ﰡ
تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة.
وقيل : المراد به هنا النهار كله، كما في قوله :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ٩٧ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾.
واختار الشيخ رحمة الله علينا وعليه في إملائه معنى : سكن.
واختار ابن جرير أنه سكن بأهله، وثبت بظلامه، قال كما يقال بحر ساج، إذا كان ساكناً، ومنه قول الأعشى :
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم | وبحرك ساج ما يواري الدعامصا |
يا حبذا القمراء واللَّيل الساج | وطرق مثل ملاء النساج |
ولقد رميتك يوم رحن بأعين | ينظرن من خلل الستور سواج |
ليت شعري عن خليل ما الذي | نما له في الحب حتى ودعه |
وثم ودعنا آل عمرو وعامر | فرائس أطراف المثقفة السمر |
قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك. ا ه.
والقراءة الأولى أشهر وأولى، لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل.
قال القرطبي، وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع، فتقول في مضارع : ودع يدع كيزن ويهب ويرث، من وزن ووهب وورث، وتقول في الأمر : دع وزن، وهبْ، أما ذر بمعنى اترك، فلم يأت منه الماضي، وجاء المضارع : يذرهم، والأمر : ذرهم. فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من } ودعك { من التوديع.
وقد ذكرنا هذا الترجيح، لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة، وهذا لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم عند ربه. أما الموادعة والوداع، فقد يكون مع المودة والصلة، كما يكون بين المحبين عند الافتراق، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى :﴿ وَمَا قَلَى ﴾.
تنبيه
هنا : ما ودعك بصيغة الماضي، وهو كذلك للمستقبل، بدليل الواقع وبدليل ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ﴾، لأنها تدل على مواصلة عناية الله به حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيراً له من الأولى، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه.
وقد جاء في صلح الحديبية، قال لعمر : أنا عبد اللَّه ورسوله، أي تحت رحمته وفي رعايته.
وقوله : وما قلى، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها، فدلت عليها هكذا. قال المفسرون :
وقال بعضهم : تركت لرأس الآية، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، فأبرزت فيها كاف الخطاب، أي لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب، والمصطفى المقرب.
أما قلى : ففيها معنى البغض، فلم يناسب إبرازها إمعاناً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك، وما أهنت لقد قربتك، وما أبعدت كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته، أو تصرح بها في حقه، والقلى : يمد ويقصر هو البغض، يمد إذا فتحت القاف، ويقصر إذا كسرتها، وهو واوي وياءي، وذكر القرطبي، قال : أنشد ثعلب :
أيام أم الغمر لا نقلاها | ولو تشاء قبلت عَيناها |
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة | لدينا ولا مقلية إن تقلت |
وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه، وقد قال عمه في ذلك :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
خير تأتي مصدراً كقوله : إن ترك خيراً أي مالاً كثيراً، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل، وذكر حرف من، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، ويوهم أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وحده من الأولى، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعاً، وهو قوله تعالى :﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الخيرية للأبرار عند اللَّه، أي يوم القيامة بما أعد لهم، كما في قوله :﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾.
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيان الخير في الدنيا أولاً، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة.
أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل، أي لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف، وزيادة أحدهما على الآخر، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها، ففي هذه السورة قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾، أي منذ ولادته ونشأته، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك، وطهَّره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها فقال : " فتى لا يعادله فتى من قريش، حلماً وعقلاً وخلقاً، إلا رجح عليه ".
وقوله :﴿ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾.
على ما سيأتي بيانه كله، فهي نعم يعددها تعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره، ثم اصطفائه بالرسالة، ثم حفظه من الناس، ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته.
ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾.
أما خيرية الآخرة على الأولى، فعلى حد قوله :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، وليس بعد الرضى مطلب، وفي الجملة : فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى.
جاء مؤكداً باللام وسوف، وقال بعض العلماء : يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة اللَّه، والنصر على الأعداء.
والجمهور : أنه في الآخرة، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال، إلا أنه فصل في بعض المواضع، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى :﴿ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ﴾.
