قال القفال رحمه الله : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله، إلا أنها وإن كانت كذلك لكن معانيها عامة للناس، ألا ترى أن الله تعالى قال :﴿ إن سعيكم لشتى ﴾ وقال :﴿ فأنذرتكم نارا تلظى ﴾ ويروى عن علي عليه السلام أنه قال :«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال : ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار، فقلنا يا رسول الله أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له » ﴿ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ﴾ فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الليلإحدى وعشرون آية مكية (سُورَةُ اللَّيْلِ) قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَإِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَبُخْلِهِ وَكُفْرِهِ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكِنَّ مَعَانِيَهَا عَامَّةٌ لِلنَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تعالى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: ٤]، وقال: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: ١٤]
وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [الليل: ٥- ٧] فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢)اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ الَّذِي يَأْوِي فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ إِلَى مَأْوَاهُ وَيَسْكُنُ الْخَلْقُ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَيَغْشَاهُمُ النَّوْمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ رَاحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَغِذَاءً لِأَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، لِأَنَّ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ انْكَشَفَ بِضَوْئِهِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الظُّلْمَةِ، وَجَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أو كارها وَالْهَوَامُّ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَلَوْ كَانَ الدَّهْرُ كُلُّهُ لَيْلًا لَتَعَذَّرَ الْمَعَاشُ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَبَطَلَتِ الرَّاحَةُ، لَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ فِي تَعَاقُبِهِمَا عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: ٦٢]، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [إبراهيم: ٣٣] أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يَغْشَى، فَهُوَ إِمَّا الشَّمْسُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْسِ: ٤] وإما النهار من قوم: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الرعد: ٣] وَإِمَّا كُلُّ شَيْءٍ يُوَارِيهِ بِظَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا وَقَبَ [الْفَلَقِ: ٣] وَقَوْلُهُ: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أَيْ ظَهَرَ بِزَوَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَوْ ظَهَرَ وانكشف بطلوع الشمس. وقوله تعالى:
[سورة الليل (٩٢) : آية ٣]
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بِالْجَرِّ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَما خَلَقَ أَيْ وَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أي مخلوق اللَّهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى بَدَلًا مِنْهُ، أي ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَسَمُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَتَنَاوَلُ الْقَسَمَ بِجَمِيعِ ذَوِي الْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ فَهُوَ إِمَّا ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى وَالْخُنْثَى فَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خُنْثَى فَإِنَّهُ يخنث في يمينه.
[سورة الليل (٩٢) : آية ٤]
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)
هذا الجواب الْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ أَعْمَالَ عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جَمْعُ شَتِيتٍ مِثْلُ مَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُخْتَلِفِ: شَتَّى، لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضِهِ، وَالشَّتَاتُ هُوَ التَّبَاعُدُ وَالِافْتِرَاقُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لِمُتَبَاعِدٍ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ بَعْضَهُ ضَلَالٌ وَبَعْضَهُ هُدًى، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ الْجِنَانَ، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ النِّيرَانَ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: ١٨] وَقَوْلُهُ:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[الْجَاثِيَةِ: ٢١] وَقَالَ: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فَاطِرٍ: ٢١] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي سُفْيَانَ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فقال:
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ٥ الى ١٠]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠)
[في قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى] وَفِي قَوْلِهِ أَعْطى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْجَنَّةُ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْخَيْرُ وَقَالُوا فِي الْعُسْرَى:
أَنَّهَا الشِّرْكُ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُسْرَى تَعْسِيرُ كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: الْيُسْرَى هِيَ الْعَوْدُ إِلَى الطَّاعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا أَوَّلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَسَنُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِعْطَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالُوا: فِي الْعُسْرَى ضِدُّ ذَلِكَ أَيْ نُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَجَازٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى يُسْرٍ وَرَاحَةٍ وَأُمُورٍ مَحْمُودَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْيُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى عُسْرٍ/ وَتَعَبٍ فَهُوَ مِنَ الْعُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الْمَعَاصِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّأْنِيثُ فِي لَفْظِ الْيُسْرَى، وَلَفْظِ الْعُسْرَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيُسْرَى
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وُجُوهٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ فَسَّرَ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى بِإِدْخَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِسُهُولَةٍ وَإِكْرَامٍ، عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] وَقَوْلِهِ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ:
٧٣] وَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: ٢٤] وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فَالتَّيْسِيرُ لَهَا هُوَ تَسْهِيلُهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ مِنَ التَّثَاقُلِ مَا يَعْتَرِي الْمُرَائِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَسَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٥] وَقَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
[النسار: ١٤٢] وَقَالَ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: ٣٨] فَكَانَ التَّيْسِيرُ هُوَ التَّنْشِيطُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا التَّوْفِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَصَّ الْكَافِرَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْصِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الرجحان لزم القوم بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ الرُّجْحَانُ، فَحَالُ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ مَجَازٌ مَشْهُورُ، قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: ٢٤] فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ فِعْلَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى، سَمَّى تَرْكَ هَذِهِ الْأَلْطَافِ تَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُسَبِّبِ لَهُ دُونَ الْفَاعِلِ. كَمَا قِيلَ فِي الْأَصْنَامَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ:
٣٦] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَا سِيَّمَا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ جَانِبِنَا مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، ثُمَّ/ إِنَّ أَصْحَابَنَا أَكَّدُوا ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْنَا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا وَافَقَ مَعْلُومَ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا:
أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الليل (٩٢) : آية ١١]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
فَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا. وَأَمَّا تَرَدَّى فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِكَ: تَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ [الْمَائِدَةِ: ٣] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ إِذَا قَبُرَ، أَوْ تَرَدَّى فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّا إِذَا يَسَّرْنَاهُ لِلْعُسْرَى، وَهِيَ النَّارُ تَرَدَّى فِي جَهَنَّمَ، فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ وتركه لوارثه، ولم يصحبه مِنْهُ إِلَى آخِرَتِهِ، الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ فَقْرِهِ وحاجته شيء، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠] أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ هُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِهَا، دُونَ الْمَالِ الَّذِي يَخْلُفُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ الثَّانِي: أَنَّ تَرَدَّى تَفَعَّلَ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ يُرِيدُ الْمَوْتَ. أَمَّا قوله تعالى:
[سورة الليل (٩٢) : آية ١٢]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّ سَعْيَهُمْ شَتَّى فِي الْعَوَاقِبِ وَبَيَّنَ مَا لِلْمُحْسِنِ مِنَ الْيُسْرَى وَلِلْمُسِيءِ مِنَ الْعُسْرَى، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أَيْ إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ إِذَا خَلَقْنَا الْخَلْقَ لِلْعِبَادَةِ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ وُجُوهَ التَّعَبُّدِ وَشَرْحَ مَا يَكُونُ الْمُتَعَبِّدُ بِهِ مُطِيعًا مِمَّا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا، إِذْ كُنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَاهُمْ لِنَنْفَعَهُمْ وَنَرْحَمَهُمْ وَنُعَرِّضَهُمْ لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَدْ فَعَلْنَا مَا كَانَ/ فِعْلُهُ وَاجِبًا عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسَائِلَ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَعْذَارَ وَمَا كَلَّفَ الْمُكَلَّفَ إِلَّا مَا فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَثَانِيهَا: أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلْوُجُوبِ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ لَمَا كَانَ فِي وَضْعِ الدَّلَائِلِ فَائِدَةٌ، وَأَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَشْهُورَةٌ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَجْهًا آخَرَ نَقَلَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ فَقَالَ الْمَعْنَى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ، فَتَرَكَ الْإِضْلَالَ كَمَا قَالَ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] وَهِيَ تَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ، قَالَ: يُرِيدُ أُرْشِدُ أَوْلِيَائِي إِلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِي، وَأَحُولُ بَيْنَ أَعْدَائِي أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِي فَذَكَرَ مَعْنَى الْإِضْلَالِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ سَاقِطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النَّحْلِ: ٩] فَبَيَّنَ أَنَّ قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَمَّا جَوْرُ السَّبِيلِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ وَلَا مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ قَدْ سَبَقَ في تلك الآية. أما قوله تعالى:
