مكية، وآيها إحدى وعشرون وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ١ :" هلا صليت ب ﴿ سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ﴾
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الليلمكية، وآيها إحدى وعشرون. وقد تقدم
قوله ﷺ لمعاذ «١» : هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى الشمس أو النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر بزوال الليل أو تبين بطلوع الشمس.
قال الإمام: والتعبير في الغشيان بالمضارع، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود، حتى عبر به عن الوجود نفسه. أما تجلي النهار فهو لازم له. لهذا عبر عنه بالماضي كما سبق بيانه وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية، كما تقدم.
قال الإمام: وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع. إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجاحدين. فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى. فتكوين الولد من عناصر واحدة تارة ذكرا وتارة أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.
قال الرازيّ: ويقرب من هذه الآية قوله: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: ٢٠]، وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: ١٨]، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية: ٢١].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (٩٢) : الآيات ٥ الى ١١]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى تفصيل لتلك المساعي الشتى، وتبيين لمآلها ما تقدم.
قال الرازيّ: وفي أَعْطى وجهان:
أحدهما- أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم. كما كان يفعله أبو بكر، سواء كان ذلك واجبا أو نفلا وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣]، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقا في سبيل الله، سواء كان واجبا أو نفلا وقد مدح الله قوما فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: ٨]، وقال في آخر هذه السورة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: ١٧- ١٨] الآية.
وثانيهما- أن قوله أَعْطى يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق الناس في طاعة الله تعالى. يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة. انتهى.
إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء. لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وَاتَّقى أي ربه فاجتنب محارمه وَصَدَّقَ
أي بالمثوبة الحسنى. قال قتادة: أي صدق بموعود الله الحسن. وهو بمعنى قول مجاهد، إنها الجنة كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشورى: ٢٣]، فسمى مضاعفة الأجر (حسنى) وقال القاشاني: أي صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى، التي هي السلوك في طريق الحق، لقوة يقينه.
قال الشهاب: ولما كانت مؤدية إلى اليسر، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أي بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها وَاسْتَغْنى أي عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة، وعمه به عن الحق وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بوجود المثوبة للحسنى، لمن آمن بالحق، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ.
قال الإمام: الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية، ويغمسها في أو حال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الإنسان، لأنه لا يجد معينا عليها لا من فطرته ولا من الناس وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله، إذا هلك، من قولهم: (تردى من الجبل وفي الهوة) وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة، هو المهلك والموقع لنفسه. وهو الحافر على حتفه بظلفه و (ما) نافية أو استفهام في معنى الإنكار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٢ الى ٢١]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله. أي علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي ملكا وخلقا. فلا يضرنا توليكم عن الهدى.
وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه. لا يحول بينه وبينه أحد، ولا يحصله أحد، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه.
وفيه إشارة إلى تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته. ولذا رتب عليه قوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي تتلظى وتتوهج. وهي نار الآخرة لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق الذي جاءه وَتَوَلَّى أي عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عنادا وكفرا وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي من يد يكافئه عليها. أي لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر (الأتقى) بالمنفق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى قال ابن جرير: أي ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عزّ وجلّ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على، إن ضمير (يرضى) ل (الأتقى) لا للرب. قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.
وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الإمام، قال: أي ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه (ثم قال) : والتعبير ب (سوف) لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك.
ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها. فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ولكنه مقدم
ولهذا قال له عروة بن مسعود، وهو سيد ثقيف، يوم صلح الحديبية: أما والله! لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل. فكيف بمن عداهم؟
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير. فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم
. انتهى.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الضّحىمكية وآيها إحدى عشرة.
لطيفة:
قال ابن كثير: روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد. فلما بلغت وَالضُّحى قال لي: كبّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة. فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك. وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله ﷺ فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، من ولد القاسم بن أبي بزة. وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازيّ وقال: لا أحدث عنه. وكذلك أبو جعفر العقيليّ، قال: هو منكر الحديث.
لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (شرح الشاطبية) عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته. فقال بعضهم:
يكبر من آخر وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وقال آخرون: من آخر وَالضُّحى وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول (الله أكبر) ويقتصر، ومنهم من يقول (الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر) وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى، أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله ﷺ وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبر فرحا وسرورا، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. فالله أعلم.