموا أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى شرع الشيطان والذي وضعه، وادعوا مع ذلك أنهم مؤمنون فعجب الله نبيه من دعواهم الكاذبة الفاجرة التي لا يمكن أن تصدق في سورة النساء في قوله ( جل وعلا ) :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطغوت ﴾ [ النساء : آية ٦٠ ]. وكل من تحاكم إلى غير ما أنزل الله فهو متحاكم إلى الطاغوت، وهؤلاء قوم أرادوا التحاكم إلى الطاغوت وزعموا أنهم مؤمنون بالله فعجب الله نبيه من كذب هؤلاء وعدم حيائهم في قوله :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون ﴾ يعجبه منهم ﴿ يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطن ﴾ الذي شرع لهم تلك النظم والأوضاع التي يسيرون عليها ﴿ ويريد الشيطن أن يضلهم ضللا بعيدا ﴾ وأقسم الله ( جل وعلا ) إقساما سماويا من رب العالمين على أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسول الله فيما جاء به عن الله خالصا من قلبه في باطنه وسره في قوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( ٦٥ ) ﴾ [ النساء : آية ٦٥ ] وبين الله ( حل وعلا ) في آيات كثيرة من كتابه أن الحكم له وحده لا شريك له في حكمه، وكلما ذكر اختصاصه بالحكم أوضح العلامات التي يعرف بها بين من يستحق أن يحكم ويأمر وينهى ويشرع ويحلل ويحرم، وبين من ليس له شيء من ذلك، قال تعالى :﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ [ يوسف : آية ٤٠ ] ﴿ له الحمد في الأولى والأخرة وله الحكم ﴾ [ القصص : آية ٧٠ ] وسنبين لكم أمثلة من ذلك، من ذلك قوله في سورة الشورى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ [ الشورى : آية ١٠ ] ثم إن الله كأنه قال : هذا الذي يكون المرجع إليه، والقول قوله، والكلمة كلمته، حتى يرد إليه كل شيء، اختلف فيه ما صفاته التي يتميز بها عن غيره ؟ قال :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ ثم بين صفات من يستحق الحكم والتشريع والتحليل والتحريم والأمر والنهي فقال :﴿ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ( ١٠ ) فاطر السموت والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعم أزوجا يذرؤوكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ١١ ) له مقاليد السموت والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم ( ١٢ ) ﴾ [ الشورى : الآيات ١٠ - ١٢ ] هذه صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى، أفترون أيها الإخوان أن واحدا من هؤلاء القردة الخنازير الكلاب أبناء الكلاب الذين يضعون القوانين الوضعية فيهم واحد يستحق هذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى ؟ ! ! ومن الآيات الدالة على هذا النوع قوله تعالى في سورة القصص :﴿ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والأخرة وله الحكم وإليه ترجعون ( ٧٠ ) ﴾. ثم بين صفات من له أن يحكم فقال :﴿ قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ( ٧١ ) قل ارءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ( ٧٢ ) ومن رحمته جعل لكم الليل النهار لتسكنوا فيه ولتبتغون من فضله ولعلكم تشكرون ( ٧٣ ) ﴾ [ القصص : الآيات ٧٠- ٧٣ ] هل في الكفرة القردة الخنازير الكلاب أبناء الكلاب الذين يضعون النظم ويزعمون أنهم يرتبون بها علاقات الإنسان ويضبطون بها شؤونه هل في هؤلاء من يستحق أن يوصف بهذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويأمر وينهى ويحلل ويحرم ؟ ! ومن ذلك قوله تعالى في أخريات القصص :{ ولا تدع مع الله إلها ءاخر لا إله ٣ [ إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ] [ القصص : آية ٨٨ ].
والآيات القرآنية في مثل هذا كثيرة جدا. والحاصل أن التشريع لا يكون إلا للأعلى الذي لا يمكن أن يكون فوقه آمر ولا ناه ولا متصرف، فهو للسلطة العليا، أما المخلوق الجاهل الكافر المسكين فليس له أن يحلل ويحرم، والعجب كل العجب من قوم كان عندهم كتاب الله ورثوا الإسلام عن آبائهم، وعندهم هذا القرآن العظيم، والنور المبين، وسنة خير عن آبائهم، وعندهم هذا القرآن العظيم، والنور المبين، وسنة خير الخلق صلى الله ع
١ مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام..
٢ مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام..
٣ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت الآية وجعلت ذلك بين معقوفين..
﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم ﴾ [ التوبة : آ ]ة ٣٢ ] قال بعض العلماء : نور الله هو هذا القرآن العظيم، وقد سمى الله هذا القرآن نورا في آيات كثيرة كقوله :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتب مبين ﴾ [ المائدة : آية ١٥ ] ﴿ يأيها الناس قد جاءكم برهن من ربكم وأنزلنا إليكم نورا ﴾ [ النساء : آية ١٧٤ ] ﴿ ولكن جعلنه نورا نهدى به من نشاء ﴾ [ الشورى : آية ٥٢ ] ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ [ الأعراف : آية ١٥٧ ] ﴿ والنور الذي أنزلنا ﴾ [ التغابن : آية ٨ ] هو نور أضاء الله به كل شيء، وكل من لا يعلم أنه نور وأنه حق فإن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ؛ لأنه خفاش أعمى، والأعمى لا يرى الشمس، وقد بين الله هذا في سورة الرعد في قوله :﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ﴾ [ الرعد : آية ١٩ ] فصرح بأن الذي يمنعه من أن يعلم أنه الحق إنما هو عماه.
إذا لم يكن للمرء عين بصيرة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر ١
وقوله :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله ﴾ يعني يذهبوا أدلة هذا القرآن العظيم ويبطلونها ويمنعوا إقامة أدلته وإظهاره للحق والدين.
﴿ بأفوههم ﴾ في قوله :﴿ بأفوههم ﴾ وجهان ٢ :
أحدهما : أن المراد أن إطفاءه بأفواههم هو تكذيبهم به وقولهم : إنه شعر أو سحر أو كهانة أو أساطير الأولين أو مكذوب على الله. فهذا إرادتهم تكذيبه وإبطاله بأفواههم بالقول الكاذب.
وقال بعضهم : شبه فعلهم بمن رأى نورا مستضيئا ملأ أقطار الدنيا وأراد أن ينفخه ليطفئه بنفخة ؛ لأن النفخ يطفئ النور الضعيف، ولا يقدر على النور العظيم القوي. كأنه شبه إرادتهم لإطفائه بمن يريد أن ينفخ في نور عظيم ملأ الأرض ليطفئه بالنفخ. وهذا لا يمكن أبدا ﴿ ويأبى الله ﴾ ( جل وعلا ) ﴿ إلا أن يتم نوره ﴾ للعلماء بحث لغوي في قوله :﴿ ويأبى الله إلا ﴾ ٣ قالوا : لأن الاستثناء يكون من نفي قبله، وهنا ليس فيه نفي، والإثبات لا يستثنى منه، فلا تقول : إلا زيدا، وأكرمت إلا عمرا.
وأجاب بعض العلماء عن هذا بأن الإباء فيه معنى الامتناع، والامتناع مضمن معنى الجحد، هم يريدون كذا ولم يرد الله إلا أن يتم نوره. فهو في معنى النفي.
وقال بعض العلماء : هو متعلق بمحذوف : ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره، فهذا وحده لا بد أن يقع.
ثم قال :﴿ ولو كره الكفرون ﴾ فلو كره الكافرون إتمامه فهو متممه مهما كان.
١ مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام..
٢ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢١٣، ٢١٤)، ابن كثير (٢/ ٣٤٩)، البحر المحيط (٥/ ٣٣)..
٣ انظر: الدر المصون (٦/ ٤٠)..
﴿ هو ﴾ أي : الله ﴿ الذي أرسل رسوله ﴾ [ التوبة : آية ٣٣ ] هو محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ بالهدى ﴾ قال بعض العلماء : الهدى أيضا هو هذا القرآن ؛ لأن الله يقول :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان ﴾ [ البقرة : آية ١٨٥ ] قالوا :﴿ الهدى ﴾ أي : بالقرآن الفارق بين الحق والباطل ﴿ ودين الحق ﴾ هو دين الإسلام ؛ الذي لا يقبل الله غيره ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : آية ١٩ ] ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : آية ٨٥ ] وقال تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضي لكم الإسلم دينا ﴾ [ المائدة : آية ٣ ].
﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ الضمير في قوله :﴿ ليظهره ﴾ فيه وجهان للعلماء ١ : قال بعضهم وهو يروى عن بعضهم وهو مروي عن ابن عباس ٢ : الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم. أي : أرسله بهذا الهدى ﴿ ليظهره ﴾ ليطلعه على جميع الأديان فيبين لأهلها حقيقها من باطلها، كما قدمناه في قوله :﴿ ومهيمنا عليه ﴾ [ المائدة : آية ٤٨ ] ﴿ يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتب ﴾ [ المائدة : آية ١٥ ] ﴿ قل فأتوا بالتورة فاتلوها إن كنتم صدقين ﴾ [ آل عمران : آية ٩٣ ] وغير ذلك من الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من كتاب الله ما جاء في جميع الكتب المتقدمة.
القول الثاني :- وعليه الأكثر – أن الضمير للدين ﴿ ليظهره ﴾ أي : ليظهر دين الإسلام، أي : يعليه على جميع الأديان كلها. وهذا الإعلاء يدخل فيه إظهاره بالحجة والبرهان، فبراهينه قاطعة، وحججه ساطعة لا شك فيه، وكتابه محفوظ، فلا شيء يوازيه ولا يشابهه.
قال بعض العلماء :﴿ ليظهره ﴾ أي : ينصره ويغلبه على جميع الأديان، وقد وفى الله بهذا فيما مضى، وسيفي به – أيضا – في المستقبل ؛ لأن الدين فيما مضى ظهر على جميع الأديان، وأذل الدول الكبار العظيمة المعروفة، كالدولة الكسورية، والدولة القيصرية، لم يبق منهم إلا من هو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، أو مسلم، وانتشر في أقطار الدنيا من شرقها وغربها، وظهر على كل الأديان، وأذل أهلها، وسيأتي ذلك في آخر هذا الزمان أيضا كما جاء في أحاديث صحيحة كثيرة أنه لا يبقى في آخر الزمان أحد إلا كان مسلما ٣، ولم يكن في المعمورة غير دين الإسلام. وهذا معنى قوله :﴿ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ [ التوبة : آية ٣٣ ] إظهاره على الدين كله.
١ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢١٥)، القرطبي (٨/ ١٢١)، ابن كثير (٢/ ٣٤٩)..
٢ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٢١٥) من طريق علي بن أبي طلحة..
٣ ساق ابن كثير في تفسيره (٢/ ٣٤٩) كثيرا من هذه الأحاديث المشار إليها..
قال الله ( جل وعلا ) :﴿ يأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أمول الناس بالبطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ( ٣٤ ) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنت تكنزون ( ٣٥ ) ﴾ [ التوبة : الآيتان ٣٤، ٣٥ ] لما ذكر الله ( جل وعلا ) أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا بين أن الرهبان والأحبار لا ينبغي اتخاذهم أربابا ؛ لأن أكثرهم فجرة غير مستقيمين فقال :﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أمول الناس بالبطل ﴾ أي : فكيف تتخذون هؤلاء أربابا مع أن الإنسان لو اتخذ أشرف الأنبياء ربا أو أعظم الملائكة ربا لكان من كبار المشركين، أحرى من يتخذ الفجرة أربابا ﴿ ولا يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبين أرباب أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( ٨٠ ) ﴾ [ آل عمران : الآية ٨٠ ] ﴿ يأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحيار... ﴾ العلماء ﴿ والرهبان ﴾ : المتعبدين في صوامعهم.
﴿ ليأكلون ﴾ هذه أصلها لام الابتداء التي تزحلقها ( إن ) المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر ﴿ ليأكلون أمول الناس بالبطل ﴾ قال بعض العلماء : يأخذون الرشا. وقال بعض العلماء : يأخذون من أتباعهم أموالا باسم الدين ثم يأكلونها، قال بعضهم : يأخذون أموالا باسم الكنيسة والبيعة ونحو ذلك مما يخيلون لأتباهم أن أخذه من الدين ومرادهم الغرض الدنيوي ١.
وقوله :﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ لأن من استشار الرهبان والأحبار من أتباعهم هل يأخذ دين الإسلام يمنعونهم من ذلك، ويصدونهم عن سبيل الله التي هي دين الإسلام.
ثم قال تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة.... ﴾ العرب تقول : " كنزت الشيء " إذا جمعته بعضه إلى بعض. وكثيرا ما يطلق على المال المجموع بعضه إلى بعض المدفون في الأرض، والكنز في اللغة يطلق على كل مجموع مضموم بعضه إلى بعض، ومنه : مكتنز اللحم ؛ لأن لحمها بعضه منضم إلى بعض. سواء كان في باطن الأرض أو على ظاهرها ٢.
قال بعض العلماء : هذه في أهل الكتاب. قاله معاوية، واختلف معه أبو ذر ( رحمه الله ). كان أبو ذر في الشام فشكاه معاوية إلى عثمان فأشخصه عثمان إلى المدينة، وكان أبو ذر ( رضي الله عنه ) عنده مذهب معروف مخالف لجميع أقوال الصحابة يضيق في اقتناء المال، وكان ( رضي الله عنه ) يقول : إن الإنسان إذا ادخر شيئا زائدا عن خلته الضرورية فهو كنز يكوى به وجهه وظهره وجنبه، وكان يذكر هذا للناس، ومن أجل هذا أمره عثمان ( رضي الله عنه ) أيام خلافته أن يخرج إلى الربذة وتوفي بها ( رضي الله عنه وأرضاه ) ٣، وأبو ذر معذور ؛ لأنه جاء النبي في أول الإسلام، وكان المسلمون في أول الإسلام فقراء ليس عندهم شيء، وكان التشديد في إمساك الذهب والفضة في ذلك الوقت عظيما، فسمع من النبي شيئا ورجع إلى أهله بالبادية، ثم أنزل الله فريضة الزكاة، وكثر المال واتسع الأمر، وزال التشديد، ولم يعلم ( رضي الله عنه ) بشيء من ذلك، فصار على التشديد الأول ؛ لأنه سمعه من رسول الله ولم يسمع ما طرأ بعد ذلك. هذا قاله بعض الصحابة وهو الظاهر أنه الحق ٤.
قوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ﴾ رد الضمير هنا على الفضة ولم يقل : " ولا ينفقونهما " وللعلماء في توجيهه في اللغة العربية أقوال، والتحقيق أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير هنا على الفضة ولم يقل : " ولا ينفقونهما " وللعلماء في توجيهه في اللغة العربية أقوال ٥، والتحقيق أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير على أحد المتعاطفين ب ( الواو ) أو ( الفاء ) أو ( أو )، وهو في ( أو ) أظهر اكتفاء ببعضهما ؛ لأن الآخر مفهوم منه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ٦، فمن أمثلته في القرآن :﴿ يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها... ﴾ ﴿ واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] ﴿ أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٠ ] ومن أمثلته ب ( أو ) :﴿ ومن يكتسب خطيئة أو إثما يرم به ﴾ [ النساء : آية ١١٢ ] ﴿ وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ [ الجمعة : آية ١١ ] ومن رجوع الضمير إلى المتعاطفين ب ( أو ) قوله :﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ [ النساء : آية ١٣٥ ] ومثال إفراده في المتعاطفين ب ( الفاء ) : قول امرئ القيس ٧ :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها.................................
فرده على أحدهما. وهو في العطف ب ( الواو ) كالآية كثير جدا في كلام العرب، منه قول نابغة ذبيان ٨ :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
ولم يقل : " ولم يهمما ". ومنه قول حسان رضي الله عنه ٩ :
إن شرخ الشباب والشعر الأ سود ما لم يعاص كان جنونا
وهو كثير في كلام العرب.
وقوله :﴿ يكنزون الذهب والفضة ﴾ التحقيق – إن شاء الله – الذي هو الصواب : أن كنز الفضة والذهب الذي يكوى به صاحبه هو ما منع فيه حق الله من الزكاة ١٠، أما ما أديت زكاته، وأخرج حق الله الواجب فيه، فالباقي بعد هذا لا يسمى كنزا، وإن كان تحت الأرض، ولا يكوى به صاحبه، هذا هو المذهب الحق – إن شاء الله – وأدلته واضحة، وبراهينه ساطعة لا شك فيها ؛ لأن الله أوجب في مال الإنسان من ذهبه أو فضته أو ماشيته أو ثماره وزروعه وكل ذلك أوجب فيه حقا معينا في أقدار معينة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أنها هي الحق في مال الإنسان، وأن أخذها يطهر الإنسان ويطهر له ماله، فإذا أدى ما أوجبه الله عليه وأمره به فقد طهر هو وطهر ماله، ولم يبق فيه شيء عليه تبعه ؛ لأن الله لو كان يكوي به جنبه ووجهه وظهره فلا فائدة في دفع الزكاة إذا كان المال يلزم أن ينفقه كله، فلا وجه لزكاة ولا محل للمواريث ؛ لأن الفرائض والمواريث التي نزل بها كتاب الله إنما هي في أموال تبقى بعد صاحبها، فالتحقيق الذي لا شك فيه – إن شاء الله – أن الكنز الذي يكوى به صاحبه هو ما منع فيه حق الله ولم يؤد زكاته أما ما أدى زكاته وأعطى حق الله فيه فليس بكنز ولا يكوى به، فإن شاء أكثر من التطوع، وإن شاء أمسك لنفسه، والقدر الواجب أوجب الله أخذه معينا بتحديد من رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يوضح هذا قوله [ لرسوله ] ١١ صلى الله عليه وسلم :﴿ خذ من أمولهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ [ التوبة : آية ١٠٣ ] وهي الزكاة، فعرفنا أن أخذها يطهرهم ويزكيهم. وفي حديث ضمام بن ثعلبة لما أمره النبي بدعائم الإسلام، وذكر له فرض الزكاة، قال : هل علي غيرها ؟ قال : " لا إلا أن تتطوع " ١٢. فهذا هو الحق – إن شاء الله – أما ما أديت زكاته فليس بكنز ولو تحت الأرض، وما لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان ظاهرا على وجه الأرض.
قال : ابن خويز منداد من المالكية : هذه من سورة براءة تضمنت زكاة العين ١٣. يعني العين : النقدين، الذهب والفضة.
ونحن عادة في هذه الدروس إذا مررنا بآية من كتاب الله هي أصل باب من أبواب الفقه نتعرض إلى مسائله الكبار، ونبين عيونها ومسائلها التي لها أهمية، وهذه الآية الكريمة على التحقيق فيها كأنها تشير إلى الزكاة، وأن من لم يؤدها أنه يكوى بذلك المال الذي لم يؤد زكاته كما سيأتي في حديث مسلم.
اعلموا أن المسلمين أجمعوا على وجوب زكاة الفضة والذهب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم – لا خلاف بين العلماء من كافة المسلمين أنه – بين قدر نصاب الفضة وقدر الواجب فيها، فبين أن نصاب الفضة مئتا درهم شرعي، وأنها خمسة أواق، والأوقية : أربعون درهما، وأن قدر الواجب منها : ربع العشر ١٤، هذا أمر لا شك فيه، أم مائتي درهم ففيها زكاة يخرج منها ربع عشرها، وليس في أقل من مائتي درهم شرعي زكاة. والدرهم الشرعي : قال علماء المالكية بالتحديد : ينبغي أن يكون بوزن أهل مكة الأول المتعارف ؛ لما ثبت عن ابن عمر عند النسائي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة " ١٥ فالخمسة الأوسق تعرف بصاع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومائتا درهم – نصاب الفضة – تعرف بالوزن الذي كان معروفا عند أهل مكة.
وقد حرر علماء المالكية الأمرين ١٦ وقالوا : إن الدرهم المكي الشرعي وزنه خمسون وخمسا حبة من مطلق الشعير. هكذا الذي يقولون، وزاد بعضهم : سبع الحبة. والتحقيق عندهم هو هذا، فإذا كان عند الإنسان مائتا درهم شرعية فإنه يجب عليه زكاتها وإخراج ربع عشرها كما هو معلوم، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء. وكل درهم ستة دوانق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وأربعون درهما هي الأوقية. وهذا معروف لا نزاع فيه.
وأكثر العلماء على أن الفضة لا وقص فيها ١٧، فإذا كانت عنده مائتا درهم أخرج ربع عشرها، وكل ما زاد فبحسابه. وقال بعض العلماء : إذا زاد عن مائتي درهم لم يكن عليه شيء حتى يبلغ الأربعين درهما.
أما الذهب فقد ذكر العلماء أنه لم يثبت فيه تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم لا في نصابه ولا في المخرج منه ١٨، وهذا مروي عن الشافعي، وقاله ابن عبد البر، وبالغ ابن حزم في نصره، أن النبي لم يثبت عنه شيء في تحديد نصاب الذهب ولا في قدر المخرج منه. والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه قدر نصاب الذهب وقدر المخرج منه، وأن نصاب الذهب عشرون دينارا ليس فيما دونها صدقة، وأن في الذهب مثل ما في الفضة ربع العشر.
اعلموا أولا أن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كل واحد منها قد دل على أن الزكاة تجب في الذهب، وقد دل عليه القرآن في قوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة... ﴾ الآية :[ التوبة : آية ٣٤ ]. ودلت عليه السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يخرج منهما حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها فيكوى بها جنبه وظهره ووجهه في يوم مقداره خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت فأحمي عليها حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " ١٩ فهذا نص صحيح ثابت في صحيح مسلم أن الذهب تجب فيه الزكاة، وأن من لم يؤد زكاته يكوى به يوم القيامة، ويصفح له صفائح من نار. إذا عرفتم أن أصل زكاة الذهب واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، فبيان تحديد النصاب وقدر المخرج منه كأنه بيان لإجمال من كتاب الله، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين هذا الإجمال ويوضحه، ويعين قدر نصاب الذهب، وقدر الواجب إخراجه فيه، وهو ما رواه أبو داود في سننه من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة السلولي والحارث الأعور الهمذاني عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه : " إن في عشرين دينارا من الذهب نصف دينار " ٢٠. وهذا بعينه تحديد النصاب بعشرين دينارا، وتحديد الواجب فيه بربع العشر، هذا الحديث رواه أبو داود وسكت عنه. ومعروف أن كثيرا من العلماء ناقشوا في هذا الحديث
١ انظر: القرطبي (٨/ ١٢٢)..
٢ انظر: القرطبي (٨/ ١٢٣)، الدر المصون (٦/ ٤٢)..
٣ أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز. حديث رقم: (١٤٠٦) (٣/ ٢٧١) وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم: (٤٦٦٠)..
٤ انظر: الأضواء (٢/ ٤٣٤)..
٥ انظر: الدر المصون (٦/ ٤٢)..
٦ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام..
٨ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة..
٩ السابق..
١٠ انظر: الأضواء (٢/ ٤٣١ - ٤٣٤)..
١١ ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق..
١٢ مضى عند تفسير الآية (١٢) من سورة الأعراف..
١٣ نقله القرطبي (٨/ ١٢٤)، والشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٤٣٤)..
١٤ انظر المدونة (١/ ٢٤٢ - ٢٤٤)، بدائع الصنائع (٢/ ١٦ - ١٨)، المغني (٤/ ٢٠٩ - ٢١٣)، الأضواء (٢/ ٤٣٤ - ٤٣٥)..
١٥ أخرج أبو داود في كتاب البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المكيال مكيال أهل المدينة" رقم (٣٣٢٤) (٩/)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب كم الصاع، رقم (٢٥٢٠) (٥/ ٥٤)، في كتاب البيوع، باب الرجحان في الوزن. رقم (٤٥٩٤) (٧/ ٢٨٤)، والطبراني في الكبير (١٣٤٤٩)، والبيهقي (٦/ ٣١)، كلهم من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان عن حنظلة عن طاووس عن ابن عمر.
وأخرجه أبو عبيد في الأموال (١٦٠٧)، ومن طريقه البغوي (٢٠٦٣) عن أبي المنذر إسماعيل بن عمر عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (٢/ ٩٩) من طريق الفريابي عن سفيان به.
وأخرجه ابن حبان (٣٢٨٣) من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان فخالف من تقدم في متن الحديث وإسناده. انظر الإرواء (١٣٤٢) (٥/ ١٩١)..

١٦ مضى عند تفسير الآية (١٤١) من سورة الأنعام..
١٧ انظر: الأضواء (٢/ ٤٣٦)..
١٨ انظر: الأم للشافعي (٤/ ٤٠)، الاستذكار لابن عبد البر (٩/ ٣٤)، المحلى (٦/ ٦٦)، الأضواء (٢/ ٤٣٨)..
١٩ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنفال..
٢٠ أخرجه عبد الرزاق (٤/ ٨٩)، وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم: (١٥٥٧، ١٥٥٨) (٤/ ٤٤٤، ٤٤٧) مع تردد بعض رواته – عند أبي داود – في رفعه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (٣/ ١١٩)، وأبو عبيد في الأموال ص ٣٦٩ موقوفا على علي (رضي الله عنه).
وانظر: الاستذكار (٩/ ٢١، ٣٤)، التلخيص (٢/ ١٧٣)، الإرواء (٣/ ٢٩١)..

(.... ) ١ بهمزة محققة، وقرأه ورش وحده عن نافع :﴿ إنما النسي زيادة في الكفر ﴾ [ التوبة : آية ٣٧ ] بياء مشددة، وما زعمه بعضهم – وقال به ابن جرير – من أن قراءة ورش هذه عن نافع غلط ٢. خلاف التحقيق، بل هي قراءة سبعية صحيحة لا كلام فيها قرأ بها ورش عن نافع ﴿ إنما النسيي زيادة في الكفر ﴾ أبدلت الهمزة ياء، ثم أدغمت الياء في الياء كما يقرأ بعض القراء :﴿ النبيء ﴾ بالهمزة وبعضهم يقرأ ﴿ النبي ﴾ ٣ بتشديد الياء ٤.
وقرأ قوله :﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم :﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ بفتح الياء وكسر الضاد، مضارع ( ضل يضل ) مجردا لازما، وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم :﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ بضم الياء وفتح الضاد مبنيا للمفعول ٥.
أما قراءة ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ و ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ فليستا سبعيتين ٦.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :﴿ زين لهم سوء وعمالهم ﴾ بإبدال الهمزة الثانية واوا. وقرأه غيرهم من السبعة :﴿ سوء أعملهم ﴾ بتحقيق الهمزة الثانية ٧. هذه هي القراءات السبعية في الآية.
وسبب نزول هذه الآية الكريمة هو ما أشرنا إليه بالأمس أن الكفار كانوا يتلاعبون في الأشهر الحرم ٨، وبعضهم يقول : في أشهر الحج، فيحرمون منها ما لم يحرمه الله، ويحلون ما لم يحلله الله ٩. فبين ( جل وعلا ) في هذه الآية أن ذلك كفر على كفر، أنه كفر ازدادوا به كفرا على كفرهم الأول.
والعلماء مختلفون في أول من سن هذه السنة السيئة الخبيثة، وهي سنة النسيء. فكان بعض العلماء يقول : أول من أحدثه الملعون عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، وهو الخبيث الذي هو أول من جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب، وهو أول من بحر البحائر فيها، وسيب السوائب، وغير معالم دين إبراهيم التي كانت في جزيرة العرب عليه لعائن الله ١٠.
وأكثر المؤرخون يقولون : إن أول من سن هذه السنة القبيحة قوم من بطن من بني كنانة يسمى بني فقيم، وهم من أولاد مالك بن كنانة، يزعم العرب أنهم كانوا متمسكين بدين إبراهيم، وكانوا يشرعون لهم ما شاؤوا، ويتبعونهم فيما شاؤوا، يقال : إن أول من فعل ذلك منهم رجل يسمى نعيم بن ثعلبة ١١.