[سورة الليل (٩٢) : آية ١٣]
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَنَا كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَيْسَ يَضُرُّنَا تَرْكُكُمُ الِاهْتِدَاءَ بِهُدَانَا، وَلَا يَزِيدُ فِي مُلْكِنَا اهْتِدَاؤُكُمْ، بَلْ نَفْعُ ذَلِكَ وَضَرُّهُ عَائِدَانِ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شِئْنَا لَمَنَعْنَاكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَهْرًا، إِذْ لَنَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَلَكِنَّنَا لَا نَمْنَعُكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يُخَلُّ بِالتَّكْلِيفِ، بَلْ نَمْنَعُكُمْ بِالْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الثَّانِي: أَنَّ لَنَا مُلْكَ الدَّارَيْنِ نُعْطِي مَا نَشَاءُ مَنْ نَشَاءُ، فَيُطْلَبُ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ مِنَّا، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي أَوْفَقُ لقولنا. أما قوله تعالى:
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٤ الى ١٦]
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)
تَلَظَّى أَيْ تَتَوَقَّدُ وَتَتَلَهَّبُ وَتَتَوَهَّجُ، يُقَالُ: تَلَظَّتِ النَّارُ تَلَظِّيًا، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَهَنَّمُ لَظَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا لِمَنْ هِيَ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَشْقَى بِمَعْنَى الشَّقِيِّ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدٍ أَيْ بِوَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْكَافِرُ الَّذِي هُوَ شَقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ لَا وَعِيدَ إِلَّا عَلَى الْكُفَّارِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَوَجَبَ فِي الْكَافِرِ الَّذِي لَمْ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ/ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ: أَيُّ مَعْصِيَةٍ أَقْدَمْتَ عَلَيْهَا، فَلَنْ تَضُرَّكَ، وَهَذَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْإِغْرَاءِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ كَالْإِبَاحَةِ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: من بعد وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: ١٧] يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْفَاسِقِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِأَتْقَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّقْوَى، وَمَنْ يَرْتَكِبْ عَظَائِمَ الْكَبَائِرِ لَا يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَتْقَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، فَهَذَا الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لا يجنب النار، وكل مكلف لا يجنب النَّارَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى نَارًا مَخْصُوصَةً مِنَ النِّيرَانِ، لِأَنَّهَا دَرَكَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥] فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النَّارَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَصْلَاهَا سِوَى هَذَا الْأَشْقَى، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ وَغَيْرَ مَنْ هَذَا صِفَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَدْخُلُ سَائِرَ النِّيرَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى النِّيرَانُ أَجْمَعُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أَيْ هَذَا الْأَشْقَى بِهِ أَحَقُّ، وَثُبُوتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا لِهَذَا الْأَشْقَى. وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوهَ الْقَاضِي ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا: يَلْزَمُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكَافِرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِلنَّبِيِّ فِي دَعْوَاهُ، وَيَكُونُ مُتَوَلِّيًا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ صِدْقِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَشْقَى مِنْ سَائِرِ الْعُصَاةِ، وَأَنَّهُ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَإِذَا كَانَ كُلُّ كَافِرٍ دَاخِلًا فِي الْآيَةِ سَقَطَ مَا قاله القاضي.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ غَيْرِ الْأَتْقَى إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَالتَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُمْسِكُ بِهِ؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي فِيمَنْ لَيْسَ بِأَتْقَى دُخُولَ النَّارِ، فَيَلْزَمُ فِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ رَابِعًا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ النَّارُ الَّتِي تَتَلَظَّى فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَارًا تَلَظَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِكُلِّ النِّيرَانِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِنَارٍ مَخْصُوصَةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كُلَّ نَارِ جَهَنَّمَ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى. [الْمَعَارِجِ: ١٥].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ إِنَّ هَذَا الْأَشْقَى أَحَقُّ بِهِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَثَبَتَ ضَعْفُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْطَعُونَ بِعَدَمِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ؟ الْجَوَابُ:
مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى: لَا يَصْلاها لَا يَلْزَمُهَا فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، يُقَالُ: صَلَى الْكَافِرُ النَّارَ إِذَا لَزِمَهَا مُقَاسِيًا شِدَّتَهَا وَحَرَّهَا، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا لِلْكَافِرِ، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَوْ إِنْ دَخَلَهَا تَخَلَّصَ مِنْهَا الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ هَذَا الظَّاهِرِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ على وعيد الفساق، والله أعلم. قوله تعالى:
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
مَعْنَى سَيُجَنَّبُهَا أَيْ سَيُبْعَدُهَا وَيُجْعَلُ مِنْهَا عَلَى جَانِبٍ يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ بَعَّدْتُهُ وَجَنَّبْتُهُ عَنْهُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيعَةَ بِأَسْرِهِمْ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: ٥٥] فَقَوْلُهُ: الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي مَحْضَرِي قُلْتُ: أُقِيمَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو بَكْرٍ وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَهَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ مَتَى صَحَّتَا صَحَّ الْمَقْصُودُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] وَالْأَكْرَمُ هُوَ الْأَفْضَلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ كَانَ أَتْقَى، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ أَكْرَمَ، قُلْنَا وَصْفُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَتْقَى مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ، وَوَصْفُ كَوْنِهِ
أنه كان بلال [عَبْدًا] لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَسَلَحَ عَلَى الْأَصْنَامِ فَشَكَا إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِعْلَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُمْ، وَمِائَةً مِنَ الْإِبِلِ يَنْحَرُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ فِي الرَّمْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ:
يُنْجِيكَ أَحَدٌ أَحَدٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ أَنَّ بِلَالًا يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ: فَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ رِطْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَابْتَاعَهُ بِهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ، فَنَزَلَ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَشْتَرِي الضَّعَفَةَ مِنَ الْعَبِيدِ فَيُعْتِقُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ كُنْتَ تَبْتَاعُ مَنْ يَمْنَعُ ظَهْرَكَ، فَقَالَ: مَنْعُ ظَهْرِي أُرِيدُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مَحَلِّ: يَتَزَكَّى وجهان: إن جعلت بَدَلًا مِنْ يُؤْتِي فَلَا مَحَلَّ لَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالصِّلَاتُ لَا مَحَلَّ لَهَا وَإِنْ جَعَلْتَهُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْتِي فمحله النصب.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
[قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ النِّعْمَةُ أَيْ مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربه كقولك ما في الدار أحدا إِلَّا حِمَارًا، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُضْمَرَ الْإِنْفَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَا يُنْفِقُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، كَقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى لَا يُؤْتِيهِ مُكَافَأَةً عَلَى هَدِيَّةٍ أَوْ نِعْمَةٍ سَالِفَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى أَدَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ مَزِيدِ الثَّوَابِ بَلْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ إِذَا فَعَلَهُ، لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِمَامَةِ»، فَقَالَ: الْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
[الْإِنْسَانِ: ٩، ١٠] وَالْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ آيَةَ عَلِيٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وَأَمَّا آيَةُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِمَحْضِ وَجْهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَهُ طَمَعٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى رَغْبَةً فِي ثَوَابٍ/ أَوْ رَهْبَةً مِنْ عِقَابٍ، فَكَانَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ابْتِغَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى ابْتِغَاءِ ذَاتِهِ وَهِيَ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ ذَاتَ اللَّهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٥].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يقول: ما في الدار أحد إلا حمارا وَأَنْشَدَ فِي اللُّغَتَيْنِ، قَوْلَهُ:
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «١»
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يَرْضى فَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَعَدَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُرْضِيَهُ فِي الْآخِرَةِ بِثَوَابِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] وَفِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَا أَنْفَقَ إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدِي أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ أَكْمَلُ لِلْعَبْدِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا قَالَ: راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: ٢٨] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
يا ليتني وأنت يا لميس... في بلد ليس به أنيس
إلا اليعافير وإلا للعيس