ﰡ
وروَى السُّدِّيُّ عن أبي مَلَكٍ معنى قولهِ طه :(يَا فُلاَنُ)، قال الكلبيُّ :(بلُغَةِ عَكَّ : يَا رَجُلُ)، قال ابنُ الأنباريِّ :(وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ تِلْكَ اللُّغَةَ أيْضاً فِي هَذا الْمَعْنَى ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُخَاطِبْ نَبيَّهُ إلاَّ بلِسَانِ قُرَيْشٍ. قَالَ : الشَّاعِرُ : إنَّ السَّفَاهَةَ طَه فِي خَلاَئِقَكُمْ لاَ قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ الْمَلاَعِيْنيريدُ : يا رجلُ، وقال آخرُ : هَتَفْتُ بطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوَائِلاَوقُرئ (طَهْ) بتسكينِ الْهَاء، ولهُ معانٍ ؛ أحدُها : أن تكون الْهَاءُ بدلاً من همزةِ الطَّاء كقولِهم في : أرْقْتُ هَرَقْتُ. والآخرانِ : أن يكون على تركِ الهمزة طَا يا رجلُ بقدمِكَ الأرضَ، ثم يدخلُ الْهاءُ للوقفِ، فإنه رُويَ :" أنَّ النبيَّ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ بمَكَّةَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَكَانَ إذا صَلَّى رَفَعَ رجْلاً وَوَضَعَ أُخْرَى ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (طَهَ) أيْ طَأ الأَرْضَ بقَدَمِكَ.
وقال بعضُهم : أولُ السُّورة قَسَمٌ ؛ أقْسَمَ اللهُ بطولهِ وهدايته. وقال بعضُهم : الطاءُ من الطَّهارةِ، والْهاءُ من الهدايةِ، كأنهُ تعالى قالَ لنبيِّه ﷺ : يَا طَاهِراً مِنَ الذُّنُوب، وَيَا هَادِياً إلَى عَلاَّمِ الْغُيُوب.
وقال الحسنُ :(هَذا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِيْنَ، وَذلِكَ أنَّ أبَا جَهْلٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالاَ لِلنَّبيِّ ﷺ : وَإنَّكَ لَتَشْقَى، لِمَا رَأواْ مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ، فَقَالَ ﷺ :" بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ " قَالُوا : بَلْ أنْتَ شَقِيٌّ، " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ وَلَكِنْ لِتَسْعَدَ وَتَنَالَ الْكَرَامَةَ بهِ في الدُّنيا والآخرةِ).
والشَّقَاءُ في اللغة : احمرارُ ما شُقَّ على النفْسِ من التعب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي نَزَلْنَاهُ تَنْزِيلاً. والعُلَى : جمع العَلْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ أي وما تحتَ التُّراب. والمفسِّرون يقولون هو الترابُ النديُّ تحت الأرضِ السُّفلى، وَقِيْلَ : تحتَ الصخرةِ التي عليها الثورُ، ولا يعلمُ ما تحتَ الثَّرى إلاّ اللهُ.
وعن سعيدِ بن جُبير قال :(السِّرُّ مَا تُسِرُّهُ فِي نَفْسِكَ، وَأخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ كَائِنٌ، فَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا خَفِيَ عَنِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أنْ يَفْعَلَهُ).
كانت رؤيتهُ للنارِ في ليلةِ الجمعة، وكان قد استأذنَ شُعيباً عليه السلام في الرجوعِ إلى والدتهِ فأذِنَ لهُ، فخرجَ بامرأتهِ، فولدت في الطريقِ في ليلةٍ باردة مثلجة، وقد حادَ عن الطريقِ، فقدحَ فلم يرَ نورَ المقدحة شيئاً، فبينما هو في مداولةِ ذلك إذ أبصرَ ناراً عن يسار الطريق، فقال لامرأتهِ : امْكُثُوا - أي أقِيمُوا مكانَكم - إنِّي أبصرتُ ناراً، لَعَلِّي آتِيْكُمْ مِنْهَا بقَبَسٍ، أوْ أجِدُ عَلَى النَّار مَن يدلُّني على الطريقِ.
قال وهبُ :(نودي من الشجرةِ، فقيل : يا موسى، فأجابَ سريعاً لا يدري مَن دعاهُ، فقال : إنِّي أسمعُ صوتَكَ فلا أرى مكانكَ، فأين أنتَ ؟ قال : أنا فوقكَ ومعك وأمامكَ وخلفك وأقربُ إليك من نفسك، فعَلِمَ أن ذلك لا ينبغي إلاّ لرَبهِ عَزَّ وَجَلَّ، فأيقنَ به). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(إنَّمَا أُمِرَ بخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيَنَالَ قَدَمَاهُ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَيُبَاشِرَ تُرَابَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بقَدَمِهِ، فَيَنَالُهُ بَرَكَتُهَا) وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْمُقَدَّسِ ﴾ أي الْمُطَهَّرِ. قال عكرمةُ :(كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيْتٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ ؛ المقدَّس : هو المطهَّر، وَقِيْلَ : المباركُ، ولا يستدلُّ بما قالَهُ عكرمةُ على أنَّ جلودَ الميتة لا تَطْهُرُ بالدِّباغ ؛ لأنه إنْ كانَ كذلك فهو منسوخٌ بقولهِ عليه السلام :" إيَّمَا إهَابٍ دُبغَ طَهُرَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ طُوًى ﴾ هو اسم الوادي.
والمعنى : أنَّ اللهَ تعالى بَالَغَ في إخْفاءِ السَّاعةِ، فذكَرَهُ بأبلغِ ما تعرفُ العرب. قال قتادةُ :(هِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ : أَكَادُ أُخْفِيْهَا مِنْ نَفْسِي، وَلَعَمْرِي لَقَدْ أخْفَاهَا اللهُ عَنِ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرِّبيْنَ وَالأَنْبيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ وعَبْدِاللهِ : أكَادُ أُخْفِيْهَا مِنْ نَفْسِي، فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ؟).
ومعنى الآية : أكَادُ أُخْفِيْهَا عن عبادي ؛ كَي لا تأتيَهم إلاّ بَغْتَةً، والفائدةُ في إخفائِها عن العبادِ : التهويلُ والتخويف، وفي ذلك مصلحةٌ لَهم ؛ لأنَّهم إذا لَم يعلموا متى قيامُها كانوا على حَذرٍ منها في كلِّ وقتٍ، خائفين من الموتِ، مستعدِّين لذلكَ بالتوبةِ والطاعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ ؛ أي بسَعْيهَا، إما الثوابُ وإما العقابُ. وقرأ الحسنُ وابن جبير :(أكَادُ أخْفِيْهَا) بفتحِ الهمزة ؛ أي أُظْهِرُهَا وَأُبْرِزُهَا، يقالُ : خَفَيْتُ الشَّيْءَ إذا أظهرتهُ، وأخفيتهُ إذا سَتَرْتُهُ.