والذي قاله غير واحد من المؤرخين وأوضحه ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل هذا منهم رجل يسمى القلمس. والدليل على ذلك موجود في أشعارهم. واسم القلمس هذا حذيفة بن عبيد بن فقيم، وبنو فقيم بطن من بني مالك بن كنانة. كان هذا الرجل الذي هو حذيفة المعروف بالقلمس يقول لهم : سأؤخر عنكم تحريم المحرم وأنسؤه إلى صفر، فاذهبوا فقاتلوا في المحرم فإني حولت حرمته إلى صفر. فهم يتبعونه، ثم لما مات القلمس قام بهذا الأمر بعده ابنه العباد بن القملس، فكان يحل لهم هذا التحليل وهذا التحريم، ثم لما مات العباد قام به بعده ابنه قلع بن عباد، ثم لما مات قام به بعده ابنه أمية بن قلع بن عباد، ثم لما مات قام به بعده ابنه عوف بن أمية، ثم لما مات قام به بعده ابنه جنادة بن عوف المعروف بأبي ثمامة، كنيته ككنية مسيلمة الكذاب، وهو الذي قام عليه الإسلام وهو بهذه السنة السيئة الخبيثة. كانوا إذا انتهت أيام حجهم وانقضت أيام منى وذهبوا إلى هذا الرجل الذي هو أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية الكناني فيقول : أنا الذي لا يعاب ولا يجاب، ولا مرد لما أقول، أخرت عنكم تحريم المحرم إلى صفر ١٢. فيتبعونه، فجاء الإسلام بتغيير هذا ورد كل شيء إلى محله.
وقد ذكرنا بالأمس أن العلماء اختلفوا في الأشهر الحرم هل حرمتها باقية إلى الآن ؟ ويكون من نسأ النسيء الآن ازداد كفرا وفعل كفرا. أو هي منسوخة ولا تحريم في الأشهر الحرم، وأن قتال العدو يجوز في جميع الأشهر ١٣ ؟ وذكرنا بالأمس أن المشهور عند العلماء الذي عليه الأكثر أنه قد نسخ تحريم الأشهر الحرم، واستدلوا على ذلك بظواهر آيات ليست صريحة في ذلك، ومن أصرح ما استدلوا به هو ما ذكرنا من أنه ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر ثقيفا في غزوة الطائف بعضا من ذي القعدة ١٤. وهذا ثابت في الصحيحين ثبوتا لا مطعن فيه. قالوا : لم تنسخ لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في ذي القعدة وهو شهر حرام. وقد ذكرنا بالأمس أن الذي كان يظهر لنا وننصره أن تحريم الأشهر الحرم قد نسخ، وأن الذي تحققناه بعد ذلك وصرنا نجزم به أنها باقية التحريم إلى الآن، ولم ينسخ تحريمها، كما كان يقسم عليه عطاء بن أبي رباح ( رحمه الله )، كان يحلف أن حرمتها باقية ١٥. ومن أصرح الأدلة في ذلك هو الحديث الذي أشرنا إليه أمس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به يوم النحر في حجة الوداع عام عشر، ولم يعش بعد ذلك إلا نحو ثمانين يوما، وقد صرح فيه بأن ذلك الشهر حرام، وذلك اليوم حرام، وذلك البلد حرام ١٦، ولم يأت بعد ذلك شيء ينسخ هذا التحريم الثابت عنه ( صلوات الله سلامه عليه ).
وهذه الآية الكريمة قبل أن نشرع في تفسيرها نشير إلى أن فيها حكما يجب على كل مسلم أن يعتبر به وينظره ؛ لأن هؤلاء القوم كفار، كانوا يسجدون للأصنام، فلما أحل لهم رجل شيئا حرمه الله، وحرم عليهم شيئا أحله الله، وهم يعلمون أن الله حرم تلك الأشهر الحرم، ولا يشكون في ذلك، وأن هذا الرجل الكناني أحل لهم ما حرمه الله، وحرم عليهم ما أحله الله، فاتبعوا تحريم هذا الإنسان، فصرح الله بأن هذا كفر جديد ازدادوه إلى كفرهم الأول. فهذه الآية الكريمة من سورة براءة من أصرح النصوص القرآنية في أن كل من اتبع نظاما غير نظام الله، وتشريعا غير تشريع الله، وقانونا غير قانون الله، أنه كافر بالله، إن كان يزعم الإيمان فقد كفر، وإن كان كافرا فقد ازداد كفرا جديدا إلى كفره الأول. والآيات الدالة على هذا المعنى لا تكاد تحصيها في هذا المصحف الكريم، الذي هو أعظم كتاب أنزله الله من السماء إلى الأرض، وهو آخر كتاب أنزله الله على أكرم نبي، وآخر نبي جمع فيه له علوم الأولين والآخرين. وسنذكر لكم طرفا من ذلك كما ذكرناه قبل هذا مرارا ١٧نبين به أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، وأن كل من اتبع نظاما وتشريعا وقانونا – ولو سماه ما سماه – غير ما أنزله الله في وحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه كافر بذلك، فإن كان كافرا قبله ازداد كفرا جديدا إلى كفره الأول، وإن كان يزعم الإيمان فقد جاء بما يكفر به. ومن أصرح الأدلة في هذا : المناظرة العظيمة المشهورة التي وقعت بين الكفار والمسلمين في حكم من أحكام الحلال والحرام، فالمسلمون يقولون : إن هذا الأمر حرام. ويستدلون بنص من نصوص الوحي. وحزب الشيطان وتلامذته وأتباعه يقولون : إن هذا الحكم حلال. ويستدلون على ذلك بفلسفة من وحي الشيطان. ويأتي كل منهم بدليله، فلما تحاجوا وتخاصموا وحصل الجدال بينهم في ذلك أفتى الله تعالى بنفسه فتوى سماوية تتلى علينا قرآنا في سورة الأنعام، وإيضاح هذا : أن الشيطان – لعنه الله – جاء كفار قريش وقال لهم : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة، من هو الذي قتلها ؟ فأجابهم : الله قتلها. فقالوا : إذن ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون : هو حرام، فأنتم إذن أحسن من الله ! ! فأنزل الله في ذلك بإجماع العلماء في سورة الأنعام هذه الفتوى السماوية بعد أن بين الله خصام المتخاصمين فيها فقال :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ الميتة. وإن زعم حزب الشيطان أنها ذبيحة الله، وأن ما قتله الله أحل مما قتله الناس. ثم قال :﴿ وإنه لفسق ﴾ الضمير في قوله :﴿ إنه ﴾ راجع إلى المصدر الكامن في جوف الفعل الصناعي في قوله :﴿ تأكلوا ﴾ أي : وإنه أي : الأكل من الميتة ﴿ لفسق ﴾ أي : خروج عن طاعة الله، وأطهر مما قتله الناس. ثم قال :﴿ وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم ﴾ ﴿ ليوحون إلى أوليائهم ﴾ وحي الشيطان ﴿ ليجدلوكم ﴾ بالوحي الشيطاني، وهو قولهم : ما ذبحتموه حلال، وما قتله الله حرام، فأنتم إذا أحسن من الله ! ! ثم أفتى الله الفتوى السماوية التي تتردد في آذان الخلق مساء وصباحا يقوله :﴿ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ﴾ [ الأنعام : آية ١٢١ ] وإن أطعتم أتباع الشيطان في تحليل ما حرمه الله ﴿ إنكم لمشركون ﴾ بالله شركا أكبر، كما قال في هؤلاء ﴿ إنما النسئ زيادة في الكفر ﴾ [ التوبة : آية ٣٧ ] وهذا الشرك شرك أكبر مخرج عن الملة ؛ لأنه شرك طاعة، وشرك الطاعة شرك في الحكم، والشرك في الحكم كالشرك في العبادة لا فرق بينهما البتة ؛ لأن الله هو الملك الجبار العظيم الأعظم لا يرضى أن يكون معه شريك في عبادته ولا أن يكون معه شريك في حكمه سبحانه ( جل وعلا ) أن يكون له شريك في عبادته أو شريك في حكمه، وقد بين هذين الأمرين في سورة واحدة من كتابه وهي سورة الكهف، فقال في الإشراك به في عبادته :﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ١١٠ ] وقال في الإشراك به في حكمه :﴿ له غيب السموت والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ [ الكهف : آية ٢٦ ] فمن اتخذ تشريعا غير تشريع الله، واتبع نظاما غير نظام الله، وقانونا غير ما شرعه الله – سواء سماه نظاما أو دستورا، أو سماه ما سماه – هو كافر بالله ؛ لأنه يقدم على نور السماء الذي أنزله الله ( جل وعلا ) على رسله ليستضاء به في أرضه، وتنشر به عدالته وطمأنينته ورخاؤه في الأرض.
وهذا مما لا نزاع فيه، وهذا الشرك الذي هو شرك اتباع، اتباع قانون ونظام وتشريع هو الذي يوبخ الله مرتكبه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد في سورة يس في قوله تعالى :﴿ ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطين.... ﴾ [ يس : آية ٦٠ ] ما عبدوا الشيطان بأن سجدوا للشيطان، ولا ركعوا للشيطان، ولا صاموا له، ولا صلوا، وإنما عبادتهم للشيطان هي اتباع ما سن لهم من النظم والقوانين من الكفر بالله ومعاصي الله. ثم قال :﴿ وإن اعبدوني هذا صرك مستقيم ( ٦١ ) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ﴾ [ يس : الآيتان ٦١، ٦٢ ] أي : خلائق كثيرة لا تحصى.
ثم وبخ عقولهم فقال :﴿ أفلم تكونوا تعقلون ﴾ [ يس : آية ٦٢ ] ثم ذكر المصير النهائي في قوله :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون ( ٦٣ ) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ( ٦٤ ) ﴾ الآيات [ يس : الآيتان ٦٣، ٦٤ ]. وهذا هو معنى قول إبراهيم :﴿ يأبت لا تعبد الشيطن ﴾ [ مريم : آية ٤٤ ] أي : لا تتبع ما شرع لك الشيطان وسنه من الكفر بالله، ومعاصي الله، وهو معنى قوله :﴿ إن يدعون من دونه إلا إنثا وإن يدعون إلا شيطنا ﴾ [ النساء : آية ١١٧ ] أي : ما يدعون إلا الشيطان، وهو دعاء عبادة باتباع نظامه وتشريعه. وهو أصح الوجهين في قوله ( جل وعلا ) في الملائكة :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ [ سبأ : آية ٤١ ] أي : يتبعون الشياطين ويعبدونهم باقتفاء ما يسنون لهم من القوانين والنظم، وهذا أمر لا نزاع فيه، فكل من يتبع نظام أحد وتشريع أحد وقانونه فهو متخذه ربا ؛ ولذا جاء في الحديث المشهور عن عدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) أنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وكان في عنق عدي صليب فقال له النبي : " يا عدي ألق هذا الوثن م
١ ذهب جزء من التسجيل في هذا الموضع، ويمكن أن نستدرك بعض النقص فننقل القراءات الواردة في ﴿النسيء﴾ عن كتاب "السبعة" لابن مجاهد ص ٣١٤، حيث يقول: "اتفقوا على همز ﴿النيء﴾ ومده وكسر سينه، إلا ما حدثني به محمد بن أحمد بن واصل، عن محمد بن سعدان، عن عبيد بن عقيل، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: "إنما النسء زيادة" في وزن (النسع). وحدثني ابن خيثمة، وإدريس، عن خلف، عن عبيد، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ: ﴿إنما النسي﴾ مشددة الياء غير مهموزة. وقد روي عن ابن كثير: ﴿النسي﴾ بفتح النون وسكون السين وضم الياء مخففة. والذي قرأت به على قنبل: ﴿النسيء﴾ بالمد والهمز مثل أبي عمرو. والذي عليه الناس بمكة: ﴿النسي﴾ ممدودة" ا. هـ..
٢ تفسير ابن جرير (١٤/ ٢٤٤)..
٣ تقدمت عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
٤ انظر: البحر المحيط (٥/ ٣٩)، الدر المصون (٦/ ٤٦)..
٥ انظر: السبعة ص ٣١٤..
٦ انظر: المحتسب (١/ ٢٨٨ - ٢٨٩)..
٧ انظر: الإتحاف (٢/ ٩١)..
٨ كما أخرج ذلك ابن جرير (١٤/ ٢٤٥) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما..
٩ أخرج ذلك ابن جرير (١٤/ ٢٤٨) عن مجاهد..
١٠ انظر: القرطبي (٨/ ١٣٨)..
١١ السابق..
١٢ أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (١٤/ ٢٤٥). وكره ابن هشام في السيرة ص ٥٦..
١٣ مضى عند تفسير الآية (٥) من سورة التوبة..
١٤ السابق..
١٥ أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص (٢٠٧)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (١/ ٥٣٥)، وابن جرير (٤/ ٣١٤)..
١٦ مضى عند تفسير الآية (٥) من هذه السورة..
١٧ مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام..
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾ [ التوبة : آية ٣٨ ].
أجمع كافة العلماء، أن هذه الآية الكريمة من سورة براءة نزلت لما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم ١، وفي غزوة تبوك، كان ذلك في ساعة العسرة، كما يأتي منصوصا في هذه السورة الكريمة، وكان وقت شدة الحر، والأرض في غاية الجدب، وكان في المدينة النخيل حين أزهت ثمرته، وطابت الظلال والمياه الباردة، فركنوا إلى الدعة، وإلى نعيم الدنيا في الظل والثمار والمياه والظلال الباردة، فركنوا إلى هذا ؛ لأن العدو قوي وكثير العدد جدا، والشقة بعيدة، والزمان حار ؛ ولذا من تكاسلوا منهم وبخهم الله هذا التوبيخ العظيم في هذه الآية الكريمة :﴿ يأيها الذين ءامنوا ما لكم ﴾ أي شيء ثبت لكم يقتضي نكولكم عن الغزو واختياركم للدعة والراحة على مرضاة الله وإعلاء كلمة الله ؟ ﴿ ما لكم ﴾ أي شيء ثبت لكم. ﴿ إذا قيل لكم انفروا ﴾ أي : قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه :﴿ انفروا في سبيل الله ﴾ انفروا معناه : تهيؤوا خارجين متحركين لحرب الروم. ﴿ في سبيل الله ﴾ لأن القتال والجهاد في سبيل الله هو أعظم أنواع سبيل الله ( جل وعلا ).
﴿ اثاقلتم إلى الأرض ﴾ أصله :( تثاقلتم ) والمقرر في علم العربية : أن كل ماض على وزن ( تفاعل ) أو على وزن ( تفعل ) إذا تقاربت حروفه الأولى، يكثر في اللغة العربية إدغام بعضها في بعض واجتلاب همزة الوصل لإمكان النطق بالساكن ٢، وهذا يكثر في القرآن في ( تفاعل ) و ( وتفعل )، كقوله هنا في ( تفاعل ) :﴿ اثاقلتم إلى الأرض ﴾ أصله :( تثاقلتم )، ﴿ فادرءتم فيها ﴾ [ البقرة : آية ٧٢ ] أصله :( تدارأتم )، ﴿ حتى إذا اداركوا ﴾ [ الأعراف : آية ٣٨ ] أصله :( تداركوا )، ﴿ بل ادرك علمهم ﴾ [ النمل : آية ٦٦ ] أصله :( تدارك علمهم ). وكذلك هو في ( فعل ) كقوله ( جل وعلا ) :﴿ وازينت ﴾ [ يونس : آية ٢٤ ] أصله :( تزنيت ) من ( تفعل )، ﴿ قالوا اطيرنا ﴾ [ النمل : آية ٤٧ ] أصله :( تطيرنا ). وهذا أسلوب عربي معروف، ومن شواهده العربية المشهورة ما أنشده الفراء من قول الشاعر ٣ :
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل
يعني بقوله " ما اتابع " : تتابع.
ومعنى ﴿ اثاقلتم ﴾ تثاقلتم، أي : تكاسلتم وتباطأتم وتقاعستم عن الخروج في سبيل الله لغزو الكفار.
ثم إن الله أنكر عليهم إنكارا قويا بأداة الإنكار التي هي الهمزة في قوله :﴿ أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾ قد تقرر في علم العربية أن لفظة ( من ) تأتي بمعنى البدل ٤، كقوله :﴿ ولو نشاء لجعلنا منكم ملئكة في الأرض ﴾ [ الزخرف : آية ٦٠ ] أي : لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض ﴿ أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾ أي : بدل الآخرة، وإتيان ( من ) بمعنى البدل، أسلوب عربي معروف، ومنه قول الشاعر ٥ :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
يعني ليس لنا شربة باردة مكان زمزم ؛ لأنه يؤخذ حار، ويروى :
فليت لنا من ماء حمنان شربة مبردة باتت على كهيان
والطهيان : عود كانوا يجعلونه مرتفعا في جانب البيت متلقيا للهواء يعلقون عليه الماء ليبرد ٦.
وقوله :﴿ أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾ الهمزة همزة إنكار ؛ لأن أسفه الناس وأقلهم عقلا هو من يرضى بالدنيا بدلا من الآخرة ؛ لأنه يعتاض القليل التافه من الكثير الذي لا يقدر قدره إلا الله، وفي هذا وبخهم ؛ لأنه نقض ضمني للعقد الذي عقده معهم ؛ لأن الله ( جل وعلا ) عقد عقدة بينه وبين عباده المؤمنين وأبرمها، وهو أنه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجهاد، يشتري من المؤمن حياته الدنيوية وهي حياة قصيرة منغصة مشوشة بالأمراض والمصائب والبلايا والمشاق، يشتريها منه بحياة أبدية سرمدية، لا شيب فيها ولا هرم ولا مرض ولا غضب ولا ألم ولا تشويش، ويشتري منه مالا وعرضا زائلا من الدنيا بالحور العين والولدان وغرف الجنة وأنهارها وثمارها، والنظر إلى وجهه الكريم. فهذا هو البيع الرابح، والله يقول في هذه السورة الكريمة :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأمولهم بأن لهم الجنة يقتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التورة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ( ١١١ ) ﴾ [ التوبة : آية ١١١ ]. هذا هو البيع الرابح والمعاملة الراجحة، أما الذي ينقصها وينكثها ويقدم للدنيا على الآخرة فهذا سفيه يستحق أشد الإنكار ؛ ولذا أنكر الله عليه بقوله :﴿ أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾ فإنه لا يقنع بالدون إلا من هو في غاية الدون، وقد صدق من قال ٧ :
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
فلا يقنع بالدون إلا من هو دون كما لا يخفى، وهذا معنى قوله :﴿ أرضيتم بالحيوة الدنيا من الأخرة ﴾. قد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن تسمية الله ( جل وعلا ) في كتابه للدار الذي نؤول إليها تسميته إياها ( الآخرة ) ينبغي للمسلم أن ينظر فيه ويعتبر فيه، وقد أوجب الله على كل إنسان أن ينظر في مبدئه، وإذا نظر في مبدئه دعاه ذلك إلى النظر في انتهاء أمره الذي يؤول به إلى مسمى الآخرة، وإيضاح ذلك أن الله قال بصيغة أمر سماوي من الله :﴿ فلينظر الإنسن مم خلق ( ٥ ) ﴾ [ الطارق : آية ٥ ] لام الأمر في قوله :﴿ فلينظر ﴾ لام أمر صادرة من خالق السماوات والأرض، متوجهة إلى مسمى الإنسان، يأمره الله أن ينظر الشيء الذي خلق منه ليعلم مبدأ أمره ومن أين جاء ؟ وما سبب وجوده ؟ وعلى أي طريق جاء ؟ ثم لينظر بعد ذلك في مصيره، وإلى أين يذهب به، وإلى أين يصير، وإلى أين يكون آخر أمره ؟ وقد بين لنا هذا المحكم المنزل الذي جمع الله به علوم الأولين والآخرين، مبدأ هذا الإنسان الضعيف ومنتهاه، ومصيره النهائي الذي لا يحيد عنه إلى شيء آخر، فبين أن أول الإنسان تراب بله الله بماء، وهو قوله :﴿ يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقنكم من تراب ﴾ [ الحج : آية ٥ ] فمبدأ رحلة الإنسان ومنشؤه من التراب، بله الله بالماء، فصار طينا، وهو قوله تعالى :﴿ ءأسجد لمن خلقت طينا ﴾ [ الإسراء : آية ٦١ ] ﴿ إنا خلقنهم من طين لازب ﴾ [ الصافات : آية ١١ ] ثم جعل نسله من سلالة من طين ثم إن الله خمر ذلك الطين حتى صار حمأ مسنونا، ثم أيبسه حتى صار صلصالا كالفخار، ثم خلق منه آدم وجعله لحما ودما، ثم خلق منه زوجه، كما قال :﴿ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ [ النساء : آية ١ ] هي آدم ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ يعني حواء. وذكر ذلك في الأعراف وفي الزمر كما هو معروف، ثم بعد أن حصل رجل وامرأة صار طريقة وجود الإنسان على طريق التناسل المعروفة، يكون أولا من نطفة أمشاج من ماء الرجل وما المرأة، ثم يخلق الله تلك النطقة علقة وهي الدم الجامد الذي إذا صب عليه الماء الحار لم يذب، ثم يجعل الله تلك العلقة مضغة، ثم المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ويخلق هذا البشر السوي الذي تنظرون إليه، الذي كل موضع إبرة منه فيها من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول، وقد ذكرنا مرارا أن أعظم ما فتن به ضعاف العقول من المسلمين حذق الإفرنج، في حالة الدنيا، ومن أبرع ما برعوا فيه الطب، وأنا أقول لكم : إنه لو اجتمع اليوم جميع من في المعمورة من مهرة الأطباء يريدون أن يعملوا عملية في جنين في رحم أمه فإنهم لا يقدرون أن يعملوا العملية حتى يشقوا بطنها ورحمها والمشيمة التي على الولد، ثم يأتوا بالأشعة الكهربائية ليمكنهم أن يروا، ثم يعلموا، فقد تموت وهو الأغلب ! ! وهذا خالق السماوات والأرض ( جل وعلا )، ليس فينا ولا فيهم ولا في غيرنا أحد إلا وهو يعمل فيه آلاف العمليات الهائلة وهو في بطن أمه، من غير أن يحتاح إلى شق بطنها، ولا إلى شق رحمها، ولا إلى شق المشيمة التي على الولد ﴿ يخلقكم في بطون أمهتكم خلقا من بعد خلق في ظلمت ثلث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ﴾ [ الزمر : الآية ٦ ].
هذه الأعين قد فتحها الله ( جل وعلا ) وأنتم في بطون أمهاتكم، وصبغ بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وأنبت عليها هذا الشعر، وجعل لها هذا الوعاء من الجفون، وهذا الدماغ خلقه وجعله في هذا الوعاء، وخاط عليه هذه العظام هذه الخياطة الهائلة، وهذا الأنف خلقه وثقبه، وهذا الفم خلقه وثقبه، وجعل اللسان، وأجرى في الفم عينا باردة هي الريق، يبتلع بها الطعام، لو أمسك عنه الريق لما ابتلع الزبد الذائب، وشق له مجاري البول، ومجاري الغائط، ومجاري العروق والشرايين للدورة الدموية، ولو نظر إلى موضع عضو واحد من الإنسان لوجد فيه من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول، ومع هذا كله فخالق السماوات والأرض يجعل هذه العمليات الهائلة فيكم وأنتم في بطون أمهاتكن، من غير أن يحتاج إلى بنج، بل بنج القدرة وعظمة الخالق، يفعل للمرأة جميع هذا وهي تضحك وتفرح وتمرح وتعصي خالق السماوات والأرض، لا تشعر بشيء، لعظمة وقدرة هذا الإله الخالق العظيم ( جل وعلا )، ثم إن الله ( جل وعلا ) يخلق هذا الإنسان بما فيه من الغرائب والعجائب الذي كل موضع إبرة منه يبهر العقول بما أودع فيه الله من بارع صنعه وغرائب عجائبه، ثم يخرجه من بطن أمه ويسهل له طريق الخروج من ذلك المكان الضيق كما يأتي في قوله :﴿ ثم السبيل يسره ( ٢٠ ) ﴾ [ عبس : آية ٢٠ ] ثم يلهمه أخذ الثدي وهو في ذلك الصغر، ويلطف به حتى يكبر ويعظم ويكون قويا يجادل ربه، وتلك المحطة هي التي نحن فيها الآن، فقد جاوزنا ما قبلها من المحطات، وهي التي يؤخذ منها الزاد، والسفر أمامها طويل، والشقة هائلة، فكأن الإنسان يقال له : يا مسكين انت في رحلة عظيمة، وآخرها أعظم من أولها أشد مسافة وأكبر خطرا وأعظم غررا، فخذ أهبتك في وقت الإمكان، وليس موضع يمكنك فيه ويخترمك، فعلى الإنسان أن يبادر بأعظم ما يكون من السرعة ليأخذ زاده ويستعد عدته لبقية هذا السفر العظيم الهائل الشاق، ثم بعد هذه المرحلة ننتقل جميعا إلى مرحلة تسمى مرحلة القبور، نصير جميعا إلى القبور كما صار إليها من قبلنا. وذكروا أن أعرابيا بدويا سمع قارئا يقرأ ﴿ ألهكم التكاثر ( ١ ) حتى زرتم المقابر ( ٢ ) ﴾ [ التكاثر : الآيتان ١، ٢ ]. قال : انصرفوا والله من المقابر إلى دار أخرى ٨. لأن الزائر منصرف لا محالة، ثم إنهم يوم القيامة يخرجون من القبور إلى محطة أخرى وهي محطة عرصات الحشر، يجتمعون فيها جميعا في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، ثم يقضي الله بين خلقه بالشفاعة الكبرى، شفاعة سيد الأنبياء محمد ( صلوات الله وسلامه عليه )، فإذا انقضى حسابهم وتمت مجازاتهم، عند ذلك صدروا أشتاتا ﴿ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ﴾ [ الزلزلة : آية ٦ ] فمذهوب به ذات اليمين إلى الجنة، ومذهوب به ذات الشمال إلى النار، ولا يجتمعون بعد ذلك، وهذا قوله تعالى :﴿ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ﴾، وهذه الأشتات قد أوضح الله معناها في سورة الروم، في قوله تعالى :{ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ( ١٤ ) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فهم في روضة يحبرون ( ١٥ ) وأما الذين كفروا وكذب
١ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٥١)، القرطبي (٨/ ١٤٠)، ابن كثير (٢/ ٣٥٧)..
٢ مضى عند تفسير البقرة، انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٥٢)، الدر المصون (٦/ ٤٩)..
٣ تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة..
٤ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٥٢)، القرطبي (٨/ ١٤١)، الدر المصون (٦/ ٥٠)..
٥ البيت ليعلى بن مسلم اليشكري، أو الأحول الكندي. وهو في القرطبي (٨/ ١٤١)، الدر المصون (٦/ ٥٠)..
٦ انظر: القرطبي (٨/ ١٤١)..
٧ مضى عند تفسير الآية (١٦٨) من سورة الأعراف..
٨ ذكره ابن كثير في التفسير (٤/ ٥٤٥)..
قوله :﴿ إلا تنفروا ﴾ هي ( إن ) الشرطية أدغمت في ( لا ) يعني : إلا تنفروا، إن لم تمتثلوا أمر الله وتنفروا لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمته فإن ذلك ضرره عليكم لا على الله ولا على رسوله.
وهذه الآية فيها سر عظيم يعلم به الإنسان أن كل ما يفعله إنما أثره راجع إلى نفسه، فإن كان شرا فهو يجني شرا على نفسه، وإن كان خيرا فهو يجلب الخير لنفسه ﴿ إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ [ الإسراء : آية ٧ ]. فعلى كل عاقل في دار الدنيا أن يعتبر بمعنى هذه الآية وما في معناها من الآيات، وهو أن ما يفعله الإنسان لا يجنيه إلا هو، وأن حركات الإنسان في دار الدنيا يبني بها مسكنه الذي يصل إليه ويخلد فيه خلودا أبديا يوم القيامة، فهذه الحركات والسكنات في دار الدنيا يظن الجاهل أنها أمور لا طائل تحتها، ولا يلزم الاحتياط والنظر الدقيق فيها، وهذا من أشنع الغلط ؛ لأن حركات الإنسان في دار الدنيا مقبلا ومدبرا، ذاهبا وجائيا، متصرفا هنا وهنا، كله يبني منزله ومقره النهائي، إما أن يبني بذلك غرفة من غرف الجنة يخلد فيها، أو يبني به سجنا من سجون جهنم، هذا هو الواقع، فعلى كل مسلم أن ينظر في أقواله وأفعاله، فيعلم أنه ينفع بالطيب منها نفسه، ويضر بالخبيث منها نفسه، ليحاسب فيجتنب الخبيث ويجتلب الطيب، وهذا معنى قوله :﴿ إلا تنفروا ﴾ إلا تمتثلوا أمر الله ورسوله بالنفر إلى الأعداء لجهاد أعداء الله، وإعلاء كلمة الله، ونصر دين الله ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾ أنتم الذين تنالون الضر من ذلك ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾ الظاهر أن هذا العذاب شامل لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لأن التكاسل عن مقاومة الأعداء في دار الدنيا من أسباب عذاب الدنيا ؛ لأنه يضعف المسلمين ويقوي أعدائهم في قعر بيوتهم كما هو واقع الآن، لأن المسلمين، أو من يتسمون باسم المسلمين معذبون في أقطار الدنيا من جهة الكفرة، يضطهدونهم، ويظلمونهم، ويقتلونهم، ويتحكمون في خيرات بلادهم، وهذا كله من أنواع عذاب الدنيا لتركهم الجهاد وإعلاء كلمة الله ( جل وعلا )، وما ذكره غير واحد عن ابن عباس من أنه قال : إن هذه الآية نزلت في بعض قبائل العرب، استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو فامتنعوا، فمنع الله عنهم المطر، وأضرهم بالقحط ١. هذا قد يدخل في الآية في الجملة، ولا يمكن أن يكون معناها ؛ لأن الله يقول :﴿ يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ﴾. فهذا يدل على أن المراد به ليس حبس المطر، وإن كان حبس المطر من أنواع العذاب التي تسببها مخالفة الله ( جل وعلا ) ؛ لأن مخالفة الله وعدم القيام بأمره ونهيه هي سبب كل البلايا كما قال تعالى :﴿ وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( ٣٠ ) ﴾ [ الشورى : آية ٣٠ ].
﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾ الأليم : معناه الموجع الذي يجد صاحبه شدة ألمه ووجعه، والتحقيق هو ما قدمناه مرارا ٢ : أن الأليم بمعنى المؤلم، وأن ( الفعيل ) يأتي في لغة العرب بمعنى ( المفعل ). فما ذكره بعضهم عن الأصمعي من أن ( الفعيل ) لا يكون بمعنى ( المفعل ) وعليه أراد بعضهم أن يفسر الأليم بأنه يؤلم به أو يحصل بسببه ألم، فكله خلاف التحقيق، والتحقيق أن من أساليب اللغة العربية إطلاقهم ( الفعيل ) وإرادة ( المفعل ) وهذا معروف في كلامهم، ومنه ﴿ بديع السموت ﴾ [ الأنعام : آية ١٠١ ] أي : مبدعها، ﴿ إني لكم نذير ﴾ [ هود : آية ٢٥ ] أي : منذر لكم، ونظيره من كلام العرب قول غيلان بن عقبة المعروف بذي الرمة ٣ :
ويرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم
أي : مؤلم، وقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي ٤ :
أمن ريحانه الداعي السميع يؤرقني وأصحابه هجوع
فقوله : " الداعي السميع " يعني : الداعي المسمع، وقول عمرو بن معد يكرب أيضا ٥ :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أي : موجع. وهذا هو الصحيح.
﴿ ويستبدل قوما غيركم ﴾ أكثر الله ( جل وعلا ) في القرآن من ذكره الموجودين إذا لم يطيعوه ويمتثلوا أمره فهو غني عنهم قادر على إذهابهم وإزالتهم بالكلية والإتيان بمن يخلفهم، بل من يكون خيرا منهم، وقد قدمنا هذا مرارا وسيأتي أيضا، فمن الآيات التي بين بها هذا قوله تعالى من سورة النساء :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بئاخرين وكان الله على ذلك قديرا ( ١٣٣ ) ﴾ [ النساء : آية ١٣٣ ] وقوله في الأنعام :﴿ وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين ( ١٣٣ ) ﴾ [ الأنعام : آية ١٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ﴾ ( ١٩ ) وما ذلك على الله بعزيز ( ٢٠ ) } [ إبراهيم : الآيتان ١٩، ٢٠ ]. وقوله في سورة القتال :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثلكم ﴾ [ محمد : آية ٣٨ ] ﴿ من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ﴾ [ المائدة : آية ٥٤ ] أي : بدلا من هؤلاء المرتدين، وهذا معنى قوله :﴿ ويستبدل قوما غيركم ﴾ [ التوبة : آية ٣٩ ] أي : يأتي بقوم يجعلهم بدلكم خيرا منكم، إذا استنفروا نفروا، ولا يؤثرون الحياة الدنيا على الأخرة، كما دلت عليه هذه الآيات المذكورة، وهذا معنى قوله :﴿ يستبدل قوما غيركم ﴾.
وقد ذكرنا مرارا ٦، أن لفظة ( القوم ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، يطلق في اللغة العربية الإطلاق الأول على الذكور خاصة دون النساء ؛ لأنه وضع للذكور خاصة، وربما دخلت فيه النساء بحكم التبع إذا دل على ذلك قرينة، أما الدليل على أن القوم اسم جمع خاص بالرجال، في أصل وضعه : قوله تعالى :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ [ الحجرات : آية ١١ ] ثم قال :﴿ ولا نساء من نساء ﴾ فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في اسم القوم، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى ٧ :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
فعطف النساء على القوم، وربما دخلت النساء في اسم القوم بحكم التبع إذا دلت على ذلك قرينة خارجية، ومنه قوله تعالى في سورة النمل :﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين ( ٤٣ ) ﴾ [ النمل : آية ٤٣ ].
وقوله :﴿ ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ﴾ قال بعض العلماء : الضمير المنصوب في " تضروه " عائد إلى الله، أي : لا تضروا الله شيئا بعدم امتثالكم أمره ولا سعيكم في إعلاء كلمته ٨. وهذا الوجه هو الذي يشهد له القرآن كقوله ( جل وعلا ) :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا ﴾ [ محمد : آية ٣٢ ] وتدل على هذا الآيات القرآنية الكثيرة أن الله غني عن خلقه الذين يدعوهم لطاعته، فإنما يدعوهم لنفعهم، فامتثالهم نفعه لهم، وتمردهم ضرره عليهم، كما قال تعالى :﴿ فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ﴾ [ التغابن : آية ٦ ]، ﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾ [ إبراهيم : آية ٨ ]، ﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ الزمر : آية ٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء : الضمير المنصوب عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ٩، أي : لا تضروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ لأن الله تكفل له بنصره، كما يأتي في قوله :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله... ﴾ الآية [ التوبة : آية ٤٠ ] وقوله تعالى :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ [ التوبة : آية ٣٩ ] معناه : أنه ( جل وعلا ) قادر على كل شيء، فهو قادر على ما شاء، وقادر أيضا على هداية أبي بكر الصديق، وقادر على هداية أبي لهب، لا شك أنه قادر على الأمرين، وقد أراد أحد المقدورين، وهو هداية أبي بكر، لا يتعاصى عليه شيء، يقول للشيء كن فيكون، خلقه لجميع البشر كخلقه لنفس واحدة ﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ [ لقمان : آية ٢٨ ] لأنه ( جل وعلا ) لا يتعاصى على قدرته شيء سبحانه ( جل وعلا ).
١ أخرج أبو داود في الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، حديث رقم: (٢٤٨٩) (٧/ ١٨٣)، والبيهقي (٩/ ٤٨)، والحاكم (٢/ ١١٨)، وابن جرير (١٤/ ١٥٤) وهو في ضعيف أبي داود ص ٢٤٦..
٢ مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف..
٣ السابق..
٤ مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف..
٥ السابق..
٦ مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام..
٧ السابق..
٨ انظر: القرطبي (٨/ ١٤٢)، ابن كثير (٢/ ٣٥٨)..
٩ انظر: القرطبي (٨/ ١٤٢)..
هذه الآية يقول الله ( جل وعلا ) فيها للذين تكاسلوا عن غزوة تبوك وتثاقلوا وتباطؤوا أن يغزوا الروم مع النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ إلا تنصروه ﴾ ( إن ) هي الشرطية مدغمة في ( لا ) والضمير المنصوب في ( تنصروه ) عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني : إن تتقاعسوا وتتثقالوا عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فإن الله ناصره لا محالة، سواء تثاقلتم أم لم تتثاقلوا. وقد بين ( جل وعلا ) أنه نصره في حالة الضعف والقلة، في حالة كان هو وصاحبه داخلين في غار مختفيين عن المشركين، فلما نصره الله في حالة الضعف والقلة فكيف لا ينصره في حالة الكثرة والقوة ؟ وهذا معنى قوله :﴿ إلا تنصروه ﴾ فالله ناصره على كل حال ؟، ثم بين نصره له السابق في حالة الضعف والقلة ﴿ فقد نصره الله ﴾ على أعدائه حيث أنجاه الله منهم، وخيب مكرهم وأبطله، ثم أظهره عليهم بعد ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ فقد نصره الله ﴾.
﴿ إذ أخرجه الذين كفروا ﴾ حين أخرجه الذين كفروا وهم كفار مكة، ومعنى إخراجهم له أنهم اضطروه وألجؤوه إلى أن يخرج ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياة عمه أبي طالب يدفع عنه مكر قريش، ويحميه منهم، ويقول له ١ :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فلما مات أبو طالب وجاء الأنصار وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقية خاف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم عليهم أمره، وهالهم شأنه، فقالوا : هذا الرجل صار له أتباع في القبائل الأخرى، فما نأمن أن يغزونا بأتباعه فيحتلنا. واعتزموا على أن يقتلوه، وقد قدمنا السبب الذي ألجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة في سورة الأنفال، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير المكرين ( ٣٠ ) ﴾ ٢ [ الأنفال : آية ٣٠ ]. وذلك أن قريشا لما هالهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وعظم عليهم شأنه، وخافوا أن تتبعه قبائل العرب فيغزوهم بهم حاولوا أن يقتلوه، فاجتمعوا في دار الندوة، واجتمع جميع سادات قبائل قريش في ذلك الاجتماع، وجاءهم إبليس – عليه لعائن الله – في صورة شيخ جليل جائيا من بلاد نجد، وقال لهم : قد علمت بما اعتزمتم عليه. وأراد أن يجلس معهم ليتبادل معهم الرأي، فأدخلوه معهم، فتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قائل منهم، يقال هو أبو البختري : احبسوه ونتركه محبوسا حتى يموت. فقال ذلك الشيخ الذي هو إبليس في صورة ذلك الشيخ : ليس هذا لكم برأي ؛ لأنكم إن حبستموه جاء بنو عمه وأتباعه فانتزعوه منكم، وغلبوكم عليه. فقال آخر : نرى أن نخرجه من بلادنا وأرضنا ونصلح شأننا بعده إذا أخرجنا. فقال لهم إبليس اللعين في صورة ذلك الشيخ : ليس هذا والله برأي ؛ لأنكم إذا أخرجتموه فقد عرفتم حلاوة منطقه، وعذوبة لسانه، فقد يتبعه الناس فيغزوكم في دياركم فيغلبكم على أمركم. فقال أبو جهل لعنه الله : إن عندي لرأيا ما أراكم ذكرتموه، خذوا من كل قبيلة من قبائل قريش شابا حدثا قويا وأعطوه سيفا وأمروهم يضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في قبائل قريش، فلن يستطيع بنو عبد مناف أن يحاربوا جميع قريش، فيقبلوا منا عقله، فنعقله ونعطيهم ديته، ونستريح من شأنه. فقال لهم إبليس اللعين : هذا والله هو الرأي. فأجمعوا رأيهم على هذا وأنهم يقتلونه، واجتمعوا لتنفيذ ذلك عند باب الدار التي ينام فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر ( رضي الله عنه ) قبل ذلك هاجر إلى الحبشة فيمن هاجر، فلقيه عمرو بن الدغنة سيد بني القارة، وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، فقال لأبي بكر : أنت لا تذهب، وأنت في ذمتي. فرجع به في ذكته، وأعطاه قريش ذمة ابن الغنة على أن لا يظهر قراءته ولا دينه، وأن يجعل دينه سرا في بيته، فلما طال ذلك على أبي بكر ( رضي الله عن ) صار يظهر صلاته وقراءته، فأرسلت قريش إلى عمرو بن الدغنة، الذي كان في ذمته أبو بكر ( رضي الله عنه )، فقالوا نحن لا نحب أن نخفر ذمتك، وإن صاحبك صار يفعل ما لم يحصل عليه الاتفاق، فكلم ابن الدغنة أبا بكر ( رضي الله عنه ) فقال : إما أن تفي بالشرط الذي توافقنا عليه، وإما أن ترد إلي ذمتي. فقال له أبو بكر ( رضي الله عنه ) : رددت إليك ذمتك، وأنا في ذمة الله تعالى. وكان أبو بكر لما أراد أن يهاجر أشار له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطمع أن يؤذن له في الهجرة، فقعد أبو بكر ( رضي الله عنه ) طمعا في أن يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيكون رفيقه، واشترى راحلتين، وكان يعلفهما الخبط، وهو ورق السمر، شجر معروف، علفهما إياه أشهرا عديدة، أربعة، أو ستة، أو غير ذلك. فلما اجتمعت قريش لقتل النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بيت أبي بكر كل يوم إما أول النهار أو آخره، فبينما هم ذات يوم إذ قدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر الظهيرة، فقال أبو بكر : هذا وقت ما جاءنا به رسول الله، والله ما جاء إلا لأمر حدث. ثم لما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : أقم من عندك. فقال : هم أهلك يا رسول الله، قم ابنتاي – يعني عائشة وأسماء ( رضي الله عنهما )- فأخبر النبي أبا بكر ( رضي الله عنه ) أن الله أذن له في الهجرة، فقال : الصحبة يا رسول الله. فقال : الصحبة. قالت أسماء ( رضي الله عنها ) : ما رأيت أحدا يبكي من الفرح قبل ذلك اليوم، فأبو بكر يبكي من الفرح. كذا قاله غير واحد من أهل الأخبار والسير، ثم إن قريشا اجتمعوا لتنفيذ الخطة وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالخروج، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وأمره أن يضطجع في مكانه، أن ينام في البرد الذي كان ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله أخذ بأعينهم فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم آيات من أول سورة يس حتى بلغ ﴿ فأغشيناهم فهم لا يبصرون ﴾ [ يس : آية ٩ ] ووضع على رأس كل واحد منهم التراب. ثم خرج هو وأبو بكر ( رضي الله عنه ). قال بعضهم : خرج من خوخة في قفى دار أبي بكر التي في بني جمح، وذهب هو وأبو بكر إلى الغار، وهو غار في جبل من جبال مكة يسمى ثورا، فدخل فيه هو والنبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه ليلا، ومكثوا فيه ثلاث ليل بأيامهما حتى يرجع الطلب، وآجروا رجلا من بني دؤل بن كنانة يسمى عبد الله بن الأريقط على دين كفار قريش، يقال : إن له خؤولة في بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فأمنه واستأجره على راحلتيهما وواعده بعد ثلاث ليل أن يأتيهم بالراحلتين في غار ثور، وكان كافرا أمينا، كتم سرهما وحفظ عليهما أمرهما، وجاءهما في الموعد وكان عبد الله بن أبي بكر ( رضي الله عنهما ) غلاما ثقفا شابا عاقلا، كان يأتيهم بأخبار قريش وكل ما قالوا وتحدثوا به في شأنهم في النهار يأتيهم به في الليل في الغار، وكانت أسماء ( رضي الله عنها ) تأتيهم بالطعام، وكان عامر بن فهيرة الطائي ( رضي الله عنه ) مولى أبي بكر الصديق كان عبدا مملوكا لأولاد أم رومان، وهي أم عائشة، كانت لها أولاد قبل أبي بكر، وكان عامر بن فهيرة هذا عبدا لهم، فاشتراه أبو بكر ( رضي الله عنه ) فأعتق، فكان مولى لأبي بكر، كان يريح على النبي وأبي بكر غنما لأبي بكر ( رضي الله عنه ) فيحلب لهم منها فيشربون بالليل، ثم إذا كان في آخر الليل صاح بها فأصبح مع رعاء قريش، ولا يدرون أنه كان معهم. فمكثوا فيها ثلاث ليال، فجاءهم عبد الله بن الأريقط الدؤلي – رفيقهم – وركبا، وكان خريتا ماهرا، سار بهم في طرق غير معهودة ؛ لأن الطرق المعهودة عليها الرصد والعيون، وكانت قريش أخذوا قائفا خبيرا بقص الأثر يقال هو سراقة بن مالك بن جعشم، ويقال هو غيره، فاقتص بهم الأثر حتى بلغ الغار، وقال : من هاهنا ضاع الأثر. ويقول أصحاب الأخبار والسير : إن الله قيض العنكبوت فنسجت على الغار ٣، وقيض حمامتين وحشيتين فباضتا على فم الغار، فلما جاء كفار مكة ووصلوا فم الغار ٤، قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا. فقال له : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بالك باثنين الله ثالثهما ؟ " ٥ فرجعوا خائبين. فلما كان بعد ثلاث ليال ورجع الطلب جاءهم عبد الله بن الأريقط براحلتيهما وركبا ومعهما عامر بن فهيرة. وكان عامر بن فهيرة رديف أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم على إحدى الناقتين اللتين اشتراهما أبو بكر لهذا الغرض، وهي ناقته العضباء المشهورة، ولما عرضها عليه أبو بكر ( رضي الله عنه ) أبى أن يقبلها إلا بالثمن ( صلوات الله وسلامه عليه )، فخرج بهما في طريق يسمى طريق الساحل، وجاء إلى طرق غير معهودة، وابن إسحاق ذكر المحال التي جاء منها ٦، تارة يصلون إلى الطريق المعهودة، وتارة يخرجون عنها حتى وصلوا المدينة. ومن أشهر ما حصل في طريقهم إلى المدينة قصة أم معبد، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم. ومما نزل من القرآن في هذا السفر، نزلت فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى :﴿ إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد ﴾ [ القصص : آية ٨٥ ] قال بعض العلماء : نزلت في الجحفة في سفر الهجرة هذا، وفي هذا السفر مر على ديار بني مدلج، يقول بعضهم : هي قريب من قديد فقال رجل : رأيت أشخاصا كأنهم القوم الذين يطلبهم قريش. فعلم سراقة بن مالك أنهم هم، ولكنه طمع بأن يأخذهم أو يقتلهم فينال الجعائل التي جعلتها فريش. فقال : لا، أولئك قوم خرجوا للكلأ. ثم بعد هنيهة خرج وأمر جاريته أن تسرج فرسه من وراء أكمه، ثم خرج مختفيا فركب على فرسه، فلما قاربهما ساخت به قوائم فرسه في الأرض، في القصة المشهورة، فطلب الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ٧، قال بعض أهل السير والأخبار : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له رقعة، وصار يثبط الناس ويردهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع بذلك الخبيث أبو جهل، وارسل إلى بني مدلج يحذرهم من نصر سراقة لنبي الله صلى الله عليه وسلمن ويقول أبو جهل لعنه الله في ذلك أشعارا في غاية الكفر ويعيب على سراقة نصره للنبي الله صلى الله عليه وسلم، ومما يقول في ذلك ٨ :
بني مدلج إني أخاف سفيهكم سراقة مستغو لنصر محمد
عليكم به ألا يفرق شملكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فسمع بشعره سراقة بن مالك وأرسل إليه بأبياته المشهورة التي ذكرها غير واحد من المؤرخين وأصحاب السير وهو قوله ( وكان أبو جهل يكنى أبا الحكم ) ٩ :
أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم بأن جميع الناس طرا يسالمه
ومر في هذه الطريق بعاتكة بنت خالد الخزاعية المعروفة بأم معبد ( رضي الله عنه ) ؛ لأنها أسلمت وقد رويت قصتها عنها وعن أخيها حبيش بن خالد ويقال خنيس بن خالد وغيرهما ١٠ أنهم كانوا في شدة، وكانت أغناهم عازبة، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعامر في شدة، وكانت أغنامهم عاز
١ مضى عند تفسير الآية (١٣) من سورة التوبة..
٢ مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
٣ مضى عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
٤ أخرجه ابن سعد (١/ ١٥٤)، والبزار (كشف الأستار ٢/ ٢٩٩) ولا يصح في بيض الحمامتين شيء. وانظر: أحاديث الهجرة ص ١٣٨..
٥ أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومنهم أبو بكر رقم (٣٦٥٣) (٧/ ٨). وانظر الأحاديث رقم (٣٩٢٢، ٤٦٦٣).
وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق. رقم (٢٣٨١) (٤/ ١٨٥٤)..

٦ نقله عنه ابن هشام ص ٥١٤ – ٥١٦، وابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ١٨٩). وقد جاء ذلك في بعض الروايات عند الحاكم (٣/ ٨)، وابن سعد (١/١/ ١٥٧) وانظر مجمع الزوائد (٦/ ٥٥)..
٧ خبر سراقة وما قبله مما يتعلق بالهجرة من روايات كل ذلك تقدم تخريجه في مواضع سابقة. منها عند تفسير الآية (٣٠) من سورة الأنفال..
٨ البيتان في البداية والنهاية (٣/ ١٨٦)..
٩ الأبيات في دلائل النبوة للبيهقي، البداية والنهاية (٣/ ١٨٦) مع اختلافات يسيرة في الأبيات الثلاثة الأولى، أما البيت الأخير فنصه في البداية والنهاية:
بـــأمـــر تـــود الـــنــــصـــر فـــيــــه فــإنـــهـــم وإن جـــمـــيـــع الـــنـــاس طـــرا مـــســـالـــمـــه
وفي الدلائل:
بـــأمـــر يـــود الـــنـــصــــر فـــيـــ بــإلـــبـــهـــا لـــو أن جـــمـــيـــع الـــنــــاس طــــرا تــــســـالـــمـــه.

١٠ أخرجه البيهقي في الدلائل (١/ ٢٧٦)، (٢/ ٤٩١)، والحاكم (٣/ ٩)، وابن سعد (١/ ١/ ١٥٥)، وابن عساكر (انظر: تهذيب تاريخ دمشق ١/ ٣٢٦)، والآجري في الشريعو ص ٤٦٥.
وذكره الهيثمي في المجمع (٦/ ٥٥) من حديث جابر (رضي الله عنه) مختصرا، وعزاه للبزار، وقال: "وفيه من لم أعرفه" ا. هـ. وأورده من حديث حبيش بن خالد (رضي الله عنه) (٦/ ٥٥) وقال (٦/ ٥٨): "رواه الطبراني في إسناده جماعة لم أعرفهم" ا. هـ.
كما أورده من حديث قيس بن النعمان (٦/ ٥٨) وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح" ا. هـ..

يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ انفروا خفافا وثقالا وجهدوا بأمولكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٤١ ) ﴾.
قال جماعة من العلماء : هذه الآية الكريمة هي أول آية نزلت من سورة براءة. قالوا : أول ما نزل منها :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ الآية، ثم بعد ذلك نزل أولها وآخرها ١.
وقوله :﴿ انفروا ﴾ أمر بالنفر، والنفر المراد به هنا : التهيؤ والحركة للجهاد في سبيل الله، وكل متحرك بسرعة لأمر من الأمور تقول العرب : نفر له، كقولهم : النفر غداة كذا. يعنون : تفرق الناس من منى ذاهبين إلى أوطانهم ؛ لأنه تنقضي مهمة حجهم فيسرعون الحركة متفرقين إلى أوطانهم. كما قال ابن أبي ربيعة ٢ :
لا نلتقي إلا ثلاث منى حتى يفرق بيننا النفر
فمعنى قوله :﴿ انفروا ﴾ تحركوا مسرعين للجهاد في سبيل الله.
وقوله :﴿ خفاف وثقالا ﴾ حالان، والخفاف جمع خفيف. والثقال : جمع ثقيل. و " الفعيل " إذا كان وصفا يكثر جمعه على ( الفعال ) جمع كثرة كما هو معروف في محله.
والمراد بقوله :﴿ خفافا وثقالا ﴾ جاء فيه لأهل العلم ما يقرب من خمسة عشر قولا أو أكثر ٣، والمراد لها كلها : إنما هو تمثيل الخفة والثقل. والمعنى الجامع لذلك كله :﴿ انفروا ﴾ تتحركوا مسرعين إلى جهاد الروم إلى تبوك في حال كونكم خفافا أو ثقالا.
والمراد بالخفاف : الذين تخف عليهم الحركة لتهيؤ أسباب القوة والحركة عندهم.
والثقال : الذين يثقل عليهم ذلك لسبب من الأسباب. وأقوال العلماء في هذا كالأمثلة لذلك، كقول من قال :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ شبابا وشيوخا. وقول من قال :﴿ خفافا وثقالا ﴾ مراضا وصحاحا. وقول من قال :﴿ خفافا وثقالا ﴾ نشاطا وغير نشاط. وقول من قال :﴿ خفافا وثقالا ﴾ أصحاب عيال وغير أصحاب عيال. وقول من قال :﴿ خفافا وثقالا ﴾ أي : أصحاب ضياع وبساتين أو غير أصحابها. فهذه أقوال كثيرة. كقول من قال :﴿ خفافا وثقالا ﴾ مشاغيل وغير مشاغيل. إلى ذلك (.... ) ٤.
١ ذكره ابن جرير بسنده عن أبي الضحى (١٤/ ٢٦٩، ٢٧٠) وعزاه القرطبي (٨/ ١٤٩) لأبي مالك الغفاري..
٢ البيت في ديوانه ص ١٩٠..
٣ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٦٢ - ٢٦٩)، القرطبي (٨/ ١٥٠)..
٤ في هذا الموضع انقطع التسجيل..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ( ٤٤ ) إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ( ٤٥ ) ﴾ [ التوبة : الآيتان ٤٤، ٤٥ ].
لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى النفر في غزوة تبوك جاء رؤساء المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس، وهؤلاء أعظم المنافقين، ومن سار في ركابهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في الجلوس والتخلف عن غزوة تبوك ؛ لأنهم أعداء للإسلام في باطن أمرهم، فبين الله أن ذلك الاستئذان رغبة في التخلف ليس من فعال المسلمين، وأنه من فعال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. قال :﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون.... ﴾. الجمهور يقرؤون :﴿ يستئذنك ﴾ والسوسي :﴿ يستاذنك ﴾ بإبدال الهمزة ١.
﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله ﴾ يصدقون بالله ( جل وعلا )، وإيمانهم بالله الإيمان إذا أطلق شمل الإيمان من الجهات الثلاث، وهو تصديق القلب بالاعتقاد، واللسان بالإقرار، والجوارح بالعمل. فالمؤمن بمعنى الإيمان الصحيح هو من آمن قلبه ولسانه وجوارحه. وهذا الاستئذان ليس من أفعال المسلمين ﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر ﴾ الإيمان باليوم الآخر كثيرا ما يجعله الله مذكورا مع الإيمان به ؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لا يخاف بأسا يوم القيامة ولا يطمع في خير، فهو يفعل ما يشاء، فالكفر باليوم الآخر رأس كل شر، والإيمان به رأس كل خير.
﴿ أن يجهدوا ﴾ ( أن ) هذه كلام العلماء فيها راجع إلى قولين ٢ :
أحدهما : أنها هذه التي يحذف قبلها حرف الجر. والمعنى على هذا : " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله في أن يجاهدوا " أي : في الجهاد وترك الجهاد ؛ لأن المؤمنين بالله مسارعون إلى مرضاة الله، منقادون إلى الجهاد، سائرون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
لا يستأذنون لأجل أن يؤذن لهم في التخلف، وقد تقرر في علم العربية أن حذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها و( أن ) وصلتها مطرد لا نزاع في اطراده ٣، ومحل المصدر بعد حذف حرف الجر أكثر علماء العربية يقولون منصوب، وهو الذي عليه كبراؤهم. وقال قوم : هو مخفوض. واستدلوا على خفضه بقول الشاعر ٤ :
فما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه
قالوا : خفض " ولا دين " عطفا على المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها بعد حذف حرف الجر. قالوا : والأصل : " وما زرت ليلى لكونها حبيبة، ولا لدين " والمحققون منهم يقولون : محله النصب. وهذا الذي عليه جمهورهم، قالوا : ولا شاهد في البيت لأنه مما يسمى عند النحويين عطف التوهم. وحاصل عطف التوهم عند النحويين أنه تكون الكلمة يجوز فيها الخفض وليست بمخفوضة، فيعطفون عليها المخفوض نظرا إلى جواز خفضها، وإن كانت غير مخفوضة في الواقع ٥. ومن شواهده المشهورة قول زهير بن أبي سلمى ٦ :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فقوله :( ولا سابق ) بالخفض في رواية بيت زهير عطفا على " مدرك " وهو منصوب، إلا أنه يجوز جره بالباء، فيجوز : لست بمدرك ولا سابق. ونظيره قول الآخر ٧ :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
كما هو معلوم في محله. ونحن نذكر هذه الأشياء العربية وإن كان أكثر المستمعين لا يفهمونها لأنا نريد أن تكون هذه الدروس القرآنية يستفيد منها كل الحاضرين على قدر استعدادتهم، والله يوفق الجميع للخير.
