تفسير سورة لقمان

اللباب
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة لقمان
مكية١ وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وألفان ومائة وعشرة حرف.
١ في قول الأكثرين وروي عن عطاء أنها مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة ومن قائل: إنها مكية إلا ثلاث آيات.
انظر: فتح القدير ٤/٢٣٣، وزاد المسير لابن الجوزي ٦/٣١٤، والقرطبي ١٤/٥٠..

مكية وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وألفان ومائة وعشرة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿ألم. تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ تلك إشارة إلى غائب، والمعنى آيات القرآن (أي) آيات الكتاب الحكيم. والحكيم (قيل) : فعيلٌ بمعنى مُفْعَل وهذا قليل. قالوا عَقَدْتُ اللَّبَنَ فَهُوَ عَقِيدٌ، (أو بمعنى فاعل) أو بمعنى ذي الحكمة أو أصله الحكيمُ قائِلُهُ (ثم) حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ وهو الضمير المجرُور، فانقلب مرفوعاً فاسْتَتَرَ في الصِّفة قاله الزمخشري، وهو الحسن الصِّنَاعِة.
435
قوله: «هَدىً وَرَحْمَةً» العامة على النصب على الحال من «آيات» والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل او المَدْح. وحمزةُ بالرفع على خبر مبتدأ مضمر وجوز بعضهم أن يكون «هدى» منصوباً على الحال رفع «رحمة». قال: ويكون رفعها على خبر ابتداء مضمر، (وجوز بعضم أن يكونَ هُدىً) أي وهو رحمة وفيه بُعْدٌ.

فصل


قال في البقرة: ذَلِكَ الكِتَابُ، ولم يقل: «الحَكِيمُ» وههنا قال: «الحَكِيمُ» ؛ لأنه لما زاد ذكرَ وصفٍ في الكتاب زاد ذكر أمر أحواله فقال هدى ورحمة وقال هناك: «هدى للمتقين»، فقوله: «هدى» (في مقابلة قوله: «الكتاب» وقوله: «ورحمة» ) مقابلة قوله «الحكيم» ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذو الحكمة كقوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٦٩] أي ذات رضا وقال هناك «لِلْمُتَّقِينَ» وقال هنا: «للمُحْسِينِيَ» ؛ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال: «لِلْمُتَّقِين» أي يهدى (به) من يتقي من الشرك والعناد، وههنا زاد قوله: «وَرَحْمَة» فقال: «لِلْمُحْسِنِينَ» ؛ لأن رحمة الله قريبٌ من المحسنين وقال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] فناسب زيادة قوله «وَرَحْمَة»، ولأن المحسن يتقي، (وزيادة).
قوله: «الذين يقيمون» صفة أبو بدل أو بيان لما قبله، أو منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل تقدير فهو تفسير للإحسان. وسئل الأصمعي عن الألمعي فنشد:
٤٠٤٩ - الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْ نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
يعني أن الألمعي هو الذي إذا ظن شيئاً كان كمن رآه وسمعه كذلك المحسنون هم
436
الذين يفعلون هذه الطاعات ومثله وسئل بعضهم عن الهلوع فلم يزد أن تلا: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً﴾ [المعارج: ١٩ - ٢٠]

فصل


قال في البقرة: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾ [البقرة: ٣] ولم يقل هنا: الذين يؤمنون بالغيب؛ لأن المتَّقِيَ هو التارك للكفر ويلزم منه أن يكون مؤمناً، والمؤمن هو الآتي بحقيقة الإيمان، ويلزمه أن لا يكونَ كافراً، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن بالالتزام مدح بالإيمان هناك، ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان.
وتقدم الكلام على نظير قوله: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ إلى قوله: «المُفْلِحُونَ».
قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ لم ابين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره. قال مقاتل والكلبي: نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول: إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث «رُسْتم، واسفِنْديَار»، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية، وقال مجاهد: يعني شراء القِيَانِ والمُغَنِّينَ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ او ذَا لَهْوِ الحَدِيث، قال عَليه (الصلاة و) السلام: «لا يحل (تعليم) المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل هذا نزلت الآية ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله
437
عليه شيطانين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى هو الذي يسكت قال النحويون قوله: «لَهْوَ الحديث» من باب الإضافة بمعنى «مِنْ» ح لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب، وهذا أبلغ من حذف المضاف.
قوله: «لِيُضِلَّ» (قرأه ابن كثير وأبو عمرو) بفتح حرف المضارعة، والباقون بضمه لمن «أَضَلَّ غَيْرَهُ» فمفعوله محذوف، وهو مستلزم للضلال لأن من «أَضَلَّ» فقد «ضَلَّ» من غير عكس، وقد تقدم ذلك في إبراهيم. قال الزمخشري هنا: فإن قلت: القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: معنيان:
أحدهما: ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه.
الثاني: ان موضع «ليضل» (موضع) من قِبَلِ أنَّ من «أَضَلَّ» كان ضالاًّ لا محالة، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ.

فصل


روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا: (لهو) الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه، ومعنى قوله: ﴿مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وقال ابن جريح: هو الطبل، وقال الضحاك: وهو الشرك، وقال قتادة: حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ.
438
قوله: «بغير علم» حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ.
قوله: «وَيَتَّخِذَهَا» قرأ الأحوان وحفص بالنصب أي بنصب الذَّال عطفاً على «لِيُضِلَّ» وهو علة كالذي قبله.
والباقون بالرفع عطفاً على «يَشْتَرِي» فهو صلة، وقيل: الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ، أو الأحادث الدال عليها الحَدِيُ لأنه اسم جنس.
قوله: «أولَئِكَ لَهْمْ» حمل أولاً على لفظ «مَنْ» فأفرد (ثم) على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله: ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦]. قال أبو حيان: ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين، قال شهاب الدين: ووجد غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة. وقوله: «عَذَابٌ مُهِينٌ» أي دائم.
قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً﴾ أي يشتري الحديث الباطل، ويأتيه الحق الصُّرَاحُ مَجَّاناً فيعرض عليه.
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ حال من فاعل «وَلَّى» أو من ضمير «مُسْتَكْبِراً» وقوله: ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ حال ثالثة أو بدل مما قبلها، أو حال من فاعل «يَسْمَعْهَا» أو تبيين لما قبلها، وجوز الزمخشري أن تكون جملة التنبيه استئنافيتين.
439
معنى ﴿كأن لم يسمعها﴾ شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة، وقوله: ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ أدخل في الإعراض ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي مؤلم، ووصفه أولاً بأنه «مهين» وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال: «مُؤْلِم دَائم».

فصل


معنى ﴿كأن لم يسمعها﴾ شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة، وقوله: ﴿كَأَنَّ فِي اأُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ أدخل في الإعراض ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي مؤلم، ووصفه أولاً بأنه " مهين " وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال: " مُؤْلِم دَائم ".
440
ت ١
قوله :«هَدىً وَرَحْمَةً » العامة على النصب على الحال من «آيات » والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل أو المَدْح١. وحمزةُ بالرفع على خبر٢ مبتدأ مضمر وجوز بعضهم أن يكون «هدى » منصوباً على الحال رفع «رحمة ». قال : ويكون رفعها على خبر ابتداء مضمر٣، ( وجوز بعضهم٤ أن يكونَ هُدىً ) أي وهو رحمة وفيه بُعْدٌ.

فصل٥ :


قال في البقرة : ذَلِكَ الكِتَابُ، ولم يقل :«الحَكِيمُ » وههنا قال :«الحَكِيمُ » ؛ لأنه لما زاد ذكرَ وصفٍ في الكتاب زاد ذكر أمر أحواله فقال هدى ورحمة وقال هناك :«هدى للمتقين »، فقوله :«هدى » ( في مقابلة٦ قوله :«الكتاب » وقوله :«ورحمة » ) مقابلة قوله «الحكيم » ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذو الحكمة٧ كقوله تعالى :﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦٩ ] أي ذات رضا وقال هناك «لِلْمُتَّقِينَ » وقال هنا :«للمُحْسِنينَِ » ؛ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال :«لِلْمُتَّقِين » أي يهدى ( به٨ ) من يتقي من الشرك والعناد، وههنا زاد قوله :«وَرَحْمَة » فقال :«لِلْمُحْسِنِينَ » ؛ لأن رحمة الله قريبٌ من المحسنين وقال تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] فناسب زيادة قوله «وَرَحْمَة »، ولأن المحسن يتقي، ( وزيادة٩ ).
١ انظر: الكشف ٢/١٨٧، ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٢٦، والحجة في القراءات السبع لابن خالويه ٢٨٤، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤٣/١٩٣، وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٨١..
٢ انظر: معاني الفراء ٢/٣٢٦، والإتحاف ٣٤٩، والسبعة ٥١٢..
٣ انظر: التبيان لأبي البقاء ١٠٤٣ وتأويل ذلك أيضاً في مشكل إعراب القرآن لمكي ٢/١٨١..
٤ زيادة لا معنى لها من "أ"..
٥ في "ب" فإن قيل بدل "فصل"..
٦ ساقط من "ب"..
٧ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٣٩..
٨ سقط من "ب"..
٩ زيادة من "أ"..
قوله :«الذين يقيمون » صفة أو بدل أو بيان لما قبله، أو منصوب أو مرفوع على١ القطع وعلى كل تقدير فهو تفسير للإحسان. وسئل الأصمعي عن الألمعي فأنشد :
٤٠٤٩ - الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْ نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا٢
يعني أن الألمعي هو الذي إذا ظن شيئاً كان كمن رآه وسمعه كذلك المحسنون هم الذين يفعلون هذه الطاعات ومثله وسئل بعضهم عن الهلوع فلم يزد أن تلا :﴿ إِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً ﴾.

فصل :


قال في البقرة :﴿ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة ﴾ ولم يقل هنا : الذين يؤمنون بالغيب ؛ لأن المتَّقِيَ هو التارك للكفر ويلزم٣ منه أن يكون مؤمناً، والمؤمن٤ هو الآتي بحقيقة الإيمان، ويلزمه أن لا يكونَ كافراً، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن بالالتزام مدح بالإيمان هناك، ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان٥.
١ نقله القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ١٤/٥٠..
٢ البيت من المنسرح وهو لأوس بن حجر وهو ثالث بيت من قصيدة يمدح فيها فضالة بن كلدة في حياته ورثائه بعد مماته والشاهد بالبيت "الذي يظن" فهو يفسر الموصوف وهو الألمعي كما أن "الذين يقيمون الصلاة" مفسّر "للمحسنين" الموصوف أي هم المعينون. انظر: ذيل الأمالي والنوادر ٣٤، والخصائص ٢/١١٢، والكامل للمبرد ٤/٣٧ و ٣٨ والبحر المحيط ٧/١٨٣ والكشاف ٣/٢٢٩ وديوان أوس "٣"..
٣ في "ب" ويلزمه..
٤ في "ب" والفخر الرازي والمحسن..
٥ انظر: تفسير الفخر الرازي "التفسير الكبير" جـ ٢٥/١٤٠..
وتقدم الكلام على نظير قوله :﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾ إلى قوله :«المُفْلِحُونَ »١.
١ في البقرة والتوبة والنمل والأنفال والمائدة وقال هناك في البقرة إن إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قوّمه، أو الدوام عليها والمحافظة عليها وإيتاء الزكاة إعطاؤها لمستحقيها. ومعنى "هم يوقنون" الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه انظر: اللباب ١/٦٧: ٦٩ ب بتصرف..
قوله :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث ﴾ لما بين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره١. قال مقاتل والكلبي : نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ٢ فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث٣ بها قريشاً ويقول : إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث «رُسْتم، واسفِنْديَار »، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية، وقال مجاهد : يعني شراء القِيَانِ٤ والمُغَنِّينَ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ أو ذَا لَهْوِ الحَدِيث، قال عَليه ( الصلاة و ) السلام :«لا يحل ( تعليم ) المغنيات ولا بيعهن٥ وأثمانهن حرام » وفي مثل هذا نزلت الآية ﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت قال النحويون قوله :«لَهْوَ الحديث » من باب الإضافة بمعنى «مِنْ » ؛ لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب٦، وهذا أبلغ من حذف المضاف٧.
قوله :«لِيُضِلَّ » ( قرأه ابن٨ كثير وأبو عمرو ) بفتح حرف المضارعة، والباقون٩ بضمه لمن «أَضَلَّ غَيْرَهُ » فمفعوله محذوف، وهو مستلزم١٠ للضلال لأن من «أَضَلَّ » فقد «ضَلَّ » من غير عكس، وقد تقدم ذلك في إبراهيم١١. قال الزمخشري هنا : فإن١٢ قلت : القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : معنيان :
أحدهما : ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ١٣ ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه.
الثاني : أن موضع «ليضل » ( موضع )١٤ من قِبَلِ أنَّ من «أَضَلَّ » كان ضالاًّ لا محالة، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ.

فصل :


روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا :( لهو١٥ ) الحديث هو الغناء١٦، والآية نزلت فيه، ومعنى قوله :﴿ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث ﴾ أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وقال ابن جريح١٧ : هو الطبل١٨، وقال الضحاك : هو الشرك١٩، وقال قتادة : حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ٢٠.
قوله :«بغير علم » حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ.
قوله :«وَيَتَّخِذَهَا » قرأ الأخوان وحفص بالنصب أي بنصب٢١ الذَّال عطفاً على «لِيُضِلَّ » وهو علة٢٢ كالذي قبله.
والباقون بالرفع عطفاً على «يَشْتَرِي » فهو صلة، وقيل : الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ، أو الأحاديث الدال عليها الحَدِيثُ٢٣ لأنه اسم جنس٢٤.
قوله :«أولَئِكَ لَهْمْ » حمل أولاً على لفظ «مَنْ » فأفرد ( ثم )٢٥ على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ﴾ وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله :﴿ مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾١. قال أبو حيان : ولا نعلم جاء في القرآن٢ ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين٣، قال شهاب الدين : ووجد٤ غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة. وقوله :«عَذَابٌ مُهِينٌ » أي دائم.
١ في "ب" ويشتغلون بذلك..
٢ انظر: زاد المسير لابن الجوزي ٦/٣١٥ وأسباب النزول للواحدي عن الكلبي ومقاتل بدون سند ١٩٧ وأسباب النزول للسيوطي وقد قال السيوطي: إنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية..
٣ في "ب" ويعلم بها قريشاً..
٤ انظر: زاد المسير لابن الجوزي ٦/٣١٥ والطبري ١/٤١ والدر المنثور للسيوطي ٦/٥٠٤..
٥ الحديث أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/٥٠٤ عن أبي أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلموهنّ ولا خير في أثمانهن..
٦ كان من المفروض (فهو كباب ساج وجبة خز) وقيل: هو على حذف مضاف أي ذوات لهو حديث. انظر: الكشاف ٣/٢٢٩ ويكون المراد من هذا بيان الجنس الذي منه المضاف كما بين ذلك الزمخشري..
٧ أي: من تقديرنا: "ذات لهو" أو "ذي لهو"..
٨ هذه الفقرة التي بين القوسين زيادة من "ب"..
٩ انظر: الإتحاف ٢٧٢ و ٣٤٩ والكشاف بدون نسبة ٣/٢٣٠ والنشر ٢/٣٤٦ وتقريبه ص ١٥٩ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٩٤ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٨٢..
١٠ في "ب" وهو ملتزم..
١١ يقصد قوله تعالى: ﴿جعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله﴾ وهي الآية "٣٠" من نفس السورة..
١٢ انظر: الكشاف ٣/٢٣٠..
١٣ هكذا هي هنا وفي الكشاف وما في "ب" يصد..
١٤ ساقط من "ب" وهي في الكشاف..
١٥ ساقط من "ب"..
١٦ نقله في زاد المسير ٦/٣١٦ والقرطبي ١٤/٥١..
١٧ نقله في زاد المسير ٦/٣١٦..
١٨ السابق..
١٩ معاني القرآن للزجاج ٤/١٩٤..
٢٠ السابقان..
٢١ انظر: السبعة ٥١٢ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٢٧ وحجة ابن خالويه ٢٨٤ والإتحاف ٣٥٠ والنشر ٢/٣٤٦..
٢٢ في "ب" علمه وهو تحريف..
٢٣ في "ب" الأحاديث وهو خطأ لأن المقصود المفرد..
٢٤ نقله مكي في الكشف عن وجوه القراءات ٢/١٧٨ و ١٨٨ وابن الأنباري في البيان في غريب إعراب القرآن، ٢/٢٥٣، ٢٥٤..
٢٥ سقط من "ب"..
قوله :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً ﴾ أي يشتري الحديث الباطل، ويأتيه الحق الصُّرَاحُ مَجَّاناً فيعرض عليه.
قوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ حال من فاعل «وَلَّى » أو من ضمير «مُسْتَكْبِراً »٥ وقوله :﴿ كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾ حال ثالثة أو بدل مما قبلها، أو حال من فاعل «يَسْمَعْهَا » أو تبيين لما قبلها٦، وجوز الزمخشري أن تكون جملة التنبيه٧ استئنافيتين.

فصل :


معنى ﴿ كأن لم يسمعها ﴾ شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة، وقوله :﴿ كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾ أدخل في الإعراض ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي مؤلم، ووصفه أولاً بأنه «مهين » وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال :«مُؤْلِم دَائم »٨.
٥ انظر: التبيان ١٠٤٣ والبحر المحيط ٧/١٨٤..
٦ المرجعان السابقان..
٧ هكذا هي في النسختين ولعله يقصد التشبيه وانظر: الكشاف ٣/٢٣٠..
٨ انظر: تفسير الرازي ٢٥/١٤١..
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات... ﴾ الآية لما بين حال المُعْرِضِ عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بأنَّ لهم جناتِ النعيم. ولذلك عذاب مهين ووحد العذاب، وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة (واسعة أكثر من الغضب، وكّر «العذاب» وعرف «الجنات» إشارة إلى أن الرحمة) تبين النعمة وتعرفها ولم يبين النعمة وإنما نبه عليها تنبيهاً.
وقوله: «خَالِدِينَ» حال، وخبر «إِنَّ» الجملة من قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ» والأحسن أن يجعل «لَهُمْ» هو الخبر وحده، و «جَنَّاتٌ» فاعل به، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «خالدُونَ» بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال، ويجوز أن يكون ( «خالدون» ) خبراً ثانياً.
قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ» في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذَلِكَ، و «حَقّاً» مصدر مؤكد لغيره، أي لمضمون تلك الجملة الأولى، وعاملها مختلف، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعداً، وتقدير الثاني: أُحِقُّ ذلك حَقّاً، واعلم أنه «العزيز» في اقتداره «الحكيم» في أفعاله.
قوله: ﴿خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ وهذا تبيين لقوّته وحكمته، وقد تقدم الكلام
440
على نظيرها في الوعد. واعلم أن أكثر المفسرين قال: إن السموات مبسوطةً كصُحُفٍ مستوية لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]. وقال بعضهم: إنها مستديرة وهو قول (جميع) المهندسين والغزاليُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال ونحن نوافقهم على ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحسّ لا يجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من (أن) ليس في القرآن والخبر مما يدل على ذلك صريحاً بل ما يدل عليه الاستدارة كقوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] «والفلك» اسم لشيء مستدير بل الواجب ان يقال: إن السماء سواء كانت مستديره أو صفحةً مستقيمة هو مخلوق بقدر الله لا بإيجاب وطبع (وتقدم) الكلام على نظير الآية إلى قوله: «كَرِيم». والكريم الحسن، أو ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مُكْرِم مثل نَقِيصٍ للمُنْقِص.
قوله: ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ يعني هذا الذي ذكرت مما يُعَايِنُونَ خلق الله ﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ﴾ من آلهتكم التي تعبدونها وتقدم «ماذا» الاستفهام في البقرة. ﴿بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي بين، أو مبين للعاقل أنه ضلال، والمراد بالظالمين المشركين الواضعين العبادة في غير موضعها.
441
وقوله :«خَالِدِينَ » حال١، وخبر «إِنَّ » الجملة من قوله :«لَهُمْ جَنَّاتٌ » والأحسن أن يجعل «لَهُمْ » هو الخبر وحده٢، و «جَنَّاتٌ » فاعل به، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «خالدُونَ »٣ بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال، ويجوز أن يكون ( «خالدون » ) خبراً ثانياً.
قوله :«وَعْدَ اللَّهِ » مصدر مؤكد لنفسه٤ ؛ لأن قوله :«لَهُمْ جَنَّاتٌ » في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذَلِكَ، و «حَقّاً » مصدر مؤكد لغيره٥، أي لمضمون تلك الجملة الأولى، وعاملها مختلف، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعداً، وتقدير الثاني : أُحِقُّ ذلك حَقّاً، واعلم أنه لم يؤكد «العذاب المهين »، وأكد نعيم الجنات بقوله :«وعد الله حقاً وهو العزيز الحكيم » «العزيز » في اقتداره «الحكيم » في أفعاله.
١ نقله في البحر ٧/١٨٥ والتبيان ١٠٤٣..
٢ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٢٥٤..
٣ نقلها عنه أبو حيان في البحر ٧/١٨٥ و ١٨٤..
٤ البحر ٧/١٨٥ و ١٨٤ والتبيان ١٠٣٦ و ١٠٤٣ وقد ذكرت أيضاً في السورة السابقة في قوله: "وعد الله لا يخلف الله وعده" وانظر- أيضاً- الكشاف ٣/٢٣٠..
٥ المرجع السابق..
قوله :﴿ خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ ﴾ وهذا تبيين لقوّته وحكمته، وقد تقدم الكلام على نظيرها في الوعد١. واعلم أن أكثر المفسرين قال : إن السموات مبسوطةً كصُحُفٍ مستوية٢ لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]. وقال بعضهم : إنها مستديرة وهو قول ( جميع٣ ) المهندسين والغزاليُّ٤ - رحمه الله٥ - قال ونحن نوافقهم على ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحسّ لا يجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من ( أن٦ ) ليس في القرآن والخبر مما يدل على ذلك صريحاً بل ما يدل عليه الاستدارة٧ كقوله تعالى :﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٣ ] «والفلك » اسم لشيء مستدير بل الواجب أن يقال : إن السماء سواء كانت مستديرة أو صفحةً مستقيمة هو مخلوق بقدرة الله لا بإيجاب وطبع ( وتقدم٨ ) الكلام على نظير الآية إلى قوله :«كَرِيم »٩. والكريم الحسن، أو ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مُكْرِم١٠ مثل نَقِيصٍ للمُنْقِص.
١ يقصد قوله تعالى: ﴿الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش...﴾ الآية وهي الآية رقم "٢"..
٢ في "ب" لصحف مبسوطة..
٣ سقطت من "ب"..
٤ ساقط من "ب"..
٥ تقدم..
٦ نقله الفخر الرازي ٢٥/١٤٣ وما بين القوسين سقط من "ب"..
٧ في "ب" مل يدل على الاستدارة..
٨ سقطت من "ب"..
٩ يشير إلى الآية "٧" من الشعراء وهي قوله تعالى: ﴿أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾..
١٠ في "ب" يكرم..
قوله :﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾ يعني هذا الذي ذكرت مما يُعَايِنُونَ خلق الله ﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ ﴾ من آلهتكم التي تعبدونها وتقدم «ماذا » الاستفهام في البقرة١. ﴿ بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بين، أو مبين للعاقل أنه ضلال، والمراد بالظالمين المشركين الواضعين العبادة في غير موضعها.
١ يقصد قول الله عز وجل "ماذا أراد الله بهذا مثلاً" من الآية ٣٦ من نفس السورة..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة﴾ لقمان قيل: أعجمي وهو الظاهر فمنعه للتعريف والعجمة الشخصية، وقيل: عربي مشتق من اللّقْم وهو حينئذ مُرَجَّل لأنه لم يبق له وضعٌ في النكرات ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون، والعامل في «إذ» مضمر.
قال ابن إسحاق لقمانُ هو نَاعور بن ناحثور بن تَارخ، وهو آزر، وقال وهب كان ابن أخت أيوب وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب، وقال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال كان نبياً وانفرد بهذا القول وقال بعضهم خُيِّرَ لُقْمَانُ: هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت وقال: إن خَيَّرَنِي ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعْلَمُ إن فعل بي ذلك أعاننين وعصمني فقال الملائكة بصوت لا يراهم لِمَ يا لقمانُ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان أن يعن فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطا طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة تُغْنه الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجب الملائكة من حسن مَنْطِقِ فقام من نومه فأعطي الحكمة فانْتَبَه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما
442
اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة، كُلّ ذلك بعفو الله عنه وكان لقمان تؤازره الحكمة، قال خالد الربعي: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب: كان خياطاً، وقيل: كان راعِيَ غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألستَ فلاناً الراعيَ فبم بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ؟ قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة وترك ما لا يَعْنِينِي، وقال مجاهد: كان عبداً أسود عظيم الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ، وقال الحسن: اعتزل لقمان الناس فنزل ما بين الرقّة (وبيت) المقدس لا يخالطهم، وقال أبو جعفر: كان لقمانُ الحبشيُّ عبداً لرجل فجاء به إلى السوق ليبيعه فكَانَ كلما جاء إنسانٌ يشريته قال له لقمان: ما تصنع بي (فاعل فيقول: أصنع بك كذا وكذا فيقول: حاجتي إليك أن لا تَشْتِرِيَنِي حتى جاء رجل فقال له: ما تصنع بي) قال أُصَيِّرُك بواباً على بابي فقالك أنت اشتري فاشتراه وجاء به إلى جاره قال: وكان لمولاه ثلاثُ بناتٍ يَبْغِين في القرية، وأراد أن يخرج إلى ضيعةً له فقال له: إني أَدْخَلْتُ إليهن طعامَهُنَّ وما يَحْتَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال: ففعل فَخَرَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال: ففعل فَخَرَجْنَ إليه كما كُن يَخْرُجُنْ فقلن (له) : افتح الباب فأبى (عليهن) فَسَجَنَّه فَغَسَل الدم وجلس، فلما قدم مولاه لم يخبره (ثم عاد فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له: افتح الباب فأبى فَشَجَجْنَه ورجَعنَ فغسل الدم وجلس ذلك فخرج إليه وقال: إني قد أدخلت إليهن ما يحتجن إليه فلا تفتح الباب فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له: افتح الباب فأبى فشججنه ورجعن فغسل الدم وجلس فلما جاء مولاه لم يخبره) قال: فقالت الكبرى: وما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - مني والله لأتوبَنَّ فتَابَتْ، (وقالت) الصغرى: ما بال هذا العبد الحبشيّ وهذه الكبرى أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - مني والله لأتوبَنَّ فَتَابَتْ فقالت الوسطى: ما بال هَاتَيْن وهذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله مني والله لأتوبن فتابت فتُبْنَ إلى الله تعالى وكُنَّ عَوَابِدَ القرية فقال غُوَاةُ القرية ما بال هذا العبد الحبشيّ وبنات فلان أولى بطاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - منّا فتابوا، وعن مكحول: أن لقمانَ كان بعداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل
443
وكان مولاه يلعب بِالنَّرْدِ ويخاطر عليه، وكان على بابه نهرٌ جارٍ فلعب يوماً بالنَّرْدِ على أن من قهر صاحبه شرب الماء الذي في البحر كله أو افتدى منه فقمر سيد لقمان فقال له القامر: اشرب ما في النهر كله وإلا فافتديه فقال سَلْنِي الفداء فقال: عينيك أَفْقَأهُما أو جميع ما تملك فقال: أمْهِلْنِي يوماً قال لك ذلك.
فأمسى كئيباً حزيناً فكلمه لقمان فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فقال أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فأخبره فقال: إذا قال لك الرجلُ اشرب ما في النهر فقل له أشرب ما بين حفتي النهر أو المد (فإنه) يقول لك ما بين حفتي النهر فقل له احبس عني المد حتى أشرب ما بين الحفتين فإنه لا يستطيع وتكون قد خرجت مما ضمنته له فعرف الرجل أنه قد صدق فطابت نفسه، فلما أصبح الرجل جاء فقال أَوْفِ لي شرطي فقال له نعم أشرب ما بين الضفتين أو المد فقال ما بين الضفتين قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع فخصمه قال فأعتقه مولاه فأكرمه الله تعالى وكان يختلف إلى داودَ - عليه السلام - يقتبس منه فاختلف إليه سنة وداود يتخذ درعاً يسأله ما هذا ولم يخبره داود حتى فرغ منها ولَبِسَها على نفسه فقال عند ذاك: الصمت حكمة.

فصل


لما بين الله تعالى فساد اعتقاد المشركين في عبادة من لا يَخْلٌُ شَيْئاً قوله: ﴿هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ﴾ [الروم: ١١] بين أن المشرك ظالم ضالٌّ ذكر ما يدل على أن ضلاله وظلمهم نقيض الحكمة إن لم يكن هناك نبوة وذكر حكاية لقمان فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة﴾. (والحكمة) عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فإن أريد تَحْدِيدُها بما يدخل فيه حكمة الله فنقول: حصول العلم على وفق المعلوم.
قوله: «أَنْ اشْكُرْ» هذه «أن» المفسرة، فسر الله إيتاء الحكمة بقوله: ﴿أَنِ اشكر للَّهِ﴾ ثم بين أن الشكر لا يشفع إلا الشاكر بقوله: ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ وبين أن من كفر لا يتضرر غير الكافر، فقال: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي غير محتاج إلى شكره، وقدم الشكر على الكُفْرَانِ ههنا وقال في الروم: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ
444
صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الآية: ٤٤] لأن الذكر في الروم كان للترهيب ولذلك قال: ﴿يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ﴾ [الروم: ٤٣] فقدم التخويف، وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف. والوعد.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ هذا عطف على ما تقدم والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره.
قوله: «يا بُنَيَّ» قرأ ابن كثير بإسكان الياء وفتحها حفصٌ والباقون بالكسر ﴿لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ بدأ في الوعظ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، أما أنه ظلم فلأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة الخسيس، فوضع العبادة في غير موضعها.
قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ﴾ لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبٌ منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله (في بعض الصور) كخدمة الأبوين ثم بين السبب فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» يعني لله على العبد نعمة الابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق أي صارت بقدرة الله سبب وجود فإنها حملته وبرضاه حصل التربية والبقاء.
قوله: ﴿وَهْناً على وَهْنٍ﴾ يجوز أن ينتصب على الحال من (أُمُّهُ) أي ضَعْفاً على ضعف. وقال ابن عباس: شدة عل شدة، وقال مجاهد: مشقة بعد مشقة وقال الزجاج: المرأة إذا حَمَلَتْ توَالَى عليها الضعف والمشقة، وقيل: الحمل ضعف والوضع ضعف، وقيل: منصوب على إسقاط الخافض أي في وهنٍ. قال أبو البقاء: «وعلى وهن» صفة له «الوَهْناً». وقرأ الثَّقَفِي وأبو عمرٍو - في رواية - وَهَنا
445
على وَهَنٍ - بفتح الهاء فيهما - فاحتمل أن تكونا لغتين كالشَّعْرِ والشَّعرِ، واحتمل أن يكون المفتوح مصدر «وَهِنَ» بالكسر يَوهَنُ وَهناً.
قوله: «وفصاله» قرأ الجَحْدِرِيُّ وقتادةُ وأبُو رَجَاء والحسنُ «وفَصْلُهُ» دون ألف - أي وفِطامُهُ في عامين.
فإن قيل: وصى الله بالوالدين، وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه الحشر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ.
فالجواب: أن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأبَ حمله خلفة لكونه من جملةِ جَسَدِهِ، والأم حملته ثقلاً آدميّاً مودع فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة.
قوله: «أَنْ اشْكُرْ» في «أن» وجهان:
أحدهما: أنها مفسرة.
والثاني: أنها مصدرية في محل نصب «وصّينا» قاله الزجاج، لما كان الوالدان سببَ وجود الولد والموجد في الحقيقة للولد والوالدين هو الله أمر بأن يشكر قبلهما. ثم بين الفرق بين «إِلَيَّ المَصِيرُ» أي المرجع، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أَدْبَار الصَّلَوَاتِ الخَمْس فقد شكر الوالدين.
قوله: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ يعني أن خدمتهما واجبة، وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاقة الله فإن أفضى إليه فلا تُطِعْهُما، وتقدم تفسير الآية في العنكبوت. وقوله: «مَعْرُوفاً» صفة لمصدر محذوف أي صِحَاباً مَعْروفاً وقيل: الأصل: بمعروف.
قوله: ﴿واتبع سبيل من أناب إليّ﴾ أي دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
446
قال عطاء عن ابن عباس: يريد: أبا بكر، وذلك انه حين أسلم أتاه عثمانُ وطلحة والزبير وسعدُ بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عَوْف وقالوا له: (لقد) صَدَّقْتَ هذا الرجل وآمنت به قال نعم هو صادق فآمنوا ثم حملهم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أسلموا وهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر قال الله (تعالى) :﴿واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ يعني أبا بكر.
قوله: «إِلَي» متعلق «بأَنَاب» ثم «إِليَّ» متعلق بمحذوف لأنه خبر «مرجعكم» فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تعملون. قيل: نزلت هاتان الآيتان في سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص وأمِّه، وقيل: الآية عامة.
قوله: ﴿يابني إِنَّهَآ﴾ هذا الضمير يرجع إلى الخطيئة، وذلك أن ابنَ لقمان قال لأبيه: يا أبت إنْ عملت الخطيئةَ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها (الله) ؟ فقال: ﴿يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾. قوله: «إِنْ تَكُ» الضمير ضمير القصة، والجملة الشريطة مفسرة (للضمير)، وتقدم أن نافعاً يقرأ مِثْقَال بالرفع على أن كَانَ تامة وهو فاعلها وعلى هذا فيقال: لم ألحقت فله تاء التأنيث؟ قيل: لإضافته إلى مؤنث؛ ولأنه بمعنى «زِنَةُ حَبَّةٍ»، وجوز الزمخشري في ضمير «إِنَّهَا» أن تكون للحبة من السيئات والإحسان في قراءة من نصب «مِثْقَال». وقيل: الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي إنَّ التي سألتَ عنها (إنْ تَكُ)، قال المفسرون: إنه سأل أباه أرأيت الحَبَّةَ تقع في مغاص البحر يعلمها الله؟.
447
قوله: «فتكن» الفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفيةً في موضع حريز كالصَّخْرَةِ لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب وقرأ عبد الكريم الجَحْدَريُّ «فَتكِنَّ» بكسر الكاف، وتشديد النون مفتوحة أي فتستقر.
وقرأ مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُحَمَّد البَعْلَبَكِّيِّ: فَتُكَنَّ، إِلا أنه مبنيٌّ للمجهول، وقتادة «فَتَكِنْ» بكسر الكاف وتخفيف النون مضارع «وَكَنَ» أي استقر في وَكْنِهِ ووَكْرِهِ.

فصل


الصخرة لا بد وأن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟ قال بعض المفسرين المراد بالصخرة صخرة عليها الثَّوْرُ وهي لا في الأرض ولا في السماء، (وقال الزمخشري: فيه إضمار تقديره إن تَكُنْ في صخرةٍ أو في موضع آخَرَ في السموات أو في الأرض). وقيل: هذا من تقديم الخاصّ وتأخر العام، وهو جائز في مثل هذا التقسيم، وقيل: خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصِّغَرِ، هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله: ﴿إنْ تَكُ مثقال حبة من خردل﴾ إشارة إلى الصغر، وقوله: ﴿تَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ إشارة (إلى الحِجَاب، وقوله: «فِي السَّمَوَاتِ» إشارة إلى البُعد، فإنها أبعدُ الأبعاد، وقوله: «أَوْ فِي الأَرْضِ» إشارة) إلى الظلمة فإن جوْف الأرض أظلمُ الأماكن، وقوله: ﴿﴾ أبلغ من قول القائل: يعلمه الله لأن من يظهر له شيء (ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دونَ حال من يَظْهَرُ له الشيء) ويُظْهِرُهُ لغيره فقوله: ﴿يَأْتِ بِهَا الله﴾ أي يظهرها (للإشهار) ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ﴾ نافذ القدرة، «خَبِيرٌ» عالم ببواطن الأمور، روي في بعض الكتب أن هذه آخر كلمة تكلم بها لقمانُ فانشقتْ مرارتُه من هَيْبَتِهَا فمات، قال الحسن: معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
448
قوله: ﴿يا بني أَقِمِ الصلاة﴾ لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت. وقوله: ﴿وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر﴾ أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء رتبتهم عن العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ﴾ عين من الأذى لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر عليه.
فإن قيل: كيف قدم (في) وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر ابنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال: ﴿لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ ثم قال: «أَقِم الصَّلاَةَ» ؟.
فالجواب: أنه كان يعلم أن ابنه معترفٌ بوجودِ الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، وأما ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر.
قوله: ﴿مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَغْزُماتِ الأمور أو بمعنى عازم كقوله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأمر﴾ [محمد: ٢١] وهو مجاز بليغ، وزعم المبرد أن العين تبدل حاء فيقال «حَزْم، وعَزْم» والصحيح أنهما مادات مختلفتان اتفقا في المعنى، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى (فيهما) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها.
قوله: «وَلاَ تُصَعِّرْ» قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ «تُصَاعِرْ» بألف وتخفيف العين، والباقون بالألف وتشديد العين، والرسم يحتملهما، فإنه رسم بغير ألف، وهما
449
لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله:
٤٠٥٠ - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً: تَصَعَّر، قال:
٤٠٥١ -........................... أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر
وهو من الميل، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩]. قال أبو عبيدة: أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي؛ يقال: صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ إذا مال وأعرض تكبُّراً، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق، وتفسير اليَزِيدِيّ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام لا يوافق الآية هنا، قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك، وقال مجاهد: هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك بوجهه، وقال عكرمة: هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدها من أمرين:
450
أحدهما: التكبر على الغير لكونه مكملاً له.
والثاني: التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ﴾ تكبراً ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً﴾ أي خُيَلاَءَ ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ في نفسه «فَخُورٍ» على الناس بنفسه.
قوله: «واقْصِدْ» (هذا قاصر) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً. وقال عطاء: امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله: ﴿يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣].
(وقُرِىءَ) «وأَقْصِدْ» بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمه للرَّمْيَةِ.
قوله: ﴿واغضض مِن صَوْتِكَ﴾ من تَبْعيضيَّه، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة، ويؤيده قوله ﴿يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ [الحجرات: ٣]. وقيل: «من صوتك» صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من صوتك، وكان الجاهلية يتمدحون برفع الصوت، قال: [من المتقارب] :
٤٠٥٢ - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك، وقال مقاتل: اخفض من صوتك.
فإن قيل: لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟.
فالجواب: أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ بقوته، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت
451
يؤذي آلة السمع، وآل السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب.
قوله: «إِنَّ أَنْكَرَ» قيل: أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو: «أشْغَلُ مشنْ ذَاتِ النّْيَيْنِ»، وهو مختلف فيه ووحد «صوت» لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع، وقيل: يحتمل أن يكون «أنكر» من باب «أطوع له من بنانه» ومعناه أشدّ طاعةً. فإن «أفْعَلَ» لا يجيء (في) «مُفْعَل ولا في» مفْعُول «ولا في باب العيوب إلا ما شَذَّ كقولهم» أَطْوَعُ مِنْ كَذَا «للتفضيل على مُطِيع و» أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن و «أحْمَقُ (مِنْ فُلانُ» ) من باب العيوب، وعلى هذا فهو من باب «أفعل» كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ فيكون للتفضيل على المنكر. أو نقول هو من باب «أَشْغَل» مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ، وهذا أنْكَرُ مِنْه، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر (فيمكن) أن يقال: هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ.
فإن قيل: كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً؟!
452
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال.
الثاني: أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت (الحمير).

فصل


قال مقاتل: اخْفِضْ مِنْ صوتك ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأصوات﴾ أقبح الأصوات ﴿لَصَوْتُ الحمير﴾ أوله زَفيرٌ، وآخره شهيقٌ وهما صوت (أهل النار) وقال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى: ﴿إن أنكر الأصوات لصوت الحمير﴾ قال صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر الصادق في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير﴾ قال: هي العطسة القبيحة المنكرة، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه: قال خالد الريعي كان لقمان عبداً حبشياً فدفع (له) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال: ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهام إذا خَبُثَا.
453
قوله :﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ هذا عطف على ما تقدم والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره.
قوله :«يا بُنَيَّ » قرأ ابن١ كثير بإسكان الياء وفتحها حفصٌ والباقون٢ بالكسر ﴿ لاَ تُشْرِكْ بالله ﴾ بدأ في الوعظ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، أما أنه ظلم فلأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة الخسيس، فوضع العبادة في غير موضعها.
١ انظر: السبعة ٥١٢..
٢ وهم أبو بكر عن عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي.
انظر: المرجع السابق والنشر ٢/٣٤٦، وحجة ابن خالويه ٢٨٤، والقرطبي ١٤/٦٣، والبحر المحيط ٧/١٧٦..

قوله :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ ﴾ لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبٌ منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله ( في بعض١ الصور ) كخدمة الأبوين ثم بين السبب فقال :«حَمَلَتْهُ أُمُّهُ » يعني لله على العبد نعمة الابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق أي صارت بقدرة الله سبب وجوده فإنها حملته وبرضاعه حصل التربية والبقاء.
قوله :﴿ وَهْناً على وَهْنٍ ﴾ يجوز أن ينتصب٢ على الحال من ( أُمُّهُ٣ ) أي ضَعْفاً على ضعف. وقال ابن عباس : شدة على شدة٤، وقال مجاهد : مشقة بعد مشقة٥ وقال الزجاج : المرأة إذا حَمَلَتْ٦ توَالَى عليها الضعف والمشقة، وقيل : الحمل ضعف والوضع ضعف، وقيل : منصوب على إسقاط٧ الخافض أي في وهنٍ. قال أبو البقاء٨ :«وعلى وهن » صفة له «لوَهْناً ». وقرأ الثَّقَفِي٩ وأبو عمرٍو - في رواية - وَهَناً على وَهَنٍ - بفتح الهاء فيهما١٠ - فاحتمل أن تكونا لغتين كالشَّعْرِ والشَّعَرِ، واحتمل أن يكون المفتوح مصدر «وَهِنَ » بالكسر يَوهَنُ وَهناً.
قوله :«وفصاله » قرأ الجَحْدِرِيُّ وقتادةُ وأبُو رَجَاء١١ والحسنُ «وفَصْلُهُ » دون ألف١٢ - أي وفِطامُهُ في عامين.
فإن قيل : وصى الله بالوالدين، وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه الحشر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ.
فالجواب : أن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن١٣ الأبَ حمله خلفة لكونه من جملةِ جَسَدِهِ، والأم حملته ثقلاً آدميّاً مودع فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة.
قوله :«أَنْ اشْكُرْ » في «أن » وجهان :
أحدهما : أنها مفسرة١٤.
والثاني : أنها مصدرية في محل نصب ب «وصّينا » قاله الزجاج١٥، لما كان الوالدان سببَ وجود الولد والموجد في الحقيقة للولد والوالدين هو الله أمر بأن يشكر قبلهما. ثم بين الفرق بين «إِلَيَّ المَصِيرُ » أي المرجع، قال سفيان بن عيينة١٦ في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أَدْبَار الصَّلَوَاتِ الخَمْس فقد شكر الوالدين.
١ ساقط من "ب"..
٢ في "ب" ينصب..
٣ ذكره القرطبي عن الإمام القشيري رضي الله عنه. انظر: القرطبي ١٤/٦٤..
٤ انظر: تفسير ابن كثير ٣/٤٤٥..
٥ السابق..
٦ انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٩٦..
٧ ذكره أبو جعفر النحاس في كتابه "إعراب القرآن" انظره: ٣/٢٨٥ قال: "فما علمت أن أحداً من النحويين ذكره فيكون مفعولاً ثانياً على حذف الجر أي حملته بضعف على ضعف"..
٨ نقله في التبيان أيضاً ١٠٤٤..
٩ المراد به عيسى بن عمر الثقفي وقد مر الترجمة له..
١٠ هذه قراءة شاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٧ و ١١٦ والمحتسب ٢/١٦٧ وانظر القرطبي ١٤/٦٤ وزاد المسير ٦/٣١٩ والبحر ٧/١٨٧ والكشاف ٣/٢٣٢..
١١ أبو رجاء عمران بن تيم العطاردي البصري التابعي الكبير كان مخضرماً، أسلم في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- وعرض القرآن على ابن عباس وتلقن من أبي موسى روى عنه أبو الأشهب العطاردي مات سنة ١٠٥ هـ انظر: طبقات القراء ١/٦٠٤..
١٢ الإتحاف ٣٥٩ والكشاف ٣/٢٣٢ والبحر ٧/١٨٧ ومختصر ابن خالويه ١١٧ والمحتسب ٢/١٦٧..
١٣ في "ب" "لأن"..
١٤ وقد تقدم أنها قول كثير من العلماء كالنحاس والفخر الرازي..
١٥ ذكره في معاني القرآن وإعرابه ٤/١٩٦..
١٦ انظر القرطبي ١٤/٦٥..
قوله :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ﴾ يعني أن خدمتهما واجبة، وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله فإن أفضى إليه فلا تُطِعْهُما، وتقدم تفسير الآية في العنكبوت. وقوله :«مَعْرُوفاً » صفة لمصدر محذوف١ أي صِحَاباً مَعْروفاً وقيل : الأصل : بمعروف٢.
قوله :﴿ واتبع سبيل من أناب إليّ ﴾ أي دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عطاء عن ابن عباس : يريد : أبا بكر٣، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمانُ وطلحة والزبير وسعدُ بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عَوْف وقالوا له :( لقد ) صَدَّقْتَ هذا الرجل وآمنت٤ به قال نعم هو صادق فآمنوا ثم حملهم٥ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا وهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر قال الله ( تعالى٦ ) :﴿ واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ يعني أبا بكر.
قوله :«إِلَيَّ » متعلق «بأَنَاب » ثم «إِليَّ » متعلق بمحذوف لأنه خبر «مرجعكم » فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تعملون. قيل : نزلت هاتان الآيتان في سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص٧ وأمِّه، وقيل : الآية عامة٨.
١ التبيان ١٠٤٤..
٢ السابق..
٣ نقله أبو الفرج الجوزي في زاد المسير ٦/٣٢٠ كما ذكره السيوطي في أسباب النزول ١٢٥..
٤ نفسه. وفي "ب" وأثبت..
٥ في "ب" "فحملهم"..
٦ ساقط من "ب"..
٧ ذكر ذلك ابن كثير عن الطبراني ٣/٤٤٥..
٨ وهو ما لم يوافق عليه القرطبي حيث قال: "والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص" القرطبي ١٤/٦٣..
قوله :﴿ يا بني إِنَّهَا ﴾ هذا الضمير يرجع إلى الخطيئة، وذلك أن ابنَ لقمان قال لأبيه : يا أبت إنْ عملت الخطيئةَ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها ( الله١ ) ؟ فقال :﴿ يا بني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾. قوله :«إِنْ تَكُ » الضمير ضمير القصة، والجملة الشرطية مفسرة ( للضمير٢ )، وتقدم أن نافعاً يقرأ مِثْقَال٣ بالرفع على أن كَانَ تامة٤ وهو فاعلها وعلى هذا فيقال : لم ألحقت فله تاء التأنيث ؟ قيل : لإضافته إلى مؤنث ؛ ولأنه بمعنى «زِنَةُ حَبَّةٍ »٥، وجوز الزمخشري في ضمير «إِنَّهَا » أن تكون للحبة من٦ السيئات والإحسان في قراءة من نصب «مِثْقَال ». وقيل : الضمير يعود على ما يفهم من٧ سياق الكلام أي إنَّ التي سألتَ عنها ( إنْ تَكُ٨ )، قال المفسرون : إنه سأل أباه أرأيت الحَبَّةَ تقع في٩ مغاص البحر يعلمها الله ؟.
قوله :«فتكن » الفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفيةً في موضع حريز١٠ كالصَّخْرَةِ لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب وقرأ عبد الكريم الجَحْدَريُّ١١ «فَتكِنَّ » بكسر١٢ الكاف، وتشديد النون مفتوحة أي فتستقر.
وقرأ مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُحَمَّد١٣ البَعْلَبَكِّيِّ : فَتُكَنَّ، إِلا أنه مبنيٌّ للمجهول١٤، وقتادة «فَتَكِنْ » بكسر الكاف وتخفيف النون مضارع «وَكَنَ »١٥ أي استقر في وَكْنِهِ ووَكْرِهِ.

فصل :


الصخرة لا بد وأن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها ؟ قال بعض المفسرين المراد بالصخرة صخرة عليها الثَّوْرُ وهي لا في الأرض١٦ ولا في السماء، ( وقال١٧ الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تَكُنْ في صخرةٍ أو في موضع آخَرَ في السموات أو في الأرض ). وقيل : هذا من تقديم الخاصّ وتأخر العام، وهو جائز في مثل هذا التقسيم١٨، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصِّغَرِ، ومنها أن يكون بعيداً، ومنها أن يكون في ظلمة ومنها أن يكون وراء حجاب فإن بيّن أحد هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله :﴿ إنْ تَكُ مثقال حبة من خردل ﴾ إشارة إلى الصغر، وقوله :﴿ فتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ﴾ إشارة ( إلى الحِجَاب، وقوله :«فِي السَّمَوَاتِ » إشارة١٩ إلى البُعد، فإنها أبعدُ الأبعاد، وقوله :﴿ أَوْ فِي الأَرْضِ ﴾ إشارة ) إلى الظلمة فإن جوْف الأرض أظلمُ الأماكن، وقوله :﴿ يأت بها الله ﴾ أبلغ من قول القائل : يعلمه الله لأن من يظهر له شيء ( ولا يقدر٢٠ على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دونَ حال من يَظْهَرُ له الشيء ) ويُظْهِرُهُ لغيره فقوله :﴿ يَأْتِ بِهَا الله ﴾ أي يظهرها ( للإشهار٢١ ) ﴿ إِنَّ الله لَطِيفٌ ﴾ نافذ القدرة، «خَبِيرٌ » عالم ببواطن الأمور، روي في بعض الكتب أن هذه آخر كلمة تكلم بها لقمانُ فانشقتْ مرارتُه من هَيْبَتِهَا فمات، قال الحسن : معنى الآية هو٢٢ الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
١ ساقط من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ تقدمت كلمة: "مثقال" في السور النساء ويونس، والأنبياء، ولكنه يقصد آية الأنبياء وهي قول الله- عز وجل-: "وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين". وهي الآية ٤٧ من السورة هذه.
انظر: اللباب ٦/٣٢١. حيث أوضح هناك أن نافعاً يقرأ بالرفع كما ذكر أعلى..

٤ كان التامة هي التي لا تحتاج إلى اسم وخبر بل تحتاج إلى فاعل فقط كأي فعل متعدٍّ كهذه التي معنا، وكقول الله تعالى: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"..
٥ ذكره أبو حيان في بحره ٧/١٨٧..
٦ انظر: كشافه ٣/٢٣٣ قال: "فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة والإحسان أي: إن كانت مثلاً في الصغر والقماءة كحبة الخردل فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة"..
٧ وهو ما يسمى بضمير القصة والبصريون يجيزون ذلك في المؤنث والمذكر على حدّ، بينما لم يجزه الكوفيون في المذكر. القرطبي ١٤/٦٧..
٨ ساقط من "ب"..
٩ نقله الكشاف ٣/٢٣٣..
١٠ في "ب" جلد..
١١ لم أقف عليه..
١٢ انظر: مختصر ابن خالويه في شواذ القراءات ١١٧..
١٣ هو محمد بن هاشم بن سعيد البعلبكي روى عنه أحمد بن عمير الدمشقي وغيره. انظر: اللباب في تهذيب الأسماء لابن الأثير ١/١٦١ و ١٦٢..
١٤ المرجع السابق..
١٥ السابق والمحتسب ٢/١٦٨ وانظر في هذه القراءات الشاذة أيضاً البحر ٧/١٨٧ والقرطبي ١٤/٦٧ والكشاف ٣/٢٣٣..
١٦ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٤٨..
١٧ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٨ في "ب" التفسير..
١٩ ساقط من "ب"..
٢٠ ما بين القوسين أيضاً ساقط من "ب"..
٢١ ساقط من "ب"..
٢٢ في "ب" هي..
قوله :﴿ يا بنيَّ أَقِمِ الصلاة ﴾ لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة١ وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت٢. وقوله :﴿ وَأْمُرْ بالمعروف وأنْهَ عَنِ المنكر ﴾ أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء رتبتهم٣ عن العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم ﴿ واصبر على مَا أَصَابَكَ ﴾ يعني من الأذى لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر عليه٤.
فإن قيل : كيف قدم ( في٥ ) وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر ابنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال :﴿ لاَ تُشْرِكْ بالله ﴾ ثم قال :«أَقِم الصَّلاَةَ » ؟.
فالجواب : أنه كان يعلم أن ابنه معترفٌ بوجودِ الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، وأما٦ ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على٧ المنكر.
قوله :﴿ مِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَعْْزُوماتِ٨ الأمور أو بمعنى عازم كقوله :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأمر ﴾ [ محمد : ٢١ ] وهو مجاز بليغ، وزعم المبرد أن العين٩ تبدل حاء فيقال «حَزْم، وعَزْم » والصحيح أنهما مادتان مختلفتان اتفقا في المعنى، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى ( فيهما١٠ ) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها.
١ في "ب" وهي أيضاً..
٢ تفسير الفخر ٢٥/١٤٨..
٣ في تفسير الفخر: "وورثتهم من العلماء" وهو الأصح من كلتا النسختين..
٤ انظر: التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي ٢٥/١٤٨ في كل ما سبق..
٥ ساقط من "ب"..
٦ في "ب" فأما..
٧ نقله في تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٤٩..
٨ انظر: ٣/٢٣٣، من تفسير الكشاف..
٩ نقله أبو حيان في البحر ٧/١٨٨، قال: "وقال مؤرّج: العزم والحزم بلغة هذيل والحزم والعزم أصلان وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء، ليس بشيء لاطّراد تصاريف كل واحد من اللفظين وليس أحدهما أصلاً للآخر"..
١٠ سقط من ب..
قوله :«وَلاَ تُصَعِّرْ » قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ «تُصَاعِرْ »١ بألف وتخفيف العين، والباقون بالألف وتشديد العين، والرسم يحتملهما، فإنه رسم بغير ألف، وهما لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله :
٤٠٥٠ - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ٢
ويقال أيضاً : تَصَعَّر، قال :
٤٠٥١ -. . . . . . . . . . . . . . . . . . أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر٣
وهو من الميل، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ [ الحج : ٩ ]. قال أبو عبيدة : أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي٤ ؛ يقال : صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ٥ إذا مال وأعرض تكبُّراً، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق، وتفسير اليَزِيدِيّ٦ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام٧ لا يوافق الآية هنا، قال ابن عباس : يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك٨، وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك٩ بوجهه، وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً١٠، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء١١، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدهما من أمرين :
أحدهما : التكبر على الغير لكونه مكملاً له.
والثاني : التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال :﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ ﴾ تكبراً ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً ﴾ أي خُيَلاَءَ ﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ ﴾ في نفسه «فَخُورٍ » على الناس بنفسه.
١ قاله في الإتحاف ٣٥٠، وابن مجاهد في السبعة ٥١٣ والبحر ٧/١٨٨ والفراء ٢/٣٢٨ والكشاف ٣/٢٣٤..
٢ البيت من الطويل. وهو مختلف في نسبته ما بين عمرو بن حنيّ التغلبي والمتلمس. وجيء بالبيت استشهاداً بلغة تميم وهي التثقيل في "صعّر" وقد نسب أبو عبيدة البيت في المجاز ٢/١٢٧ إلى عمرو، ونسب الأصمعي في الأصمعيات ٢٤٥ البيت للمتلمس.
انظر: البحر المحيط ٧/١٨٢ والقرطبي ١٤/٦٩ وابن كثير ٣/٤٤٦ وابن جرير ٢١/٤٧ ومجمع البيان للطبرسي ٧/٥٠٠ وقد روي البيت بقافية الخطاب والغيبة والإطلاق فروي: "فتقوم" وروي: "فيقوم" كما هو أعلى وروي: "فتقوما" كما في ابن كثير. وانظر اللسان: "ص ع ر" ٢٢٤٧ والتاج: " د ر أ" ١/٢٢٢..

٣ شطر بيت من الطويل عجزاً وصدره:
إذا الأصعر الجبار صعر خده ...........................
وهو للأخطل التغلبيّ وجيء به استشهاداً للغة التثقيل وهي لغة تميم في كلمة "متصعر" وفي الديوان: "متصاعر" بلغة التخفيف وهي لغة أهل الحجاز وعلى ذلك فلا شاهد فيه حينئذ، ويكون شاهداً لقراءة ابن كثير وصحبه أي لا على لغة الحجازيين. انظر: الديوان "٤٣٣" والقرطبي ١٤/٦٩ والبحر المحيط..

٤ مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/١٢٧..
٥ انظر: اللسان:" ص ع ر" ٢٤٤٧..
٦ اليزيدي: يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو محمد اليزيديّ النحوي المقرئ، حدث عن أبي عمرو والخليل وعنهما أخذ العربية، صنف مختصراً في النحو، المقصور والممدود، النوادر وغير ذلك مات سنة ٢٠٢ هـ انظر: بغية الوعاة ٢/٣٤٠..
٧ نقله في البحر ٧/١٨٢..
٨ زاد المسير ٦/٣٢٢..
٩ السابق..
١٠ السابق..
١١ وهو رأي أبي العالية أيضاً. انظره في زاد المسير ٦/٣٢٢..
قوله :«واقْصِدْ » ( هذا قاصر١ ) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً٢. وقال عطاء : امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله :﴿ يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
( وقرئ )٣ «وأَقْصِدْ » بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ٤ سهمه للرَّمْيَةِ.
قوله :﴿ واغضض مِن صَوْتِكَ ﴾ من تَبْعيضيَّه، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة٥، ويؤيده قوله ﴿ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٣ ]. وقيل :«من صوتك » صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من٦ صوتك، وكان٧ الجاهلية يتمدحون برفع الصوت، قال :[ من المتقارب ] :
٤٠٥٢ - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ٨
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك، وقال مقاتل : اخفض من صوتك.
فإن قيل : لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ؟.
فالجواب : أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ٩ بقوته، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت يؤذي آلة السمع، وآلة السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب١٠.
قوله :«إِنَّ أَنْكَرَ » قيل : أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو :«أشْغَلُ منْ ذَاتِ النّحْْيَيْنِ »١١، وهو مختلف فيه١٢ ووحد «صوت » لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع، وقيل : يحتمل أن يكون «أنكر » من باب «أطوع له من بنانه » ومعناه أشدّ طاعةً١٣. فإن «أفْعَلَ » لا يجيء ( في١٤ ) «مُفْعَل »١٥ ولا في «مفْعُول »١٦ ولا في باب العيوب١٧ إلا ما شَذَّ كقولهم١٨ :«أَطْوَعُ مِنْ كَذَا »١٩ للتفضيل على المُطِيع و «أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن »٢٠ و «أحْمَقُ٢١ ( مِنْ فُلانُ٢٢ » ) من باب العيوب٢٣، وعلى هذا فهو من باب «أفعل »٢٤ كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ٢٥ فيكون للتفضيل على المنكر. أو نقول هو من باب «أَشْغَل » مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ، وهذا أنْكَرُ مِنْه، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته٢٦ بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر ( فيمكن٢٧ ) أن يقال : هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ٢٨.
فإن قيل : كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً ؟ !.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال.
الثاني : أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت ( الحمير )٢٩.

فصل :


قال مقاتل : اخْفِضْ مِنْ صوتك ﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأصوات ﴾ أقبح الأصوات ﴿ لَصَوْتُ الحمير ﴾ أوله زَفيرٌ، وآخره شهيقٌ وهما صوت ( أهل٣٠ النار ) وقال موسى بن أعين٣١ سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى :﴿ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ﴾ قال صياح كل شيء تسبيح٣٢ لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر٣٣ الصادق في قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير ﴾ قال : هي العطسة٣٤ القبيحة المنكرة، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه : قال خالد الربعي٣٥ كان لقمان عبداً حبشياً فدفع ( له ) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي٣٦ بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهما إذا خَبُثَا.
١ سقط من "ب"..
٢ في "ب" ولا إسرافاً..
٣ سقطت من "ب"..
٤ في "ب" شدد بالشين والأصح هنا والقراءة لعيسى الحجازي.
انظر: الكشاف ٣/٢٣٤ والبحر المحيط ٧/١٨٩، ومختصر ابن خالويه ١١٧..

٥ نقلها السمين في الدر المصون ٤/٣٤٤ وأبو البقاء في التبيان ١٠٤٥..
٦ المرجعان السابقان..
٧ في "ب" وكانت بتاء التأنيث..
٨ هذا أحد بيتين أنشدهما المبرد في كامله، والآخر هو:
ويعدو على الأين عدو الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
وهما لرجل مجهول يمدح خليفة العباسيين الرشيد مدحاً مبيناً في الوجه والكلام ورخامة الصوت ومهما كان الأمر فإنه هو الدائم الذي لا يتغير فلم يبال "بأين" (إعياء) أو غيره والاستشهاد بالبيت برفع الكلام في قوله "جهير الكلام". انظر: الكامل ٢/١٦٣ والقرطبي ١٤/٧٢ والبحر المحيط ٧/١٨٩ والسراج المنير ٣/١٩٠..

٩ هو صماخ الأذن وهو الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس. وقيل: هو الأذن نفسه. اللسان [ص. م. خ]..
١٠ تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٥١..
١١ ذكره في جمهرة الأمثال كما ذكره الميداني في مجمع الأمثال ٢/١٨٤ و النّحيان مثنى (نِحْي) وهو وعاء من جلد كان يوضع فيه السّمن وذكر المؤلف هذا المثال على أن الفعل مأخوذ من مبني للمفعول "مشغول" وشغل وكذلك الآية (أنكر) من منكر "وأنكر"..
١٢ انظر: الأشموني ٢/٤٤..
١٣ فيكون على باب التفضيل والمشاركة..
١٤ سقطت من "ب"..
١٥ يقصد أن التفضيل يبنى من الفعل الثلاثي وأنكر فعل رباعي واسم فاعله "مُنْكِرٌ" واسم مفعوله "مُنْكَرٌ"..
١٦ يشير إلى أن الفعل الثلاثي هذا الذي يصاغ منه أفعل التفضيل لا بد أن يكون مبنياً للمعلوم لا للمجهول..
١٧ يشير إلى أنَّ هذا الفعل يخلو من أي عيب وأحمق فيه العيب..
١٨ في "ب" لقولهم..
١٩ فكان على القاعدة أن نقول أشد طاعة حيث إن "أطاع" رباعي كأنكر..
٢٠ وأشغل هنا من فعل مبني للمجهول "شغلت فهي مشغولة"..
٢١ وأحمق مبني من (حمق) وهو فعل عيب..
٢٢ سقطت من "ب"..
٢٣ في "ب" الصوت وهو تحريف..
٢٤ أي افعل فعلاء كأحمق حمقاء وأحمر حمراء أو باب أفعل الزائد على ثلاثة أحرف..
٢٥ أي البناء المجهول لا المعلوم..
٢٦ تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٥١..
٢٧ سقطت من "ب"..
٢٨ في تفسير الفخر الرازي: كأجدر من جدير..
٢٩ سقطت من "ب"..
٣٠ كذلك..
٣١ هو: موسى بن أعين الجزري أبو سعيد الحراني عن خصيف، والأعمش وجماعة وعنه: الوليد بن مسلم وغيره مات سنة ١٧٧. انظر: خلاصة الكمال ٣٨٩..
٣٢ نقله القرطبي في ١٤/٧٧، بلفظ "إلا نهيق الحمار"..
٣٣ تقدم..
٣٤ في "ب" العطية الكبيرة وهو تحريف..
٣٥ انظر: تفسير ابن كثير ٣/٤٤٣..
٣٦ في "ب" وائتني..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ... ﴾ الآية (أي) سخر لأجلكم ما في السماوات والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره وفيها الفوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده.
453
قوله: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ قرأ نافعٌ وأبُو عَمْروٍ وحفصٌ (نِعَمَهُ) جمعُ نِعْمَةٍ مضافاً لها الضمير «فظَاهِرةً» حال منها، والباقون «نِعْمَةً» بسكون العين، وتنوين تاء التأنيث، اسم جنس يراد به الجمع كقوله: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤] و [النحل: ١٨] فظاهرةً (نعت) لها، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة «وأصْبَغَ» بأبدال السين صاداً وهي لغة كلْبٍ، يفعلون ذلك مع الغَيْنِ والخَاءِ والقَافِ، وتقدم نظير هذه الجمل كلها في البقرة.

فصل


قال عكرمة عن ابن عباس النعمة الظاهر الإسلام، والقرآن، والباطنة ما ستر عليك من الذنوب، ولم يعجل عليك بالنقمة، وقال الضحاك: الظاهرة حُسْن الصورة وتسويةُ الأعضاء، والباطنة المعرفة، وقال مقاتل: الظاهرة تسوية الخِلْقَة، والرزق، والإسلام والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب وقال الربيع الظاهرة الجوارح، والباطنة القلب، وقيل: الظاهرة تمام الرزق والباطنة حُسْنُ الخُلُق، وقال عطاء: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة، وقال مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة، وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار، وقال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الظاهرة: اتِّباع الرسول والباطنة محبته.
454
قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ نزلت في النضر بن الحَرثِ، وَأُبيِّ بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) وفي صفاته ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا﴾ بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القُبْح، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يَدعوهُم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله وكلام العلماء بَوْنٌ عظيمٌ فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهال؟ ثم قال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير﴾، جواب «لو» محذوف ومجازه: يدعوهم فيتبعونه أي يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، والمعنى أن الله يدعوهم إلى الثواب، والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون (الشيطان) وقد تقدم الكلام على «أَوَ لَوْ» ونَحوهِ.
قوله: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله﴾ قرأ عَليٌّ (والسُّلَمِيُّ) «يُسَلِّمْ» بالتشديد، لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المستسلم المسلم لأمر الله وقوله: «وَهُو مُحْسِنٌ» أي لله يعني يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وهو محسن في عمله ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه لأن أوثق العُرَى جانب الله، فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باقٍ لا انقطاع له ﴿وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور﴾ يعني فقد استمسك بالعروة التي توصله إلى الله لأن عاقبةَ كُلِّ شيء إليه.
فإن قيل: كيف قال هَهُنَا: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله﴾ (فعداه «بإلى» وقال في البقرة: ﴿بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ [الآية: ١١٢] ) فعداه باللاّم؟ فقال الزمخشري: أَسْلَمَ لِلّه أي إلى الله يعني أنَّ «أَسْلَمَ» يتعدى تارة «باللام، وتارة» بإلى «قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ﴾ [النساء» : ٧٩] وقال: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً﴾ [المزمل: ١٥] ثم قال: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ (لما بين حال
455
المسلم رجع إلى بيان حال الكافر وقال: ﴿من كفر فلا يحزنك﴾ ) أي لا تحزن إذا كفر كافر، فإن من يكذبْ وهو مقطوعٌ بأن صدقه بين عن قرب لا تحزن بل قد يتوب المكذب عن تكذيبه، وأام إذا كان لا يرجو ظهور صدقه فإنه يتألم من التكذيب فقال: ﴿فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ فإن المرجعَ إليَّ ﴿فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ فيَنْخَجلون ثم قال ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي لا يخفى عليه سرُّهُمْ وعلانيتُهم فينبئهم بما أسَرَّتهُ صدورهم.
قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً» أي نمهلهم ليتمتعوا بنعم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم «ثُمَّ نضطرّهم» نُلجئهم ونردهم في الآخرة ﴿إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ وهو عذاب النار.
قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ الآية لما استدل بخلق السموات بغير عمد، وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه وهذا يقتضي أن الحمد كله لله لأن خالق السماوات والأرض محتاج إليه كلّ من في السماوات والأرض، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا، ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما سلى قَلْبَ النبي - عليه السلام - بقوله: ﴿فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ أي لا تحزن على تكذيبك فإن صدقَك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا بل لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة بأنهم يعترفون بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم قال في دعوى الوحدانية وتبيين كذبهم في الشرك ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ على (ظهور) صدقك وكذبهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك، وعلى هذا يكون «لاَ يَعْلَمُونَ» استعجالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية، كما يقال: فُلاَنٌ يَعْطِي وَيمْنَعُ ولا يكون ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومعاً فكذلك ههنَا قال: «لاَ يَعْلَمُونَ» أي ليس لهم علم، وعلى الأولى يكون «لا يعلمون» (له مفعول مفهوم) وهو أنهم لا يعلمون أن الحمدَ كُلَّه لله وعلى الثاني هو كقول القائل: فلانٌ لا علم لهَ بكذا.
قوله: لا علم له وكذا قوله: فلان لا ينفعُ زيداً ولا يضره دون قوله: «فلان لاَ يَضْرُّ وَلاَ يَنْفَعُ».
قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ ذكر ما يلزم منه وهو أن يكون له ما
456
فيهما ﴿إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾ أي إن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وخلق منافعها لكم، فهو غني لعدم حاجته «حميد» مشكور (لدفعه) حوائجكم بها.
457
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القُبْح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَدعوهُم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله وكلام العلماء بَوْنٌ عظيمٌ فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهال١ ؟ ثم قال :﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير ﴾، جواب «لو » محذوف ومجازه : يدعوهم فيتبعونه أي يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، والمعنى أن الله يدعوهم إلى الثواب، والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون ( الشيطان )٢ وقد تقدم الكلام على «أَوَ لَوْ » ونَحوهِ.
١ تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٥٣..
٢ ساقط من "ب"..
قوله :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله ﴾ قرأ عَليٌّ ( والسُّلَمِيُّ١ ) «يُسَلِّمْ » بالتشديد٢، لما بين حال المشرك والمجادل٣ في الله بين حال المستسلم المسلم لأمر الله وقوله :«وَهُو مُحْسِنٌ » أي لله يعني يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وهو محسن في عمله ﴿ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه لأن أوثق العُرَى جانب الله، فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باقٍ لا انقطاع له ﴿ وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور ﴾ يعني فقد استمسك بالعروة التي توصله إلى الله لأن عاقبةَ كُلِّ شيء إليه.
فإن قيل : كيف قال هَهُنَا :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله ﴾ ( فعداه «بإلى »٤ وقال في البقرة :﴿ بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ﴾ ) فعداه باللاّم ؟ فقال الزمخشري : أَسْلَمَ لِلّه٥ أي إلى الله يعني أنَّ «أَسْلَمَ » يتعدى تارة «باللام » وتارة «بإلى » كما يتعدى «أرسل » تارة باللام، وتارة «بإلى » قال تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ ﴾ [ النساء : ٧٩ ] وقال :﴿ كَمَا أَرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾ [ المزمل : ١٥ ].
١ سقطت من "ب"..
٢ إعراب القرآن للنحاس ٤/٢٨٧ ومختصر ابن خالويه ١١٧ بنسبتها أيضاً إلى عبد الله بن مسلم بن يسار. والقرطبي ١٤/٧٤ والكشاف ٣/٢٣٥ والبحر المحيط ٧/١٩٠ ومعاني الفراء ٢/٣٢٩..
٣ في "ب" والمجاهد وهو تحريف..
٤ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٥ الكشاف للزمخشري ٣/٢٣٥ قال: "فإن قلت: ما له عدي بإلى وقد عدي باللام في قوله: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن؟ قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله أي خالصاً له. ومعناه مع "إلى" أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه"..
ثم قال :﴿ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا ﴾ ( لما بين١ حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر وقال :﴿ من كفر فلا يحزنك ﴾ ) أي لا تحزن إذا كفر كافر، فإن من يكذبْ وهو مقطوعٌ بأن صدقه بين عن قرب لا تحزن بل قد يتوب٢ المكذب عن تكذيبه، وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه فإنه يتألم من التكذيب فقال :﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ﴾ فإن المرجعَ إليَّ ﴿ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا ﴾ فيَنْخَجلون ثم قال ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي لا يخفى عليه سرُّهُمْ وعلانيتُهم فينبئهم بما أسَرَّتهُ صدورهم.
١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢ في تفسير الفخر الرازي بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب..
قوله :«نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً » أي نمهلهم ليتمتعوا بنعم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم «ثُمَّ نضطرّهم » نُلجئهم ونردهم في الآخرة ﴿ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ وهو عذاب النار.
قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله. . . ﴾ الآية لما استدل بخلق السموات بغير عمد، وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه وهذا يقتضي أن الحمد كله لله لأن خالق السماوات والأرض محتاج١ إليه كلّ من في السماوات والأرض، وكون الحمد كله لله٢ يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا، ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما سلى قَلْبَ النبي - عليه السلام٣ - بقوله :﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا ﴾ أي لا تحزن على تكذيبك فإن صدقَك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا بل لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة بأنهم يعترفون بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم قال في دعوى الوحدانية وتبيين كذبهم في الشرك ﴿ قُلِ الحمد لِلَّهِ ﴾ على ( ظهور٤ ) صدقك وكذبهم٥ ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك، وعلى هذا يكون «لاَ يَعْلَمُونَ » استعجالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية، كما يقال : فُلاَنٌ يُعْطِي وَيمْنَعُ ولا يكون ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومنعاً فكذلك ههنَا قال :«لاَ يَعْلَمُونَ » أي ليس لهم علم، وعلى الأولى يكون «لا يعلمون » ( له٦ مفعول مفهوم ) وهو أنهم لا يعلمون أن الحمدَ كُلَّه لله وعلى الثاني هو كقول القائل : فلانٌ لا علم لهَ بكذا.
قوله : لا علم له وكذا قوله : فلان لا ينفعُ زيداً ولا يضره دون قوله :«فلان لاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ٧ ».
١ في "ب" يحتاج..
٢ في "ب" وكون الحمد كلمة لله..
٣ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
٤ ساقط من "ب"..
٥ في "ب" وتبين كذبهم..
٦ ساقط من "ب"..
٧ وانظر في هذا كله التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/١٥٥..
قوله تعالى :﴿ لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ ذكر ما يلزم منه وهو أن يكون له ما فيهما ﴿ إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد ﴾ أي إن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وخلق منافعها لكم، فهو غني لعدم حاجته «حميد » مشكور ( لدفعه١ ) حوائجكم بها.
١ ساقط من "ب"..
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ... ﴾ الآية. لما قال: لله ما في السماوات والأرض أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العَقْلِ الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائبَ لا نهاية لها فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾ يكتب بها والأبحر مداد لا تغني عجائب صنع الله، قال المفسرون نزل بمكة قوله تَعَالَى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح﴾ [الإسراء: ٨٥]، إلى قوله: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأسراء: ٨٥] فلما هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه أحبار اليهود فقالوا «يا محمد: بلغنا أنك تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، أفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فقال - عليه السلام -: كلا قد عنيت. قالوا: ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هي في علم الله قليلٌ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم قالوا يا محمد: كيف تزعم هذا علم قليل وخير كثير» ؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة: إن المشركين قالوا: إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفدَ فينقطع فنزلت: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٍ «. ووحَّد الشجرة، وجمعَ الأقلام ولم يقل: ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولم يقل من شجرة قَلَم إشارةً إلى التكثير يعني لو أن بعدد كُلِّ شجرة
457
فإن قلت: لم يقيل: من شجرة بالتوحيد؟ قلت: أريد تفصيل الشجرة وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا قد بريت أقلاماً. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موضع المعرفة كقوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]
قال شهاب الدين: وهذا يذهب بالمعنى الذي أبداه الزمخشري.
قوله:» والبَحْرُ «قرأ أبو عمرو بالنصب، والباقون بالرفع، فالنصب من وجهين:
أحدهما: العطف على اسم»
أنَّ «أي ولو أنَّ البحرَ، و» يَمُدُّهُ «الخبر.
والثاني: النصب بفعل مضمر يفسره»
يمده «. والواو حنيئذ للحال، والجملة حالية، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو، والتقدير: ولو أَنَّ الَّذي في الأرض حَالَ كونِ البحر ممدوداً بكذا. وأما الرفع، فمن وجهين:
أحدهما: العطف على»
أن «وما في حيّزها، وقد تقدم في» أَنَّ «الواقعة بعد» لو «مذهبان مذهب سيبويه الرفع على الابتداء، ومذهب المبرد على الفاعلية بفعل مقدر وهما عائدان هنا. فعلى مذهب سيبويه يكون تقدير العطف ولو أَنَّ البحرَ، إلا أن أبا حيان قال: إنه لا يلي المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة كقوله:
٤٠٥٣ - لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ..................................
458
وهذا القول يؤدي إلى ذلك، ثم أجاب بأنه يغتفر في المعطوف عليه كقولهم: «رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولاَنِ ذَلِكَ» وعلى مذهب المبرد يكون تقديره ولو ثبتَ البحرُ، وعلى التقديرين يكون «يمُدُّهُ» جملة حالية من البحر.
والثاني: أن «البحر» مبتدأ (ويمده) الخبر والجملة حالية كما تقدم في جملة الاشتغال، والرابط الواو، وقد جعله الزمخشري سؤالاً وجواباً وأنشد:
٤٠٥٤ - وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُنَاتِهَا................................
و «مِنْ شَجَرَةٍ» حال، إما من الموصول، أو من الضمير المستتر في الجار الواقع صلة، و «أَقْلاَم» خبر «أَنَّ»، قال أبو حيان: وفيه دليل على من يقول كالزمخشري ومن تعصب له من العجم على أن خَبَر أنَّ الواقعة بعد «لو» لا يكون اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً بل يتعين أن يكون فعلاً وهو باطل وأنشد:
459
وقال:
٤٠٥٦ - ما أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أنَّ الفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الحَوَادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ... وقال:
٤٠٥٥ - ولَوْ َنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْداً وَأَزْنَمَا
٤٠٥٧ - وَلَوْ أَنَّ حَيّاً فَائِبُ المُوْتِ فَإِنَّهُ أَخُو الحَرْبِ فَوْقَ القَارِحِ العُدْوَان
قال: وهو كثير في كلامهم، قال شهاب الدين: وقد تقدم أن هذه الآية ونحوهَا يبطل ظاهر قول المتقدمين في «لو» أنها حرف امتنا لامتناع إذ يلزم محذور عظيم وهو أن ما بعدها إذا كان مُثْبَتاً لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنى وبالعكس، وقوله: مَا نَفِدت منفي لفظاً فلو كان مثبتاً معنى فسد المعنى، فعليك بالالتفات إلى أول البقرة. وقرأ عبدُ الله: «وبَحْرٌ» بالتنكير وفيه وجهان معروفان، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعقها بعد واو الحال وهو معدود من مسوغات الابتداء بالنكرة، وأنشدوا:
460
وبهذا يظهر فساد قول من قال: إن في هذه القراءة يتعين (القول بالعطف على «أن» كأنه يوهم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغ، وقرأ عبد الله وأبيّ «تَمُدُّهُ» بالتأنيث لأجل «سبعةٍ» والحَسَنُ، وابن هُرْمُز، وابن مِصْرِفٍ «يُمِدُّهُ» بالياء من تحت مضمومة وكسر الميم من أَمَدَّهُ وقد تقدم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرة، والأل واللام في البحر لاستغراق الجنس أي (وكل) بحرٍ مدادٍ.

فصل


المعنى والبحر يمده، أي يَزيدُه، وينصب فيه من بعده أي من بعد خلقه سبعةُ أَبْحُر، وهذا إشارة إلى بحارٍ غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى، وقوله: «سبعة» ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة، ولو بألفِ بحْر، وإنما خُصّت السبعةُ بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدود في العادة، ويدل على ذلك وجوه:
الأول: أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان
461
منحصر في سبعة أيام، ولأن الكواكب السيارة سبعة، والمنجمون ينسبون إليها مراراً فصارت السبعة كالعدد الحصر للمُكْثراتِ الواقعة في العادة فاستعملت في كُلِّ كَثِيرٍ.
الثاني: أن في السبعة معنّى يخصها ولذلك كانت السماواتُ سبعاً، والأرضينَ سبعاً، (وأبواب جهنم سبعاً)، وأبواب الجنة ثمانية لأنها الحسنى وزيادة فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واواً، يقول الفراء: إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف؛ لأن العدد تم بالسبعة. واعلم أن في الكلام اختصاراً تقديره: ولَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.
قوله: «كلمات الله» قال الزمخشري: فإن قلتَ: الكلماتُ جمعُ قلَّةٍ، والموضوع موضع تكثير فهلا قِيلَ: كَلِمٌ؟ قلتُ: معناه أن كلماته لا يقع بكتبها البحار يكفي بِكَلِمِهِ، يعني أنه من باب التنبيه بطريق الأولى. ورده أبو حيان بأن جمع السلامة متى عرف «بأل» (غير العهدية، أو أضيف عَمَّ). قال شهاب الدين: للناس خلاف في «أل» هل تعم أو لا؟ وقد يكون الزمخشري مِمَّنْ لا يرى العموم ولم يزل الناس يشكون في بَيْت حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:
٤٠٥٩ - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى.................................
ويقولون: كيف أتى بجمع القلة في مقام المدح ولم لم يقل «الجفان» وهو تقرير
462
لما قاله الزمخشري، واعتراف بأن «أل» لا تؤثر في جمع القلة تكثيراً. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ أي كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته «حَكِيمٌ» كامل العلم لا نهاية لمعلوماته، وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية، وعلى قول غيره مكية.
قوله: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم لحشر فقال: ﴿خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، فقوله: «إِلا كَنَفْسٍ» خبر «مَا خَلْقُكُمْ» والتقدير: إِلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ «سميع» لما يقولون «بصير» بما يعملون فإذا كان قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ في النظم وجهان:
الأول: أن الله تعالى لما قال: ﴿ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض﴾ على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار﴾ وقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ إشارة إلى ما في السموات.
الثاني: أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي يَنْسُبون غليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال: ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال: إن ذلك باختلاف مسير الشمس فتارة تكون القَوْس التي هي فوق الأرض أكبر من التي تحت الأرض فكيون الليل أقصر والنهار أطور وتارة (يكون) العكس (فيكون بالعكس)، وتارة يتساويان (فيتساويان) فقال (تعالى) :﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسْرِهَا عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدّدِ والمدد يسيِّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته.

فصل


قال: «يُولج» بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر «وسخَّر» بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى: ﴿حتى عَادَ كالعرجون القديم﴾ [يس: ٣٩] وقال ههنا: «إلى أَجَلٍ» وفي
463
الزمر «لأَجِلٍ» ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقَعَ. قال الأكثرون: هذا خطاب للنبي - عليه السلام - والمؤمنين، وقيل: عام، ثم قال: ﴿وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي لما كان الليلُ والنهارُ محلَّ اأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله، وقرأ أبو عمرو في رواية - ﴿وأنَّ اللَّهَ بِمَا يَعملون﴾ - بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب. قوله: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي ذلك الذي ذكرت، لتعلموا أن الله هو الحق ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي الزائل يقال: بطل ظله، إذ زال ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي﴾ أي في ذاته.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله﴾ لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبِّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر﴾ وقوله: «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» أي الريح التي هي بأمر الله ﴿لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ﴾ يعني يريكم بإجرائها «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» بعض آياته وعجائبه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ على أمر الله «شَكُور» على نعمه.
قوله: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل﴾ لما قال: إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه ودعاه مخلصاً. وقوله: «كالظلل» قال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب.
والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء وقوله: ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي يتركون كل من دعوهم ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر﴾ أي نجاهم من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله: «فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» أي عدل موف في البر بما عاهَدَ اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه. قيل: نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ: لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع
464
يَدِي في يده. فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال مجاهد: مقتصد في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في العنكبوت: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] وقال ههنا: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ ؟!.
فالجواب: لما ذكر ههنا امراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أُر.
قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ﴾ في مقابلة قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ﴾ يعني يعترف بها الصبار والشكور، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر (قال الأعشى) :
٤٠٥٨ - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا مُحْيَّاكَ أخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ
٤٠٦٠ - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلَهُ حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ
وقال عمرو بن معديكرب:
٤٠٦١ - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وقالوا: «إنْ مَدَدَتْ لَنَأ مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر» والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر.
465
قوله :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم لحشر فقال :﴿ ما خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾، فقوله :«إِلا كَنَفْسٍ » خبر «مَا خَلْقُكُمْ » والتقدير : إِلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ «سميع » لما يقولون «بصير » بما يعملون فإذا كان قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل،
وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ في النظم وجهان :
الأول : أن الله تعالى لما قال :﴿ ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ﴾ على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله :﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار ﴾ وقوله :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ إشارة إلى ما في السموات.
الثاني : أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله :﴿ وَمَا يُهْلِكُنا إِلاَّ الدهر ﴾ [ الجاثية : ٢٤ ] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي يَنْسُبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال : إن ذلك باختلاف مسير١ الشمس فتارة تكون القَوْس التي هي٢ فوق الأرض أكبر من التي٣ تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة ( يكون٤ ) العكس ( فيكون٥ بالعكس )، وتارة يتساويان ( فيتساويان٦ ) فقال ( تعالى٧ ) :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسْرِهَا عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدّدِ والمدد يسيِّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته.