وَقِيْلَ : كان الغرضُ بهذا السُّؤال إزالةُ الوحشةِ منه ؛ لأن موسَى كان خائفاً مُستوحشاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ ؛ أي أخْبطُ به الشجرَ ؛ ليتناثرَ وَرَقُهُ فيأكلهُ غَنَمِي. وقرأ عكرمةُ :(وَأهُشُّ) بالشِّين، يعني أزْجُرُ بها الغنمَ، وذلكَ أنَّ العربَ تقولُ : هَشَّ وقَشَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ ؛ أي حوائجُ أُخرى، تقولُ : لا إرَبَ لِي في هذا ؛ أي لا حاجةَ لِي فيه، واحدُ الْمَآرِب مَأْرُبَةٌ بضمِّ الراء وكسرِها وفتحها، وإنَّما لَم يقل : أُخَرَ ؛ لأجلِ رُؤوسِ الآيِ.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانت مَآرِبُهُ أنه إذا ورد ماء قصر عنه رشاؤه وصله بالْمِحجنِ، ثم أدلَى العصا وكان في أسفلِها عكَّازةٌ يقاتلُ بها السباعَ، وكان يُلقي عليها كسائَهُ يستظلُّ تحتَها، ومن مآربهِ أيضاً أنه كان اذا أرادَ الاستسقاءَ مِن بئرٍ أدلاها، فطالَتْ على طولِ البشر، فصارت شُعبتاها كالدَّلو، وكان يظهرُ على شعبَتَيها الشَّمعتين بالليلِ - يعني : يضيءُ لهُ مد البصرِ ويهتدي بها - واذا اشتهَى ثمرة من الثمارِ رَكَزَها في الأرضِ، فَتَغَصَّنت أغصانُ تلك الشجرةِ، وأورقت أورقُها وأثْمَرت).
ثم كان من المعلومِ أنَّ موسى لَمْ يُرِدْ بهذا الجواب إعلامَ اللهِ تعالى ؛ لأن اللهَ تعالى أعلمُ بذلكَ منه، ولكن لَمَّا اقتضى السؤالُ جواباً لَمْ يكن بدٌّ له من الإجابةِ، فذكرَ منافعَ العصا إقراراً بالنعمة فيها والتزاماً بما يجبُ عليه من الشُّكر للهِ، وهكذا سبيلُ أولياءِ الله تعالى في إظهار شُكر نِعَمِ اللهِ تعالى، وفي هذا جوابٌ عن بعضِ الْمُلْحِدَةِ في باب المسألةِ كانت عن فائدة ما في يده، ولَم يكن عن منافعِها، فلِمَ كان الجوابُ عن ما لَم يسأل؟
فلما أمَرَهُ اللهُ بأخذِها أدنَى طَرَفَ ثوبهِ على يده، وكان عليه مَدْرَعَةٌ من صُوفٍ، فلما جعل طَرَفَ المدرعةِ على يدهِ ليتناولَها، قال مَلَكٌ : يا موسى ؛ أرأيتَ لو أنَّ الله قد رَعَاكَ ما تحاذرهُ ؟ أكانت المدرعةُ تُغني عنكَ شيئاً ؟ قال : لاَ، ولكنِّي ضعيفٌ ومن ضعفٍ.
فأُمِرَ أن يُدخِلَ يدهُ في فَمِها فكشفَ عن يدهِ، ثُم وضعَها في فمِ الحيَّة، وإذا يدهُ في الموضعِ الذي كان يضعُها فيه بين الشُّعبتين اللَّتين في رأسِ العصا، وإنَّما أُمِرَ بإدخالِ يده فمِها ؛ لأنه إنَّما يُخشى من الحيَّة مِن فمِها، فأرادَ اللهُ أن يُريَهُ من الآيةِ التي لَم يقدر عليها مخلوقٌ. ولئلا يفزعَ منها اذا ألقَاها عند فرعونَ، فلا يولِّي مُدبراً.
وكان سببُ العُقْدَةِ في لِسانِهِ أنه كان في حُجرة فرعونَ، فأتَى يومٌ فأخذ بلحيتهِ فَنَتَفَ منها شيئاً، وقال فرعونُ لامرأته آسْيَةُ : إنَّ هذا عَدُوِّي المطلوب وَهَمَّ بقتلهِ، فقالت له آسْيَةُ : لا تفعل، فإنه طِفْلٌ لا يعقلُ، ولا يفرِّقُ بين الأشياءِ ولا يُميز، وعلامةُ ذلك : أنه لا يُميز بين الدُّرَّةِ والجمرةِ، ثُم جاءت بطِشْتَيْنِ، فجعلت في أحدِهما الجمرَ من النار، وفي الآخرِ الجوهرَ والْحِلِيَّ، ووضعَتْهُما بين يَدَي موسى، فأراد مُوسى أن يأخذ شيئاً من الحليِّ، فأخذ جبريلُ بيدهِ فوضعَها على النارِ، فأخذ جمرةً ووضعَها في فمهِ حتى أحْرَقَ لسانَهُ، فكانت في لسانهِ رُتَّةٌ، فدفعَ عنهُ أكثرَ الضَّررين بأقلِّهما.
وقد اختلفوا في هذه العُقْدَةِ : هل زَالَتْ بأجمعِها في وقتِ نُبُوَّتِهِ، أم لاَ ؟ قال بعضُهم - وهو الأصحُّ وإليه ذهبَ الحسنُ - : أنَّ الله استجابَ له، فَحَلَّ العُقدةَ من لسانهِ ؛ لأنه تعالى قال﴿ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى ﴾[طه : ٣٦] فعلى هذا قولُ فرعونَ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾[الزخرف : ٥٢] أي لا يأتِي ببيانٍ يُفْهِمُ، وكان هذا القولُ كذباً منهُ ؛ ليصرفَ الوجوهَ عنهُ.
ثُم بَيَّنَ الوزيرَ مَن هو، فقالَ :﴿ هَارُونَ أَخِي ﴾، قِيْلَ : هرونُ مَفْعُولُ (اجْعَلْ)، تقديرهُ : اجْعَلْ هرونَ أخِي وزيراً لِي، ﴿ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴾ ؛ أي أُقَوِّي به ظَهرِي، والأَزْرُ الظَّهْرُ، لنتعاونَ على الأمرِ الذي أمَرْتَنَا به، يقالُ : آزَرْتُ فُلاناً إذا عاونتهُ.
ثم بَيَّنَ تلك النعمة، فقالَ تعالى :﴿ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ ﴾ ؛ أي ألْهَمْنَاهَا حين عَنَتْ بأمرِكَ، وما كان فيه سببُ نَجاتِكَ من القتلِ، ﴿ مَا يُوحَى ﴾ ؛ أي ما يُلْهَمُ، ثم فسَّرَ ذلك الإلْهَامَ فقال :﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ وكان السببُ في ذلك أن فرعونَ كان يقتلُ غِلْمَانَ بنِي إسرائيلَ على ما تقدَّم ذكرهُ، ثُم خَشِيَ أن يَفْنَى نسلُ بني إسرائيلَ، فكان يقتلُ بعد ذلك في سنةٍ ولا يقتلُ في سنةٍ، فوُلِدَ موسى في السَّنة التي يقتلُ فيها الغلمانَ، فنجَّاهُ الله من القتلِ بأن ألْهَمَ أُمَّهُ أن جعلته في التابوتِ، وأُطْرِحَ التابوت في اليَمِّ وهو البحرُ، وأرادَ به النِّيْلَ ومعنى قوله تعالى :﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ ﴾ أي اجعليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ ؛ لفظهُ لفظ الأمر وهو خبرُ (بتقدير) حتى يلقيه اليَمُّ بالسَّاحل. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾ ؛ وأرادَ به فرعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ ؛ وذلك أن أُمَّ موسى لَمَّا اتخذت لِموسى تابوتاً جعلت فيه قُطْناً مَحْلُوجاً، ووضعت فيه موسَى وألقتْهُ في النِّيلِ، وكان يشرعُ منه نَهر كبيرٌ في دار فرعون، فبينما هو جالسٌ على رأسِ البرْكَةِ مع امرأتهِ آسْيَةُ، إذا بالتابوتِ يَجِيْءُ بالماء.
فلما رأى ذلك أمَرَ الجوارِي والغلمان بإخراجهِ فأخرجوهُ، فإذا هو صبيٌّ من أحسنِ الناس وَجْهاً، فلما رآهُ فرعون أحَبَّهُ بحيثُ لَم يتمالك، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ قال عطية العوفي :(وَجَعَلَ عَلَيهِ مِسْحَةً مِنْ جَمَالٍ فَأَحَبَّهُ كُلُّ مَن رآهُ).