الوجه الثاني : أن ( أن ) هذه هي التي تحذف قبلها ( لا ) أو مضاف كقول :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء : آية ١٧٦ ] ففي قوله :﴿ أن تضلوا ﴾ ونحوه وجهان. أي : يبين الله لكم لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. هذان الوجهان في ( أن ) في القرآن فيما يماثل هذا كقوله :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ وقوله :﴿ فتبينوا أن تصيبوا ﴾ [ الحجرات : آية ٦ ] أي : لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا. وهذان الوجهان في قوله :﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ( ٤٤ ) ﴾ [ التوبة : الآية ٤٤ ] بل إذا أمرت بالجهاد قاموا مسرعين ممتثلين أمر الله، راغبين في غزو الكفرة لأن تكون كلمة الله هي العليا. وهذه الآية تدل على أن المؤمن بمعنى المؤمن الصحيح من صفاته الكاشفة أن يكون مبادرا للجهاد في سبيل الله مضحيا بالنفيس والغالي من نفسه وماله للجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخر أن يجهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ( ٤٤ ) ﴾ [ التوبة : الآية ٤٤ ] التقوى في قلوب الناس لا تخفى على الله، فالله يعلم ما في قلوب الناس، لا يخفى عليه بر من فاجر، ولا متق من عاص.
﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ﴾ [ البقرة : آية ٢٣٥ ] ﴿ ولقد خلقنا الإنسن ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( ١٦ ) ﴾ [ ق : آية ١٦ ] ﴿ عليم بالمتقين ﴾ لا يخفى عليه المتقي من العاصي، فمن زعم للنبي أنه معه، وأنه يحب الإسلام والجهاد، إلا أنه معذور بكذا وكذا لأعذار كاذبة فالله عالم بكذبه، عالم بالمتقي حقا وبغيره، لا يخفى عليه شيء من ذلك. وفي هذا تهديد للمنافقين الذين يدعون التقوى ويضمرون غيرها، ووعد عظيم للمؤمنين الذين تنطوي قلوبهم على تقوى الله حقا. وهذا معنى قوله :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ [ التوبة : آية ٤٤ ].
١ انظر: الإقناع لابن الباذش (١/ ٤١٢)، النشر لابن الجزري (١/ ٣٩٠)..
٢ انظر: الدر المصون (٦/ ٥٧)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة..
٤ السابق..
٥ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة..
٦ تقدم هذا الشاهد في الموضع السابق..
٧ تقدم هذا الشاهد في الموضع السابق..
﴿ إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله ﴾ [ التوبة : آية ٤٥ ] قد تقرر عند جماهير العلماء أن ( إنما ) أداة حصر، والصحيح أن ( إنما ) أداة حصر كما حرره علماء الأصول في مبحث ( دليل الخطاب ) أعني ( مفهوم المخالفة ) والبلاغيون في مبحث ( القصر ) ١ ف ( إنما ) أداة حصر. يعني : لا يستئذنك هذا الاستئذان الذي يراد به التخلف عن الجهاد والقعود لأعذار كاذبة.
﴿ إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله ﴾ الذين لا يصدقون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر فلا يرغبون فيما عند الله، ولا يخافون عذاب الله.
وقوله :﴿ وارتابت قلوبهم ﴾ شكت قلوبهم. ف ﴿ وارتابت ﴾ معناه : شكت. والتاء فيه تاء الافتعال. وأصل حروفه الأصلية : الراء في محل الفاء، والياء في محل العين، والباء في محل اللام، أصل المادة ( ريب ) ب ( راء ) ف ( ياء ) ف ( باء ) والتاء تاء الافتعال، وأصلها ( وارتيبت قلوبهم ) ٢ أي : داخلها الريب. أصل الريب في لغة العرب معناه الإزعاج والإقلاق. هذا أصل معناه الأصلي، تقول العرب : رابه الأمر. إذا أزعجه وأقلقه. وهذا هو معناه الحقيقي، ومنه قول توبة بن الحمير الخفاجي ٣ :
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت وقد رابني منها الغداة سفورها
أي : أزعجني وأقلقني، وكلما جاء الريب في القرآن والارتياب فمعناه الشك على كل حال. وإنما سمي الشاك مرتابا وأطلق اسم الريب على الشك لأن الشاك لا تطمئن نفسه إلى طرف الإيجاب، ولا إلى طرف السلب، فهو تارة يميل إلى الإيجاب، وتارة يميل إلى السلب، فنفسه منزعجة قلقة ليست مطمئنة إلى الثبوت ولا إلى النفي. ومعنى ﴿ وارتابت قلوبهم ﴾ شكت قلوبهم والعياذ بالله. وأسند الارتياب إلى القلوب لأن القلب هو محل الإدراك الذي يكون فيه الشك، ويكون فيه اليقين، ويكون فيه العلم والإدراك. وهذا الارتياب سيبينه لهم المؤمنون يوم القيامة كما يأتي بيانه في سورة الحديد ؛ لأنه سيأتي في سورة الحديد – إن شاء الله – أن كل من كان يقول : لا إله إلا الله في دار الدنيا يعطيه الله نورا، فيكون عند المنافقين نور، وعند المؤمنين نور، فإذا – مثلا – اشتد الأمر وصار الناس في فصل الخطاب انطفأ نور المنافقين وبقوا في ظلام دامس، وعند ذلك يقول المؤمنون :﴿ ربنا أتمم لنا نورنا ﴾ [ التجريم : آية ٨ ] ويقول المنافقون للمؤمنين :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قبله العذاب ﴾ [ الحديد : آية ١٣ ] فإذا ضرب ذلك السور بين المنافقين والمؤمنين قال المنافقون للمؤمنين :﴿ ألم نكن معكم ﴾ [ الحديد : آية ١٤ ] ألم نكن معكم في دار الدنيا ؟ وكنا نحضر معكم المساجد والغزوات، ونأتي معكم المواطن ؟ ﴿ قالوا بلى ﴾ كنتم معنا ﴿ ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم ﴾ وهذا محل الشاهد. ذلك الارتياب الذي قال عنهم هنا :﴿ وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾ [ التوبة : آية ٤٥ ] هو من الأسباب التي تجعلهم يوم القيامة وراء السور – والعياذ بالله -.
وقوله :﴿ فهم في ريبهم ﴾ أي : فهم في شكهم ﴿ يترددون ﴾ أي : يذهبون حائرين يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، يذهبون ويرجعون، يتوجهون إلى الإيمان مرة ويكفرون مرة ( والعياذ بالله جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾.
١ مضى عند تفسير الآية (٦٥) من سورة الأعراف..
٢ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٣٣، ٣٩١، ٣٩٣..
٣ مضى عند تفسير الآية (٢) من سورة الأعراف..
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ﴾ هؤلاء المنافقون الذين جاؤوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في القعود كعبد الله بن ابي، والجد بن قيس، وأضرابهم، قال الله لنبيه إنهم يستأذنون ويعتذرون الأعذار الكاذبة وهم في باطن أمرهم مصرون على القعود وعدم الخروج، وبين دليل ذلك في قوله :﴿ ولو أرادوا الخروج ﴾ لو أراد هؤلاء المنافقون المستأذنون الخروج معك إلى غزوة تبوك ﴿ ولو أرادوا الخروج ﴾ معك ﴿ لأعدوا له ﴾ أي : للخروج ﴿ عدة ﴾ أي : لتأهبوا للخروج وتهيؤوا له ؛ لأن من يعزم على الخروج إلى قتال العدو يتهيأ قبل ذلك ويستعد لذلك بإحضار العدة اللازمة لذلك، ولكن هؤلاء لم يعدوا شيئا، ولم يبالوا بشيء، فدل على أنهم مصرون عازمون على التخلف. وهذا معنى قوله :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له ﴾ [ التوبة : آية ٤٦ ] أي : للخروج ﴿ عدة ﴾ أي : لتأهبوا له أهبته وتهيؤوا له بإعداد ما يلزمه.
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم ﴾ كره الله انبعاثهم كونا وقدرا ؛ لأن الله يعلم أنهم لو خرجوا مع رسوله ما كان في خروجهم له إلا الشر، فلا يجد منهم إلا الضرر والشر، فثبطهم عنه بحكمته لطفا برسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ ولكن كره الله انبعاثهم ﴾ الانبعاث مصدر ينبعث إذا ذهب إلى الشيء. ومنه :﴿ إذ انبعث أشقها ( ١٢ ) ﴾ [ الشمس : آية ١٢ ] ومعنى ﴿ انبعاثهم ﴾ أي : خروجهم غازين معك إلى تبوك، كره الله خروجهم معك لضرر ذلك عليك، ﴿ فثبطهم ﴾ عن ذلك الخروج مراعاة لمصلحتك. والتثبيط : التبطئة والتعويق وعدم الخروج، فثبطهم عنك مراعاة لمصلحتك ومصلحة من معك من المسلمين، وهذا معنى قوله :﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القعدين ﴾.
﴿ قيل ﴾ هنا مبني للمفعول حذف فاعله، واختلف العلماء في فاعله المحذوف ١، فقال بعض العلماء : قال بعضهم لبعض في سرهم وباطن أمرهم :﴿ اقعدوا مع القعدين ﴾ واستأذنوه لتقعدوا. وقال بعضهم : أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ﴿ اقعدوا مع القعدين ﴾ " وعلى هذا القول ف ( اقعدوا ) هو الإذن. وبعضهم يقول : قوله :﴿ مع القعدين ﴾ أذن لهم إذنا صاحبه لا يرضى عنه. والمراد بالقاعدين : الذين ليس من شأنهم الحضور، كالصبيان والزمنى والنساء، ونحو ذلك ممن ليس من شأنه الخروج للقتال.
وقال بعض العلماء : هو كوني قدري، الله يقول للشيء : " كن فيكون "، فقال : " اقعدوا ". فكان قعودهم، واختار هذا بعض العلماء.
١ انظر: القرطبي (٨/ ١٥٦)، البحر المحيط (٥/ ٤٨)..
ثم إن الله قال :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ [ التوبة : آية ٤٧ ] لو خرج فيكم رؤساء هؤلاء المنافقين الذين يحركونهم ويرأسونهم في الشر كابن أبي بن سلول والجد بن قيس – قبحهما الله – وأمثالهم ﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ غازين إلى تبوك ﴿ ما زادوكم إلا خبالا ﴾ ما حصلتم منهم على فائدة ولم يزيدكم إلا خبالا. والخبال معناه : الفساد. أي : ما زادوكم إلا فسادا ؛ لأنهم يفسدون عليكم.
وقوله :﴿ ولأوضعوا خللكم ﴾ العرب تقول : أوضع يوضع إيضاعا. إذا أسرع في سيره. فالإيضاع : الإسراع في السير. واسم فاعله ( موضع ) ومنه قول امرئ القيس ١ :
أرانا موضعين لأمر غيب وتسحر بالطعام وبالشراب
و ﴿ خللكم ﴾ معناه : بينكم، يعني : لا يزيدونكم إلا فسادا على فساد، ولأسرعوا فيما بينكم بالمشي بالنميمة وإلقاء المخالفات والأراجيف والأكاذيب التي تضر المسلمين ولا تنفعهم. وهذا معنى قوله :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ لأن العدو إذا كان في ثياب صديق يفعل كل شر ويضر كل مضرة من حيث لا يشعر به، فهم لا يزيدونكم إلا الفساد. أي : لا يزيدونكم شيئا كائنا ما كان إلا الفساد والخبال، فإنهم يفسدون عليكم وكأنهم يفسدون وهم في المدينة، فإذا سافروا كان خبالهم وفسادهم أكثر ؛ لأنهم يلقون بينهم بالنمائم ويلقون الأراجيف والتخويف من المشركين وإلقاء التشاويش كي يخاف المسلمون، ولتفسد ذات بينهم، وهم أعداء – قبحهم الله – وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ولأوضعو خللكم يبغونكم الفتنة ﴾ ﴿ يبغونكم ﴾ معناه يطلبون لكم الفتنة. ﴿ الفتنة ﴾ هي ما يوقعون بكم من الشر، من المعاداة بينكم بإلقاء النميمة والخوف من الأعداء بإلقاء الأراجيف الكاذبة ونحو ذلك.
وقوله :﴿ وفيكم سمعون لهم ﴾ في هذا الحرف وجهان من التفسير للعلماء ٢ :
قال بعض العلماء :﴿ وفيكم سمعون لهم ﴾ أي : عيون يسمعون الأخبار ويأتونهم بها ليقدروا بذلك على ما شاؤوا من الفساد والخبال.
وقال بعض العلماء :﴿ وفيكم سمعون لهم ﴾ هم سادات وأشراف في قومهم، وفيكم من يسمع لهم لمكانتهم وشرفهم في قبيلته كابن أبي والجد بن قيس ومن يكون له شرف وسيادة في قومه يسمعون منه وتؤثر دعايته السيئة عليهم بإلقاء الفتن والأراجيف. وهذا معنى قوله :﴿ وفيكم سمعون لهم ﴾ وهذه الآية الكريمة نص الله ( جل وعلا ) فيها على إحاطة علمه، وأنه ( جل وعلا ) من شدة إحاطة علمه بالأشياء يعلم الأشياء الذي سبق في علمه أنها لا تكون ٣، هو يعلم أن لو كانت كيف تكون ؛ لأن هؤلاء المتخلفين عن غزوة تبوك كالجد بن قيس وعبد الله بن أبي بن سلول لا يحضرونها أبدا ؛ لأن الله كره انبعاثهم فثبطهم عنها لحكمة إلهية، ومصلحة للمسلمين، فهم لا يحضرونها أبدا، وقد سبق في علم الله الأزلي أنهم لا يحضرونها أبدا، وأنهم لا يخرجون معه أبدا، وخروجهم هذا الذي سبق في سابق علمه أنه لا يكون صرح بأنه عالم أن لو كان كيف يكون، فعرفنا من هذا أنه ( جل وعلا ) يعلم الموجودات والمستحيلات والمعدومات والجائزات، حتى إنه من إحاطة علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في سابق علمه لأنه لا يوجد يعلم أن لو وجد كيف يكون لشدة إحاطة علمه بالأشياء، فخروج هؤلاء لا يكون، وهو عالم ذلك الخروج الذي لا يكون أن لو كان كيف يكون، كما قال هنا :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾ الآية ﴿ التوبة : آية ٤٧ ﴾ والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا، من ذلك ما قدمنا في سورة الأنعام من أن الكفار يوم القيامة إذا رأوا القيامة وعاينوا الحقيقة تمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليصدقوا الرسل ويؤمنوا بالله، وهذا الرد الذي تمنوه علم الله أنه لا يكون، وقد صرح بأنه عالم أن لو كان كيف يكون، وذلك في قوله :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بئايت ربنا ونكون من المؤمنين ( ٢٧ ) ﴾ [ الأنعام : آية ٢٧ ] هذا الرد الذي تمنوه هو عالم أنه لا يكون، وقد صرح بأنه عالم أن لو كان كيف يكون حيث قال :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكذبون ﴾ [ الأنعام : آية ١٨ ] والآيات بمثل هذا كثيرة في كتاب الله كقوله :﴿ ولو رحمنهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغينهم يعمهون ( ٧٥ ) ﴾ [ المؤمنون : آية ٧٥ ] وقوله تعالى :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من ديركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم ﴾ الآية [ النساء : آية ٦٦ ].
فهذه الآيات من كتاب الله دلت على إحاطة علم الله ( جل وعلا ) بكل شيء، حتى بالمعدومات التي سبق في علمه أنها لا توجد، فهو عالم أن لو وجدت كيف يكون، فهو عالم بأن أبا لهب لن يؤمن، وهو يعلم لو آمن أبو لهب أيكون إيمانه تاما أو ناقصا، هكذا. وهذا يدل على أن المحيط بالعلم هو الله ( جل وعلا ) وحده، وخلق الله لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم العليم الخبير الأعظم كما دل هذا القرآن في آيات كثيرة، وإيضاح ذلك أن أعلم المخلوقين الملائكة والرسل – على جميعهم صلوات الله وسلامه – فالملائكة لما قال لهم الله :﴿ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين ( ٣١ ) قالوا سبحنك لا علم لنا ﴾ [ البقرة : الآيتان ٣١، ٣٢ ] قولهم :﴿ لا علم لنا ﴾ ( لا ) فيه، هي ( لا ) التي لنفي الجنس، فنفوا جنس العلم من أصله عن أنفسهم إلا شيئا علمهم الله إياه ﴿ لا علم لنا إلا ما علمتنا ﴾.
وكذلك الرسل ( صلوات الله وسلامه عليهم ) مع علمهم وفضلهم وجلالتهم لا يعلمون من أمر الله إلا شيئا علمهم الله إياه ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ].
هذا سيد الرسل وأكمل الخلق نبينا محمد ( صلوات الله وسلامه عليه ) – وهو هو – رميت أحب أزواجه إليه بفرية وإفك، حيث رميت بصفوان بن المعطل السلمي في غزوة المريسيع، وهو لا يدري ما قيل عنها أحق أو كذب، وكان يقول لها : يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي، فإن الله يتوب عليك ٤. ولم يدر هل ما قيل عنها حق أو كذب حتى أخبره العليم الخبير ( جل وعلا ) قال :﴿ أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ [ النور : آية ٢٦ ].
وهذا نبي الله إبراهيم إمام الأنبياء ( صلوات الله عليهم جميعا ) ذبح عجله وتعب هو وامرأته في إنضاج العجل يظن أن الملائكة يأكلون، لا يدري من هم، حتى إنه لما رآهم لم يأكلوا خاف منهم كما في قوله :﴿ فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم ﴾ [ هود : آية ٧٠ ] وصرح لهم بأنه خائف منهم حيث قال :﴿ فقالوا سلما قال إنا منكم وجلون ﴾ [ الحجر : آية ٥٢ ] حتى ضحكت امرأته، ولما ارتحلوا عنه ونزلوا بنبي الله لوط – وهو هو – ضاق بهم ذرعا وقال :﴿ هذا يوم عصيب ﴾ [ هود : آية ٧٧ ] ولم يدر أنهم ملائكة حتى قال كلامه المحزن :﴿ لو أن لي بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد ﴾ [ هود : آية ٨٠ ] وما علم أنهم ملائكة حتى قالوا له :﴿ يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ الآيات [ هود : آية ٨١ ]. وهذا نبي الله نوح – وهو هو – يقول لربه :﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحكمين ﴾ [ هود : آية ٤٥ ] ولا يدري أن ذلك الولد الذي يطلب ربه أن ينجيه أنه كافر ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال له العليم الخبير :﴿ ينوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صلح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجهلين ﴾ [ هود : آية ٤٦ ] فما قال نوح إلا أن قال :﴿ رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخسرين ﴾ [ هود : آية ٤٧ ].
وهذا نبي الله يعقوب – وهو هو – قال الله فيه :﴿ وإنه لذو علم لما علمنه ﴾ [ يوسف : آية ٦٨ ] ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، " وولده في مصر بينه وبينه مراحل لا يدري ما شأنه ﴿ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله ﴾ الآية [ يوسف : آية ٨٧ ].
وهذا نبي الله سليمان – وهو هو – أعطاه الله الرياح غدوها شهر ورواحها شهر، وسخر له مردة الشياطين والجن، ما كان يدري عن مأرب وجماعة بلقيس حتى ذهب إليهم الضعيف المسكين الهدهد، ولما توعد الهدهد، وكان الهدهد حصل منهم بعض علم الجغرافيا والتاريخ، وهذا العلم لم يكن عند سليمان في ذلك الوقت، وكان سليمان يهدد الهدهد ويقول :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطن مبين ( ٢١ ) ﴾ [ النمل : آية ٢١ ] فجاء الهدهد لما عرف بعض علم جغرافية اليمن وتأريخها، وسليمان لا يدري عنه، أفاده هذا العلم قوة ووقف أمام سليمان وقفة الرجل الصامد، ونسب الإحاطة لنفسه ونفاها عن سليمان وقال :﴿ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ( ٢٢ ) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( ٢٣ ) وجدتها وقومها ﴾ الآيات [ النمل : الآيات ٢٢ - ٢٤ ]. فسليمان ما كان يدري عن هذا، ولم يقل له إلا أن قال :﴿ سننظر أصدقت أم كنت من الكذبين اذهب بكتبي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجون ( ٢٨ ) ﴾ وأمثال هذا كثير. فالله ( جل وعلا ) هو العليم الأعظم، والملائكة والرسل ( صلوات الله وسلامه عليهم ) يعلمون من علم الله ما علمهم الله من غيبة وما لم يعلمهم لم يعلموه، وهو ( جل وعلا ) وحده هو المحيط علمه بكل شيء، العالم بما كان وما يكون، وبالمعدوم والموجود، والمعدوم الذي لا يوجد أن لو وجد كيف يكون ﴿ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ( ٢٥ ) ﴾ [ النمل : آية ٢٥ ] وهذا معنى قوله :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمعون لهم ﴾ [ التوبة : آية ٤٧ ].
وقوله :﴿ والله عليم بالظلمين ﴾ كقوله :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ [ التوبة : آية ٤٤ ] فقال في الأولى : إن تقوى المتقين لا تخفى عليه، وأن ظلم الظالمين لا يخفى عليه.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٥ أن أصل معنى الظلم في لغة العرب هو : وضع الشيء في غير محله، مادة الظاء واللام والميم ( ظلم ) معناها وضع الشيء في غير محله. هذا هو أصل معنى هذه المادة، وأعظم أنواعها هو الشرك بالله ؛ لأن الشرك بالله للعبادة في غير موضعها ؛ لأن من يأكل نعم الله ويتقلب في رزقه وعافيته إذا كان يعبد غيره فقد ظلم، أي : وضع العبادة في غير موضعها، كما قال تعالى عن لقمان :﴿ يبني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : آية ١٣ ] وقال :﴿ والكفرون هم الظلمون ﴾ [ البقرة : آية ٢٥٤ ] ﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا لمن الظلمين ( ١٠٦ ) ﴾ [ يونس : آية ١٠٦ ] ولأجل هذا كان الظلم في القرآن يطلق على الشرك وعلى غيره من المعاصي والمخالفات، وثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله :﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم ﴾ [ الأنعام : آية ٨٢ ] قال : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك ٦. هذا أصل الظلم في لغة العرب.
وهو في الشرع على نوعين : ظلم أكبر، وظلم دون ظلم، فالظلم الأكبر هو وضع العبادة في غير موضعها، وهو الشرك بالله. وظلم دون ظلم وهو أن يطيع عدوه إبليس ويعصي ربه، فالذي أطاع الشيطان وعصى الله قد ظلم نفسه ؛ لأنه عرضها لسخط الله ووضع الطاعة في غير موضعها، والمعصية في غير موضعها. وهذا معنى قوله :﴿ والله عليم بالظلمين ﴾ [ التوبة : آية ٤٧ ] وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، أن الظلم هو وضع الشيئ في غير موضعه، ومنه قد تقول العرب للذي يضرب لبنه قبل أن يروب : هو ظالم ؛ لأنه وضع الضرب في غير موضعه ؛ لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده، وهو مع
١ ديوانه ص ٤٣..
٢ انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٨١)، القرطبي (٨/ ١٥٧)، ابن كثير (٢/ ٣٦١)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام..
٤ مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
٥ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
قول الله ( جل وعلا ) :﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كرهون ( ٤٨ ) ﴾ [ التوبة : آية ٤٨ ].
لما بين الله ( جل وعلا ) للنبي والمسلمين أنه ثبط عنهم عظماء المنافقين للمصلحة، وأنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا، أي : فسادا ومشيا بالنميمة وتثبيطا وإلقاء للأراجيف، بين أن هذا الذي ينطوي عليه المنافقون من الشر كان موجودا فيهم قبل ذلك، قبل أن ينزل القرآن في شأنهم وأن تطلعوا عليهم ؛ لأن عظماء المنافقين بالمدينة كعبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس أخي بني سلمة، عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآمن الأنصار شق ذلك عليهم وعظم، وأبوا أن يؤمنوا، وثاروا يفكرون في الحالة التي يبطلون بها دعوة دين الإسلام ويخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعون الناس من الإيمان، فلما جاءت غزوة بدر عرفوا قوة المسلمين. قال لهم ابن أبي : هذا أمر مستقبل فآمنوا ظاهرا ١. وهم في الباطن يتربصون بهم الدوائر، يجيلون أفكارهم في الحالة التي يضرونهم بها.
﴿ لقد ابتغوا ﴾ أي : طلبوا الفتنة، طلبوا لكم الفتنة قبل هذا من رد الناس عن الدين، وإبطال الدين، وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والإفساد بين المسلمين.
﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾ العرب تقول : قلب الأمور، وقلب الأمر. معناه : أن يتفكر بدقة ويدبر في الأمور ويقلبها وجها إلى ظهر، وظهرا إلى وجه ليتأمل في الحالة التي يحصل بها مقصوده. فمعنى قلبوا الأمور : أجالوا الأفكار ونظروا في الدهر جنبا إلى جنب من هذا الأمر إلى هذا، واحتمال هذا وهذا ليصلوا بذلك إلى رد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقعود في وجه الدعوة إلى الله ( جل وعلا )، وهذا معنى معروف في كلام العرب، تقول العرب : قلبت أمري، وقلبت أموري، إذا أجلت فكري في المسائل ونظرت فيها وفي احتمالاتها لنعلم أي الأمور هو الذي يعنيني على قصدي. وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور نزل به القرآن العظيم، منه قول هبير بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب ( رضي الله عنها )، فإن زوجها هبيرة لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فر كافرا إلى نجران، ولم يزل بها حتى مات – والعياذ بالله – وقد أرسل إلى أم هانئ من هناك من نجران هذه الأبيات – وفيها محل الشاهد – وهو قوله لها ٢ :
لعمرك ما وليت ظهري محمدا وأصحابه جفلا ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمري فلم أجد لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي
وقفت فلما خفت ضيعة موقفي رجعت لعود كالهزبر أبي الشبل
ومحل الشاهد منه قوله " قلبت أمري " أي : أجلت فكري ونظرت وتأملت في الأمور فوجدت ثباتي وعدم فراري يؤدي إلى قتلي ولا نتيجة بعده. وهذا معنى قوله :﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾ أي : أجالوا أفكارهم وقلبوا الأمور ونظروا في احتمالاتها لينالوا كيدا يكيدونك به من تثبيط عن الدين، أو إلقاء شر بين المسلمين، أو إعانة عليك حتى يظفر بك – قبحهم الله -.
﴿ حتى جاء الحق ﴾ جاء الحق وهو نصر الله لنبيه بدين الإسلام، وقتل صناديد قريش يوم بدر.
﴿ وظهر أمر الله ﴾ معناها : غلب دين الله وظهر انتصاره واستقباله، فعند ذلك أسلموا إسلاما غير حقيقي، وهم يتربصون الدوائر بالمؤمنين في باطنهم.
وقوله :﴿ وهم كرهون ﴾ والحال هم كارهون – قبحهم الله – لأن كل ما يناله المسلمون من نصر وفتح وخير يكرهونه ويسوؤهم، وكل ما جائهم من شر يفرحون به، وهذه عادة الكفار، لا يزالون يحاولون رد المؤمنين عن الدين حتى يقنطهم الله من ذلك، كما قال الله في الكفار :﴿ ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطعوا ﴾ [ البقرة : آية ٢١٧ ] وبين أنهم لهم يستطيعوا في قوله :﴿ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ [ المائدة : آية ٣ ] كذلك المنافقون كانوا يطمعون في ضياع الدعوة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يضمحل أمره جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ذلك – قبحهم الله – وهذه من خسائس المنافقين يظهرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أسماء هذه السورة العظيمة :( الفاضحة ) لأنها فضحت أسرارا المنافقين كما تقدم، وسيأتي فيها كثيرا. وهذا قوله :﴿ حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كرهون ﴾.
١ ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/ ٣٦١)..
٢ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأعراف..
