تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب الجامع لأحكام القرآن
.
لمؤلفه
القرطبي
.
المتوفي سنة 671 هـ
ﰡ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ
سُورَة الْأَحْزَاب مَدَنِيَّة فِي قَوْل جَمِيعهمْ.
نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَإِيذَائِهِمْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعْنهمْ فِيهِ وَفِي مُنَاكَحَته وَغَيْرهَا.
وَهِيَ ثَلَاث وَسَبْعُونَ آيَة.
وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَة تَعْدِل سُورَة الْبَقَرَة.
وَكَانَتْ فِيهَا آيَة الرَّجْم :( الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّه وَاَللَّه عَزِيز حَكِيم ) ; ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب.
وَهَذَا يَحْمِلهُ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَ مِنْ الْأَحْزَاب إِلَيْهِ مَا يَزِيد عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا، وَأَنَّ آيَة الرَّجْم رُفِعَ لَفْظهَا.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْهَيْثَم بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي مَرْيَم عَنْ اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَتْ سُورَة الْأَحْزَاب تَعْدِل عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ آيَة، فَلَمَّا كُتِبَ الْمُصْحَف لَمْ يُقْدَر مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هِيَ الْآن.
قَالَ أَبُو بَكْر : فَمَعْنَى هَذَا مِنْ قَوْل أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة : أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سُورَة الْأَحْزَاب مَا يَزِيد عَلَى مَا عِنْدنَا.
قُلْت : هَذَا وَجْه مِنْ وُجُوه النَّسْخ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَرَوَى زِرّ قَالَ قَالَ لِي أُبَيّ بْن كَعْب : كَمْ تَعُدُّونَ سُورَة الْأَحْزَاب ؟ قُلْت ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَة ; قَالَ : فَوَاَلَّذِي يَحْلِف بِهِ أُبَيّ بْن كَعْب أَنْ كَانَتْ لَتَعْدِل سُورَة الْبَقَرَة أَوْ أَطْوَل، وَلَقَدْ قَرَأْنَا مِنْهَا آيَة الرَّجْم : الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّة نَكَالًا مِنْ اللَّه وَاَللَّه عَزِيز حَكِيم.
أَرَادَ أُبَيّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآن.
وَأَمَّا مَا يُحْكَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَة كَانَتْ فِي صَحِيفَة فِي بَيْت عَائِشَة فَأَكَلَتْهَا الدَّاجِن فَمِنْ تَأْلِيف الْمَلَاحِدَة وَالرَّوَافِض.
ضُمَّتْ " أَيّ " لِأَنَّهُ نِدَاء مُفْرَد، وَالتَّنْبِيه لَازِم لَهَا.
و " النَّبِيّ " نَعْت لِأَيُّ عِنْد النَّحْوِيِّينَ ; إِلَّا الْأَخْفَش فَإِنَّهُ يَقُول : إِنَّهُ صِلَة لِأَيُّ.
مَكِّيّ : وَلَا يُعْرَف فِي كَلَام الْعَرَب اِسْم مُفْرَد صِلَة لِشَيْءٍ.
النَّحَّاس : وَهُوَ خَطَأ عِنْد أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ ; لِأَنَّ الصِّلَة لَا تَكُون إِلَّا جُمْلَة، وَالِاحْتِيَال لَهُ فِيمَا قَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَعْتًا لَازِمًا سُمِّيَ صِلَة ; وَهَكَذَا الْكُوفِيُّونَ يُسَمُّونَ نَعْت النَّكِرَة صِلَة لَهَا.
وَلَا يَجُوز نَصْبه عَلَى الْمَوْضِع عِنْد أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ.
وَأَجَازَهُ الْمَازِنِيّ، جَعَلَهُ كَقَوْلِك : يَا زَيْدُ الظَّرِيفَ، بِنَصْبِ " الظَّرِيف " عَلَى مَوْضِع زَيْد.
مَكِّيّ : وَهَذَا نَعْت يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَنَعْت " أَيّ " لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَحْسُن نَصْبه عَلَى الْمَوْضِع.
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَعْت " أَيّ " هُوَ الْمُنَادَى فِي الْمَعْنَى فَلَا يَحْسُن نَصْبه.
سُورَة الْأَحْزَاب مَدَنِيَّة فِي قَوْل جَمِيعهمْ.
نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَإِيذَائِهِمْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعْنهمْ فِيهِ وَفِي مُنَاكَحَته وَغَيْرهَا.
وَهِيَ ثَلَاث وَسَبْعُونَ آيَة.
وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَة تَعْدِل سُورَة الْبَقَرَة.
وَكَانَتْ فِيهَا آيَة الرَّجْم :( الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّه وَاَللَّه عَزِيز حَكِيم ) ; ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب.
وَهَذَا يَحْمِلهُ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَ مِنْ الْأَحْزَاب إِلَيْهِ مَا يَزِيد عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا، وَأَنَّ آيَة الرَّجْم رُفِعَ لَفْظهَا.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْهَيْثَم بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي مَرْيَم عَنْ اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : كَانَتْ سُورَة الْأَحْزَاب تَعْدِل عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ آيَة، فَلَمَّا كُتِبَ الْمُصْحَف لَمْ يُقْدَر مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هِيَ الْآن.
قَالَ أَبُو بَكْر : فَمَعْنَى هَذَا مِنْ قَوْل أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة : أَنَّ اللَّه تَعَالَى رَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سُورَة الْأَحْزَاب مَا يَزِيد عَلَى مَا عِنْدنَا.
قُلْت : هَذَا وَجْه مِنْ وُجُوه النَّسْخ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَرَوَى زِرّ قَالَ قَالَ لِي أُبَيّ بْن كَعْب : كَمْ تَعُدُّونَ سُورَة الْأَحْزَاب ؟ قُلْت ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَة ; قَالَ : فَوَاَلَّذِي يَحْلِف بِهِ أُبَيّ بْن كَعْب أَنْ كَانَتْ لَتَعْدِل سُورَة الْبَقَرَة أَوْ أَطْوَل، وَلَقَدْ قَرَأْنَا مِنْهَا آيَة الرَّجْم : الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّة نَكَالًا مِنْ اللَّه وَاَللَّه عَزِيز حَكِيم.
أَرَادَ أُبَيّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآن.
وَأَمَّا مَا يُحْكَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَة كَانَتْ فِي صَحِيفَة فِي بَيْت عَائِشَة فَأَكَلَتْهَا الدَّاجِن فَمِنْ تَأْلِيف الْمَلَاحِدَة وَالرَّوَافِض.
ضُمَّتْ " أَيّ " لِأَنَّهُ نِدَاء مُفْرَد، وَالتَّنْبِيه لَازِم لَهَا.
و " النَّبِيّ " نَعْت لِأَيُّ عِنْد النَّحْوِيِّينَ ; إِلَّا الْأَخْفَش فَإِنَّهُ يَقُول : إِنَّهُ صِلَة لِأَيُّ.
مَكِّيّ : وَلَا يُعْرَف فِي كَلَام الْعَرَب اِسْم مُفْرَد صِلَة لِشَيْءٍ.
النَّحَّاس : وَهُوَ خَطَأ عِنْد أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ ; لِأَنَّ الصِّلَة لَا تَكُون إِلَّا جُمْلَة، وَالِاحْتِيَال لَهُ فِيمَا قَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَعْتًا لَازِمًا سُمِّيَ صِلَة ; وَهَكَذَا الْكُوفِيُّونَ يُسَمُّونَ نَعْت النَّكِرَة صِلَة لَهَا.
وَلَا يَجُوز نَصْبه عَلَى الْمَوْضِع عِنْد أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ.
وَأَجَازَهُ الْمَازِنِيّ، جَعَلَهُ كَقَوْلِك : يَا زَيْدُ الظَّرِيفَ، بِنَصْبِ " الظَّرِيف " عَلَى مَوْضِع زَيْد.
مَكِّيّ : وَهَذَا نَعْت يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَنَعْت " أَيّ " لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَحْسُن نَصْبه عَلَى الْمَوْضِع.
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَعْت " أَيّ " هُوَ الْمُنَادَى فِي الْمَعْنَى فَلَا يَحْسُن نَصْبه.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ يُحِبّ إِسْلَام الْيَهُود : قُرَيْظَة وَالنَّضِير وَبَنِي قَيْنُقَاع ; وَقَدْ تَابَعَهُ نَاس مِنْهُمْ عَلَى النِّفَاق، فَكَانَ يُلِين لَهُمْ جَانِبه ; وَيُكْرِم صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ، وَإِذَا أَتَى مِنْهُمْ قَبِيح تَجَاوَزَ عَنْهُ، وَكَانَ يَسْمَع مِنْهُمْ ; فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ ; إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ الْوَاحِدِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيْرهمْ فِي أَبِي سُفْيَان بْن حَرْب وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَأَبِي الْأَعْوَر عَمْرو بْن سُفْيَان، نَزَلُوا الْمَدِينَة عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول رَأْس الْمُنَافِقِينَ بَعْد أُحُد، وَقَدْ أَعْطَاهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَان عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ، فَقَامَ مَعَهُمْ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح وَطُعْمَة بْن أُبَيْرِق، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عُمَر بْن الْخَطَّاب : اُرْفُضْ ذِكْر آلِهَتنَا اللَّات وَالْعُزَّى وَمَنَاة، وَقُلْ إِنَّ لَهَا شَفَاعَة وَمَنَعَة لِمَنْ عَبَدَهَا، وَنَدَعك وَرَبّك.
فَشَقَّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالُوا.
فَقَالَ عُمَر : يَا رَسُول اللَّه اِئْذَنْ لِي فِي قَتْلهمْ.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتهمْ الْأَمَان ) فَقَالَ عُمَر : اُخْرُجُوا فِي لَعْنَة اللَّه وَغَضَبه.
فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَة ; فَنَزَلَتْ الْآيَة.
" يَا أَيّهَا النَّبِيّ اِتَّقِ اللَّه " أَيْ خَفْ اللَّه.
وَقِيلَ ; إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ الْوَاحِدِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيْرهمْ فِي أَبِي سُفْيَان بْن حَرْب وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَأَبِي الْأَعْوَر عَمْرو بْن سُفْيَان، نَزَلُوا الْمَدِينَة عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول رَأْس الْمُنَافِقِينَ بَعْد أُحُد، وَقَدْ أَعْطَاهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَان عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ، فَقَامَ مَعَهُمْ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح وَطُعْمَة بْن أُبَيْرِق، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عُمَر بْن الْخَطَّاب : اُرْفُضْ ذِكْر آلِهَتنَا اللَّات وَالْعُزَّى وَمَنَاة، وَقُلْ إِنَّ لَهَا شَفَاعَة وَمَنَعَة لِمَنْ عَبَدَهَا، وَنَدَعك وَرَبّك.
فَشَقَّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالُوا.
فَقَالَ عُمَر : يَا رَسُول اللَّه اِئْذَنْ لِي فِي قَتْلهمْ.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتهمْ الْأَمَان ) فَقَالَ عُمَر : اُخْرُجُوا فِي لَعْنَة اللَّه وَغَضَبه.
فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَة ; فَنَزَلَتْ الْآيَة.
" يَا أَيّهَا النَّبِيّ اِتَّقِ اللَّه " أَيْ خَفْ اللَّه.
اللَّهَ وَلَا تُطِعِ
مِنْ أَهْل مَكَّة، يَعْنِي أَبَا سُفْيَان وَأَبَا الْأَعْوَر وَعِكْرِمَة.
مِنْ أَهْل مَكَّة، يَعْنِي أَبَا سُفْيَان وَأَبَا الْأَعْوَر وَعِكْرِمَة.
الْكَافِرِينَ
مِنْ أَهْل الْمَدِينَة، يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَطُعْمَة وَعَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح فِيمَا نُهِيت عَنْهُ، وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِمْ.
مِنْ أَهْل الْمَدِينَة، يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَطُعْمَة وَعَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح فِيمَا نُهِيت عَنْهُ، وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِمْ.
وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُفْرِهِمْ
بِكُفْرِهِمْ
عَلِيمًا
فِيمَا يَفْعَل بِهِمْ.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَأَبَا الْأَعْوَر السُّلَمِيّ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوَادَعَة الَّتِي كَانَتْ بَيْنه وَبَيْنهمْ، وَقَامَ مَعَهُمْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر وَالْجَدّ بْن قَيْس، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُرْفُضْ ذِكْر آلِهَتنَا.
وَذَكَرَ الْخَبَرَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي نَقْضِ الْعَهْد وَنَبْذ الْمُوَادَعَة.
" وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ " مِنْ أَهْل مَكَّة.
" وَالْمُنَافِقِينَ " مِنْ أَهْل الْمَدِينَة فِيمَا طَلَبُوا إِلَيْك.
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْل مَكَّة دَعَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَرْجِع عَنْ دِينه وَيُعْطُوهُ شَطْر أَمْوَالهمْ، وَيُزَوِّجهُ شَيْبَةُ بْن رَبِيعَة بِنْتَهُ، وَخَوَّفَهُ مُنَافِقُو الْمَدِينَة أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِع ; فَنَزَلَتْ.
النَّحَّاس : وَدَلَّ بِقَوْلِهِ " إِنَّ اللَّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمِيل إِلَيْهِمْ اِسْتِدْعَاء لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَام ; أَيْ لَوْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَيْلك إِلَيْهِمْ فِيهِ مَنْفَعَة لَمَا نَهَاك عَنْهُ ; لِأَنَّهُ حَكِيم.
ثُمَّ قِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَلِأُمَّتِهِ.
فِيمَا يَفْعَل بِهِمْ.
الزَّمَخْشَرِيّ : وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَأَبَا الْأَعْوَر السُّلَمِيّ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوَادَعَة الَّتِي كَانَتْ بَيْنه وَبَيْنهمْ، وَقَامَ مَعَهُمْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر وَالْجَدّ بْن قَيْس، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُرْفُضْ ذِكْر آلِهَتنَا.
وَذَكَرَ الْخَبَرَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي نَقْضِ الْعَهْد وَنَبْذ الْمُوَادَعَة.
" وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ " مِنْ أَهْل مَكَّة.
" وَالْمُنَافِقِينَ " مِنْ أَهْل الْمَدِينَة فِيمَا طَلَبُوا إِلَيْك.
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْل مَكَّة دَعَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَرْجِع عَنْ دِينه وَيُعْطُوهُ شَطْر أَمْوَالهمْ، وَيُزَوِّجهُ شَيْبَةُ بْن رَبِيعَة بِنْتَهُ، وَخَوَّفَهُ مُنَافِقُو الْمَدِينَة أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِع ; فَنَزَلَتْ.
النَّحَّاس : وَدَلَّ بِقَوْلِهِ " إِنَّ اللَّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمِيل إِلَيْهِمْ اِسْتِدْعَاء لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَام ; أَيْ لَوْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَيْلك إِلَيْهِمْ فِيهِ مَنْفَعَة لَمَا نَهَاك عَنْهُ ; لِأَنَّهُ حَكِيم.
ثُمَّ قِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَلِأُمَّتِهِ.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
يَعْنِي الْقُرْآن.
وَفِيهِ زَجْر عَنْ اِتِّبَاع مَرَاسِم الْجَاهِلِيَّة، وَأَمْر بِجِهَادِهِمْ وَمُنَابَذَتهمْ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى تَرْك اِتِّبَاع الْآرَاء مَعَ وُجُود النَّصّ.
وَالْخِطَاب لَهُ وَلِأُمَّتِهِ.
يَعْنِي الْقُرْآن.
وَفِيهِ زَجْر عَنْ اِتِّبَاع مَرَاسِم الْجَاهِلِيَّة، وَأَمْر بِجِهَادِهِمْ وَمُنَابَذَتهمْ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى تَرْك اِتِّبَاع الْآرَاء مَعَ وُجُود النَّصّ.
وَالْخِطَاب لَهُ وَلِأُمَّتِهِ.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
قِرَاءَة الْعَامَّة بِتَاءٍ عَلَى الْخِطَاب، وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم.
وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَأَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق :" يَعْمَلُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر ; وَكَذَلِكَ فِي قَوْله :" بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا " [ الْفَتْح : ٢٤ ].
قِرَاءَة الْعَامَّة بِتَاءٍ عَلَى الْخِطَاب، وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم.
وَقَرَأَ السُّلَمِيّ وَأَبُو عَمْرو وَابْن أَبِي إِسْحَاق :" يَعْمَلُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر ; وَكَذَلِكَ فِي قَوْله :" بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا " [ الْفَتْح : ٢٤ ].
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
أَيْ اِعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي كُلّ أَحْوَالك ; فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعك وَلَا يَضُرّك مَنْ خَذَلَك.
أَيْ اِعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي كُلّ أَحْوَالك ; فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعك وَلَا يَضُرّك مَنْ خَذَلَك.
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
حَافِظًا.
وَقَالَ شَيْخ مِنْ أَهْل الشَّام : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْد مِنْ ثَقِيف فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُمَتِّعهُمْ بِاللَّاتِ سَنَة - وَهِيَ الطَّاغِيَة الَّتِي كَانَتْ ثَقِيف تَعْبُدهَا - وَقَالُوا : لِتَعْلَم قُرَيْش مَنْزِلَتنَا عِنْدك ; فَهَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا " أَيْ كَافِيًا لَك مَا تَخَافهُ مِنْهُمْ.
و " بِاَللَّهِ " فِي مَوْضِع رَفْع لِأَنَّهُ الْفَاعِل.
و " وَكِيلًا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان أَوْ الْحَال.
حَافِظًا.
وَقَالَ شَيْخ مِنْ أَهْل الشَّام : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْد مِنْ ثَقِيف فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُمَتِّعهُمْ بِاللَّاتِ سَنَة - وَهِيَ الطَّاغِيَة الَّتِي كَانَتْ ثَقِيف تَعْبُدهَا - وَقَالُوا : لِتَعْلَم قُرَيْش مَنْزِلَتنَا عِنْدك ; فَهَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا " أَيْ كَافِيًا لَك مَا تَخَافهُ مِنْهُمْ.