وجاء في السنة بيان المقام المحمود وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي، ويقول : " نفسي نفسي، حتى يصلوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها أنا لها " إلخ.
ومنها : الحوض المورود، وما خصت به أمته غراً محجلين، يردون عليه الحوض.
ومنها : الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما في الحديث : " إذ سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلاَّ لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو ".
وإذا كانت لعبد واحد فمن يستقدم عليها، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له، فهو مما يؤكد أنها له، وإلاَّ لما طلبها ولا ترجاها، ولا أمر بطلبها له. وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق، إذ الخلق أفضلهم الرسل، وهو صلى الله عليه وسلم مقدم عليهم في الدنيا، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس.
ومنها : الشفاعة في دخول الجنة كما في الحديث : " أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، وأن رضواناً خازن الجنة يقول له : أمرت ألا أفتح لأحد قبلك ".
ومنها : الشفاعة، المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار، كما في الحديث : " لا أرضى وأحد من أمتي في النار " أسأل الله أن يرزقنا شفاعته، ويوردنا حوضه. آمين.
وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب، فيخفف عنه بها ما كان فيه.
ومنها : شهادتة على الرسل، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
تنبيه
اللام في ﴿ وَلَلآخِرَةُ ﴾ وفي ﴿ وَلَسَوْفَ ﴾ للتأكيد وليست للقسم، وهي في الأول دخلت على المبتدأ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره، لأنت سوف يعطيك ربك فترضى. قاله أبو حيان وأبو السعود.
تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾.
والرسول صلى الله عليه وسلم مات أبوه، وهو حمل له ستة أشهر، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل : إن يتمه لأنه لا يكون لأحد حق عليه، نقله أبو حيان.
والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾، أي ليتولى الله تعالى أمره من صغره، وتقدم معنى إيواء الله له، فكان يتمه لإبراز فضله، لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد، وكافل اليتامى.
الضلال : يكون حساً ومعنى، فالأول : كمن تاه في طريق يسلكه، والثاني : كمن ترك الحق فلم يتبعه.
فقال قوم : المراد هنا هو الأول، كأن قد ضل في شعب من شعاب مكة، أو في طريقه إلى الشام. ونحو ذلك.
وقال آخرون : إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولاً ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم، كقوله :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بحث هذه المسألة في عدة مواضع : أولاً في سورة يوسف عند قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾، وساق شواهد الضلال لغة هناك.
وثانياً : في سورة الكهف عند قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾.
وثالثاً : في سورة الشعراء عند قوله تعالى :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾.
وفي دفع إيهام الاضطراب أيضاً : وهذا كله يعني عن أي بحث آخر.
ومن الطريف ما ذكره أبو حيان عند هذه الآية، حيث قال : ولقد رأيت في النوم، أني أفكر في هذه الجملة، فأقول على الفور : ووجدك : أي وجد رهطك ضالاً فهداه بك، ثم أقول : على حذف مضاف، نحو :{ واسأل القرية. ا ه.
وقد أورد النيسابوري هذا وجهاً في الآية، وبهذه المناسبة أذكر منامين كنت رأيتهما ولم أرد ذكرهما حتى رأيت هذا لأبي حيان، فاستأنست به لذكرهما، وهما : الأول عندما وصلت إلى سورة ن عند قوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾، ومن منهج الأضواء تفسير القرآن بالقرآن، وهذا وصف مجمل، وحديث عائشة " كان خُلقه القرآن " فأخذت في التفكير، كيف أفصل هذا المعنى من القرآن، وأبين حكمه وصفحه وصبره وكرمه وعطفه ورحمته ورأفته وجهاده وعبادته، وكل ذلك مما جعلني أقف حائراً وأمكث عن الكتابة عدة أيام، فرأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في النوم، كأننا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكأنه ليس في نشاطه العادي، فسألته ماذا عندك اليوم ؟
فقال : عندي تفسير.
فقلت : أتدرس اليوم ؟ قال : لا، فقلت : وما هذا الذي بيدك ؟ لدفتر في يده، فقال : مذكرة تفسير، أي التي كان سيفسرها وهي مخطوطة، فقلت له : من أين في القرآن ؟ فقال : من أول ن إلى آخر القرآن، فحرصت على أخذها لأكتب منها، ولم أتجرأ على طلبها صراحة، ولكن قلت له : إذا كنت لم تدرس اليوم فأعطنيها أبيضها وأجلدها لك، وآتيك بها غداً، فأعطانيها فانتبهت فرحاً بذلك وبدأت في الكتابة.
والمرة الثانية في سورة المطففين، لما كتبت على معنى التطفيف، ثم فكرت في التوعد الشديد عليه مع ما يتأتى فيه من شيء طفيف، حتى فكرت في أن له صلة بالربا، إذا ما بيع جنس بجنسه، فحصلت مغايرة في الكيل ووقع تفاضل، ولكني لم أجد من قال به، فرأيت فيما يرى النائم، أني مع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ولكن لم يتحدث معي في شيء من التفسير.
وبعد أن راح عني، فإذا بشخص لا أعرفه يقول : وأنا أسمع دون أن يوجه الحديث إليَّ إن في التطفيف ربا، إذا بيع الحديد بحديد، وكلمة أخرى في معناها نسيتها بعد أن انتبهت.
وقد ذكرت ذلك تأسياً بأبي حيان، لما أجد فيه من إيناس، واللَّه أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا سواء السبيل، وعلى ما جاء في الرؤيا من مبشرات. وباللَّه تعالى التوفيق.
العائل : صاحب العيال، وقيل : العائل الفقير، على أنه من لازم العيال الحاجة، ولكن ليس بلازم، ومقابلة عائلاً بأغنى، تدل على أن معنى عائلاً أي فقيراً، ولذا قال الشاعر :
فما يدري الفَقير متى غناه | ومَا يدري الغنى متى يعيل |
وما تدري وإن ذمرت سقبا | لغيرك أم يكون لك الفَصيل |
وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة : وإن كان في المال قلّ فما أحببتم من الصداق، فعليّ، ثم أغناه الله بمال خديجة، حيث جعلت مالها تحت يده.
قال النيسابوري ما نصه : يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت : مالك ؟ فقال : الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف اللَّه، فدعت قريشاً وفيهم الصديق، قال الصديق : فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مباناً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرَّقه وإن شاء أمسكه.
فهذه القصة وإن لم يذكر سندها، فليس بغريب على خديجة رضي الله عنها أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته صلى الله عليه وسلم لما هو فيه من ضيق العيش، حتى أكلوا ورق الشجر، وأموالها طائلة في بيتها.
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار، لقد قدم المدينة تاركًا ماله ومال خديجة، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد، وكان بعد ذلك فيء بني النضير، وكان يقضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال، لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما هما الأسودان : التمر والماء.
ثم جاءت غنائم حنين، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، ورجع بدون شيء، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله، وأخيراً توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في آصع من شعير.
وقوله تعالى :﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾، يشير إلى هذا الموضع، لأن أغنى تعبير بالفعل، وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان صلى الله عليه وسلم من حيث المال حالاً فحالاً، والواقع أن غناه صلى الله عليه وسلم كان قبل كل شيء، هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة، فكان صلى الله عليه وسلم القدوة في الحالتين، في حالي الفقر والغنى، إن قلَّ ماله صبر، وإن كثر بذل وشكر.
استغن ما أغناك ربك بالغنى | وإذا تصبك خصاصة فتجمل |
وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغنى الشاكر، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، ليرسم القدوة المثلى في الحالتين.
تنبيه
في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله لإسنادها هنا للَّه تعالى.
ولكن في السياق لطيفة دقيقة، وهي معرض التقرير، يأتي بكاف الخطاب : ألم يجدك يتيماً، ألم يجدك ضالاً، ألم يجدك عائلاً، لتأكيد التقرير، لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر للَّه، مع أن كله من اللَّه، فهو الذي أوقع عليه اليتم، وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه، ذلك لما فيه من إيلام له، فما يسنده للَّه ظاهراً، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب.
وفي تعداد النعم : فآوى، فهدى، فأغنى. أسند كله إلى ضمير المنعم، ولم يبرز ضمير الخطاب.
قال المفسرون : لمراعاة رؤوس الآي والفواصل، ولكن الذي يظهر واللَّه تعالى أعلم : أنه لما كان فيه امتنان، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة، بينما أبرزه في :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ١ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٢ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾، ورفعنا لك ذكرك. لأنها نعم معنوية، انفرد بها صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم.
مجيء الفاء هنا مشعر، إما بتفريع وهذا ضعيف، وإما بإفصاح عن تعدد، وقد ذكر الجمل بتقدير، مهما يكن من شيء.
وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل : الأولى معاملة الأيتام فقال :﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ﴾، أي كما آواك الله فآوه، وكما أكرمك فأكرمه.
وقالوا : قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه.
وقيل : قرئ بالكاف " تكهر "، فقالوا : هو بمعنى القهر إلاَّ أنه أشد.
وقيل : هو بمعنى عبوسة الوجه، والمعنى أعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال "، فالقهر أعم من ذلك.
وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، والتي زادت على العشرين موضعاً، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه، فهذه أربعة، وفي الحالة الزوجية، وهي الخامسة. أما دفع المضار عنه في ماله، ففي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، جاءت مرتين في سورة الأنعام والأخرى في سورة الإسراء، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة الأنعام، بدأت بقوله تعالى :﴿ * قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾.
وذكر قتل الولد وقربان الفواحش وقتل النفس ثم مال اليتيم. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلاّ بالتي هي أحسن، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله :﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
وقد نص الفقهاء على أن من ولى مال اليتيم واستحق أجراً، فله الأقل من أحد أمرين : إما نفقته في نفسه، وإما أجرته على عمله، أي إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط، حفظاً لماله.
ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق بسيطة من باب التحيل أو نحوه، من استبدال شيء مكان شيء، فيكون طريقاً لاستبدال طيب بخبيث، فجاء قوله تعالى :﴿ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾.
والحوب : أعظم الذنب، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله، بخبيث مال الولي أو غيره حسداً له على ماله، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير، وهذا منع للتحيل وسد للذريعة، حفظاً لماله.
ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾.
وقد اتفق العلماء : أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت سواء كان بأكل حقيقة أو باختلاس أو بإحراق أو إغراق، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه، فهو تفويت عليه وكل ذلك حفظاً لماله.
وأخيراً، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن، ولم يبدله بغيره أقل منه، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه، ولم يعتد عليه بأي إتلاف كان محفوظًا له، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده، فيأتي قوله تعالى :﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾.
ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية :﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ﴾، أي حتى لا تكون مناكرة فيما بعد.
وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾، وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه.
ومهما يكن من دقة الحساب، فاللَّه سيحاسب عنه، وكفى باللَّه حسيباً، وهذا كله في حفظ ماله.
أما جلب المصالح، فإننا نجد فيها أولاً جعله مع الوالدين، والأقربين، في عدة مواطن، منها قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى ﴾.
ومنها قوله : إيراده في أنواع البر من الإيمان باللَّه وإنفاق المال :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَي الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾، إلى آخر الآية.
ومنها : ما هو أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيباً في التركة في قوله :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ ﴾، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى، ومرة أخرى يجعل لهم نصيباً فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى :﴿ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللَّهِ ﴾.
وكذلك في سورة الحشر في قوله تعالى :﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار، وسبباً للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾.
وذكر أفعالهم التي منها : أنهم يوفون بالنذر، ثم بعدها : أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله :﴿ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ١١ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ١٢ فَكُّ رَقَبَةٍ ١٣ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ١٤ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ الآية.
ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى عليهما السلام ليقيما جدارًا ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما، في قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾.
هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظ ماله، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال.
أما الجانب النفسي فكالآتي :
أولاً : عدم مساءته في نفسه، فمنها قوله تعالى :﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ٢ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾.
ومنها قوله :﴿ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ١٧ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ١٨ ﴾، فقدم إكرامه إشارة له.
ثانياً : في الإحسان إليه، منه قوله تعالى :﴿ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾، فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى.
ومنها سؤال، وجوابه من الله تعالى :﴿ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾، أي تعاملونهم كما تعاملون الإخوان، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف، ولذا قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾.
وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح : إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾.
أي حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم، بل ربما كان لهم أولاد فيما بعد أيتاماً من بعدهم، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاماً من بعدهم، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم وهذه غاية درجات العناية والرعاية.
تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه، مما يفصل مجمل قوله :﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ﴾.
لا بكلمة غير سديدة ولا بحرمانه من شيء يحتاجه، ولا بإتلاف ماله، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته، ولا بشيء بالكلية، لا في نفسه ولا في ماله.
والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس به وأشفقهم عليه، حتى قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين يشير إلى السبابة والوسطى وفرّج بينهما " رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك : " كافل اليتيم له أو لغيره " أي قريب له أو بعيد عنه.
وعند أحمد والطبراني مرفوعاً : " من ضم يتيماً من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه، وجبت له الجنة " قال المنذري : رواه أحمد، محتج بهم إلا علي بن زيد.
وعند ابن ماجه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يُحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يُساء إليه ".
وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها، في قوله صلى الله عليه وسلم " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ بيده يزيد بن زربع بفتح الزاي وإسكان الباء بالوسطى والسبابة امرأة آمت زوجها بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء أصبحت أيماً، بوفاة زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا ".
وجعله الله دواء لقساوة القلب، كما روى أحمد ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً شكا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال : " امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين ".
وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم، وأرأفهم بعباد الله، الموصوف بقوله تعالى :﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾، وبقوله :﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾، ليكون مثالاً مثالياً في أمة قست قلوبها وغلظ
﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ﴾، قالوا : السائل الفقير والمحتاج، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله :﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾، أي فكما أغناك الله وبدون سؤال، فإذا أتاك سائل فلا تنهره، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن.
ومعلوم : أن الجواب بلطف، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعداً حسناً لحين ميسره، أخذًا من قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴾.
وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى، هما قول الشاعر :
إن لم تكن ورق يوماً أجود بها | للسائلين فإني لين العود |
لا يعدم السائلون الخير من خلقي | إما نوالي وإما حسن مردود |
وقيل : السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد، وقالوا هذا مقابل قوله :﴿ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ﴾، أي لا تنهر مستغنياً ولا مسترشداً، كقوله تعالى :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الأَعْمَى ﴾.
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً شفيقاً على الجاهل حتى يتعلم، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة فقال لهم " لا تزرموه، إلى أن قال الأعرابي : اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحدًا أبداً " وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول : " هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في رمضان، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقًا من طعامه يكفّر به عن ذنبه، فقال : أعلى أفقر منا يا رسول اللَّه ؟ فقال : قم فأطعمه أهلك ".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه وهو يصبر لها ولم ينهرها، بل يجيبها على أسئلتها.
وقد حث صلى الله عليه وسلم على إكرام طالب العلم، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضي بما يصنع.
وقيل : التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها، كما في قوله تعالى :﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾، أي كل نعمة، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها، أو هو أعظمها، لقوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴾، فقال : نعمتي، وهنا نعمة ربك. ولا يبعد عندي أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع، لما أنزل الله عليه هذه الآية، ففعل شكراً للَّه على إتمام النعمة بإكمال الدين.
وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها : إن التي قبلها في الصديق ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ١٧ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ١٨ وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ١٩ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ٢٠ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾، وهنا في الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ٣ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأَولَى ٤ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب.
والواقع أن مناسبات السور القصار، أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة، كما بين هاتين السورتين والليل مع والضحى، ثم ما بين والضحى، وألم نشرح، إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله.
وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى. أعلم علماً بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات.
ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة، فلا ينبغي إغفاله، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له.