قوله :﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾ [ التوبة : آية ٤٩ ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ورش عن نافع والسوسي عن أبي عمرو :﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾ بهمزة محققة، وقرأه ورش والسوسي بإبدال الهمزة واوا مادة للام ﴿ ومنهم من يقول وذن لي ﴾ أما عند الوقف فقد أجمع جميع القراء على أنك إن وقفت على ﴿ يقول ﴾ ابتدأت فقلت :﴿ ايذن لي ﴾ ١ وهو الأمر من أذن له يأذن له. تقول العرب : أذن له يأذن له. وإذا جاء منها أمر تقول : ائذن لي. أصله : ائذن لي. ولكن القاعدة المقررة في العربية : أن كل همزتين اجتمعتا في كلمة أخراهما ساكنة وجب إبدالها حرف مد مجانسا للشكلة التي قبلها سواء أكانت التي قبلها همزة وصل أو همزة قطع، وهذا حكم لا خلاف فيه بين القراء ولا بين علماء العربية ﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾ أي : ائذن لي في القعود ولا تكلفني بالشخوص إلى غزوة تبوك. وهذه الآية نزلت في الجد بن قيس الخبيث المنافق أخي بني سلمة، كان رجلا سيدا فيهم، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني سلمة : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله ؛ لأنه بخيل لا يجود بالمال. فقال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ إنما سيدكم هذا الشاب الأبيض الجعد ٢. يعني بشر بن البراء بن معرور. وكان حسان ( رضي الله عنه ) يمدح بشر بن البراء بتسويد النبي صلى الله عليه وسلم إياه ويقول ٣ :
وسود بشر بن البراء بجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا
فتى إن أتاه الوفد أتلف ماله وقال خذوه إنني عائد غدا
فنزلت هذه الآية في الجد بن قيس على ما عليه جماعة المفسرين ﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾ هو الجد بن قيس أخي بني سلمة. ذكر ابن إسحاق وغيره ٤ أن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت تجهيزه لغزوة تبوك قال له : " يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ " يعني الروم. فقال له الجد : يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ائذن لي في الجلوس فإني رجل قد علم قومي أنني لا صبر لي عن النساء، وإن نساء بني الأصفر فيهن جمال ووضاءة وجوه أخاف إن رأيتهن أن لا أصبر عنهن، فائذن لي ولا تفتني بصباحة وجوههن إذا خرجت إليهن. وهذا عذر بارد وليس قصده إلا النفاق، فأنزل الله فيه :﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ﴾ أي : بصباحة وجوه نسائهم على ما قاله غير واحد.
وقال بعض العلماء وأسنده ابن جرير ٥ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا جد بن قيس هل لك في جلاد بني الأصفر لتغنم منهم سراري ووصفاء ؟ " فقال : ائذن لي ولا تفتني بالنساء. هذا منزع آخر ووجه في الآية.
وجمهور العلماء يقولون : هي في الجد بن قيس، وهو عذر نفاق لا شك فيه، وهو لا عذر له، وإنما يتلمس الأعذار الكاذبة ليجلس – قبحه الله -.
ثم إن الله قال :﴿ ألا في الفتنة سقطوا ﴾ الفتنة التي يزعم أنه يتوقاها وهي خوفه أن يفتتن بجمال نساء بني الأصفر هذه ليست هي الفتنة، ولكن الفتنة العظيمة هذه التي سقط فيها ووقع فيها وهي تخلفه عن الجهاد واعتذاره الكاذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاقه، هذه هي الفتنة والضلال. فالمعنى : هذا الذي سقط فيه باعتذاره هو عين الفتنة العظيمة لا فتنة جمال نسائهم الذي يزعم أنه هو الذي يخاف فتنته. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تفتني ﴾.
﴿ ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيط بالكفرين ﴾ [ التوبة : آية ٤٩ ] في هذه الآية الكريمة وعيد شديد للمنافقين، وجهنم طبقة من طبقات النار، وتطلق على النار.
وقوله :﴿ لمحيط بالكفرين ﴾ لأنها تهلكهم وتغشاهم فتحتوي عليهم من جميع الجهات، وتغلق أبوابها عليهم، ويضيق عليهم فيها كما بين تعالى ذلك في آيات كثيرة، فبين إحاطة النار بهم في قوله في العنكبوت :﴿ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكفرين ( ٥٤ ) يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ( ٥٥ ) ﴾ [ العنكبوت : الآيتان ٥٤، ٥٥ ] وقوله تعالى في الكهف :﴿ إنا اعتدنا للظلمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه... ﴾ الآية [ الكهف : آية ٢٩ ]. وقال تعالى :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ﴾ [ الأنبياء : آية ٣٩ ] ﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾ [ الأعراف : آية ٤١ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إحاطتها بهم. وبين ( جل وعلا ) أنها تطبق عليهم وتغلق أبوابها، وهو قوله :﴿ إنها عليهم مؤصدة ( ٨ ) في عمد ممددة ( ٩ ) ﴾ [ الهمزة : الآيتان ٨، ٩ ] وأنها تضيق عليهم ضيقا شديدا كما قال تعالى :﴿ وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ( ١٣ ) ﴾ [ الفرقان : آية ١٣ ] أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين منها. وهذا معنى قوله :﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكفرين ﴾ [ التوبة : آية ٤٩ ].
١ انظر: الإتحاف (٢/ ٩٢)..
٢ في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في عمرو بن الجموح (رضي الله عنه)، كما في الأدب المفرد رقم (٢٩٧) من حديث جابر (رضي الله عنه). وهو في صحيح الأدب المفرد رقم: (٢٢٧). وأخرجه الحاكم (٣/ ٢١٩) – وصححه ووافقه الذهبي – من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) بنحو حديث جابر. وأورده الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (١/ ١٤٦) وعزاه لابن إسحاق. كما أورده الحافظ في الإصابة (١/ ١٥٠)، وفي الفتح (٥/ ١٧٨).
أما الرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في بشر بن البراء (رضي الله عنه) فقد ذكرها الواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٧ – ٢٤٨، وأوردها الحافظ في الفتح (٥/ ١٧٩) وعزاه للوليد بن أبان في كتاب الجود من حديث كعب بن مالك (رضي الله عنه). وقد صحح الحافظ هذه الرواية وجمع بينها وبين الرواية الأخرى. بيد أن الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (١/ ١٤٦)، وابن الأثير في أسد الغابة (١/ ٢١٨) رجحا أنها في بشر بن البراء. والله أعلم..

٣ البيتان عند الواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٨، القرطبي (٨/ ١٥٩) ونص البيت الثاني هناك:
إذا مـــا أتــــاه الــــوفــــد أذهـــــب مــــالـــــه وقـــــال خــــذوه إنـــــنــــي عــــائـــــد غــــــدا.

٤ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٢٨٧) من طريق ابن إسحاق. وأخرجه الطبراني في الكبير (١٢/ ١٢٢) وقال الهيثمي في المجمع (٧/ ٣٠): "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف" ا. هـ..
٥ ابن جرير (١٤/ ٢٨٨) عن ابن زيد مرسلا..
﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم ﴾ هذا مما أبداه الله لنبيه من أسرار المنافقين القبيحة ﴿ إن تصبك ﴾ يا نبي الله ﴿ حسنة تسؤهم ﴾ المراد بالحسنة هنا : غلبة الأعداء والظفر والنصر. يعني : إن ظفرتم بأعدائكم وغلبتموهم ونصركم الله عليهم تسؤهم تلك الحسنة، ساءهم ذلك لأن العدو الشديد العداوة يسوؤه ما ينال عدوه من الخير، معناه : إن غزوتم ونصركم الله وغلبتم وظفرتم ساءهم ذلك وحزنوا من أجله ﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة ﴾ كأن يقتل قومك، أو لا ينصروا، أو يأتيك شيء يؤذيك ويؤذي قومك ﴿ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾ إذا سمعوا أن سرية من السرايا أو جيشا من الجيوش وقع فيهم قتل أو جراح قالوا :﴿ قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾ نحن خفنا من هذا وأخذنا لأنفسنا بالاحتياط فاستأذنا حتى جلسنا وسلمنا من تلك البلايا التي نالتهم من القتل والجراح ﴿ وتولوا ﴾ عن دين الله ﴿ وهم فرحون ﴾ مسرورون من جهتين : أنكم أصابكم ذلك السوء، وأنهم ما كانوا معكم – سلموا منه – كما تقدم إيضاح هذا المعنى في سورة النساء ؛ لأن الله أوضحه فيها بقوله :﴿ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ( ٧٢ ) ﴾ [ النساء : آية ٧٢ ] معنى قوله :﴿ قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾ حاضرا معهم فيصيبني ما أصابهم من القتل والجراح، وهو السبب الذي تولوا به وهم فرحون الآن. فالآية معناها :﴿ إن تصبك ﴾ يا نبي الله ﴿ حسنة ﴾ أي : يعطك الله ظفرا ونصرا ﴿ تسؤهم ﴾ تلك الحسنة ﴿ وإن تصبك ﴾ سيئة كقتل قومك وجراحهم وإدالة الكفار منهم ﴿ يقولوا فد أخذنا أمرنا ﴾ أخذنا لأنفسنا بالاحتياط وتخلفنا عن هذا الذي وقعوا فيه حذرا منا واحتياطا أن يصيبنا مثل ما أصابهم ﴿ ويتولوا ﴾ عن دين الإسلام، ونصرة رسول الله، أو يتولى بعضهم راجعا إلى بعض، والحال ﴿ وهم فرحون ﴾ مسرورون بالسوء الذي أصابكم وسلامتهم منه، وأنهم لم يحضروه معكم. هذا معنى قوله :﴿ إذ تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ( ٥٠ ) ﴾.
ثم إن الله ( جل و علا ) أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم :﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ﴾ [ التوبة : الآية ٥١ ] لن يصيبنا أذى من الأ ذى لا قتل و لا جراح و لا مصيبة كائنة ما كانت إلا ما كتبه لنا ربنا في أزله. و قوله ﴿ مولانا ﴾ أي سيدنا وناصرنا. والمولى : أصله ( مفعل ) من الولاية. والمولى في لغة العرب يطلق على كل من ينعقد بينك وبينه معنى تكون تواليه ويواليك به ١ ؛ ولذا كثر إطلاق المولى على ابن العم ؛ لأن بني العم يوالوك بعصية القرابة وتواليهم، ويطلق على المعتق ؛ لأن العتق ولاية حصلت بينه وبين المعتق، فهو يطلق على المعتق وعلى المعتق. ويطلق المولى على الصديق، وعلى كل من بينك وبينه ولاية كائنة ما كانت ٢. وقوله تعالى :﴿ ولكل جعلنا مولى { النساء : آية ٣٣ ﴾ أي : عصبة يرثون المال، كبني العم ونحوهم من العصبات، ومن هذا المعنى قول الفضل بن العباس من أولاد أبي لهب ٣ :
مهلا بني مهلا موالينا لا تظهروا لنا ما كان مدفونا
وإطلاق المولى على ابن العم مشهور في كلام العرب، ومنه قول طرفة بن العبد ٤ :
وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
والله ( جل وعلا ) ؛ مولى المؤمنين ؛ لأنه يواليهم بالنصر والثواب والرحمة وهم مواليه ؛ لأنهم يوالونه بالطاعة، حتى إن كل شيء يواليه شيئا يقال له :( مولى ) ولذا جعل الله النار مولاهم كما قال :﴿ مأوكم النار هي مولكم وبئس المصير ﴾ [ الحديد : آية ١٥ ] لأنها تواليهم لما عملوا من الأعمال السيئة لها. وهذا معنى قوله :﴿ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ [ التوبة : آية ٥١ ] في أزله ﴿ هو مولانا ﴾ سيدنا ومدبر شؤوننا ونحن متوكلون عليه ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ تقديم المعمول هنا في قوله :﴿ وعلى الله ﴾ يدل على الحصر، أي : لا يتوكل إلا على الله وحده. والتوكل معناه : تفويض الأمور، وكلت الأمر إليه : فوضتها إليه.
وعلى العبد أن يفوض أموره إلى ربه ( جل وعلا ) ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. والتوكل على الله والتفويض عليه لا ينافى الأسباب، فيجب على المسلم أن يأخذ بالأسباب كما جاء به الشرع الكريم، ويكون في قرارة نفسه متوكلا على الله، وهذا سيد المتوكلين ( صلوات اله وسلامه عليه ) مر عليكم في الأيام الماضية أنه مع شدة توكله على الله وثقته بالله يتسبب بالمحافظة من أعدائه بأن يدخل في غار مظلم في جبل ثور ليسن لأمته التوكل على الله والأخذ بالأسباب مع التوكل على ضوء الشرع الكريم، وها هو الحق الذي لا شك فيه، فترك الأسباب من الضلال، والاعتماد بالكلية عليها من الضلال، والحق هو أن يأخذ الإنسان بالأسباب حسب ما جاء به الشرع الكريم متوكلا قلبه على الله، مفوضا أمره إليه، عالما بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه كما قال هنا :﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ٥١ ) ﴾ [ التوبة : آية ٥١ ] وقد أوضح الله لنا في سورة الحديد أن جميع المصائب وجميع الأمور لا يصيب الإنسان منها إلا شيء كان مقدرا قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن توجد المصيبة، وربنا يقول لنا في آية الحديد الآتية ما معناه : بينت لكم أن جميع الأمور كتبتها وحسمتها عندي لتحصلوا على أمري : أحدهما : أن لا تفرحوا بشيء أتاكم فإنه آتيكم لا محالة، ولا تحزنوا على شيء فاتكم لأنه فائت لا محالة، وهذا نص عليه تعالى بقوله :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأها ﴾ أي : أن نخلقها ﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ [ الحديد : آية ٢٢ ] إنما بينا لكم هذا القدر السابق الأزلي ﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ﴾ [ الحديد : آية ٢٣ ] لا تحزنوا على شيء فاتكم فهو فائت لا محالة ؛ لأن الله كتب ذلك وقدره ﴿ ولا تفرحوا بما ءاتكم ﴾ فهو آت لا محالة. هذه الآيات القرآنية إذا تأملها المسلم وتدبر معانيها فهم عن الله، وهانت عليه أمور الدنيا فلم تعظم في قلبه، وهذا معنى قوله :﴿ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ التوبة : آية ٥١ ].
١ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام..
٢ مضى عند تفسير الآية (٤٠) من سورة الأنعام..
٣ السابق..
٤ مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾ كان المنافقون – قبحهم الله – في المدينة يدا مع الكفار واليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفشون إليهم أسراره، ويلقون الأراجيف في قلوب المؤمنين، فهم يد مع الكفار والمنافقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا كان المنافقون والكفار واليهود كأنهم طائفة واحدة ضد الإسلام والمسلمين ؛ ولذا قال هنا : أنتم أيها المنافقون المتعاونون مع إخوانكم من الكفار واليهود الذين تتربصون الدوائر بنا.
التربص في لغة العرب : الانتظار، العرب تقول : " تربص " : إذا انتظر، وتربص بالسلعة إلى وقت الغلاء : انتظر بها. وهذا معروف، وهو مشهور جدا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر ١ :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
فالتربص الانتظار. ومعنى الآية الكريمة : أنتم أيها المتربصون بنا عواقب الدهر ونوائبه راجين أن تدور علينا الدوائر فتهلكنا لا تربصون بنا إلا واحدة من اثنين كلتاهما أحسن من الأخرى. ﴿ هل تربصون ﴾ أصله :( هل تتربصون ) حذفت فيه إحدى التاءين. ( هل ) استفهام بمعنى النفي، ما تنتظرون بنا عاقبة هي إحدى الحسنيين. الحسنى : تأنيث الأحسن، وتجمع على الحسن بضم ففتح، تقول : هذه الأنثى هي الحسنى، أي : الأحسن من غيرها. وتجمعها على الحسن بضم ففتح كما هو معروف في محله. فالحسنى صيغة تفضيل. و المعنى لا تنتظرون بنا إلا إحدى خصلتين كلتاهما أحسن من غيرها :
إحداهما : أن نغلب أعداءنا و ينصرنا الله عليهم فنظفر بالنصر و الغنيمة و رضى الله ( جل و على )، و هذه الخلة لا يوجد أحسن منها، فعاقبتنا إن صارت إليها عاقبة كريمة محمودة.
والثانية : أن يقتلنا أعداؤنا فنموت فننال الشهادة، والشهادة هي أعظم فوز يناله المسلم في دار الدنيا، فهي أيضا حسنى ؛ لأنها أحسن من كل شيء. وهذه الآية الكريمة من أعظم الآيات التي تجعل المسلم يشتاق إلى الجهاد غاية الاشتياق ؛ لأنك لا تجد في الدنيا رجلا مآله إلى خير عظيم على كل التقديرات إلا المجاهد في سبيل الله ؛ لأنه إن مات نال أمنية الدنيا والآخرة، ونال الفوز والحياة الأبدية، والكرامة التي لا نظير لها، وإن نصره الله على عدوه فرجع ظافرا غانما فائزا فهذا أيضا حسن، وهذا لا يكون لأحد إلا للمجاهد في سبيل الله، فمن تأمل معنى هذه الآية الكريمة اشتاق لا محالة إلى الجهاد في سبيل الله. وقد ذكر أصحاب المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى المشركين في غزوة أحد كان جابر بن عبد الله أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام له بنات سبع، فجابر أخواته سبع، ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار عليهم أن يبقى مع البنات واحد، الابن أو الأب لئلا يموتا فتبقى الإناث لا قيم عليهن، فقال الوالد وهو عبد الله بن عمرو بن حرام ( رضي الله عنه وأرضاه ) : يا بني كل شيء أوثرك فيه على نفسي إلا الشهادة في سبيل الله، فوالله لا أوثر على نفسي بها أحدا، واستشهد يوم أحد ( رضي الله عنه ). ولا خلاف بين العلماء بأنه من الذين أنزل الله فيهم :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ( ١٦٩ ) ﴾ إلى آخر الآيات [ آل فرعون : آية ١٦٩ ] وهذا معنى قوله :﴿ قل هل تربصون بنا ﴾ [ التوبة : آية ٥٢ ] أي : ما تتربصون وتنتظرون بنا إلا واحدة من إحدى مسألتين كلتاهما أحسن من كل شيء ﴿ إلا إحدى الحسنيين ﴾ ظفر ونصر وفوز بالظفر والنصر، أو شهادة في سبيل الله. وهذا كله خير، فكل احتمال صرنا إليه هو احتمال كريم، وهو أحسن من غيره. وهذا معنى قوله :﴿ إلا إحدى الحسنيين ﴾.
﴿ ونحن نتربص بكم ﴾ ننتظر بكم خلاف ذلك : إحدى السوأيين، نحن ننتظر بكم إحدى السوأيين، كلتهما أسوأ من الأخرى : أحدهما : أن بصيبكم الله بعذاب من عنده، كأن ينزل عليكم عقوبة فيهلككم لكفركم وتمردكم وتصيرون إلى النار، أو يسلطنا عليكم ويأمرنا بقتلكم فنقتلكم كما قال في إخوانهم الكفار :﴿ قتلوهم يعذبهم اله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ( ١٤ ) ﴾ [ التوبة : آية ١٤ ] وهذا معنى قوله : عرفتم أنكم لا تتربصون بنا إلا الخير ونحن لا نتربص بكم إلا الشر إذن فتربصوا ونحن متربصون أيضا، فكلنا يصير إلى ما يتربص به الآخر إليه. وهذا معنى قوله :﴿ فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾ [ التوبة : آية ٥٢ ].
١ مضى عند تفسير الآية (٢٤) من سورة التوبة..
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ أنفقوا طوعا أو كرها ﴾ بفتح لكاف، وقرأ حمزة والكسائي :﴿ أو كرها ﴾ بضم الكاف ١.
وقرأ عامة السبعة أيضا غير حمزة والكسائي :﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم ﴾ بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي :﴿ وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم ﴾ بالياء ٢.
وهذه الآية الكريمة من الآيات النازلة في الجد بن قيس أخي بني سلمة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه إلى الخروج في غزوة تبوك واعتذر له أعذار المنافقين المتقدمة قال له : ائذن لي في القعود، وهذا مالي أعينك به، خذ مالي نفقة مني في سبيل الله واتركني أنا أتخلف ٣. فأنزل الله في إنفاقه الذي عرض على النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ يا نبي الله لهؤلاء المنافقين ﴿ أنفقوا طوعا أو كرها ﴾ أي : في حال كونكم طائعين أو كارهين لن يقبل الله منكم نفقة ؛ لأنه يعلم أنكم كفار في الباطن، وصيغة الأمر في قوله :﴿ قل أنفقوا ﴾ تقرر في الأصول ٤ أن من الصيغ التي ترد لها ( افعل ) قصد التسوية بين الأمرين، فمن أساليب اللغة أن تأتي بصيغة ( افعل ) تقصد بذلك أن تسوي بين الأمرين، المذكورين بعد ذلك، ونظيره في القرآن :﴿ فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ﴾ [ الطور : آية ١٦ ] يعني : صبركم وعدمه سواء لا ينفعكم ذلك. ﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾ [ التوبة : آية ٨٠ ] يعني : استغفارك وعدمه سواء، لا ينفع استغفارك ولا عدمه، كذلك قوله هنا : أنفقوا طائعين أو مكرهين لا ينفعكم ذلك الإنفاق ؛ لأن الله لا يقبل أعمال الكفرة. وهذا معنى قوله :﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾ [ التوبة : آية ٥٣ ] طوعا أو كرها : مصدران منكران في موضع الحال. أي : في حال كونكم طائعين أو مكرهين. وإتيان التسوية بين الأمرين بصيغة ( افعل ) معروف في كلام العرب، ذكرنا له أمثلة في القرآن العظيم، ومن أمثلته في كلام العرب قول كثير عزة ٥ :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
يعني : إن أسأت أو أحسنت إلينا فكل ذلك سواء لا يغير ودنا القديم بالنسبة إليك.
وقوله :﴿ لن يتقبل منكم ﴾ لن يقبل الله نفقتكم. قال بعض العلماء : لم يقبلها رسول الله فردها عليهم. وقال بعضهم : لا يقبلها الله، أي : لا يؤتيهم عليها أجرا ؛ لأنها لا يراد بها وجه الله.
ثم قال :﴿ إنكم كنتم قوما فسقين ﴾ أي : خارجين عن طاعة الله. والفسق في لغة العرب ٦ معناه الخروج. وفي اصطلاح الشرع ٧ : الفسق الخروج عن طاعة الله. تارة يعظم ذلك الخروج فيكون كفرا، وتارة يكون خروجا دون خروج، وفسقا دون فسق، فيكون بارتكاب كبيرة ؛ ولأجل هذا كان الفسق يطلق في القرآن على الكفر كقوله :﴿ وأما الذين فسقوا فمأوهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ﴾ [ السجدة : آية ٢٠ ] وتارة يطلق على ارتكاب المحرم الكبير كقوله :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ [ الحجرات : آية ٦ ] وقوله في القاذفين :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفسقون ﴾ [ النور : آية ٤ ].
وهذه الآية معلوم تعلق المعتزلة بها في أن السيئات تبطل الحسنات، قالوا : لأن الله صرح بأن فسقهم أبطل نفقتهم. ومن هنا زعموا أن كبائر الذنوب تبطل الأعمال. وهذا مذهب باطل لا شك في بطلانه، وهذه الآية التي تعلقوا بها بين الله ( جل وعلا ) بطلان حجتهم منها في قوله بعده – يليه – :﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم إلا أنهم كفروا ﴾
١ انظر: الإتحاف (٢/ ٩٣)..
٢ انظر: السبعة ٣١٤ – ٣١٥..
٣ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٢٩٤)، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٧ – ٢٤٨..
٤ انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٢٧)..
٥ البيت في ابن جرير (١٤/ ٢٩٣)، القرطبي (٨/ ١٦١)..
٦ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة..
٧ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة البقرة..
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم إلا أنهم كفروا ﴾ فصرح بأن المبطل للأعمال هو صريح الكفر. وهذا معنى قوله :﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم ﴾.
والضمير في قوله :﴿ أن تقبل منهم نفقتهم ﴾ منصوب في محل المفعول. أعني بقولي :( الضمير ) المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن تقبل منهم نفقتهم ﴾ المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ أن تقبل منهم نفقتهم ﴾ في محل نصب مفعول به ل ( منع ) – أي ما منعهم قبول نفقاتهم – بناء على أن ( منع ) تتعدى للمفعول الثاني بنفسها، كمنعت زيدا كذا وكذا. وهو الصحيح ١.
وأما المصدر المنسبك ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ إلا أنهم كفروا بالله ﴾ فالتحقيق فيه أنه في محل رفع، وهو فاعل ( منع ) وتقرير المعنى : ما منع قبول نفقاتهم إلا أنهم كفروا، أي : إلا كفرهم بالله. فإيضاح المعنى : ما منع قبول النفقات منهم إلا كفرهم بالله.
وقال بعض العلماء : إن فاعل ( منع ) ليس المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها، وأنه ضمير يعود إلى الله. أي : وما منع الله قبول نفقاتهم إلا أنهم كفروا، إلا لأجل أنهم كفروا. والأول هو الأظهر ٢.
وقوله :﴿ إلا لأنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ لأن المنافقين وإن كانوا يظهرون الإيمان ظاهرا فهم في باطن الأمر كفرة فجرة، فهم كافرون في باطن الأمر، والكافر لا يقبل منه صرف ولا عدل، ولا خلاف بين العلماء أن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، فلا تنفع الإنسان بعمل إلا إذا كان مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٣ أن العمل الصالح الذي يثاب به صاحبه يوم القيامة هو ما استكمل ثلاثة أمور :
الأول : منها أن يكون مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله لا يقبل أن يتقرب إليه إلا بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تقرب إليه بما لم يشرعه لم يقبله منه ﴿ أم لهم شركؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ [ الشورى : آية ٢١ ].
الثاني : أن يكون العبد فيما بينه وبين الله في نيته التي لا يعلمها إلا الله مخلصا في عمله لله ؛ لأن الله يقول :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ البينة : آية ٥ ] ﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ( ١١ ) ﴾ [ الزمر : آية ١١ ].
الثالث : هو هذا الذي نحن بصدده : أن يكون العمل مبنيا على أساس الإيمان بالله والعقيدة الصحيحة ؛ لأن العمل كالسقف، والعقيدة الصحيحة والإيمان بالله كالأساس، والسقف لا يستقيم إلا على أساس ؛ ولذا من عمل أعمالا صالحة ليست مبنية على أساس الإيمان فهي باطلة منهارة لا ينتفع بها والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ ومن يعمل من الصلحت من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ﴾ [ النساء : آية ١٢٤ ] فقيد بقوله :﴿ وهو مؤمن ﴾ وهذا لا نزاع فيه ؛ لأن كل عمل يعمله الكافر ولو كان مطابقا للشرع، والكافر مخلص فيه لله، فإن بعض الكفار يبر والديه، ويصل رحمه، ويقري الضيف، ويعين المظلوم، وينفس عن المكروب، كل ذلك يقصد به وجه الله، فهذه قرب صحيحة موافقة للشرع هو مخلص فيها لله، لا ينفعه الله بها يوم القيامة ؛ لأن الله يقول :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا ( ٢٣ ) ﴾ [ الفرقان : آية ٢٣ ] وقال ( جل وعلا ) :﴿ أولئك الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وبطل ما كانوا يعملون ( ١٦ ) ﴾ [ هود : آية ١٦ ] ﴿ أعملهم كسراب... ﴾ [ النور : آية ٣٩ ] ﴿ كرماد ﴾ [ إبراهيم : الآية ١٨ ] ونحو ذلك من الآيات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمل الكافر الصالح – كأن يبر والديه، وينفس عن المكروب، ويقري الضيف، ويعين المظلوم، ويصل الرحم – يقصد بذلك وجه الله، فمثل هذا من الأعمال الصالحة إذا فعله الكفار أثابهم الله به في دار الدنيا فأعطاهم عرض الدنيا من المال وأطعمهم وسقاهم ورزقهم العافية، ولا يكون لهم عند الله جزاء، وقد ثبت هذا المعنى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله يطعم الكافر بعمله الصالح في الدنيا، ويثيبه في الدنيا، فإذا جاء الآخرة لم يكن له عمل يجازى عليه، أما المسلم فالله يثيبه بعمله في الدنيا ويدخر له في الآخرة ٤.
والآيات الدالة على أن الكفار ينتفعون بأعمالهم في الدنيا جاءت في القرآن، كقوله :﴿ من كان يريد حرث الأخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الأخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ [ الشورى : آية ٢٠ ] وما دل عليه هذا الحديث الصحيح من أن الكافر يجازى بعمله في الدنيا ولا يجازى به في الآخرة، وما دل عليه بعض الآيات. وقال بعضهم : إن منه قوله تعالى :﴿ ووجد الله عنده فوفه حسابه ﴾ [ النور : آية ٣٩ ] قال بعض العلماء : وفاه حسابه في دار الدنيا بما رزقه على عمله الصالح من العافية. وإن كان الوجه الآخر أصح في الآية، كل هذا الذي هو إثابة الكافر من عمله في الدنيا لا شك مقيد بمشيئة الله ؛ لأن ذلك دلت عليه آية سورة بني إسرائيل، وهي قاضية على كل شيء في هذا الباب. أعني قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا ( ١٨ ) ﴾ [ الإسراء : آية ١٨ ] فقوله :﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ قيد بالمشيئة للجزاء الثابت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس. وهذا معنى قوله :﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ [ التوبة : آية ٥٤ ].