و " بِاَللَّهِ " فِي مَوْضِع رَفْع لِأَنَّهُ الْفَاعِل.
و " وَكِيلًا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان أَوْ الْحَال.
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
قَالَ مُجَاهِد : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ قُرَيْش كَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهَائِهِ، وَكَانَ يَقُول : إِنَّ لِي فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ، أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَفْضَلَ مِنْ عَقْل مُحَمَّد.
قَالَ : وَكَانَ مِنْ فِهْر.
الْوَاحِدِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَغَيْرهمَا : نَزَلَتْ فِي جَمِيل بْن مَعْمَر الْفِهْرِيّ، وَكَانَ رَجُلًا حَافِظًا لَمَّا يَسْمَع.
فَقَالَتْ قُرَيْش : مَا يَحْفَظ هَذِهِ الْأَشْيَاء إِلَّا وَلَهُ قَلْبَانِ.
وَكَانَ يَقُول : لِي قَلْبَانِ أَعْقِلُ بِهِمَا أَفْضَلَ مِنْ عَقْل مُحَمَّد.
فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْم بَدْر وَمَعَهُمْ جَمِيل بْن مَعْمَر، رَآهُ أَبُو سُفْيَان فِي الْعِير وَهُوَ مُعَلِّق إِحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَده وَالْأُخْرَى فِي رِجْله ; فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : مَا حَال النَّاس ؟ قَالَ اِنْهَزَمُوا.
قَالَ : فَمَا بَال إِحْدَى نَعْلَيْك فِي يَدك وَالْأُخْرَى فِي رِجْلك ؟ قَالَ : مَا شَعَرْت إِلَّا أَنَّهُمَا فِي رِجْلَيَّ ; فَعَرَفُوا يَوْمئِذٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ لَمَّا نَسِيَ نَعْله فِي يَده.
وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : كَانَ جَمِيل بْن مَعْمَر الْجُمَحِيّ، وَهُوَ اِبْن مَعْمَر بْن حَبِيب بْن وَهْب بْن حُذَافَة بْن جُمَح، وَاسْم جُمَح : تَيْم ; وَكَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَة، وَفِيهِ يَقُول الشَّاعِر :
قُلْت : كَذَا قَالُوا جَمِيل بْن مَعْمَر.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : جَمِيل بْن أَسَد الْفِهْرِيّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَبَبهَا أَنَّ بَعْض الْمُنَافِقِينَ قَالَ : إِنَّ مُحَمَّدًا لَهُ قَلْبَانِ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي شَيْء فَنَزَعَ فِي غَيْره نَزْعَة ثُمَّ عَادَ إِلَى شَأْنه الْأَوَّل ; فَقَالُوا ذَلِكَ عَنْهُ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن خَطَل.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَابْن حِبَّان : نَزَلَ ذَلِكَ تَمْثِيلًا فِي زَيْد بْن حَارِثَة لَمَّا تَبَنَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَالْمَعْنَى : كَمَا لَا يَكُون لِرَجُلٍ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا يَكُون وَلَد وَاحِد لِرَجُلَيْنِ.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل ضَعِيف لَا يَصِحّ فِي اللُّغَة، وَهُوَ مِنْ مُنْقَطِعَات الزُّهْرِيّ، رَوَاهُ مَعْمَر عَنْهُ.
وَقِيلَ : هُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْمُظَاهِرِ ; أَيْ كَمَا لَا يَكُون لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا تَكُون اِمْرَأَة الْمُظَاهِر أُمّه حَتَّى تَكُون لَهُ أُمَّانِ.
وَقِيلَ : كَانَ الْوَاحِد مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُول : لِي قَلْب يَأْمُرنِي بِكَذَا، وَقَلْب يَأْمُرنِي بِكَذَا ; فَالْمُنَافِق ذُو قَلْبَيْنِ ; فَالْمَقْصُود رَدّ النِّفَاق.
وَقِيلَ : لَا يَجْتَمِع الْكُفْر وَالْإِيمَان بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْب، كَمَا لَا يَجْتَمِع قَلْبَانِ فِي جَوْف ; فَالْمَعْنَى : لَا يَجْتَمِع اِعْتِقَادَانِ مُتَغَايِرَانِ فِي قَلْب.
وَيَظْهَر مِنْ الْآيَة بِجُمْلَتِهَا نَفْي أَشْيَاء كَانَتْ الْعَرَب تَعْتَقِدهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت، وَإِعْلَام بِحَقِيقَةِ الْأَمْر، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ مُجَاهِد : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ قُرَيْش كَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهَائِهِ، وَكَانَ يَقُول : إِنَّ لِي فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ، أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَفْضَلَ مِنْ عَقْل مُحَمَّد.
قَالَ : وَكَانَ مِنْ فِهْر.
الْوَاحِدِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَغَيْرهمَا : نَزَلَتْ فِي جَمِيل بْن مَعْمَر الْفِهْرِيّ، وَكَانَ رَجُلًا حَافِظًا لَمَّا يَسْمَع.
فَقَالَتْ قُرَيْش : مَا يَحْفَظ هَذِهِ الْأَشْيَاء إِلَّا وَلَهُ قَلْبَانِ.
وَكَانَ يَقُول : لِي قَلْبَانِ أَعْقِلُ بِهِمَا أَفْضَلَ مِنْ عَقْل مُحَمَّد.
فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْم بَدْر وَمَعَهُمْ جَمِيل بْن مَعْمَر، رَآهُ أَبُو سُفْيَان فِي الْعِير وَهُوَ مُعَلِّق إِحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَده وَالْأُخْرَى فِي رِجْله ; فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : مَا حَال النَّاس ؟ قَالَ اِنْهَزَمُوا.
قَالَ : فَمَا بَال إِحْدَى نَعْلَيْك فِي يَدك وَالْأُخْرَى فِي رِجْلك ؟ قَالَ : مَا شَعَرْت إِلَّا أَنَّهُمَا فِي رِجْلَيَّ ; فَعَرَفُوا يَوْمئِذٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ لَمَّا نَسِيَ نَعْله فِي يَده.
وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : كَانَ جَمِيل بْن مَعْمَر الْجُمَحِيّ، وَهُوَ اِبْن مَعْمَر بْن حَبِيب بْن وَهْب بْن حُذَافَة بْن جُمَح، وَاسْم جُمَح : تَيْم ; وَكَانَ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ فَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَة، وَفِيهِ يَقُول الشَّاعِر :
وَكَيْف ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْد مَا | قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيل بْن مَعْمَر |
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : جَمِيل بْن أَسَد الْفِهْرِيّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَبَبهَا أَنَّ بَعْض الْمُنَافِقِينَ قَالَ : إِنَّ مُحَمَّدًا لَهُ قَلْبَانِ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي شَيْء فَنَزَعَ فِي غَيْره نَزْعَة ثُمَّ عَادَ إِلَى شَأْنه الْأَوَّل ; فَقَالُوا ذَلِكَ عَنْهُ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن خَطَل.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَابْن حِبَّان : نَزَلَ ذَلِكَ تَمْثِيلًا فِي زَيْد بْن حَارِثَة لَمَّا تَبَنَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَالْمَعْنَى : كَمَا لَا يَكُون لِرَجُلٍ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا يَكُون وَلَد وَاحِد لِرَجُلَيْنِ.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا قَوْل ضَعِيف لَا يَصِحّ فِي اللُّغَة، وَهُوَ مِنْ مُنْقَطِعَات الزُّهْرِيّ، رَوَاهُ مَعْمَر عَنْهُ.
وَقِيلَ : هُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْمُظَاهِرِ ; أَيْ كَمَا لَا يَكُون لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ كَذَلِكَ لَا تَكُون اِمْرَأَة الْمُظَاهِر أُمّه حَتَّى تَكُون لَهُ أُمَّانِ.
وَقِيلَ : كَانَ الْوَاحِد مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُول : لِي قَلْب يَأْمُرنِي بِكَذَا، وَقَلْب يَأْمُرنِي بِكَذَا ; فَالْمُنَافِق ذُو قَلْبَيْنِ ; فَالْمَقْصُود رَدّ النِّفَاق.
وَقِيلَ : لَا يَجْتَمِع الْكُفْر وَالْإِيمَان بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْب، كَمَا لَا يَجْتَمِع قَلْبَانِ فِي جَوْف ; فَالْمَعْنَى : لَا يَجْتَمِع اِعْتِقَادَانِ مُتَغَايِرَانِ فِي قَلْب.
وَيَظْهَر مِنْ الْآيَة بِجُمْلَتِهَا نَفْي أَشْيَاء كَانَتْ الْعَرَب تَعْتَقِدهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْت، وَإِعْلَام بِحَقِيقَةِ الْأَمْر، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
الْقَلْب بَضْعَة صَغِيرَة عَلَى هَيْئَة الصَّنَوْبَرَة، خَلَقَهَا اللَّه تَعَالَى فِي الْآدَمِيّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ، فَيُحْصِي بِهِ الْعَبْد مِنْ الْعُلُوم مَا لَا يَسَع فِي أَسْفَار، يَكْتُبهُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ بِالْخَطِّ الْإِلَهِيّ، وَيَضْبِطهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيّ، حَتَّى يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا.
وَهُوَ بَيْن لَمَّتَيْنِ : لَمَّة مِنْ الْمَلَك، وَلَمَّة مِنْ الشَّيْطَان ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَهُوَ مَحَلّ الْخَطَرَات وَالْوَسَاوِس وَمَكَان الْكُفْر وَالْإِيمَان، وَمَوْضِع الْإِصْرَار وَالْإِنَابَة، وَمَجْرَى الِانْزِعَاج وَالطُّمَأْنِينَة.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : أَنَّهُ لَا يَجْتَمِع فِي الْقَلْب الْكُفْر وَالْإِيمَان، وَالْهُدَى وَالضَّلَال، وَالْإِنَابَة وَالْإِصْرَار، وَهَذَا نَفْي لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَد فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَة أَوْ مَجَاز، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُ لَا أَحَدَ بِقَلْبَيْنِ، وَيَكُون فِي هَذَا طَعْن عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ ; أَيْ إِنَّمَا هُوَ قَلْب وَاحِد، فَإِمَّا فِيهِ إِيمَان وَإِمَّا فِيهِ كُفْر ; لِأَنَّ دَرَجَة النِّفَاق كَأَنَّهَا مُتَوَسِّطَة، فَنَفَاهَا اللَّه تَعَالَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ قَلْب وَاحِد.
وَعَلَى هَذَا النَّحْو يَسْتَشْهِد الْإِنْسَان بِهَذِهِ الْآيَة، مَتَى نَسِيَ شَيْئًا أَوْ وَهِمَ.
يَقُول عَلَى جِهَة الِاعْتِذَار : مَا جَعَلَ اللَّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفه.
وَهُوَ بَيْن لَمَّتَيْنِ : لَمَّة مِنْ الْمَلَك، وَلَمَّة مِنْ الشَّيْطَان ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ ; وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَهُوَ مَحَلّ الْخَطَرَات وَالْوَسَاوِس وَمَكَان الْكُفْر وَالْإِيمَان، وَمَوْضِع الْإِصْرَار وَالْإِنَابَة، وَمَجْرَى الِانْزِعَاج وَالطُّمَأْنِينَة.
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة : أَنَّهُ لَا يَجْتَمِع فِي الْقَلْب الْكُفْر وَالْإِيمَان، وَالْهُدَى وَالضَّلَال، وَالْإِنَابَة وَالْإِصْرَار، وَهَذَا نَفْي لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَد فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَة أَوْ مَجَاز، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
أَعْلَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُ لَا أَحَدَ بِقَلْبَيْنِ، وَيَكُون فِي هَذَا طَعْن عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ ; أَيْ إِنَّمَا هُوَ قَلْب وَاحِد، فَإِمَّا فِيهِ إِيمَان وَإِمَّا فِيهِ كُفْر ; لِأَنَّ دَرَجَة النِّفَاق كَأَنَّهَا مُتَوَسِّطَة، فَنَفَاهَا اللَّه تَعَالَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ قَلْب وَاحِد.
وَعَلَى هَذَا النَّحْو يَسْتَشْهِد الْإِنْسَان بِهَذِهِ الْآيَة، مَتَى نَسِيَ شَيْئًا أَوْ وَهِمَ.
يَقُول عَلَى جِهَة الِاعْتِذَار : مَا جَعَلَ اللَّه لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفه.
وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ
يَعْنِي قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَذَلِكَ مَذْكُور فِي سُورَة " الْمُجَادَلَة " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
يَعْنِي قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَذَلِكَ مَذْكُور فِي سُورَة " الْمُجَادَلَة " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ
أَجْمَعَ أَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي زَيْد بْن حَارِثَة.
وَرَوَى الْأَئِمَّة أَنَّ اِبْن عُمَر قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْد بْن حَارِثَة إِلَّا زَيْد بْن مُحَمَّد حَتَّى نَزَلَتْ :" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه " [ الْأَحْزَاب : ٥ ] وَكَانَ زَيْد فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك وَغَيْره مَسْبِيًّا مِنْ الشَّأْم، سَبَتْهُ خَيْل مِنْ تِهَامَة، فَابْتَاعَهُ حَكِيم بْن حِزَام بْن خُوَيْلِد، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَأَقَامَ عِنْده مُدَّة، ثُمَّ جَاءَ عَمّه وَأَبُوهُ يَرْغَبَانِ فِي فِدَائِهِ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ قَبْل الْبَعْث :( خَيِّرَاهُ فَإِنْ اِخْتَارَكُمَا فَهُوَ لَكُمَا دُون فِدَاء ).
فَاخْتَارَ الرِّقّ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُرِّيَّته وَقَوْمه ; فَقَالَ مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ :( يَا مَعْشَر قُرَيْش اِشْهَدُوا أَنَّهُ اِبْنِي يَرِثنِي وَأَرِثهُ ) وَكَانَ يَطُوف عَلَى حِلَق قُرَيْش يُشْهِدهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَضِيَ ذَلِكَ عَمُّهُ وَأَبُوهُ وَانْصَرَفَا.
وَكَانَ أَبُوهُ لَمَّا سُبِيَ يَدُور الشَّأْم وَيَقُول :
فَأُخْبِرَ أَنَّهُ بِمَكَّة ; فَجَاءَ إِلَيْهِ فَهَلَكَ عِنْده.
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ فَخَيَّرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَا وَانْصَرَفَ.
وَسَيَأْتِي مِنْ ذِكْره وَفَضْله وَشَرَفه شِفَاء عِنْد قَوْله :" فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكهَا " [ الْأَحْزَاب : ٣٧ ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقُتِلَ زَيْد بِمُؤْتَةَ مِنْ أَرْض الشَّأْم سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاة، وَقَالَ :( إِنْ قُتِلَ زَيْد فَجَعْفَر فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَر فَعَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة ).
فَقُتِلَ الثَّلَاثَة فِي تِلْكَ الْغَزَاة رِضْوَان اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْيُ زَيْد وَجَعْفَر بَكَى وَقَالَ :( أَخَوَايَ وَمُؤْنِسَايَ وَمُحَدِّثَايَ ).
أَجْمَعَ أَهْل التَّفْسِير عَلَى أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي زَيْد بْن حَارِثَة.
وَرَوَى الْأَئِمَّة أَنَّ اِبْن عُمَر قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْد بْن حَارِثَة إِلَّا زَيْد بْن مُحَمَّد حَتَّى نَزَلَتْ :" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه " [ الْأَحْزَاب : ٥ ] وَكَانَ زَيْد فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك وَغَيْره مَسْبِيًّا مِنْ الشَّأْم، سَبَتْهُ خَيْل مِنْ تِهَامَة، فَابْتَاعَهُ حَكِيم بْن حِزَام بْن خُوَيْلِد، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَأَقَامَ عِنْده مُدَّة، ثُمَّ جَاءَ عَمّه وَأَبُوهُ يَرْغَبَانِ فِي فِدَائِهِ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ قَبْل الْبَعْث :( خَيِّرَاهُ فَإِنْ اِخْتَارَكُمَا فَهُوَ لَكُمَا دُون فِدَاء ).
فَاخْتَارَ الرِّقّ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُرِّيَّته وَقَوْمه ; فَقَالَ مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ :( يَا مَعْشَر قُرَيْش اِشْهَدُوا أَنَّهُ اِبْنِي يَرِثنِي وَأَرِثهُ ) وَكَانَ يَطُوف عَلَى حِلَق قُرَيْش يُشْهِدهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَضِيَ ذَلِكَ عَمُّهُ وَأَبُوهُ وَانْصَرَفَا.
وَكَانَ أَبُوهُ لَمَّا سُبِيَ يَدُور الشَّأْم وَيَقُول :
بَكَيْت عَلَى زَيْد وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلَ | أَحَيّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونه الْأَجَلْ |
فَوَاَللَّهِ لَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِل | أَغَالَك بَعْدِي السَّهْل أَمْ غَالَك الْجَبَلْ |
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدَّهْرَ أَوْبَةٌ | فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي بَجَلْ |
تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْد طُلُوعهَا | وَتَعْرِض ذِكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أَفَلْ |
وَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْيَاح هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ | فَيَا طُول مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ |
سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيس فِي الْأَرْض جَاهِدًا | وَلَا أَسْأَم التَّطْوَاف أَوْ تَسْأَم الْإِبِلْ |
حَيَاتِيَ أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي | فَكُلّ اِمْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ |
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ فَخَيَّرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرْنَا وَانْصَرَفَ.
وَسَيَأْتِي مِنْ ذِكْره وَفَضْله وَشَرَفه شِفَاء عِنْد قَوْله :" فَلَمَّا قَضَى زَيْد مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكهَا " [ الْأَحْزَاب : ٣٧ ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقُتِلَ زَيْد بِمُؤْتَةَ مِنْ أَرْض الشَّأْم سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاة، وَقَالَ :( إِنْ قُتِلَ زَيْد فَجَعْفَر فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَر فَعَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة ).
فَقُتِلَ الثَّلَاثَة فِي تِلْكَ الْغَزَاة رِضْوَان اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْيُ زَيْد وَجَعْفَر بَكَى وَقَالَ :( أَخَوَايَ وَمُؤْنِسَايَ وَمُحَدِّثَايَ ).
الْأَدْعِيَاء جَمْع الدَّعِيّ وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى اِبْنًا لِغَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يَدَّعِي غَيْر أَبِيهِ وَالْمَصْدَر الدِّعْوَة بِالْكَسْرِ فَأَمَرَ تَعَالَى بِدُعَاءِ الْأَدْعِيَاء إِلَى آبَائِهِمْ لِلصُّلْبِ فَمَنْ جُهِلَ ذَلِكَ فِيهِ وَلَمْ تَشْتَهِر أَنْسَابهمْ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّين وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ أَنَّ أَبَا بَكْرَة قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ أَنَا مِمَّنْ لَا يُعْرَف أَبُوهُ فَأَنَا أَخُوكُمْ فِي الدِّين وَمَوْلَاكُمْ.
قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ : وَلَوْ عَلِمَ - وَاَللَّه - أَنَّ أَبَاهُ حِمَار لَانْتَمَى إِلَيْهِ وَرِجَال الْحَدِيث يَقُولُونَ فِي أَبِي بَكْرَة نُفَيْع بْن الْحَارِث.
رُوِيَ فِي الصَّحِيح عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَأَبِي بَكْرَة كِلَاهُمَا قَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَنْ اِدَّعَى إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ غَيْر أَبِيهِ فَالْجَنَّة عَلَيْهِ حَرَام ).
وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لَيْسَ مِنْ رَجُل ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمهُ إِلَّا كَفَرَ ).
قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ : وَلَوْ عَلِمَ - وَاَللَّه - أَنَّ أَبَاهُ حِمَار لَانْتَمَى إِلَيْهِ وَرِجَال الْحَدِيث يَقُولُونَ فِي أَبِي بَكْرَة نُفَيْع بْن الْحَارِث.
رُوِيَ فِي الصَّحِيح عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَأَبِي بَكْرَة كِلَاهُمَا قَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَنْ اِدَّعَى إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَم أَنَّهُ غَيْر أَبِيهِ فَالْجَنَّة عَلَيْهِ حَرَام ).
وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لَيْسَ مِنْ رَجُل ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمهُ إِلَّا كَفَرَ ).
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ
" بِأَفْوَاهِكُمْ " تَأْكِيد لِبُطْلَانِ الْقَوْل ; أَيْ أَنَّهُ قَوْل لَا حَقِيقَة لَهُ فِي الْوُجُود، إِنَّمَا هُوَ قَوْل لِسَانِيّ فَقَطْ.
وَهَذَا كَمَا تَقُول : أَنَا أَمْشِي إِلَيْك عَلَى قَدَم ; فَإِنَّمَا تُرِيد بِذَلِكَ الْمَبَرَّة.
وَهَذَا كَثِير.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع.
" بِأَفْوَاهِكُمْ " تَأْكِيد لِبُطْلَانِ الْقَوْل ; أَيْ أَنَّهُ قَوْل لَا حَقِيقَة لَهُ فِي الْوُجُود، إِنَّمَا هُوَ قَوْل لِسَانِيّ فَقَطْ.
وَهَذَا كَمَا تَقُول : أَنَا أَمْشِي إِلَيْك عَلَى قَدَم ; فَإِنَّمَا تُرِيد بِذَلِكَ الْمَبَرَّة.
وَهَذَا كَثِير.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ
" الْحَقّ " نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف ; أَيْ يَقُول الْقَوْل الْحَقّ.
" الْحَقّ " نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف ; أَيْ يَقُول الْقَوْل الْحَقّ.
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
مَعْنَاهُ يُبَيِّن ; فَهُوَ يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْف جَرّ.
مَعْنَاهُ يُبَيِّن ; فَهُوَ يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْف جَرّ.
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ
قَوْله تَعَالَى :" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " نَزَلَتْ فِي زَيْد بْن حَارِثَة، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَفِي قَوْل اِبْن عُمَر : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْد بْن حَارِثَة إِلَّا زَيْد بْن مُحَمَّد، دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّبَنِّيَ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، يُتَوَارَث بِهِ وَيُتَنَاصَر، إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّه ذَلِكَ بِقَوْلِهِ.
" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه " أَيْ أَعْدَلُ.
فَرَفَعَ اللَّه حُكْم التَّبَنِّي وَمَنَعَ مِنْ إِطْلَاق لَفْظه، وَأَرْشَدَ بِقَوْلِهِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَعْدَل أَنْ يُنْسَب الرَّجُل إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا ; فَيُقَال : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا أَعْجَبَهُ مِنْ الرَّجُل جَلَده وَظَرْفُهُ ضَمَّهُ إِلَى نَفْسه، وَجَعَلَ لَهُ نَصِيب الذَّكَر مِنْ أَوْلَاده مِنْ مِيرَاثه، وَكَانَ يُنْسَب إِلَيْهِ فَيُقَال فُلَان بْن فُلَان.
وَقَالَ النَّحَّاس : هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّبَنِّي، وَهُوَ مِنْ نَسْخ السُّنَّة بِالْقُرْآنِ ; فَأَمَرَ أَنْ يَدْعُوا مَنْ دَعَوْا إِلَى أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَب مَعْرُوف نَسَبُوهُ إِلَى وَلَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاء مَعْرُوف قَالَ لَهُ يَا أَخِي ; يَعْنِي فِي الدِّين، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة " [ الْحُجُرَات : ١٠ ].
قَوْله تَعَالَى :" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ " نَزَلَتْ فِي زَيْد بْن حَارِثَة، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَفِي قَوْل اِبْن عُمَر : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْد بْن حَارِثَة إِلَّا زَيْد بْن مُحَمَّد، دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّبَنِّيَ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، يُتَوَارَث بِهِ وَيُتَنَاصَر، إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّه ذَلِكَ بِقَوْلِهِ.
" اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْد اللَّه " أَيْ أَعْدَلُ.
فَرَفَعَ اللَّه حُكْم التَّبَنِّي وَمَنَعَ مِنْ إِطْلَاق لَفْظه، وَأَرْشَدَ بِقَوْلِهِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَعْدَل أَنْ يُنْسَب الرَّجُل إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا ; فَيُقَال : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا أَعْجَبَهُ مِنْ الرَّجُل جَلَده وَظَرْفُهُ ضَمَّهُ إِلَى نَفْسه، وَجَعَلَ لَهُ نَصِيب الذَّكَر مِنْ أَوْلَاده مِنْ مِيرَاثه، وَكَانَ يُنْسَب إِلَيْهِ فَيُقَال فُلَان بْن فُلَان.
وَقَالَ النَّحَّاس : هَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّبَنِّي، وَهُوَ مِنْ نَسْخ السُّنَّة بِالْقُرْآنِ ; فَأَمَرَ أَنْ يَدْعُوا مَنْ دَعَوْا إِلَى أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَب مَعْرُوف نَسَبُوهُ إِلَى وَلَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاء مَعْرُوف قَالَ لَهُ يَا أَخِي ; يَعْنِي فِي الدِّين، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة " [ الْحُجُرَات : ١٠ ].
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
لَوْ نَسَبَهُ إِنْسَان إِلَى أَبِيهِ مِنْ التَّبَنِّي فَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَة الْخَطَأ، وَهُوَ أَنْ يَسْبِق لِسَانه إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم وَلَا مُؤَاخَذَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ " وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَوْت رَجُلًا إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ فَلَيْسَ عَلَيْك بَأْس ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَلَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ اِسْم التَّبَنِّي كَالْحَالِ فِي الْمِقْدَاد بْن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ نَسَب التَّبَنِّي، فَلَا يَكَاد يُعْرَف إِلَّا بِالْمِقْدَادِ بْن الْأَسْوَد ; فَإِنَّ الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوث كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ فِي الْجَاهِلِيَّة وَعُرِفَ بِهِ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة قَالَ الْمِقْدَاد : أَنَا اِبْن عَمْرو ; وَمَعَ ذَلِكَ فَبَقِيَ الْإِطْلَاق عَلَيْهِ.
وَلَمْ يُسْمَع فِيمَنْ مَضَى مَنْ عَصَّى مُطْلِق ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا.
وَكَذَلِكَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة، كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَة.
وَغَيْر هَؤُلَاءِ مِمَّنْ تُبُنِّيَ وَانْتُسِبَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَشُهِرَ بِذَلِكَ وَغُلِبَ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَال فِي زَيْد بْن حَارِثَة ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُقَال فِيهِ زَيْد بْن مُحَمَّد، فَإِنْ قَالَهُ أَحَد مُتَعَمِّدًا عَصَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ " أَيْ فَعَلَيْكُمْ الْجُنَاح.
وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى :" وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِيمَا أَخْطَأْتُمْ " مُجْمَل ; أَيْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِي شَيْء أَخْطَأْتُمْ، وَكَانَتْ فُتْيَا عَطَاء وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء.
عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ رَجُل أَلَّا يُفَارِق غَرِيمه حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقّه، فَأَخَذَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنَّهُ جَيِّد مِنْ دَنَانِير فَوَجَدَهَا زُيُوفًا أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ عِنْده إِذَا حَلَفَ أَلَّا يُسَلِّم عَلَى فُلَان فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَث ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّد ذَلِكَ.
و " مَا " فِي مَوْضِع خَفْض رَدًّا عَلَى " مَا " الَّتِي مَعَ " أَخْطَأْتُمْ ".
وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ ; وَالتَّقْدِير : وَلَكِنَّ الَّذِي تُؤَاخَذُونَ بِهِ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ.
قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : مَنْ نَسَبَ رَجُلًا إِلَى غَيْر أَبِيهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ، خَطَأ فَذَلِكَ مِنْ الَّذِي رَفَعَ اللَّه فِيهِ الْجُنَاح.
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَقُول لَهُ فِي الْمُخَاطَبَة : يَا بُنَيّ ; عَلَى غَيْر تَبَنٍّ.
لَوْ نَسَبَهُ إِنْسَان إِلَى أَبِيهِ مِنْ التَّبَنِّي فَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَة الْخَطَأ، وَهُوَ أَنْ يَسْبِق لِسَانه إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم وَلَا مُؤَاخَذَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ " وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَوْت رَجُلًا إِلَى غَيْر أَبِيهِ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ فَلَيْسَ عَلَيْك بَأْس ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَلَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ اِسْم التَّبَنِّي كَالْحَالِ فِي الْمِقْدَاد بْن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ نَسَب التَّبَنِّي، فَلَا يَكَاد يُعْرَف إِلَّا بِالْمِقْدَادِ بْن الْأَسْوَد ; فَإِنَّ الْأَسْوَد بْن عَبْد يَغُوث كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ فِي الْجَاهِلِيَّة وَعُرِفَ بِهِ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة قَالَ الْمِقْدَاد : أَنَا اِبْن عَمْرو ; وَمَعَ ذَلِكَ فَبَقِيَ الْإِطْلَاق عَلَيْهِ.
وَلَمْ يُسْمَع فِيمَنْ مَضَى مَنْ عَصَّى مُطْلِق ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا.
وَكَذَلِكَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة، كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَة.
وَغَيْر هَؤُلَاءِ مِمَّنْ تُبُنِّيَ وَانْتُسِبَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَشُهِرَ بِذَلِكَ وَغُلِبَ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَال فِي زَيْد بْن حَارِثَة ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُقَال فِيهِ زَيْد بْن مُحَمَّد، فَإِنْ قَالَهُ أَحَد مُتَعَمِّدًا عَصَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ " أَيْ فَعَلَيْكُمْ الْجُنَاح.
وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى :" وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِيمَا أَخْطَأْتُمْ " مُجْمَل ; أَيْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح فِي شَيْء أَخْطَأْتُمْ، وَكَانَتْ فُتْيَا عَطَاء وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء.
عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ رَجُل أَلَّا يُفَارِق غَرِيمه حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقّه، فَأَخَذَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنَّهُ جَيِّد مِنْ دَنَانِير فَوَجَدَهَا زُيُوفًا أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ عِنْده إِذَا حَلَفَ أَلَّا يُسَلِّم عَلَى فُلَان فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَث ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّد ذَلِكَ.
و " مَا " فِي مَوْضِع خَفْض رَدًّا عَلَى " مَا " الَّتِي مَعَ " أَخْطَأْتُمْ ".
وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى إِضْمَار مُبْتَدَإٍ ; وَالتَّقْدِير : وَلَكِنَّ الَّذِي تُؤَاخَذُونَ بِهِ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكُمْ.
قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : مَنْ نَسَبَ رَجُلًا إِلَى غَيْر أَبِيهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ، خَطَأ فَذَلِكَ مِنْ الَّذِي رَفَعَ اللَّه فِيهِ الْجُنَاح.
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَقُول لَهُ فِي الْمُخَاطَبَة : يَا بُنَيّ ; عَلَى غَيْر تَبَنٍّ.
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
أَيْ " غَفُورًا " لِلْعَمْدِ،
أَيْ " غَفُورًا " لِلْعَمْدِ،
رَحِيمًا
بِرَفْعِ إِثْم الْخَطَأ.
بِرَفْعِ إِثْم الْخَطَأ.
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
هَذِهِ الْآيَة أَزَالَ اللَّه تَعَالَى بِهَا أَحْكَامًا كَانَتْ فِي صَدْر الْإِسْلَام ; مِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَيِّت عَلَيْهِ دَيْن، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ الْفُتُوح قَالَ :( أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْن فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ.
وَفِيهِمَا أَيْضًا ( فَأَيّكُمْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلَاهُ ).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَانْقَلَبَتْ الْآن الْحَال بِالذُّنُوبِ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَة فِيهِ، وَإِنْ تَرَكُوا ضَيَاعًا أُسْلِمُوا إِلَيْهِ ; فَهَذَا تَفْسِير الْوَلَايَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْآيَة بِتَفْسِيرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْبِيهه ; ( وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس ).
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْعَارِفِينَ : هُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسهمْ ; لِأَنَّ أَنْفُسهمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهَلَاك، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام :( أَنَا آخِذ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّار وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا تَقَحُّم الْفَرَاش ).
قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن فِي مَعْنَى الْآيَة وَتَفْسِيرهَا، وَالْحَدِيث الَّذِي ذُكِرَ أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَل أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُل اِسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَتْ الدَّوَابّ وَالْفَرَاش يَقَعْنَ فِيهِ وَأَنَا آخِذ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ ).
وَعَنْ جَابِر مِثْله ; وَقَالَ :( وَأَنْتُمْ تُفْلِتُونَ مِنْ يَدَيَّ ).
قَالَ الْعُلَمَاء الْحُجْزَة لِلسَّرَاوِيلِ، وَالْمَعْقِد لِلْإِزَارِ ; فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُل إِمْسَاك مَنْ يَخَاف سُقُوطه أَخَذَ بِذَلِكَ الْمَوْضِع مِنْهُ.
وَهَذَا مَثَل لِاجْتِهَادِ نَبِيّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي نَجَاتنَا، وَحِرْصه عَلَى تَخَلُّصنَا مِنْ الْهَلَكَات الَّتِي بَيْن أَيْدِينَا ; فَهُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسنَا ; وَلِجَهْلِنَا بِقَدْرِ ذَلِكَ وَغَلَبَةِ شَهَوَاتنَا عَلَيْنَا وَظَفَرِ عَدُوّنَا اللَّعِين بِنَاصِرِنَا أَحْقَر مِنْ الْفِرَاش وَأَذَلّ مِنْ الْفَرَاش، وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم ! وَقِيلَ : أَوْلَى بِهِمْ أَيْ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ وَدَعَتْ النَّفْس إِلَى غَيْره كَانَ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى.
وَقِيلَ أَوْلَى بِهِمْ أَيْ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَحْكُم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيُنَفَّذ حُكْمه فِي أَنْفُسهمْ ; أَيْ فِيمَا يَحْكُمُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يُخَالِف حُكْمه.
قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : يَجِب عَلَى الْإِمَام أَنْ يَقْضِيَ مِنْ بَيْت الْمَال دَيْن الْفُقَرَاء اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ :( فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ ).
هَذِهِ الْآيَة أَزَالَ اللَّه تَعَالَى بِهَا أَحْكَامًا كَانَتْ فِي صَدْر الْإِسْلَام ; مِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَيِّت عَلَيْهِ دَيْن، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ الْفُتُوح قَالَ :( أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْن فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ.
وَفِيهِمَا أَيْضًا ( فَأَيّكُمْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلَاهُ ).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَانْقَلَبَتْ الْآن الْحَال بِالذُّنُوبِ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَة فِيهِ، وَإِنْ تَرَكُوا ضَيَاعًا أُسْلِمُوا إِلَيْهِ ; فَهَذَا تَفْسِير الْوَلَايَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْآيَة بِتَفْسِيرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْبِيهه ; ( وَلَا عِطْر بَعْد عَرُوس ).
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْعَارِفِينَ : هُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسهمْ ; لِأَنَّ أَنْفُسهمْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهَلَاك، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام :( أَنَا آخِذ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّار وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا تَقَحُّم الْفَرَاش ).
قُلْت : هَذَا قَوْل حَسَن فِي مَعْنَى الْآيَة وَتَفْسِيرهَا، وَالْحَدِيث الَّذِي ذُكِرَ أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَل أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُل اِسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَتْ الدَّوَابّ وَالْفَرَاش يَقَعْنَ فِيهِ وَأَنَا آخِذ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ ).
وَعَنْ جَابِر مِثْله ; وَقَالَ :( وَأَنْتُمْ تُفْلِتُونَ مِنْ يَدَيَّ ).
قَالَ الْعُلَمَاء الْحُجْزَة لِلسَّرَاوِيلِ، وَالْمَعْقِد لِلْإِزَارِ ; فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُل إِمْسَاك مَنْ يَخَاف سُقُوطه أَخَذَ بِذَلِكَ الْمَوْضِع مِنْهُ.
وَهَذَا مَثَل لِاجْتِهَادِ نَبِيّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي نَجَاتنَا، وَحِرْصه عَلَى تَخَلُّصنَا مِنْ الْهَلَكَات الَّتِي بَيْن أَيْدِينَا ; فَهُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسنَا ; وَلِجَهْلِنَا بِقَدْرِ ذَلِكَ وَغَلَبَةِ شَهَوَاتنَا عَلَيْنَا وَظَفَرِ عَدُوّنَا اللَّعِين بِنَاصِرِنَا أَحْقَر مِنْ الْفِرَاش وَأَذَلّ مِنْ الْفَرَاش، وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم ! وَقِيلَ : أَوْلَى بِهِمْ أَيْ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ وَدَعَتْ النَّفْس إِلَى غَيْره كَانَ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى.
وَقِيلَ أَوْلَى بِهِمْ أَيْ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَحْكُم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيُنَفَّذ حُكْمه فِي أَنْفُسهمْ ; أَيْ فِيمَا يَحْكُمُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يُخَالِف حُكْمه.
قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : يَجِب عَلَى الْإِمَام أَنْ يَقْضِيَ مِنْ بَيْت الْمَال دَيْن الْفُقَرَاء اِقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ :( فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ ).
وَالضَّيَاع ( بِفَتْحِ الضَّاد ) مَصْدَر ضَاعَ، ثُمَّ جُعِلَ اِسْمًا لِكُلِّ مَا هُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَضِيع مِنْ عِيَال وَبَنِينَ لَا كَافِل لَهُمْ، وَمَال لَا قَيِّم لَهُ.
وَسُمِّيَتْ الْأَرْض ضَيْعَة لِأَنَّهَا مُعَرَّضَة لِلضَّيَاعِ، وَتُجْمَع ضِيَاعًا بِكَسْرِ الضَّاد.
وَسُمِّيَتْ الْأَرْض ضَيْعَة لِأَنَّهَا مُعَرَّضَة لِلضَّيَاعِ، وَتُجْمَع ضِيَاعًا بِكَسْرِ الضَّاد.
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
شَرَّفَ اللَّه تَعَالَى أَزْوَاج نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ فِي وُجُوب التَّعْظِيم وَالْمَبَرَّة وَالْإِجْلَال وَحُرْمَة النِّكَاح عَلَى الرِّجَال، وَحَجْبهنَّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُنَّ بِخِلَافِ الْأُمَّهَات.
وَقِيلَ : لَمَّا كَانَتْ شَفَقَتهنَّ عَلَيْهِمْ كَشَفَقَةِ الْأُمَّهَات أُنْزِلْنَ مَنْزِلَة الْأُمَّهَات، ثُمَّ هَذِهِ الْأُمُومَة لَا تُوجِب مِيرَاثًا كَأُمُومَةِ التَّبَنِّي.
وَجَازَ تَزْوِيج بَنَاتهنَّ، وَلَا يُجْعَلْنَ أَخَوَات لِلنَّاسِ.
وَسَيَأْتِي عَدَد أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَة التَّخْيِير إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ هُنَّ أُمَّهَات الرِّجَال وَالنِّسَاء أَمْ أُمَّهَات الرِّجَال خَاصَّة ; عَلَى قَوْلَيْنِ : فَرَوَى الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّة ; فَقَالَتْ لَهَا : لَسْت لَك بِأُمٍّ، إِنَّمَا أَنَا أُمّ رِجَالكُمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح.
قُلْت : لَا فَائِدَة فِي اِخْتِصَاص الْحَصْر فِي الْإِبَاحَة لِلرِّجَالِ دُون النِّسَاء، وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الرِّجَال وَالنِّسَاء ; تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء.
يَدُلّ عَلَيْهِ صَدْر الْآيَة :" النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ "، وَهَذَا يَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء ضَرُورَة.
وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر ; فَيَكُون قَوْله :" وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ " عَائِدًا إِلَى الْجَمِيع.
ثُمَّ إِنَّ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب " وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ ".
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ أَنْفُسهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ ".
وَهَذَا كُلّه يُوهِن مَا رَوَاهُ مَسْرُوق إِنْ صَحَّ مِنْ جِهَة التَّرْجِيح، وَإِنْ لَمْ يَصِحّ فَيَسْقُط الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي التَّخْصِيص، وَبَقِينَا عَلَى الْأَصْل الَّذِي هُوَ الْعُمُوم الَّذِي يَسْبِق إِلَى الْفُهُوم.
وَاَللَّه أَعْلَمُ.
اُخْتُلِفَ فِي كَوْنهنَّ كَالْأُمَّهَاتِ فِي الْمَحْرَم وَإِبَاحَة النَّظَر ; عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : هُنَّ مَحْرَمٌ، لَا يُحَرَّم النَّظَر إِلَيْهِنَّ.
الثَّانِي : أَنَّ النَّظَر إِلَيْهِنَّ مُحَرَّم، لِأَنَّ تَحْرِيم نِكَاحهنَّ إِنَّمَا كَانَ حِفْظًا لِحَقِّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِ حَقِّهِ تَحْرِيمُ النَّظَر إِلَيْهِنَّ ; وَلِأَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ دُخُول رَجُل عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتهَا أَسْمَاء أَنْ تُرْضِعهُ لِيَصِيرَ اِبْنًا لِأُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعَة، فَيَصِير مَحْرَمًا يَسْتَبِيح النَّظَر.
وَأَمَّا اللَّاتِي طَلَّقَهُنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاته فَقَدْ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوت هَذِهِ الْحُرْمَة لَهُنَّ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : ثَبَتَتْ لَهُنَّ هَذِهِ الْحُرْمَة تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شَرَّفَ اللَّه تَعَالَى أَزْوَاج نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ فِي وُجُوب التَّعْظِيم وَالْمَبَرَّة وَالْإِجْلَال وَحُرْمَة النِّكَاح عَلَى الرِّجَال، وَحَجْبهنَّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُنَّ بِخِلَافِ الْأُمَّهَات.
وَقِيلَ : لَمَّا كَانَتْ شَفَقَتهنَّ عَلَيْهِمْ كَشَفَقَةِ الْأُمَّهَات أُنْزِلْنَ مَنْزِلَة الْأُمَّهَات، ثُمَّ هَذِهِ الْأُمُومَة لَا تُوجِب مِيرَاثًا كَأُمُومَةِ التَّبَنِّي.
وَجَازَ تَزْوِيج بَنَاتهنَّ، وَلَا يُجْعَلْنَ أَخَوَات لِلنَّاسِ.
وَسَيَأْتِي عَدَد أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَة التَّخْيِير إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ هُنَّ أُمَّهَات الرِّجَال وَالنِّسَاء أَمْ أُمَّهَات الرِّجَال خَاصَّة ; عَلَى قَوْلَيْنِ : فَرَوَى الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّة ; فَقَالَتْ لَهَا : لَسْت لَك بِأُمٍّ، إِنَّمَا أَنَا أُمّ رِجَالكُمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح.
قُلْت : لَا فَائِدَة فِي اِخْتِصَاص الْحَصْر فِي الْإِبَاحَة لِلرِّجَالِ دُون النِّسَاء، وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الرِّجَال وَالنِّسَاء ; تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء.
يَدُلّ عَلَيْهِ صَدْر الْآيَة :" النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ "، وَهَذَا يَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء ضَرُورَة.
وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر ; فَيَكُون قَوْله :" وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ " عَائِدًا إِلَى الْجَمِيع.
ثُمَّ إِنَّ فِي مُصْحَف أُبَيّ بْن كَعْب " وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ ".
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ أَنْفُسهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتهمْ ".
وَهَذَا كُلّه يُوهِن مَا رَوَاهُ مَسْرُوق إِنْ صَحَّ مِنْ جِهَة التَّرْجِيح، وَإِنْ لَمْ يَصِحّ فَيَسْقُط الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي التَّخْصِيص، وَبَقِينَا عَلَى الْأَصْل الَّذِي هُوَ الْعُمُوم الَّذِي يَسْبِق إِلَى الْفُهُوم.
وَاَللَّه أَعْلَمُ.
اُخْتُلِفَ فِي كَوْنهنَّ كَالْأُمَّهَاتِ فِي الْمَحْرَم وَإِبَاحَة النَّظَر ; عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : هُنَّ مَحْرَمٌ، لَا يُحَرَّم النَّظَر إِلَيْهِنَّ.
الثَّانِي : أَنَّ النَّظَر إِلَيْهِنَّ مُحَرَّم، لِأَنَّ تَحْرِيم نِكَاحهنَّ إِنَّمَا كَانَ حِفْظًا لِحَقِّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِ حَقِّهِ تَحْرِيمُ النَّظَر إِلَيْهِنَّ ; وَلِأَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ دُخُول رَجُل عَلَيْهَا أَمَرَتْ أُخْتهَا أَسْمَاء أَنْ تُرْضِعهُ لِيَصِيرَ اِبْنًا لِأُخْتِهَا مِنْ الرَّضَاعَة، فَيَصِير مَحْرَمًا يَسْتَبِيح النَّظَر.
وَأَمَّا اللَّاتِي طَلَّقَهُنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاته فَقَدْ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوت هَذِهِ الْحُرْمَة لَهُنَّ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : ثَبَتَتْ لَهُنَّ هَذِهِ الْحُرْمَة تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّانِي : لَا يَثْبُت لَهُنَّ ذَلِكَ، بَلْ هُنَّ كَسَائِرِ النِّسَاء ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثْبَتَ عِصْمَتَهُنَّ، وَقَالَ :( أَزْوَاجِي فِي الدُّنْيَا هُنَّ أَزْوَاجِي فِي الْآخِرَة ).
الثَّالِث : مَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُنَّ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا وَحُرِّمَ نِكَاحهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ; حِفْظًا لِحُرْمَتِهِ وَحِرَاسَة لِخَلْوَتِهِ.
وَمَنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا لَمْ تَثْبُت لَهَا هَذِهِ الْحُرْمَة ; وَقَدْ هَمَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِرَجْمِ اِمْرَأَة فَارَقَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ : لِمَ هَذَا ! وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَابًا وَلَا سُمِّيت أَمّ الْمُؤْمِنِينَ ; فَكَفَّ عَنْهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ قَوْم : لَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : ٤٠ ].
وَلَكِنْ يُقَال : مِثْل الْأَب لِلْمُؤْمِنِينَ ; كَمَا قَالَ :( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِد أُعَلِّمكُمْ... ) الْحَدِيث.
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّهُ أَب لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فِي الْحُرْمَة، وَقَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : ٤٠ ] أَيْ فِي النَّسَب.
وَسَيَأْتِي.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ أَنْفُسهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ وَأَزْوَاجه ".
وَسَمِعَ عُمَر هَذِهِ الْقِرَاءَة فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ : حُكْمهَا يَا غُلَام ؟ فَقَالَ : إِنَّهَا فِي مُصْحَف أُبَيّ ; فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ أُبَيّ : إِنَّهُ كَانَ يُلْهِينِي الْقُرْآن وَيُلْهِيك الصَّفْق بِالْأَسْوَاقِ ؟ وَأَغْلَظَ لِعُمَرَ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْل لُوط عَلَيْهِ السَّلَام " هَؤُلَاءِ بَنَاتِي " [ الْحِجْر : ٧١ ] : إِنَّمَا أَرَادَ الْمُؤْمِنَات ; أَيْ تَزَوَّجُوهُنَّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالَ قَوْم : لَا يُقَال بَنَاته أَخَوَات الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَخْوَالهنَّ أَخْوَال الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَاتهمْ.
قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تَزَوَّجَ الزُّبَيْر أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَهِيَ أُخْت عَائِشَة، وَلَمْ يَقُلْ هِيَ خَالَة الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَطْلَقَ قَوْم هَذَا وَقَالُوا : مُعَاوِيَة خَال الْمُؤْمِنِينَ ; يَعْنِي فِي الْحُرْمَة لَا فِي النَّسَب.
الثَّالِث : مَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُنَّ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا وَحُرِّمَ نِكَاحهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ; حِفْظًا لِحُرْمَتِهِ وَحِرَاسَة لِخَلْوَتِهِ.
وَمَنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا لَمْ تَثْبُت لَهَا هَذِهِ الْحُرْمَة ; وَقَدْ هَمَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِرَجْمِ اِمْرَأَة فَارَقَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ : لِمَ هَذَا ! وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَابًا وَلَا سُمِّيت أَمّ الْمُؤْمِنِينَ ; فَكَفَّ عَنْهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ قَوْم : لَا يَجُوز أَنْ يُسَمَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : ٤٠ ].
وَلَكِنْ يُقَال : مِثْل الْأَب لِلْمُؤْمِنِينَ ; كَمَا قَالَ :( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِد أُعَلِّمكُمْ... ) الْحَدِيث.
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّهُ أَب لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فِي الْحُرْمَة، وَقَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالكُمْ " [ الْأَحْزَاب : ٤٠ ] أَيْ فِي النَّسَب.
وَسَيَأْتِي.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ أَنْفُسهمْ وَهُوَ أَب لَهُمْ وَأَزْوَاجه ".
وَسَمِعَ عُمَر هَذِهِ الْقِرَاءَة فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ : حُكْمهَا يَا غُلَام ؟ فَقَالَ : إِنَّهَا فِي مُصْحَف أُبَيّ ; فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ أُبَيّ : إِنَّهُ كَانَ يُلْهِينِي الْقُرْآن وَيُلْهِيك الصَّفْق بِالْأَسْوَاقِ ؟ وَأَغْلَظَ لِعُمَرَ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْل لُوط عَلَيْهِ السَّلَام " هَؤُلَاءِ بَنَاتِي " [ الْحِجْر : ٧١ ] : إِنَّمَا أَرَادَ الْمُؤْمِنَات ; أَيْ تَزَوَّجُوهُنَّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالَ قَوْم : لَا يُقَال بَنَاته أَخَوَات الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَخْوَالهنَّ أَخْوَال الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَاتهمْ.
قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : تَزَوَّجَ الزُّبَيْر أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَهِيَ أُخْت عَائِشَة، وَلَمْ يَقُلْ هِيَ خَالَة الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَطْلَقَ قَوْم هَذَا وَقَالُوا : مُعَاوِيَة خَال الْمُؤْمِنِينَ ; يَعْنِي فِي الْحُرْمَة لَا فِي النَّسَب.
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
قِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَنْصَار، وَبِالْمُهَاجِرِينَ قُرَيْشًا.
وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ نَاسِخ لِلتَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ.
حَكَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : كَانَ نَزَلَ فِي سُورَة الْأَنْفَال " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتهمْ مِنْ شَيْء يُهَاجِرُوا " [ الْأَنْفَال : ٧٢ ] فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ ; فَكَانَ لَا يَرِث الْأَعْرَابِيّ الْمُسْلِم مِنْ قَرِيبه الْمُسْلِم الْمُهَاجِر شَيْئًا حَتَّى يُهَاجِر، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَة بِقَوْلِهِ :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ".
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ نَاسِخ لِلتَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْمُؤَاخَاة فِي الدِّين ; رَوَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْر :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه " وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَر قُرَيْش لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَة قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَال لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَار نِعْمَ الْإِخْوَان فَآخَيْنَاهُمْ فَأَوْرَثُونَا وَأَوْرَثْنَاهُمْ ; فَآخَى أَبُو بَكْر خَارِجَة بْن زَيْد، وَآخَيْت أَنَا كَعْب بْن مَالِك، فَجِئْت فَوَجَدْت السِّلَاح قَدْ أَثْقَلَهُ ; فَوَاَللَّهِ لَقَدْ مَاتَ عَنْ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة فَرَجَعْنَا إِلَى مُوَارِثِنَا.
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْن الزُّبَيْر وَبَيْن كَعْب بْن مَالِك، فَارْتُثَّ كَعْب يَوْم أُحُد فَجَاءَ الزُّبَيْر يَقُودهُ بِزِمَامِ رَاحِلَته ; فَلَوْ مَاتَ يَوْمئِذٍ كَعْب عَنْ الضِّحّ وَالرِّيح لَوَرِثَهُ الزُّبَيْر، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه ".
فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْقَرَابَة أَوْلَى مِنْ الْحِلْف، فَتُرِكَتْ الْوِرَاثَة بِالْحِلْفِ وَوَرَّثُوا بِالْقَرَابَةِ.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْفَال " الْكَلَام فِي تَوْرِيث ذَوِي الْأَرْحَام.
وَقَوْله :" فِي كِتَاب اللَّه " يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْقُرْآن، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي قَضَى فِيهِ أَحْوَال خَلْقه.
و " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " مُتَعَلِّق ب " أَوْلَى " لَا بِقَوْلِهِ :" وَأُولُو الْأَرْحَام " بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِب تَخْصِيصًا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا خِلَاف فِي عُمُومهَا، وَهَذَا حَلّ إِشْكَالهَا ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
النَّحَّاس :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ " يَجُوز أَنْ يَتَعَلَّق " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " ب " أُولُو " فَيَكُون التَّقْدِير : وَأُولُو الْأَرْحَام مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ : وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه إِلَّا مَا يَجُوز لِأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْعَيْنَ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ.
وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ.
قِيلَ : إِنَّهُ أَرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَنْصَار، وَبِالْمُهَاجِرِينَ قُرَيْشًا.
وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ نَاسِخ لِلتَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ.
حَكَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : كَانَ نَزَلَ فِي سُورَة الْأَنْفَال " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتهمْ مِنْ شَيْء يُهَاجِرُوا " [ الْأَنْفَال : ٧٢ ] فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ ; فَكَانَ لَا يَرِث الْأَعْرَابِيّ الْمُسْلِم مِنْ قَرِيبه الْمُسْلِم الْمُهَاجِر شَيْئًا حَتَّى يُهَاجِر، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَة بِقَوْلِهِ :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ".
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ نَاسِخ لِلتَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْمُؤَاخَاة فِي الدِّين ; رَوَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْر :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه " وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَر قُرَيْش لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَة قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَال لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَار نِعْمَ الْإِخْوَان فَآخَيْنَاهُمْ فَأَوْرَثُونَا وَأَوْرَثْنَاهُمْ ; فَآخَى أَبُو بَكْر خَارِجَة بْن زَيْد، وَآخَيْت أَنَا كَعْب بْن مَالِك، فَجِئْت فَوَجَدْت السِّلَاح قَدْ أَثْقَلَهُ ; فَوَاَللَّهِ لَقَدْ مَاتَ عَنْ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة فَرَجَعْنَا إِلَى مُوَارِثِنَا.
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْن الزُّبَيْر وَبَيْن كَعْب بْن مَالِك، فَارْتُثَّ كَعْب يَوْم أُحُد فَجَاءَ الزُّبَيْر يَقُودهُ بِزِمَامِ رَاحِلَته ; فَلَوْ مَاتَ يَوْمئِذٍ كَعْب عَنْ الضِّحّ وَالرِّيح لَوَرِثَهُ الزُّبَيْر، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه ".
فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْقَرَابَة أَوْلَى مِنْ الْحِلْف، فَتُرِكَتْ الْوِرَاثَة بِالْحِلْفِ وَوَرَّثُوا بِالْقَرَابَةِ.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْفَال " الْكَلَام فِي تَوْرِيث ذَوِي الْأَرْحَام.
وَقَوْله :" فِي كِتَاب اللَّه " يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد الْقُرْآن، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي قَضَى فِيهِ أَحْوَال خَلْقه.
و " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " مُتَعَلِّق ب " أَوْلَى " لَا بِقَوْلِهِ :" وَأُولُو الْأَرْحَام " بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِب تَخْصِيصًا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا خِلَاف فِي عُمُومهَا، وَهَذَا حَلّ إِشْكَالهَا ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
النَّحَّاس :" وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ " يَجُوز أَنْ يَتَعَلَّق " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " ب " أُولُو " فَيَكُون التَّقْدِير : وَأُولُو الْأَرْحَام مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ : وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب اللَّه إِلَّا مَا يَجُوز لِأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْعَيْنَ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ.
وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا
يُرِيد الْإِحْسَان فِي الْحَيَاة، وَالْوَصِيَّة عِنْد الْمَوْت ; أَيْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِز ; قَالَهُ قَتَادَة وَالْحَسَن وَعَطَاء.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة، نَزَلَتْ فِي إِجَازَة الْوَصِيَّة لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيّ ; أَيْ يَفْعَل هَذَا مَعَ الْوَلِيّ وَالْقَرِيب وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ; فَالْمُشْرِك وَلِيّ فِي النَّسَب لَا فِي الدِّين فَيُوصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يُجْعَل الْكَافِر وَصِيًّا ; فَجَوَّزَ بَعْض وَمَنَعَ بَعْض.
وَرَدَّ النَّظَرَ إِلَى السُّلْطَان فِي ذَلِكَ بَعْضٌ ; مِنْهُمْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
وَذَهَبَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَالرُّمَّانِيّ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى : إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَفْظ الْآيَة يُعْضُد هَذَا الْمَذْهَب، وَتَعْمِيم الْوَلِيّ أَيْضًا حَسَن.
وَوَلَايَة النَّسَب لَا تَدْفَع الْكَافِر، وَإِنَّمَا تَدْفَع أَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ بِالْمَوَدَّةِ كَوَلِيِّ الْإِسْلَام.
يُرِيد الْإِحْسَان فِي الْحَيَاة، وَالْوَصِيَّة عِنْد الْمَوْت ; أَيْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِز ; قَالَهُ قَتَادَة وَالْحَسَن وَعَطَاء.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة، نَزَلَتْ فِي إِجَازَة الْوَصِيَّة لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيّ ; أَيْ يَفْعَل هَذَا مَعَ الْوَلِيّ وَالْقَرِيب وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ; فَالْمُشْرِك وَلِيّ فِي النَّسَب لَا فِي الدِّين فَيُوصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يُجْعَل الْكَافِر وَصِيًّا ; فَجَوَّزَ بَعْض وَمَنَعَ بَعْض.
وَرَدَّ النَّظَرَ إِلَى السُّلْطَان فِي ذَلِكَ بَعْضٌ ; مِنْهُمْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
وَذَهَبَ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَالرُّمَّانِيّ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى : إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَفْظ الْآيَة يُعْضُد هَذَا الْمَذْهَب، وَتَعْمِيم الْوَلِيّ أَيْضًا حَسَن.
وَوَلَايَة النَّسَب لَا تَدْفَع الْكَافِر، وَإِنَّمَا تَدْفَع أَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ بِالْمَوَدَّةِ كَوَلِيِّ الْإِسْلَام.
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
" الْكِتَاب " يَحْتَمِل الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي " كِتَاب اللَّه ".
و " مَسْطُورًا " مِنْ قَوْلك سَطَرْت الْكِتَاب إِذَا أَثْبَتَّهُ أَسْطَارًا.
وَقَالَ قَتَادَة : أَيْ مَكْتُوبًا عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يَرِث كَافِر مُسْلِمًا.
قَالَ قَتَادَة : وَفِي بَعْض الْقِرَاءَة " كَانَ ذَلِكَ عِنْد اللَّه مَكْتُوبًا ".
وَقَالَ الْقُرَظِيّ : كَانَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاة.
" الْكِتَاب " يَحْتَمِل الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي " كِتَاب اللَّه ".
و " مَسْطُورًا " مِنْ قَوْلك سَطَرْت الْكِتَاب إِذَا أَثْبَتَّهُ أَسْطَارًا.
وَقَالَ قَتَادَة : أَيْ مَكْتُوبًا عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يَرِث كَافِر مُسْلِمًا.
قَالَ قَتَادَة : وَفِي بَعْض الْقِرَاءَة " كَانَ ذَلِكَ عِنْد اللَّه مَكْتُوبًا ".
وَقَالَ الْقُرَظِيّ : كَانَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاة.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ
أَيْ عَهْدهمْ عَلَى الْوَفَاء بِمَا حُمِّلُوا، وَأَنْ يُبَشِّر بَعْضهمْ بِبَعْضٍ، وَيُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا ; أَيْ كَانَ مَسْطُورًا حِين كَتَبَ اللَّه مَا هُوَ كَائِن، وَحِين أَخَذَ اللَّه تَعَالَى الْمَوَاثِيق مِنْ الْأَنْبِيَاء.
أَيْ عَهْدهمْ عَلَى الْوَفَاء بِمَا حُمِّلُوا، وَأَنْ يُبَشِّر بَعْضهمْ بِبَعْضٍ، وَيُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا ; أَيْ كَانَ مَسْطُورًا حِين كَتَبَ اللَّه مَا هُوَ كَائِن، وَحِين أَخَذَ اللَّه تَعَالَى الْمَوَاثِيق مِنْ الْأَنْبِيَاء.
وَمِنْكَ
يَا مُحَمَّد
يَا مُحَمَّد
وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة وَإِنْ دَخَلُوا فِي زُمْرَة النَّبِيِّينَ تَفْضِيلًا لَهُمْ.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ أَصْحَاب الشَّرَائِع وَالْكُتُب، وَأُولُو الْعَزْم مِنْ الرُّسُل وَأَئِمَّة الْأُمَم.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا تَعْظِيمًا فِي قَطْع الْوَلَايَة بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ; أَيْ هَذَا مِمَّا لَمْ تَخْتَلِف فِيهِ الشَّرَائِع، أَيْ شَرَائِع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
أَيْ كَانَ فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام تَوَارُث بِالْهِجْرَةِ، وَالْهِجْرَة سَبَب مُتَأَكِّد فِي الدِّيَانَة، ثُمَّ تَوَارَثُوا بِالْقَرَابَةِ مَعَ الْإِيمَان وَهُوَ سَبَب وَكِيد ; فَأَمَّا التَّوَارُث بَيْن مُؤْمِن وَكَافِر فَلَمْ يَكُنْ فِي دِين أَحَد مِنْ الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمَوَاثِيق ; فَلَا تُدَاهِنُوا فِي الدِّين وَلَا تُمَالِئُوا الْكُفَّار.
وَنَظِيره :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا " إِلَى قَوْله " وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " [ الشُّورَى : ١٣ ].
وَمِنْ تَرْك التَّفَرُّق فِي الدِّين تَرْك مُوَالَاة الْكُفَّار.
وَقِيلَ : أَيْ النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَاب مَسْطُورًا وَمَأْخُوذًا بِهِ الْمَوَاثِيق مِنْ الْأَنْبِيَاء.
وَإِنَّمَا خُصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة وَإِنْ دَخَلُوا فِي زُمْرَة النَّبِيِّينَ تَفْضِيلًا لَهُمْ.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ أَصْحَاب الشَّرَائِع وَالْكُتُب، وَأُولُو الْعَزْم مِنْ الرُّسُل وَأَئِمَّة الْأُمَم.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا تَعْظِيمًا فِي قَطْع الْوَلَايَة بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ; أَيْ هَذَا مِمَّا لَمْ تَخْتَلِف فِيهِ الشَّرَائِع، أَيْ شَرَائِع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
أَيْ كَانَ فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام تَوَارُث بِالْهِجْرَةِ، وَالْهِجْرَة سَبَب مُتَأَكِّد فِي الدِّيَانَة، ثُمَّ تَوَارَثُوا بِالْقَرَابَةِ مَعَ الْإِيمَان وَهُوَ سَبَب وَكِيد ; فَأَمَّا التَّوَارُث بَيْن مُؤْمِن وَكَافِر فَلَمْ يَكُنْ فِي دِين أَحَد مِنْ الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمَوَاثِيق ; فَلَا تُدَاهِنُوا فِي الدِّين وَلَا تُمَالِئُوا الْكُفَّار.
وَنَظِيره :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا " إِلَى قَوْله " وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " [ الشُّورَى : ١٣ ].
وَمِنْ تَرْك التَّفَرُّق فِي الدِّين تَرْك مُوَالَاة الْكُفَّار.
وَقِيلَ : أَيْ النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَاب مَسْطُورًا وَمَأْخُوذًا بِهِ الْمَوَاثِيق مِنْ الْأَنْبِيَاء.
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
أَيْ عَهْدًا وَثِيقًا عَظِيمًا عَلَى الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمُوا مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة، وَأَنْ يُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا.
وَالْمِيثَاق هُوَ الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى ; فَالْمِيثَاق الثَّانِي تَأْكِيد لِلْمِيثَاقِ الْأَوَّل بِالْيَمِينِ.
وَقِيلَ : الْأَوَّل هُوَ الْإِقْرَار بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي فِي أَمْر النُّبُوَّة.
وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى :" وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي " [ آل عِمْرَان : ٨١ ] الْآيَة.
أَيْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْلِنُوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُعْلِن مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَبِيّ بَعْده.
وَقَدَّمَ مُحَمَّدًا فِي الذِّكْر لِمَا رَوَى قَتَادَة عَنْ الْحَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " قَالَ :( كُنْت أَوَّلهمْ فِي الْخَلْق وَآخِرهمْ فِي الْبَعْث ).
وَقَالَ مُجَاهِد : هَذَا فِي ظَهْر آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
أَيْ عَهْدًا وَثِيقًا عَظِيمًا عَلَى الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمُوا مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة، وَأَنْ يُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا.
وَالْمِيثَاق هُوَ الْيَمِين بِاَللَّهِ تَعَالَى ; فَالْمِيثَاق الثَّانِي تَأْكِيد لِلْمِيثَاقِ الْأَوَّل بِالْيَمِينِ.
وَقِيلَ : الْأَوَّل هُوَ الْإِقْرَار بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي فِي أَمْر النُّبُوَّة.
وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى :" وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي " [ آل عِمْرَان : ٨١ ] الْآيَة.
أَيْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْلِنُوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُعْلِن مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَبِيّ بَعْده.
وَقَدَّمَ مُحَمَّدًا فِي الذِّكْر لِمَا رَوَى قَتَادَة عَنْ الْحَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقهمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوح " قَالَ :( كُنْت أَوَّلهمْ فِي الْخَلْق وَآخِرهمْ فِي الْبَعْث ).
وَقَالَ مُجَاهِد : هَذَا فِي ظَهْر آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ
فِيهِ أَرْبَعَة أَوْجُه : أَحَدهَا : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَنْ تَبْلِيغهمْ الرِّسَالَةَ إِلَى قَوْمهمْ ; حَكَاهُ النَّقَّاش.
وَفِي هَذَا تَنْبِيه ; أَيْ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاء يُسْأَلُونَ فَكَيْف مَنْ سِوَاهُمْ.
الثَّانِي : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ قَوْمهمْ ; حَكَاهُ عَلِيّ بْن عِيسَى.
الثَّالِث : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام عَنْ الْوَفَاء بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ ; حَكَاهُ اِبْن شَجَرَة.
الرَّابِع : لِيَسْأَل الْأَفْوَاه الصَّادِقَة عَنْ الْقُلُوب الْمُخْلِصَة، وَفِي التَّنْزِيل :" فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ " [ الْأَعْرَاف : ٦ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : فَائِدَة سُؤَالهمْ تَوْبِيخ الْكُفَّار ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" أَأَنْتَ قُلْت لِلنَّاسِ " [ الْمَائِدَة : ١١٦ ].
فِيهِ أَرْبَعَة أَوْجُه : أَحَدهَا : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَنْ تَبْلِيغهمْ الرِّسَالَةَ إِلَى قَوْمهمْ ; حَكَاهُ النَّقَّاش.
وَفِي هَذَا تَنْبِيه ; أَيْ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاء يُسْأَلُونَ فَكَيْف مَنْ سِوَاهُمْ.
الثَّانِي : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ قَوْمهمْ ; حَكَاهُ عَلِيّ بْن عِيسَى.
الثَّالِث : لِيَسْأَل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام عَنْ الْوَفَاء بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ ; حَكَاهُ اِبْن شَجَرَة.
الرَّابِع : لِيَسْأَل الْأَفْوَاه الصَّادِقَة عَنْ الْقُلُوب الْمُخْلِصَة، وَفِي التَّنْزِيل :" فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ " [ الْأَعْرَاف : ٦ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : فَائِدَة سُؤَالهمْ تَوْبِيخ الْكُفَّار ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" أَأَنْتَ قُلْت لِلنَّاسِ " [ الْمَائِدَة : ١١٦ ].
وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
وَهُوَ عَذَاب جَهَنَّم.
وَهُوَ عَذَاب جَهَنَّم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
يَعْنِي غَزْوَة الْخَنْدَق وَالْأَحْزَاب وَبَنِي قُرَيْظَة، وَكَانَتْ حَالًا شَدِيدَة مُعَقَّبَة بِنِعْمَةٍ وَرَخَاء وَغِبْطَة، وَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا كَثِيرَة وَآيَات بَاهِرَات عَزِيزَة، وَنَحْنُ نَذْكُر مِنْ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى مَا يَكْفِي فِي عَشْر مَسَائِل.
الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي أَيّ سَنَة كَانَتْ ; فَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : كَانَتْ فِي شَوَّال مِنْ السَّنَة الْخَامِسَة.
وَقَالَ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : كَانَتْ وَقْعَة الْخَنْدَق سَنَة أَرْبَع، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَة فِي يَوْم وَاحِد، وَبَيْن بَنِي قُرَيْظَة وَالنَّضِير أَرْبَع سِنِينَ.
قَالَ اِبْن وَهْب وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُول : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَة، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَار وَبَلَغَتْ الْقُلُوب الْحَنَاجِر " [ الْأَحْزَاب : ١٠ ].
قَالَ : ذَلِكَ يَوْم الْخَنْدَق، جَاءَتْ قُرَيْش مِنْ هَاهُنَا وَالْيَهُود مِنْ هَاهُنَا وَالنَّجْدِيَّة مِنْ هَاهُنَا.
يُرِيد مَالِك : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقهمْ بَنُو قُرَيْظَة، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْش وَغَطَفَان.
وَكَانَ سَبَبهَا : أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْيَهُود مِنْهُمْ كِنَانَة بْن الرَّبِيع بْن أَبِي الْحُقَيْق وَسَلَّام بْن أَبِي الْحُقَيْق وَسَلَّام بْن مِشْكَم وَحُيَيّ بْن أَخْطَبَ النَّضْرِيُّونَ وَهَوْذَة بْن قَيْس وَأَبُو عَمَّار مِنْ بَنِي وَائِل، وَهُمْ كُلّهمْ يَهُود، هُمْ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَاب وَأَلَّبُوا وَجَمَعُوا، خَرَجُوا فِي نَفَر مِنْ بَنِي النَّضِير وَنَفَر مِنْ بَنِي وَائِل فَأَتَوْا مَكَّة فَدَعَوْا إِلَى حَرْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسهمْ بِعَوْنِ مَنْ انْتَدَبَ إِلَى ذَلِكَ ; فَأَجَابَهُمْ أَهْل مَكَّة إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الْيَهُود الْمَذْكُورُونَ إِلَى غَطَفَان فَدَعَوْهُمْ إِلَى مِثْل ذَلِكَ فَأَجَابُوهُمْ ; فَخَرَجَتْ قُرَيْش يَقُودهُمْ أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب، وَخَرَجَتْ غَطَفَان وَقَائِدهمْ عُيَيْنَة بْن حِصْن بْن حُذَيْفَة بْن بَدْر الْفَزَارِيّ عَلَى فَزَارَة، وَالْحَارِث بْن عَوْف الْمُرِّيّ عَلَى بَنِي مُرَّة، وَمَسْعُود بْن رُخَيْلَة عَلَى أَشْجَعَ.
فَلَمَّا سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَخُرُوجهمْ شَاوَرَ أَصْحَابه، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَان بِحَفْرِ الْخَنْدَق فَرَضِيَ رَأْيه.
وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمئِذٍ : سَلْمَان مِنَّا.
وَقَالَ الْأَنْصَار : سَلْمَان مِنَّا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سَلْمَان مِنَّا أَهْل الْبَيْت ).
وَكَانَ الْخَنْدَق أَوَّل مَشْهَد شَهِدَهُ سَلْمَان مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ حُرّ.
فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّا كُنَّا بِفَارِس إِذَا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا ; فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْخَنْدَق مُجْتَهِدِينَ، وَنَكَصَ الْمُنَافِقُونَ وَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا فَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَات مِنْ الْقُرْآن ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره.
يَعْنِي غَزْوَة الْخَنْدَق وَالْأَحْزَاب وَبَنِي قُرَيْظَة، وَكَانَتْ حَالًا شَدِيدَة مُعَقَّبَة بِنِعْمَةٍ وَرَخَاء وَغِبْطَة، وَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا كَثِيرَة وَآيَات بَاهِرَات عَزِيزَة، وَنَحْنُ نَذْكُر مِنْ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى مَا يَكْفِي فِي عَشْر مَسَائِل.
الْأُولَى : اُخْتُلِفَ فِي أَيّ سَنَة كَانَتْ ; فَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : كَانَتْ فِي شَوَّال مِنْ السَّنَة الْخَامِسَة.
وَقَالَ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : كَانَتْ وَقْعَة الْخَنْدَق سَنَة أَرْبَع، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَة فِي يَوْم وَاحِد، وَبَيْن بَنِي قُرَيْظَة وَالنَّضِير أَرْبَع سِنِينَ.
قَالَ اِبْن وَهْب وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُول : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَة، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَار وَبَلَغَتْ الْقُلُوب الْحَنَاجِر " [ الْأَحْزَاب : ١٠ ].
قَالَ : ذَلِكَ يَوْم الْخَنْدَق، جَاءَتْ قُرَيْش مِنْ هَاهُنَا وَالْيَهُود مِنْ هَاهُنَا وَالنَّجْدِيَّة مِنْ هَاهُنَا.
يُرِيد مَالِك : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقهمْ بَنُو قُرَيْظَة، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْش وَغَطَفَان.
وَكَانَ سَبَبهَا : أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْيَهُود مِنْهُمْ كِنَانَة بْن الرَّبِيع بْن أَبِي الْحُقَيْق وَسَلَّام بْن أَبِي الْحُقَيْق وَسَلَّام بْن مِشْكَم وَحُيَيّ بْن أَخْطَبَ النَّضْرِيُّونَ وَهَوْذَة بْن قَيْس وَأَبُو عَمَّار مِنْ بَنِي وَائِل، وَهُمْ كُلّهمْ يَهُود، هُمْ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَاب وَأَلَّبُوا وَجَمَعُوا، خَرَجُوا فِي نَفَر مِنْ بَنِي النَّضِير وَنَفَر مِنْ بَنِي وَائِل فَأَتَوْا مَكَّة فَدَعَوْا إِلَى حَرْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسهمْ بِعَوْنِ مَنْ انْتَدَبَ إِلَى ذَلِكَ ; فَأَجَابَهُمْ أَهْل مَكَّة إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الْيَهُود الْمَذْكُورُونَ إِلَى غَطَفَان فَدَعَوْهُمْ إِلَى مِثْل ذَلِكَ فَأَجَابُوهُمْ ; فَخَرَجَتْ قُرَيْش يَقُودهُمْ أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب، وَخَرَجَتْ غَطَفَان وَقَائِدهمْ عُيَيْنَة بْن حِصْن بْن حُذَيْفَة بْن بَدْر الْفَزَارِيّ عَلَى فَزَارَة، وَالْحَارِث بْن عَوْف الْمُرِّيّ عَلَى بَنِي مُرَّة، وَمَسْعُود بْن رُخَيْلَة عَلَى أَشْجَعَ.
فَلَمَّا سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَخُرُوجهمْ شَاوَرَ أَصْحَابه، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَان بِحَفْرِ الْخَنْدَق فَرَضِيَ رَأْيه.
وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمئِذٍ : سَلْمَان مِنَّا.
وَقَالَ الْأَنْصَار : سَلْمَان مِنَّا ! فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سَلْمَان مِنَّا أَهْل الْبَيْت ).
وَكَانَ الْخَنْدَق أَوَّل مَشْهَد شَهِدَهُ سَلْمَان مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ حُرّ.
فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّا كُنَّا بِفَارِس إِذَا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا ; فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْخَنْدَق مُجْتَهِدِينَ، وَنَكَصَ الْمُنَافِقُونَ وَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا فَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَات مِنْ الْقُرْآن ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره.
وَكَانَ مَنْ فَرَغَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حِصَّته عَادَ إِلَى غَيْره، حَتَّى كَمَلَ الْخَنْدَق.
وَكَانَتْ فِيهِ آيَات بَيِّنَات وَعَلَامَات لِلنُّبُوَّاتِ.
قُلْت : فَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَر مِنْ الْفِقْه وَهِيَ :
الثَّانِيَة : مُشَاوَرَة السُّلْطَان أَصْحَابه وَخَاصَّته فِي أَمْر الْقِتَال ; وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي " آل عِمْرَان، وَالنَّمْل ".
وَفِيهِ التَّحَصُّن مِنْ الْعَدُوّ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ الْأَسْبَاب وَاسْتِعْمَالهَا ; وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْر مَوْضِع.
وَفِيهِ أَنَّ حَفْر الْخَنْدَق يَكُون مَقْسُومًا عَلَى النَّاس ; فَمَنْ فَرَغَ مِنْهُمْ عَاوَنَ مَنْ لَمْ يَفْرُغ، فَالْمُسْلِمُونَ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ; وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحْزَاب وَخَنْدَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْته يَنْقُل مِنْ تُرَاب الْخَنْدَق حَتَّى وَارَى عَنِّي الْغُبَار جِلْدَة بَطْنه، وَكَانَ كَثِير الشَّعَر، فَسَمِعْته يَرْتَجِز بِكَلِمَاتِ اِبْن رَوَاحَة وَيَقُول :
وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْآيَات وَهِيَ :
الثَّالِثَة : فَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سُكَيْنَة رَجُل مِنْ الْمُحَرَّرِينَ عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَق عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَة حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن الْحَفْر، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَل وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَة الْخَنْدَق وَقَالَ :" وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك صِدْقًا " [ الْأَنْعَام : ١١٥ ] الْآيَة ; فَنَدَرَ ثُلُث الْحَجَر وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ قَائِم يَنْظُر، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَة، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَة وَقَالَ :" وَتَمَّتْ " [ الْأَنْعَام : ١١٥ ] الْآيَة ; فَنَدَرَ الثُّلُث الْآخَر ; فَبَرَقَتْ بَرْقَة فَرَآهَا سَلْمَان، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَة وَقَالَ :" وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك صِدْقًا " الْآيَة ; فَنَدَرَ الثُّلُث الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ.
وَكَانَتْ فِيهِ آيَات بَيِّنَات وَعَلَامَات لِلنُّبُوَّاتِ.
قُلْت : فَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَر مِنْ الْفِقْه وَهِيَ :
الثَّانِيَة : مُشَاوَرَة السُّلْطَان أَصْحَابه وَخَاصَّته فِي أَمْر الْقِتَال ; وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي " آل عِمْرَان، وَالنَّمْل ".
وَفِيهِ التَّحَصُّن مِنْ الْعَدُوّ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ الْأَسْبَاب وَاسْتِعْمَالهَا ; وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْر مَوْضِع.
وَفِيهِ أَنَّ حَفْر الْخَنْدَق يَكُون مَقْسُومًا عَلَى النَّاس ; فَمَنْ فَرَغَ مِنْهُمْ عَاوَنَ مَنْ لَمْ يَفْرُغ، فَالْمُسْلِمُونَ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ; وَفِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحْزَاب وَخَنْدَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْته يَنْقُل مِنْ تُرَاب الْخَنْدَق حَتَّى وَارَى عَنِّي الْغُبَار جِلْدَة بَطْنه، وَكَانَ كَثِير الشَّعَر، فَسَمِعْته يَرْتَجِز بِكَلِمَاتِ اِبْن رَوَاحَة وَيَقُول :
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اِهْتَدَيْنَا | وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا |
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا | وَثَبِّتْ الْأَقْدَام إِنْ لَاقَيْنَا |
الثَّالِثَة : فَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي سُكَيْنَة رَجُل مِنْ الْمُحَرَّرِينَ عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَق عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَة حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن الْحَفْر، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَل وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَة الْخَنْدَق وَقَالَ :" وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك صِدْقًا " [ الْأَنْعَام : ١١٥ ] الْآيَة ; فَنَدَرَ ثُلُث الْحَجَر وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ قَائِم يَنْظُر، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَة، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَة وَقَالَ :" وَتَمَّتْ " [ الْأَنْعَام : ١١٥ ] الْآيَة ; فَنَدَرَ الثُّلُث الْآخَر ; فَبَرَقَتْ بَرْقَة فَرَآهَا سَلْمَان، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَة وَقَالَ :" وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك صِدْقًا " الْآيَة ; فَنَدَرَ الثُّلُث الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ.
قَالَ سَلْمَان : يَا رَسُول اللَّه، رَأَيْتُك حِين ضَرَبْت ! مَا تَضْرِب ضَرْبَة إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَة ؟ قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( رَأَيْت ذَلِكَ يَا سَلْمَان ) ؟ فَقَالَ : أَيْ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ يَا رَسُول اللَّه ! قَالَ :( فَإِنِّي حِين ضَرَبْت الضَّرْبَة الْأُولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِن كِسْرَى وَمَا حَوْلهَا وَمَدَائِن كَثِيرَة حَتَّى رَأَيْتهَا بِعَيْنَيَّ - قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابه : يَا رَسُول اللَّه، اُدْعُ اللَّه أَنْ يَفْتَحهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمنَا ذَرَارِيّهمْ وَيُخَرِّب بِأَيْدِينَا بِلَادهمْ ; فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ضَرَبْت الضَّرْبَة الثَّانِيَة فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِن قَيْصَر وَمَا حَوْلهَا حَتَّى رَأَيْتهَا بِعَيْنَيَّ - قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، اُدْعُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَفْتَحهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمنَا ذَرَارِيّهمْ وَيُخَرِّب بِأَيْدِينَا بِلَادهمْ ; فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ضَرَبَ الضَّرْبَة الثَّالِثَة فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِن الْحَبَشَة وَمَا حَوْلهَا مِنْ الْقُرَى حَتَّى رَأَيْتهَا بِعَيْنَيَّ - قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ : دَعُوا الْحَبَشَة مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْك مَا تَرَكُوكُمْ ).
وَخَرَّجَهُ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاء قَالَ : لَمَّا أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْفِر الْخَنْدَق عَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ لَا تَأْخُذ فِيهَا الْمَعَاوِل، فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَى ثَوْبه وَأَخَذَ الْمِعْوَل وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَضَرَبَ ضَرْبَة فَكَسَرَ ثُلُث الصَّخْرَة ثُمَّ قَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح الشَّام وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر إِلَى قُصُورهَا الْحَمْرَاء الْآن مِنْ مَكَانِي هَذَا ) قَالَ : ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَكَسَرَ ثُلُثًا آخَر ثُمَّ قَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح فَارِس وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر قَصْر الْمَدَائِن الْأَبْيَض ).
ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَة وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَقَطَعَ الْحَجَر وَقَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح الْيَمَن وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر بَاب صَنْعَاء ).
صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ.
وَخَرَّجَهُ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاء قَالَ : لَمَّا أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْفِر الْخَنْدَق عَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ لَا تَأْخُذ فِيهَا الْمَعَاوِل، فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَى ثَوْبه وَأَخَذَ الْمِعْوَل وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَضَرَبَ ضَرْبَة فَكَسَرَ ثُلُث الصَّخْرَة ثُمَّ قَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح الشَّام وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر إِلَى قُصُورهَا الْحَمْرَاء الْآن مِنْ مَكَانِي هَذَا ) قَالَ : ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَكَسَرَ ثُلُثًا آخَر ثُمَّ قَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح فَارِس وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر قَصْر الْمَدَائِن الْأَبْيَض ).
ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَة وَقَالَ :( بِاسْمِ اللَّه ) فَقَطَعَ الْحَجَر وَقَالَ :( اللَّه أَكْبَر أُعْطِيت مَفَاتِيح الْيَمَن وَاَللَّه إِنِّي لَأُبْصِر بَاب صَنْعَاء ).
صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ.
الرَّابِعَة : فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَفْر الْخَنْدَق أَقْبَلَتْ قُرَيْش فِي نَحْو عَشَرَة آلَاف بِمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَة وَأَهْل تِهَامَة، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَان بِمَنْ مَعَهَا مِنْ أَهْل نَجْد حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَانِب أُحُد، وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَزَلُوا بِظَهْرِ سَلْع فِي ثَلَاثَة آلَاف وَضَرَبُوا عَسْكَرهمْ وَالْخَنْدَق بَيْنهمْ وَبَيْن الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَة اِبْن أُمّ مَكْتُوم - فِي قَوْل اِبْن شِهَاب - وَخَرَجَ عَدُوّ اللَّه حُيَيّ بْن أَخْطَبَ النَّضَرِيّ حَتَّى أَتَى كَعْب بْن أَسَد الْقُرَظِيّ، وَكَانَ صَاحِب عَقْد بَنِي قُرَيْظَة وَرَئِيسهمْ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاهَدَهُ ; فَلَمَّا سَمِعَ كَعْب بْن أَسَد حُيَيّ بْن أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونه بَاب حِصْنه وَأَبَى أَنْ يَفْتَح لَهُ ; فَقَالَ لَهُ : اِفْتَحْ لِي يَا أَخِي ; فَقَالَ لَهُ : لَا أَفْتَح لَك، فَإِنَّك رَجُل مَشْئُوم، تَدْعُونِي إِلَى خِلَاف مُحَمَّد وَأَنَا قَدْ عَاقَدْتُهُ وَعَاهَدْته، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاء وَصِدْقًا، فَلَسْت بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنه.
فَقَالَ حُيَيّ : اِفْتَحْ لِي حَتَّى أُكَلِّمك وَأَنْصَرِف عَنْك ; فَقَالَ : لَا أَفْعَل ; فَقَالَ : إِنَّمَا تَخَاف أَنْ آكُل مَعَك جَشِيشَتك ; فَغَضِبَ كَعْب وَفَتَحَ لَهُ ; فَقَالَ : يَا كَعْب ! إِنَّمَا جِئْتُك بِعِزِّ الدَّهْر، جِئْتُك بِقُرَيْشٍ وِسَادَتهَا، وَغَطَفَان وَقَادَتهَا ; قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ ; فَقَالَ لَهُ كَعْب : جِئْتنِي وَاَللَّه بِذُلِّ الدَّهْر وَبِجَهَامٍ لَا غَيْث فِيهِ ! وَيْحك يَا حُيَيّ ؟ دَعْنِي فَلَسْت بِفَاعِلٍ مَا تَدْعُونِي إِلَيْهِ ; فَلَمْ يَزَلْ حُيَيّ بِكَعْبٍ يَعِدهُ وَيَغُرّهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ وَعَاقَدَهُ عَلَى خِذْلَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَنْ يَسِير مَعَهُمْ، وَقَالَ لَهُ حُيَيّ بْن أَخْطَبَ : إِنْ اِنْصَرَفَتْ قُرَيْش وَغَطَفَان دَخَلْت عِنْدك بِمَنْ مَعِي مِنْ الْيَهُود.
فَلَمَّا اِنْتَهَى خَبَر كَعْب وَحُيَيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَعْد بْن عُبَادَة وَهُوَ سَيِّد الْخَزْرَج، وَسَيِّد الْأَوْس سَعْد بْن مُعَاذ، وَبَعَثَ مَعَهُمَا عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة وَخَوَّات بْن جُبَيْر، وَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اِنْطَلِقُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَة فَإِنْ كَانَ مَا قِيلَ لَنَا حَقًّا فَالْحَنُوا لَنَا لَحْنًا وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَاد النَّاس.
فَقَالَ حُيَيّ : اِفْتَحْ لِي حَتَّى أُكَلِّمك وَأَنْصَرِف عَنْك ; فَقَالَ : لَا أَفْعَل ; فَقَالَ : إِنَّمَا تَخَاف أَنْ آكُل مَعَك جَشِيشَتك ; فَغَضِبَ كَعْب وَفَتَحَ لَهُ ; فَقَالَ : يَا كَعْب ! إِنَّمَا جِئْتُك بِعِزِّ الدَّهْر، جِئْتُك بِقُرَيْشٍ وِسَادَتهَا، وَغَطَفَان وَقَادَتهَا ; قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ ; فَقَالَ لَهُ كَعْب : جِئْتنِي وَاَللَّه بِذُلِّ الدَّهْر وَبِجَهَامٍ لَا غَيْث فِيهِ ! وَيْحك يَا حُيَيّ ؟ دَعْنِي فَلَسْت بِفَاعِلٍ مَا تَدْعُونِي إِلَيْهِ ; فَلَمْ يَزَلْ حُيَيّ بِكَعْبٍ يَعِدهُ وَيَغُرّهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ وَعَاقَدَهُ عَلَى خِذْلَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَنْ يَسِير مَعَهُمْ، وَقَالَ لَهُ حُيَيّ بْن أَخْطَبَ : إِنْ اِنْصَرَفَتْ قُرَيْش وَغَطَفَان دَخَلْت عِنْدك بِمَنْ مَعِي مِنْ الْيَهُود.