وقال عطاءٌ عن ابنِ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ أيْ لاَ يَلْقَاكَ أحَدٌ إلاَّ أحَبَّكَ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ)، وقال عكرمةُ :(ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً ومَلاَحَةً وَحُسْناً)، فحين أبصرَتْ آسية وجهَهُ قالت لفرعون : قُرَّةَ عَيْنٍ لِي ولكَ. وقال أبو عبيدةُ :(مَعْنَاهُ : جَعَلْتُ لَكَ مَحَبَّةً عِنْدِي وَعِنْدَ غَيْرِي، أحَبَّكَ فِرْعَوْنُ، فَسَلِمْتَ مِنْ شَرِّهِ، وَأحَبَّتْكَ امْرَأتُهُ فَتَبَنَّتْكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ ؛ أي ولِتُرَبَّى وتغذى بمرأى أراكَ على ما أريدُ بك من الرفاهيَةِ في غذائِكَ. وقال قتادةُ :(مَعْنَاهُ : لِتُغَذى عَلَى مَحَبَّتِي).
وأرادَ في قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ ﴾ ؛ وذلكَ أن موسى جَعَلَ يبكي ويطلبُ اللَّبَنَ، فأمَرَ فرعونُ حتى أتَى بالنَّساءِ اللَّواتِي حولَ فرعون ليُرضعْنَ موسى، فلم يَقْبَلْ ثَديَ واحدةٍ منهن، وكانت أُخْتُ موسى مُتَّبعَةً للتابوتِ ماشيةً خَلْفَهُ.
فلما حُمل التابوتُ إلى فرعونَ، ذهبت هي معهُ، فقالت : هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ؟ أي يرضعهُ ويضمُّه ويحصنهُ ؟ فقالوا : مَن هي ؟ قالت : امرأةٌ قد قُتِلَ ولدُها، وهي تحبُّ أن تجدَ صبيّاً ترضعهُ.
وعن السديِّ قال :(الْقَوْلُ اللَّيِّنُ : أنَّ موسَى أتَاهُ فَقَالَ لَهُ : تُؤِمِنُ بمَا جِئْتُ بهِ، وَتَعْبُدُ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ عَلَى أنَّ لَكَ شَبَابَكَ فَلاَ تَهْرَمُ، وَأنَّ لَكَ مُلْكَكَ لاَ تُنْزَعُ حَتَّى تَمُوتَ، وَلاَ تُنْزَعُ عَنْكَ لَذةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب وَالْجِمَاعِ حَتَّى تَمُوتَ، فَإذا مِتَّ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. فَأَعْجَبَهُ ذلِكَ، وَكَانَ لاَ يَقْطَعُ أمْراً دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ هَامَانُ غَائِباً، فَقَالَ فِرْعَونُ : إنَّ لِي ذا أمْرٍ غَائِبٍ، فَاصْبرْ حَتَّى يَقْدُمَ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ إنَّ مُوسَى دَعَانِي إلَى أمْرٍ فَأَعْجَبَنِي - وَأخْبَرَهُ بالَّذِي دَعَاهُ إلَيْهِ - وَأرَدْتُ أنْ أقْبَلَ مِنْهُ. فَقَالَ هَامَانُ : قَدْ كُنْتُ أرَى أنَّ لَكَ عَقْلاً، بَيْنَمَا أنْتَ رَبٌّ فَتُرِيْدُ أنْ تَكُونَ مَرْبُوباً، وَأنْتَ تُعْبَدُ فَتُرِيْدُ أنْ تَعْبُدَ؟. فَغَلَبَهُ عَلَى رَأيهِ فَأَبَى.
رُويَ أنَّ رَجُلاً قَرَأ فِي مَجْلِسِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾ فَبَكَى يَحْيَى ابْنُ مُعَاذٍ وَقَالَ :(إلَهِي، هَذا رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنَا إلَهٌ، فَكَيْفَ رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنْتَ إلَهِي، إنَّ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَهْدِمُ كُفْرَ خَمْسِيْنَ سَنَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ ؛ أي يَتَّعِظُ أو يخشى العاقبةَ، وكلمة (لَعَلَّ) للترجِّي والطمعِ ؛ أي اذهبَا على رجائِكُما وطمَعِكُما وأنا عالِمٌ بما يفعلُ، فإن قيلَ : كيفَ قال ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ﴾ وعلمهُ سابقٌ في فرعونَ أنه لا يؤمنُ، ولا يتذكر ولا يخشَى ؟ قِيْلَ : هذا مصروفٌ إلى غيرِ فرعون، تقديرهُ : لِكَي يتذكرُ متذكرٌ ويخشَى خَاشٍ إذا رأى بَرِئ، وألطَافِي بمن خلقتهُ ورزقتُهُ وصحَّحتُ جِسمَهُ وأنعمتُ عليه، ثم ادَّعى الربوبيةَ دونِي.
قال بعضُ العارفين في قولهِ تعالى :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾ :(إذا كَانَ هَذا رفْقُكَ بمَنْ ينافيكَ، فكيفَ رفقُكَ بمن يصافيكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يعاديكَ، فكيف رفقُكَ بمن يواليكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يسبُّكَ، فكيفَ رفقُكَ بمن يحبُّكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يقولُ نداً فكيفَ بمن يقول فرداً ؟ هذا رفقُكَ بمن ضَلَّ، فكيفَ رفقُكَ بمن زلَّ ؟ هذا رفقُكَ بمن اقترفَ، فكيفَ رفقُكَ بمن اعترفَ ؟ هذا رفقُكَ بمن أصرَّ، فكيف رفقُكَ بمن أقرَّ ؟ هذا رفقُكَ بمن استكبرَ، فكيف رفقكَ بمن استغفرَ؟).
وعن وهب بن منبه قال :(أوحى اللهُ إلى موسى : انطلِقُ إلى فرعونَ برسالتِي، فمعكَ نَظَرِي وأنتَ جندٌ عظيم من جُنودِي، بعثتُكَ إلى خلقٍ ضعيف قد عزَّته الدنيا حتى كفرَ وأقسَم بعزي لولا اتخاذُ الحجَّة عليه والعذرَ إليه لبطشتُ به بطشةَ جبارٍ يغضبُ لغضبهِ السَّموات والأرض، فإن أذنَ للسَّماء صَعَقَتْهُ، وللأرضِ ابتلعتْهُ، وللجبال دمَّرتهُ، وللبحار أغرقته، ولكنهُ وسعَهُ حِلْمي، فبلِّغْهُ رسالَتي وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لا يغرُّ بك فألبسه من لباسِ الدُّنيا، فأحِبْ ربك الذي هو واسعُ المغفرة، أنه قد أمهلَكَ منذُ خمسمائة سنة لَم تَهرمْ ولَم تسقمْ وَلم تفتَقِرْ، واعلم أنَّ أفضلَ ما تزينَ به العبادُ الزهدَ في الدنيا، ومن أهانَ ولِيّاً فقد بارَزَنِي بالْمُحاربةِ).
وكان فرعونُ قد أتعبَ بنِي إسرائيلَ بالأعمالِ الشَّاقة، مثلَ اللَّبن والطينِ والبناء، وما لا يقدرونَ عليه. فلمَّا قال موسى : قَدْ جِئْنَاكَ بآيَةٍ مِنْ رَبكَ، قال : ما هيَ ؟ فأدخلَ يدَهُ في جيب قميصه ثُم أخرجَها، فإذا هي بيضاءُ لَها شعاعٌ غَلَبَ نورَ الشمسِ، ولَم يُرِهِ العصا إلاّ بعدَ ذلك يوم الزِّينة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ ؛ ليس هو بتحيَّةٍ لفرعون ولكن معناهُ : أن مَن اتَّبَعَ الْهُدى سَلِمَ من عذاب الله بدليلِ أنه عَقَّبَهُ بقولهِ تعالى :﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ ؛ أي إنَّما يُعَذِّبُ اللهُ مَن كذبَ بما جئنا به وأعرضَ عنه، فأمَّا مَن اتَّبَعَهُ فإنه يَسْلَمُ.