قد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٥ أن أصل مادة الكاف والفاء والراء معناها التغطية والستر، فكل شيء غطيته وسترته فقد كفرته، ومنه قيل للزراع :( كفار ) ؛ لأنهم يكفرون البذر في بطن الأرض، وقيل لليل :( كافر ) والعرب تسمي الليل كافرا ؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها بظلامه. وكفر الشيء إذا غطاه وستره، ومن هذا المعنى قول لبيد بن ربيعة في معلقته ٦ :
يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها
أي : ستر النجوم وغطاها غمام تلك الليلة. وقوله أيضا ف معلقته هذه في تسمية الليل كافرا ٧ :
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
هذا أصل معنى المادة في لغة العرب، ومنه قيل لتكفير الذنوب تكفير الذنوب ؛ لأن الله يسترها ويغطيها بحلمه حتى لا يظهر لها أثر، من ( كفرته ) إذا سترته.
والكافر يغطي أدلة التوحيد ويحاول جحدها وتغطيتها وهي كالشمس في رابعة النهار، أو يحاول تغطية نعم الله عليه بأكله رزقه وعبادته غيره.
قوله :﴿ إلا أنهم كفرا بالله ورسوله ﴾ [ التوبة : آية ٥٤ ] هو محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول بمعنى مرسل، أي : بالإنسان الذي أرسله الله ( تبارك وتعالى )، وهو نبينا. والرسول ( فعول ) بمعنى ( مفعل ) وأصله مصدر، وإتيان المصادر على وزن ( فعول ) بفتح الفاء نادر موجود في كلمات معدودة ٨ كالقبول، والولوع، والرسول بمعنى الإرسال والرسالة. والتحقيق أن أصل الرسول مصدر، والعرب تطلق الرسول وتريد المصدر الذي هو الرسالة، ومنه قول الشاعر ٩ :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول
أي : ولا أرسلتهم برسالة، وقو الآخر ١٠ :
ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني
أبلغ بني عمرو رسالة. وإنما قلنا : إن الرسول أصله مصدر لنبين بذلك أن في ذلك حلا ليعض الإشكالات في القرآن العظيم ؛ لأن الأشياء التي أصلها مصادر إذا تنوسيت فيها المصدرية واستعملت استعمال الأوصاف جاز أن يراعى فيها أصلها وهو المصدر، والعرب إذا نعتت بالمصدر التزمت الإفراد والتذكير، ومن هنا كان الرسول يجوز إفراده مرادا به الجمع أو التثنية ؛ لأن أصله مصدر ؛ ولذلك جاء مفردا في سورة الشعراء في قوله :﴿ إنا رسول رب العلمين ﴾ [ الشعراء : آية ١٦ ] نظرا إلى أصل مصدريته. وجاء مثنى في سورة طه :﴿ إنا رسولا ربك ﴾ [ طه : آية ٤٧ ] اعتدادا بالوصفية العارضة وإلغاء للمصدرية ؛ ولذلك كانت العرب تطلق الرسول وتريد به الجمع على عادتها إذا نعتت بالمصادر، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي ١١ :
ألكني إليها وخير الر سول أعلمهم بنواحي الخبر
يعني : وخير الرسل. وهذا معنى قوله :﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولا يأتون الصلوة ﴾ هي هذه الصلاة المكتوبة، أقامها الله وأدامها ﴿ إلا هم كسالى ﴾ إلا والحال هم كسالى، والكسالى جمع الكسلان : المتكاسل عنها الذي هي ثقيلة عليه ؛ لأن الله يقول :﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخشعين ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] لأن الصلاة لا تخف إلا على من يريد جزاء الله وثوابه، أما المنافقون والذين لا إيمان لهم، فهي أثقل شيء عليهم ؛ ولذا لا يأتونها إلا متكاسلين في غاية الكسل يراؤون الناس ولو كانوا بانفرادهم لا يطلع عليهم الناس لما صلوها كما تقدم في قوله تعالى في سورة النساء :﴿ وإذا قاموا إلى الصلوة قالوا كسالى يراءون الناس ﴾ [ النساء : آية ١٤٢ ] هذه حالة المنافقين – قبحهم الله -.
﴿ ولا ينفقون إلا وهم كرهون ﴾ [ التوبة : آية ٥٤ ] فقوله :﴿ ولا ينفقون إلا وهم كرهون ﴾ معناه : أن المنافقين لا يخرجون نفقة طيبة بها أنفسهم، ولا يخرجونها إلا كرها لئلا يطلع المسلمون على نفاقهم فيجروا عليهم أحكام الكفرة. وبهذا تعلم أن قوله :﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾ [ التوبة : آية ٥٣ ] أنهم كارهون على كل حال، وأن المراد بالآية تسوية جميع الحالات، الحالة الواقعة وغيرها أنهم لا فائدة لهم في ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ ولا ينفقون إلا وهم كرهون ﴾ أي : كارهون ذلك الإنفاق ؛ لأنهم لا يطلبون ما عند الله ولا يرجوه عاقبة ولا جزاء من الله، فالإنفاق في سبيل الله يعدونه مغرما ويكرهونه غاية الكره كما سيأتي في قوله :﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء ﴾ [ التوبة : آية ٩٨ ].
١ انظر: الدر المصون (٦/ ٦٦)..
٢ انظر: المصدر السابق (٦/ ٦٦)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام..
٤ مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا. حديث رقم: (٢٨٠٨) (٤/ ٢١٦٢)..
٥ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام..
٦ السابق..
٧ السابق..
٨ مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام..
٩ السابق..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٧٨) من سورة البقرة..
١١ مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام..
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كفرون ﴾ [ التوبة : آية ٥٥ ].
نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يستحسن ما أعطى للمنافقين من متاع الدنيا من الأموال والأولاد، لا يعجبك ما أعطيناهم من الأموال والأولاد فإنا أعطيناهم إياه استدراجا منا وعاقبته سيئة ووخيمة عليهم في الدنيا والآخرة، لا تستحسن ذلك ولا تعجب به ؛ ولا تمدن إليه عينيك كما قال :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( ١٣١ ) ﴾ [ طه : آية ١٣١ ] وقال :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون : الآيتان : ٥٥، ٥٦ ] ﴿ وما أموالكم ولا أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ﴾ [ سبأ : آية ٣٧ ] ﴿ وما أغنى عنه ماله وما كسب ( ٢ ) ﴾ [ المسد : آية ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات، لما بين الله في هذه الآيات من سورة براءة أن المنافقين لا حظ لهم من الله في الآخرة بين أن ما أعطاهم من زينة الحياة الدنيا من متاعها من الأموال والأولاد أيضا لا ينبغي أن يستحسن، ولا أن يعجب به ؛ لأنه تافه أعطوه استدراجا وعاقبته سيئة عليهم ﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾ [ آل عمران : آية ١٧٨ ] هذا معنى قوله :﴿ فلا تعجبك أموالهم ﴾ العرب تقول : أعجبه الشيء إذا استحسنه استحسانا يسره، فكل من استحسن الشيء استحسانا يسر به تقول العرب : أعجبه، أي : لا تستحسن ما أعطيناهم من متاع الدنيا استحسان سرور ﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولدهم إنما يريد الله ﴾ بإعطائه إياهم ليعذبهم، هذه اللام التي تأتي في القرآن بكثرة وفي كلام العرب بعد فعل الإرادة فيها خلاف للعلماء ؛ لأنه يكثر في القرآن وفي كلام العرب إتيان هذه اللام بعد فعل الإرادة كقوله :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ [ النساء : آية ٢٦ ] ﴿ يريدوا ليطفئوا نور الله ﴾ [ الصف : آية ٨ ] ونحو ذلك من الآيات، وقوله هنا :﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا ﴾ [ التوبة : آية ٥٥ ] تكثر هذه اللام بعد فعل الإرادة ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله ﴾ [ الصف : آية ٨ ] ﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ [ النساء : آية ٢٦ ] وهي موجودة في كلام العرب نحو هذا، ومنه قول الشاعر ١ :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
هذه اللام التي تأتي في القرآن وفي كلام العرب بعد فعل الإرادة اختلف العلماء في معناها، وأظهر أقوالهم فيها قولان :
أحدهما : أنها لام نادرة تأتي بمعنى ( أن )، وأنها لام مصدرية، وإن لم يكن علماء العربية عدوا حرف اللام من الموصولات الحرفية المصدرية، قالوا : فهذه اللام بمعنى ( أن ) والدليل على هذا القول تعاقب هذه اللام و ( أن ) في قوله ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله ﴾ [ الصف : آية ٨ ] ﴿ إنما يريد الله ليعذبهم ﴾ [ التوبة : آية ٥٥ ] ﴿ يريد الله أن يعذبهم ﴾ في الآية الآتية. وعلى هذا القول فاللام مصدرية بمعنى ( أن )، وهو قول يقل من يقوله من علماء العربية.
القول الثاني : أن المفعول محذوف، واللام لام تعليل لمحذوف، والمعنى على هذا القول : إنما يريد الله إعطاءهم ومتاعهم بها لأجل أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا. وهذا معنى قوله :﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها ﴾ قال بعض العلماء : الضمير عائد إلى الأموال.
وفي هذه الآية وجهان معروفان من التفسير عند العلماء ٢ : قالت جماعة من العلماء : في الآية الكريمة تقديم وتأخير، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها – أي في الآخرة – وعلى أن في الآية تقديما وتأخيرا فلا إشكال في المعنى. وهذا القول مروي عن ابن عباس ٣ وجماعة من السلف.
وقال جماعة من العلماء منهم الحسن البصري وغيره ٤ : إن الآية لا تقديم فيها ولا تأخير، وأن الله يعذب المنافقين بالأموال في الحياة الدنيا. وعلى قولهم فالضمير راجع إلى الأموال فقط دون الأولاد، ومعنى كون الله يعذبهم بأموالهم في الحياة الدنيا أن الله يفرض عليهم فيها الزكاة ويفرض عليهم فيها الحقوق الواجبة فتؤخذ قهرا رغم أنوفهم، وأعظم ما يعظم على الإنسان إذا كان يؤخذ الشيء من تحت يده وهو محب له كرها رغم أنفه لا يريد به وجه الله، وأن الله أيضا يسلط عليها المصائب والبلايا فتحزن قلوبهم وتتعذب، ولأنه يتعبهم في جمعها أولا فتأتيهم بمتاعب من جهات متعددة، منها : تعبهم ونصبهم في جمعها أولا وما ينزل بها من المصائب، وتكليفهم دفع الزكاة فيها، وإنفاقها في سبيل الله للجهاد ونحو ذلك، فهذا تعذيب لهم ؛ لأن أشد ما يؤلم المنافق أخذ ماله من تحت يده قهرا لعزة المسلمين ونصر دين الإسلام، هذا أمر يؤلم قلوبهم جدا، وكل ما يؤلم الإنسان يسمى تعذيبا له. وعلى هذا القول فلا تقديم ولا تأخير في الآية ﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا ﴾ أي : ويجمع لهم مع ذلك عذاب الآخرة ﴿ وتزهق أنفسهم ﴾ أي : يموتوا ﴿ وهم كفرون ﴾ فيتصل لهم عذاب الآخرة الذي لا ينقطع بعذاب الدنيا. وهذا معنى قوله :﴿ وتزهق أنفسهم وهم كفرون ﴾.
١ البيت لكثير عزة وهو في تاريخ دمشق (٥٠ / ٨٠)..
٢ انظر: القرطبي (٨/ ١٦٤)، البحر المحيط (٥/ ٥٤)، الدر المصون (٦/ ٦٧)..
٣ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٢٩٦) من طريق علي بن أبي طلحة..
٤ أورد هذه الروايات ابن جرير (١٤/ ١٩٦)..
وقوله :﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾ [ التوبة : آية ٥٦ ] هذه عادة المنافقين يتقون بالأيمان الكاذبة ﴿ ويحلفون ﴾ للنبي والمسلمين ﴿ بالله إنهم لمنكم ﴾ في الباطن والظاهر، والله يقول :﴿ وما هم منكم ﴾ بل هم أعداؤكم ولا عاشروكم إلا مرغمين على ذلك لا يجدون عنه مفرا، كما يأتي في الآية الآتية بعد هذا ﴿ ويحلفون ﴾ للنبي وأصحابه قائلين ﴿ إنهم لمنكم ﴾ باطنا وظاهرا، والله يقول :﴿ وما هم منكم ﴾ هم كفرة أعداء ليسوا منكم ﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ يفرقون معناه : يخافون. العرب تقول : فرق الرجل بكسر الراء يفرق بفتحها على القياس بفتحتين فهو فرق إذا كان خائفا شديد الخوف ١. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي محجن الهذلي في أبياته المشهورة ٢ :
القوم أعلم أني لساعتهم إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
الذي يرتعد إذا أراد أن يرمي يده من الفرق وهو الخوف. أي :﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ أي : يخافون منكم فيتوددون ويحلفون لكم الأيمان الكاذبة أنهم منكم في الباطن وليسوا منكم في الباطن، بل هم أعداء كفرة فجرة، هم أعدى الناس لكم كما سيأتي قريبا. وهذا معنى قوله :﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ ثم بين شدة عداوتهم لهم فقال :
١ انظر: المفردات (مادة: فرق) (٦٣٤)..
٢ البيتان لأبي محجن الثقفي. وهما في تاريخ دمشق (٦٨/ ٤٦، ٤٧) وفيه "أني من سراتهم"..
﴿ لو يجدون ملجئا ﴾ [ التوبة : آية ٥٧ ] لو كانوا يجدون ملجئا يلجؤون إليه ويعتصمون به دونكم للجؤوا إليه.
﴿ أو مغرات ﴾ المغارات جمع مغارة، والمغارة : هي الغيران في الجبال. المغارة : الغار في الجبل، وهو بفتح الميم. والتحقيق أن ألفه منقلبة عن واو ؛ لأن المغارة من غار يغور إذا انحدر في أسفل، ومنه ﴿ إن أصبح ماؤكم غورا ﴾ [ الملك : آية ٣٠ ] أي : غائرا. وكل غائر منسفل فهو غور. ومعنى مغارة : أي : غارا منسفلا في أسفله ويختفون فيه عنكم.
﴿ أو مدخلا ﴾ قراءة السبعة وجمهور القراء غيرهم :﴿ مدخلا ﴾ والمدخل أصل وزنه [ مفتعلا ] من دخل، أصله ( مدتخل ) بالتاء، أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال ١. والمدخل هو المكان الذي فيه كالسرب والنفق في باطن الأرض. أي : لو يجدون غيرانا في الجبال أو أنفاقا وسروبا في داخل الأرض يدخلون فيها، أو ملجئا يعتصمون به لولوا راجعين إليه عنكم / ﴿ وهم يجمحون ﴾ يجمحون مضارع جمع يجمح إذا أسرع في سيره إسراعا لا يرد وجهه شيء، ومنه : فرس جموح إذا كان اللجام لا يمسكه ولا يرده عن وجهته شيء، فكل مسرع في جريه لا يرده عن وجهه شيء تسميه العرب جموحا وجامحا. أي : لو وجدوا أي موضع يذهبون فيه إليكم ولا يصحبونكم لولوا إليه في غاية الإسراع لا يردهم عنه شيء، ولكنهم لا يجدون طريقا أبدا غير معاشرتكم فهم ملجؤون إليها يعاشرونك مكرهين لا مفر ولا ملجأ لهم، ولو وجدوا أي مفر للجؤوا إليه، وهذا غاية العداوة، بين الله أسرارهم وشدة عداوتهم لنبيه ليتحرز منهم ؛ لأن العدو إذا كان في ثياب صديق هو أشد الأعداء :
احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة ٢
وهذا معنى قوله :﴿ لو يجدون ملجئا أو مغرت أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ( ٥٧ ) ﴾ [ التوبة : آية ٥٧ ].
١ انظر: القرطبي (٨/ ١٦٥)، والدر المصون (٦/ ٦٨ - ٦٩)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٠٧..
٢ نسبه في قرى الضيف (٣/ ١٢٧) إلى ابن حجاج، وفي محاضرات الأدباء للراغب (٣/ ٢١) نسبه إلى علي بن عيسى..
يقول الله ( حل وعلا ) :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقت فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ( ٥٨ ) ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله رغبون ( ٥٩ ) إنما الصدقت للفقراء والمسكين والعملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغرمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( ٦٠ ) ﴾ [ التوبة : الآيات ٥٨ - ٦٠ ] ذكر كثير من أهل العلم أن هذه الآية نزلت في حرقوص بن زهير ذي الخويصرة التميمي رأس المنافقين. قالوا : وجد النبي صلى الله عليه وسلم يقسم مالا فقال : يا نبي الله اعدل فإنك لم تعدل – قبحه الله – وقصة ذي الخويصرة معروفة ثابتة في الصحيح ١، ولكن الذي يظهر أن هذه الآية ليست نازلة فيه، وإن زعم كثير من كبراء المفسرين أنها نازلة في ذي الخويصرة، وإنما قلنا إن الأظهر أنها نازلة في غيره أن المعروف أن القسمة التي قال فيها حرقوص بن زهير التميمي المعروف بذي الخويصرة أصل الخوارج – قبحه وقبحهم الله – أن ذلك في قسم النبي لغنائم حنين، قال ذلك فيه، وهذه الآية يصرح الله فيها بأنهم لمزوه في قسم الصدقات وهي الزكوات والصدقات غير الغنائم ٢، فالأظهر أن الأصوب فيها هو ما قاله ابن جريج ( رحمه الله ) وغيره أنها نزلت في رجل من الأنصار من المنافقين حضر النبي صلى الله عليه وسلم يقسم مالا من الصدقات فقال : يا نبي الله اعدل فإنك لم تعدل – قبحه الله – فنزلت هذه الآية فيه ٣.
وهذه الآيات من سورة براءة يبين الله فيها أصنافا من المنافقين يقول : ومنهم من هو كذا، ومنهم من هو كذا، كما تقدم في قوله :﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ﴾ [ التوبة : آية ٤٩ ] وقال هنا :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقت ﴾ وسيأتي قوله :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ [ التوبة : آية ٦١ ] هذه الطوائف من المنافقين تعمل قبائح مختلفة الأصناف بينها الله في هذه السورة ﴿ ومنهم ﴾ أي : من المنافقين ﴿ من يلمزك ﴾ يا نبي الله، واللمز معناه : العيب والطعن. تقول العرب : لمزه. إذا عابه وطعن فيه، ومنه قوله :﴿ يلمزون المطوعين من المؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ٧٩ ] ﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ [ الحجرات : آية ١١ ] أي : لا يعيب أحدكم أخاه ويطعن فيه ومنه ﴿ ويل لكل همزة لمزة ( ١ ) ﴾ لأن اللمزة فعلة تدل على المبالغة، أي : كثير لمز الناس، أي : عيبهم والطعن فيهم. ومن هؤلاء المنافقين صنف آخر يلمزك يا نبي الله، يطعن عليك ويعيبك في قسم الصدقات ويقولون : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، ولم يراع فيها العدل كما ينبغي.
ثم إن الله بين قبائحهم وفضحهم بأن هذا القول الذي تجرؤوا عليه ما حملهم عليه إلا الطمع والشره ومحبة شيء يعطونه في خصوص أنفسهم ؛ ولذا قال :﴿ فإن أعطوا منها رضوا ﴾ فإن أعطوا من الصدقات رضوا ذلك العطاء وسكتوا وفرحوا ﴿ وإن لم يعطوا منها ﴾ ( إذا ) حرف مفاجأة، وقد قدمنا في هذه الدروس أن ( إذا ) الفجائية فيها لعلماء العربية ثلاثة أقوال : قيل : هي حرف، وقيل : ظرف مكان، وقيل : ظرف زمان، كما هو مقرر في محله ٤. والمعنى : إذا لم يعطوا من الصدقات شيئا فاجأ ذلك سخطهم، أي : غضبهم وعدم رضاهم. فبين الله أن سخطهم ورضاهم منوطان بمصلحتهم الخاصة إذا أعطوا شيئا رضوا وفرحوا، وإذا لم يعطوا شيئا غضبوا وسخطوا. وهذه ليست حالة من يريد وجه الله ولا المصلحة العامة ؛ ولذا قال :﴿ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون يسخطون مضارع ( سخط الأمر ) بكسر الخاء ( يسخطه ) بفتحها ( سخطا ) على القياس، وسخطا إذا كرهه، وسخط الرجل بمعنى غضب، ومنه :{ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ﴾ [ المائدة : آية ٨٠ ] أي : غضب عليهم – والعياذ بالله -.
١ أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. حديث رقم: (٣٦١٠) (٦/ ٣١٧) وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث (٤٣٥١، ٦٩٣١)، ومسلم في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. حديث رقم: (١٠٦٤) (٢/ ٧٤١) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)..
٢ الذي يظهر أنهما واقعتان متشابهتان:
الأولى: في قسم غنائم حنين، وذلك في الجغرافية حيث قال له رجل: "يا محمد اعدل" كما حديث جابر (رضي الله عنه) عند البخاري (٣١٣٨) ومسلم (١٠٦٣).
الثانية: في قسم ذهيبة بعث بها علي (رضي الله عنه) من اليمن والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، فقال رجل: يا رسول الله: اتق الله... الحديث. كما في حديث أبي سعيد الذي تقدم تخريجه قريبا. وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم التصريح باسمه وهو ذو الخويصرة التميمي. وكذا في رواية ابن جرير (١٤/ ٣٠٣) والواحدي في أسباب النزول ص ٢٤٩، وفيهما أيضا التصريح بأن هذه الحادثة كانت سبب نزول الآية.
قال الحافظ في الفتح (٨/ ٦٨): "تنبيه: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين. ووهم، خلطها بها"ا. هـ.
وقال في (١٢/ ٢٩٣) "وقد ظهر أن المعترض في الموضعي واحد" ا. هـ.
.

٣ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٣٠٢) وقد رواه ابن جريج عن داود بن أبي عاصم، ولا يخفى أن هذا له حكم الإرسال..
٤ مضى عند تفسير الآية (٢٠١) من سورة الأعراف..
ثم إن الله قال :﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله ﴾ [ التوبة : آية ٥٩ ] معروف في علم العربية أن ( لو ) حرف شرط في الماضي، وأن حروف الشرط إنما تتولى الجمل الفعلية، ومعلوم أن ( أن ) في قوله :﴿ ولو أنهم رضوا ﴾ في محل مصدر، والمصدر الذي هي في محله اسم. والعلماء يجيبون عن هذا بأن متعلق ( لو ) محذوف ١ عامل في قوله :﴿ أنهم ﴾ والمعنى : ولو ثبت، أو لو وقع أنهم فعلوا كذا لكان خيرا لهم ﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ﴾ رضوا أصله :( رضيوا ) أصله ( فعل ) وأصل لامه واو ؛ لأن أصل رضي ( رضو ) بالواو ؛ لأنك تقول منها : الرضوان بالواو، ولا تقول : الرضيان بالياء. أصلها ( رضو ) بالواو فتطرفت الواو بعد كسرة فوجب إبدالها ياء، فقيل فيها ( رضي ) بالياء من الواو ٢ ومن المعروف في علم التصريف أن كل فعل ناقص – أعني معتل الآخر – إذا أسند إلى واو الجمع حذفت لامه، أصله ( رضيو ) والياء مبدلة من واو، فحذفت اللام التي هي ياء أصلها واو وجعلت كسرتها ضمة لمجانسة الواو، فلذا قيل فيه :( رضوا ) وأصل وزن الكلمة بالميزان الصرفي ( فعلوا ) ووزنها الحاضر الآن ( فعوا ) لأنها محذوفة اللام. وهذا معنى قوله :﴿ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها ﴾ شيئا ﴿ إذا هم يسخطون ﴾ ( إذا ) الفجائية تأتي جوابا للشرط كما هو معروف في محله. ثم إن الله قال :﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ﴾ لو رضوا بنصيب الله الذي قسم لهم كما يعطى لسائر المسلمين من الصدقات وغيرها ( وقالوا حسبنا الله ) حسبنا معناه : يكفينا الله ( جل وعلا ) ؛ لأن في الله خلفا من كل شيء، وكفاية من كل شيء، فمعنى ﴿ حسبنا الله ﴾ يكفينا الله ﴿ سيؤتينا الله ﴾ سيعطينا الله من فضله، أي : من فضل على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيؤتينا رسوله ما أمره الله به أن يؤتينا، لو حسنوا الظن بالله، وتوكلوا على الله، ورغبوا فيما عند الله، وقالوا : إنا إلى ربنا راغبون. أي : رغبتنا إليه، ورهبتنا إليه ؛ لأن طمعنا وأملنا كله فيه ؛ لأن المؤمن بمعناه الصحيح رغبته إلى الله ؛ لأنه يطيع الله ويتقيه ويرغب فيما عند الله ( جل وعلا ) من الخير، كما قال تعالى مادحا للأنبياء :﴿ إنهم كانوا يسرعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ﴾ [ الأنبياء : آية ٩٠ ] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ فإذا فرغت فانصب ( ٧ ) وإلى ربك فارغب ( ٨ ) ﴾ [ الشرح : الآيتان ٧، ٨ ] لأن الرغبات كلها إلى الله ( جل وعلا ) ؛ لأنه هو الذي بيده الخير، وكل شيء بيده، فرغبة المؤمن إليه ( جل وعلا ) يستنزل رحمات الله وما يرجو من الله بطاعة الله ( جل وعلا ) وتقواه. وهذا معنى قوله :﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسولهم وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ( ٥٩ ) ﴾ [ التوبة : ٥٩ ] جواب ( لو ) محذوف دل المقام عليه، والتقدير : لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم. وقد جاء في القرآن وفي كلام العرب حذف جواب ( لو ) إذا دل المقام عليه، فهو كثير في القرآن وفي كلام العرب فمن أمثلة حذف جواب ( لو ) في القرآن مع دلالة المقام عليه قوله تعالى :﴿ كلا لو تعلمون عليم اليقين ( ٥ ) ﴾ [ التكاثر : آية ٥ ] أي : لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر، ومنه قوله تعالى :﴿ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾ [ الرعد : آية ٣١ ] فجواب ( لو ) محذوف واختلف العلماء في تقديره على قولين متقاربين ٣ : قال بعضهم : تقدير جواب ( لو ) في آية الرعد هذه ﴿ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال ﴾ لكان هذا القرآن على حد قوله ٤ :
ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
وقال بعض العلماء : تقديره :﴿ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض ﴾ لكفروا بالرحمن. ويدل لهذا قوله بعده :﴿ وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو ﴾ [ الرعد : آية ٣٠ ] ومن حذف جواب ( لو ) في كلام العرب قول الشاعر ٥ :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
يعني : لو شيء أتانا رسول سواك لدفعناه. وهذا معنى قوله :﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ﴾ إلى قوله :﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾ [ التوبة : آية ٥٩ ].
١ انظر: البحر المحيط (٥/ ٥٦)، الدر المصون (٦/ ٧٢)..
٢ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ٣٨٨ – ٣٨٩..
٣ مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنفال وراجع ما تقدم عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام..
٤ السابق..
٥ مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنفال..
﴿ إنما الصدقت للفقراء والمسكين والعملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغرمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( ٦٠ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦٠ ].
لما كان من المنافقين طائفة يلمزون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسم الصدقات ويفترون عليه أنه لم يعدل في قسمها بين الله لهم أن الله تولى قسمتها وبينها وهو صلى الله عليه وسلم منفذا لما أوضحه الله ( جل وعلا ) فقال :﴿ إنما الصدقت ﴾ المراد بالصدقت هنا : زكوات المال الواجبة، فالله ( جل وعلا ) بين في هذه الآية من سورة براءة مصارف زكاة المال التي هي إحدى دعائم الإسلام الخمس، جعلها ثمانية، وهي الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، هي ثمانية، و( إنما ) : أداة حصر وإثبات، يعني : لا يثبت استحقاق الزكاة لشيء غير واحد من هذه المصارف الثمانية بإجماع العلماء.
﴿ إنما الصدقت للفقراء ﴾ الفقراء : جمع فقير، والفعيل إذا كان وصفا ينقاس جمعه جمع كثرة على ( فعلاء ) على العادة ما لم يكن معتل اللام أو مضعفا. وهذا معروف ١، كل ( فعيل ) في القرآن وفي كلام العرب بمعنى ( فاعل ) لم يكن معتل اللام ولا مضعفا ينقاس تكسيره جمع كثرة على ( فعلاء ) ككريم وكرماء، وأديب وأدباء، وشريف وشرفاء، وعليم وعلماء، وفقير وفقراء. أما إذا كان معتل اللام أو مضعفا فالقياس أن يكسر على ( أفعلاء ) فمثال معتل اللام : كتقي وأتقياء، وسخي وأسخياء، ونبي وأنبياء. وكذلك المضعف : كحبيب وأحباء، وشديد وأشداء. كما هو معلوم في محله. فالفقراء جمع فقير، وهو جمع على القياس. والمساكين : جمع مسكين كذلك.
