تفسير سورة لقمان

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة( ١ ) لقمان كلها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة :
إحداهما :[ قوله :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ﴾ الآية ]( ٢ ) [ الآية : ٣٤ ].
والأخرى : قوله :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ الآية [ الآية : ٢٧ ].
١ أدرج قبلها في الأصل: ذكران..
٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: قوله، وترك الناسخان فراغا، وكتبا في حاشيتهما: بياض..

سُورَةُ لُقْمَانَ
كلها مَكِّيَّة إلا آيتين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم).
قد ذكرنا تأويله في غير موضع فيما تقدم وما ذكر فيه.
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ) إشارة إلى ما بشر به الرسل المتقدمة أقوامهم من بشارات، يقول: تلك البشارة هي آيات.
(الْكِتَابِ).
أي: هذا القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تلك الآيات التي في السماء هذا الكتاب.
ومنهم من قال: تلك الآيات التي أنزلت متفرقة، فجمعت؛ فصارت قرآنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).
سمى الكتاب: حكيمًا كريمًا مجيدًا ونحوه؛ فيحتمل تسميته: حكيمًا وجوهًا: أحدها: لإحكامه وإتقانه، أي: محكم متقن لا يبذل ولا يغير، وهو كما وضعه - عز وجل - (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).
والثاني: سماه: حكيمًا؛ لأن من تمسك به، وعمل بما فيه يصير حكيمًا مجيدًا كريمًا.
والثالث: سماه حكيمًا؛ لأنه منزل من عند حكيم؛ كقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
الآية ٢ وقوله تعالى :﴿ تلك آيات ﴾ قال بعضهم :﴿ تلك ﴾ إشارة إلى ما بشر به الرسل المتقدمة أقوامهم من بشارات. يقول : تلك البشارات( ١ ) هي آيات الكتاب أي هذا القرآن.
وقال بعضهم :﴿ تلك آيات الكتاب ﴾ التي في السماء، هذا الكتاب. ومنهم من قال : تلك الآيات التي أنزلت متفرقة، فجمعت، فصارت قرآنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ الكتاب الحكيم ﴾ سمي حكيما كريما( ٢ ) مجيدا( ٣ ) ونحوه. فتحتمل تسميته حكيما وجوها :
أحدها : لإحكامه وإتقانه، أي محكم متقن، لا يبدل، ولا يغير، وهو كما وضع عز وجل ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾ [ فصلت : ٤٢ ].
والثاني : سماه حكيما لأن من تمسك به، وعمل بما فيه، يصير حكيما مجيدا كريما.
والثالث : سماه حكيما لأنه منزل من عند حكيم كقوله :﴿ تنزيل من حكيم حميد ﴾ [ فصلت : ٤٢ ].
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: البشارة..
٢ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿إنه لقرآن كريم﴾ [الواقعة: ٧٧]..
٣ إشارة على قوله تعالى: ﴿بل هو قرآن مجيد﴾ [البروج: ٢١]..
وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)
قوله: (هُدًى)، أي: توفيقًا وعصمة ومعونة للمحسنين، وكذلك هو رحمة لهم في دفع العذاب عنهم.
وأما ما يقول أهل التأويل: (هُدًى)، أي: بيانًا للمحسنين فهو بيان للكل ليس لبعض دون بعض؛ فلا يحتمل الهدى البيان في هذا الموضع؛ ولكن ما ذكرنا من المعونة والتوفيق والعصمة. والمحسن - هاهنا - جائز أن يكون المؤمن؛ كقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): الصبار: هو المؤمن، والشكور: هو المؤمن، سمى المؤمن: صبارا مرة وشكورا مرة ومحسنا مرة؛ لأنه يعتقد بالإيمان كل ما ذكر من الصبر والشكر والإحسان وكل خير، واللَّه أعلم.
وقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع.
وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) تأويلِ الهدى ما ذكرنا في هذا الموضع من التوفيق والعصمة والمعونة. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قد ذكرناه أيضًا.
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦)
اختلف في قوله: (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على حقيقة الاشتراء نفسه؛ ولكن على الإيثار والاختيار؛ لأن الاشتراء هو مبادلة أخذ وإعطاء، ولكن آثروا واختاروا الضلال مع قبحه عندهم على الهدى مع حسنه؛ فعلى ذلك آثروا لهو الحديث واختاروه على الحق وحكمة الحديث، واختاروا الفاني على الباقي؛ فسماه: شراء لذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة الاشتراء. لكنهم اختلفوا: فمنهم من يقول: إنه على
الآية ٤ وقوله تعالى :﴿ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ﴾ قد ذكرنا تأويله في ما تقدم في غير موضع.
الآية ٥ وقوله تعالى :﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ تأويل الهدى ما ذكرنا في هذا الموضع من التوفيق والعصمة والمعونة ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ قد ذكرناه أيضا.
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ﴾ اختلف في قوله :﴿ من يشتري لهو الحديث ﴾ قال بعضهم : ليس على حقيقة الاشتراء نفسه، ولكن على الإيثار والاختيار، لأن الاشتراء منادلة : أخذ وعطاء، ولكن آثروا، واختاروا الضلال مع قبحه عندهم على الهدى مع حسنه.
فعلى ذلك آثروا لهو الحديث، واختاروه على الحق وحكمة الحديث، واختاروا الفاني على الباقي، فسماه شراء لذلك.
وقال بعضهم : هو على حقيقة الاشتراء، لكنهم اختلفوا :
فمنهم من يقول : إنه اشتراء المغنِّية والمغنِّي ؛ كانوا يشترون [ القيان ]( ١ ) ليتلهَّوا بهم، ويلعبوا.
ومنهم من قال : كان [ النضر بن الحارث ]( ٢ ) يشتري، ويكتب من لهو الحديث باطله( ٣ ) من حديث الأعاجم، فيحدث بها قريشا، ويقول : إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم. فذلك اشتراؤه لهو الحديث وإضلاله الناس عن سبيل الله، ليعرضوا( ٤ ) عن القرآن والإيمان بمحمد.
[ وقوله تعالى ]( ٥ ) :﴿ ويتخذها هزوا ﴾ وكان إذا سمع شيئا من القرآن اتخذها هزوا. هكذا عادة الكفرة وأهل النفاق، كانوا يستهزئون بالقرآن وبرسول الله وأصحابه. ثم أوعدهم الوعيد الشديد حين( ٦ ) قال :﴿ أولئك لهم عذاب مهين ﴾.
وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم يقولان في قوله :﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ : هو شراء المغنية والغناء، وقد روي مرفوعا، روي عن أبي القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( لا تبيعوا المغنِّيات، ولا تشتروهن، ولا تعلّموهن، ولا خير في التجارة فيهن، وثمنهن حرام ) [ الترمذي ١٢٨٢ و٣١٩٥ ].
في مثله نزلت هذه الآية ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ الآية [ فإن ]( ٧ ) ثبت هذا فهو تفسير لهو الحديث الذي ذكر في الآية.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وباطله..
٤ في الأصل وم: فأعرضوا..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: حيث..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
اشتراء المغنية والمغني كانوا يشترونهم؛ ليتلهوا بهم ويلعبوا.
ومنهم من قال: كان أحدهم يشتري ويكتب عن لهو الحديث وباطله من حديث الأعاجم، فيحدث بها قريشًا، ويقول: إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم؛ فذلك اشتراؤه لهو الحديث وإضلاله الناس عن سبيل اللَّه فأعرضوا عن القرآد والإيمان بمحيد.
(وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا).
وكان إذا سمع شيئًا من القرآن اتخذها هزوا، هكذا عادة الكفرة وأهل النفاق: كانوا يستهزئون بالقرآن وبرسول اللَّه وأصحابه.
ثم أوعدهم الوعيد الشديد؛ حيث قال: (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).
وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - يقولان في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ): هو شراء المغنية والغناء، وقد روي مرفوعًا عن أبي القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تبيعوا المغنيات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن ولا خير في التجارة فيهن، وثمنهن حرام ".
وفي مثله أنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...) الآية، فإن ثبت هذا فهو تفسير لهو الحديث الذي ذكر في الآية.
وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧)
أي: أعرض متعظمًا متجبرًا.
قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا):
يحتمل قوله: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)، و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) على التقرير.
ويحتمل: على نفي الحقيقة.
فإن كان على التقرير فهو على ترك الاستماع.
وإن كان على حقيقة النفي فقد ذكر في كثير من الآي ذلك كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، وذلك يحتمل وجهين - واللَّه أعلم - ثم أوعده العذاب الشديد؛ حيث
قال: (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨)
قوله: (آمَنُوا) بجميع ما أمروا بالإيمان به، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بما تعبدوا من العمل بالطاعات والصالحات.
(لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ).
كل الجنان التي وعد للمؤمنين نعيم يتنعمون فيها خالدين فيها.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا... (٩)
أي: ما وعد للمؤمنين من جنات النعيم هو حق كائن لا محالة، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
* * *
قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١)
وقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق السماوات بعمد لا ترونها.
وقيل: لعل لها عمدا لكن لا ترونها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقها بلا عمد، لكن الأعجوبة فيما خلقها بعمد لا ترونها ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد؛ لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد؛ إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة مما ذكرنا، فأيهما كان ففيه دلالة ألا يجوز تقدير قوى الخلق بقوى اللَّه - تعالى - ولا قدرة الخلق بقدرته، ولا سلطان الخلق بسلطانه؛ بل هو القادر على الأشياء كلها بما شاء وكيف شاء، لا يعجزه شيء.
وقوله: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).
الآية ٩ [ وقوله تعالى ]( ١ ) :﴿ خالدين فيها وعد الله حقا ﴾ أي ما وعد للمؤمنين من الجنات النعيم، هو حق كائن، لا محالة، ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾.
١ ساقطة من الأصل وم..
الآية ١٠ وقوله تعالى :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها ﴾ قال بعضهم : خلق السماوات بعمد لا ترونها. وقيل : لعل لها عمدا، لكن لا ترونها. وقال بعضهم : خلقها بلا عمد. لكن الأعجوبة في ما خلقها بعمد لا ترونها، ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد، لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد ؛ إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى. فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى، هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة مما ذكرنا.
فأيهما كان ففيه دلالة ألا يجوز تقدير قوى الخلق بقوى الله تعالى وقدرته( ١ )، ولا سلطان الخلق بسلطانه. بل هو القادر على الأشياء كلها بما شاء، وكيف شاء، لا يعجزه شيء.
وقوله تعالى :﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾ وقال في آية أخرى ﴿ وجعل فيها رواسي ﴾ [ الرعد : ٣ ].
والرواسي هن الثوابت أي ثبت الأرض بالجبال كقوله :﴿ والجبال أرساها ﴾ [ النازعات : ٣٢ ] أي أثبتها.
وقوله تعالى :﴿ أن تميد بكم ﴾ أي لا تميد بكم ؛ ذكر الميد، وهو الميل والاضطراب، وليس من طبع الأرض الميل والاضطراب، وإنما طبعها التسرب والتسفل والانحدار. فلا يدرى أن كيف حالها في الابتداء ؟ وما في سريتها ما يحملها على الاضطراب والميل حتى أثبتها، وأرساها بالجبال، والله أعلم بذلك.
وقوله تعالى :﴿ وبث فيها من كل دابة ﴾ قال بعضهم : بث : خلق، وقيل : بث : فرق. وفيه أنه جعل الأرض مكانا أو معدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن والمميز وغير المميز، والسماء لم يجعلها( ٢ ) إلا لنوع من الخلق أهل العبادة.
وقوله تعالى :﴿ وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾ أي أنبتنا فيها من كل لون، يتلذذ به الناظر إليه ﴿ كريم ﴾ ينال منه كل ما أراده، وتمناه، إذ الكريم، هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده، وأريد منه.
وقال بعضهم : الكريم الحسن، أي : أنبتنا فيها من كل لون حسن ما يستحسنه الناظر، ويتلذذ به على ما ذكر في آية أخرى :﴿ من كل زوج بهيج ﴾ [ الحج : ٥ ] ما يبهج، ويسر به كل ناظر إليه، والله أعلم.
١ في الأصل وم: بقدرته..
٢ في الأصل وم: يجعل..
وقال في آية أخرى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ)، والرواسي: هن الثوابت، أي: أثبت الأرض بالجبال؛ كقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) أي: أثبتها.
وقوله: (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)، أي: لئلا تميد بكم، ذكر الميد - وهو الميل والاضطراب - وليس من طبع الأرض الميل والاضطراب؛ وإنما طبعها التسرب والتسفل والانحدار؛ فلا يدري أن كيف حالها في الابتداء؛ وما في سريتها مما يحملها على الاضطراب والميد؛ حتى أثبتها وأرساها بالجبال، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: بث: خلق، وقيل: بث: فرق، وفيه أنه جعل الأرض مكانا ومعدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن، والمميز وغير المميز، والسماء لم تجعل إلا لنوع من الخلق أهل العبادة.
وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).
أي: أنبتنا فيها من كل لون يتلذذ به الناظر إليه، كريم ينال منه كل ما أراده وتمناه؛ إذ الكريم هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده وأريد منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكريم: الحسن، أي: أنبتنا فيها من كل لون حسن ما يستحسنه الناظر ويتلذذ به، على ما ذكر في آية أخرى: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ): ما يبهج ويسر به كل ناظر إليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ... (١١)
يقول: ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما بث من الدواب، وما أنبت من كل زوج كريم.
وقوله: (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).
يذكر سفههم، يقول: إنكم تعلمون أن ما ذكر من السماوات والأرض، وجميع ما فيهما - هو كله خلق اللَّه، وأنه هو خالق ذلك كله، وأن الأصنام التي تعبدونها من دونه لم تخلق شيئًا من ذلك، ولا تملك خلق شيء؛ فكيف تعبدونها من دونه، وسميتموها: آلهة، وصرفتم العبادة والألوهية عن الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض وما فيهما؟! وإنما يستحق الألوهية والربوبية لخلقه ما ذكر؛ فالأصنام: إذا لم يكن منها خلق؛ فكيف سميتموها: آلهة وعبدتموها دون اللَّه؟! هذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (فَأَرُونِي مَاذَا
خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، أي: لم يخلق، يخبر عن سفههم وقلة معرفتهم، وسرفهم في القول والفعل، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
يحتمل (الظَّالِمُونَ) وجو هًا:
أحدها: ظلموا أنفسهم؛ حيث وضعوها في غير موضعها الذي أمرهم اللَّه أن يضعوها، وهو وضعهم إياها في عبادة الأصنام.
أو ظالمو حدود اللَّه التي حدها لهم، لم يحفظوها على تلك الحدود؛ بل جاوزوها.
أو سماهم: ظلمة؛ لما ظلموا نعم اللَّه، ولم يشكروها، واللَّه أعلم.
وقوله: (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أي: في حيرة بينة، أو هلاك بين.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة هي الإصابة في القول والفعل من غير نبوة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعطي الفهم واللب، وقيل: الفهم والفقه في الدِّين، وقيل: العلم؛ كأنه يقول: أعطيناه العلم والفهم بالكتب المتقدمة.
والفقه: هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، أو معرفة ما غاب بما شهد، أو معرفة الخفي الباطن. بالظاهر، ونحوه.
والفلاسفة يقولون: الحكمة هي المعرفة مع العمل، والحكيم: هو الذي له المعرفة
والعلم والعمل جميعًا؛ فحينئذ يسمى: حكيمًا.
وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ).
كأنه قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يحتمل الوجوه التي ذكرنا - وقلنا له: أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة، وغير ذلك من النعمة، وهذا يدل أن لله فيما يكتسب المؤمن الحكمة والعلم صنعًا؛ إذ لو لم يكن له ألما كان، لقوله: (آتَيْنَا) معنى؛ إذ هو للعبد وكسبه ألا ترى أنه أمره أن يشكر له على ذلك، ولو لم يكن له صنع في ذلك لكان لا يأمره بالشكر له على ما لا صنع له فيه؛ إذ يخرج ذلك مخرج طلب الحمد والشكر على ما لم يفعل، وقد ذم من أحب أن يحمد بما لم يفعل؛ فلا يحتمل أن يأمر هو بالحمد والشكر على ما لم يفعل ولا صنع له في ذلك؛ دل أن له فيه صنعًا، وهو ينقض على المعتزلة في قولهم: أن ليس لله في فعل العبد صنع، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).
هذا يدل أن ما يأمر عباده وينهاهم، وفيما امتحنهم إنما يمتحنهم ويأمرهم وينهاهم؛ لمنافع أنفسهم وحاجتهم، لا لمنفعة نفسه أو لحاجته؛ حيث قال: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)؛ حيث يتم تلك النعمة ويديمها له؛ فهو بالشكر ينفع نفسه. ومن كفر فإنما ضرر كفره يلحقه دون اللَّه؛ ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
أي: غني عن شكره وحمده، حميد وإن لم يحمده أحد من خلقه؛ لأنه غني بذاته، حميد بصنائعه وآلائه وإن لم يحمد هو ولم يشكر على ذلك، لا ينفعه شكر أحد ولا حمده، ولا يضره كفران أحد ولا ترك الشكر له والحمد، وباللَّه الحول والقوة.
وقوله: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) يحتمل قوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وجوهًا: أحدها: ظلموا أنفسهم؛ حيث وضعوها في غير موضعها، وأوقعوها في المهالك، بعدما صورها أحسن تصوير ومثلها أحسن تمثيل، وأعظم الظلم من عمل وسعى في هلاك أو (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ): ظلموا نعم اللَّه؛ حيث صرفوا شكرها إلى غير منعمها.
أو ظلموا ظلمًا عظيمًا؛ حيث لم يقبلوا شهادة وحدانية اللَّه وألوهيته فيما جعلها في خلقتهم وبنيتهم؛ إذ جعل في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانيته وربوبيته، وذلك أعظم الظلم وأفحشه.
وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) ولم يذكر هاهنا بماذا وصاه، فجائز الوصية بما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، و (إِحْسَانًا)، والإحسان: هو اسم ما حسن من فعل. وقوله: (حُسْنًا): هو اسم ما حسن مما كان يفعله، وهما واحد في الأصل.
وقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ).
أي: ضعفا على ضعف، أي: كلما مضى عليها وقت ازداد فيها ضعف على ضعف ووجع على وجع، أمر بالإحسان إليهما جميعًا، ثم ذكر ما حملت الأم من المشقة والشدة، ولم يذكر من الأب شيئًا، وقد كان للأب وقت احتمال الأم المشقة - اللذة والسرور والفرح؛ فجائز أن يقال: إن كان من الأب بإزاء تلك المشقة التي احتملت الأم معنى ما يؤمر أن يشكو له ويحسن إليه - وهو ما يتحمل من الإنفاق عليها وعليه في حال الرضاع، وهو ما ذكر (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أو ما جعله مطعونًا في الناس بحيث لم يعرف له نسب ينسب إليه؛ بل جعله معروف النسب غير مطعون في الخلق ونحوه.
ثم ذكر الفصال ولم يذكر الرضاع والمشقة في الإرضاع لا في الفصال، لكنه ذكر تمام الرضاع وكماله؛ إذ بالفصال يتم ذلك ويكمل، وفي ذكر التمام له والكمال ذكر الرضاع، وليس في ذكر الرضاع نفسه ذكر تمامه؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
أمر بالشكر له ولوالديه، وحاصل الشكر راجع إليه دون من يشكر له؛ إذ كل من صنع إلى آخر ما يستوجب به الشكر والثناء - فباللَّه صنع ذلك إليه وبنعمه كان منه ذلك؛ فكل من حمد دونه أو شكر - فراجع إليه في الحقيقة ذلك.
ثم يخرج قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) على وجهين:
أحدهما: اشكر لي فيما تشكر والديك بإحسانهما إليك؛ فإنهما ما أحسنا إليك إلا بفضلي ورحمتي؛ كقوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أي: اذكروا اللَّه فيما تذكرون آباءكم بصنعهم؛ فإنهم إنما فعلوا ذلك بفضل اللَّه.
أو أن يكون قوله: (اشْكُرْ لِي) فيما أنعصت عليك، (وَلِوَالِدَيْكَ): فيما أحسنا إليك وربياك، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِلَيَّ الْمَصِيرُ): قد ذكرنا أنه خص ذلك المصير إليه، وإن كانوا في جميع الأوقات صائرين إليه راجعين بارزين له؛ لما المقصود من إنشائهم في هذا ذاك، وصار
إنشاؤهم وخلقهم في الدنيا حكمة بذاك، ما لولا ذلك لكان عبثًا باطلا، على ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
أمر في الآية الأولى بالإحسان إليهما وبالبر لهما والطاعة، ثم بين أن لا في كل أمر يطاعان، ولا في جميع ما يأمران ويسألان يجابان؛ إنما يطاعان ويجابان فيما يؤذن لهما ويباح لهما، لا فيما لا يؤذن ولا يباح بحال؛ بل يؤمر بالخلاف لهما واعتقاد المعاداة، فضلا أن يطاعا ويجابا إلى ما يدعوان أو يأمران، وكذلك ذكر في الخبر: " أن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ". وإنما أمر بحسن المصاحبة لهما والمعروف: فيما لم يكن في ذلك معصية الخالق؛ حيث قال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: اتبع دين من أقبل إلى ورجج إلى طاعتي وهو النبي.
أو أن يكون قوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)، أي: اتبع سبيلي وديني؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)، فعلى ذلك الأول جائز أن يكون تأويله: اتبع سبيلي وديني، ولا تتبع غيري، واتبع سبيل من أناب ورجع إلي، ولا تتبع سبيل من لم ينب ولم يرجع إلي.
ثم أخبر برجوع الكل إليه: من رجع وأناب إليه، ومن لم يرجع ولم ينب إليه؛ على الوعيد حيث قال: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ...) الآية، وهو كقوله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ...)، إلى قوله: (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)، أي: من استنكف ومن لم يستنكف يحشر إليه جميعًا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
لا يحتمل أن يكون هذا الكلام والقول من لقمان كان لابنه ابتداء من غير سؤال كان في ذلك؛ فيعلم أنه كان ذلك منه عن سؤال، لكن لا نعلم ما كان السؤال؟ وعم كان؟ فإما أن كان السؤال عن علمه، فأخبره بما ذكر من حبة مستترة التي ذكر، مكنونة في أخفى الأمكنة عن الخلق، فيما لا يطلع أحد منهم ولا يبلغه علم الخلائق (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)، أي: يعلمها اللَّه؛ فإن كان على هذا الذي، ذكر فيلزمهم أن يكونوا أبدًا مراقبين أعمالهم وأحوالهم في جميع حالاتهم وأوقاتهم وجميع أمورهم؛ لما لا يخفى عليه شيء.
أو أن يكون السؤال عن قدرة اللَّه وسلطانه؛ فأخبر أن اللَّه - تعالى - قادر على
304
استخراج تلك الحبة التي استترت واحتجبت عن الخلق بالحجب التي ذكر: ما يعجز الخلائق عن استخراج مثلها من مثل تلك الحجب والأمكنة؛ فيخافون قدرة اللَّه، ويهابون سلطانه في الانتقام منهم في مخالفة أمره ونهيه.
أو أن يكون السؤال عن الرزق؛ فيخبر بهذا أن الشيء وإن كان في مكان لا يبلغه وسع البشر وحيلهم في استخراج ذلك منه والوصول إليه بحال - فاللَّه سبحانه؛ بلطفه يرزق الخلق بأشياء خارجة عن وسعهم وحيلهم ما لا يقع لهم الطمع في ذلك؛ ليكونوا أبدًا في كل حال مطمئنين في الرزق لا يؤيسهم عجزهم ولا تعذر حيلهم عن ذلك، وألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي بها يكتسبون؛ وكذلك قال: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
أو أن يكون السؤال عن جزاء ما يعمل المرء من قليل أو كثير ومما عظم ولطف، فيخبر أنه يجزي بقليل العمل وكثيره، وكذلك يقول بعض أهل التأويل ذلك: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ): من خير أو شر، (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ): في جبل، (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)، أي: يجازيها اللَّه؛ فيكون على هذا التأويل كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، فأي شيء كان، ففي ذلك: دلالة وحدانية اللَّه، ودلالة علمه وتدبيره، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة الثقة به، والتوكل عليه في الرزف، والتفويض في الأمر في كل ما خرج عن وسع الخلق، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
قال عامة أهل التأويل: إن اللَّه لطيف في استخراج تلك الحبة، خبير بمكانها، وتأويل هذا الكلام: أي: يستخرج تلك الحبة من الحجب التي ذكر والأستار التي بين استخراجا لا يشعر بها أحد، ولا علم كيفية الاستخراج منها ولا ماهيته.
واللطيف: هو البار.
ثم يخرج هو على وجهين:
أحدهما: فيما أرسل من الرسول، وما أنزل من الكتب؛ ليدلهم إلى ما يهتدون وإِلَى ما به نجاتهم، خبير بحوائجهم.
والثاني: تأويل اللطيف يحتمل وجهين:
أحدهما: البار على ما ذكرنا.
305
الآية ١٦ وقوله تعالى :﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ﴾.
لا يحتمل أن يكون هذا الكلام والقول من لقمان، كان لابنه ابتداء من غير سؤال. لكن لا يعلم ما كان السؤال وعما كان ؟
فأما إن كان السؤال عن علمه، فأخبره( ١ ) بما ذكر من حبة مستترة( ٢ ) مكنونة في أخفى الأمكنة عن الخلق في ما لا يطلع أحد منهم، ولا يبلغه علم الخلائق ﴿ يأت بها الله ﴾ أي يعلمها الله.
فإن كان على هذا ذكر فيلزمهم أن يكونوا أبدا مراقبين أعمالهم وأحوالهم في جميع حالاتهم وأوقاتهم وجميع أمورهم لما لا يخفى عليه شيء.
[ وأما إن كان ]( ٣ ) السؤال عن قدرة الله وسلطانه فأخبر أن الله تعالى قادر على استخراج تلك الحبة التي استترت، واحتجبت عن الخلق بالحجب التي ذكر ما تعجز الخلائق عن استخراج مثلها من مثل تلك الحجب والأمكنة، فيخافون قدرة الله، ويهابون سلطانه في الانتقام منهم في مخالفة أمره ونهيه.
[ وأما إن كان ]( ٤ ) السؤال عن الرزق، فيخبر بهذا : أن الشيء، وإن كان في مكان لا يبلغه وسع البشر وحيلتهم في استخراج ذلك منه والوصول إليه بحال، فالله سبحانه بلطفه يرزق الخلق /٤١٧-أ/ بأشياء خارجة عن وسعهم وحيلهم ما لا يقع لهم الطمع في ذلك ليكونوا أبدا في حال مطمئنين في الرزق، لا يؤلمهم( ٥ ) عجزهم ولا تعذر حيلهم عن ذلك، ولا يعلقون( ٦ ) قلوبهم في الرزق بالأسباب التي بها يكتسبون. ولذلك قال :﴿ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ [ الطلاق : ٣ ].
[ وأما إن كان ]( ٧ ) السؤال عن جزاء ما يعمل المرء من قليل أو كثير ومما عظم، ولطف، فيخبر أنه يجزي بقليل العمل أو كثيره. وكذلك يقول بعض أهل التأويل ذلك :﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ﴾ من خير أو شر ﴿ فتكن في صخرة ﴾ في جبل ﴿ أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ﴾ [ أي يجاز بها ]( ٨ ) الله، فيكون على هذا التأويل كقوله :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧ ].
فأي شيء كان ففي ذلك دلالة وحدانية الله ودلالة علمه وتدبيره ودلالة قدرته وسلطانه ودلالة الثقة به والتوكل عليه في الرزق والتفويض في الأمر في كل ما خرج عن وسع الخلق، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إن الله لطيف خبير ﴾ قال عامة أهل التأويل ﴿ إن الله لطيف ﴾ في استخراج تلك الحبة ﴿ خبير ﴾ بمكانها. وتأويل هذا الكلام أي يستخرج تلك الحبة من الحجب التي ذكر والأستار التي بين استخراجا، لا يشعر بها أحد، ولا يعلم( ٩ ) كيفية الاستخراج منها ولا ماهيته. واللطيف هو بار. ثم يخرج هو على وجهين :
أحدهما : البار( ١٠ ) في ما أرسل من الرسل( ١١ ) وما أنزل من الكتب ليدلهم إلى ما يهتدون إلى ما به نجاتهم، والخبير( ١٢ ) بحوائجهم.
والثاني : في استخراج أمور، لا يبلغها وسع الخلق ولا علمهم وحيلهم، والله أعلم.
١ في الأصل وم: فأخبروه..
٢ أدرج بعدها في الأصل وم: التي ذكر..
٣ في الأصل وم: أو أن يكون..
٤ في الأصل وم: أو أن يكون..
٥ في الأصل وم: يوليهم..
٦ في الأصل وم: وألا يعقلوا..
٧ في الأصل وم: أو أن يكون.
٨ من نسخة الحرم المكي، في الأصل: أو يجازيها، في م: أي يجازيها..
٩ في الأصل وم: علم..
١٠ في الأصل: بار، ساقطة من م..
١١ في الأصل وم: الرسول..
١٢ في الأصل وم: خبير..
والثاني: في استخراج أمور لا يبلغها وسع الخلق ولا علمهم وحيلهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
يحتمل الأمر بإقامة الصلاة وجهين:
أحدهما: الصلاة التي عرفتها العرب، وهي المسألة والدعاء والثناء على اللَّه والتحميد له والتمجيد؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...) الآية.
وهذه الصلاة المذكورة في هذه الآية هي الدعاء والاستغفار والرحمة له والمغفرة؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأمر بإقامة الصلاة هو الأمر بمسألة الرب حوائجه ومغفرته ورحمته؛ ليكون أبدًا في كل حال متضرعًا إلى اللَّه، مظهرًا حاجته إليه ومثنيا عليه، واصفًا عظمته وجلاله وبريائه.
والثاني: أراد به الصلاة المعروفة المعهودة على شرائطها التي جعلت وشرعت؛ فإن كان هذا ففيها -أيضًا- ما في الأول من الدعاء والثناء على اللَّه - تعالى - والوصف له بالعظمة والجلال؛ لأنها جعلت من أولها إلى آخرها ذلك.
وإن كان أراد بالصلاة: الصلاة المعروفة ففيه أن الصلاة التي شرعت لنا كانت للأمم المتقدمة، وعلى ذلك يخرج قول إبراهيم حيث قال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ)، وقول عيسى حيث قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
المعروف: اسم كل بر وخير وكل مستحسن في العقل والطبع.
والمنكر: اسم كل شر وسوء مستقبح في العقل والطبع.
ثم يخرج قوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على وجوه:
أحدها: المعروف الذي جاءت به الرسل عن اللَّه، وشرعوه للخلق، ودعوا إليه الخلق.
والمنكر -أيضًا-: هو الذي أنكرته الرسل، ونهت الخلق عنه.
أو أن يكون المعروف هو الذي يقبله كل عقل صحيح، ويستحسنه كل طبع سليم.
والمنكر: هو الذي ينكره كل عقل صحيح ولا يقبله، ويستقبحه كل طبع سليم، يعرف بالبداهة قبحه وحسنه.
أو يعرف أنه معروف أو منكر عند التأمل والتفكر؛ فكله يرجع إلى واحد: إلى ما ذكرنا بدءًا، لكنه يختلف فيما ذكرنا من السبب.
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ).
من الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهل السفه منهم والفسق؛ فلا بد من أن يصيب الأذى من تولى ذلك، وهذا يدل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللوازم: لا يسع تركه، وإن أصابه الأذى في ذلك.
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك من حزم الأمور، والحزم: من إحكام الشيء وإتقانه؛ كأنه يقول: إن ذلك من محكم الأمور ومتقنها؛ لأن الشيء إذا حزم وشدد يؤمن عن سقوطه وذهابه؛ فعلى ذلك ما ذكر.
وقال: العزم: هو القطع والثبات على شيء، تقول: عزمت على كذا وعلى أمر كذا: إذا قطع تدبيره ورأيه واضطرابه، وجعله بحيث لا يرجع ولا يتحول عنه للدنيا، أو لأمر من أمورها؛ ولكن ثبت على ما عزم وقطع " فهو العزم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨)
قوله: [(ولا تصاعر] و (وَلَا تُصَعِّرْ)، بالألف وبغير الألف، كلاهما لغتان. ثم أهل التأويل أو أكثرهم يقولون: قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)، أي: لا تعرض وجهك عن الناس؛ تعظمًا وتجبرًا وتكبرًا، وكذلك في قوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا): بطرا فرحا بالمعصية في الخيلاء والعظمة، مستكبرًا جبارًا، عامتهم يفسرونه بالإعراض للتكبر والتجبر، وكذلك يقول الحسن: إنه قال: هو الإعراض عن الناس من الكبر؛ استحقارا لهم واستخفافا بهم. والزجاج يقول: الصعر: هو داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه؛ فعلى تأويله يكون قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ)، أي: لا تلو عنقك عن الناس.
وأَبُو عَوْسَجَةَ يقول قريبًا من ذلك؛ يقول: (وَلَا تُصَعِّرْ)، أي: لا تتجبر، وهو أن تلوي عنقك؛ فلا تنظر إليهم كبرًا.
ويقول: الصعر: هو اعوجاج في العنق؛ يقال: رجل أصعر، وبعير أصعر، وبه صعر، ويقال في الكلام: فلان صعر خده؛ إذا لوى رأسه عن الناس؛ فلم ينظر إليهم؛ كبرا منه.
وقال - كما قال الزجاج -: إن الصعر داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه، وأصله: الإعراض؛ على ما ذكره أهل التأويل وأهل الأدب.
ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: ما ذكر أهل التأويل من حقيقة الإعراض؛ تكبرًا وتعظيمًا لأنفسهم، واستخفافا بالناس واستحقارا لهم؛ لما لم يروا الناس أمثالا لأنفسهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَلَا تمَشِ فِي الْأَرْضِ) على حقيقة المشي على التكبر والتجبر، على ما ذكرنا.
والثاني: ليس على حقيقة الإعراض بالوجه عنهم، ولا على حقيقة المشي بالأقدام؛ ولكنه كناية عن الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترك لذلك، لا على التكبر والتجبر عليهم والاستخفاف بهم، ولكن على الحذر والخوف منهم.
فإن كان الامتناع والإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فلم يعذروا في ترك ذلك؛ لما يحذرون ويخافون منهم.
وكذلك يخرج قوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (١٩) على الوجهين اللذين ذكرناهما:
أحدهما: على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت: حقيقة المشي وحقيقة الصوت.
والثاني: على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها فيما بين الناس.
فإن كان على حقيقة المشي والصوت، فكأنه يقول: أي اقصد في المشي في الناس، ولا تمش متكبرا مستخفا بهم؛ لتؤذيهم، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)، أي: لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت، ولكن لينهم بالقول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: امش هينًا لينا، ناكس الرأس، ناظرًا حيث تمشي، غير ناظر إلى ما لا يحل ولا يسع، ولا رافع صوتك على الناس فتؤذيهم؛ فيكون صوتك عندهم كصوت الحمير الذي ذكر؛ فينكرونه كما ينكر صوت الحمير.
وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة فيما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله؛ ولكن كونوا في ذلك عادلين قاصدين غير طالبين العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله.
وقوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
يحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا، أي: لا ترفع صوتك على الناس فتؤذيهم كما يؤذي الحمار؛ فيكون صوتك عليهم كصوت الحمار.
أو يذكر هذا؛ لأن الحمار إنما يصيح لحاجة لنفسه وشهوته، وسائر الأشياء إذا صاحوا
إنما يصيحون لحاجة أهلها؛ فيذكر أنكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم؛ ولكن قوموا لله في ذلك أو لما ذكرنا.
أو خصَّ صوت الحمير؛ لأنه ليس من صوت إلا وفيه لذة ومعونة، غير صوت الحمير؛ فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة.
أو ذكر؛ لما قيل: إن أوله زفير وآخره شهيق؛ فيشبه زفير أهل النار وشهيقهم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
قال: المختال: المتكبر البطر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المختال: الخداع الغدار، والفخور: يحتمل الذي يفتخر بكثرة المال؛ أو لما لا يرى أحدًا شكلا لنفسه.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
وقوله: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
قوله: (أَلَمْ تَرَوْا): قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: على الخبر: أن قد رأوا وعلموا أنه سخر لهم ما ذكر.
والثاني: على الأمر، أي: انظروا وروا: أنه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض؛ لينتفعوا بجميع ما يحتاجون إليه، ويصلوا إلى مرادهم وحاجتهم وإلى قضاء وطرهم كيف شاءوا بما شاءوا.
أو أن يذكر قدرته وسلطانه: أن من ملك تسخير ما ذكر لنا ومكنا وأقدرنا على تدبير استعمال ما سخر لنا والانتفاع به - لقادر على البعث والإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء.
أو أن يذكر حكمته وعلمه: أن مثل هذا التسخير لا يكون إلا بحكمته، ولو لم يكن هنالك بعث وعاقبة، لكان خلق الخلق وتسخير ما ذكر لعبا باطلا، على ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ): المسخر ما في السماوات يحتمل: المطر والسحاب
والشَّمس والقمر، ونحوه مما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع الأرض إلا بمنافع السماء.
أو الملائكة؛ لأنهم قد امتحنوا ببعض ما يقع بمنافع البشر، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).
ذكر عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؛ قال: " أما ما ظهر - يا ابن عَبَّاسٍ - فالإسلام، وما سوى من خلقك، وما أسبغ عليكم من الرزق، وأما ما بطن: ستر مساوي عملك فلم يفضحك بها. "، فإن ثبت الخبر فلا تقع الحاجة إلى غيره؛ فهو تأويل الآية، وإلى هذا ذهب عامة أهل التأويل.
وجائز أن يكون النعمة الظاهرة هو ما ظهر من الحسن والطهارة.
وأما النعمة الباطنة: ما ستر من الأنجاس والعيوب والأقذار ما لو ظهر ذلك لم يدن مكه أحد، لخبثه ونجاسته.
وبعضهم يقولون: الظاهرة باللسان، والباطنة بالقلب.
وقال مجاهد: الظاهرة: الإسلام والرزق، والباطنة: ما ستر من الذنوب والعيوب، وهو قريب مما ذكر في الخبر المرفوع واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
المجادلة في اللَّه: يحتمل في توحيد اللَّه، أو في الرسالة أنه أرسل أو لم يرسل؛ أو في البعث: أيبعث أو لا يبعث؛ ونحوه، أو يجادل في كتابه.
وقوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ).
أسباب العلم ثلاثة: العقل، والسنة، والكتاب:
يتفكر وينظر بالعقل؛ فيعرف، وبيان السنة والكتاب يبيق؛ فلم يكن مع الذين يجادلون رسول اللَّه في الشيء من ذلك وخاصة أهل مكة: كانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب؛ فكأنه يقول: ومن الناس من يجادل في اللَّه وهم يعلمون أنه ليس معه معقول ولا بيان من السنة والكتاب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١)
310
وقال في اية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)
، وقال في آية أخرى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)؛ كأنه يقول لرسول اللَّه: أن قل لهم: تتبعون آباءكم وتقلدونهم، وإن ظهر لكم وتبين أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، وأنهم من أصحاب السعير، وتتبعون آثارهم مقتدين بهم وإن ظهر لكم وتبين أن الذي أدعوكم أنا إليه وجئتكم أهدى مما عليه آباؤكم؛ إذ تتبعون آباءكم وإن ظهر وتبين أن آباءكم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟!
حتى إن قالوا: نعم، نتبعهم وإن كانوا كما ذكرت - فإنه يظهر ويبين عنادهم ومكابرتهم عند اتباعهم؛ حيث ظهر الحق لهم فلم يتبعوا، بل اتبعوا أهواءهم ويظهر كذبهم في قولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، أو في قولهم: إن آباءهم على ما هم عليه؛ بل في آبائهم من هو على خلاف ما هم عليه ونحوه.
وإن قالوا: لا نتبعهم إذا كانوا على ما ذكرت؛ فعند ذلك يقترن ويثبت عندهم بالحجج والبرهان.
وفيه دلالة: أن أهل الفترة يعذبون ويؤاخذون بتركهم الدِّين والشرائع؛ لأن هَؤُلَاءِ الذين أخبر أنهم من أصحاب السعير هم أهل الفترة ما بين عيسى وبين مُحَمَّد.
وأهل التأويل يقولون: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير.
ومُحَمَّد بن إسحاق يقول: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)، أي: لا تعرض بوجهك عن فقراء الناس، أي: إذا كلموك و (مَرَحًا)، أي: فخرا بالخيلاء والعظمة، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، أي: بطر ومرح، فخور في نعم اللَّه لا يأخذ بالشكر، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ): رويدًا، لا تختل في مشيك ولا تنظر حيث لا يحل، (وَاغْضُضْ)، أي: اخفض (مِنْ صَوْتِكَ)، أي: من كلامك، يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والمنطق، ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لشدة صوتهم.
وقوله: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ): يعني: الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح، (وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أي: الجبال والأنهار والبحار فيها السفن والأشجار والنبت عاما بعام، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً): تسوية الخلق والرزق والإسلام، (وَبَاطِنَةً)، أي: ما ستر من الذنوب من ابن آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب فيها، فهذا كله من النعم؛ فالحمد لله على ذلك حمدًا كئيزا كما أصله.
وقال في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ): في زعمه أن لله البنات، أي: الملائكة، (وَلَا هُدًى)، أي: لا بيان معه من اللَّه بما يقول، (وَلَا كِتَابٍ): له فيه
311
وأصله ما ذكرنا: (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) من الوجوه التي ذكرنا: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من جهة العقل، (وَلَا هُدًى) أي: ولا بيان من جهة السنة، (وَلَا كِتَابٍ) من اللَّه فيه حجة له، وأسباب العلم هذه، فلم يكن له شيء مما ذكر، وباللَّه العصمة.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المرح: النشاط، وهذا لا يكون إلا من الكبر؛ لأنه يتبختر، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)، أي: امش مشيًا رفيقًا، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي: ارفق لا تصوت صوتًا شديدًا، وهذا -أيضًا- من التبختر، (وَأَسْبغَ)، أي: أوسع، والسابغ: الواسع التام الطويل العريض.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأصعر: مُعْرِض الوجه، وأنكر الأصوات: أقبحها، عرفه قبح رفع الصوت في المخاطبة.
وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)
يحتمل قوله: (وَجْهَهُ)، أي: نفسه؛ كأنه قال: ومن يسلم نفسه لله، وجعلها سالمة له لم يجعل لأحد فيها شركا.
(وَهُوَ مُحْسِنٌ).
في عمله إلى نفسه، أي: لا يستعملها إلا في طاعة اللَّه، وفيما أمر به، فإذا فعل ذلك، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، أي: فقد استمسك باوثق العرا وأثبتها؛ على ما ذكر في آية أخرى: (لَا انْفِصَامَ لَهَا)، أي: فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع ولا زوال؛ لأنها ثبتت بالحجج والبراهين، لا بالهوى؛ فكل شيء ثبت بالحجة والبرهان - فهو ثابت - أبدا لا زوال له ولا انقطاع، وكل شيء ثبت بالهوى؛ فهو يزول وينقطع عن قريب؛ لزوال الهوى.
وجائز أن يكون قوله: (وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: يسلم وجه أمره لله؛ فالوجه عبارة وكناية عن أمره، أي: يسلم أمره إلى اللَّه ويفوضه إليه.
أو يكون كناية عن نفسه؛ فتأويله ما ذكر بدءًا. وأهل التأويل يقولون: (يُسْلِمْ وَجْهَهُ)، أي: دينه لله، أي: يخلص دينه لله، كقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي: لكل أهل دين ومذهب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما ذكرنا: وهو محسن إلى نفسه في عمله: لا يستعملها إلا فيما أمر بالاستعمال فيه، وهو طاعة اللَّه لا يوقعها في المهالك.
أو هو محسن إلى الناس بالمعروف والبر.
أو محسن، أي: عالم؛ كما يقال: أحسن، أي: علم.
وبعض أهل التأويل يقول: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: أخلص عمله لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ)، أي: مؤمن؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ ومقاتل، يقول: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: يخلص دينه لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): في عمله، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ).
وقوله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى): هو ما ذكرنا: أنه استصسك بأوثق العرا وأثبتها؛ لأنه إنما ثبت بالحجة والبرهان لا بالهوى والتمني، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
هذا يخرج على وجوه:
أحدها: وإلى اللَّه تدبير عاقبة الأمور وتقديرها، لا إلى الخلق.
والثاني: إلى من له التدبير والتقدير يرجع عاقبة الأمور.
أو أن يخص رجوع عاقبة الأمور والمصير والرجوع إليه والبروز له والخروج، وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك؛ لما ذكرنا - أن المقصود من خلق هذا العالم - العالم الثاني، والمقصود من خلق الدنيا: الآخرة؛ إذ به يصير حكمة وحقا؛ فخص ذلك له وأضافه إليه لذلك.
أو لذكر ذلك؛ لما لا ينازع في ذلك اليوم وقد نوزع في هذه؛ ولذلك قال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ... (٢٣) حزنا تتلف وتهلك فيه، كقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)؛ فيخرج قوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) على التخفيف عليه والتسلي، ليس على النهي، وكذلك قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، على التخفيف عليه والتيسير، ليس على ترك الإشفاق والحزن عليهم؛ لأن رسول اللَّه كادت نفسه تهلك؛ إشفاقًا عليهم وحزنًا على كفرهم؛ فيخرج ذلك على التخفيف عليه والتسلي.
والثاني: قوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ): لا يحزنك تكذيبه إياك؛ فذكر كفره؛ لأنه
بتكذيبه ما يصير كافرا وهو سبب كفره؛ كقوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...) والآية: كان رسول اللَّه يحزن ويهتم بتكذيبهم إياه فيما يقول ويخبر عن اللَّه، فيقول: لا يحزنك تكذيبهم إياك؛ فإنهم إلينا يرجعون فنجزيهم ونكافئهم جزاء التكذيب.
والثالث: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ)، أي: فإن ضرر ذلك الكفر عليهم لا عليك؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ...) الآية، ونحوه من الآيات، يخبر رسوله ألا يحزن على كفر من كفر؛ فإن ضرر ذلك يلحقه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا).
هذا وعيد، أي: إلينا مرجعهم فننبئهم عما غفلوا عنه واختاروه في الدنيا، فيحفظونه ويتذكرون ما عملوا.
أو أن يكون قوله: (فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا)، أي: نجزيهم ونكافئهم جزاء أعمالهم ومكافأتهم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
أي: عالم بما كان منهم وما جزاؤهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا... (٢٤)
أي: في الدنيا؛ لأن متاع الدنيا قليل، على ما وصفه: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)، أي: يتمتعون ويعمرون بذلك القليل.
(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ).
يذكر هذا مقابل ما ذكر لأهل الجنة؛ حيث قال: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، فيخبر أن أهل النار يضطرون ويدفعون إلى النار، لا أنهم يدخلونها اختيارا؛ كقوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا).
وقوله: (غَلِيظٍ) جائز أن يكون كناية عن امتداده وطوله.
وجائز أن يكون كناية عن شدته وألمه أو جراحته؛ كقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ...) الآية.
وقيل: يغلظ عليهم العذاب لونًا بعد لون، واللَّه أعلم.
قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
أخبر رسوله أنك لو سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون ذلك ويجيبونك: الله خلقهم. ثم يخرج قوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أثر إقرارهم له بالتوحيد له والتفرد بالخلق على وجهين:
أحدهما: أمر رسوله بالحمد له؛ لما لا يحتاج إلى إقامة الحجة على وحدانية الله وربوبيته سوى إقرارهم؛ إذ قد أقروا له بالوحدانية فيما ذكر؛ فعلى ذلك يلزمهم ذلك في كل شيء، دق أو جلَّ؛ فيقع الأمر بالحمد على ذلك.
أو يأمر رسوله بالحمد له؛ لما أنجاه وخلصه وسلمه عما ابتلوا هم وفتنوا من التكذيب وعبادة الأصنام بعد إقرارهم بالوحدانية له والألوهية؛ فحمده على إفضاله عليه ورحمته وعصمته له بين أُولَئِكَ الكفرة.
على هذين الوجهين يخرج تأويل أمر الحمد على أثر ما ذكر، واللَّه أعلم. ويكون قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) مقطوعًا مفصولا من قوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)؛ إذ لو لم يجعل مفصولا منه، لخرج الأمر بالحمد له في الظاهر على ما لا يعلم أُولَئِكَ، وذلك لا يصلح.
ثم قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) على وجوه:
أحدها: ما ذكرنا: أنه نفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا به من نحو البصر والسمع واللسان ونحوه؛ فعلى ذلك العلم.
والثاني: لا يعلمون؛ لما تركوا النظو والتفكر في أسباب العلم.
أو أن يكون قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): أن عبادتهم الأصنام لا تقربهم إلى اللَّه زلفى ولا تشفع لهم؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تزلفهم إلى اللَّه، ورجاء أن يكونوا لهم شفعاء عند اللَّه بقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، و (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
أو أن يكونوا لم يعلموا بجزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا - في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
كأنه يخبرهم ويذكرهم: أن ما يأمرهم به وينهاهم عنه، وما يمتحنهم من جميع أنواع المحن لا لحاجة نفسه أو لدفع المضرة عن نفسه؛ ولكن لحاجة أنفس الممتحنين ولمنفعتهم ولدفع المضرة عنهم؛ إذ من بلغ ملكه وغناه وسلطانه المبلغ الذي ذكر حتى كان له جميع ما في السماوات والأرض - لا يحتمل أن يأمر الخلق وينهى أو يمتحن لحاجة نفسه؛ ولكن لحاجة الخلق في جر المنفعة ولدفع المضرة.
أو يذكرهم نعمه عليهم؛ ليتأدى به شكره، حيث سخر لهم ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما، وحقيقة ملك ذلك كله له.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ): الغني بذاته لا يعجزه شيء، أو غني عمن استغنى عنه، (الْحَمِيدُ)، قيل: أهل أن يحمد ويشكر بذاته.
وقيل: حميد في فعاله وصنائعه، ويكون الحميد بمعنى: الحامد، ويكون بمعنى: المحمود، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
لا يحتمل أن يكون ذكر هذا الكلام ابتداء من غير أمر أو سؤال أو خطاب سبق من القوم حتى ذكر هذا، لكنا ما نعلم ما سبب ذلك؛ وما قصته؛ وما أمره؛ حتى أنزل هذا، لكن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن اليهود - أعداء اللَّه - سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الروح وما هو؛ فنزل: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي: من علم ربي، لا علم لي به، وتلا قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي: يسيرًا في علم اللَّه، فلما قرأ عليهم هذه الآية قالوا: كيف تزعم هذا وأنت تزعم أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؛ فكيف يجتمع هذا: علم قليل وخير كثير؟! قال: فنزل (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ)، يقول: تبرى الشجرة أقلامًا، والبحر يمده سبعة أبحر؛ فتكون كلها مدادًا يكتب بها علم اللَّه لانكسرت الأقلام، ولنفذ المداد ولم ينفذ علم اللَّه، فما أعطاكم من العلم قليل فيما عنده من العلم كثير فيما عندكم، إلى هذا يذهب أكثرهم.
الآية ٢٧ وقوله تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾ لا يحتمل أن يكون ذكر هذا الكلام ابتداء من غير أمر أو سؤال أو خطاب سبق من القوم حتى ذكر هذا.
لكنا ما نعلم سبب ذلك، وما قصته، وما أمره، حتى أنزل هذا.
لكن ابن عباس رضي الله عنه، يقول : إن اليهود أعداء الله، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، وما هو ؟ فنزل :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ لا علم لي به، وتلا قوله :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٨٦ ] أي [ يسيرا من ]( ١ ) علم الله. فلما قرأ عليهم هذه الآية قالوا : كيف تزعم هذا، وأنت تزعم أن من ﴿ يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] فكيف يجتمع هذا : علم قليل وخير كثير ؟
قال : فنزل :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ﴾ يقول : تبرى الشجرة أقلاما :﴿ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ﴾ فتكون كلها مدادا، يكتب بها علم الله، لانكسرت الأقلام، ولنفذ المداد، ولم ينفذ علم الله ؛ فما( ٢ ) أعطاكم من العلم قليل، وما( ٣ ) عنده من العلم كثير.
إلى هذا يذهب أكثرهم، ولكن غير هذا كأنه أشبه بسبب نزوله وذكره، وهو يخرج على وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا في قوله :﴿ لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ لقمان : ٢٦ ] أنه بلغ ملكه وسلطانه ما لو صار ما ذكر من الأشجار كلها وأقلاما والبحار كلها مدادا، فكتب بها أسماء خلقه وملكه وسلطانه لنفذ ذلك كله، ولم ينفذ خلقه، ولم يبلغوا غاية ذلك.
[ والثاني ]( ٤ ) : ذكر هذا [ في وصف ]( ٥ ) القرآن لقول، كان من الكفرة في قلته في نفسه وصغر ما كتب فيه، أن يقولوا : كيف يسع في هذا المقدار علم الكتب السالفة المتقدمة، وهي أوقار، وهي جزء ؟ فيخبر، والله أعلم :
أنه جمع في هذا من المعاني والعلم والحكمة ما لو فسره، وبين ما أودع فيه، وضمنه كما لو جعل ما في الأرض من الشجر أقلاما والبحار مدادا، فكتب فيه ما أودع فيه، وضمنه، لتعذر ذلك كله، ولم ينفد ما جمع فيه، وضمنه. هذا، والله أعلم، يشبه أن يكون تأويله وسبب نزوله، والله أعلم، بذلك ﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾.
١ في الأصل: يسيروا في، في م: يسير في..
٢ في الأصل وم: في ما..
٣ في الأصل وم: في ما..
٤ في الأصل وم: أو..
٥ من نسخة الحرم المكي، في الأصل: لهذا..
ولكن غير هذا كأنه أشبه بسبب نزوله وذكره، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا في قوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أنه بلغ ملكه وسلطانه ما لو صار ما ذكر من الأشجار كلها أقلاما والبحار كلها مدادا، فكتب بها أسماء خلقه وملكه وسلطانه [لنفد] ذلك كله، [ولم ينفد] خلقه ولم يبلغوا غاية ذلك.
أو ذكر هذا لهذا القرآن؛ لقول كان من الكفرة في قلته في نفسه وصغر ما كتب هو فيه أن يقولوا: كيف يسع في هذا المقدار علم الكتب السالفة المتقدمة، وهي أوقار وهو جزء؟! فيخبر - واللَّه أعلم -: أنه جمع في هذا من المعاني والعلم والحكمة ما لو فسره وبين ما أودع فيه وضمنه، ما لو جعل ما في الأرض من الشجر أقلامًا والبحار مدادًا، فكتب ما أودع فيه وضمنه - لنفدَ ذلك كله ولم ينفدْ ما جمع فيه وضمنه، هذا - والله أعلم -: يشبه أن يكون تأويله وسبب نزوله، واللَّه أعلم بذلك.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا؛ لأن نفرًا من قريش قالوا للنبي: إن اللَّه خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، عظما، لحمًا، ثم تزعم أنا نبعث خلقًا جديدًا في ساعة واحدة؟! فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) أيها الناس جميعًا على اللَّه في القدرة إلا كبعث نفس واحدة.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ)، القولهم الذي قالوه: إنا لا نبعث، (بَصِيرٌ)، بأمر الخلق والبعث.
وجائز أن يكون قال هذا، لما قد أقروا ببعث نفس واحدة لما انتهى إليهم من الأخبار عما كان في الأمم السالفة من الإحياء بعد الممات وتواترت على ذلك، من ذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، وكقولهم - حيث قالوا -: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً...) الآية، وكقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)، وقوله: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، فكأنهم أقروا ببعث هَؤُلَاءِ لما تواترت عليهم الأخبار بذلك، وأنكروا بعث سائرهم؛ فقال: ما خلقكم ولا بعثكم جميعًا إلا كبعث نفس واحدة: إذا ثبت لواحد ففي الكل كذلك.
أو أن يذكر هذا؛ لأن الأسباب إنما تختلف في الأمور على الخلق وتعسر لخصال ثلاث: إما لعجز، أو لجهل، أو لشغل، فإذا كان اللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يعجزه شيء، أو يخفى عليه شيء، أو يشغله شيء؛ فصار خلق الكل عليه وبعث الكل كخلق نفس واحدة وكبعث نفس واحدة.
أو أن يذكر هذا؛ لأن الواحد والكل والقليل والكثير وما كان وما يكون تحت قوله: (كُن فَيَكُونُ)، معبر بكن مترجم به من غير أن كان منه (كاف) أو (نون)، لكنه ذكر (كُن)؛ لأنه أوجز حرف في كلام العرب وأقصر كلام يترجم به من غير أن كان منه (كاف) أو (نون)، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): كأنه قد كان من أُولَئِكَ من قول أو كلام في ذلك؛ حتى قال: (سَمِيعٌ) لذلك، (بَصِيرٌ) عالم لذلك.
أو بصير بأحوال الخلق وبأمورهم.
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
يذكرهم قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره، وفيه دلالة البعث.
أما قدرته: فلما أدخل الليل في النهار والنهار في الليل، ثم حفظهما على حد واحد وعلى ميزان واحد، على غير تفاوت يقع في ذلك ولا تغير؛ فمن قدر على ذلك لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء، وكذلك ما ذكر: من تسخير الشمس والقمر، وما يقطعان في يوم واحد وليلة واحدة - مسيرة خمسمائة عام ما لا يتصور ذلك في أوهام الخلق ولا في تقديرهم قطع ذلك المقدار من المسير في مثل تلك المدة.
ودل إنشاء أحدهما وإحداثه بعدما ذهب الآخر برمته وكليته حتى لا يبقى له أثر - على أنه قادر على الإحياء بعد الموت وبعدما ذهب أثره؛ ففي ذلك دلائل من وجوه: أحدها: دلالة قدرته؛ حيث أدخل أحدهما في الآخر، وحفظهما كذلك على حد واحد وتقدير واحد، على غير تغيير وتفاوت يقع في ذلك؛ دل ذلك على قدرته وعلمه وتدبيره.
ودل إنشاء كل واحد منهما بعدما ذهب الآخر على القدرة على البعث.
وقوله: (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
إلى الوقت الذي جعل له، لا يتقدم ولا يتأخر.
(وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): ظاهرًا وباطنًا هذا وعيد؛ ليكونوا أبدًا خائفين حذرين متيقظين، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
أي: ذلك الذي ذكر من خلق الخلق وإنشاء ما ذكر وتسخيره لمن ذلك، وصنعه في الليل والنهار والشمس والقمر وجميع ما ذكر هو صنع الإله الحق المستحق لتسمية
الآية ٣٠ وقوله تعالى :﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾ أي ذلك ذكر من خلق الخلق وإنشاء ما ذكر وتسخيره( ١ ) وصنعه في الليل والنهار والشمس والقمر وجميع ما ذكر صنع الإله الحق المستحق لتسميته الألوهية والعبادة. أو ﴿ هو الحق ﴾ لأنه هو الذي يسوق إليكم هذه النعم والمنافع ﴿ وأن ما يدعون من دونه الباطل ﴾ لا تنفعكم عبادتكم إياها ﴿ وأن الله هو العلي الكبير ﴾.
١ أدرج بعدها في الأصل وم: لمن ذكر ذلك..
الألوهية والعبادة.
(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ)، من الأصنام مبطلون غير مستحقين تسمية الألوهية والعبادة.
أو هو الحق؛ لأنه هو الذي يسوق إليكم هذه النعم والمنافع، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ): لا ينفعكم عبادتكم إياها. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ).
وقال في موضع آخر: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، قوله: (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) هي النعمة التي ذكر في هذه الآية.
وقوله: (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) - يحتمل وجهين:
أحدهما: لما جعل لهم الفلك بحيث تجري على وجه الماء مع أحمال ثقيلة، ومن طبعها التسرب في الماء والانحدار فيه، فجعلها بحيث تستمسك على وجه الماء وتجري؛ ليصلوا إلى حوائجهم ومنافعهم في أمكنة متباعدة ممتنعة: ما لولا السفن لم يصلوا إلى ذلك بحال.
والثاني: ما ذكر فيه من الريح الطيبة التي بها تجري السفن في البحار، وماؤها راكد ساكن؛ فتعمل تلك الريح الطيبة عمل جريان الماء وسكونه، وذلك نعمته، والله أعلم.
وقوله: (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ).
يحتمل آيات وحدانيته وآيات قدرته وسلطانه، وآيات نعمته: أما آيات نعمته، فما ذكر، وآيات قدرته وسلطانه: ما ذكرنا: أنه من قدرته وسلطانه أن جعل الفلك والسفن في البحار بحيث تستمسك وتحتبس، ولا تتسرب ولا تنحدر مع أحمال ثقيلة، ومن طبع ذلك
كله التسرب والانحدار، وما ذكر من إجرائها بالريح الطيبة، ولو كان فِعْلَ عدد لا فعل واحد لكان يمنع عن جريها، دل أنه تدبير واحد لا عدد.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
جائز أن يكون الصبار هو المؤمن، والشكور كذلك، الصبر كناية عن الإيمان، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ذكر الصبر مكان قوله: (آمَنُوا)؛ لأنه ذكر في آية أخرى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، وقوله: (تَشْكُرُوا)، أي: تؤمنوا.
ويحتمل: (صَبَّارٍ) على بلاياه، و (شَكُورٍ) على نعمائه.
أو جعل الآيات لمن ذكر؛ لأنه هو المنتفع بها دون غيرهم.
أو (صَبَّارٍ) فيما أصابهم في البحر من الشدائد والأهوال، و (شَكُورٍ) فيما دفع عنهم وأنجاهم من تلك الأهوال، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (كَالظُّلَلِ)، أي: كالظلل: هو سواد من كثرة الماء ومعظمه.
وقيل: يصير الموج كالظلمة فوق السفينة.
وجائز أن يكون الظلل التي ذكر على التمثيل لا على التحقيق؛ كناية عن حيرتهم في الدِّين، كقوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)، وهو على المثال لا على التحقيق، يخبر عن حيرتهم في الدِّين وتيههم فيه؛ فعلى ذلك الأول.
ثم يذكر أهل التأويل أن الآية في أهل الكفر: كانوا يخلصون الدعاء لله والدِّين له: عندما اشتد بهم الخوف على الهلاك عند معاينتهم الأهوال والشدائد في البحار؛ لأن أهل الإسلام يخلصون له الدعاء والدِّين في الأحوال كلها فهي فيهم.
وقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُقئَصِد)، أي: حسن القول بلسانه كافر بقلبه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)، أي: عدل، أي: بقي على الإيمان والإخلاص
الذي كان منه في تلك الأهوال لم يعد إلى الكفر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): الوسط.
العدل، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ).
قيل: الختار: الغدار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الختار. هو الذي بلغ في الغدر غايته ونهايته.
وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي يتوجه وجهين:
أحدهما: العلو: القهر والغلبة؛ كقوله: (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: غلب وقهر، وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون قوله: (الْعَلِيُّ) أي: القاهر الغالب.
والثاني: أن يكون العلو: الارتفاع؛ فإن كان الارتفاع، فهو يرتفع ويتعالى عن أن يحتمل ما يحتمل الخلق من التغير والزوال وغير ذلك مما يحتمل الخلق، ارتفع وتعالى عن احتمال ما يحتمل الخلق.
والكبير، أي: تكبر من أن يلحقه شيء مما يلحق الخلق، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) يحتمل: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) في الجهة التي له عليكم، وأوفوا له ذلك.
أو اتقوا مخالفة ربكم ومعصيته.
أو اتقوا نقمة ربكم وعذابه.
لكنه يختلف الأمر بالاتقاء في المؤمن والكافر: يكون للكافر: اتقوا الشرك وعبادة غير اللَّه، وفي المؤمن: اتقوا مخالفة اللَّه في جميع ما يأمركم وينهاكم، واتقوا عبادة غير الله أو الشرك في حادث الوقت.
وقوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا).
يذكر هذا على الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض؛ بالوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، والمنافع التي كان ينفع بعضهم بعضا في الدنيا، يخبر أن ذلك كله منقطع في الآخرة؛ لهول ذلك اليوم، واشتغال كل بنفسه؛ حتى لا ينفع أحد صاحبه، وخاصة ما ذكر
321
من الولد لوالده والوالد لولده، مما لا يحتمل قلب واحد منهما أن يلحق المكروه بالآخر، ولا يصبر ألا يدفع ذلك عنه بكل ما به وسعه وطاقته؛ للشفقة والمحبة التي جعلت فيهم.
ثم أخبر ألا ينفع أحدهما صاحبه؛ لاشتغاله بنفسه، وعلى ذلك روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل نسب وسبب فهو منقطع، إلا نسبي وسبببي "، ونسبه: دينه الذي دعانا إليه وعلمناه، وسببه: شفاعته يوم القيامة، فذلك كله منقطع إلا هذين؛ فإنه من تمسك بدينه فإنه يشفع له يوم القيامة فيما قصر وفرط، فأما من لم يقبل دينه، ولم يجبه إلى ما دعاه - فإنه ليس له واحد من هذين من الأسباب والأنساب، منقطع؛ كقوله: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ)، قال: هذه الآية في الكفار؛ فأما المؤمنون فينفع الوالد ولده والولد والده في الآخرة: يدفع إلى ابنه بفضل عمله، وكذلك الولد إلى أبيه؛ كقوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
فيما ذكر من الإياس وقطع طمع بعضهم من بعض، أو ما ذكر من قيام الساعة وكونها أنها تكون لا محالة، أو في الثواب والعقاب.
وقوله: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
هذا يحتمل وجهين على التحقيق والتمثيل.
أما التحقيق: ألا تشغلنكم الحياة الدنيا ولذاتها، ولا تلهينكم عن ذكر اللَّه وعن الآخرة، ولا تغتروا بها؛ فإنها لعب ولهو، على ما ذكر أنها لعب ولهو على ما هي عندكم؛ لأنها عندهم أنها إنما أنشئت وخلقت لها لا للآخرة، فالدنيا - على ما هي عندهم - لعب ولهو، وأما على ما هي عندنا هي حق ليس بباطل؛ لأنها أنشئت للآخرة وبلغة إليها.
وأما التمثيل: أضاف التغرير إليها؛ لأن ما كان منها من التزيين والتحسين في الظاهر وإظهار بهجتها وسرورها ولذاتها لو كان ممن له التمييز والعقل والفهم وحقيقة التزيين والتحسين كان تغريرا؛ فعلى ذلك ما كان منها على الظاهر فهو تغرير على التمثيل.
322
أو أن يكون ما ذكر: ألا تغتروا بالحياة الدنيا وما فيها من لذاتها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
قيل: الغرور: الشيطان، لا يغرنكم، ولقول: إن اللَّه كريم رحيم جواد ولا يعذبكم.
أو يقول: إن اللَّه غني قادر لا يأمركم بأمر ولا ينهاكم؛ إذ إنما يأمر وينهى في الشاهد من كان محتاجًا، فأما الغني فلا يأمر، أو نحوه، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
ذكر في بعض الأخبار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللَّه "، وعدّ هذه الخمسة التي ذكرت في هذه الآية.
وكذلك روي أبو هريرة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خمس لا يعلمهن إلا اللَّه؛ ثم تلا، قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر الآية ". فإن ثبت هذا فهو ما ذكر، ويرجع ذلك إلى معرفة حقيقة ما ذكر؛ وإلا جائز أن يقال: إنه يعلم بعض هذه الأشياء بأعلام؛ من نحو المطر أنه متى يمطر، أو ما في الأرحام: أنه ولد وأنه ذكر أو أنثى، وإن لم يعلم ماهية ما في الأرحام؛ نحو ما يعلم المنجمة بذلك بالحساب وبأعلام، يخرج ذلك على الصدق مما أخبروا ربما؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - قال: (إِنِّي سَقِيمٌ)، لما نظر في النجوم، أي: سأسقم. وروي أن أبا بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - قال: إني ألقي إليَّ أن ذا بطن بنت خارجة جارية، وكان كما ذكر؛ فلا يحتمل أبو بكر يعلم ذلك لما ألقي إليه، ورسول اللَّه لا يعلم الساعة؛ فإنه لا يطلع عليها أحد، إلا أن يقال بأن رسول اللَّه لم يؤذن له بالتكلم والقول بشيء إلا من جهة الوحي من السماء، فأما الاشتغال بمثله فلا؛ لأن الاشتغال بمثله تضييع لكثير مما امتحن، وترك لبعض ما يؤمر وينهى، أو لما يخرج ذلك مخرج التطير والتفاؤل واكتساب الرزق على غير الجهة التي جعل وأبيح لهم؛ فكان المنع لذلك، واللَّه أعلم.
323
ثم قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يحتمل قوله: (عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: وقت الساعة، كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا): أخبر أنه لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، وذكر لرسول اللَّه: إنك (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)، فأما ما سوى ذلك فليس إليك.
أو أن يكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، أي: عنده علم بماهية الساعة وأهوالها، ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها؛ فأخبر أنه يعلم هو ذلك.
وقوله: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ).
سمى المطر: غيثًا، فيشبه أن يكون سماه: غيثًا؛ لما به يكون للناس غياث فيما به قوام أنفسهم ودنياهم، وسماه في موضع: رحمة، وفي موضع: مباركًا، فتسميته: رحمة؛ لما به نجاة أنفسهم وأبدانهم وذلك صورة الرحمة، وسماه: مباركًا؛ لما به ينمو ويزداد كل شيء؛ إذ البركة هي اسم كل خير ينمو ويزاد بلا اكتساب.
وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ).
من انتقال النطفة إلى العلقة، وانتقال العلقة إلى المضغة، وتحوله من حال إلى حال أخرى، وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة، ونحو ذلك لا يعلمه إلا اللَّه. وأما العلم بأن فيه ولدا وأنه ذكر أو أنثى - فجائز أن يعلم ذلك غيره أيضًا.
وقوله: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
جائز أن يكون كتم ذلك وأخفاه؛ ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة؛ إذ لو كان أطلعهم على ذلك - لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت؛ فيعملون بكل ما يريدون ويشاءون؛ فيكون في ذلك ارتفاع المحنة، فلبس ذلك عليهم؛ ليكونوا أبدًا في كل وقت وكل حال - على حأ ر وخوت ويقظة، واللَّه أعلم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
وذكر بعض أهل التأويل أن رجلا من أهل البادية يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة ابن محارب جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أرضنا أجدبت، فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى؛ فماذا تلد؟ وقد علمتُ أنِّي ولدت؛ ففي أي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم؛ فماذا أعمل غدًا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل اللَّه - تعالى - في مسألة المحاربي: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): لا يعلمها غيره، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ): من ذكر أو أنثى، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) برة أو فاجزة (مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا): من خير أو شر، (وَمَا تَدْرِي
324
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ): في سهل أو حمل، أو بر أو بحر (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) بهذا الذي ذكر كله فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أين السائل عن الساعة؟ " فقال المحاربي: هاهنا؛ فقرأ النبي صلوات اللَّه عليه هذه الآية.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله (كَالظُّلَلِ)، أي: ما استظللت به، والظلة: السحاب.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (كَالظُّلَلِ): جمع ظلة، يريد: أن بعضه فوق بعض؛ فله سواد من كثرته، والبحر ذو ظلال لأمواجه.
والختار: الغدار، والختر: أقبح الغدر وأشده.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الختار: الكذاب الغدار؛ يقال: ختر، يختر، خترا؛ فهو خاتر. وقوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي)، أي: لا يغني؛ تقول جزى يجزي؛ فهو جاز، أي: أغنى، وأجزى يجزي مثله، وأجزأني عن كذا وكذا، أي: كفاني، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.
وقال: الغرور - بنصب الغين -: الشيطان، والغرور - بضم الغين -: الباطل.
* * *
325
Icon