وقال الضحَّاك :(أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقْهُ ؛ يَعْنِي لِلْيَدِ الْبَطْشَ، ولِلرِّجْلِ الْمَشْيَ، وَلِلِّسَانِ النُّطْقَ، وَلِلْعَيْنِ النَّظَرَ، وَلِلأُذُنِ السَّمْعَ). وقال سعيدُ بن جبير :(أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ شَكْلَهُ لِلإنْسَانِ زَوْجَةً، وَلِلْبَعِيْرِ نَاقَةً، وَلِلْفَرَسِ رَمَكَةً، وَلِلْحِمَارِ أتَاناً، وَلِلثَّوْر بَقَرَةً، ﴿ ثُمَّ هَدَى ﴾ ؛ أي ألْهمَ وعَرَّفَ كيف يأتِي الذكرُ الأنثى في النِّكاحِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾ ؛ أي لا يذهبُ عليه شيءٌ، ولا يخطئُ ولا ينسى ما كان من أمرِهم حتى يُجازِيهم عليه، وَقِيْلَ : لا يغفلُ ربي ولا يتركُ شيئاً، ولا يغيبُ عنه شيءٌ، وفي هذا دليلٌ أنَّ الله تعالى لَم يكتُبْ أفعالَ العبادِ لحاجتهِ في معرفتها إلى الكتاب، ولكن لمعرفةِ الملائكة. ويقالُ : كان سؤالُ فرعون عن القرونِ الأُولى : هل بُعِثَ فيهم أنبياءُ كما بُعْثْتَ إلينا، فأحالَها على ما في المعلومِ من أمرها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ أي طُرُقاً تذهبون وتجيئُونَ فيها وتسلكونَها. قال ابنُ عبَّاس :(سَلَكَ أيْ سَهَّلَ لَكُمْ فِيْهَا طُرُقاً). ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً ﴾ ؛ يعني المطرَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ ؛ أي فأخرَجْنا بالمطرِ أصنافاً من نباتٍ مختلف الألوانِ.
فواعدَهُ موسى يوماً مَعْلُوماً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ﴾ أي يومُ العيدِ الذي لكم. قال سعيدُ بن جبير :(كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ)، قرأ الحسنُ :(يَوْمَ الزِّيْنَةِ) بنصب الميم ؛ أي فِي يوم. وقرأ الباقون بالرفعِ على الخبرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ ؛ أي ضُحى ذلك اليومِ، وأراد بالناسِ أهلَ مصر، ومعنى يُحشرون أي يجتمعون إلى العيدِ، وإنَّما جعلَ موسى موعدَهم نَهاراً في يومِ اجتماعهم ؛ ليكون أبلغَ في الحجَّة، وأبعدَ من الرِّيبة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَن يُحْشَرَ ﴾ يحتمل أن يكون في موضعٍ رفعٍ على معنى موعدٍ كما حُشِرَ الناسُ وقتَ الضُّحى يوم الزينة، ويحتملُ أن يكون في موضعِ خَفْضٍ عَطْفاً على الزينةِ، المعنى يومُ الزينةِ، ويومُ حشرِ الناس في وقتِ الضَّحوة.
وأختلفَ القُرَّاء في قولهِ تعالى ﴿ إِنْ هَـاذَانِ ﴾، قرأ أبو عمرو (هَذيْنِ) على اللغة المعروفةِ وهي لغةُ أهلِ الحجاز، وقرأ نافعُ وابن عامر وحمزةُ والكسائي (هَذانِ) بالألفِ وهي لغَةُ كنانةَ وبني الحارثِ بن كعب وخَثْعَمَ وزيدٍ وقبائلَ من اليمنِ : يجعلون ألِفَ الاثنين في الرفعِ والنصب والخفضِ على لفظٍ واحد، يقولون : أتانِي الزَّيدان، ورأيتُ الزَّيدان، مَرَرْتُ بالزيدان. قال الفرَّاءُ :(أنْشَدَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ، وَمَا رَأيْتُ أفْصَحَ مِنْهُ : فَأَطْرَق إطْرَاقَ الأُفْعُوَانِ وَلَوْ يَرَى مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا)ويقولون : كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عُلاَهُ، يعني يديهِ وعليه، قال شاعرُهم : تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاه ضَرْبَةً دَعَتْهُ إلَى هَابي التُّرَاب عَقِيْمُأراد بين أُذُنيهِ فقال آخرُ : أيُّ قُلُوصِ رَاكِبٍ تَرَاهَا طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا أي عليهنَّ وعليها، وقال آخرُ : إنَّ أبَاهَا وَأبَا أبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَاوقال بعضُهم (إنْ) هنا بمعنى : نَعَمْ. رويَ أنَّ أعرابياً سألَ ابن الزُّبير شيئاً فَحَرَّمَهُ، فقال : لَعَنَ اللهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ :(إنْ وَصَاحِبُهَا) يعنِي نَعَمْ. وقال الشاعرُ : بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبا حِ يَلُمْنَني وَألُومُهُنَّهْوَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ كَ وَقَدْ كَبرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْأي نعم. وقد ذكرَ أهلُ النحوِ لتصحيح هذه القراءةِ وجُوهاً :
أحدُها : ضَعْفُ عملِ (إنْ) لأنَّها تعملُ بالمشبَّه بالفعلِ وليست بأصلٍ في العمل، ألا ترى أنَّها خُففت لَم تعمل.
والثانِي : أنَّها تشبهُ (اللَّذيْنِ) في البناءِ ؛ لأن (اللَّذيْنِ) في الرفع والنصب والخفض سواءٌ، ولأنَّ الألفَ في (هَذانِ) ليس ألفَ التشبيهِ لوجودها في الوِحْدَانِ، وإنَّما زيْدَتْ النونُ في التثنيةِ ليكون فرقاً بين الواحدِ والاثنين، كما قالواُ (الَّذِيْ) ثُم زادوا نُوناً تدلُّ على الجمعِ، قالوا (الَّذِيْنَ) في رفعِهم ونصبهم.
والثالثُ :(إنْ) ها هُنا مخففة وليست مضمرة إلاّ أنه حُذفت الهاء.
والرابعُ : أنه لَمَّا حُذفت الألِفُ صارت ألفَ التثنية عِوَضاً منها.
والخامسُ : أنَّ (إنْ) بمعنى نَعَمْ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَيْدَكُمْ ﴾ أي مَكْرَكُمْ وسِحرَكم، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً ﴾ ؛ مُجتمعين ؛ ليكونَ أنظَمَ لأُموركم، وأشدَّ لِهيبَتكم. وَقِيْلَ : معناهُ : ثُم ائتوا الْمُصَلَّى. والعربُ تسمِّي الْمُصَلَّى صَفّاً. قال الزجَّاج :(فَعَلَى هَذا مَعْنَاهُ : ثُمَّ ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيْهِ لِعِيْدِكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾ ؛ أي قد فَازَ بالفلاحِ والبقاء مَن كانت الغَلَبَةُ لهُ.
روي أنَّهم كانوا سبعينَ ألفَ ساحرٍ، وكان عددُ ما عمِلُوا من الحبالِ والعصيِّ حِمْلَ ثلاثِمائة بعيرٍ، فألْقَوا ما معهم، ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ ؛ أي تَمشي وتتحرَّكَ، وكانوا قد احتالُوا فيها بحيلةٍ، فكان كلُّ مَن رآها مِن بعيد يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها تتحركُ.