واختلف العلماء في الفقير والمسكين أيهما أحوج وأسوأ حالا ٢ ؟ ! والقاعدة المقررة عند علماء التفسير كما قالها غير واحد من المتأخرين ويكادون يطبقون عليها : أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ومعنى هذا الكلام : أنهما إذا افترقا بأن جاء في آية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله اسم الفقير وحده، أو المسكين وحده، شملهما معا ؛ دخل الفقير في المسكين، والمسكين في الفقير ؛ لأن كونهما محتاجين يشمل كلا منهما وإن كان أحدهما أشد فقرا من الآخر، وإن اجتمعا كما نص عليهما موجودين كقوله هنا :﴿ للفقراء والمسكين ﴾ فقد اجتمعا، فيلزم إذا اجتمعا أن يفترقا، فيكون للفقير معنى خاص به، وللمسكين معنى خاص به. والحاصل أنه إذا ذكر الفقير وحده أو المسكين وحده دخل الفقير في المسكين والمسكين في الفقير، وإذا ذكرا معا في محل واحد كهذه الآية وكمن أوصى للفقراء والمساكين كان لكل منهما معنى يخصه.
والعلماء مختلفون في الفقير والمسكين أبهما أسوأ حالا ؟ فذهب جماعة من فقهاء الأمصار وأهل اللغة إلى أن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وهذا مذهب الشافعي ( رحمه الله )، ورواية قوية عن أحمد ( رحمه الله )، وبه قال جماعة من السلف، أن الفقير أحوج من المسكين. وقالت طائفة : إن المسكين أحوج من الفقير، وهو مذهب مالك وأصحابه، ومذهب أبي حنيفة ( رحمه الله ). وكل منهما يوجه قوله، أما مالك فقال : إن المسكين أحوج من الفقير لأن الله قال :﴿ أو مسكينا ذا متربة ( ١٦ ) ﴾ [ البلد : آية ١٦ ] فوصف المسكين بأنه لاصق بالتراب لا شيء عنده، والعرب تطلق الفقير على من عنده شيء لا يغنيه، فعنده بلغة ولكنها لا تغنيه، قال : ويدل لذلك قول راعي نمير وهو عربي قح ٣ :
أما الفقير الذي كانت حلوبته رفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا وعنده حلوبة قدر عياله. وأما الذين قالوا الفقير أحوج فإنهم قالوا : إن الفقير مشتق من فقرات الظهر ؛ لأن الفاقة كأنها فقرت ظهره، أي : قصمته. قالوا : المسكين : الله قال في سفينة الخضر وموسى :﴿ فكانت لمسكين يعملون في البحر ﴾ [ الكهف : آية ٨٩ ] فسمى أهلها مساكين مع أن عندهم سفينة عاملة في البحر بالإيجار، فدل على أن الفقير أسوأ حالا. وهذا خلاف بين أهل اللغة والعلماء معروف، جماعة يقولون : الفقير أسوأ حالا، وجماعة يعكسون. وهذا معنى قوله :﴿ إنما الصدقت للفقراء والمساكين والعملين عليها ﴾ [ التوبة : آية ٦٠ ] معناه : أن السهم الثاني يعطى للعاملين عليها، وهم الذين يتعبون في تحصيل الزكاة، كالجباة الذين يرسلهم الإمام ليجمعوا الزكاة من أقطار الناس ويأتون بها ويذهبون بها ليفرقونها. فالعاملون عليها كالجباة للزكاة من خارج، والمفرقين لها على الناس، فهؤلاء لهم سهم في الزكوات وهو قدر أجرتهم. وأظهر الأقوال أنه لا يتقدر فيه شيء معين إلا بقدر أجرتهم، وكل ما يعطى أحد من هؤلاء فيه خلاف كثير ٤، وأظهرها أنه كله يوكل إلى اجتهاد الإمام، ونصيب العاملين عليها يكون بقدر أجرة مثلهم بحسب ما عانوه من التعب، يعطون على قدر ذلك، سواء كانوا فقراء أو أغنياء. وهذا معنى قوله :﴿ والعملين عليها ﴾.
والسهم الثالث للمؤلفة قلوبهم، والمؤلفة قلوبهم المراد بهم قوم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم إيمان إلا أن إيمانهم ليس بقوي ولهم مكانة وشوكة إذا حسن إسلامهم اعتز بهم الإسلام والمسلمون وقويت شوكة المسلمين، أو ناس لهم شرف إذا كانوا في الإسلام تابعهم غيرهم، فالمراد أنه يكون رجالا دخلوا في الإسلام لهم مكانة وقوة وفائدة للإسلام فيهم، وإيمانهم ليس بقوي، فتجبر خواطرهم وتؤلف قلوبهم بالمال ليستحسنوا الإيمان ويتمكن الإسلام من قلوبهم فتكون في ذلك المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ومعلوم أن المؤلفة قلوبهم يقسمهم كتب الفروع إلى أقسام متعددة ٥ وقصدنا هنا أن نذكر ما يكون مصرفا للزكاة، وهو الإنسان الذي بكون في إسلامه خير للمؤمنين، والظاهر أنه لا بد أن يكون مسلما ؛ لأن الزكاة لا تدفع للكافر وهي قربة لا يستحقها إلا المسلمون، فمن قال : إنها تدفع للكافر ليسلم فالظاهر أنه خلاف الظاهر.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في زمنه نصيب المؤلفة قلوبهم، وألغى عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) نصيب المؤلفة قلوبهم، ولم يكن بعد ذلك معروفا في صدقات المسلمين وزكواتهم ٦. وهذه الفقرة دخل منها كثير من الذين ينتصرون للقوانين بشيطنة وخيفة وراء الستار، ويزعمون أن الشرع يتغير بتغير الأوضاع، قالوا : لأن النبي دفع نصيب المؤلفة قلوبهم وعمر لما رأى المصلحة لا تحتاج إلى ذلك لم يدفعه لهم ؛ ليتصلوا بذلك إلى أن الشرع تابع للمصالح، وأنه قابل للتغيير في كل وقت وزمان تبع المصالح والتطورات الراهنة، وهذا باطل ؛ لأن الشرع أنزله الحكيم الخبير العظيم الجليل العالم بكل ما كان وما يكون، فجعله شرعا خالدا إلى يوم القيامة، مسايرا لجميع التطورات، تمكن مجابهته لكل الأحداث مهما كانت، ولا إشكال في إلغاء عمر لنصيب المؤلفة قلوبهم ؛ لأن هذه الأصناف الثمانية لا يعطى منها إلا شيء موجود فإذا عدم الشيء فإنما لم يجعل له سهم لعدمه، فالإنسان إذا قطعت يده مثلا والله يقول في الوضوء :﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ﴾ [ المائدة : آية ٦ ] لا نقول : هذا لم يغسل يده لأن يده سقطت ! ! فالإسلام لما عز وتمكن من قلوب المسلمين وقويت شوكة الإسلام لم يبق هنالك مؤلف، فلما ذهب هذا الصنف ذهب نصيبه بذهابه، وقد أجمع العلماء أن كل ما ذهب من هذه الأصناف الثمانية يذهب نصيبه معه، إذا لم يوجد ابن السبيل فلا نصيب لابن السبيل، فكل ما ذهب منها ذهب نصيبه معه، فعدم إعطاء عمر نصيب المؤلفة نظرا لعدم وجود المؤلفة الكلية ؛ لأن الإسلام قوي وتمكنت شوكته وصار لا تأليف لأحد. وهذا معنى قوله :﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾.
وعلى كل حال فالتحقيق في هذه المسألة أن حكم المؤلفة قلوبهم باق إذا وجدوا وكان رجال لهم مكانتهم وقوتهم في دين الإسلام، والإسلام محتاج إليهم، والمسلمون محتاجون إليهم، فإنهم يرجع نصيبهم لتألفهم للمصلحة العامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآن العظيم، وإن كان لا تأليف هنالك، ولا حاجة ولا ضعف في الإسلام ولا ضعف في الإيمان، بل المسلون في قوة ونشاط وفي عزة وقوة ومنعة فالمؤلفة غير موجودين فيسقط نصيبهم لعدمهم، وكذلك هذه الأصناف الثمانية كل ما عدم منها سقط نصيبه معه.
واعلم أن العلماء مختلفون في هذه الأصناف الثمانية هل يجب أن تكون الزكاة موزعة بينها ثمانية أجزاء ولا يجوز أن يحرم واحد منها، أو يجوز أن تعطى الزكاة لواحد منها، أو لاثنين، أو ثلاثة دون تعميم الآخرين ٧ ؟ هذا خلاف معروف بين العلماء، فذهبت جماعة من العلماء منهم مالك وأبو حنيفة ( رحمه الله ) وجماعة كثيرة من فقهاء الأمصار إلى أنه لا يلزم تعميم هذا الأصناف، بل يجوز أن تعطى الزكاة لصنف واحد منها، وأن كل ذلك موكول إلى نظر الإمام يرى الأصلح فالأصلح فيؤثر أفقرها وأحوجها وأشدها مصلحة للعامة. هذا قول مالك وأبي حنيفة وجماعة كثير من العلماء، قالوا : والآية إنما بينت المصارف الذي لا يجوز أن تتعدى بها الزكاة إلى غيرها وصنف واحد منها يكفي. وكان بعض علماء المالكية يقول : أكبر دليل على عدم وجوب تعميم الأصناف أنا لو أعطينا الفقراء جزءا فإنا لا يقول أحد أننا نعمم جميع الفقراء، وإذا أعطينا المساكين جزءا فلا يمكننا أن نعمم جميع المساكين، فإذا كان الصنف الواحد لا يمكن تعميمه فلا يلزم تعميم الأصناف جميعها ؛ لأنا لو مشينا مع تعميم لزمنا أن نعمم نصيب الفقراء على جميع الفقراء ولا نترك فقيرا واحدا، ونصيب المساكين على جميع المساكين ولا نترك مسكينا واحدا. والحاصل أن هذا خلاف قديم اختلفت فيه أنظار العلماء، فمنهم من يقول : إن المراد ب ﴿ إنما الصدقت للفقراء ﴾ أنها لام التمليك، واستدلوا بحديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لم يكل قسمها إلى نبي وإنما جزأها ثمانية أجزاء، قالوا : واللام للتمليك، فهي شركة بين هؤلاء الثمانية، ومن حرم واحدا من هؤلاء الثمانية فقد ضمن له نصيبه ؛ لأنه حرمه ما أعطاه الله إياه.
وقالت جماعة من العلماء : المراد بالآية : أن هذه هي المصارف الذي لا يجوز تعديها إلى غيرها، ولم يلزم تعميمها، بل يوكل إلى نظر الإمام، فما رآه الإمام أحسن للمصلحة العامة فعله للمسلمين، فلو اقتضى نظره أن يصرفها لواحد من هذه الثمانية دون غيرها لفعل. هذا ملخص كلام العلماء في هذا الموضوع.
وقوله :﴿ والغرمين ﴾ الغارمون معناه : أصحاب الديون الذين يطلبون بالدين، والغارمون فيهم تفصيل ٨ : منهم من يكون غارما لمصلحة عامة للمسلمين، كالذي يجد بعض القبائل بينها شحناء وفتن وستقع بينها قتلى وبلايا ثم يتحمل الديات ويكون غارما لتلك الديات للمصلحة العامة، فمثل هذا النوع لم يختلف العلماء في أنه يعطى من زكاة المسلمين ويغرم عنه ما تحمل للمصلحة العامة للمسلمين من زكوات المسلمين ولو كان غنيا. وبعضهم يقول : لا يعطى عنه إلا إذا كان فقيرا. وأما إذا كان الإنسان تحمل الديون في خاصة نفسه، كالذي يتحمل لينفق [ على ] ٩ أهله وأولاده، وينفق في تجارته ثم يخسر، ونحو ذلك من الأمور فأكثر العلماء على أن هذا إذا كان لم يستدن في سرف، ولم يستدن في معصية، ولم يبذر المال في الم
١ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف..
٢ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنفال..
٣ السابق..
٤ انظر: ابن جرير (١٤/ ٣١١)، القرطبي (٨/ ١٧٧)..
٥ انظر: ابن كثير (٢/ ٣٦٥)..
٦ انظر: ابن جرير (١٤/ ٣١٥)، القرطبي (٨/ ١٨١)، ابن كثير (٢/ ٣٦٥)..
٧ انظر: ابن جرير (١٤/ ٣٢٢)، القرطبي (٨/ ١٦٧)، المغني (٤/ ١٢٧)..
٨ انظر: ابن جرير (١٤/ ٣١٧)، القرطبي (٨/ ١٨٣)، ابن كثير (٢/ ٣٦٥)..
٩ ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( ٦١ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦٤ ].
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع :﴿ يؤذون النبي ﴾ بياء مشددة، وقرأه نافع وحده :﴿ يؤذون النبيء ﴾ بهمزة ١. وأبدل ورش ومن وافقه همزة ﴿ يؤذون ﴾ فقرأ " :﴿ يوذون ﴾ وقرأ عامة السبعة غير نافع وحده :﴿ ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم ﴾ بضم الذال في الحرفين، وقرأه نافع وحده :﴿ أذن ﴾ بسكون الذال ٢.
وقرأ عامة السبعة غير الكسائي :﴿ ورحمة ﴾ بالرفع، وقرأ الكسائي وحده ﴿ ورحمة ﴾ بالخفض ٣.
فعلى قراءة الجمهور فهو عطف على المضاف في قوله :( أذن خير لكم ورحمة ) وعلى قراءة الكسائي ٤ فهو عطف على المضاف إليه. أي :( أذن خير ورحمة لكم ) ٥.
وقوله :﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ هذا صنف آخر من أصناف المنافقين ؛ لأن الله بين في هذه الآية أصناف المنافقين، قال :﴿ ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني ﴾ [ التوبة : آية ٤٩ ] ﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقت ﴾ [ التوبة : آية ٥٨ ] ﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾ [ التوبة : آية ٦١ ] كان في المنافقين طائفة يبسطون ألسنتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام السيء فيعيبونه ويقولون فيه ما لا ينبغي، وهذا هو قوله :﴿ ومنهم الذين يؤذون الني ﴾ [ التوبة : آية ٦١ ] أي : ومن المنافقين الطائفة الذين يؤذون النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بالاستطالة في عرضه.
﴿ ويقولون هو أذن ﴾ معنى هذا أنه إذا قيل لهم : كيف تقدحون في نبي الله صلى الله عليه وسلم وتعيبونه وهو إن علم بذلك فعل بكم وفعل بكم ؟ فيقولون : لا يهمنا ذلك ؛ لأنه أذن ! ! العرب تقول : فلان أذن : وأذن بالسكون لغة فيه، إذا كان يسمع من كل من جاءه، فإذا كان الرجل كلما جاءه أحد وأخبره سمع منه وصدقه قالت العرب : هذا الرجل أذن. يعنون : هو كلما جاءه أحد بخبر صدقه، ونحن إذا قيل عنا إننا آذيناه جئناه وكذبنا له وحلفنا له فيصدقنا، فنحن نؤذيه ولا تضرنا عاقبة ذلك ؛ لأن مآلنا أن نكذب الحديث ونحلف له عليه، وهو أذن يصدق كل من جاءه بخبر، فيصدقنا ولا ينشأ لنا من ذلك سوء. وهذا معنى قوله :﴿ يؤدون الني ويقولون هو أذن ﴾ لما عابوا النبي صلى الله عليه وسلم آذوه وعابوه بأنه أذن في زعمهم الباطل – قبحهم الله – يعنون : يسمع من كل من حدثه، بين الله أنه أذن ولكنه أذن خير خاصة، لا أذن شر، فإذا جاءه الناس بالخير وبالحق صدقهم في الخير والشر، أما الباطل فليس بأذن فيه ولا بمصدق أحدا فيه، ولا ينفعكم اعتذاركم الباطل. وهذا معنى قوله :﴿ قل أذن خير لكم ﴾ هو أذن خير لكم، أي : يسمع – هو سامع – ولكنه سامع خير، سامع من كل من جاءه بخير وبحق لا من كل من جاءه بشر وببطال مثلكم فليس بأذن له. وهذا معنى قوله :﴿ قل أذن خير لكم يؤمن بالله ﴾ يصدق بالله ( جل وعلا ) التصديق الكامل من الجهات الثلاث، يؤمن بالله تصديقا صحيحا من قلبه ولسانه وجوارحه ( صلوات الله وسلامه عليه ) ﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾ يصدق المؤمنين العدول الأتقياء إذا جاؤوه بمقالة، أما الكفرة الكذبة أمثالكم فلا يصدقهم.
وجرت العادة باستقراء القرآن أن الله تبارك وتعالى إذا كان الإيمان بالله عداه بالباء، كأن يقول :﴿ ءامنوا بالله ﴾ [ الحجرات : آية ١٥، النساء : آية ١٣٦ ] ﴿ يؤمنون بالله ﴾ [ آل عمران : آية ١١٤ ] وإذا كان الإيمان معناه تصديق مخلوق فإنه يعديه باللام دائما ؛ ولذا قال هنا :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ معناه : ويصدق المؤمنين. ولا يكاد هذا التصديق المتعلق الآدميين يوجد في القرآن إلا مجرورا باللام، كقوله :﴿ فئامن له لوط ﴾ [ العنكبوت : آية ٢٦ ] [ وما أنت بمؤمن لنا ] [ يوسف : آية ١٧ ] وقوله هنا :﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾ أي : ويصدق المؤمنين الأتقياء في الخير الذي جاءه به، ولكن ليس بأذن للكفرة الفجرة أمثالكم. فقوله :﴿ ورحمة للذين ءامنوا منكم ﴾ على قراءة الجمهور هو أذن خير، وهو أيضا رحمة للمؤمنين، وقد أرسله الله رحمة للعالمين.
وفي هذه الآية سؤال معروف ؛ لأن طالب العلم يقول : الله قال في آية براءة هذه :﴿ ورحمة للذين ءامنوا ﴾ فقيد كونه رحمة للذين آمنوا، وفي سورة الأنبياء قال :﴿ وما أرسلنك إلا رحمة للعلمين ( ١٠٧ ) ﴾ [ الأنبياء : آية ١٠٧ ] فلم يقيد كونه رحمة بالإيمان، بل قال لجميع العالمين، وهذا وجه السؤال.
والجواب عنه : أن الله ( جل وعلا ) أرسله ( صلوات الله وسلامه عليه ) رحمة لجميع الخلائق، إلا أن بعضهم قبل من الله التفضل بتلك الرحمة فحازها، فخص في قوله :﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ وبعضهم لم يقبلها ولم يحزها، ولا ينافي ذلك أن الله أعطاه تلك الرحمة إلا أنه لم يقبلها ولم يحزها. وضرب العلماء لهذا مثلا قالوا : لو أن سلطان البلد مثلا – ولله المثل الأعلى – أرسل لجميع سكان البلد إنعاما كثيرا كأن أجرى لهم المياه تأتيهم، وأجرى عليهم الأرزاق والنعم، وبعضهم امتنع أن يأخذ، وبعضهم أخذ فلا ينافي أنه أنعم على الجميع. فالله أرسله رحمة للعالمين، بعض الناس قبل من الله فضله وبعضهم لم يقبل فضله، ولا ينافي ذلك أنه تفضل عليه ببعثه ( صلوات الله وسلامه عليه ).
وأما على قراءة حمزة الذي قرأ :﴿ ورحمة ﴾ بالخفض – هو حمزة لا الكسائي ٦ – أما على قراءة حمزة ﴿ ورحمة للذين آمنوا ﴾ هو أذن خير ورحمة. معطوف على الخير ؛ لأن الله ( جل وعلا ) جعل فيه الخير والرحمة فإذا كان سامعا من أحد فهو سماع لا يقود إلا إلى خير من خير ورحمة لا سماع شر. ولا يخفى ما في قراءة حمزة من عدم ظهور المعنى، وظهور المعنى على قراءة الجمهور. وهذا معنى قوله :﴿ قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم ﴾.
﴿ والذين يؤذون رسول الله ﴾ بالاستطالة في عرضه بكلام السوء ﴿ لهم عذاب أليم ﴾ من الله ( جل وعل )، وقد بين في الأحزاب أن ذلك العذاب مصحوب باللعنة أيضا في قوله :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله ﴾ إلى آخر الآية :[ الأحزاب : آية ٥٧ ]. وهذا معنى قوله :﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾.
١ مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام، وانظر: الإتحاف (٢/ ٩٤)..
٢ انظر: السبعة ص ٣١٥، المبسوط لابن مهران ص ٢٢٧..
٣ قراءة الخفض إنما هي لحمزة وليست لكسائي. انظر: السبعة ص ٣١٥، المبسوط لابن مهران ص ٢٢٧، وقد استدرك الشيخ ذلك فنبه على الصواب كما سيأتي قريبا..
٤ الصواب: حمزة كما سبق..
٥ انظر حجة القراءات ص ٣٢٠، الدر المصون (٦/ ٧٤)..
٦ سبق التنبيه على ذلك قريبا..
ثم قال تعالى :﴿ يحلفون بالله لكم ليؤضوكم والله ورسوله أحق أن يرضون إن كانوا مؤمنين ( ٦٢ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦٣ ] قال بعض العلماء : كانت جماعة من المنافقين ومعهم غلام من الأنصار يسمى عامر بن قيس، فقال بعض المنافقين لبعض : والله إن كان ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم حقا لنحن شر من الحمير، فغضب ذلك الغلام وقال : أتشكون في حق ما يقوله : والله إن ما يقوله لحق، وإنكم لشر من الحمير، ثم نما الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألهم : ما حملكم على أن تقولوا ما قلتم، حلفوا بالله ما قلناه، قال من روى هذه القصة في سبب هذا النزل : وكان ذلك الغلام الأنصاري يدعو الله ويقول : اللهم بين المحق منا من الكاذب، فأنزل الله هذه الآية من سورة براءة تصديقا لذلك الرجل وتكذيبا لأولئك المنافقين ١ ﴿ يحلفون بالله لكم ﴾ أنما قيل عنا لكذب، ولا نقول إلا خيرا، ولا نظهر إلا الخير ﴿ ليرضوكم ﴾ بذلك ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ في باطن الأمر، ولم يكونوا منافقين، ولم يقعوا في نبيه صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي.
وقد رد الضمير هنا على الرسول وحده قال :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ من أن يعيبوه. قال بعض العلماء ٢ : إنما اكتفى بالضمير الواحد لأن إرضاء الله إرضاء رسوله، وإرضاء الرسول إرضاء الله ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ [ النساء : آية ٨٠ ] فلما تلازما صارا كأنهما شيء واحد.
وذهب غير واحد من علماء العربية وعلماء التفسير ٣ إلى أن رجوع الضمير على أحد المتعاطفين اكتفاء به لأن الآخر مفهوم منه أسلوب عربي معروف كثير في القرآن العظيم وفي كلام العرب وهو كثير، أن العرب ربما حذفت بعض الأمرين واستغنت عنه بالآخر، سواء كان في ضمير أو غير ضمير، فمن أمثلته في غير الضمير قول قيس بن الخطيم ٤ :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فحذف " راضون " لدلالة " راض " عليها وقد أنشد هذا لهذا المعنى سيبويه في كتابه، وأنشد سيبويه لهذا المعنى أيضا قول عمرو بن أحمر الباهلي ٥ :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
أي : كنت بريئا وكان والدي بريئا، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وأنشد له سيبويه في كتابه أيضا : قول ضابئ بن الحارث البرجمي ٦ :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيارا بهما لغريب
فإني لغريب وقيار لغريب. هذا من أمثلته في غير الضمير، وأمثلة حذف أحد الضميرين اكتفاء عنه بالآخر كثيرة في كلام العرب وفي القرآن العظيم، فمن أمثلتها في القرآن في المتعاطفات بالواو كما هنا : قوله :﴿ يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقوها ﴾ [ التوبة : آية ٣٤ ] ﴿ واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها ﴾ [ البقرة : آية ٤٥ ] ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ ﴿ أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ ﴿ الأنفال : آية ٢٠ ﴾ وأمثال ذلك كثيرة في القرآن. ومن أمثلته في كلام العرب قول نابغة ذبيان وهو شاهده المشهور ٧ :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
يعني : لم يهمما. فرد الضمير على واحد من العيش أو الدهر ؛ لأن الآخر مفهوم منه، ومنه قول حسان رضي الله عنه ٨ :
إن شرخ الشباب والشعر الأ سود ما لم يعاص كان جنونا
فلم يقل : ما لم يعصيا. وهو كثير.
وأما في المعطوف ب ( أو ) فالقياس أن يرجع الضمير بالإفراد ؛ لأن الضمير في المتعاطفات ب ( أو ) يرجع إلى الأحد الدائر بينها، وهو القياس كقوله :﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به ﴾ [ النساء : آية ١١٢ ] وقد رده إلى أحدهما بعينه تعالى في قوله :﴿ وإذا ٩ [ رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ ] [ الجمعة : آية ١١ ].
وقد يرجع إلى أحدهما في المتعاطفات بالفاء، ومن أمثلة رجوعه إلى أحدهما في المتعاطفين بالفاء قول امرئ القيس في معلقته ١٠ :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمال
فرده لإحداهما. وعلى كل حال فالمعنى : يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، ولكنهم لم يكونوا مؤمنين – قبحهم الله-. وهذا معنى قوله :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ﴾ [ التوبة : آية ٦٢ ].
١ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٣٢٩) وابن أبي حاتم (٦/ ١٨٢٨) عن قتادة مرسلا، وليس فيه تسمية الذي نقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزاه في الدر (٣/ ٢٥٣) لابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقد ساق رواية عند ابن أبي حاتم عن السدي مرسلا وفيها تسمية الأنصاري. وفي المطبوع من ابن أبي حاتم رواية عن السدي تتعلق بتفسير الآية لكن لا علاقة لها بسبب النزول أو تسمية الأنصاري..

٢ انظر: القرطبي (٨/ ١٩٤)، الدر المصون (٦/ ٧٥)..
٣ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة..
٤ البيت في الكتاب لسيبويه (١/ ٧٥)..
٥ السابق..
٦ الكتاب (١/ ٧٥)..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة..
٨ السابق..
٩ في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وقد أثبت تمام الآية وجعلت ذلك بين معقوفين..
١٠ ديوانه ص ١١٠..
﴿ ألم يعلمون أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خلدا فيها ذلك الخزي العظيم ( ٦٣ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦٣ ].
قدمنا في هذه الدروس مرارا ١ أن كل فعل مضارع مجزوم ب ( لم ) إذا تقدمتها همزة استفهام بأن قيل فيه ( ألم ) كل فعل مضارع مسبوق ب ( ألم ) فيه لعلماء التفسير وجهان في جميع القرآن :
أحدهما : أن تصير مضارعته ماضوية، ويصير نفيه إثباتا، فأصله مضارع منفي ب ( لم ) فتصير حقيقة معناه أنه ماض مثبت فتنقلب المضارعة ماضوية، وينقلب النفي إثباتا، وهذا مطرد كقوله :﴿ ألم يعلموا ﴾ معناه : علموا أن من حاد الله ﴿ ألم نجعل له عينين ( ٨ ) ﴾ [ البلد : آية ٨ ] جعلنا له عينين ﴿ ألم نشرح لك صدرك ( ١ ) ﴾ [ الشرح : آية ١ ] شرحنا لك صدرك. فإن قيل : بأي وجه انقلبت المضارعة ماضوية، وانقلب النفي إثباتا، مع أن النفي والإثبات نقيضان ؟ فالجواب : أن انقلاب المضارعة ماضوية أمر واضح لا إشكال فيه ؛ لأن ( لم ) حرف قلب، تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى الماضي، وهذا أمر معروف لا نزاع فيه ولا إشكال، أما انقلاب النفي إثباتا فوجهه أن همزة الاستفهام التي قبل حرف ( لم ) هي استفهام إنكار، والإنكار مضمن معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن في الهمزة على النفي الصريح في ( لم ) فينفيه، ونفي النفي إثبات. هذا وج من قال هذا القول.