فصل :


قال :«يُولج » بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر «وسخَّر » بصيغة الماضي ؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى :﴿ حتى عَادَ كالعرجون القديم ﴾ [ يس : ٣٩ ] وقال ههنا :«إلى أَجَلٍ » وفي الزمر٨ «لأَجِلٍ » ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقَعَ. قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي - عليه٩ السلام - والمؤمنين، وقيل : عام، ثم قال :﴿ وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي لما كان الليلُ والنهارُ محلَّ الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله، وقرأ أبو عمرو في رواية - ﴿ وأنَّ اللَّهَ بِمَا يَعملون ﴾١٠ - بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب.
١ في "ب" تسيير..
٢ في "ب" الذي هو فوق الأرض..
٣ وفيها" الذي"..
٤ ساقط من "ب"..
٥ كذلك..
٦ كذلك..
٧ زيادة من "أ" هنا..
٨ هي الآية ٥ من الزمر ﴿وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى﴾..
٩ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
١٠ انظر: الإتحاف ٣٥٠، والسبعة ٥١٤ ومختصر ابن خالويه ١١٧..
قوله :﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾ أي ذلك الذي ذكرت، لتعلموا أن الله هو الحق ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل ﴾ أي الزائل يقال : بطل ظله، إذ زال ﴿ وَأَنَّ الله هُوَ العلي ﴾ أي في ذاته.
قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله ﴾ لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبِّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر ﴾ وقوله :«بِنِعْمَةِ اللَّهِ » أي الريح التي هي بأمر الله ﴿ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ ﴾ يعني يريكم بإجرائها١ «بِنِعْمَةِ اللَّهِ » بعض آياته وعجائبه ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ على أمر الله «شَكُور » على نعمه.
١ في "ب" من إجرائها..
قوله :﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كالظلل ﴾ لما قال : إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه١ ودعاه مخلصاً. وقوله :«كالظلل » قال مقاتل : كالجبال٢، وقال الكلبي٣ : كالسحاب.
والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها٤، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج٥ يأتي منه شيء بعد شيء وقوله :﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي يتركون كل من دعوهم ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر ﴾ أي نجاهم٦ من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله :«فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » أي عدل موف في البر بما عاهَدَ٧ اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه. قيل : نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ : لئن أنجاني٨ الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع٩ يَدِي في يده. فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه١٠، وقال مجاهد : مقتصد١١ في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في العنكبوت :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ وقال ههنا :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ ؟ !.
فالجواب : لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الإنزجار١٢، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر.
قوله :﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا ﴾ في مقابلة قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ يعني يعترف بها الصبار والشكور، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر ( قال الأعشى ) :
٤٠٦٠ - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ١٣
وقال عمرو بن معد يكرب :
٤٠٦١ - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ١٤
وقالوا :«إنْ مَدَدَتْ لَنَا يداً مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر »١٥ والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد١٦ فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر.
١ في "ب" الكل من الله..
٢ القرطبي ١٤/٨٠..
٣ القرطبي ١٤/٨٠..
٤ المرجع السابق..
٥ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/١٦٢ بالمعنى منه..
٦ في "ب" أنجاهم..
٧ في "ب" بما عاهده الله..
٨ في "ب" أنجانا..
٩ في "ب" ولأضعن..
١٠ نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٢٨..
١١ انظر: القرطبي ١٤/٨٠..
١٢ في "ب" بعض انزجاره..
١٣ هو له كما أخبر أعلى من البسيط والرواية في اللسان والقرطبي: "بالأبلق" وهو قصر السموءل بن عادياء. وتيماء: موضع ورواية القافية في الديوان: "غير غدار" بدل من ختار محل الشاهد حيث جيء به استدلالاً على أن الختر هو أشد الغدر وأفظعه وانظر مجاز القرآن ٢/٢٩ والقرطبي ١٤/٨٠ ولسان العرب: " ت ي م" ٤٦٢ و"ب ل ق" وديوانه ٦٩، وانظر كذلك صحاح الجوهرة: " خَ تَ رَ"..
١٤ من الوافر له والأصح: أبا عمير "بدل من عمرو" حتى يتسنى الوزن والغدر: غير الختر بدليل عطف الختر عليه وقيل: هما بمعنى. والشاهد فيه كسابقه حيث تعني كلمة "الختر" أشد الغدر وأسوأه. وانظر البيت في مجاز القرآن ٢/١٢٩ والقرطبي ١٤/٨٠ والبحر المحيط ٧/١٨٢ والطبري ٢١/٤ والكشاف ٣/٢٣٨ وتفسير ابن كثير ٣/٤٥٣، ومجمع البيان للطبرسي ٧/٥٠٥ وديوانه (١٠٩)..
١٥ ذكر هذا الخبر ابن منظور في اللسان: " خ ت ر" ١٠٩٩ بصيغة: "لن تمد لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر"..
١٦ في "ب" الغدر..
قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾ لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى فقال: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي﴾ لا يقضي، ولا يغني ﴿وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾. قال ابن عباس: كل امرىء تهمه نفسه، واعلم أنه تعالى ذكر شخصين في غاية الشفقة والحنان والحُنُوِّ وهو الوالد والولد، فاستدل بالأولى على الأعلى فذكر الوالد والولد جميعاً لأن من الأمور ما يبادر الأب إلى تحمُّلِهِ عن الولد كدَفْع المال، وتَحَمُّل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد (مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد)، ومنها ما يبادر الولد إليه كالإهانة فإن من يريد (إحضار) والد آخر عند والٍ أو قاضٍ يهُونُ على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله وإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الألم عن ابنه وستحمله هو بنفسه. فقوله: ﴿لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ في دفع الآلام ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ في دفع الإهانة ثم قال: ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي إن هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن لأن الله وعد به ووعده حق، وقيل: وعد الله حق بأنه لا يجزي والدٌ عن ولده لأنه وعد بأن لا تَزر وازرةٌ وزر أخرى ووعد الله حق ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي لا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق.
﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور﴾ يعني الشيطان يزين في عينه الدنيا ويؤمله يقول: إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فَتجْتَمِع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين.
قوله: «وَلاَ مَوْلُودٌ» دوزوا فيه وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ، وما بعده الخبر.
والثاني: أنه معطوف على «وَالدٌ» وتكون الجملة صفة له. وفيه إشكال وهو أنه
466
نفى عنه أن يَجْزِي ثم وصفه بأنه جازٍ، وقد يجاب عنه: بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة، (فالحالان) باعتبار زمنين. وقد منع المَهْدَوِيُّ أن يكون مبتدأ، قال لأن الجملةَ بعده صفة له فيبقى بلا خبر، ولا مسوغ غير الوصف، وهو سهو لأن النكرة متى اعتمدت على نفي سَاغَ الابتداء بها، وهذا من أشهر مسوغاته، وقال الزمخشري: فإن قلت: (قوله) ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ هو وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه قلتُ: الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله: «هُو» وقوله: «مَوْلُودٌ» قال: ومعنى التوكيد في لفظِ المولود أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه لم يقبل منه، فضلاً أن يشفع لمن فوقه مِنَ أجداده؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه الذي ولد منك قال: والسبب في مجيئه على هذا السَّنَنِ أن الخطابَ للمؤمنين وعلْيتهِمْ قبض آباؤهم في الكفر فأريد حسم أَطْمَاعِهِمْ وأطماع الناس فيهم.
والجملة من قوله «لاَ يَجْزِي» صفة (ليوم)، والعائد محذوف أي (فِيهِ) فحذف برُمَّته أو على التدريج، وقرأ عكرمة «لاَ يُجْزَى» مبنياً للمفعول، وأَبُوا السَّمَّالِ، وأبو السّوّار لا يُجْزىء بالهمز من «أجْزَأَ عَنْهُ» أي أغنى، وقوله «شيئاً» منصوب على المصدر وهو من الإعمال، لأن «يَجْزِي» و «جَازٍ» يَطْلُبَانِهِ، والعامل «جَازٍ» على ما هو المختار للحذف من الأول.
قوله: «فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ» العامة على تشديد النون، وابنُ أبي إسْحَاق وابنُ أبي عَبْلَةَ
467
ويعقوبُ بالتخفيف وسَمَّاك بنُ حَرْبٍ «الغُرُور» - بالضم - وهو مصدر، والعامة بالفتح صفة مبالغة كَشَكُورٍ صفة مبالغة كَشَكُورٍ وفسر بالشيطان على أنه يجوز أن يكون المضموم مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة... ﴾ الآية، نزلت في الوارثِ بن حارثَة محارب بن خصفة «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من البادية فسأله عن الساعة ووقتها، وقال إن أرضنا أَجْدَبَتْ فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حُبْلَى فمتى تلد؟ وقد علمت أَيْنَ ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ علمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «قال ابن الخطيب: قال بعض المفسِّرينَ: إن الله تعالى نفى (علم) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصودَ ليس ذلك لأن اللَّهَ يعلمُ الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرِق إلى المغرب كَمْ مرةً ويعلم أين هُوَ ولا يعلمه غيره ويعلم أنه (ذَرَّهُ) في بَريَّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنَّ الحق فيه أن نقول لما قال: اخْشَوا يوماً لا يجْزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله: ﴿إن وعد الله حق﴾ كأن قائلاً قال: فمَتَى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لَمْ يَحْصُل لغير الله ولكن هو كائن.
قوله:»
مَاذَا تَكْسبُ «يجوز أن تكون» ما «استفهامية فتعلق الدراية، وأن تكونَ موصولة فينتصب بها، وقد تقدم حكم» مَاذَا «أول الكتاب وتكرر في غَضونِهِ.
قوله: ﴿بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ «بأَيِّ أَرْضٍ»
متعلق «بتَمُوتُ» وهو متعلق للدراية فهو في محل نَصْبٍ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وموسى الأهوازيّ «بأية أرض» على تأنيثها، وهي
468
لغة ضعيفة كتأنيث «كُلّ» حيث قالوا: كُلُّهُنَّ (فَعَلْنَ ذَلِكَ) والمشهور بأيِّ أرض؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء، وقيل: أراد بالأرض المكان. نقله البغوي والباطن فيه بمعنى في أي (في) أرضٍ نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ أي فيها، ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ﴾ لما خصص أولاً علمه بالأشياء المذكورة بقوله: ﴿إن الله عنده علم الساعة﴾ ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم ملطقاً بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.
روى الثعلبي عن أُبَيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرََأ سُورَةُ لُقْمَان كان له لقمانُ رفيقاً يوم القيامة وأعْطِيَ من الحسنات عشراً بعدد من عَمِلَ بالمعروف ونَهَى عن المنكر»
469
سورة السجدة
470
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة. . . ﴾ الآية، نزلت في الوارثِ١ بن حارثَة محارب بن خصفة «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية فسأله عن الساعة ووقتها، وقال إن أرضنا أَجْدَبَتْ فمتى ينزل الغيث ؟ وتركت امرأتي حُبْلَى فمتى تلد ؟ وقد علمت أَيْنَ ولدت فبأي أرض أموت ؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ علمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ »٢. قال ابن الخطيب : قال بعض المفسِّرينَ : إن الله تعالى نفى ( علم٣ ) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصودَ ليس ذلك لأن اللَّهَ يعلمُ الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرِق إلى المغرب كَمْ مرةً ويعلم أين هُوَ ولا يعلمه غيره ويعلم أنه ( ذَرَّهُ٤ ) في بَريَّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنَّ الحق فيه أن نقول لما قال : اخْشَوا يوماً لا يجْزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله :﴿ إن وعد الله حق ﴾ كأن قائلاً قال : فمَتَى يكون هذا اليوم ؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لَمْ يَحْصُل لغير الله ولكن هو كائن٥.
قوله :«مَاذَا تَكْسبُ » يجوز أن تكون «ما » استفهامية فتعلق الدراية، وأن تكونَ موصولة فينتصب٦ بها، وقد تقدم حكم «مَاذَا » أول الكتاب وتكرر في غُضونِِهِِ.
قوله :﴿ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ «بأَيِّ أَرْضٍ » متعلق «بتَمُوتُ » وهو متعلق للدراية فهو في محل نَصْبٍ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وموسى٧ الأهوازيّ «بأية أرض » على تأنيثها٨، وهي لغة ضعيفة كتأنيث «كُلّ » حيث قالوا : كُلُّهُنَّ ( فَعَلْنَ٩ ذَلِكَ ) والمشهور بأيِّ أرض ؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء، وقيل : أراد بالأرض المكان. نقله البغوي١٠ والباطن فيه بمعنى في أي ( في١١ ) أرضٍ نحو : زَيْدٌ بِمَكَّةَ أي فيها، ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ لما خصص أولاً علمه بالأشياء المذكورة بقوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة ﴾ ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم مطلقاً بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.
١ انظر: الكشاف ٣/٢٣٨ والقرطبي ١٤/٨٣ وزاد المسير ٦/٣٢٩ و ٣٣٠..
٢ الحديث رواه الإمام البخاري ٣/١٧٤ و ١٧٥ عن ابن عمر، وانظر مسند الإمام أحمد ٢/٢٤، ٥٢، ٥٨..
٣ ساقط من "ب"..
٤ ساقط من "ب"..
٥ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٦٤..
٦ ذكره ابن الأنباري في البيان ٢/٢٥٧..
٧ لم أقف عليه..
٨ نقلها ابن خالويه في المختصر ١١٧..
٩ زيادة يقتضيها السياق من البحر المحيط ٧/١٩٥ والكشاف ٣/٢٣٨..
١٠ البغوي: الإمام الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد الحسين بن مسعود الشافعي صاحب معالم التنزيل وشرح السنة وغير ذلك. انظر: تذكرة الحفاظ ٤/١٢٥٧. وانظر القرطبي ١٤/٨٣..
١١ زيادة من "ب"..
Icon