قرأ ابنُ عامر :(تُخَيِّلُ) بالتاء، ردَّهُ إلى الحبالِ والعِصِيِّ، وقرأ الباقون بالياء، ردُّوهُ إلى الكيدِ والسِّحر، وذلك أنَّهم لَطَّخُوا حبالَهم وعصيَّهم بالزِّئبقِ، فلما أصَابَهُ حرُّ الشمسِ ارتعشت واهتَزَّت، فظنَّ موسى أنَّها تقصده، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ﴾ ؛ أي أحسَّ ووَجَدَ، وَقِيْلَ : أضْمَرَ في نفسه خِيْفَةً.
فإن قِيْلَ : لِمَ جازَ أمرُهم بالإلقاءِ وهو كفرٌ ؟ قِيْلَ : يجوزُ أن يكون معناهُ : ألْقُوا إنْ كنتم مُحِقِّيْنَ كما زعمتُم، ويجوزُ أن يكون أمراً بالإلقاءِ على وجه الاعتبارِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ ﴾، فإن قِيْلَ : ما الذي خَافَهُ موسى ؟ قِيْلَ : خافَ أن يلتبسَ على الناسِ أمرُ السَّحَرَةِ فيتوهَّمون أنَّ حبالَهم وعصيهم بمنْزِلة عصاهُ. وَقِيْلَ : كان خوفهُ خوفَ الطبعِ لِمَا رأى من كثرةِ الحيَّات العِظَامِ.
فألقَى موسى عصاهُ فتلقَّفت جميعَ ما صنعوا، ثُم أخذها موسى فرجعت عصا كما كانت، ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ ؛ فما رفَعُوا رؤوسَهم حتى رأوا الجنةَ والنار، ورأوا ثوابَ أهلِها، فعندَ ذلك قالوا :(لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البيِّنات) يعني الجنةَ والنار، وما رأوا مِن درجاتِهم.
قال : وكانتِ امرأةُ فرعون تسألُ مَنْ غَلَبَ ؟ فقيل لَها : موسى، فقالت : آمنتُ برب موسى وهارون، فأرسلَ إليها فرعونُ، فقال : انظرُوا إلى أعظمِ صخرة تَجدونَها فأْتُوها، فإنْ هي رجعت عن قولِها وإلاّ فألْقُوها عليها، فلما أتَوها رفعت ببصرِها إلى السَّماءِ فرأتِ الجنَّةَ فقالت :﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾[التحريم : ١١] فانْتُزِعَتْ روحُها، والصخرةُ على جسدٍ لا روحَ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ ؛ أي رئيسُكم ومعلِّمُكم، وإنَّما قال فرعونُ هذه المقالةَ قصداً منه إلى صَرْفِ الناس عن اتِّباع موسى ؛ لأن السَّحرةَ لَم يتعلَّموا من موسى، وإنَّما كانوا يعلَّمون السحرَ قبل قُدوم موسى وقبل ولادته، ﴿ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ، ﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ ؛ أي على جُذوع النَّخلِ، أُقيمَ حرفُ (في) مقام حرفِ (على)، فكان فرعونُ أوَّلَ من قطعَ اليد والرِّجل من خلافٍ وصَلَبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ﴾ ؛ أي لتعلمنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى عذاباً، أنا أمْ ربُّ موسى وهارون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِي فَطَرَنَا ﴾ ؛ أي لن نُؤْثِرَكَ على الله الذي فَطَرَنَا ؛ أي خَلَقَنَا، ويجوزُ أن يكون قولهُ ﴿ وَالَّذِي فَطَرَنَا ﴾ قَسَماً، ﴿ فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ ﴾ ؛ أي إصْنَعُ ما أنتَ صانع، ﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَـاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ ﴾ ؛ أي إنَّما تحكمُ علينا في الدُّنيا وهي منقضيةٌ لا محالةَ، وأما الآخرةُ فليسَ لك فيها حظٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ؛ أي هو خيرٌ ثواباً إنْ أُطِيْعَ، وأبقى عقاباً إنْ عُصِي. ويقالُ : ما عندَ الله من الكرامةِ والثواب أفضلُ وأدوم مما تعطينا أنتَ من المالِ، وهذا جوابٌ عن قوله﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ﴾[طه : ٧٣] وها هنا انتهى قولُ السَّحرةِ.
ودرجاتُ الجنة بعضُها أعلى من بعضٍ، والعُلْى جمعُ العُلْيَا، قال ﷺ :" إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْهُمْ كَأَضْوَاءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ، وَإنَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ ".
وقرأ حمزةُ (لاَ تَخَفْ) على النَّهي مجزوماً، (وَلاَ تَخْشَى) بالألفِ، كأنه استأنفٌ، وتقديرهُ : وأنتَ لا تخشى، كقولهِ :﴿ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾[آل عمران : ١١١].
وذلك أنَّهُ لَمَّا تَرَاءَى الجمعانِ، أمرَ اللهُ موسى أن يضربَ بعصاهُ البحرَ، فضربه فانفلقَ الماءُ في عِرْضِ البحرِ حتى صارَ فيه اثنا عشرَ طريقاً، وبَقِيَ الماءُ قائماً بين الطريقين كالجبلِ، فسَلَكَ موسى، وأخذ كلُّ سِبْطٍ من بني إسرائيل طَريقاً من هذه الطُّرُقُ.
فلما أشرفَ فرعونُ وقومُهُ على البحرِ فرأوهُ مُنْفَلِقاً فيه طُرُقٌ يابسةٌ، أوْهَمَ قومَهُ أنَّ البحرَ إنَّما انفلقَ من هَيْبَتِهِ! فدخلَ فرعونُ خَلْفَ بني إسرائيلَ، فصاحَتِ الملائكةُ في القومِ : أنْ الْحَقُوا الْمَلِكَ حتى إذا دَخَلَ آخرُهم، وهَمَّ أوَّلُهم بالخروجِ أن يخرجَ، أطبقَ اللهُ تعالى البحرَ عليهم فَغَرِقُوا.
وقال وهبُ :(استعارَ بنُو إسرائيلَ حُلِيّاً كثيراً من القِبْطِ، ثُم خرجَ بهم موسى من أوَّلِ الليل، وكانوا سبعينَ ألفاً، فأُخْبرَ فرعونُ بذلك فركِبَ في ستمائة ألفٍ مِن القِبْطِ يَقُصُّ أثرَ بنِي إسرائيل.
فلما رأى قومُ موسَى رَهَجَ الخيلِ - أي غُبَارَها - قالوا : إنا لَمُدَركون، قال موسى : كلاَّ، إنَّ معي ربي سيهدينِ، فلما قَرُبوا قالوا : يا موسى أينَ تَمضي البحرُ أمامَنا وفرعونُ خَلفَنا؟!
فضربَ البحرَ بعصاهُ فانفلقَ وصار فيه اثنا عشرَ طريقاً يابسةً، لكلِّ سِبْطٍ طريقٌ، وصارَ بين كلِّ طريقين كالطَّوْدِ العظيم من الماءِ، وكانوا يَمُرُّونَ في الطريق ولا يرَى بعضُهم بعضاً، فاستوحَشُوا وخافوا، فجعلَ اللهُ الأطوادَ شبَكاتٍ يرَى بعضُهم بعضاً، ويسمعُ بعضُهم كلامَ بعضٍ.