القول الثاني : أن كل فعل مضارع مسبوق ب ( ألم ) في جميع القرآن هو استفهام تقرير، والمراد باستفهام التقرير هو حمل المخاطب على أن يقر فيقول : بلى، وليس المراد منه طلب فهم ألبتة. فالمراد بهذا على هذا القول أن يقولوا : بلى نعلم أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ﴿ أنه من يحادد الله ﴾ إنما فك الإدغام هاهنا أن الفعل مجزوم، ومعلوم أن المضعف إذا جزم أو صار أمرا جاز فيه الإدغام وفك الإدغام كما هو معروف في محله. ومعنى قوله :﴿ من يحادد الله ﴾ أي : يشاق الله ويخالفه ويعاصيه وأصل المحادة : من الحد، لأن المحاد يكون في الحد الذي ليس فيه من حاده، تقول : تقول زيد محاد لعمرو. أي : مشاق له ومعاد له ومعاند ؛ لأنه في الحد الذي ليس فيه، فهذا في الحد الذي ليس فيه هذا وذلك بعكس ذلك أيضا. وهذا معنى معروف في كلام العرب، وأعظم محاداة لله هي إيذاء نبيه صلى الله عليه وسلم والتجرؤ على ذلك بالأيمان الباطلة الكاذبة.
﴿ فأن له نار جهنم ﴾ إذا كانت ( أن ) مثلا في جزاء الشرط بعد فاء جاز فيها الفتح كما هنا وجاز فيها الخفض أيضا، وهما لغتان عربيتان. وقراءة الجمهور منهم السبعة هنا :﴿ فأن له ﴾ بفتح الهمزة، ولو كسرت لجاز لغة لا قراءة ؛ لأن القراءة الصحيحة بعكسه ﴿ فأن له نار جهنم ﴾ أضاف النار إلى جهنم لأن جهنم طبقة من طبقاتها.
﴿ خلدا فيها ﴾ في حال كونه خالدا فيها، وهي حال مقدرة كما هو معلوم.
﴿ ذلك الخزي العظيم ﴾ أي : الخلود في النار – عياذا بالله – بسبب محاداة الله ومشاقته، والخزي العظيم أي : الذل الأكبر والهوان الأعظم. فالخزي في لغة العرب : غاية الذل والهوان والانسفال. وقد صرح الله ( جل وعلا ) بأن من حاد الله في غاية الذل والمهانة والسفالة كما قال تعالى :﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ( ٢٠ ) ﴾ [ المجادلة : آية ٢٠ ] فقوله :﴿ أولئك في الأذلين ﴾ يبين أن الخزي هنا – عياذا بالله – يتضمن أعلى الذل والحقار والصغار، وقال تعالى :﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم ﴾ [ المجدلة : آية ٥ ] وذلك الكبت ملتزم لأصناف الذل والمهانة والله ( جل وعلا ) يقول :﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ [ آل عمران : آية ١٩٢ ] أي : أذللته وأهنته – والعياذ بالله أجارنا الله منها وإخواننا المسلمين – وهذا معنى قوله :﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله ﴾ الضمير ضمير الشأن، والجملة هي اسم ( أن )، و ( أن ) الثانية فيها للعلماء أوجه ٢متعددة أصحها وأقربها للصواب أنها هي ( أن ) الأولى كررت لما طال الفصل بينهما، وتكرير ( أن ) إذا طال الفصل أسلوب عربي معروف كثير في كلام العرب، ومنه هذه الآية على الصحيح. ﴿ فأن له نار جهنم ﴾.
﴿ خلدين فيها ﴾ الخلود معناه : المكث الطويل والمراد بخلود أهل النار خلود لا انقطاع فيه ألبتة ؛ لأن الله يقول :﴿ كلما خبت زدنهم سعيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٧ ] فليس للنار خبوة نهائية ليس بعدها زيادة سعير، وقد قدمنا في هذه الدروس ٣ أن جماعة من العلماء زعموا أن النار تفنى، وأنهم يخرجون منها، واستدلوا بقوله :﴿ لبثين فيها أحقابا ( ٢٣ ) ﴾ [ النبأ : آية ٢٣ ] وبقوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ في سورة هود [ هود : آية ١٠٧ ] وبقوله :﴿ قال النار مثوكم خلدين فيها إلا ما شاء الله ﴾ [ الأنعام : آية ١٢٨ ] وبينا مرارا أن التحقيق في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار أنه خلود أبدي لا انقطاع له أبدا لا يزول ولا يحول فهو باق بقاء سرمديا لا انقطاع له، أما خلود أهل الجنة فقد صرح الله به في آيات من كتابه كقوله :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ [ هود : آية ١٠٨ ] ﴿ إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ ( ٥٤ ) ﴾ [ ص : آية ٥٤ ] وقوله :( جل وعلا ) :﴿ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ﴾ [ النحل : آية ٩٦ ] إلى غير ذلك من الآيات، وأما خلود أهل النار فجاءت فيه آيات كثيرة كقوله :﴿ لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ [ فاطر : آية ٣٦ ] ﴿ فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ [ طه : آية ٧٤ ] ﴿ ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ [ فاطر : آية ٣٦ ] ﴿ كلما خبت زدنهم سعيرا ﴾ [ الإسراء : آية ٩٧ ] والحاصل أن من قال من السلف : " إن النار تفنى ويبقى محلها لا أحد فيها " يجب حملها كما صرح به البغوي في تفسيره ٤ على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين ؛ لأن الله يخرجهم بعد أن تطرهم النار فيؤولون إلى الجنة فتبقى طبقتهم التي كانوا فيها خاوية، أما الكفار فهم باقون معذبون لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب ولا تفنى النار عنهم، وقد نفى الله فناءها بقوله :﴿ كلما خبت زدنهم سعيرا ﴾ فمن يدعي أن لها خبوة نهائية ليس بعدها زيادة سعير رد عليه بهذه الآية الكريمة، وكذلك لا يخرجون منها ؛ لأن الله يقول :﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ﴾ [ السجدة : آية ٢٠ ] ﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ﴾ [ الحج : آية ٢٢ ] ﴿ وما هم بخرجين من النار ﴾ [ البقرة : آية ١٦٧ ] ﴿ وما هم بخرجين منها ﴾ [ المائدة : الآية ٣٧ ] وكذلك لا يموتون فيها كما قال :﴿ عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ [ فاطر : آية ٣٦ ] إلى غير ذلك من الآيات كما أوضحناه في هذه الدروس.
٥ [ أما آية النبأ، وهي قوله :﴿ لبثين فيها أحقابا ( ٢٣ ) ﴾ [ النبأ : آية ٢٣ ] فقد بينتها غاية البيان آية سورة ص، وإيضاح ذلك أن المعنى :﴿ لبثين فيها ﴾ أي : في النار ﴿ أحقابا ﴾ في حال كونهم في تلك الأحقاب ﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ( ٢٤ ) إلا حميما وغساقا ( ٢٥ ) ﴾ [ النبأ : الآيتان ٢٤، ٢٥ ] فإذا انقضت أحقاب ] الحميم والغساق، عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب لا نهاية لها ولا يعلمها إلا الله. وإنما قلنا : إن هذه الأحقاب، مختصة بأحقاب الحميم والغساق لأن الله بين ذلك وصرح به في سورة ( ص ) وخير ما يفسر به القرآن القرآن، أن الله يقول في ( ص ) :﴿ هذا وإن للطغين لشر مئاب ( ٥٥ ) جهنم يصلونها فبئس المهاد ( ٥٦ ) هذا فليذوقوه حميم وغساق ( ٥٧ ) وءاخر من شكله أزواج ( ٥٨ ) ﴾ [ ص : الآيات ٥٥- ٥٨ ] فبين أن هنالك أصنافا أخر وأشكالا من أنواع العذاب غير الحميم والغساق. فبينت آية ( ص ) هذه آية النبأ، بيانا واضحا وخير ما يفسر به القرآن القرن.
وذكرنا ٦ أن بعض الملحدين يقول : أن الإنصاف والحكمة في أن تكون أيام المعصية في دار الدنيا وأيام الكفر مدة محدودة والجزاء في مدة لا تنقضي، فأين العدل والميزان، في عمل في مدة معينة مع جزاء في مدد لا تنقضي ولا تنتهي ؟ !
والجواب عن هذا : أن خبث الكافر عذب بسببه هو باق دائم لا يزول في جميع المدد، فكان العذاب دائما لا يزول، لأن سببه باق لا يزول، والدليل على أن خبث الكفار باق لا يزول أبدا فكان جزاؤه دائما لا يزول أبدا لأنهم لما رأوا النار وعاينوا الحقائق يوم القيامة وندموا على تكذيب الرسل فتمنوا الرد إلى الدنيا ليتوبوا ﴿ فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بئايت ربنا ونكون من المؤمنين ﴾ [ الأنعام : آية ٢٧ ] قال الله فيهم :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ [ الأنعام : آية ٢٨ ] فصرح ( جل وعلا ) بأنهم لو ردوا إلى الدنيا بعد معاينة النار والعذاب وبلايا القيامة لعادوا لما نهوا عنه.
وهو تصريح بأن خبثهم الطبيعي منطبع فيهم دائم لا يزول، فلذلك كان جزاؤه دائما لا يزول. والجزاء بحسب العمل ؛ ولذا قال تعالى :﴿ جزاء وفاقا ( ٢٦ ) ﴾ [ النبأ : آية ٢٦ ] موافقا لأعمالهم فخبثهم لا يزول وجزاؤهم لا يزول، وقد قال تعالى :﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ﴾ [ الأنفال : آية ٢٣ ] ف ( خيرا ) نكرة في ٧ سياق الشرط وهي تعم، فعرفنا أن الله لم يعلم فيهم خيرا ما في وقت ما كائنا ما كان، ولما كان الخير منتف عنهم أبدا والشر ملازم لهم أبدا، كان جزاؤهم لازما أبدا. وهذا معنى قوله :﴿ فأن له نار جهنم خلدا فيها ذلك ﴾ [ التوبة : آية ٦٣ ] – والعياذ بالله – ﴿ الخزي العظيم ﴾ الهوان والخزي الكبير. والعظيم صفة مشبهة من عظم الشيء يعظم فهو عظيم، وهو معنى معروف لا خفاء به.
١ مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام..
٢ انظر: ابن جرير (١٤/ ٣٣٠)، القرطبي (٨/ ١٩٤)، الدر المصون (٦/ ٧٧)..
٣ مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام، والآية (٣٦) من سورة الأعراف..
٤ تفسير البغوي (٢/ ٤٠٣)..
٥ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) على هذه المسألة عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأعراف. وجعلت ذلك بين معقوفين..
٦ راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام..
٧ السابق..
يقول الله ( جل وعلا ) :﴿ { يحذر المنفقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ( ٦٤ ) ﴾ [ التوبة : آية ٦٤ ].
قرأ هذا الحرف عامة القراء، غير ابن كثير وأبي عمرو :﴿ أن تنزل عليهم سورة ﴾ بفتح النون وتشديد الزاي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ أن تنزل عليهم سورة ﴾ ومعنى القراءتين واحد، فالله ( جل وعلا ) في هذه السورة الكريمة يفضح ما تنطوي عليه ضمائر المنافقين، فبين لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في غاية الخوف والقلق والحذر من أن ينزل الله على نبيه قرآنا يكشف به أسرارهم، ويوضح ما تنطوي عليه ضمائرهم من الكفر والسوء فقال :﴿ يحذر المنفقون ﴾ مضارع حذر الأمر يحذره إذا كان يخاف وقوعه خوفا شديدا.
قوله :﴿ أن تنزل عليهم سورة ﴾ التحقيق أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في محل نصب مفعول به ليحذر ١ ؛ لأنه ( يحذر ) تتعدى بنفسها دون حرف، وأنشد سيبويه لتعدي ( حذر ) بنفسها قوله الشاعر ٢ :
حذرا أمورا لا تضير وآمن وما ليس ينجيه من الأقدار
فقوله : " أمورا " مفعولا به ل ( حذر ) وهو الوصف من حذر يحذر فهو حذر ﴿ أن تنزل ﴾ يعني : يحذر المنافقون تنزيل من الله عليهم. أي : على النبي وأصحابه تفضح المنافقين، وقال بعض العلماء :﴿ عليهم ﴾ أي : على المنافقين ؛ لأنها إذا نزلت في شأنهم مبينة فضائحهم وما تنطوي عيه أسرارهم فكأنها نزلت عليهم ﴿ قل ﴾ لهم يا نبي الله ﴿ استهزءوا ﴾ صيغة الأمر هنا للتهديد، يعني : دوموا على ما أنتم عليه من الاستهزاء بآيات الله وبالله وبرسوله فستلقون جزاء ذلك ﴿ إن الله مخرج ﴾ أي : مظهر لنبيه بما يوحى إليه ما أنتم تسرونه وتبطنونه، ذلك الذي تحذرون أن يفضحكم الله فيه، إن الله مخرجه ومظهره، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على حقائقهم بعد أن لم يكن يعلمها ؛ لأن قوله هنا :﴿ إن الله مخرج ما تحذون ﴾ يدل على أن النبي في هذا الوقت لم يكن يعلمه كما يأتي في قوله :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : آية ١٠١ ] وقد بين الله لنبيه المنافقين، أشار له إلى معرفتهم بقوله :﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( ٢٩ ) ولو نشاء لأرينكهم فلعرفتهم بسيمهم ﴾ ثم قال :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ [ محمد : الآيتان ٢٩، ٣٠ ] وقد أطلع الله نبيه عليهم في غزوة تبوك، وأطلع النبي حذيفة بن اليمان على جماعة منهم بأسمائها. وهذا معنى قوله :﴿ قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ [ التوبة : آية ٦٤ ].
قوله :﴿ ما ﴾ في محل المفعول به لاسم الفاعل الذي هو ( مخرج ) والسؤال الذي يتبادر في هذا جوابه ظاهر، لأن ( مخرج ) هنا قد وقع وتعلق بالماضي، والمقرر في علم العربية أن اسم الفاعل إذا كان نكرة لا يعمل إلا بمسوغ، ولا يعمل في الماضي، وهنا كأنه عمل في الماضي. والجواب واضح ؛ لأن هذه الآية تحكي ما كان في ذلك الوقت مستقبلا ؛ لأن وقت نزول هذه الآية يحكي الله ( جل وعلا ) فيها أنه سيفعل ذلك في المستقبل، فإذا لم يتعلق اسم الفاعل بأمر ماض كما لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ إن الله مخرج ما تحذرون ﴾.
١ انظر: الدر المصون (٦/ ٧٩)..
٢ الكتاب (١/ ١١٣)..
ثم قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ [ التوبة : آية ٦٥ ] نزلت هذه الآية في غزوة تبوك بإطباق المفسرين في قوم استهزؤوا بالله وآياته ورسوله. قال بعض العلماء : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وأمامه ركب من المنافقين، فكان بعضهم يقول لبعض : " يظن هذا أنه يفتح قصور الشام ويقدر على بلاد بني الأصفر، هيهات هيهات " أطلع الله نبيه على ذلك فاستوقفهم فسألهم : " لم قلتم هذا ؟ " قالوا : كنا نخوض ونلعب، لم نقل هذا عن طريق الجد، وإنما قلناه عن طريق الهزل واللعب. فأجابهم الله :﴿ أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزون لا تعتذروا قد كفرتم ﴾ ١ [ التوبة : آية ٦٥ ].
وذكر بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت راحلته في غزوة تبوك فقال جماعة من المنافقين : انظروا إلى هذا الرجل يدعي أنه يعلم علم الغيب، وأنه ينزل عليه الوحي وهو لا يدري أين ذهبت ناقته ! ! وأن جبريل أتاه فأخبره بموضعها، أمسكتها كذا بزمامها، فناداهم وقال : " لم قلتم ما قلتم ؟ " قالوا : كنا نخوض ونلعب.
وعلى كل حال فلا خلاف بين العلماء أن هذه الآية من سورة براءة نزلت في غزوة تبوك في قوم استهزؤوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واستخفوا به، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوا معتذرين اعتذارا كاذبا قالوا :﴿ إنما كنا نخوض ﴾ في الحديث ﴿ ونلعب ﴾ نهزأ ونضحك فيما بيننا لا نقول ذلك عن جد وقصد. وهذا معنى قوله :﴿ إنما كنا نخوض ونلعب ﴾ ٢.
﴿ قل ﴾ لهم يا نبي الله :﴿ أبالله وءايته ورسول كنتم تستهزءون ﴾ يعني تستهزئون بالله وبرسوله وبآياته ؟ ! فالاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر بواح لا عذر لصاحبه البتة. قال بعض العلماء ٣ : يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن من استهزأ بالله وبرسوله وبآياته ولو كان هازلا مازحا أنه يكون كافرا ؛ لأنه لا هزل في الكفر، وقد جاء في الحديث أن بعض المسائل هزلها كجدها، كالطلاق، والعتاق، وهي ثلاث مسائل معدودة في الحديث : " ثلاث جدهن [ جد ] ٤ : الطلاق والعتاق... " ونسيت الثالثة ٥ مع أنها مختلف فيها هل هي الرجعة أوغيرها.
وهذا معنى قوله :﴿ قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا ﴾ الاستهزاء : الاستخفاف،
١ أحرجه ابن جرير (١٤/ ٣٣٤)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٨٣٠)، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٥٠، عن قتادة مرسلا. وعزاه في الدر (٣/ ٢٥٤) لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٢ أخرجه البيهقي في الدلائل (٥/ ٢٣٢)، وذكره ابن هشام في السيرة ص ١٣٧٥، من طريق ابن إسحاق. وانظر: الذهب المسبوط ص ٢٤٩، وليس للآية ذكر في الرواية التي وقفت عليها. وقد أخرج ابن أبي حاتم (٦/ ١٨٣٠ وكذا أورده السيوطي في الدر (٣/ ٢٥٤) عن مجاهد في قوله: ﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب﴾ قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب؟! وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
٣ انظر: القرطبي (٨/ ١٩٧)..
٤ في الأصل: "هزل". وهذا سبق لسان، والصواب: جدهن جد وهزلهن جد..
٥ الثلاث في أشهر الروايات هي: النكاح والطلاق والرجعة.
والحديث أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، حديث في الطلاق. حديث رقم: (١١٨٤) (٣/ ٤٨١)، وابن ماجه في الطلاق، باب من طلق أو نكح أو رجع لاعبا. حديث رقم: (٢٠٣٩) (١/ ٦٥٨)، والدر قطني (٤/ ١٨، ١٩)، والحاكم (٢/ ١٩٨)، وابن الجارود (٣/ ٤٤). وللوقوف على روايات الحديث وألفاظه انظر: التعليق المغني على الدرقطني (٤/ ١٩)، إرواء الغليل (٦/ ٢٢٤)..

ولا تعتذروا هذا الاعتذار البارد الكاذب، ليس مقبولا منكم حتى تتوبوا توبة نصوحا ﴿ قد كفرتم بعد إيمنكم ﴾ أي : بعد إظهاركم الإيمان وإعلانكم إياه.
ثم قال :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾ [ التوبة : آية ٦٦ ] قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة، غير عاصم وحده :﴿ إن يعف عن طائفة منكم تعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾ بقوله :﴿ يعف ﴾ بالياء وبناء الفعل للمفعول، و﴿ تعذب ﴾ طائفة بالتاء، وضم طائفة على أنه نائب الفاعل، وقرأ عاصم وحده من السبعة :﴿ إن نعف عن طائفة منكم تعذب طائفة ﴾ ١ بنون العظمة ونصب طائفة الثانية. وفي نظم ابن المرحل ٢ :
لعاصم قراءة لغيرها مخالفة
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة
فهذه قراءة عاصم وحده، برواية حفص وشعبة عنه معا.
وهذا معنى قوله :﴿ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمنكم إن نعف عن طائفة منكم ﴾.
قال بعض العلماء ٣ : هذا العفو نزل في [ مخشي بن الحمير ] لأنه كان من الذين خاضوا في الاستهزاء. قال بعض العلماء ٤ : كانوا ثلاثة نفر اثنان استهزؤوا وواحد ضحك لهما من كلامهما، ثم إن الثالث الذي هو مخشي بن الحمير ( رضي الله عنه ) تاب إلى الله، وحسن إسلامه، وعفى الله عنه، وأنزل الله فيه :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾.
وقال غير واحد إن مخشيا ( رضي الله عنه ) تاب من نفاقه، وحسن إسلامه، وأناب إلى الله، ودعا الله أن يموت شهيدا، وأن لا يطلع أحد على قبره، وقال من قال هذا : قتل باليمامة شهيدا. ولم يطلع عليه أحد، ولم يعثر عليه ( رضي الله عنه )، هكذا قال بعضهم٥.
﴿ إن نعف عن طائفة منكم ﴾ تابت إلى الله وأنابت إليه ورجعت عن النفاق إلى الإيمان الخالص والتوبة النصوح ﴿ نعذب طائفة ﴾ أخرى لم يتوبوا بل كانوا مصرين على النفاق والاستهزاء بالله وآياته ورسوله بسبب أنهم ﴿ كانوا مجرمين ﴾ مرتكبين الجريمة، وهي الإصرار على الكفر والنفاق من غير إقلاع ولا توبة عنه، والمجرمون ٦ جمع المجرم، والمجرم مرتكب الجريمة، والجريمة هي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه النكال العظيم و ( مجرمون ) هنا اسم فاعل ( أجرم ) بصيغة ( أفعل ) بالهمزة التي صار بها رباعيا، ويستعمل هذا الفعل استعمالين : أجرم رباعيا بصيغة ( أفعل ) وجرم ثلاثيا مجردا. وما جاء مستعملا في القرآن إلا بصيغة الرباعي فقط ( مجرمون ). ﴿ إن الذين أجرموا ﴾ [ المطففين : آية ٢٩ ] ولم يأت بصيغة الثلاثي المجرد في القرن ولكنه جاء بذلك في لغة العرب، ومن ذلك قول الشاعر :
وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارم ٧
لأن المجروم اسم مفعول جرمه الثلاثي المجرد بلا نزاع، وهذا معنى قوله :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾.
١ مضت عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأعراف..
٢ السابق..
٣ أخرجه ابن جرير(١٤/ ٣٣٦) عن ابن إسحاق مرسلا. وقد أخرج ابن أبي حاتم (٦/ ١٨٣١) كما أورد السيوطي في الدر (٣/ ٢٥٤) شاهدا له عن كعب بن مالك (رضي الله عنه). وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأورده أيضا عن ابن عباس وعزاه لابن مردويه..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ١٩٩)..
٥ جاء ذلك في أثر كعب بن مالك وابن عباس اللذين أشرنا إليهما قريبا..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام..
٧ تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٥٥) من سورة الأنعام..
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ [ التوبة : آية ٦٧ ] المنافق هو من يظهر الإيمان، ويسر الكفر، وهو المسمى في عرف الفقهاء بالزنديق. قال بعض العلماء : اشتقاقه من النافقاء وهي جحر اليربوع ؛ لأن جحر اليربوع يكون له أبواب مختلفة يدخل من باب ويخرج من آخر، فالمنافق يخرج بغير ما دخل به، هكذا قيل.
﴿ المنافقون ﴾ الذكور ﴿ والمنافقات ﴾ الإناث، هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن مما استدل به جماعة من أهل الأصول على مسألة أصولية مختلف فيها وإيضاحه أن الصفات التي يشترك فيها الذكور والإناث إذا جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله بصيغة خاصة بالذكور فهل يدخل فيها الإناث نظرا إلى اشتراكهن مع الذكور في أصل الوصف، أو يختص بها الذكور لأن البناء مختص بالذكور ؟ ! وإيضاح هذا، أن النفاق هو صفة تتصف بها الأنثى والذكر، ولكن قوله :﴿ المنفقون ﴾ اختص بالذكور، فإذا جاء في كتاب الله جمع مذكر سالم أصل معناه يشترك فيه الذكور والإناث، هل يحكم بدخول الإناث أو لا يحكم بدخولهن إلا بدليل منفصل ؟ ! هذا خلاف مشهور في الأصول ١، قال أكثر أهل الأصول : إن الجموع المذكرة السالمة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور، إذا ورد في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه النساء إلا بدليل خاص، لاختصاص الصيغة بالذكور، وإن كان الوصف شاملا للجميع، واستدلوا على أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة بمثل هذه الآية في القرآن، قالوا : لو كانت المنافقات الإناث يدخلن في اسم المنافقين بصيغة الجمع المذكر السالم لكفى، ذلك عن عطفهن عليهم، قالوا : والعطف دليل المغايرة وعدم الدخول، واستدلوا لهذا بكثرة نحوه في القرآن كقوله :﴿ ليعذب الله المنفقين والمنفقت والمشركين والمشركت ﴾ [ الأحزاب : آية ٧٣ ] وقوله :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم ﴾ [ النور : آية ٣٠ ] ثم قال :﴿ وقل للمؤمنت ﴾ [ النور : آية ٣١ ] فقالوا : فعطف النساء على الذكور المجموعين بصيغة الجمع المذكر يدل على عدم دخولهن فيه لاختصاص الصيغة بالذكور، وإن كان الوصف شاملا للجميع. وكتابه
وذهبت طائفة أخرى إلى أن النساء يدخلن في الجموع المذكرة وما جرى مجراها ؛ لأن الجميع سواء في التكاليف، واستدلوا بآيات من كتاب الله جاء مصرحا فيها بدخول الأنثى في صيغة الجمع المذكر السالم، كقوله تعالى في امرأة العزيز :﴿ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين ( ٤٣ ) ﴾ [ النمل : آية ٤٣ ] فأدخل هذه المرأة في ( الكافرين ) وهو جمع مذكر سالم. وقوله في مريم ابنت عمران :﴿ وصدقت بكلمت ربها وكتابه ﴾ [ التحريم : آية ١٢ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ وكتبه وكانت من القنتين ﴾ ٢ فأدخل مريم وهي امرأة في اسم ( القانتين ) وهو جمع مذكر سالم، قالوا : ونظيره قوله في امرأة العزيز :﴿ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( ٢٩ ) ﴾ [ يوسف : آية ٢٩ ] وهذا خلاف معروف في الأصول. وأكثر الأصوليون يقولون : إنهن لا يدخلن. وأجمع العلماء على عدم دخول النساء في صيغة الذكور في قوله :﴿ والذين هم لفروجهم حفظون ( ٥ ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم ﴾ [ المؤمنون : الآيتان ٥، ٦ ] فلا يجوز للمرأة أن تتخذ عبدها وتتسراه ؛ لأن الإناث لم يدخلن في هذه الصيغة المختصة بالذكور، وعلى كل حال فأظهر قولي الأصوليين – وعليه أكثرهم – أن أصل اللغة يقتضي تغليب الذكور على الإناث، وهذا لا نزاع فيه، أما التبادر عند الإطلاق، فهل يتبادر دخول النساء في الجموع المذكرة أو لا ؟ فالظاهر أنه ما دخلن في جمع مذكر سالم إلا بقرينت زائدة دالة على ذلك، وأنه إذا تجرد من القرائن لم يدخلن فيه، وعلى هذا أكثر علماء الأصول.
وقوله :﴿ بعضهم من بعض ﴾ [ التوبة : آية ٦٧ ] هذه الآية تضمنت تكذيب المنافقين المذكور في قوله :﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾ [ التوبة : آية ٥٦ ] وصدقت قوله :﴿ وما هم منكم ﴾ [ التوبة : آية ٥٦ ] كأن الله يقول : المنافقون يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم. الحقيقة هم ليسوا منكم ولكن بعضهم من بعض، وليسوا منكم ولستم منهم، بل هم بعضهم من بعض ؛ لأنهم هم المتشابهون في الأخلاق والأهداف، أخلاقهم واحدة وغرضهم واحد، فبعضهم من بعض وبعضهم أولياء بعض، وليسوا منكم ولستم منهم، فهذا معنى قوله :﴿ المنفقون والمنفقت بعضهم من بعض ﴾ ثم بين صفاتهم التي يجتمعون فيها وهي ضد صفات المؤمنين، على خط مستقيم، وهي قوله :﴿ يأمرون بالمنكر ﴾ والمؤمنون يأمرون بالمعروف ﴿ وينهون عن المعروف ﴾ والمؤمنون ينهون عن المنكر.
والمنكر : اسم مفعول أنكره، والمراد به كل ما أنكره الشرع ولم يأذن فيه. والمعروف : اسم مفعول ( عرفه ) وهو كل ما عرفه الشرع ودعا إليه ﴿ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ﴾ المراد بقبض اليد هنا كناية وعدم مد الأيدي بما ألزم الله بإعطائه، فهم لا يزكون ولا ينفقون، فالعرب تقول : فلان يتعود قبض اليد، ويده مقبوضة، ويقبض يده يكنون بذلك عن البخل. يعنون : لا يجود. فبسط اليد معناه الجود، وقبض اليد معناه البخل، قال بعض العلماء : قبضهم أيديهم : بخلهم بما يلزمهم من الزكوات وسائر الإنفاق. وقال (... ) ٣
١ انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٢٣٥)..
٢ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٤٤٠..
٣ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وهو آخر ما وجد من دروس الشيخ (رحمه الله) في التفسير..
Icon