فَلَمَّا اِنْتَهَى خَبَر كَعْب وَحُيَيّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَعْد بْن عُبَادَة وَهُوَ سَيِّد الْخَزْرَج، وَسَيِّد الْأَوْس سَعْد بْن مُعَاذ، وَبَعَثَ مَعَهُمَا عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة وَخَوَّات بْن جُبَيْر، وَقَالَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اِنْطَلِقُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَة فَإِنْ كَانَ مَا قِيلَ لَنَا حَقًّا فَالْحَنُوا لَنَا لَحْنًا وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَاد النَّاس.
وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ ) فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا قِيلَ لَهُمْ عَنْهُمْ، وَنَالُوا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : لَا عَهْد لَهُ عِنْدنَا ; فَشَاتَمَهُمْ سَعْد بْن مُعَاذ وَشَاتَمُوهُ ; وَكَانَتْ فِيهِ حِدَّة فَقَالَ لَهُ سَعْد بْن عُبَادَة : دَعْ عَنْك مُشَاتَمَتهمْ، فَاَلَّذِي بَيْننَا وَبَيْنهمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْد وَسَعْد حَتَّى أَتَيَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ فَقَالَا : عَضَل وَالْقَارَة - يُعَرِّضَانِ بِغَدْرِ عَضَل وَالْقَارَة بِأَصْحَابِ الرَّجِيع خُبَيْب وَأَصْحَابه - فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
( أَبْشِرُوا يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ) وَعَظُمَ عِنْد ذَلِكَ الْبَلَاء وَاشْتَدَّ الْخَوْف، وَأَتَى الْمُسْلِمِينَ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقهمْ ; يَعْنِي مِنْ فَوْق الْوَادِي مِنْ قِبَل الْمَشْرِق، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ مِنْ بَطْن الْوَادِي مِنْ قِبَل الْمَغْرِب، حَتَّى ظَنُّوا بِاَللَّهِ الظُّنُونَ ; وَأَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُسِرُّونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ بُيُوتنَا عَوْرَة، فَلْنَنْصَرِفْ إِلَيْهَا، فَإِنَّا نَخَاف عَلَيْهَا ; وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ : أَوْس بْن قَيْظِيّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَعِدنَا مُحَمَّد أَنْ يَفْتَح كُنُوز كِسْرَى وَقَيْصَر، وَأَحَدنَا الْيَوْم لَا يَأْمَن عَلَى نَفْسه يَذْهَب إِلَى الْغَائِط ! وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ : مُعَتِّب بْن قُشَيْر أَحَد بَنِي عَمْرو بْن عَوْف.
فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَة قَرِيبًا مِنْ شَهْر لَمْ يَكُنْ بَيْنهمْ حَرْب إِلَّا الرَّمْي بِالنَّبْلِ وَالْحَصَى.
فَلَمَّا رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْبَلَاء بَعَثَ إِلَى عُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ، وَإِلَى الْحَارِث بْن عَوْف الْمُرِّيّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَان، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُث ثِمَار الْمَدِينَة لِيَنْصَرِفَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنْ غَطَفَان وَيَخْذُلَا قُرَيْشًا وَيَرْجِعَا بِقَوْمِهِمَا عَنْهُمْ.
( أَبْشِرُوا يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ) وَعَظُمَ عِنْد ذَلِكَ الْبَلَاء وَاشْتَدَّ الْخَوْف، وَأَتَى الْمُسْلِمِينَ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقهمْ ; يَعْنِي مِنْ فَوْق الْوَادِي مِنْ قِبَل الْمَشْرِق، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ مِنْ بَطْن الْوَادِي مِنْ قِبَل الْمَغْرِب، حَتَّى ظَنُّوا بِاَللَّهِ الظُّنُونَ ; وَأَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُسِرُّونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ بُيُوتنَا عَوْرَة، فَلْنَنْصَرِفْ إِلَيْهَا، فَإِنَّا نَخَاف عَلَيْهَا ; وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ : أَوْس بْن قَيْظِيّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَعِدنَا مُحَمَّد أَنْ يَفْتَح كُنُوز كِسْرَى وَقَيْصَر، وَأَحَدنَا الْيَوْم لَا يَأْمَن عَلَى نَفْسه يَذْهَب إِلَى الْغَائِط ! وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ : مُعَتِّب بْن قُشَيْر أَحَد بَنِي عَمْرو بْن عَوْف.
فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَة قَرِيبًا مِنْ شَهْر لَمْ يَكُنْ بَيْنهمْ حَرْب إِلَّا الرَّمْي بِالنَّبْلِ وَالْحَصَى.
فَلَمَّا رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْبَلَاء بَعَثَ إِلَى عُيَيْنَة بْن حِصْن الْفَزَارِيّ، وَإِلَى الْحَارِث بْن عَوْف الْمُرِّيّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَان، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُث ثِمَار الْمَدِينَة لِيَنْصَرِفَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنْ غَطَفَان وَيَخْذُلَا قُرَيْشًا وَيَرْجِعَا بِقَوْمِهِمَا عَنْهُمْ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَة مُرَاوَضَة وَلَمْ تَكُنْ عَقْدًا ; فَلَمَّا رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا قَدْ أَنَابَا وَرَضِيَا أَتَى سَعْد بْن مُعَاذ وَسَعْد بْن عُبَادَة فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا وَاسْتَشَارَهُمَا فَقَالَا : يَا رَسُول اللَّه، هَذَا أَمْر تُحِبّهُ فَنَصْنَعهُ لَك، أَوْ شَيْء أَمَرَك اللَّه بِهِ فَنَسْمَع لَهُ وَنُطِيع، أَوْ أَمْر تَصْنَعهُ لَنَا ؟ قَالَ :( بَلْ أَمْر أَصْنَعهُ لَكُمْ، وَاَللَّه مَا أَصْنَعهُ إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْت الْعَرَب قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْس وَاحِدَة ) فَقَالَ لَهُ سَعْد بْن مُعَاذ : يَا رَسُول اللَّه، وَاَللَّه لَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْم عَلَى الشِّرْك بِاَللَّهِ وَعِبَادَة الْأَوْثَان، لَا نَعْبُد اللَّه وَلَا نَعْرِفهُ، وَمَا طَمِعُوا قَطُّ أَنْ يَنَالُوا مِنَّا ثَمَرَة إِلَّا شِرَاء أَوْ قِرًى، فَحِين أَكْرَمَنَا اللَّه بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِك نُعْطِيهِمْ أَمْوَالنَا ! وَاَللَّه لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْف حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْننَا وَبَيْنهمْ ! ! فَسُرَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَقَالَ :( أَنْتُمْ وَذَاكَ ).
وَقَالَ لِعُيَيْنَة وَالْحَارِث :( اِنْصَرِفَا فَلَيْسَ لَكُمَا عِنْدنَا إِلَّا السَّيْف ).
وَتَنَاوَلَ سَعْد الصَّحِيفَة وَلَيْسَ فِيهَا شَهَادَة فَمَحَاهَا.
الْخَامِسَة : فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى حَالهمْ، وَالْمُشْرِكُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ وَلَا قِتَال بَيْنهمْ ; إِلَّا أَنَّ فَوَارِس مِنْ قُرَيْش مِنْهُمْ عَمْرو بْن عَبْد وُدّ الْعَامِرِيّ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ، وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل، وَهُبَيْرَة بْن أَبِي وَهْب، وَضِرَار بْن الْخَطَّاب الْفِهْرِيّ، وَكَانُوا فُرْسَان قُرَيْش وَشُجْعَانهمْ، أَقْبَلُوا حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَق، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا : إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَة، مَا كَانَتْ الْعَرَب تَكِيدهَا.
ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا ضَيِّقًا مِنْ الْخَنْدَق، فَضَرَبُوا خَيْلهمْ فَاقْتَحَمَتْ بِهِمْ، وَجَاوَزُوا الْخَنْدَق وَصَارُوا بَيْن الْخَنْدَق وَبَيْن سَلْع، وَخَرَجَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فِي نَفَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثُّغْرَة الَّتِي اِقْتَحَمُوا مِنْهَا، وَأَقْبَلَتْ الْفُرْسَان نَحْوهمْ، وَكَانَ عَمْرو بْن عَبْد وُدّ أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاح يَوْم بَدْر فَلَمْ يَشْهَد أُحُدًا، وَأَرَادَ يَوْم الْخَنْدَق أَنْ يُرَى مَكَانُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْله ; نَادَى : مَنْ يُبَارِز ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَقَالَ لَهُ : يَا عَمْرو، إِنَّك عَاهَدْت اللَّه فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّك لَا تُدْعَى إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْت إِحْدَاهُمَا ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : فَإِنِّي أَدْعُوك إِلَى اللَّه وَالْإِسْلَام.
قَالَ : لَا حَاجَة لِي بِذَلِكَ.
قَالَ : فَأَدْعُوك إِلَى الْبِرَاز.
قَالَ : يَا بْن أَخِي، وَاَللَّه مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلك لِمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْن أَبِيك.
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : أَنَا وَاَللَّه أُحِبّ أَنْ أَقْتُلك.
وَقَالَ لِعُيَيْنَة وَالْحَارِث :( اِنْصَرِفَا فَلَيْسَ لَكُمَا عِنْدنَا إِلَّا السَّيْف ).
وَتَنَاوَلَ سَعْد الصَّحِيفَة وَلَيْسَ فِيهَا شَهَادَة فَمَحَاهَا.
الْخَامِسَة : فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى حَالهمْ، وَالْمُشْرِكُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ وَلَا قِتَال بَيْنهمْ ; إِلَّا أَنَّ فَوَارِس مِنْ قُرَيْش مِنْهُمْ عَمْرو بْن عَبْد وُدّ الْعَامِرِيّ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ، وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل، وَهُبَيْرَة بْن أَبِي وَهْب، وَضِرَار بْن الْخَطَّاب الْفِهْرِيّ، وَكَانُوا فُرْسَان قُرَيْش وَشُجْعَانهمْ، أَقْبَلُوا حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَق، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا : إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَة، مَا كَانَتْ الْعَرَب تَكِيدهَا.
ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا ضَيِّقًا مِنْ الْخَنْدَق، فَضَرَبُوا خَيْلهمْ فَاقْتَحَمَتْ بِهِمْ، وَجَاوَزُوا الْخَنْدَق وَصَارُوا بَيْن الْخَنْدَق وَبَيْن سَلْع، وَخَرَجَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فِي نَفَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثُّغْرَة الَّتِي اِقْتَحَمُوا مِنْهَا، وَأَقْبَلَتْ الْفُرْسَان نَحْوهمْ، وَكَانَ عَمْرو بْن عَبْد وُدّ أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاح يَوْم بَدْر فَلَمْ يَشْهَد أُحُدًا، وَأَرَادَ يَوْم الْخَنْدَق أَنْ يُرَى مَكَانُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْله ; نَادَى : مَنْ يُبَارِز ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَقَالَ لَهُ : يَا عَمْرو، إِنَّك عَاهَدْت اللَّه فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّك لَا تُدْعَى إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْت إِحْدَاهُمَا ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : فَإِنِّي أَدْعُوك إِلَى اللَّه وَالْإِسْلَام.
قَالَ : لَا حَاجَة لِي بِذَلِكَ.
قَالَ : فَأَدْعُوك إِلَى الْبِرَاز.
قَالَ : يَا بْن أَخِي، وَاَللَّه مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلك لِمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْن أَبِيك.
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : أَنَا وَاَللَّه أُحِبّ أَنْ أَقْتُلك.
فَحَمِيَ عَمْرو بْن عَبْد وُدّ وَنَزَلَ عَنْ فَرَسه، فَعَقَرَهُ وَصَارَ نَحْو عَلِيّ، فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا وَثَارَ النَّقْع بَيْنهمَا حَتَّى حَالَ دُونهمَا، فَمَا اِنْجَلَى النَّقْع حَتَّى رُئِيَ عَلِيّ عَلَى صَدْر عَمْرو يَقْطَع رَأْسه، فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابه أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ عَلِيّ اِقْتَحَمُوا بِخَيْلِهِمْ الثُّغْرَة مُنْهَزِمِينَ هَارِبِينَ.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي ذَلِكَ :
قَالَ اِبْن هِشَام : أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْم بِالسِّيَرِ يَشُكّ فِيهَا لِعَلِيٍّ.
قَالَ اِبْن هِشَام : وَأَلْقَى عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل رُمْحه يَوْمئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِم عَنْ عَمْرو ; فَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت فِي ذَلِكَ :
قَالَ اِبْن هِشَام : فُرْعُل صَغِير الضِّبَاع.
وَكَانَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي حِصْن بَنِي حَارِثَة، وَأُمّ سَعْد بْن مُعَاذ مَعَهَا، وَعَلَى سَعْد دِرْع مُقَلِّصَة قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعه، وَفِي يَده حَرْبَته وَهُوَ يَقُول :
وَرُمِيَ يَوْمئِذٍ سَعْد بْن مُعَاذ بِسَهْمٍ فَقَطَعَ مِنْهُ الْأَكْحَل.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ رَمَاهُ ; فَقِيلَ : رَمَاهُ حِبَّان بْن قَيْس اِبْن الْعَرِقَة، أَحَد بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ لَهُ : خُذْهَا وَأَنَا اِبْن الْعَرِقَة.
فَقَالَ لَهُ سَعْد : عَرَّقَ اللَّه وَجْهك فِي النَّار.
وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي رَمَاهُ خَفَاجَة بْن عَاصِم بْن حِبَّان.
وَقِيلَ : بَلْ الَّذِي رَمَاهُ أَبُو أُسَامَة الْجُشَمِيّ، حَلِيف بَنِي مَخْزُوم.
وَلِحَسَّان مَعَ صَفِيَّة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب خَبَر طَرِيف يَوْمئِذٍ ; ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره.
قَالَتْ صَفِيَّة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كُنَّا يَوْم الْأَحْزَاب فِي حِصْن حَسَّان بْن ثَابِت، وَحَسَّان مَعَنَا فِي النِّسَاء وَالصِّبْيَان، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي نَحْر الْعَدُوّ لَا يَسْتَطِيعُونَ الِانْصِرَاف إِلَيْنَا، فَإِذَا يَهُودِيّ يَدُور، فَقُلْت لِحَسَّان : اِنْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ; فَقَالَ : مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا يَا اِبْنَة عَبْد الْمُطَّلِب ! فَأَخَذْت عَمُودًا وَنَزَلْت مِنْ الْحِصْن فَقَتَلْته، فَقُلْت : يَا حَسَّان، اِنْزِلْ فَاسْلُبْهُ، فَلَمْ يَمْنَعنِي مِنْ سَلَبه إِلَّا أَنَّهُ رَجُل.
فَقَالَ : مَا لِي بِسَلَبِهِ حَاجَة يَا اِبْنَة عَبْد الْمُطَّلِب ! قَالَ : فَنَزَلْت فَسَلَبْته.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي ذَلِكَ :
نَصَرَ الْحِجَارَة مِنْ سَفَاهَة رَأْيه | وَنَصَرْت دِين مُحَمَّد بِضِرَابِ |
نَازَلْته فَتَرَكْته مُتَجَدِّلًا | كَالْجِذْعِ بَيْن دَكَادِكٍ وَرَوَابِي |
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي | كُنْت الْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي |
لَا تَحْسِبُنَّ اللَّه خَاذِلَ دِينِهِ | وَنَبِيِّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ |
قَالَ اِبْن هِشَام : وَأَلْقَى عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل رُمْحه يَوْمئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِم عَنْ عَمْرو ; فَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت فِي ذَلِكَ :
فَرَّ وَأَلْقَى لَنَا رُمْحه | لَعَلَّك عِكْرِمَ لَمْ تَفْعَلِ |
وَوَلَّيْت تَعْدُو كَعَدْوِ الظَّلِيم | مَا إِنْ تَجُور عَنْ الْمَعْدِلِ |
وَلَمْ تُلْقِ ظَهْرك مُسْتَأْنِسًا | كَأَنَّ قَفَاك قَفَا فُرْعُل |
وَكَانَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي حِصْن بَنِي حَارِثَة، وَأُمّ سَعْد بْن مُعَاذ مَعَهَا، وَعَلَى سَعْد دِرْع مُقَلِّصَة قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعه، وَفِي يَده حَرْبَته وَهُوَ يَقُول :
لَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَق الْهَيْجَا جَمَلْ | لَا بَأْس بِالْمَوْتِ إِذَا كَانَ الْأَجَلْ |
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ رَمَاهُ ; فَقِيلَ : رَمَاهُ حِبَّان بْن قَيْس اِبْن الْعَرِقَة، أَحَد بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ لَهُ : خُذْهَا وَأَنَا اِبْن الْعَرِقَة.
فَقَالَ لَهُ سَعْد : عَرَّقَ اللَّه وَجْهك فِي النَّار.
وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي رَمَاهُ خَفَاجَة بْن عَاصِم بْن حِبَّان.
وَقِيلَ : بَلْ الَّذِي رَمَاهُ أَبُو أُسَامَة الْجُشَمِيّ، حَلِيف بَنِي مَخْزُوم.
وَلِحَسَّان مَعَ صَفِيَّة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب خَبَر طَرِيف يَوْمئِذٍ ; ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره.