فلما أتَى فرعونُ الساحلَ ورأى بني اسرائيل قد عَدَوا البحرَ، جاء جبريلُ على رَمَكَةٍ طالبةٍ للذكَرِ، وكان فرعونُ على حصانٍ، فأدخلَ الرَّمَكَةَ في الماء فلم يتمالكِ حصانُ فرعون أن اقْتَحَمَ على إثْرِها، ودخلَ القِبْطُ عن آخرهم، فلما وَلَجُوا كلُّهم أوحى اللهُ تعالى إلى البحرِ : أنْ أغرِقْهُمْ عن آخرِهم، فعلاهم الماءُ فغَرِقُوا).
قال كعبٌ :(فَعَرَفَ السَّامِرِيُّ فَرَسَ جِبْرِيْلَ، فَحَمَلَ مِنْ أثَرِهِ تُرَاباً، وَألْقَاهُ فِي الْعِجْلِ حِيْنَ اتَّخَذُوهُ).
وذلك أنَّ اللهَ وَعَدَ موسى بعد ما أغرقَ فرعون ليأتِي جانبَ الطُّورِ الأيْمَنَ فيؤتيهِ التوراةَ فيها بيانُ ما يحتاجُ إليه. ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ في التِّيْهِ، ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ؛ أي من حَلاَلِ ما رزقناكم من الْمَنِّ والسَّلْوَى، واشكروا إنعامِي. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ ﴾، أي لا تَبْطَرُوا فيما أنعمتَ فتكونوا طاغينَ، ﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾، أي فتجبُ عليكم عقوبَتي. قرأ الأعمشُ والكسائيُّ :(فَيَحُلُّ) أي فينْزِلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ ؛ أي فقد تَرَدَّ في النار. وَقِيْلَ : معناهُ : فقد هَلَكَ وسقط في النارِ. وقرأ الكسائيُّ :(وَمَنْ يَحْلُلْ) بضمِّ اللام، قال الفرَّاءُ :(وَالْكَسْرُ أوْلَى مِنَ الضَّمَّ ؛ لأنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ وَهَُوَ الْوُقُوعُ، وَيَحْلِلُ بالْكَسْرِ يَجِبُ، وَجَاءَ التَّفْسِيْرُ بالْوُجُوب لاَ بالْوُقُوعِ).
وأكثرَ القُرَّاءُ (بِملْكِنَا) بالكسرِ أي بأمرِنا. ومَن قرأ بفتحِ الميم فهو المصدرُ، ومَن قرأ بضمِّ الميم فمعناه : بسُلطاننا وقُدرتنا ؛ أي لَم نقدِرْ على ردِّهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ ؛ أي أثْقَالاً وحمالاً من حِلِيِّ آلِ فرعون، والوِزْرُ في اللغة : هو الْحِمْلُ الثقيلُ، وذلك أن موسَى كان أمرَهم أن يستعيرُوا مِن حِلِيِّهم حين أرادوا أن يَسْرُوا، هكذا روي عن ابنِ عباس. وَقِيْلَ : إنهم كانوا استعارُوها ؛ ليتزيَّنُوا بها في عِيْدٍ كان لَهم، ثم يردُّوها عليهم عند الخروجِ، وكان ذلك ذنْباً منهم، فعلى ذلك يكونُ معناه : حُمِّلْنَا آثاماً مِن حِلِيِّ القوم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَذَفْنَاهَا ﴾ ؛ أي فَقَذفْنَا الحِلِيِّ في النارِ ليُذابَ، ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ ؛ ما معهُ من الحليِّ كما ألقينا، وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قد وَقَّتَ لِموسى ثلاثينَ ليةً ثُم أتَمَّها بعشرٍ، فلما مضت الثلاثونَ قال السامريُّ : إنَّما أصابَكم هذا عقوبةً لكم بالحليِّ الذي معكم، فاجْمَعُوها حتى يجيءَ موسى فيقضي فيها، فجُمعت لهُ، فصنعَ منها العجلَ في ثلاثةِ أيَّام، ثُم قَذفَ فيه القبضةَ التي اتخذها من أثَرِ فرسِ جبريلَ.
واختلفوا في هذا الْخُوَارِ ؛ قال مجاهدُ :(خُوَارُهُ حَفِيْفُ الرِّيْحِ إذا دَخَلَتْ جَوْفَهُ، وَذلِكَ أنَّهُ كَانَ جَعَلَ فِي جَوْفِ الْعِجْلِ خُرُوقاً إذا دَخَلَتْهَا الرِّيْحُ أوْهَمَ أنَّهُ يَخُورُ). قال الحسنُ وقتادة والسديُّ :(كَانَ السَّامِرِيُّ ألْقَى عَلَيْهِ شَيْئاً مِنْ أثَرِ فَرَسِ جِبْرِيْلَ كَمَا قَالَ :﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ﴾[طه : ٩٦]، فَانْقَلَبَ الْعِجْلُ حَيْوَاناً يَخُورُ) أي وكان معلوماً في ذلكَ الزمانِ أنَّ مَن أخذ من حافرِ دابة مَلَكٍ، فألقاها على شيءٍ صارَ ذلِك الشيءُ حيواناً.
قالوا : وإنَّما عَرَفَ أن راكبَ تلك الدَّابة جبريلُ ؛ لأنَّها كانت لا تضعُ حافِرَها على موضعٍ إلاّ اخْضَرَّ. ويروَى أن هارونَ مَرَّ بالسامريِّ وهو يصنعُ العجلَ، فقالَ لهُ : ما تصنعُ ؟ قال : أصنعُ ما ينفع ولا يضرُّ، ثُم قال لِهارون : ادعُ لِي، فقال : اللَّهُمَّ أعْطِهِ ما يسألُ كما يحبُّ، فسألَ اللهَ أن يجعلَ للعجلِ خُواراً، فكان الخوارُ يخرج من ذلك الجسدِ الْمُجَسَّدِ كما يخورُ الثور، فأوهَمَهم السامريُّ أنه حَيٌّ فافتتنَ به قومٌ فعبدوه، ولو رجَعُوا إلى عُقولِهم لعرفوا أنه لا يصلحُ أن يكون إلَهاً ؛ لأنه مصنوعٌ صنعةَ آدميٍّ مخلوقٍ من حُلِيٍّ مخلوقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَالُواْ هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى ﴾ ؛ أي قال لَهم السامريُّ ذلك ووافقَهُ قومٌ على ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَنَسِيَ ﴾ ؛ أي فَنَسِيَ السامريُّ الإسلامَ ؛ أي فَتَرَكَهُ، وَقِيْلَ : معناه : قال السامريُّ لِمن وافقَهُ على كُفْرِهِ : إن موسَى أرادَ هذا العجلَ، فترك الطريق الذي كان يصلُ إليه ؛ أي أن موسى تركَ إلَهَهُ هنا، وذهبَ يطلبهُ.
فقامَ هرونُ فيهم خطيباً، وقالَ : يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بعبادةِ العجل، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ ﴾ ؛ لا العجلُ، ﴿ فَاتَّبِعُونِي ﴾ ؛ لِما أدعوكم اليه، ﴿ وَأَطِيعُواْ أَمْرِي ﴾ ؛ لا أمرَ السامريِّ، فَعَصَوْهُ ؛ ﴿ قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ﴾ ؛ أي لا نزالُ مقيمين على عبادتهِ، ﴿ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ ؛ ومعنى قولهِ تعالى ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبلِ أن يأتِي موسى.
فلما رجعَ موسى ؛ ﴿ قَالَ ﴾ ؛ لِهارون :﴿ ياهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ ﴾ ؛ بعبادةِ العجل، ﴿ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ﴾ ؛ لا زائدةٌ ؛ أي ما منعكَ من اتِّباعي واللحوقِ بي بمن أقامَ على إيْمَانِهِ، ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ ؛ بإقامتِكَ بينهم وقد كفروا، ثُم أخذ موسى برأسِ هارون ولِحيَته غضباً منهُ عليه فـ ﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ ؛ ولا بشعرِ رأسي، ﴿ إِنِّي خَشِيتُ ﴾ ؛ إن فارقتُهم واتبعتك بمن أقامَ على دِينك أن يتفرَّقُوا أحزاباً، وخشيتُ أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضاً و ﴿ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ ﴾ ؛ أي ولَم تحفَظْ، ﴿ قَوْلِي ﴾ ؛ وصيَّتي، ولَم تنتَظِر قُدُومِي وأمري، فلذلك لَم أتَّبعْكَ بمن أقامَ منهم على دِينك.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ هَارُونُ أخَا مُوسَى لأَبيْهِ وَأُمِّهِ، وَإنَّمَا قَالَ : يَا ابْنَ أُمِّ ليرفقَهُ ويستعطفه عليه)، وفي قولهِ (يَا ابْنَ أُمِّ) قِرَاءَتان، مَن قرأ بفتح الميمِ جعلهُ بمنْزِلة اسمٍ واحد يصلُ الثانِي بالأول، مثلُ خمسةَ عشر، ومَن قرأ بالكسرِ فعلى معنى الإضافة، ودلَّتْ كسرةُ الميم على الياءِ التي بعدها.
فإن قِيْلَ : كيف جازَ أن يأخذ موسى بلحيةِ هارون ورأسه مع أن ذلك يقتضِي الاستخفافَ به ؟ قِيْلَ : لأن العادةَ في ذلك الوقتِ لَم تكن كهذهِ العادة، بل كان ذلكَ في زمانِهم يجري مجرَى القبضِ على يده، وَقِيْلَ : لأنه أجرَى هرون مُجرى نفسهِ ؛ لأنه لَم يكن يتَّهم، كما لا يتهم على نفسهِ، فقد يأخذُ الإنسانُ بلحيةِ نفسهِ إذا غَضِبَ، ويقال :(إنَّ عُمَرَ عليه السلام كَانَ إذا غَضِبَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ أي فتركتَ وصيَّتي، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ يعني : ولَم تحفَظْ وصيَّتي حين قلتُ لكَ أخلفني في قومي وأصلِحْ.
فلما اعتذرَ هارونُ بهذا العذرِ أقبلَ موسى السامريِّ ؛ ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ ﴾ ؛ أي ما شأنُكَ وما الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ ؟ وَقِيْلَ : معناه : ما هذا الْخَطْبُ الْعظيم الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ، والْخَطْبُ هو الجليلُ من الأمرِ.
قال قتادةُ :(كَاَنَ السَّامِرِيُّ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ، مِنْ قَبيْلَةٍ يُقَالُ لَهَا سَامِرَةٌ، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيْلَ مَرَّ بجَمَاعَةٍ وَهُم يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ وَمَعَهُ بَنُو إسْرَائِيْلَ، فَقَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، فَاغْتَنَمَهَا السَّامِرِيُّ فَاتَّخَذَ الْعِجْلَ)، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ السَّامِرِيُّ مُجيباً لِموسى :﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾ ؛ أي رأيتُ ما لَم يَرَوا، بَصُرْتُ به، وعرفتُ ما لَم يعرفوا وفطنتُ ما لَم يفطنوا، قال له موسى : وما الذي بَصُرْتَ به دون بني إسرائيل؟
قال :﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ﴾ ؛ من حافرِ فرسِ جبريل، وكان قد أُلقي في نفسِي أن أقبضها ؛ وما ألقيهِ على شيءٍ إلاّ صارَ له روحٌ ولَحم ودمٌ، فحين رأيتُ قومَكَ طلبوا منكَ أن تجعل لَهم إلَهاً حدَّثَتني نفسي بذلكَ، ﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾ أي فطرحتُها في العجلِ، ﴿ وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ ؛ أي زَيَّنَتْ لِي نَفْسِي) أي أطمَعَتني نفسي في أن العجلَ ينقلبُ حيواناً.
ويقالُ : إنه ابْتُلِيَ بالوَسْوَاسِ، ويقال : إنَّ موسى هَمَّ بقتلِ السامريِّ فقال اللهُ : لا تَقتُلْهُ فإنه سخيٌّ! فكان السامريُّ إذا لَقِيَ أحداً يقولُ : لاَ مِسَاسَ ؛ أي لا تَقْرَبْنِي ولا تَمسَّني، وذلك عقوبة لهُ ولولدهِ، عَاقَبَهُ اللهُ بذلك حتى أن بقايَاهم اليومَ يقولون كذلكَ. وذُكِرَ أنه إذا مَسَّ واحدٌ من نَسْلِهِ أحداً من غيرهم حَمَّ كلاهُما في الوقت. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ ﴾ ؛ معناهُ : وإن لكَ يا سامريُّ أجَلاً يُكَافِؤُكَ اللهُ فيه على ما فعلتَ وهو يومُ القيامة.
قرأ الحسنُ وابن مسعود :(نُخْلِفَهُ) وابن كثير وابن عامرٍ (تُخْلِفَهُ) بكسرِ اللام ؛ أي لن يغيبَ عنه بل يوافقهُ، ولا مذهبَ لك عنه، وقرأ الباقون بفتحِ اللام بمعنى لن يَخْلَفَهُ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَانظُرْ إِلَى إِلَـاهِكَ ﴾ ؛ أي وانظر إلى العجلِ الذي أقمتَ على عبادتهِ، وزعمتَ أنه إلَهُكَ ومعبودُك، ﴿ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾ ؛ أي مُقيماً تعبدهُ، تقولُ العرب ظَلْتُ أفْعَلُ كذا بمعنى ظَلَلْتُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(حَرَّقَهُ بالنَّارِ، ثُمَّ ذرَّاهُ فِي الْيَمِّ) وهذه القراءةُ تدلُّ على أن ذلك العجلَ صار حيواناً لَحماً ودماً لأن الذهبَ والفضَّة لا يُمكن إحراقُهما بالنار.
وذُكِرَ في بعضِ التفاسير : أن موسى أخذ العجلَ فذبَحَهُ فسالَ منه دمٌ، لأنَّه كان قد صارَ دماً ولحماً، ثُم أحرقه بالنارِ ثم ذرَّاهُ في البحرِ.
وكان الحسنُ يقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ) بالتخفيف، ومعناه : لَنَذْبَحَنَّهُ ثم لنحرقنه بالنار، لأنه لا يجوزُ إحراقُ الحيوانِ قبل الذبحِ كما روي في الخبر :" لاَ تُعَذِّبُوا أحَداً بعَذاب اللهِ ".
وقرأ أبو جعفرٍ وأشهبُ العقيلي :(لَنَحْرُقَنَّهُ) بنصب النونِ وضمِّ الراء ؛ أي لَنَبْرُدَنَّهُ بالْمِبْرَدِ، يقال : حرقتُ الشيءَ أُحرِقهُ أذا بَرَدْتَهُ، والْمِحْرَقُ هو الْمِبْرَدُ، وهذه القراءةُ تدلُّ على أن العجلَ كان ذهباً، ولكن كان له خُوار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ﴾ أي لَنُذرِّيَهُ في البحرِ تذريةً، يقالُ : نَسَفَ فلانٌ الطعامَ بالْمَنْسَفِ إذا ذرَّاهُ ليطيرَ عنه قشوره وترابه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾ ؛ قِيْلَ : معناهُ : قد ازْرَقَّتْ أعيُنهم من شدَّة العطشِ ؛ لأن العطشَ إذا اشتدَّ يغيِّرُ سوادَ العين إلى الزُّرقة. وَقِيْلَ : معناهُ : عُمْياً، ومعنى الزُّرقَةِ الْخُضْرَةُ في سَوادِ العين كعَيْنَي السَّنُّورِ، والمعنى في هذا : تشويهُ الْخَلْقِ سوادُ الوُجوهِ، وزُرْقَةُ العيون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾ ؛ أي يُصَيِّرُها رَمْلاً تسيلُ سَيلاً، ثُم يرسلُ عليها الرياحَ فتفرِّقُها كتَذْريَةِ الطعامِ من القشُور والتراب، فيصيِّرُها كالْهَبَاءِ، وكالصُّوف المنفوشِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ ﴾ أي ذلَّتِ الأصواتُ لِهَيْبَةِ الرَّحمنِ، وَقِيْلَ : سَكَنَتِ الأصواتُ لهُ، فَوَصَفَ الأصواتَ بالخشوعِ، والمعنى لأهْلِها، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ ؛ أي إلاَّ صَوتاً خَفيّاً يعني صوتَ نقل الأقدامِ إلى الْمَحْشَرِ.