قَالَتْ صَفِيَّة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : كُنَّا يَوْم الْأَحْزَاب فِي حِصْن حَسَّان بْن ثَابِت، وَحَسَّان مَعَنَا فِي النِّسَاء وَالصِّبْيَان، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي نَحْر الْعَدُوّ لَا يَسْتَطِيعُونَ الِانْصِرَاف إِلَيْنَا، فَإِذَا يَهُودِيّ يَدُور، فَقُلْت لِحَسَّان : اِنْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ; فَقَالَ : مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا يَا اِبْنَة عَبْد الْمُطَّلِب ! فَأَخَذْت عَمُودًا وَنَزَلْت مِنْ الْحِصْن فَقَتَلْته، فَقُلْت : يَا حَسَّان، اِنْزِلْ فَاسْلُبْهُ، فَلَمْ يَمْنَعنِي مِنْ سَلَبه إِلَّا أَنَّهُ رَجُل.
فَقَالَ : مَا لِي بِسَلَبِهِ حَاجَة يَا اِبْنَة عَبْد الْمُطَّلِب ! قَالَ : فَنَزَلْت فَسَلَبْته.
قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا عَنْ حَسَّان جَمَاعَة مِنْ أَهْل السِّيَر وَقَالُوا : لَوْ كَانَ فِي حَسَّان مِنْ الْجُبْن مَا وَصَفْتُمْ لَهَجَاهُ بِذَلِكَ الَّذِينَ كَانَ يُهَاجِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، وَلَهُجِيَ بِذَلِكَ اِبْنه عَبْد الرَّحْمَن ; فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يُهَاجِي النَّاس مِنْ شُعَرَاء الْعَرَب ; مِثْل النَّجَاشِيّ وَغَيْره.
السَّادِسَة : وَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَيْم بْن مَسْعُود بْن عَامِر الْأَشْجَعِيّ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْت وَلَمْ يَعْلَم قَوْمِي بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْت ; فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا أَنْتَ رَجُل وَاحِد مِنْ غَطَفَان فَلَوْ خَرَجْت فَخَذَّلْت عَنَّا إِنْ اِسْتَطَعْت كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ بَقَائِك مَعَنَا فَاخْرُجْ فَإِنَّ الْحَرْب خَدْعَة ).
فَخَرَجَ نُعَيْم بْن مَسْعُود حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَة - وَكَانَ يُنَادِمهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة - فَقَالَ : يَا بَنِي قُرَيْظَة، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّة مَا بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ; قَالُوا : قُلْ فَلَسْت عِنْدنَا بِمُتَّهَمٍ ; فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَان لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَد بَلَدكُمْ، فِيهِ أَمْوَالكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَان قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّد وَأَصْحَابه، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَة أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنكُمْ وَبَيْن الرَّجُل، وَلَا طَاقَة لَكُمْ بِهِ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْم حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رُهُنًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ : قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ مَعْشَر قُرَيْش، وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَمْر أَرَى مِنْ الْحَقّ أَنْ أُبَلِّغكُمُوهُ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ ; قَالُوا نَفْعَل ; قَالَ : تَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْشَر يَهُود، قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِذْلَانهمْ مُحَمَّدًا، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ : إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيك أَنْ نَأْخُذ مِنْ قُرَيْش وَغَطَفَان رِجَالًا مِنْ أَشْرَافهمْ فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِب أَعْنَاقهمْ، ثُمَّ نَكُون مَعَك عَلَى مَا بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلهُمْ.
ثُمَّ أَتَى غَطَفَان فَقَالَ مِثْل ذَلِكَ.
السَّادِسَة : وَأَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَيْم بْن مَسْعُود بْن عَامِر الْأَشْجَعِيّ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْت وَلَمْ يَعْلَم قَوْمِي بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْت ; فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا أَنْتَ رَجُل وَاحِد مِنْ غَطَفَان فَلَوْ خَرَجْت فَخَذَّلْت عَنَّا إِنْ اِسْتَطَعْت كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ بَقَائِك مَعَنَا فَاخْرُجْ فَإِنَّ الْحَرْب خَدْعَة ).
فَخَرَجَ نُعَيْم بْن مَسْعُود حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَة - وَكَانَ يُنَادِمهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة - فَقَالَ : يَا بَنِي قُرَيْظَة، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّة مَا بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ; قَالُوا : قُلْ فَلَسْت عِنْدنَا بِمُتَّهَمٍ ; فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَان لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَد بَلَدكُمْ، فِيهِ أَمْوَالكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَان قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّد وَأَصْحَابه، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَة أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنكُمْ وَبَيْن الرَّجُل، وَلَا طَاقَة لَكُمْ بِهِ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْم حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رُهُنًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ : قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ مَعْشَر قُرَيْش، وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَمْر أَرَى مِنْ الْحَقّ أَنْ أُبَلِّغكُمُوهُ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ ; قَالُوا نَفْعَل ; قَالَ : تَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْشَر يَهُود، قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِذْلَانهمْ مُحَمَّدًا، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ : إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيك أَنْ نَأْخُذ مِنْ قُرَيْش وَغَطَفَان رِجَالًا مِنْ أَشْرَافهمْ فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِب أَعْنَاقهمْ، ثُمَّ نَكُون مَعَك عَلَى مَا بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلهُمْ.
ثُمَّ أَتَى غَطَفَان فَقَالَ مِثْل ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة السَّبْت وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ صُنْع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَان إِلَى بَنِي قُرَيْظَة عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل فِي نَفَر مِنْ قُرَيْش وَغَطَفَان يَقُول لَهُمْ : إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَام، قَدْ هَلَكَ الْخُفّ وَالْحَافِر، فَاغْدُوا صَبِيحَة غَد لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِز مُحَمَّدًا ; فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ : إِنَّ الْيَوْم يَوْم السَّبْت، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا نَالَ مِنَّا مَنْ تَعَدَّى فِي السَّبْت، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نُقَاتِل مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رُهُنًا ; فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُول بِذَلِكَ قَالُوا : صَدَقَنَا وَاَللَّه نُعَيْم بْن مَسْعُود ; فَرَدُّوا إِلَيْهِمْ الرُّسُل وَقَالُوا : وَاَللَّه لَا نُعْطِيكُمْ رُهُنًا أَبَدًا فَاخْرُجُوا مَعَنَا إِنْ شِئْتُمْ وَإِلَّا فَلَا عَهْد بَيْننَا وَبَيْنكُمْ.
فَقَالَ بَنُو قُرَيْظَة : صَدَقَ وَاَللَّه نُعَيْم بْن مَسْعُود.
وَخَذَّلَ اللَّه بَيْنهمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتهمْ، وَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ رِيحًا عَاصِفًا فِي لَيَالٍ شَدِيدَة الْبَرْد ; فَجَعَلَتْ الرِّيح تَقْلِب آنِيَتَهُمْ وَتَكْفَأُ قُدُورهمْ.
السَّابِعَة : فَلَمَّا اِتَّصَلَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِخْتِلَاف أَمْرهمْ، بَعَثَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ وَاسْتَتَرَ فِي غِمَارهمْ، وَسَمِعَ أَبَا سُفْيَان يَقُول : يَا مَعْشَر قُرَيْش، لِيَتَعَرَّفْ كُلّ اِمْرِئٍ جَلِيسَهُ.
قَالَ حُذَيْفَة : فَأَخَذْت بِيَدِ جَلِيسِي وَقُلْت : وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أَنَا فُلَان.
ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَان : وَيْلكُمْ يَا مَعْشَر قُرَيْش إِنَّكُمْ وَاَللَّه مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَام، وَلَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاع وَالْخُفّ وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَة، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيح مَا تَرَوْنَ، مَا يَسْتَمْسِك لَنَا بِنَاء، وَلَا تَثْبُت لَنَا قِدْر، وَلَا تَقُوم لَنَا نَار، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِل ; وَوَثَبَ عَلَى جَمَله فَمَا حَلَّ عِقَال يَده إِلَّا وَهُوَ قَائِم.
قَالَ حُذَيْفَة : وَلَوْلَا عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي إِذْ بَعَثَنِي، قَالَ لِي :( مُرَّ إِلَى الْقَوْم فَاعْلَمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا تُحْدِث شَيْئًا ) - لَقَتَلْته بِسَهْمٍ ; ثُمَّ أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد رَحِيلهمْ، فَوَجَدْته قَائِمًا يُصَلِّي فِي مِرْط لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِل - قَالَ اِبْن هِشَام : الْمَرَاجِل ضَرْب مِنْ وَشْي الْيَمَن - فَأَخْبَرْته فَحَمِدَ اللَّه.
قُلْت : وَخَبَر حُذَيْفَة هَذَا مَذْكُور فِي صَحِيح مُسْلِم، وَفِيهِ آيَات عَظِيمَة، رَوَاهُ جَرِير عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا عِنْد حُذَيْفَة فَقَالَ رَجُل لَوْ أَدْرَكْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْت مَعَهُ وَأَبْلَيْت.
فَقَالَ حُذَيْفَة : أَنْتَ كُنْت تَفْعَل ذَلِكَ ! لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْأَحْزَاب وَأَخَذَتْنَا رِيح شَدِيدَة وَقَرّ.
فَقَالَ بَنُو قُرَيْظَة : صَدَقَ وَاَللَّه نُعَيْم بْن مَسْعُود.
وَخَذَّلَ اللَّه بَيْنهمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتهمْ، وَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ رِيحًا عَاصِفًا فِي لَيَالٍ شَدِيدَة الْبَرْد ; فَجَعَلَتْ الرِّيح تَقْلِب آنِيَتَهُمْ وَتَكْفَأُ قُدُورهمْ.
السَّابِعَة : فَلَمَّا اِتَّصَلَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِخْتِلَاف أَمْرهمْ، بَعَثَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ وَاسْتَتَرَ فِي غِمَارهمْ، وَسَمِعَ أَبَا سُفْيَان يَقُول : يَا مَعْشَر قُرَيْش، لِيَتَعَرَّفْ كُلّ اِمْرِئٍ جَلِيسَهُ.
قَالَ حُذَيْفَة : فَأَخَذْت بِيَدِ جَلِيسِي وَقُلْت : وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أَنَا فُلَان.
ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَان : وَيْلكُمْ يَا مَعْشَر قُرَيْش إِنَّكُمْ وَاَللَّه مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَام، وَلَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاع وَالْخُفّ وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَة، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيح مَا تَرَوْنَ، مَا يَسْتَمْسِك لَنَا بِنَاء، وَلَا تَثْبُت لَنَا قِدْر، وَلَا تَقُوم لَنَا نَار، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِل ; وَوَثَبَ عَلَى جَمَله فَمَا حَلَّ عِقَال يَده إِلَّا وَهُوَ قَائِم.
قَالَ حُذَيْفَة : وَلَوْلَا عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي إِذْ بَعَثَنِي، قَالَ لِي :( مُرَّ إِلَى الْقَوْم فَاعْلَمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا تُحْدِث شَيْئًا ) - لَقَتَلْته بِسَهْمٍ ; ثُمَّ أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد رَحِيلهمْ، فَوَجَدْته قَائِمًا يُصَلِّي فِي مِرْط لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِل - قَالَ اِبْن هِشَام : الْمَرَاجِل ضَرْب مِنْ وَشْي الْيَمَن - فَأَخْبَرْته فَحَمِدَ اللَّه.
قُلْت : وَخَبَر حُذَيْفَة هَذَا مَذْكُور فِي صَحِيح مُسْلِم، وَفِيهِ آيَات عَظِيمَة، رَوَاهُ جَرِير عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا عِنْد حُذَيْفَة فَقَالَ رَجُل لَوْ أَدْرَكْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْت مَعَهُ وَأَبْلَيْت.
فَقَالَ حُذَيْفَة : أَنْتَ كُنْت تَفْعَل ذَلِكَ ! لَقَدْ رَأَيْتنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْأَحْزَاب وَأَخَذَتْنَا رِيح شَدِيدَة وَقَرّ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا رَجُل يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْم جَعَلَهُ اللَّه مَعِي يَوْم الْقِيَامَة ) ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَد، ثُمَّ قَالَ :( أَلَا رَجُل يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْم جَعَلَهُ اللَّه مَعِي يَوْم الْقِيَامَة ) ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَد.
فَقَالَ :( قُمْ يَا حُذَيْفَة فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْم ) فَلَمْ أَجِد بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُوم.
قَالَ :( اِذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْم وَلَا تَذْعَرهُمْ عَلَيَّ ) قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْت مِنْ عِنْده جَعَلْت كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّام حَتَّى أَتَيْتهمْ، فَرَأَيْت أَبَا سُفْيَان يَصْلِي ظَهْره بِالنَّارِ، فَوَضَعْت سَهْمًا فِي كَبِد الْقَوْس فَأَرَدْت أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْت قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَلَا تَذْعَرهُمْ عَلَيَّ ) وَلَوْ رَمَيْته لَأَصَبْته : فَرَجَعْت وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْل الْحَمَّام، فَلَمَّا أَتَيْته فَأَخْبَرْته بِخَبَرِ الْقَوْم وَفَرَغْت قُرِرْت، فَأَلْبَسَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْل عَبَاءَة كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْت، فَلَمَّا أَصْبَحْت قَالَ :( قُمْ يَا نَوْمَان ).
وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَهَبَ الْأَحْزَاب، رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ سِلَاحهمْ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة دِحْيَة بْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ، عَلَى بَغْلَة عَلَيْهَا قَطِيفَة دِيبَاج فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّد، إِنْ كُنْتُمْ قَدْ وَضَعْتُمْ سِلَاحكُمْ فَمَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَة سِلَاحهَا.
إِنَّ اللَّه يَأْمُرك أَنْ تَخْرُج إِلَى بَنِي قُرَيْظَة، وَإِنِّي مُتَقَدِّم إِلَيْهِمْ فَمُزَلْزِل بِهِمْ حُصُونهمْ.
فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ :
الثَّامِنَة : مُنَادِيًا فَنَادَى : لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ; فَتَخَوَّفَ نَاس فَوْت الْوَقْت فَصَلَّوْا دُون بَنِي قُرَيْظَة.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا نُصَلِّي الْعَصْر إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْت.
قَالَ : فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْه تَصْوِيب الْمُجْتَهِدِينَ.
وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي " الْأَنْبِيَاء ".
وَكَانَ سَعْد بْن مُعَاذ إِذْ أَصَابَهُ السَّهْم دَعَا رَبّه فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْب قُرَيْش فَأَبْقِنِي لَهَا ; فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ أَنْ أُجَاهِدهُمْ مِنْ قَوْم كَذَّبُوا رَسُولك وَأَخْرَجُوهُ.
اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْب بَيْننَا وَبَيْنهمْ فَاجْعَلْهَا لِي شَهَادَة، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرّ عَيْنِي فِي بَنِي قُرَيْظَة.
وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ مَرَّ بِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَنِسَاء مَعَهَا فِي الْأَطُم ( فَارِع )، وَعَلَيْهِ دِرْع مُقَلِّصَة مُشَمِّر الْكُمَّيْنِ، وَبِهِ أَثَر صُفْرَة وَهُوَ يَرْتَجِز :
فَقَالَ :( قُمْ يَا حُذَيْفَة فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْم ) فَلَمْ أَجِد بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُوم.
قَالَ :( اِذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْم وَلَا تَذْعَرهُمْ عَلَيَّ ) قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْت مِنْ عِنْده جَعَلْت كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّام حَتَّى أَتَيْتهمْ، فَرَأَيْت أَبَا سُفْيَان يَصْلِي ظَهْره بِالنَّارِ، فَوَضَعْت سَهْمًا فِي كَبِد الْقَوْس فَأَرَدْت أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْت قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَلَا تَذْعَرهُمْ عَلَيَّ ) وَلَوْ رَمَيْته لَأَصَبْته : فَرَجَعْت وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْل الْحَمَّام، فَلَمَّا أَتَيْته فَأَخْبَرْته بِخَبَرِ الْقَوْم وَفَرَغْت قُرِرْت، فَأَلْبَسَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْل عَبَاءَة كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْت، فَلَمَّا أَصْبَحْت قَالَ :( قُمْ يَا نَوْمَان ).
وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَهَبَ الْأَحْزَاب، رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ سِلَاحهمْ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة دِحْيَة بْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ، عَلَى بَغْلَة عَلَيْهَا قَطِيفَة دِيبَاج فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّد، إِنْ كُنْتُمْ قَدْ وَضَعْتُمْ سِلَاحكُمْ فَمَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَة سِلَاحهَا.
إِنَّ اللَّه يَأْمُرك أَنْ تَخْرُج إِلَى بَنِي قُرَيْظَة، وَإِنِّي مُتَقَدِّم إِلَيْهِمْ فَمُزَلْزِل بِهِمْ حُصُونهمْ.
فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ :
الثَّامِنَة : مُنَادِيًا فَنَادَى : لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ; فَتَخَوَّفَ نَاس فَوْت الْوَقْت فَصَلَّوْا دُون بَنِي قُرَيْظَة.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا نُصَلِّي الْعَصْر إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْت.
قَالَ : فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْه تَصْوِيب الْمُجْتَهِدِينَ.
وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي " الْأَنْبِيَاء ".
وَكَانَ سَعْد بْن مُعَاذ إِذْ أَصَابَهُ السَّهْم دَعَا رَبّه فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْب قُرَيْش فَأَبْقِنِي لَهَا ; فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ أَنْ أُجَاهِدهُمْ مِنْ قَوْم كَذَّبُوا رَسُولك وَأَخْرَجُوهُ.
اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْب بَيْننَا وَبَيْنهمْ فَاجْعَلْهَا لِي شَهَادَة، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرّ عَيْنِي فِي بَنِي قُرَيْظَة.
وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ مَرَّ بِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَنِسَاء مَعَهَا فِي الْأَطُم ( فَارِع )، وَعَلَيْهِ دِرْع مُقَلِّصَة مُشَمِّر الْكُمَّيْنِ، وَبِهِ أَثَر صُفْرَة وَهُوَ يَرْتَجِز :