والْهَمْسُ : الصوتُ الخفيُّ كأخفافِ صوت الإبل في المشيِ. وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى الْهَمْسِ تَحْرِيْكُ الشِّفَاهِ بغَيْرِ مَنْطِقٍ) وهو قولُ مجاهد، والكلامُ الخفيُّ، والمعنى على هذا التفسيرِ : سَكَنَتِ الأصواتُ فلا يَجْهَرُ أحدٌ بكلامٍ إلاّ كالمشير مِن الإشارة بالشَّفَةِ، وتحريكِ الفمِ مِن غيرِ صوتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ ؛ قال الحسنُ :" كَانَ النَّبيُّ ﷺ إذا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَجَّلَ بقِرَاءَتهِ مَخَافَةَ نِسْيَانِهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْمَلَكِ مَخَافَةَ أنْ يَذْهَبَ عَنْهُ، فَنُهِيَ عَنْ ذلِكَ " فَقَالَ ﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ﴾ أيْ بقِرَاءَتِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ يَفْرَغَ جِبْرِيْلُ مِنْ تِلاَوَتِهِ عَلَيْكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ ؛ أي زدْنِي حِفْظاً لا أنساهُ.
وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : وَلَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْراً عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ رَأْياً مَعْزُوماً عَلَيْهِ)، حيثُ أطاعَ عَدُوَّهُ إبليسَ الذي حَسَدَهُ وأبَى أن يسجُدَ لهُ. قال الحسنُ :(كَانَ عَقْلُ آدَمَ كَعَقْلِ جَمِيْعِ ذُرِّيَّتِهِ)، قال اللهُ ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾. وجاءَ في الحديث :" لَوْ وُزِنَ حِلْمُ بَنِي آدَمَ مُذْ كَانَ آدَمُ إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لَرَجَحَ حِلْمُ آدَمَ عَلَى حِلْمِهِمْ، وَقَدْ قالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ ؛ أي ظهرت لَهما عوراتُهما، وإنَّما جمع السَّوءَاتِ ولَم يثَنِّهما ؛ لأن كلَّ شيء من شيءٍ فهو جمعٌ في موضعِ التثنية. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا ﴾ ؛ أي جعلاَ يقطعان عليهما، ﴿ مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ ؛ ويجعلانه على سوءاتِهما.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ ﴾ ؛ أي عصاهُ بأكلِ الشجرةِ، ﴿ فَغَوَى ﴾ ؛ أي فَعَلَ ما لَم يكن لهُ فِعْلُهُ. وَقِيْلَ : ضَلَّ حين طلبَ الْخُلْدَ بأكلِ ما نُهِيَ عن أكلهِ. وَقِيْلَ : الغيُّ الفسادُ ؛ أي فَسَدَ عليه عيشهُ، وَقِيْلَ :(فَغَوَى) أي أخطأ، وَقِيْلَ : خابَ في طلبه في أكلِ الشجرة.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" أتَدْرُونَ مَا الْمَعِيْشَةُ الضَّنْكَةُ ؟ " قَالُواْ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ :" عَذابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيْناً، لِكُلِّ تِنِّيْنٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْهَشُونَهُ وَيَلْسَعُونَهُ وَيَخْدِشُونَ لَحْمَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ أنَّ تِنِّيْناً نَفَخَ فِي الأَرْضِ لَمْ تُنْبتْ شَيْئاً ". وقال ابنُ زيد :(الْمَعِيْشَةَ الضَّنْكَى : الزَّقُّومُ وَالْغِسْلِيْنُ وَالضَّرِيْعُ)، وقال الضحَّاكُ :(الْكَسْبُ الْخَبيْثُ)، وَقِيْلَ : إذا كان العبدُ سَيِّءَ الظنِّ بالله ضاقَ عليه عيشهُ وَضَنِكَ. وقال ابنُ جبير :(معنى قوله :﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ أي سَلَبَهُ الْقَنَاعَةَ حَتَّى لاَ يَشْبَعَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(عَمَى الْبَصَرِ)، وقال مجاهدُ :(أعْمَى عَن الْحُجَّةِ ؛ أيْ لاَ حُجَّةَ لَهُ يَهْتَدِي إلَيْهَا)، ﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ﴾ ؛ بعَيْنَيَّ، ﴿ قَالَ كَذالِكَ ﴾ ؛ تكونُ كَمَا ﴿ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ﴾ ؛ أي فتَرَكْتَهَا وأعرضتَ عنها، ﴿ وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ ؛ أي تُتْرَكُ في النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ﴾ ؛ يعني صلاةَ الظهر، قال قتادةُ :(كَأَنَّهُ ذهَبَ إلَى أنَّهُ آخِرُ النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ طَرَفٌ، وَأوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي طَرَفٌ). وقال الحسنُ :((وَقَبْلَ غُرُوبهَا) : الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، (وَأطْرَافَ النَّهَار) : صَلاَةُ التَّطَوُّعِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ ؛ قرأ الكسائيُّ وأبو بكر بضَمِّ التاء ؛ أي تُعْطَى الرِّضَى بالدرجاتِ الرفيعة، يرضاكَ اللهُ ويسمى مَرْضِيّاً، وتصديقهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾[مريم : ٥٥]. وقرأ الباقونَ (تَرْضَى) بفتحِ التاء ؛ أي لَعَلَّكَ تَرْضَى بالثَّواب والشَّفاعةِ، ودليلُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾[الضحى : ٥]، والمعنى : أقِمْ هذه الصَّلَواتِ لكي تُعطى من الثواب ما ترضَى.
قال أبو رافع :" بَعَثَنِي رَسُولَ اللهِ ﷺ إلَى يَهُودِيٍّ، فَقَالَ :" قُلْ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَنِي إلَيْكَ لِتُسْلِفَهُ كَذا وَكَذا مِنَ الدَّقِيْقِ، أوْ تَبيْعَهُ وَتَصْبرَ عَلَيْهِ إلَى هِلاَلِ رَجَبٍ " فَأتَيْتُهُ، فَقَالَ : وَاللهِ مَا أبيْعُهُ وَلاَ أُسْلِفُهُ إلاَّ برَهْنٍ! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ :" وَاللهِ لَوْ بَاعَنِي أوْ أسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ، وَإنِّي لأَمِيْنٌ فِي الأَرْضِ، إذهَبْ بدِرْعِي إلَيْهِ " ثُمَّ حَزِنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى ذلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كأنه يعزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا "
وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى ﴿ أَزْوَاجاً ﴾ أي أصْنَافاً من نِعَمِ الدُّنيا وزهرَتِها. قولهُ :﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ؛ أي وَرِزْقُ رَبكَ الذي وعدكَ في الجنَّة خَيْرٌ وَأبْقَى مما رُزِقَ هو.
وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" مَن قَرَأ سُورَةَ طَهَ أُعْطِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ ".