تفسير سورة الأنفال

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الأنفال: جمع نَفَل بفتح الفاء، وهو هنا الغنائم، وسميت أنفالا؛ لأن النفل هو الزيادة، لأنها ليست في مقابل، حتى تكون أجرة للمحارب كالمرتزقة من الجنود في هذا الزمان، وإنما أجر المجاهد عند ربه، وثوابه ورضوانه أعظم، فهي زيادة على ثواب الجهاد، وقد جعلت الغنائم من خواص الرسالة المحمدية.
ويطلق على الغنيمة، وقد يطلق على كل ما يؤخذ من العدو من غير قتال كالفيء، وقد يطلق على ما نفله النبي - ﷺ - من خمس الله ورسوله لبعض المؤمنين، ومنه ما كان يعطي للمؤلفة قلوبهم، ومهما يكن ما يعطي من نفل غير ما يكون في الجهاد، فإن الظاهر المراد من الأنفال الغنائم التي غنمت في غزوة، فقد جاءت قريش بخيلها ورجلها، وكثير من مالها، فآل ذلك كله للمؤمنين المنتصرين، فأخذ كل من المجاهدين ما عده حقا له دون غيره، وثبت في الصحاح بعض الاختلاف، إذ لم يكن ثمة منهاج يتبع، ولم يكن لهم بهذه الغنائم في الإسلام مثال يحتذى، فيروي الإمام أحمد في مسنده عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ
3060
الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ (١)، ولقد حاول بعض المجاهدين أن يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، فيروي الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ، فَأَتَيْتُ بِهِ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ " قَالَ: فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي، وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ " إلى آخر الآية " (٢).
لم يكن بالمسلمين عهد بالغنائم ولا تقسيمها، فاختلفوا في ذلك، فأنزل الله تعالى أنها لله تعالى ورسوله يضعانها حيث تكون القسمة العادلة التي تجمع بين العدل والمصلحة، وقد أخذها رسول الله - ﷺ - وقسمها حيث أراه الله. وهل قسمها قسمة الغنائم المنصوص عليها في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) إلى آخر السورة!!
يرجح بعض الرواة أنه لم تكن نزلت آية الغنائم فقسمها النبي - ﷺ - بين المحاربين بالسوية، ورجح الحافظ ابن كثير أنه قسمها قسمة الغنائم في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ.....).
________
(١) مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (٢٢٢٥٦).
(٢) رواه أحمد: مسند العشرة المبشرين - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (١٥٥٩)، كما رواه مسلم: السير والجهاد (١٧٤٨).
3061
واستأنس لذلك بما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه كانت له شارفتان أخذهما من الخمس؛ بمقتضى الآية الكريمة.
ولقد قال الزمخشري: إن من الخلاف في الأنفال، أن المهاجرين طلبوها دون الأنصار؛ لأنها بدل عما اغتصب من أموالهم عند الهجرة، ولكن ذلك لَا سند له من الرواية، فلعله قياس قاسه الزمخشري، ولعل عنده رواية ولم يذكر نقلها.
بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقضى على الخلاف في موطنه، فقال تعالى:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة:
أولها - التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و (الفاء) في قوله تعالى: (فَاتَقُوا اللَّهَ) فاء الإفصاح؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام.
وثانيها - في قوله تعالى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ) وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق.
الأمر الثالث والرابع - طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم.
3062
وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور؛ ولذا قال تعالى: (إن كنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.
وقد قال الزمخشري: " جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته؛ ليعلم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ".
وبعد أن ذكر المؤمنين الكاملين أخذ سبحانه وتعالى يبين صفاتهم فقال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
ذكر الله بعد أن ذكر موجبات الإيمان من إصلاح ذات البين والتقوى والطاعة ذكر سبحانه صفات المؤمنين، فذكر صفتين معينتين، وعملين تدفع إليهما قوة الإيمان.
أول الأمرين الأولين - ذكره الله تعالى بقوله تعالت كلماته:
3063
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، الوجل الخوف منه والفزع إليه، فالله سبحانه هو مالك الوجود من استحضر عظمته وجلاله وكبرياءه وملكوته خافه وفزع إليه في الملمات، وركن إليه مطمئنا إلى ساحته العظمى، فهو المخوف المحبوب المرجو في الملمات؛ ولذا جاءت هذه الآية تقول: إن القلوب توجل لذكره، أي ترهبه وتحس بعظمته، وتعتمد عليه وحده، وتطمئن بالالتجاء إليه، كمن يخاف رجلا عظيما، فيرهب قوته، وفي الوقت ذاته يطمئن إليه؛ ولذلك قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فهو المخوف الذي يركن إليه.
وقال تعالى جامعا بين وجل المؤِمن واطمئنانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
3063
وثاني الأمرين - (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) أي إذا قرئت عليهم الآيات القرآنية زادتهم إيمانا، فكل آية فيها نور مبين، والإيمان استضاءة بالنور، فكلما تعددت مشارق النور عم الضياء وازداد النظر إبصارا، كذلك آيات الله تعالى، كلما تليت عليهم آيه أضاءت القلب وازداد نور الإيمان فازداد إيمانًا، فزيادة الإيمان بزيادة الدليل وكثرته، وكل آية تقوى ناحية من نواحي الإيمان، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤).
وهناك مسألة تثار، وهي زيادة الإيمان ونقصه، ونحن ممن يقولون إن الإيمان يزيد بتضافر الأدلة، وكثرة الآيات الموحية، فإنها تقويه وتثبته، وتزيل الريب والشبهات، وليست زيادة الإيمان إلا قوته ودعمه بالأدلة، وكل آية في القرآن دليل قائم بذاته.
وهناك أمر ثالث يتعلق بالأمرين السابقين، وهو التوكل؛ ولذا قال تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكلُونَ) التوكل على الله تعالى حق توكله يتحقق بعد اتخاذ الأسباب في ثلاثة أمور:
أولها - أن يحس بأنه مهما يكمل إعداد أمره فإنه لَا ينتج ثمرته إلا بإرادة الله تعالى، فمن يظن أن الأسباب وحدها تنتج الأثر فقد ضل؛ لأنه توهم أنه يؤثر في الإيجاد، وذلك وَهْم يفسد العقول.
ثانيها - أنه يفوض أموره لله تعالى وحده.
ثالثها - ألا يعتمد على أحد سواه؛ ولذا قال تعالى: (وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فقدم الجار والمجرور على الفعل أي لَا يتوكلون على أحد سواه، وبهذا يكون التوكل عبادة من العبادات.
هذه الأحوال النفسية للمؤمن، أما الأمور للعملية المدفوعة بأمور نفسية فهي إقامة الصلاة والإنفاق مما رزق الله تعالى:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
3064
وهاتان صفتان أو عملان لهما مظهر عملي، ولهما مظهر نفسي إيجابي: أولاهما - إقامة الصلاة؛ أي الإتيان بها مقومة على وجهها من أداء الأركان الحسية مستوفاة، وأن تكون مصورة للمعاني الروحية من خضوع وخشوع، واستحضار لصفات الربوبية بأن يكون قائما بحق الله فيها كأنه يراه، مستشعرا الإحساس بأنه في حضرة الله تعالى جل جلاله، وبذلك تتحقق للصلاة خاصيتها، وهي أنها تجانب المرء من فعل السوء، كما قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ...)، فليست الصلاة نقر كنقر الديكة، ولكنها تجرد لله تعالى، وانصراف، وقضاء وقت في حضرته.
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: (يقِيمُونَ الصَّلاةَ) يفيد المداومة عليها في أوقاتها من غير تخلف؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر الدائم، والمحافظة عليها من غير انقطاع.
وإن الصلاة فريضة عملية مهذبة تجريدية لله سبحانه وتعالى، وهي فريضة اجتماعية، لتأليف مجتمع متحاب متواد مترابط بصلات من الرحمة والتعاون، يجمعه الإلف الروحي والطهر والإخلاص والالتقاء عند الله تعالى في كل يوم خمس مرات.
ومهما يكن فالأساس في أمر الصلاة أنها تهذيب روحي، وتأليف اجتماعي على الطهر، واجتماع على الألفة والمودة والرحمة. أما الزكاة فهي تعاون اجتماعي، وقد ذكر النبي - ﷺ - أنها مغنم لَا مغرم، لأنها تغني الفقراء، وتدفع الآفات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، ولقد قال تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) أي أن الزكاة من رزق الله تعالى، لَا منَّ فيها، فالله هو المعطي وهو المنفق وهو الآمر وهو المكلف، فتقديم الجار والمجرور، لبيان الاختصاص أو القصر، أي أن الإنفاق مما أعطاه الله دون غيره، وفيه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنياء ليعطوا منه للفقراء، فالمال مال الله، والجميع عباد الله، فهو يأخذ من مال الله ويعطي عباد الله. وإن الله اختبر بعض الناس بالمال وجعلهم مستخلفين، كما
3065
قال تعالى في آية أخرى: (وَأَنفقُوا مِمَّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيه) وأمرهم بالعطاء، واختبر بعض الناس بالفقر، وأمرهم بالصبر والعمل واحتمال البلاء.
ولقد حكم الله تعالى للمؤمنين الذين وجلت قلوبهم عند ذكر الله، والذين يزداد إيمانهم إذا تليت آيات الله تعالى، والذين بعد إحكام العمل، لَا يتوكلون إلا على الله، حكم الله تعالى لهم بما كتب فقال:
3066
(أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
حكم الله تعالى لهم بأنهم المؤمنون حقا، أي إيمانا حقا صادقا ثابتا، وفي النص الكريم ما يدل على القصر، أي أنهم وحدهم دون غيرهم المقصور عليهم وصف الإيمان، أي لَا مؤمن على وجه الكمال غيرهم، وهذه شهادة من الله تعالى بانفرادهم بكمال الإيمان، وكفى بالله شهيدًا.
وقد وصفهم الله تعالى بثلاثة أوصاف هي صفات الكمال للمؤمنين:
أولها - أن لهم عند الله درجات، والدرجات لَا تذكر إلا للدرجات العليا، ومعنى (لهُمْ دَرَجاتٌ)، أن السبق عند الله، وأنهم علوا على الناس بهذه الدرجات فهو بيان للتشريف كما نقول - ولكلام الله المنزلة - لفلان مكانة عندي فأي درجة أعلى من درجات عند الله.
الوصف الثاني - أن لهم مغفرة أي أنه غفار الذنوب وقابل التوب يغفر لهم وذلك تقريب من الله تعالى لهم، فإنه تعالى يتجاوز عن سيئاتهم إذا تابوا وأنابوا، وتلك منزلة مقربة، وتثبت أنهم قريبون منه تبارك وتعالى.
والثالثة - رزق كريم، والرزق عطاء الله تعالى، وهو رزقان: مادي ومعنوي، فأما المادي: فهو عطاء الله في الدنيا، بحيث يغنيه عن الناس لَا يجعل حاجته عند أحد، بل تكون حاجته عند الله، والمال نعمة لمن أحسن تحصيله، فلم ينله إلا من حلال، ولم ينفقه إلا في حلال، والنبي - ﷺ - قد ورد أنه قال: " نعم المال الصالح للمرء الصالح " (١).
________
(١) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عمرو بن العاص عن النبي - ﷺ - (١٧٠٩٦).
3066
والمعنوي: هو رضا الله تعالى وتغمده برحمته في الآخرة، بالنعيم المقيم وإبعاده عن العذاب الأليم، فهذا رزق، ومن الرزق المحامد، وأن يقول أهل التقى فيه الخير، ولا يقولون إلا خيرا، ومن الرزق الكريم ألا يوفق لعمل السوء، ولا يوفق إلا للخير.
ووصف الرزق بالكريم يفيد أنه لَا يكسب إلا بشريف الأعمال، ولا يتدلى في طلبه إلى حيث الأشرار، والمعنى أنه يرزق من خير، ولا ينفق إلا في خير، ولا يكتسب إلا من مكان كريم، والله يرزقه من حيث لَا يحتسب.
* * *
مقدمات يوم الفرقان
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
* * *
الآيات بعضها متصل ببعض، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في النسق والبيان والموضوع، إذ كلها في مقدمات غزوة بدر، والسير النفسي حتى تصل إلى نهايتها، وقوله تعالى:
3067
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
3067
ما موضع " كما " في التشبيه، ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عدة تفسيرات كلها تحتملها الآية، فذكر أنها متصلة باختلافهم في الأنفال، وأن الله تعالى انتزعها من أيديهم على رغبتهم فيها كذلك (كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) بالأمر الثابت (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) يقول الطبري في توضيح هذا المعنى: " ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها، فانتزعها الله تعالى منكم وجعلها إلى قَسْمِهِ، وقَسْمِ رسول الله - ﷺ - فقسمها على العدل فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم فكان عاقبة كَراهتهم للقتال بأن قدره الله لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غيرِ ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا، كما قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦).
وخلاصة المعنى أن الله يختبركم الآن كما اختبركم في الغنائم، فقد أخذها منكم وتولى النبي - ﷺ - قسمتها بالعدل والمصلحة، كذلك اختبركم، فأخرج النبي - ﷺ - لذات الشوكة والمصلحة (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
ونرى أن هذا التخريج مؤداه أن الله اختبركم بمنع نفوسكم من المشاقة في المال ترويضا على الصبر على هوى النفسر، وقمعها عن شهواتها استعدادا للقتال كذلك اختبركم بحمل أنفسكم على ما تكره ابتلاء بالصبر على المكاره، كما اختبركم بالصبر على رد هوى النفس، فكلاهما لابد منه للجهاد.
ويذكر ابن جرير وجهًا آخر، فيقول: " قال آخرون معنى ذلك: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه من بعد ما تبين لهم أنه الحق ".
ومؤدى هذا أنهم وجد فيهم حال تردد أو على الأقل كراهية للقتال مرتين: مرة عندما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهو الأمر الثابت الذي قامت الدواعي إليه وكان ذلك للعير، ومرة أخرى عندما تعين القتال، وصار الأمر للنفير
3068
لا للعير، وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل، ولا تأباه الألفاظ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع الحير، وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب، ويكون قوله تعالى: (كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ) متعلقا بقوله تعالى:
3069
(يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
ونقف هنا عند أمرين: أولهما - أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:
أولاهما - (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ) أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي - ﷺ - ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما - عندما ذكر الجدال في قوله تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها، وبدا لهم النفير، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها، لقوا جيشا يقاتلونه، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا، والصبر عند الصدمة، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لَا مناص منه.
وفى الحق كانت قوة الكفر مسيطرة، وما كان للمؤمنين قِبَلٌ بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته، فالخوف كان لَا بد منه، وليس الشجاع هو الذي لَا يخاف، إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها، ولكن يدبر للقائها، ويعمل على التغلب عليها، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت.
3069
وقد قال الله تعالى في تصوير خوفهم وتقديرهم للِّقاء (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال من يساق إلى الموت، وهو مشدوه ناظر إليه، متوقع له كأنه يراه رأي العين، وأنه نازل به لَا محالة. ولقد تجسم لديهم الخطر، كأنه نازل بهم لَا محالة، ولا منجاة منه، وإن رضوا بالفداء فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن ثَمَّة خطر، ولكن ثمة أيضا وعد الله تعالى بالنصر والتأييد وثمة الإيمان الثابت الذي تزلزلت معه الجبال ولا يتزلزل.
وإن الله تعالى يدعوهم في هذا إلى الصبر والاطمئنان إلى وعد الله تعالى وإن النبي - ﷺ - كان يبث فيهم روح الاطمئنان والأمن، ولكنه كان يريد أن يتثبت من اعتزامهم اللقاء وطلبهم للنصر، وطاعتهم له.
ويروى الحافظ ابن كثير وأصحاب السِّير الصحاح أنه لما بلغ النبي - ﷺ - خبر فرار العير إلى سيف البحر، ومجيء جيش المشركين وكان النزال لابد منه أراد - ﷺ - أن يتثبت من جيشه فاستشار من معه وأخبرهم عن قريش.
فقال أبو بكر، فأحسن القول، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: امض يا رسول الله لما أمرك الله به فنحن معك، والله لَا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله - ﷺ - خيرًا، ودعا له بخير.
ثم قال رسول الله - ﷺ -: " أشيروا عليَّ أيها الناس "، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله يتخوف من ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى
3070
عدوهم من بلادهم، فلما قال رسول الله - ﷺ - ذلك. قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال: " أجل ". قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله كما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى بك عدونا غدا، إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله تعالى، فَسُرَّ رسول الله - ﷺ - بقول سعد ونشطه، وقال: " سيروا على بركة الله " (١).
انظر إلى حكمة القائد المحنك لَا سير إلا بعد أن يعرف أن إرادة جيشه قد اجتمعت على الحرب.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
لقد أراد الله تعالى أن يعز الإسلام، ويضع الحواجز المانعة من أن يستمر الشرك في غيه، لقد طاوَلهُ النبي - ﷺ -، وصابَرَهُ في مكة، وتحمل أذاه حتى كون الله للإسلام شوكة في المدينة دار الإيواء والنصرة، فكان لَا بد من بعد ذلك من وضع حد للطغيان، ووقف للفتنة فكان لابد من القتال. كانت عير لمكّة تذهب إلى الشام وتمر على المدينة أو على مقربة من المدينة وكانت فيها أموال كثيرة لقريش، فاراد النبي - ﷺ - أن يأخذها المسلمون بدل الأموال التي أخرجوا منها، ولأنه لَا سلم بينهم، ولأنهم أباحوا دماء المسلمين في مكة وأموالهم، فكان حقا أن تباح دماؤهم وأموالهم، خرج نحو ثلاثمائة لمصادرة العير، فانفلت بها المشركون وعلى رأسها أبو سفيان، ولكنه كان قد أرسل إلى مكة يستنفرها لتحمي عيرها، فنفرت بجيش كبير اتجه إلى بدر، ومع أن العير قد نجت فقد أصر الحمقى من المشركين على غزو المدينة، ونسوا المآل والرحم فكان اللقاء أمرا لابد منه.
________
(١) البداية والنهاية: ج ٤، ص ٦٠، وتاريخ الطبري): ج ١، ص ٩٥٤، وقصص الأنبياء: ج ١، ص ٣٦٠.
3071
ولقد كان بعض المؤمنين، وخصوصا الذين أخذت أموالهم يودون العير، ولم يريدوا القتال لأنها غنيمة أتت إليهم، وأنفلهم الله إياها، ولأن القتال كره لهم، والنفس المؤمنة رقيقة تكره الدماء، وكما قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُو كرْهٌ لَّكمْ)، وإن كان خيرا في مثل حال المشركين معهم ولذلك كانوا يودون العير، لَا الحرب، وتلك هي الفطرة، وقال تعالى:
3072
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
وعد الله تعالى إحدى الطائفتين إما طائفة العير وإما طائفة النفير، والطائفة هنا الجماعة، والمراد هنا جماعة العير يأخذونها بما معها من مال، أو جماعة الحرب يقتلون ويأسرون فيهم، ويغنمون أموالهم، ولكن فيها الشوكة والقوة وإذلال المشركين.
وهم يودون السهلة الهينة الخالية من الدماء، ولكن ليس فيها شوكة، ويختار الله تعالى لهم ما فيه الشوكة.
وعبر عن القوة بالشوكة على سبيل المجاز؛ لأن نتيجة الحرب ستكون رهبة للمشركين تجعلهم يتحفظون في معاملة المسلمين، ولا يقدمون على إيذائهم إلا إذا أقدموا على أمر خطير يشوكهم قبل أن ينالوه، فلا يكون طُعمة تؤكل أو تُنتهز الفرص لأكلها.
وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن إرادتهم العير بقوله تعالت كلماته (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكون) أي تودون العير وهي تعطيكم مالا، ولا يكون لكم بأخذها قوة ترهبهم، فهي ما لَا حماية ولا عزة فيها، وعبر سبحانه وتعالى عن إرادتها بقوله: (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون مائلين للعير، للمعاني التي ذكرناها.
3072
وفى هذا التعبير إشارة إلى معنى من معاني العتب، وتنبيه إلى أن الواجب هو طلب القوة، لمن كان المشركون يستضعفونهم، فيبدل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن استضعافهم قوة، وتمكينا في الأرض؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).
عبر الله تعالى بقوله يودون في جانبهم، وعبر بقوله (يرِيدُ اللَّهُ) دون " يود " للإشارة إلى أن ذلك من جانب الله إرادة، وإرادة الله نافذة وهي المصلحة وهي الخير، وكان التعبير في جانبهم بقوله: (وَتَودُّونَ) للإشارة إلى أنه مجرد ود، ولم يصر إرادة، وكيف يريدون ما لم يرد الله تعالى، وكيف وهم المؤمنون حقا وصدقا، وإرادة الله إعلاءً لهم، وميلهم ميل إلى ما هو أدنى.
وقد عبر سبحانه عن إرادة الشوكة والقوة بقوله:
3073
(لِيحِقَّ الْحَقَّ) أي أراد سبحانه وتعالى ذات الشوكة، ليقوى الحق ويثبته ويؤيده ويؤكده، وليكون له الكلمة العليا، وتكون كلمة الذين كفروا هي السفلى، فمعنى إحقاق الحق إعطاؤه حقه من التأييد والتثبيت والنصر والاستعلاء على الباطل وخفض نقيضه. وذكر الله تعالى نتيجة إحقاق الحق وليقطع دابر الكافرين؛ وذلك لأن نصر الحق وإعلاءه خبصٌ (١) للكفر شيئا فشيئا، حتى تذهب قوته ليجتث من أرض العرب احتثاثًا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الدابر هو الخلف، وعبر بذلك كناية عن أن لَا يبقى من الكافرين من يجهر بكفره، ويعاند الله تعالى، ويستعلى عليه، وذلك فيه تشبيه للكفر بالجيش الذي يولِّي مدبرًا، ويقاتل بقناه (٢) حتى يقضى عليه بقطع أدباره والقضاء عليه.
هذا ما أراده الله تعالى، وذلك ما كانوا يودونه، وقد أراد الله تعالى لهم العزة، فكان النصر المؤزر، وكانوا قليلًا فكثَّرهم الله، وقوله: (بِكَلِمَاتِهِ)، أي بالقرآن الذي هو حجة، فالتأييد تأييد للقرآن الكريم.
ثم أكد سبحانه معنى تأييد الحق، فذكر أنه سنة الله في تأييد الإيمان، وإبطال الشرك وهو الباطل: فقال عز من قائل:
________
(١) أي القفاء عليه شيئا فشيئا، من خبص خبصا: مات. لسان العرب.
(٢) أي يَسلب سلاح العدو ويُقاتل به.
3073
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ... (٨)
(اللام) هنا لام العاقبة، وهي تدل على الباعث على القتال، و (الحق) هنا هو الدين الثابت، و (الباطل) هو الشرك المفترى، والمعنى لتكون عاقبة القتال الذي هو الحق المؤيد للحق الذي أراده الله، وهو ذات الشوكة أن يثبت الحق ثبوتا دائما مستمرا ما دام أهل الإيمان مستمسكين، ويبطل الشرك وهو الباطل مستمرًا، (وَلَوْ كرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ولو كان ذلك رغم المجرمين الذين يجرمون في الأرض فيفسدون فيها ولا يصلحون ونجد هنا أن المجرمين مكرهون على قبول بما يقع، ولو كان وبلاء. وعبر هنا بالمجرمين، وفي الآية السابقة بقطع دابر الكافرين، وذلك لتنوع عنادهم وتعدد صوره، فهم كافرون لجحودهم مع قيام البينات، وهم مجرمون مفسدون لفتنتهم المؤمنين، فإذا كان الكفر تعديا على أنفسهم، وهم به كافرون، فالفتنة تعد على غيرهم، وهم بها مجرمون.
والحق الذي أحقه الله وثبته هو الجهاد وطلب ذات الشوكة، ولذا اقترن بها قطع دابر الكافرين، والحق الثاني هو الدينِ الحق، وتثبيته وإبطال الباطل، وهو منع الفتنة، كما قال تعالى: (وقَاتِلُوهُمْ حتَّى لَا تَكُونَ فتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كلُّهُ للَّه).
* * *
المعركة
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا
3074
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤)
* * *
كان النص القرآني السامي يحث المسلمين على أن يطلبوا الجهاد، بطلب الطائفة ذات الشوكة، والنبي - ﷺ - أمامهم يستحثهم ويستوثق منهم، حتى لَا تغلبهم الدنيّة في دينهم، وقد ظهر أنهم يودون غير ذات الشوكة، حتى إذا دنت الواقعة كان مع الاستعداد بالقلوب، والاطمئنان كان لابد من الالتجاء إلى الله تعالى ليكون الغوث، وليكون النصر، فهم مؤمنون، وليسوا مغرورين؛ ولذلك لابد من الالتجاء إلى الله، وخصوصا من الرسول الذي أحس بأن عليه العبء الأكبر، فاستغاث هو ومن معه بالله، وكان هو أظهرهم. قال تعالى:
3075
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
والاستغاثة طلب الغوث، و " إذ " ظرف يكون للماضي، وهو هنا للماضي المتصل بالحاضر، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ..) وجاء المضارع بعدها لتصوير الاستغاثة وأنها كانت التجاءً متجددًا مستمرا لله تعالى.
وقد روت السنّة استغاثة النبي - ﷺ -، وقد كانت ضراعة له سبحانه وتعالى، وروى مسلم والإمام أحمد، وغيرهما من الصحاح عن عمر بن الخطاب أنه قال: " لما كان يوم بدر نظر النبي - ﷺ - إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - ﷺ - القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم
3075
قال: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لَا تعبد في الأرض أبدًا " فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك " (١).
هذه هي استغاثة رسول الله - ﷺ -، وهي استغاثة من معه، فهو إمام الصلاة استغاثته استغاثة لهم، كما أن الإمام قراءته قراءة للمأمومين، وإن النبي - ﷺ - عندما اتجه إلى الاستغاثة اتجه إلى القبلة، وكأنها صلاة، يمم وجهه فيها شطر المسجد الحرام.
وقد استجاب الله تعالى لاستغاثة نبيه، فقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
(الفاء) للعطف الدال على الفورية، أي أن الإجابة كانت فور الدعاء، وكذلك دعاء النبيين ومن معهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والاستجابة يالسين والتاء هي شدة الإجابة كأحسن ما تجاب به الاستغاثة؛ لأنها استغاثة لله تعالى فهي إيمان لأجل قوة الإيمان وعزة المؤمنين، وقرنت الإجابة بما يدل على قوتها، فهي من ربكم الذي يكلؤكم، ويرعاكم، وذكر الاختصاص في قوله سبحانه: (لَكُم)، أي الإجابة لكم أنتم من ربكم ولا إجابة لغيركم لأنكم على الحق، وتدعون للحق.
وفسر سبحانه وتعالى الاستجابة بقوله: (أَنِّى مُمدكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) هنا ثلاث قراءات في (ألف)، فقرى بـ (ألْف)، ويكون الإمداد بألف من الملائكة على قدر عدد المشركين، فإنه إذا كان عددكم ثلاثمائة ونيفا وعددهم ألف، فقد أمدكم الله تعالى بألف من الملائكة، فيكون العدد في الحسبة متساويا أو تزيدون.
________
(١) رواه مسلم: الجهاد والسير - الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (١٧٦٣)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنفال (٨١ْ٣)، وأحمد: مسند العشرة - أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عه (٢٠٨) عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
3076
وهناك قراءة أخرى بـ (آلُف)، جمع ألف، على وزن أفعُل، وبذلك لا يكون العدد محدودا بل بألوف، وذكر الزمخشري قراءة ثالثة وهي (آلاف)، والرسم الإملائي العثمانى القرآني غير المنقوط والمشكول يحتمل القراءات الثلاث.
و" مردفين " أي متتابعين، مشتقة من أردف، وهي لغة في ردف وتقرأ بفتح الدال وهي قراءة (١)، والمعنى أنهم جاءوا وقد أردف بعضهم ببعض.
وهنا تقرر أن الله تعالى أمدهم بألف أو عدد من الألوف، وذلك أمر لا ريب، ولا تناقص بين الإمداد بآلاف، أو بآلاف، فالمراد جنس الألف لَا تعيين العدد.
ولكن كيف كان الإمداد، جاء في روايات لم نرها في صحاح السنة أنهم صوروا بالإنس، وكان بعض الناس يرى سيوفا لَا يرى حاملوها.
ولكن الثابت في الصحاح أنه كان إمداداً من غير أن يتعرض لبيان أنهم كانوا بصور إنسانية أم لم يكونوا، وهذا ما نراه.
وإذا لم تكن ثمة صور أو أجسام إنسانية، فإننا نقرر أنه كان إمدادا روحيا، ومن الإمداد الروحي شحذ العزائم وطمأنينة نفوسهم، وإبعاد الشياطين ومنازع الشيطان، وهذا بلا ريب من إمداد الله بالملائكة، فهو حقيقة ثابتة، وإنه يؤيد أن الإمداد روحي - آمنا بحقيقته وجهلنا كيفيته - قوله تعالى:
________
(١) (مردَفين) بفتح الدال، قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، وقرأ الباقون بالكسر. غاية الاختصار - الهمداني (٩٢٩).
3077
(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى... (١٠)
الضمير يعود إلى المصدر المشتق من (ممددكم)، أي أن ذلك الإمداد كان روحانيا فيه بشرى أي تبشير لكم بالنصر وإنه آت لَا ريب فيه، وفيه أمن للقلوب، ولتدخل الحرب مع رجاء النصر، فرجاء النصر والاطمئنان إليه مع أخذ الأهبة
3077
نصر على النفس، وابتداء النصر اطمئنان النفس فلا تفزع، ولا تهاب، ولا تخور؛ ولذا قال سبحانه، (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم)، فلا تجزع فتقدم في غير خوف ولا وجل، وإنه وحده الناصر فما كان الإمداد بالملائكة، والإخبار به إلا لتطمئن القلوب.
وإنه بعد اتخاذ الأسباب لَا يكون النصر (إِلَّا مِنْ عند اللَّه) العزيز الحكيم أي الغالب الذي يدبر لكل شيء وبأمره سبحانه وتعالى.
وفى الآيتين الكريمتين إشارات بيانية تليق بكتاب الله معجزة الوجود الإنساني كله:
أولاها - تأكيد الإمداد بالملائكة تلك القوي الروحانية التي تبشر وتطمئن فقد أكدها بالتوكيد بأن في قوله تعالى: (أَنِّى مُمِدكُم) وبإضافة الإمداد إليه سبحانه، وهو القوي القهار - الغالب على كل شيء.
وثانيها - بالجملة الاسمية الدالة على البقاء والاستمرار.
وثالثها - الحد بألف الذي يوازى عدد المشركين أو يزيد، وهو على القراءات الأخرى أضعاف عدد المشركين.
ومن الإشارات البيانية - ضرورة الاعتماد على الله بعد أخذ الأهبة، وإعداد العدة، فقد قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقد قصر النصر مهما تتوافر أسبابه على أنه من عند الله فلا نصر إلا منه، والقصر بالنفي والإثبات فنفي وجود أي نصر إلا أن يكون من عند الله، ووصفه سبحانه وتعالى بما يزكي هذا القصر، فهو العزيز الذي لَا يغلب، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته ومن مقتضاها أن ينصر الحق ويخذل الباطل، فهو وحده ناصر الحق دائما، وتأكيد ذلك بـ (إن) والجملة الاسمية.
وبين لله تعالى أنه أفاض الأمن والاطمئنان، فقال تعالى:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١)
3078
يقال: غشَّاه، بمعنى غلبه النوم، و (غَشَّى) ((أغَشى) يجوز فيها التعدية بالتضعيف وبالهمزة، كقوله تعالى: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ).
وكقوله تعالى: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥).
وغشاهم الله تعالى بالنعاس أي وضعه على عيونهم كأنه غشاء من نعاس.
ونعاس مفعول ثان.
و (أَمَنَةً) مصدر أمن، والمعنى غشاهم الله تعالى بالنعاس آمنين، أي لأجل أن يكون ذلك أمنا لهم من الخوف، أي للدلالة على أمنهم واطمئنانهم، فإن النعاس أمن وقرار، وبُعد عن الهم، فمع القلق السهر، ومع الأمن النوم.
وإن النعاس عند الإقدام على أمر مهم يقوى النفس، ويشحذ العزيمة، ويذهب القلق والاضطراب، وهو أمارة الاطمئنان، وقد أنعم الله تعالى على المؤمنين، ليلتقوا بالأعداء آمنين مطمئنين راجين النصر، مُحِسِّين بتأييد الله، ومحسين بأن الحق معهم، ولقد قال علي - كرم الله وجهه - في ليلة بدر: " ما كان منا إلا نائم إلا رسول الله - ﷺ -.
والنعمة الأخرى التي ثبت الله تعالى بها قلوبهم نزول المطر، فقد قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً) فقد كان المشركون في مكان فيه ماء، ولم يكن عند المؤمنين ماء فغلب عليهم الظمأ، فوسوست في بعضهم الوساوس، فأنزل الله سبحانه وتعالى الماء حتى سال الوادي، وملأوا الأسقية وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله ذلك الماء طهورا، وثبت به الأقدام إذ لبَّد الله به الأرض، ويقول الحافظ ابن كثير: " وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله تعالى المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام ".
وهذا قول الله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
فالماء الذي أنزله الله تعالى سقوا منه، وكان طهورا أذهبوا به رجز الشيطان وهو الجنابة، وطهُروا حسا ومعنى، وربط الله تعالى به على قلوبهم، وثبتهم
3079
وأذهب عنهم وساوس الشيطان، ولبدَّ به الأرض وثبتت عليها الأقدام، فلا تغوص في الرمال، وإن هذا الماء كان وبالا على المشركين فقد انهمر حتى دعثر (١) عليهم الأرض وصارت الأرض لَا تقوى على تحمل أقدامهم.
هذا كله تأييد حسي من الله اقترن به اطمئنان وذهاب القلق، والطهر، وهو يزيد النفوس اطمئنانا.
وقد كان بجوار ذلك تثبيت الله تعالى بالملائكة فقد قال تعالى:
________
(١) الدَّعْثَرَةُ بفتح الدال: الهدم والمُدَعْثَرُ المهدوم. الصحاح - دعثر.
3080
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢)
موقعة الفرقان هي موقعة الحق أيدها الله، واتخذت كل الأسباب لها، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، أيدهم الله تعالى أولا بالمدد من الملائكة الذي كان بشرى واطمئنانا، وأيدهم ثانيا بأن الله مع المؤمنين والملائكة، وأيدهم ثالثا بأن أمر الملائكة بأن يثبتوا الذين آمنوا، وأيدهم رابعا بأن ألقى الرعب في قلوب الكافرين، وأيدهم خامسا بأن كان الضرب فوق أعناقهم، والضرب في الأيدي التي تقتل.
(إِذْ) في قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) هي للماضي المتصل بالحاضر، والمضارع للدوام المتجدد، أي اذكر أيها النبي ومن معك، وحي الله تعالى المستمر الذي لَا ينقطع إلى الملائكة أن الله معكم أيها الملائكة في تأييدهم للمؤمنين فهو سبحانه جل جلاله في ملكوته الأعلى معكم في تأييد المؤمنين وتثبيتا قلوبهم، (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) و " الفاء " هنا للإفصاح عن شرط مقدَّر، والمؤدى: إذا كان الله معكم في هذا التأييد فثبتوا الذين آمنوا، أي قووهم معشر أرواح الله، واملأوهم بروحانيتكم لتمتلئ قلوبهم بروح من عند الله، وإحساس بعظمته، وجبروته وقوته وعزته ليطلبوا العُلا والعزة ولا يذلوا.
وقد التفت سبحانه من خطاب الملائكة إلى خطاب المؤمنين، (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ) وهذا معناه اضربوا الرءوس، فما فوق العنق هو الرأس، والبنان
3080
الأيدي، والمعنى أن اضربوا رءوسهم، فإنها موطن الشيطان، واقطعوا أيديهم، فإنهم يبطشون بها وآذوا المؤمنين وعذبوهم، وفتنوهم عن دينهم.
والمعنى لَا تأخذكم بهم رأفة، فرد الاعتداء يكون بمثله، فاقتلوهم وأضعفوا قواهم يشفِ الله بذلك صدور قوم مؤمنين.
وإن ذلك جزاء بما ارتكبوا، ولمحاربتهم الله ورسوله؛ ولذا قال تعالى:
3081
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣)
الإشارة إلى الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، وإلى إمداد الملائكة للمؤمنين وإلى تثبيت الملائكة لقلوب المؤمنين، وإلى الغلب في المعركة، وأمر الله للمؤمنين أن يضربوا رءوسهم وأطرافهم، كل ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، أي صاروا في شق، والله ورسوله في شق آخر، يحادون الله ورسوله، ويغالبونهم حاسبين أنهم الغالبون، و " الباء " في قوله تعالى: (بِأنَّهُمْ) للسببية أي بسبب أنهم حادوا الله ورسوله، وما دام الأمر أمر مغالبة، فالله هو الغالب، وذكر الله ورسوله، وكان يكفي ذكر الرسول أو ذكر ربه؟ والجواب عن ذلك الإشحارة إلى أن محاربة الرسول حاربة لله، وأن طاعة الرسول طاصة لله (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وإلى أن عصيان الرسول محادة لله سبحانه وتعالى، وأظهر في موضع الإضمار: فقال: (وَمَن ئشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، ولم يقل من " يشاققهما " وذلك لبيان عظيم ما يقترفون، فهو تنديد بهم، وتكرار لعظم جرمهم.
وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) بيان لشدة العقاب في الدنيا والآخرة، وهي دالة على جواب شرط محذوف هذه علته، والمعنى فإن الله منزل عقابه الشديد بهم في الدنيا، لأنهم يغالبون الله ورسوله، ونسوا أن الله تعالى غالب على كل شيء.
وسماه الله عقابا لهم، للإشارة إلى أنهم ليسوا في مقام المغالبة لله، بل إنهم في مقام من يؤدبون ويعاقبون، ويُردون خاسئين.
3081
وإن عقاب الدنيا والتنكيل بهم فيها، لكيلا يستشري الشر، ولكيلا يُغْروا بالمؤمنين، ولكيلا يكون على المؤمنين حرج، ولكي ينالوا جزاء ما فعلوا، ولأن السابقين كان ينزل العقاب الدنيوي بهم بخاسف أو بريح صرصر عاتية، أما أمة محمد - ﷺ - فإن الله تعالى يفنى الأشرار، ويبقى الأخيار.
كان عقاب الدنيا لذلك، وهذا لَا يمنع عقاب الآخرة، وهو الأوفى جزاء؛ ولذلك قال تعالى:
3082
(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤) الإشارة إلى هذا العذاب الأليم، وأتى بكاف الخطاب للجمع، تأكيدًا لعموم الخطاب للكافرين، وأنهم جميعا يخاطبون بذلك حتى يتوبوا، فإن تابوا فقد انتهوا والله قابل للتوب شديد العقاب.
وذلك كما قلنا إشارة إلى العذاب، والإشارة استحضار له، و " الفاء " في قوله تعالى: (فَذُوقُوهُ) فيها إشارة إلى العذاب الدنيوي الذي " يذوقونه " وهي للإفصاح أي إذا كان هذا عذابكم فذوقوه، والتعبير بذوقوه إشارة إلى آلامه وقد ذاقوها وأحسوها، فقد ذاقوا النكال وذاقوا القتل، وذاقوا الذل بعد الاستكبار، وذاقوا عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
وإنهم مع ذلك لِن يفلتوا من عذاب الآخرة، فإذا النار لاحقة بهم، ولذا قال تعالى: (وَأَنَ للْكَافِرِين عَذَابَ النَّارِ) وفي العبارة ما يوحي بأنه العذاب المعد لهم، وكأن عقاب الدنيا أمر عرضي ليس هو الجزاء الحقيقي لهم، إنما كان لمنع استمرار شرهم، وإنهاء فسادهم، ولمنع الفساد في الأرض.
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
ولذا أكد جزاء الآخرة، لأنه الأصل الثابت، فقال: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) فأكده أولا - بـ " أن " الدالة على التأكيد، وثانيا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والدوام، وثالثا - بتقديم الجار والمجرور الدال على اختصاصهم بعذاب النار، ورابعا ببيان أن الكفر هو السبب، لأنه عبر بالوصف، وذلك دليل على أن الكفر هو السبب في عذاب النار..
3082
اللهم اكفنا شره، واقبل من حسناتنا ما يمحو سيئاتنا، فإنك قلت قولك الحق: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
* * *
هذه معركة الإيمان والكفر، وإن شئت فقل معركة الله ورسوله مع الكافرين؛ لأن المؤمنين اتخذوا الأسباب، لأنهم توكلوا على الله واستغاثوا به، ولأنه لم يكن فيهم ضعفاء الإيمان أو المنافقون، فكانت معركة الله حقا وصدقا، وهو (عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
يبين الله تعالى أن أول النصر الثبات، وألا يفر من الميدان؛ ولذا شدد سبحانه وتعالى في منع الفرار، لأن الفرار أول الهزيمة، ولأنه خور في العزيمة، ولأنه والصبر نقيضان لَا يجتمعان ولا معذرة في فرار قط، ولأن يقتل الرجل وهو مقبل بصدره، خير من أن يقتل وهو مدبر بظهره.
3083
وقال تعالى:
3084
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا).
النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، والإيمان صبر وفداء، فالنداء بالذين آمنوا تحريض على الصبر واللقاء والثبات، وذكر لقاء الكافرين، وهم كانوا يتمنون لقاءهم لينتصروا لله منهم، وليردوا كيدهم، فكان نداء أهل الإيمان بعنوان الإيمان تحريضا على الثبات والمجاهدة، وكان ذكر لقاء الكافرين تحريضا أشد؛ لأنهم الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم؛ ولذا كان النهي بعد التمهيد، فقال: (فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) و " الفاء " واقعة في جواب الشرط، وعبر سبحانه وتعالى عن النهي عن الفرار بقوله تعالى: (فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدْبَارَ) ومعنى تولي الدبر، أي أن يتركوا ظهورهم للسيوف تضرب في أدبارهم، وذلك منظر هو من أقبح المناظر وأقبح تصوير للفرار من الميدان بضرب السيف في دبره وقفاه، وإن من ئقتل في صدره لَا ئقتل إلا بعد أن يَقْتل من الأعداء، أما من يُقتل في ظهره، فإنه يذهب دمه عبيطا (١)، لَا يثأر لنفسه.
وقد قال تعالى:
________
(١) ذهب دمه عبيطا أي خالصا طريا.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
ذكر مفردا فارا؛ للإشارة إلى وجوب التضافر والتآزر، وألا ينفرد بقرار، وألا يكون إلا في جماعة.
وقد استثنى الله تعالى من الذين يتركون الميدان طائفتين لَا تُعدان فارتين، بل تُعدان متقاتلين.
أولاهما - المتحرفة لقتال، والثانية - المتحيزة إلى فئة.
المتحرفة معناها المائلة، والمتحيزة هي التي تتجه إلى حوزة جماعة من جماعة المسلمين.
3084
والمتحرفة المراد بها المائلة في القتال غير تاركة، ولكنها آخذه بضرب من ضروب الحيلة والخديعة، وقد ضرب لذلك الحافظ ابن كثير مثلا، فقال: " ذلك الذي يظهر أنه يميل إلى الفرار حتى إذا اطمأن محاربه انقض إليه غرة وقتله، والمتحيز إلى فئة الذي يلجأ إلى فئة يحسبها تحتاج إلى قوة فينضم إليها مقويا صفوفها ".
وهاتان الطائفتان لَا تعتبران فارتين ولا موليتين الأدبار، ولذا نقرر أن الاستثناء منقطع، بمعنى لكن، أي لكن التحرف أو المتحيز لطائفة لَا يعدان مولين الأدبار.
وقد يكون الفرار أمراً ضروريا إذا كان العدو أغلب، ولكن الفرار لَا يكون بتولية الأدبار، بل يكون بتدبير الانسحاب ويكون بالتراجع، من غير أن يولوا ظهورهم للأعداء، يضربون في أدبارهم، كما فعل القائد العظيم خالد بن الوليد هذا عندما آل إليه أمر القيادة بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله ابن رواحة، فقد رأى أن أمامه جيشا يعد بمئات الألوف، ومعه ثلاثة ألوف، فقد أخذ يتراجع، ويوهم الأعداء أنه قد جاءه مدد حتى عاد إلى المدينة وسماهم بعض المجاهدين فرَّارين، وسماهم النبي - ﷺ - " العكارين " (١) أي الكرارين.
وإن الفرار في الزحف من أكبر الكبائر، فقد قال - ﷺ -: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؛ قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " (٢).
________
(١) رواه الترمذي: الجهاد - ما جاء في الفرار من الزحف (١٧١٦). كما رواه أبو داود في سننه: الجهاد - التولي يوم الزحف (٢٦٤٧). وبنحوه رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما (٥٣٦١).
(٢) متفق عليه؛ رواه البخاري: الوصايا - قول الله تعالى: (اٍنً الَّذِينَ يَأكلونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى) النساء، (٢٧٦٧)، ومسلم: الإيمان - بيان الكبائر وأكبرها (٨٩). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3085
وقد تكلم العلماء في الفرار، فأجازه بعضهم إذا كان العدو كثيفا، والمؤمنون قلة، وهم مأكولون لَا محالة، ونحن لَا نجيز تولية الأدبار مطلقا، لأنه تمكين من رقاب المؤمنين، وإذهاب للبأس، ولكن نجيز التراجع المنظم كما فعل القائد العظيم خالد، إن تولية الأدبار إذلال للمؤمنين وتمكين من القتل الرخيص وليس هو التراجع الحكيم؛ لأن المتراجع يحمي صدره، والمولي الأدبار يمكنهم من ظهره.
وقد بين الله سبحانه في النهي عن الفرار جزاء من يولهم يومئذ دبره، فقال تعالى: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي يوم الزحف ولي مدبرا مضطربا (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي رجع مغضوبا عليه من الله تعالى، فغضب عليه، والواجب أن يطلب رضوانه، (وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ)، أي الذي يأوي إليه جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وبعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى أن النصر بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يهزم المشركين، وهو الذي يرميهم فقال تعالى:
3086
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
وفق الله المؤمنين في هذه الغزوة، كانوا قلة فأراهم المشركين كثيرين، ورأوا المشركين قليلا وهم كثيرون، وسهل الله السبل للمؤمنين فألقى في قلوبهم الرعب وأمدكم بالملائكة، فملأكم روحانية وجعلهم الله بشرى لكم، واطمأنت قلوبكم، وغشاكم النعاس، وأنزل عليهم الماء فثبَّت به الأقدام وطهر رجز الشيطان.
أمدهم الله تعالى بهذا فكان النصر، وقد قال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فئَةً كَثِيرَةً بِإذنِ اللَّه)، فكان النصر من عند الله، وكما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصرَكُمُ اللًّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)، ولما أصابهم الغرور، وحرمهم الله من نصره ابتداء ولوا الأدبار، وقال الله تعالى في ذلك: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥). لهذا التوفيق
3086
وذلك التأييد الذي تكاثر في غزوة بدر نسب الله تعالى النصر إليه سبحانه، والقتل إليه والرمي إليه، فقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) نفَى سبحانه أنهم قتلوهم، لأنهم لم يكونوا المسلطين عليهم من أنفسهم إنما سلطهم الله تعالى عليهم، وهو الذي أرداهم، و " الفاء " مترتبة على ما قبلها ما دام الله تعالى هو الذي هداهم وحرضهم، وأيدهم بنصره، وبملائكته ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) إما أن نقول إن القتل حق لله تعالي؛ لأنه هو الفاعل المختار، وإن نظرنا إلى الأسباب العادية نقول: إنه من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، فلأن الله تعالى هو السبب في القتل أسند القتل إليه.
وكذلك قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
قال بعض المفسرين على أن المراد من الرمي هو الرمي بالنبال المريشة التي تصيب المقاتل، ويكون من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن الله تعالى هو السبب إذ هو الموفق، وهو المؤيد، وهو الممد بالملائكة وهو سبحانه وتعالى ملقى الرعب في قلوب المشركين.
وقال بعض المفسرين: إن النبي - ﷺ - عندما التقى الجمعان قبض قبضة من التراب، ورمى بها المشركين، وقال: " شاهت الوجوه " (١)، فاضطربت الأبصار، وزاغت القلوب.
فقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) أي فلَسْت أنت الذي رميت إنما الله تعالى هو الذي رمى؛ ولذلك أفرد النبي - ﷺ - بالخطاب لأنه هو الذي رمى.
وإني أميل إلى التفسير الأول لأنه هو الأوضح، ونحن نميل إلى الواضح من الآراء.
________
(١) انظر صحيح مسلم: الجهاد والسير - غزوة حنين (١٧٧٧).
3087
وإن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك، ليؤيد المؤمنين بنصره، (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا) أي ليعامل المؤمنين معاملة المختبر الذي يبليهم بلاء حسنا، أي بلاء نتيجته حسنة دائما، وذلك بأن يكلفهم، وأن يتخذوا هم الأسباب للنصر المؤزر، والعزة والرفعة، وأن تكون كلمة الله على أيديهم هي العليا، وهو العزيز الحكيم، ولقد قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إن الله عالم علم من يسمع، ومحيط بكل شيء علما.
وإن الله تعالى إذ ينصر المؤمنين ذلك النصر بإرادته وتقديره هو الذي يوهن شأن الكافرين فالله ناصر المؤمنين، وهازم الكافرين؛ ولذا قال تعالى:
3088
(ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)
الإشارة إلى نصر الله تعالى وما كان من تأييده حتى شرف الله تعالى ذلك القتل والقتال بأن نسبه إليه سبحانه، وأتى بضمير الخطاب للجمع، لإعلام الجميع بذلك النصر، وخبر اسم الإشارة محذوف معلوم من الكلام، أي ذلك النصر المؤزر ثابت لكم وحسبه نعمة أنعم بها عليكم، فالنصر وحده له فرحة شديدة، فتقبلوا نعمة الله فيه، وعطف على هذا النصر أمر آخر جليل في ذاته وهو ثمرة النصر، وهو قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) فموهن معطوف على ما يفهم من الكلام السابق وهو فوق بشرى النصر بشرى إضعاف وتوهين شأن المشركين وكيدهم، لقد كانوا أصحاب القوة والسطوة، والسلطان والشرف في البلاد العربية وكانوا يستطيلون بكل ذلك على المؤمنين، فلما جاء النصر المبين لتلك الفئة الصغيرة واستطالت عليهم ونالت النصر دونهم وهنوا في أنفسهم، وإذا وهنوا في ذات أنفسهم وهن كيدهم للمسلمين، وهو تدبيرهم، وتأليبهم العرب عليهم، وحربهم، وصاروا يرهبونهم بعد أن كانوا يستضعفونهم، ويرون فيهم العزة.
فهذه الحرب المقدسة كان لها ثمرتان دانيتان:
إحداهما - النصر في ذاته، وأن صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الشرك هي السفلى، وتلك نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم.
3088
الثانية - أنه انتهى عهد الاستهانة بالمسلمين واستعلاء المشركين عليهم ووهن أمر الكافرين لديهم فكانت تلك هي الضربة القاصمة التي كسرت أنفتهم وكبرياءهم.
وعبر الله تعالى بالكافرين لبيان أن الكفر هو السبب في وهنهم، والله من ورائهم، قال الله تعالى:
3089
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
بعد أن ذكر الله تعالى غزوة بدر الكبرى، أو (يوم الفرقان) كما سماها القرآن الكريم، - أخذ يشير سبحانه وتعالى إلى المغزى الأمثل فيها، وهو الطاعة لله ورسوله، فهو كان أساس النصر، وتخاذل النصر في أحد، لنقصان في الطاعة للرسول - ﷺ -، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى مقصد الحرب عند الفريقين، ومقام طاعة الله تعالى فيها. قال تعالى: (إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكمُ الْفَتْحُ).
الاستفتاح السين والتاء لطلب الفتِح، وهو النصر أو الفصل بين الحق والباطل، كقوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْن قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
وهل استفتح المشركون، أي أيُعد الخطاب للمشركين، أم يعد الخطاب للمؤمنين؟، إن الخطاب في الآيات السابقة لهِذه الآية للمؤمنين مثل (فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهُ رَمى)، وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) وهكذا تجد الآيات السابقة المخاطب فيها المؤمنون، والمتحدث عنهم بالغيبة الكافرون، وكان مقتضى السياق ذلك، كما هو فيما بعد هذه.
لكن طائفة من المفسرين قالوا: إن الخطاب للمشركين، لأنهم استفتحوا فعلا بالله الذي كانوا يعلمونه، وإن لم يوحدوه في العبودية، ولقد ذكر الزمخشري وابن كثير وابن جرير عدة صور من عبارات استفتاحهم فيروى أنهم عندما أرادوا أن ينفروا لحماية العير، ومحاربة النبي - ﷺ - تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم
3089
انصر قِرانا للضيف، وَوَصلنا للرحم، وفكَّنا للعاني إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا.
ويروى أنهم قالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، ويروى أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحْنه، أي فأهلكه.
هذه صور للاستفتاح المروي، وإن صح أن الاستفتاح كان منهم فلعلها جميعها قد وقعت منهم والاختلاف اختلاف عبارات لآحادهم لَا لجمعهم.
وقوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)، قال الزمخشري: إنه تهكم عليهم، من حيث إن الفتح كان على غير ما يرغبون، وقد يقال: إنه أريد الحد، لأنكم إذا كنتم تستفتحون طالبين الفصل بينكم وبين محمد - ﷺ - فها هو ذا الفصل، فاخضعوا له ولكنهم لَا يطلبون حقا، ولا يخضعون للحق، وإن تنتهوا بالإيمان بالحق بموجب استفتاحكم ووعدكم فهو الإيمان وهو خير لكم، وإن تعودوا إلى الباطل ومحاربة محمد ومن معه نَعُدْ إليهم بالنصر، ولن تغني عنكم جماعتكم وكثرتكم شيئا، ولو كثرت، وإن الله تعالى مع المؤمنين دائما بنصره وتأييده، وقد رأيتم مرات هذا " النصر وذلك التأييد، فصارت كلمتهم هي العليا والله عزيز حكيم.
هذا هو توجيه القول الكريم على أساس أن الخطاب للمشركين، وهو ظاهر لا يقاومه إلا سيأتي الآيات السابقة قبلها وبعدها.
وأما تخريج القول الكريم على أن الخطاب للمؤمنين فإنه يؤيد سياق الخطاب، ويكون المعنى إن تستفتحوا أيها المؤمنون، بأن تتضرعوا إلى الله تعالى طالبين الفتح والنصر، وتستغيثون به، فقد جاءكم النصر فعلا، ومعه الغنائم التي طلبتموها وأردتموها، وقد علمتم أن ذلك بفضل الطاعة، والامتناع عن العصيان (وَإِن ثَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) أي إن تنتهوا إلى الطاعة، وإصلاح ذات بينكم وتقوية جمعكم، فهو خير لكم، (وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ) أي إن تعودوا إلى المشاحنة والخلاف
3090
على الغنائم والمنازعة نعد لكم بالخذلان والفشل، كما قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، ولا تغني الكثرة شيئا مع الاختلاف لأن الاختلاف لَا يكون فيه القوة على العدو، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدا، فحربهم على أنفسهم لَا على أعدائهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: (وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ).
أكد سبحانه وتعالى النفي بـ " لن "، وأنه لَا يغني أي شيء ولو قليلا، وثالثا أنه لَا يغني مع الكثرة. وإن الله سبحانه وتعالى علام الغيوب، يخبر بما سيكون يوم أحد، فقد كانت معهم قوة، وسابقة نصر، ولكن لم يطيعوا واختلفوا على الغنائم فلم ينتصروا، ولا نقول انهزموا، بل كان الأمر بينهما.
ذلكم تخريجان، ونحن نرى أن الأقرب إلى سياق الآيات، وإلى سياق الأمر بالطاعة، وإلى الانسجام البياني المعجز، أن نقول: إن الخطاب للمؤمنين تحذيرا وإنذارا.
وِختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته وكلماته: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنين) " أنَّ " مفتوحة الهمزة للدلالة على أنها متعلقة بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنَُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) ويكون هذا قرينة على أن الخطاب للمؤمنين وليس للكافرين، وهناك قراءة تقول: إن " إنَّ " مكسورة.
والتعبير بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) سواء أكانت أن مكسورة أو مفتوحة يدل على أمرين:
أحدهما - أن الله تعالى مع المؤمنين، ينصرهم، ويكون الفتح في جانبهم ومعهم دائما، والثاني - أن ذلك يكون إذا تخلقوا باخلاق المؤمنين، ولم يتفرقوا، حتى لَا يفشلوا فتذهب ريحهم.
وبعد أن أشار سبحانه إلى أن قوة المؤمنين في طاعتهم لله ورسوله واستمساكهم وتعاونهم وتضافرهم أقر بالأمر الجامع بينهم، وهو الطاعة فقال:
* * *
3091
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١)
* * *
النداء في قوله تعالى:
3092
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) بالبعيد لعموم النداء ولأهمية ما يدعوهم إليه سبحانه، وهو الدفاع عن المؤمنين والضعفاء، والشيوخ والنساء والذرية، نادهم بطاعة الله ورسوله، والنداء من النبي - ﷺ -، وهو الذي يجاب فمقام الله تعالى لَا يتطاولون إليه، وإنما يخاطب رسوله.
وذكر الله تعالى (رسوله) هنا للدلالة أولا - على أن من يطع الرسول يطع الله تعالى، وثانيا - لأنه هو الذي ينصر، وهو الذي يعز ويذل، فإجابته اعتزاز بمنشئ الوجود كله، وثالثا - لأنه المسيطر علينا وعليهم كما كان النبي - ﷺ - يقول في دعائه عند الدخول في حرب: " اللهم إنهم عبادك ونحن عبادك " لهذا ذُكِر الله تعالى قبل ذكر الرسول، والنبي - ﷺ -مّ هو الذي يتولى دعوتهم.
ويقول سبحانه وتعالى: (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتمْ تَسْمَعونَ)
(وَلا تَوَلَّوْا) بتخفيف إحدى التاءين، وهناك قراءة بثبوت التاءين معا (ولا تتولوا). والتوالي الإعراض، أو الانصراف، والمعنى لَا تنصرفوا، وأنتم تسمعون القول، والانصراف وهم يسمعون القول، يتضمن معنيين: أولهما - أن يكون التولي نفسيا، فهم يكونون سامعين ولكن غير واعين، ومخير منفذين، ولا نقول غير مطبقين، ولكن نقول غير مقدرين القول قدره.
وثانيهما - أن يعرضوا عن النبي - ﷺ - فيعرضوا حسيا، وهو يتكلم، وهم يسمعون، وخلاصة المؤدى أن النص يطالب بثلاثة أمور:
أولها - سماعهم سماع وعي وعناية بالقول بفهمه، وتعرف مراده.
3092
ثانيها - ألا يعرضوا عن القول فكرا أو نفسا، وأن يكونوا معه بقلوبهم، وكل جوارحهم.
وثالثها - الطاعة المطلقة فيما لَا رأي فيه، ومراجعة النبي - ﷺ - فيما رأى في حرب، أو مكيدة، كما شاور النبي - ﷺ - في منزل الحرب في غزوة بدر الصحابي حبُاب بن المنذر رضي الله عنه. وهنا إشارة بيانية لابد من ذكرها، هي أن الله تعالى طالب بطاعة الله ورسوله، وعندما نهى عن الإعراض أعاد الضمير مفردا فقال: (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ).
والجواب عن ذلك أن طلب الطاعة لهما لما ذكرنا، ولكن النبي - ﷺ - هو الذي خاطبهم وهو المتحدث باسم ربه عنهم، ولا يتصور أن يكون التولي عن الله تعالى، بل التولي عنه - ﷺ -، وإن نسبة التولي منهم لله تعالى لَا تليق، وإن كانت غير ممكنة.
والنهي عن التولي، وهم في حال يسمعون فيها؛ ولذا قال: (وَأَنتمْ تَسْمَعُونَ) فهو دعوة إلى حسن الاستماع؛ ولذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى:
3093
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١)
أي لَا يكن حالكم كحال الذين يقولون بأفواههم سمعنا، (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أي سمعنا، ولم نع ما نقول ولم نتدبره، ونتفكر فيه ونعمل على تنفيذ
ما طلبه القائل، فهم سمعوا بآذانهم، ولم يسمعوا بقلوبهم.
وإن هذا النص يؤخذ منه بالتضمن أن السماع أقسام ثلاثة:
أولها - سماع تفهم وتدبر وإدراك وتنفيذ على بصر وعلم، وهذا الذي يطلبه الله تعالى والنبي - ﷺ -، وهو الذي ذكرناه آنفا.
والثاني - سماع من غير تدبر وإدراك وتبصر، وهذا ما ينهاهم الله تعالى عنه، وهو إن لم يكن نفاقا فهو غفلة عن الحق، وليس سماع وعي وإنصات.
3093
والثالث - سماع أهل النفاق الذين يقولون: سمعنا وعصينا، أو الذين يحرفون القول عن موضعه.
ومهما يكن فهذان القسمان الآخران سماع كَلا سماع. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
* * *
سماع الحق
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥)
* * *
إن الله تعالى أعطى الإنسان أدوات الفهم التي تميزه عن الحيوان، وتجعله كونا مستقلا قائما بذاته، وما ذلك إلا ليحتل المكانة التي هيأها الله تعالى له في هذا العالم بين العالمين فقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨). فالسمع لمعرفة ما أمر الله، والبصر لمعرفة آيات الله في كونه، والأفئدة ليدرك وليفهم ويعلم، وهذا شكرها.
3094
وإنه إذا فقد ما خصه الله تعالى به من هذه النعم فقد نزل من درجات الإنسانية إلى حضيض الحيوانية، وكان شر الدواب في هذا الكون؛ ولذا قال تعالى:
3095
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
الدواب جمع دابة وهي ما يدب على وجه الأرض من النملة إلى الحشرة إلى ما فوق ذلك، وإنه إذا عبر عن الإنسان بأصغر ما ينطبق عليه اسم الدواب والحيوان كان ذلك تحقيرا له واستهانة بأمره من زعيم يرفع ويخفض إلى حيوان لَا يملك من أمره شيئا، تدعكه الأرض بالأقدام، وهو حيوان كله آفات، ليس بكامل بل هو أصم لَا يسمع، أبكم لَا ينطق، وهو لَا يعقل فليس فيه قلب يفقه، ولا عقل يعقل، إنه شائه (١) في ذاته، ناقص في كونه، وإن كان ذا رواء؛ لأن تقدير الإنسان ليس بشكله وصورته، ولكن بقلبه وعمله.
وفى الكلام استعارة تمثيلية شبه فيها من لَا يسمع الحق ولا يدركه، ولا يبصر الآيات ولا يتأملها، ومن لَا يفقه الحق ولا يدرك بالدابة التي لَا تسمع مواطئ الأقدام، فتطؤها، ومن لَا ينطق مستغيثا، فتدقه الأمور دقا، ومن لَا يعقل ما يضره، فيكون فريسة الكل، وجامع التشبيه هو عدم الفائدة من هذه الحواس فهي إذا كانت ذات فائدة في ذاتها فإنه لَا يستفيد منها، ومن لَا يستفيد من شيء فوجوده وعدمه سواء.
وإن تشبيه الكافر بالدابة هو أصغر تشبيه له، وقد قال تعالى في تشبيهه:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١).
وكقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وإنهم لو سمعوا لَا يجيبون، ولذا قال تعالى:
________
(١) شائه: قبيح. كما في القاموس.
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
هذا ترشيح للاستعارة التي قوامها تشبيه حالهم في أنهم لَا يسمعون سماع تدبر، ولا يبصرون بصر تأمل، بمن لَا يسمعون ولا يبصرون فهذا النص تقوية للتشبيه؛ لأنه قرينة تساعد المشبه به.
3095
وإن الله تعالى بكل شيء عليم، فهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، وهو قد قدر كل شيء بعلمه، وقد قدر سبحانه في علمه أنهم لَا يهتدون؛ لأنهم لم يسلكوا طريق الهداية، ولن يسلكوه، وذلك لَا ينافي اختيارهم، كما قال الإمام على - كرم الله وجهه - وفسر قَدَر الله بعلمه الواسع المحكم.
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ) " لو " هي حرف امتناع لامتناع، أي امتنع إسماع تعالى لهم الكلام إسماع تدبر وإدراك لما فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وامتنع ذلك لأنه لم يعلم خيرا في السماع، والمعنى لو علم الله أنه سيترتب على سماعهم تدبرهم وتفكرهم، وأنه سيترتب خير كالعظة والاعتبار - لأسمعهم ولبيان أن من كتب الله تعالى شقوتهم لَا جدوى معهم فقال: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضونَ) ولو سمعوا سماع تدبر، وإمعان وإدراك ما صبروا على الحق، بل إن قلوبهم في ريب دائم مستمر، واضطراب لَا استقرار معه، فالحق يحتاج البقاءُ عليه إلى صبر، ودوام تأمل وتفكر؛ فليس الإيمان واقعة تمر، بل هو حال مستمرة دائمة، يغذيها التدبر، ويقويها طول التأمل، وهؤلاء، إن سمعوا وتفكروا حينا، لَا تستمر بشاشة الإيمان في قلوبهم.
ولذا قال تعالى في جواب الشرط: (لَتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ) وهذه صورة حال المعرضين بعد أن كاد يدخل نور الإيمان قلوبهم، التولي أن يولي جنبه بدل وجهه ولإظهار أنه معرض شبهت حالهم وقد أعرضوا عن الحق وتركوه بحال الذين يديرون وجوههم وهم معرضون، غير مقبلين.
والله يدعوهم إلى الحق، ويناديهم ليجيبوه؛ ولذا قال تعالى:
3096
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
النداء للذين آمنوا، والنداء للبعيد؛ لعموم النداء، ولأن أداة البعيد أنسب في هذا المقام والنداء هو قوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ) والاستجابة معناها
3096
الإجابة، والسين والتاء للطلب، ومعنى ذلك أن المنادين يطلبون إجابة أنفسهم، أي يسعون لأن يجيبوا؛ لأن الإجابة لمنفعة أنفسهم، لَا لمنفعة من يجيبونه فالخير عائد إليهم، وذكر الرسول بجوار إجابة الله تعالى للدلالة على أن إجابة الرسول إجابة لله تعالى، ولبيان أن الرسول هو الذي يوجه الخطاب عن ربه لذا عاد الضمير بلفظ المفرد.
والاستجابة لأمر عظيم، وصفه الله تعالى بأنه (يُحْيِيكُمْ) فقال: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) والأمر الذي يحيي الناس جميعا؛ لأنه يعم كل المؤمنين - هو العقيدة، وما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواه، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، فإن العقيدة وما اشتملت عليه من توحيد بها إحياء للعقول والنفوس بإدراك الحق، وإنقاذها من الأوهام، والبعد عن مزالق الشيطان، والشريعة بما فيها من أحكام زاجرة، وأحكام مصلحة ورابطة للعلاقات الإنسانية على أكمل وجوه التعاون، فيِ كل هذا حياة للجماعات؛ ولذا قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، فجعل الهداية حياة، وجعل الشرك موتا، أو عيشا في الظلمات.
وبعض المفسرين قال: إن المراد بما يحيي هنا الجهاد؛ لأن الجهاد في طلب الحق به حياة الأمم، فما تركت أمة الجهاد إلا أماتها الذل، وما اعتزت أمة بالجهاد إلا وُهبت الحياة، كما قال خليفة رسول الله - ﷺ -: (اطلب الموت توهب لك الحياة)، وكما قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: (إن موتا في سبيل الحق هو عين البقاء، وحياة في ذلة هي عين الفناء).
وإن الحق أن يكون ما يدعو إليه النبي - ﷺ - من الشريعة كلها من عدل وتعاون وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وهو أعلاها، وهو سنام الحق وعزته.
ويقول سبحانه وتعالى حاثًّا على القيام بالحق ومحاربة الهوى:
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
3097
ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير السامي يحتمل ثلاثة تفسيرات: أولهما - أن الله تعالى مالك للإنسان في أفكاره ومشاعره، فهو موجه قلبه إلى ما يريده الله تعالى، فالله مالك كل شيء، وهو الموجه إليه في مصيره، أي أنه هو الذي يحول المرء وقلبه واتجاهه، فهو لَا يملك من أمره شيئا، وقالوا: إن هذا يفسر قول النبي - ﷺ - مخاطبا ربه: " أنت مقلب القلوب " (١)، ويظهر أن الزمخشري المعتزلي لَا يرتضي هذا؛ ولذلك يقول إنه قول بعض الجَبْرِية، وذلك غير مذهبه، ويقول تعليقا على ذلك: إن الله لَا يوجه جبرا ولكن يوجه من سار في الخير إلى ما سار فيه، ومن سار في غيره إلى نهايته.
والاحتمال الثاني - وهو الذي أختاره، أن المعنى أن الله بأوامره ونواهيه يحول بين المرء وقلبه، أي بين المرء وما تهواه نفسه، ويشتهيه قلبه من لذائذ هذه الدنيا، وشهواتها، فالشريعة قامعة للنفوس كابحة للأهواء.
وإننا نرى ذلك حقا من غير أن نقرر بطلان السابق، كما أشار الزمخشري.
والاحتمال الثالث - أن يراد قرب العبد من الله، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وأنه بينه وبين قلبه، كما قال الله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وانه لَا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات فليست متعارضة، ولا شبه متعارضة، فيصح أن يراد أن الله مالك كل شيء، وأن شريعته فاصلة بين المرء وأهوائه، وأن الله تعالى قريب منه مجيب دعاءه إذا دعاه، وأنه رقيب عليه يراه.
________
(١) روى الترمذي: القدر - ما جاء في أن القلوب بين إصبعي الرحمن - ٢١٤٠ - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» قَالَ أبُو عيسَى: وَفِي الْبَابِ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. كَما رواه أحَمد: مسند المكثرين - مسند أنس بن مالك رضي آلله عنه (١١٦٩٧).
3098
ثم بين الله سبحانه أنه راجع إليه سبحانه، فقال منذرا، مبشرا: (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرون).
الضمير ضمير الشأن، والمعنى، وأنه الحال والشأن تُحشرون، أي تجمعون مهما يكن جمعكم، ومهما تداخلت أجزاؤكم في الأجسام، ولو كنتم في حجارة أو حديد، أو خلق مما يكبر في صدوركم، فأنتم مجتمعون، والتعبير بـ (تحشرون) يفيد الجمع مهما يكن العدد، ومهما تتناثر الأجزاء أو يتباين كونها.
وقدم الجار والمجرور للدلالة على أن الناس جميعا يحشرون إليه وحده، وهو الذي أنذر وبشر، وأنه منفذ ما وعد، وما أوعد.
فهذه الجملة السامية تربي مهابة اللقاء، وتؤكده، وإنه لقاء بالغفور الرحيم العزيز الحكيم المنعم الجبار.
3099
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥)
إن ظلم الجماعات لَا تقف مغباته عند من يرتكبون الظلم، بل يتجاوز إلى الإفساد في الجماعة نفسها، فمن أشاع الفاحشة في الذين آمنوا بأن جاهر بها مرتكبا لها، أو أشاع قول السوء في الجماعة - إنما يدعو إليها، محرضا عليها ولو كان ما يرتكبه ليس كثيرًا، ولكن المجاهرة بها دعوة إليها، وتحريض عليها، ولذلك كان النبي - ﷺ - يدعو إلى الاستتار، فيقول فيما روى الشافعي: " يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فليستتر، فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد " (١).
ومن أجل هذا حث الله تعالى على اتقاء الفتن، وهي الذنوب، أو الذنوب التي تختبر بها الجماعات ومن شأنها أن تشيع أو تفسد رأيها العام، كما نرى في عصور الانحلال وشيوع الفساد، وشيوع الدعوات المنحرفة، ويكون فيها الهوى
________
(١) سبق تخريجه.
3099
متبعا، والرأي منحرفا، أو الفتن تموج كموج البحر، كما رأينا في بغي معاوية ومن معه على إمام الهدى عالم المسلمين، وحامل سيف الحق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
يقول تعالى: (وَاتَّقوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) ومعنى اتقوا: اجعلوا بينكم وبين الفتن التي تعم آثارها وقاية، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العقول وتثقيف القلوب. وتطهير الرأي العام من شيوع الأقوال الباطلة، فإنها تفسد الأفكار ولا تجعلها متجهة صوب الحق، بل تتميع العقول، ويكون شح مطاع وهوى متبع، ولا يكون التفكير الدقيق لما يقال، بل يتبع كل فاسق.
وإن الوقاية تكون بأمرين: أولهما - العدل، وثانيهما - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا قال النبي - ﷺ -: " لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطُرنه على الحق أطرا، أو ليضرِبَنَّ الله بقلوب بعْضكم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (١).
وقوله تعالى: (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمًوا منكُمْ خَاصَّةً) هي جواب لشرط محذوف أو في معنى جواب الأمر، وهو (اتَّقُوا)، والمعنى: إن تتقوها، لَا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. ودخلت نون التوكيد الثقيلة؛ لأن جواب الأمر في معنى الأمر، ونون التوكيد تدخل الأمر فتؤكد جوابه، وذكرت الصلة في الموصول للإشارة إلى السبب وهو الظلم الذي يعم، ولا يخص، وأظهر الظلم ليتبين أنه السبب، وأن السبب في عموم الفتن أو الذنوب، أو الفساد في الأمة بعمل الطاغين، وعدم الخصوصية أن ظلم الخاصة تكون نتيجته على الجميع؛ لأنه لا يوجد من ينهاهم، وقد أمروا بأن ينهوهم بل أن يحاجزوا بينهم وبين الظلم كما أشرنا، وكما روينا عن النبي - ﷺ -، وقد قال - ﷺ -: " لا تؤخذ العامة بظلم الخاصة
________
(١) سبق تخريجه.
3100
إلا إذا رأوه ولم ينكروه "، فلا يعترض على عموم الفتنة بقوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرَى)، فالعامة لَا يؤخذون بوزر غيرهم إنما يؤخذون بتقصيرهم، وإنه إذا كان الفساد من بعضهم، فأثر الفساد يعم، فإذا شاع العبث، ونتأ برأسه غير مبال بشيء فإن الجماعة كلها مسئولة؛ لأنها لم تأخذ على يد من يدعو إلى الشر، ويعلنه جهارا، ورضيت من المتسلطين ما يفعلون أو لم يستنكروا، ولم يقاطعوا أعمال المنكَرين، ومن يدفعونهم أو يشجعونهم، فكانوا وهم على سواء. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإنه لَا يكفي أن يكون الأخيار غير مرتكبين ما يرتكبه الأشرار، بل إنه يجب أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل الإمام عثمان - رضي الله عنه - وظهور البغي السافر في عهد إمام الهدى عليٍّ وقعت آثاره على المؤمنين، ولنترك الكلمة للإمام الزمخشري في تفسيره فقد قال ناقلا: " روي أن الزبير قال: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما نرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها ". وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الحلبة، وروى أن الزبير كان يساير النبي - ﷺ - يوما إذ أقبل عليٌّ - رضي الله عنه - فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله - ﷺ -: " كيف حبك لعلي "؟ فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. فقال: " فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله " (١).
ولقد كان ما انتهى بأن ذهبت الشورى في الإسلام، وصارت مُلكا عضوضا، صالحا أو طالحا، ولكن فقد الحكم قوة الأمة، وأهمل قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...).
ولم يبق إلا أن نعلم أن الله أنذرنا بعقابه فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وإنا قد علمناه، ولم نرتدع عن غينا، ونسلك طريق ربنا، علمناه وآمنا به، ورأينا بعضه، وهو عقاب الدنيا، فتفرق جمعنا، وتقطع الأمر بيننا، وتحكِّم الأعداء فينا وصرنا نهبا مقسوما، وصار أكثر حكامنا يرتمون في أحضان من
________
(١) ذكره بهذا اللفظ الرازي في التفسيرج ١٥، ص ٤٧٣، والزمخشري في الكشاف: ج ٢، ص ١٥٢.
3101
لا يرجون للإسلام وقارا، ويفسدون تفكير المسلمين، وما يلقانا يوم القيامة أشد هولا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
الإسلام قوة للمؤمنين إن آمنوا به
(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
* * *
إنه لكي تشعر الجماعات والأفراد بنعمة الحاضر يجب أن تعرف الماضي، وأن تكون صورته حاضرة دائما في حاضرها، وكذلك إذا عرفت ما كان في ماضيها من خير أدركت ما عساه يكون حاضرها، ومن حكمة الله وسنته دائما أن يجعل الماضي نوراً للحاضر، أو يكون فيه عبرة للمعتبر (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١).
3102
يذكر الله سبحانه وتعالى ما كان بالمؤمنين من ضعف ليذكروا ما هم فيه من قوة ونعمة، وليشكروه على ما أعطاهم وعلى ما آتاهم، فيقول:
3103
(وَاذْكرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ).
" الواو " عاطفة على قوله تعالى: (اسْتَجِيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الوقت هنا " إذ " مفعول به، وليست مفعولا فيه، فالذكر ليس ظرفه الوقت، وإنما ذات الوقت هو المذكر، والوقت إذا كان في الوقت يكون مظروفا فيه لَا يعدوه، وأما إذا كان هو المقصود فيكون الذكر لذات الوقت، وما كان فيه من أحداث وأحوال.
والمعنى: اذكروا في زمن العزة زمن الذلة، وصور الله سبحانه وتعالى الحال فقال: (إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ) أي: عدد قليل فإن الإسلام إذ نشأ كان عدد المسلمين قليلا، وكان المشركون يستذلونهم، ويستضعفونهم ويؤذونهم، مرة بالسخرية والاستهزاء، ومرة بالضرب والأذى، ومرة بوضع الحجر المحمى على ظهورهم، حتى كانوا يضطروهم إلى أن ينطقوا بكلمة الكفر، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يسلم النبي - ﷺ - من الأذى، حتى إنه ليرمى عليه فرث الجزور وهو يصلي، ومع هذا الاستضعاف في الأرض غير مستقرين في أنفسهم وأموالهم فهم في خوف وفزع واضطراب؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: (تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) والتخطف معناه: سلبهم أو سلت أموالهم سريعا من غير تلبث، والتخطف هو موضع الخوف، ولا يكون معه استقرار أبدا، فلا يأمن التاجر، ولا العامل، ولا الزارع، لَا على ماله، ولا على نفسه، ولذلك كانت منهم الهجرة إلى الحبشة، وقد بين الله نعمته بالإيواء والتأييد بالنصر، والرزق من الطيبات.
فقال سبحانه: (فَآوَاكُمْ) بالهجرة إلى المدينة حيث الإخوة بالمدينة الذين آووا ونصروا وعوضوكم عن نصرة القوابة والنسب التي عقَّها الشرك أُخُوَّة الإيمان، وآثروكم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة وقال: (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) فجعل لكم الغلب والقوة، وكان يوم الفرقان، إذ جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وأعزكم بعد ذلك، وصاروا هم - أي الكفار - يخافون الاختطاف
3103
العادل، وسلبهم الله تعالى الأمن والاطمئنان. وقال: (وَرَزَقَكم مِّنَ الطَيِّبَاتِ) أي الطعام الطيب في ذاته، والطيب في طريق الحصول عليه، فوجدتم في المدينة الزرع والثمار بدل الجدب، وأعطاكم من غنائم المشركين حلالا طيبا، ثم قال سبحان: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي رجاء أن تشكروه على ما أنعم.
ونجد أن الخطاب للمؤمنين ليشكروه على ما أنعم من نعم نالوها بإيمانهم، واتجه بعض المفسرين إلى أن الآية تبين نعمة الإسلام على العرب، بعد أن دخل الناس في الإسلام أفواجا، أفواجا، ولا يقتصر الإيواء والنصر على ما كان بعد الهجرة مباشرة، بل يعم ما شمل العرب من خير عميم، وجاء ذلك في أقوال بعض التابعين، فقد روي عن قتادة السدوسى في هذه الآية أنه قال: (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاها عيشا، وأجوعها بطونا، وأعراها جلودا، وأبينها ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم زوى في النار.
يؤكلون، ولا يأكلون، والله ما نعلم من حاضر أهلٍ يومئذ من كانوا شرا منزلا منهم حتى جاء الإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله).
وإن هذا ليس رأيا مغايرا للتفسير السابق، ولكنه حكم بعموم النعمة على العرب أجمعين، لَا للذين هاجروا وجاهدوا، وأيدهم الله تعالى بنصر النبي - ﷺ -، بل بكل العرب؛ إذ رفعهم من جهل إلى علم بالإيمان، ومن شظف العيش إلى عيش رفيع، حتى لقد قال خليفة رسول الله - ﷺ -: (والله ليتألمن من النوم على الصوف الأذربى كما يتألم - أحدكم من النوم على حسك السعدان)، ولقد حذر الله تعالى من أسباب الفساد عندما يفيض الخير فقال عز من قائل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
3104
أمر الله تعالى المؤمنين بأن يذكروا في الرخاء الشدة، وفي الكُثر يذكرون القل، وفي العز يذكرون الذل، وفي حال الاعتزاز يذكرون الاستضعاف ليعرفوا النعمة، وحقها، وقد ذكر بعد ذلك ما يصون رفعة الأمم والآحاد، فذكر أنه الأمانة؛ ولذا حث عليها بالنهي عن الخيانة.
والتفسير اللغوي لكلمة " خان " هو أن معناها نقص؛ ولذا يقال لنقيضها، " وفّى " فيقال خان الأمانة، بمعنى نقضها، ويقال وفَّاها أي أداها على وجهها، والنهي عن خيانة الله وخيانة رسوله فهي واحدة، لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله؛ لتأكيد المعنى في أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ولبيان أن الرسول لَا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى؛ ولأن يبين أن نصرة لرسول نصرة لله، ومحبة الرسول محبة لله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...)، وأن خيانة الرسول خيانة لله تعالى.
وخيانة الله ورسوله، تشمل عدم إطاعة الشرع، ومخالفة نواهيه، وترك الجهاد، وإفشاء أسرار المؤمنين، وإعلان ما أمر الله بكتمانه، والغلول في الغنيمة قبل قسمتها، والكيد لجماعات المسلمين، واتخاذ بطانة من غيرهم، وموالاة أعداء الحق، وفي الجملة مناوأة أهل الحق سرا وباطنا، فهذه كلها خيانة لله ورسوله، وعدم رعاية الأمانات، ومناصرة الظالم، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات، وفي الجملة تشمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة، سواء أكانت تتعلق بالآحاد والجماعات، وقوله: (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) عطف على خيانة الله ورسوله، والمراد (أَمَانَاتِكُمْ) الأمانات التي عهد إليكم بالقيام عليها، وأدائها في وقتها ويكون النهي عن خيانتها وارد من ناحيتين:
الناحية الأولى: من جهة أن خيانتها خيانة لله ولرسوله؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
3105
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، ومن أن شريعة الله التي بلغها محمد - ﷺ - تأمر بأداء أمانات العباد إلى أصحابها.
والناحية الثانية من أمانات العباد: حق العباد، وديوان ظلم العباد لَا يُغفر إلا برد مظلمة ظلم الطاغين، وقد أكد الله تعالى النهي وغلَّظه بقوله تعالى: (وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تجحدون الأمانة وأنتم تعلمون وجوبها، أو تنكرونها، وأن تعلمون أمرها، وأن أداءها واجب عليكم.
ونرى من هذا أن خيانة الله ورسوله والناس أجمعين منهي عنها، وأن عمومها لَا يمنع أنها قد تكون اقترنت في نزولها بحوادث وقعت من بعض الصحابة.
فقد روى أن أبا لُبابة كان بينه وبين بني قريظة صلات، فلما حكَم النبي - ﷺ - سعد بن معاذ فيهم أشار إليهم أبو لبابة بألا يحكِّموه، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح، فأحس بأنه خان رسول الله - ﷺ - فربط نفسه في سارية المسجد، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيا عليه فتاب الله تعالى عليه، وحل وثاقه فقال: إنه نذر أن ينخلع من كل ماله، إن تاب الله عليه، فاكتفى رسول الله - ﷺ - بثلث ماله (١).
وروى أنها نزلت عندما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يخبرهم بسير النبي - ﷺ - وقد أمرهم النبي - ﷺ - بالكتمان، فخان المسلمين بهذا الإخبار (٢).
وفى الحق إن الآية عامة لهذه الأحوال وغيرها.
وإن خيانة الأمانة سببيا الهوى، ومسير الهوى ودافعه فتنة المال والولد؛ ولذا قال تعالى ذاكرا سبب الخيانة ليكون الحذر:
* * *
________
(١) رواه أحمد: مسند المكيين - حديث أبي لبابة (١٥٣٢٣) وانظر مسند الإمام أحمد: مسند الأنصار - باقي مسند عائشة رضي الله عنها (٢٤٥٧٣).
(٢) انظر البخاري: الجهاد والسير الجاسوس (٣٠٠٧)، ورواه مسلم: فضائل الصحابة - من فضائل أهل بدر (٢٤٩٤).
3106
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
* * *
سبحان منزل القرآن، أنزله نظاما وشرعا محكما، وحكمة منزلة، هو أمرنا ألا نخون، وعلمنا كيف نحارب نوازع الخيانة في نفوسنا، ونعالج منابع الفساد فينا، وهدانا السبيل لأن نربي أنفسنا؛ طلب إلينا ألا نخون، ثم بيَّن موضع الداء وهو فتنة المال والولد.
والأمر في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكمْ وَأَوْلادُكمْ فِتْنَةٌ) أمر تعليم وعلم، وهذا العلم هو أن المال والولد فتنة، والفتنة هنا المراد بها الاختبار والامتحان من فتن الفلز إذا صهره بالنار لإخراج الفلز مما يعلق من مفاسد.
وإنه بمقدار توقِّينا لفتنة المال يكون بعدنا عن الخيانة، ولقد قالوا: إنه كان لأبي لبابة الذي ذكرنا أنه شعر بأنه خان الله ورسوله إذ أشار لليهود بأن الحكم الذي سيصدره معاذ هو الذبح، كانت له أموال عند اليهود يخاف ضياعها ففتنة المال أغرته بأن يقدم على الخيانة، وأن يطهر نفسه ذلك التطهير الشديد، بأن يحاول الانخلاع من كل ماله، فيخفف النبي - ﷺ - بأن يجعله في الثلث.
وفتنة المال أشد فتنة، ويقول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكمْ وَأَوْلادِكمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ...).
وقدم المال على الولد؛ لأن المال في أظهر أحواله متعة خالصة، والولد متعة، وتكليف، وما لَا تكليف فيه يكون أوضح وأظهر استمتاعا؛ ولذلك طلب المال الجميع. والأبوة متعة، ولكن معها تكليف ورعاية، والذين تفتنهم الدنيا تغرهم الأمور الظاهرة، وتعوق متعتهم الأمور القابلة، وإنه حيث فقد الشخص إحدى المتعتين المال، أو الولد، اشتدت الأخرى؛ ولذا كانت متعة الولد تشتد عند الفقراء، ولا تكون عند الأغنياء، كقوتها عند الفقراء، وتلك الفطرة.
3107
وقوله تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فيها قصر الأموال والأولاد على الفتنة، ومن ناحيتها تجد الخيانة مسرب الشيطان إلى النفوس، فالآية تحذرنا من هذه الفتنة، والحذر لَا يكون بترك المال والأولاد، إنما الحذر ألا نطلب المال إلا من الحلال، وألا تدفعنا عاطفة الأبوة إلى الشطط ومجاوزة الحد.
وإنه يجب محاربة المتعة حتى لَا تشتط بالإنسان بطلب متعة أبقى وأدوم وأهدى سبيلا، ولذا علمنا الله تعالى الإيمان بأن عند الله أجرًا عظيما، إذا قاومنا فتنة المال والولد، والمقاومة ليست بالحرمان كما أشرنا، ولكن بالحذر، وألا نتعدى حدود الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا...)، ولذا قال تعالى: (وَأَن اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وذلك أجر مقاومة الفتنة، والوقوف بالمحبة للمال والولد، عند الحد الذي لَا تكون معه خيانة، ولا تجانف لإثم.
وقد أكد الله تعالى أجر الله الذي يتكافأ مع مقاومة الخيانة بسبب متعة المال والولد أولا: بالتعبير بالجملة الاسمية. وثانيًا: بـ (أنَّ)، وثالثًا: بتنكير أجر، فإن معنى هذا التنكير الكبر إلى درجة، ورابعًا: بوصفه بأنه عظيم وذلك لتحصين نفسه بهذا الأجر الذي لَا يقارن قدره.
وإن تقوى الله تعالى هي السبيل لمقاومة الشر، وجعل فارق بيِّن يجعل النفس تبتزم الجادة ولا تحيد عنها؛ ولذا قال تعالى:
3108
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
يحصن الله تعالى نفس المؤمن ليكون دائما بعيداً عن الخيانة، وقد حصنها بما أعد من أجر عظيم للمؤمنين الأمناء الذين شروا أنفسهم لله تعالى، وأعدها بتربية التفوى في النفس، حتى تكون في حال خوف من عذابه، كما ترجو ثوابه؛ لذلك ناداهم سبحانه وتعالى مبينا خواص التقوى، فذكر أنها تنير الطريق، فلا
3108
تضل العقول، فيقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِن تَتَّقوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكمْ فُرْقَانًا وَيكَفِّرْ عَنكمْ سَيئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).
ثلاثة أمور تترتب على التقوى مجاوبة لنفس المتقي، وهي الفرقان، وتكفير السيئات، والغفران.
أما الأول وهو الفرقان، فهي كلمة جامعة لمعاني الفصل بين النور والهدى، والحق والباطل، والواضح النيِّر وما فيه إشباه وإبهام، والطاعة والعصيان.
وتطلق كلمة الفرقان على كل ما يؤدي إلى هذه المعاني، فتطلق على النصر؛ لأنه يعلي الحق، ويخفض الباطل، ويفرق بين العزة والذلة، وتطلق على البيان؛ لأنه يفرق بين الحق والشبهات، ويشهر الحق ويعلنه، وينشر الاسم والصيت في الأرض.
وكيف تكون التقوى تعمر النفوس، وتطهر القلوب، وتنير الأبصار، وفي الحكمة الشرقية أن القلب إذا عمره الإخلاص وقذف الله فيه بالحكمة، فاستقام اللسان واستقام العمل، واستقام السلوك ولم ينحرف عن الجادة، وحينئذٍ لَا يشتبه أمر من الأمور، وتكون الشتبهات ضاحيات نيرات إما إلى الهدى، وإما إلى الضلال.
هذا هو الفرقان، وهو أولى ثمرات التقوى، وهو جامع للخير، إذ هو جامع للعلم النافع الهادي.
والثاني: هو إن الله تعالى يكفر عنه السيئات، وتكفير السيئات معناه إزالة آثارها في النفس، فإن النفس إذا أذنبت نكتت فيها نكت سوداء تتوالى حتى يرباد القلب، وتكفير السيئات إزالة هذه النكت السوداء، أو ما علق منها، حتى يصير القلب أملس كالمرآة، وإن التقوى تفعل ذلك؛ لأنها تجلو صدأ القلوب ويمتلئ القلب بذكر الله تعالى، فيعبده كأنه يراه، ويحس بعظمته تملأ نفسه، وتنير سبيله.
3109
والثالث: فمن بعد تطهير النفس من السيئات بتكفيرها، يكون الغفران وستر الذنوب، وتكون الرحمة الشاملة، ولقد ختم الله تعالى ذلك بقوله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لأن ذلك كله من فضل الله تعالى (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
ذكرنا الله تعالى بما كان عليه المؤمنون في مكة، إذ كانوا عددا قليلًا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وقد بين أشد ما دبروه، وهو ما أعقبه الهجرة، ليتذكروا شدتهم في رخائهم ولذا قالوا: إن تسع آيات مكية جاءت لهذا التذكير ومنها قوله تعالى.
* * *
المكر لأبلغ الإيذاء
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
* * *
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى ما كانوا يبيتونه للنبي - ﷺ - قبيل أن يهاجر، وإن النبي - ﷺ - كان يدبر للهجرة من قبل ذلك، فقد أخذ يعرض نفسه على
3110
القبائل، حتى وجد قبل الهجرة بما يقارب سنتين الأوس والخزرج، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب، ويعد العدة لذلك ويهيئ المُتَبوَّأ، ويتم الرسالة، بلاغا وتبيينًا، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام فهل كانت الهجرة فرارًا من الإيذاء وطلبا للأمن؟.
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى والفتنة في الدين، وينطبق عليهم قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...).
أما هجرة النبي - ﷺ - فما كانت فرارًا من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة، ولأنه نظام يجب أن يتحقق، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه، وتقيم العدل، وترفع الجور، وما كانت تتمكن من ذلك، وهي خاضعة لعبدة الأوثان، بل كان لابد من الهجرة حيث تكون القوة، وحيث يتمكن من إقامة الدولة، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية، فكانت أرض البيت الحرام، وقد مكث محمد ابن عبد الله - ﷺ - ثلاث عشرة سنة يدعو، دخل خلالها في دينه بعض قريش، وبعض القبائل، وعرف العرب دعوته، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى، مهَّد لإنشاء الدولة، فسافر إلى المدينة مهاجرًا.
وبينما هو يعد العدة، أو أعدها ومهَّد الأرض وعبَّد المقام - كانوا يفكرون في الإيذاء، ولذا لَا نقول هاجر فراراً، بل كان الاتفاق الزمني، وهم يفرغون جعبتهم، وقد أفرغوها، وراشوها (١)، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم.
________
(١) راش السهم، راش سهمَه يَرِيثه رَيْثا إِذا ركَّب عليه الرّيشَ، إشارة إلى كماله واستقامته. لسان العرب - ريش. والمعنى أنهم استعدوا لما هموا به من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم.
3111
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الُّذِينَ كَفَرُوا)
(إذ) ظرف وقائعه في الماضي، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر، أي اذكر يا محمد ومن معك الوقت الذي بلغ الأذى أقصاه، وهم يمكرون، ويدبرون ويحكمون، ويتجادلون في أنجع طريق لسد الطريق على دعوتك، أيحبسونك، أو يقتلونك أو يخرجونك، وقد اجتمعوا، ويقول الله تعالى مشيرا إلى آرائهم (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) و (يثبتونك) معناها يحبسونك فيمنعونك الحركة أو يقتلوك أو يخرجوك.
ولنضرب بكلمة موجزة، لقد ئبت بإسناد صحيح أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار ندوتهم ليتشاوروا في أمر النبي - ﷺ - وقد صار على أمر عظيم عليهم، خالفهم وسفه أحلامهم وعاب آلهتهم فتقاولوا في أمره ماذا يصنعون أيثبتونه أي يمنعونه من الحركة بالحبس، أم يقتلونه، أم يخرجونه.
قال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من قبله، فلم يرتضوا هذا رأيا، وقال قائلهم: والله ليخرجنه أصحابه فليوشكن أن يثبتوا يأخذونه من أيديكم فيمنعونه منكم. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، وكان أمره في غيركم.
فقال قائل: ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه القلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
وقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لَا أرى غيره؛ قالوا: وما هو؟ قال تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إن رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا.
3112
قبلوا ذلك الرأي واستطابوه وهموا لتنفيذه، واجتمعوا حول داره لينفذوا الخطة، وأتوا بالشباب الأنهاد، ولكن الله تعالى كان يدبر لرسوله ورسالته، ولقد جاء سيف الحق علي كرم الله وجهه ونام مكان النبي - ﷺ -، وخرج النبي - ﷺ - وهم مصطفون حول الدار وقبض قبضة من الرماد وقال: " شاهت الوجوه " (١)، ويروى أنه تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) (٢).
هذا تدبيرهم ومكرهم، وإنه في هذا الوقت الذي كانوا يمكرون فيه، كان الله يدبر فيه لرسوله ولرسالته، فكان يدبر أمر هجرته، وابتدأت بهجرة كبراء الصحابة كعمر رضي الله عنه، وأبي عبيدة، وغيرهما من كبار الصحابة، وكان النبي - ﷺ - يحتجز أبا بكر لصحبته، فكان له فضل الصحبة في الغار.
وسمي تدبير الله تعالى مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، كقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ... )، فدفع الاعتداء ليس اعتداء.
والله تعالى (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي خير من يدبر، وينظم ويحمي نبيه ورسالته لأن تدبيره سبحانه وتعالى خير، ولا يمكن إلا أن يكون خيرًا وهو نافذ ومنتج ومؤد إلى غاية هي خير غاية.
وقد ترتب على تدبير الله أن قامت دولة الإسلام وظهر في الوجود أفضل مدنية كانت للفضيلة ونشأت بالفضيلة، وقد ذكر الله استهزاء الكافرين بآيات الله تعالى، وكيف يتلقون آيات الله بأهمال وسخرية فقال:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
________
(١) رواه أحمد: مسند بني هاشم - بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (٢٧٢٥).
(٢) رواه أحمد: مسند بني هاشم (٣٢٤١).
3113
نزلت هذه الآية في مكة، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم، ويستضعفونهم، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن، يقول تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا) هذا تصوير لبعض أحوالهم عند سماع تلاوة القرآن، فأحيانا كانوا يتناهون عن الاستماع وقالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وأحيانا يطلبون آيات، وأحيانا لَا يعيرون القرآن التفاتا ويعلنون الاستهانة به.
(وِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ) عبَّر بالمضارع لتصوير حالهم وتجددها آنًا بعد آنٍ والتلاوة: الترتيل بالقراءة آية تلو آية في نغم هو ترتيل الله تعالى، ولا يجيبون بالتأمل والتفكير والتدبر فيما يتلى، بل يعاجلون القارئ كأنهم يطلبون أن يسكت ولا يقرأ قائلين: سمعنا، كما تقول لمتكلم لَا تريد منه الاستمرار: سمعنا، سمعنا، أي أقصر، وكأنهم يتأففون، ثم يردون قائلين، (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
أي لو شئنا أن نقول مثل هذا الكلام لقلناه، ولكنا لم نُرِدْه، وهذا كلام يحمل في نفسه دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور، فما أتوا، تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا واعتذروا بأنهم لم يأتهم تأويله، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات فعجزوا، أفبعد هذا التحدي الشامخ والسكوت الخانع والعجز الخاضع يقول قائلهم: لو شئنا لقلنا مثل هذا؟!! تلك غطرسة كاذبة، ونفخة جوفاء.
ويردفون كذبهم بكذبة أخرى فيقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إنْ) هنا نافية، أي ما هذا الكلام إلا أحاديث الأولين التي يسمر بها ويقصدونها قطعا للفراغ، والأساطير جمع أسطورة وهي الأخبار التي يخترعها القصاصون وغيرهم في سموهم ولهوهم.
3114
وقد روى أن قائل هذا هو النضر بن الحارث، وكان يتخذ مجلسا بعد النبي - ﷺ - يقص فيه أخبار ملوك الفرس، وأمرائهم، ونسب القول إلى كلهم؛ لأنهم ارتضوه وقبلوه وصدقوه. وكل ذلك كان بهتانا وكذبا.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم قالوا ذلك ورد قولهم، فقال تعالى:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦).
وإن هؤلاء المشركين لَا يريدون الحق ليتبعوه، بل هم في ضلال، وإنهم يضلون ضلالا بعيداً، وقد حكى الله تعالى حالهم، ودعاءهم الساخر الماجن:
3115
(وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
إن هذه الجملة السامية الحالية تنبئ عن أن هؤلاء قد أركست نفوسهم في الشرك إلى درجة أنهم يتمنون أن يعيشعوا فيه، وألا يفكروا في تغيير ما بأنفسهم.
يقول الله تعالى عنهم يقولون: (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأمْطِرْ...) هذا أقصى أحوال الجحود والإنكار، حتى إنه ليتوقع شر ما يتمناه المرء إذا كان ذلك صدقا، فيقول: إن كان هذا هو الحق وحده ولا حق سواه، فخير لنا أن تنزل علينا حجارة من السماء أو تأتنا بعذاب أليم من جنس هذا العذاب، فهو ينكر أولا، ويعده شر الأحوال ثانيا، ويصر عن إنكاره، ولو بدت دلائل الحق ثالثا.
وفى ذلك فوق هذا الجحود الذي لَا حد له سخرية وتهكم، وأنه يستحيل في نظره أن يكون حقا. وهنا إشارتان بيانيتان رائعتان:
الأولى - قولهم: (إن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ)، فيها قصر الحق على هذا، وهو التوحيد، والإيمان بما جاء به محمد - ﷺ -، فالإنكار واقع على قصر الحق، وكأنهم يريدون أن يكون ما هم عليه حقا وهو الباطل الذي لَا ريب فيه.
3115
الإشارة الثانية - أنهم يقولون في الجواب المترتب على هذا الشرط، (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) فذكر السماء؛ لأنه المناسب للإمطار، وليكون أشد؛ لأنه يكون حجارة تنصب على الرءوس انصبابا كانصباب الماء، ولأنه كما قال الزمخشري، يكون سجِّيلا، كالحجارة التي نزلت بأصحاب الفيل، التي حمى الله تعالى بها بيته الحرام من أبرهة الذي أراد هدم البيت.
وإن ذلك النص السامي، كما هو أقصى الجحود والتهكم هو أقصى ما يدل على الحمق والجهل، يروى في هذا أن معاوية بن أبي سفيان دخل عليه رجل من سبأ، وقال له: إنكم قوم تجهلون وليتم عليكم امرأة، فقال الرجل: أنتم أجهل؛ لأنكم قلتم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ولم تقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.
والجواب لمثل معاوية حق؛ لأنه هو وأبوه كانا ممن يظن أنهم قالوا ذلك، وإن أسلموا من بعد وكانوا من المؤلفة قلوبهم وأخذوا مئات من النوق.
إنهم يستعجلون العذاب قبل أن ينزل، وقد بين الله تعالى استحالة ذلك على مقتضى السنة التي سنها الله تعالى مع الرسل وأقوالهم، وهي أن الله تعالى لا يعذبهم والرسل بينهم يدعون، ولذا قال عز من قائل:
3116
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
هذا النص السامي فيه بيان أن الله لَا يعذب الأقوام، والرسول يدعوهم حتى يكون اليأس من إيمانهم كما فعل الله تعالى مع قوم نوح، لقد قال تعالى عند إنزال العزم فيهم (لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ...).
و (اللام) في قوله تعالى: (لِيعَذِّبَهُمْ) هي التي يسميها علماء النحو لام الجحود أي تكون لتأكيد النفي، والمعنى: ما كان من شأن الله العلي الأعلى أن
3116
يعذب المشركين، وأنت فيهم تدعو، ويفشو الإيمان فيهم وقتا بعد آخر، وهؤلاء بهذا الدعاء الذي يجحدون به يستعجلون العذاب، والله فوق أهوائهم وله في خلقه سنة ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، ولقد كان النبي - ﷺ - يقول: " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى " (١).
ثم يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)، قال بعض العلماء إن العذاب الذي يعم يكون الجميع مستحقونه، فإذا كان فيهم من يستغفر لَا يعمهم العذاب، فمعنى (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي بعضهم يستغفر وعبر بما يدل على الجميع للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون ذلك، وقيل إن المراد قولهم في الطواف: غفرانك.
وقيل المراد توبتهم إن تابوا.
وينقدح في نفسي أن الأقرب للمعنى أن نقول، (وَمَا كَانَ اللَّهُ معَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) بمعنى يدخلون في دين الله تعالى فوجا بعد فوج، إذن لانقطع السبيل على المستغفرين الذين يجيئون تباعا بإنزال العذاب، بطلب المستعجلين خضوعا لأهوائهم وضلالهم.
وقد نفَى الله عن ذاته العلية الشأن، فقال تعالت كلماته: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ) فنفى اسم الفاعل وهو نفي الوصف القائم بالذات العلية، (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
* * *
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (٣٢٣١)، ومسلم: الجهاد والسير - ما للقي النبي ﷺ (١٧٩٥).
3117
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى رد استعجالهم للعذاب، كما استعجل المشركون إسلافهم العذاب، فأنزله تعالى، أما المشركون الذين بعث فيهم محمد - ﷺ -، فما بعث لهم وحدهم، بل بعث للأحمر والأسود، والأبيض والأصفر، فما كان لينهي رسالته بكفر أهل مكة وإصرارهم على الشرك ومعاندة الحق، بل لَا بد من تبليغ رسالة ربه، وأن يعرفها الكافة فقد أرسل إليهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ...)، ولذلك قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) على ما ذكرنا ولكنْ هناك عذاب لهم ينزل بهم في الدنيا، أساسه منازعة الحق للباطل، وإزالة مثارات الشيطان أمام شرع الرحمن، ولابد أن يخلو وجه الناس للحق، فكان لابد من مغالبتهم بالقتال، وهو بعون الله تعالى عذاب لهم، وهذا هو العذاب الذي قرره الله تعالى لهم في قوله تعالى:
3118
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
3118
هذا تعجب من عدم تعذيب الله لهم بالمغالبة، ومنازعتهم ما وضعوا أيديهم عليه بالباطل، وأقاموا أصنامهم فيه، وليسوا أهلا لولايته.
والاستفهام للتعجب من مناقضة حالهم لما يجب لحرم الله الآمن، والمعنى أي أمر ثبت لهم حتى يقيموا في الحرم ولا يعذبهم يمنعهم منه، وهم يحاربون شعائره، وذلك بصدهم عن سبيل الله، وعن المسجد نفسه فهم يمنعون النبي - ﷺ - من أن يؤدي المناسك، ويمنعون ضعاف المؤمنين بإيذائهم، ويصدون الناس معنويا بوضع الأصنام على الكعبة بناء إبراهيم، وينتهكون المحارم، بحمل الناس على الطواف عرايا رجالا ونساء، حتى إنهن ليسترن سوءاتهن بأكفهن، هذا كله صد عن البيت.
فكيف لَا يعذبهم الله بمغالبتهم على الاستيلاء على البيت، والحال أنهم لا يقومون على حرمات البيت، وهو المسجد الحرام الذي جعله الله حرما آمنا، والناس يتخطفون من حوله.
والتعذيب، كما أشرنا هو مغالبتهم لنزع البيت من تحت أيديهم، ووضعه في يد أولياء الله ولكنهم يدعون أنهم سدنته، أو أنه بأيديهم مفاتيحه، من عهد إبراهيم، وقد أجاب الله تعالى عن ذلك بأنهم ليسوا أولياءه، أي ليسوا حُماته، أو القائمين عليه؛ وذلك لأن ولايتهم إنما هي بالخلافة عن إبراهيم بانيه ورافع قواعده، وما كان مشركا.
وإنهم إذ أشركوا، وصدوا الناس عن المسجد الحرام، ومنعوا غير العرايا، قد فقدوا صفة الخلافة عن إبراهيم الذي جاء بالحنيفية السمحة، قد فقدوا الحق في هذه الولاية. ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانوا أَوْلِيَاءَهُ) أي ما استمرت لهم هذه الولاية، لأن " كان " تدل على الاستمرار وفيها نفي لهذا الاستمرار.
والولاية الحق تكون لن كانوا على ملة إبراهيم السمحة، ولذا قال: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) هذا قصر للولاية على الموحدين المؤمنين الذين بلغوا ذروة
3119
الإيمان، وهي التقوى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أنفسهم وضلالهم فلا يستحق الولاية المؤمن فقط، بل المؤمن الذي يتقي الله ويحفظ حرمات بيته، قال عز من قائل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨).
وإن هؤلاء المشركين لَا يعرفون شيئا مما يليق بهذا البيت العتيق الذي هو أقدس بيت في هذه الأرض؛ لذا ذكر سبحانه، كيف يتعبدون في هذا البيت عابثين، غير مؤمنين.
3120
(وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
كانوا يصفرون ويصفقون، ويضعون خدودهم على الأرض، وهم على هذه الحال، ويسمون هذه الحال صلاة، فهي في حقيقتها ليست صلاة إبراهيم، ولا صلاة مطلقا، ولكنهم سموها صلاة، وعدوا أنفسهم بها مصلين، وتجاوزوا كل معقول، وعدوا أنفسهم أولياء البيت الحرام، وهم يصدون الناس عنه، ويتحكمون فيه، وفيمن يغدون إليه إجابة لدعوة إبراهيم من كل فج عميق.
يقول تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي ما كان دعاؤهم عند البيت أو ما كان ما يسمونه صلاة، سولتها لهم نفوسهم عند البيت، أي عند ذلك المكان القدس الذي كان أول بيت وضعه الله للناس الذي قال الله تعالى فيه (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا...)، إما كانت إلا مكاء وتصدية وذكر كلمة البيت، وأن هذه التي سموها صلاة كانت عنده، ليتبين عبثهم بهذا البيت المقدس، وليتبين عبثهم في هذا المكان الذي ادعوا أنهم أولياؤه، والمكاء كرُغاء وخُوار وغُثاء ويعني الصفير، فوزنه فُعَال، وفعله مكَا يَمْكُو إذا صَفَّر، والتصدية مأخوذة من الصدى، والمراد التصفيق؛ لأن التصفيق ترديد للصدى. وقد
3120
روي ذلك عن أبي حاتم، وابن عمر، وقال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، وتصفق، والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
ويروى أنهم كانوا يفعلون ذلك، ليخلطوا بذلك على النبي - ﷺ - صلاته.
وإن الزمخشري يقول: إن الله تعالى سمى فعلهم ذلك صلاة تهكما عليه، وقد جاء في الكشاف ما نصه: " فإن قلت ما وجه هذا الكلام قلت هو نحو قوله: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه... أدَاهِمَ سودًا أو محدرجةً سُمْرا والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم يشبكون أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول - ﷺ -. وخلاصة القول أن نقول: إن تسمية عملهم صلاة على زعمهم، أو نقول مقالة الزمخشري: إنه تهكم على فعلهم، فسمى صلاة تهكما، كما يسمى وضع الأيدي في القيود، وهي الأداهم، والسياط وهي المحدرجة السمر - عطاء، وذلك إهانة للبيت، وتحقيرًا له، لَا يعقل أن يصدر من أوليائه فليسوا له.
هذه تصرفاتهم في البيت، وهي صغار شديد لأمره، لَا يليق ببيت إبراهيم، بيت الله العتيق، ولذا قال تعالى:
(فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفرُونَ).
وفى هذا الكلام التفات إليهم وتوجيه الخطاب لهم، لأن مخاطبتهم بالعقاب يجعله أوقع في النفوس وأدعى للرهبة، والفاء فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، إذ يكون الكلام تقديره: إذا كانت هذه صلاتهم وإذا كان هذا فسادهم، فذوقوا العذاب بسبب كفركم.
3121
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها.
الأولى - التعبير بـ (ذوقوا العذاب) فإنه مجاز عن نزوله بهم بحيث يمس إحساسهم، وكأنه يذاق مذاقا مؤلما ولا يخلو ذلك من تهكم بهم، كما يقول الله تعالى: (فَبَشِّرْهم بِعَذَاب أَلِيم).
الثانية - قوله تعالى: (بِمَا كنتمْ تَكْفرُونَ)، فإنها تدل على استمرار الكفر، وأن هذا الاستمرار هو السبب في ضلالهم، فإن كنتم وكان فيها دالة على الاستمرار.
الثالثة - أن التعبير بالمضارع يفيد تصوير حال كفرهم المتجدد المستمر، فكل ساعة تمر وهم كافرون تجديد للكفر، وحيث يتجدد الكفر يتجدد سبب العذاب، وقانا الله تعالى منه.
وإن المشركين بذلوا، وسيبذلون كل مال للصد عن سبيل الله؛ ولذا قال سبحانه:
3122
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
هذه الآية أقرب إلى الظن أنها مدنية، ولكن نقبل ما يقرره القراء، وهي أنها مكية عند بعضهم، وهي لَا تتغير بوصف المكية أو المدنية، فكله كلام الله تعالى لا يتغير بميقات نزوله، ونحسب أن ما في سورة الأنفال مما نزل بمكة، قد انتهى إلى ما قبل هذه الآية.
كتب الصحاح التي تكلمت في أسباب النزول تجمع على أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا بعد أن عضتهم الحرب في بدر، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم جمعوا مالا لينفقوه في حرب أخرى يعدون لها، ولكن قال الضحاك: إنه عنى بالآية المطعمون الذين كانوا يطعمون يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا.
3122
والمذكور في سيرة محمد بن إسحاق أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان لعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العيرة تجارة فقالوا: " يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا " ففعلوا، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
وأيا كانت الأخبار في ذلك وإنها لصادقة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن الله تعالى الرحيم الرءوف بعباده، لَا يجعل المؤمنين فريسة لأموال المنافقين ينفقونها للصد عن سبيله، فينصروا بأموالهم وينخذل أهل الحق، فصد هؤلاء عن سبيل الله.
إن الله تعالى يؤكد أن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فلا يتحقق لهم قصدهم فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً).
أكد الله سبحانه الإنفاق لهذه الغاية وهي الصد عن سبيل الله، وذلك يجعل كلمة الشرك عالية، ويخضد شوكة المسلمين دعاة الحق، ويمنع الرسول ومن اتبعه من الدعوة، وفي سبيل حرب أهل الإيمان، وقد أكد الله تعالى أنهم سينفقونها بهذه النية الفاسدة، فالسين هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وقد كرر النص الكريم الإخبار بالإنفاق، والأول للغرض من الإنفاق، وهو أنه للصد عن سبيل الله فهو بيان للنية الخبيثة، والقصد الفاسد.
والثاني لبيان أنه لَا نتيجة لهذا الإنفاق، بل يكون عليهم حسرة، وسيغلبون.
والفاء في قوله تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا) لبيان وقوع ما يريدون من غير أن يترتب عليه ما يحبون.
3123
و (ثم) هي للعطف والترتيب، وكان التعبير بـ (ثم) لبيان بعد ما يقع عما يريدون، فهم أرادوه سرورا لأنفسهم بتحقيق الصد عن سبيل الله، وهزم الحق، وكانت النتيجة ليست سرورا بل حسرة؛ لأنهم لم يحققوا ما أرادوا وكانت الهزيمة، وهي حسرة ثانية، وكان نصر المؤمنين، وأن يكونوا هم المغلوبين.
ولا شك أن هذه الأمور التي ترتبت بعيدة عن الغاية التي أرادوها، فكان التعبير بـ (ثم) لهذه المفارقة بين النتائج التي حققت، والمبعث للإنفاق.
والتعبير بالموصول في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إيذان بأنهم يغالبون الله - وهم الكافرون - بأموالهم، والله هو القاهر فوق عباده.
هذه عقوبتهم في الدنيا، وهي إنفاقهم وإحباط عملهم، وذهاب ذلك حسرات عليهم، وأن يكونوا مغلوبين ما داموا ينازعون أهل الحق ويصدون عن سبيل إلله.
أما في الآخرة فجهنم وبئس المصير؛ ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرونَ) أي والذين كفروا بسبب كفرهم يذهبون إلى جهنم يحشرون فيها، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي أنهم يحشرون إلى جهنم وحدها، والتعبير بيحشرون يومئ إلى كثرة أهل جهنم، وإلى أنهم يكونون في ضيق محشورون. اللهم قنا عذاب النار.
وإن المؤمنين في جنة ونعيم مقيم.
وكان الكافرون في جهنم ليتميزوا بعقابهم، ولذا قال تعالى:
3124
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧)
الآية متصلة بالآية التي قبلها، فاللام متعلقة بقوله تعالى: (يُحْشَرُونَ) في آخر الآية السابقة، أي أن الله تعالى يحشر أولئك الكافرين في جهنم دون غيرها
3124
يمسهم فيها النصب واللغون كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، كان ذلك الحشر (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) والخبيث هو الكافر، والطيب هو المؤمن، وأظهر في موضع الإضمار، فلم يقل ليميزهم عن المؤمنين؛ وذلك لبيان أن الكافر خبيث في عقله وفكره وعمله واعتقاده، ولبيان أن المؤمن طيب في نفسه واعتقاده وعمله وخير كله، ولبيان أن الخبث لَا ينتج إلا الحشر في جهنم، وأن الطيب لا ينتج إلا خيرا، وهذا النص يفيد بإشارة القول ولمح البيان أن جزاء الطيبين نعيم مقيم.
وإن الخبيث يجتمع بعضهم إلى بعضه، يضم الخبيث إلى الخبيث ويتراكم عليه، حتى يكادوا يكونون عليه لبدا، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) تعبير يتناسب مع تكاثف شيء كله خبيث، أي يجعل الله تعالى الخبيث الحاضر فوق الخبيث الغابر، فوق ما سبقه، فنظمه جميعا بعضه لبعضه، وفي هذا إشارة إلى أن في جهنم مكانا للجميع، وإن كان مزدحما متراكما، وإشارة إلى تلاحق الحاضرين مع من يقلدونهم، وإشارة إلى تميزهم على الطيبين، أو تميز الطيبين عنهم، وإن هذا كله ينبئ عن الخسارة المطلقة التي لَا كسب فيها؛ ولذلك قال تعالى:
(أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
الإشارة إلى الذين أنفقوا ليصدوا عن سبيل الله، ومن كان إنفاقهم حسرة عليهم، والذين حشروا إلى جهنم، وكانوا قد حملوا الخبث، أي أولئك الذين كان منهم هذا وجوزوا ذلك الجزاء - هم الخاسرون، وفي الكلام قصر بتعريف الطرفين، أي أولئك هم الخاسرون وحدهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وإن الله دائما يفتح باب الرحمة، ويذكر العذاب.
* * *
3125
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
* * *
إن الذنوب مهما تكبر، فباب التوبة مفتوح فما أنزل الله الرسل ليحصوا عدد الذين أساءوا، بل للدعوة إلى الحق، وقد يكفرون فالدعوة تستمر لهدايتهم، ومن يستجب منهم تَجُبُّ استجابته ما كان منه من قبل؛ ولذلك كان الباب مفتوحا، ولذا أمر الله نبيه - مع كفرهم - أن يقول لهم:
3126
(قل للَّذينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).
يأمر الله نبيه بأن يقول لهم في شأن الذين كفروا متحدثا عن مآلهم إن ينتهوا عما هم فيه من كفر ومشاقَّة للمؤمنين ومحاربة للحق - يغفر لهم ما سلف من أعمالهم، ويدخلون في الإسلام طاهرين مبتدئين حياة جديدة هي طهر وتقى ونقاء. وهناك قراءة بالخطاب، ورويت عن ابن مسعود: " إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف " ولكن القراءة المشهورة الأولى، ويكون المعنى قل مخاطبا لهم إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف.
والتعبير بالذين كفروا في موضعه؛ لأنهم متلبسون بالكفر، ومع تلبسهم بالكفر، إن ينزعوه من إهابهم ويلبسوا لباس الإيمان وينتهوا من أرجاسه يغفر لهم ما قد سلف؛ لأن الإسلام يجُبَّ ما قبله، وعبر عن الإيمان بعد الكفر بـ " الانتهاء " للإشارة إلى أن الفطرة هي الإيمان، وأن الكفر عارض على النفس وهو حال قابلة للانتهاء، وإذا انتهت عاد الطهر والنقاء.
3126
وقال تعالى: (يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) من حرب وإيذاء، ولبس الحق بالباطل، وكل ما كان منهم من جرائم في جنب الله، فالله غفور رحيم، وما ارتكبوا من زور وربا موضوع، وكل دماء الجاهلية موضوع، فكل هذا داخل في قوله تعالى (يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ).
وقرر الفقهاء أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة من حقوق الله تعالى، لأنه إذا غفر الشرك فما دونه أولى بالغفران، إلا ما كان من حقوق العباد كديون عليه، أو أكل مال بالباطل أو نحو ذلك، والذمي إذا أسلم فإن الحدود تقام عليه وحقوق العباد تجب على العباد؛ لأن ذلك يلزمه بمقتضى عقدا الذمة، والإيمان يؤكد الالتزامات ولا يسقطها.
وقوله تعالى: (وَإن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سنَّتُ الأَوَّلِينَ) ظاهر النص إن يعودوا إلى الكفر بعد الإيمان فإن معاملة الكافرين تعود إليهم، فمعنى (فَقَدْ مَضَتْ)، أي فقد تقررت سنة الأولين، وهي معاداتهم لله تعالى، منزل بهم ما نزل بالأولين من إخضاعهم للحق بالمحاربة وتنكيس رءوسهم، وإقامة الحق، أو تدمير ديارهم بزلزال مدمر أو حاصب من السماء، وإن سنة الأولين إما سلم مخزية، أو حرب مجلية، كما في بدر، أو ريح عاصف أو سيل عالٍ.
3127
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)
الفتنة في الدين: إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه، وحمله على تركه بعد اعتقاده، كما يفعل المشركون في مكة مع المؤمنين، وكما فعل أصحاب الأخدود الذين قال الله تعالى فيهم: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨).
ومن الفتنة في الدين أن يمنع الداعي إلى الحق من الدعوة إليه، وأن يمنع تعريف الناس بهذا الحق. وكان الناس يفتنون في دينهم بعد دعوة محمد - ﷺ - إلى الحق، فكانوا في مكة يفتنون، وقتل في الشام من أسلم من العرب، وحيل بين
3127
الدعوة الإسلامية، وأن تصل إلى الناس، والقتال يستمر إلى أن يزول سببه، وأن يكون الدين كله لله تعالى بأن يطلب الرجل الدين خالصا لَا إرهاق ولا ضلال، بل يعتقد ما يعتقدا مخلصا لله طالبا وجه الله والحق لَا يبغى سواه، وهذا معنى قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، وإنه إذا طلب الدين كله لله سبحانه وتعالى، لَا يفكر فيه كله إلا من هو لله مخلص مستقيم فإنه لَا يمكن أن يكون مشركا، بل لابد أن يكون مؤمنا بالله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد، فإنه حينئذ يسلم كل أمر في وجهه لله تعالى بعيدا عن تأثير الملوك والرؤساء، وتضليل المضلين، هذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، أي يكون التدين كله لله تعالى.
إن نهاية القتال تكون بانتهاء الفتن في العقيدة، وأن يكون طلب الدين، وقد قال تعالى: (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) والمعنى إن انتهوا عن الشر والاعتداء والفتنة في الدين، والإيذاء في الاعتقاد، فإن الله تعالى: (بمَا يَعْمَلُونَ بَصِير) أي أنه مراقب نفوسهم وعليم بما تخفي صدورهم، وما يجيش بنفوسهم، وفى هذا بيان علم الله الكامل، وتهديد لهم إن عادوا، كما فيه تبشير لهم إن استقاموا على الطريقة، وفي آية يقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣).
3128
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
في الآية السابقة فتح الله تعالى باب التوبة للكافرين ليخلصهم الله تعالى من الشرك الذي أركسوا فيه، وأشار سبحانه إلى أنه أمر عارض على نفوسهم، يستطيعون أن يرحضوه عنها، كما يرحض الوسخ على الثوب الأملس، وبين أن القتال لإزالة الفتنة في الدين، حتى يكون الدين لله.
وبعد هذا ذكر ولاء الله تعالى للمؤمنين، وأنه وليهم وناصرهم إن أعرض المشركون، فقال تعالى: (وَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا ونأوا بجانبهم بعد أن فتح لهم باب الغفران، أو أن يقول: إن استمروا على إعراضهم وتنائيهم عن الحق فإنه هو مولاكم، فلا تخافوهم، وإن الله غالبكم عليهم لأنه مولاكم وناصركم، فقال
3128
تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ) ليس هو الجواب، إنما هو علة الجواب بل الجواب فأنتم الغالبون، وقوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ) أي أنه مولاكم أنتم دون غيركم، والولاية للحق، ومعنى مولاكم أي وليكم وناصركم، وأنتم وحدكم حزب الله.
ومن كان الله وليه فلن يهزم، من كان الله ناصره، فلن يغلب (فَإِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، ولذا قال تعالى (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ونعم من الألفاظ التي تقال في مقام المدح، والمدح بالنسبة لله تعالى الشكر، والثناء على الله بما هو أهله، فنعم هو وليا مواليا، ونعم الله نصيرا غالبا.
* * *
قسمة الله في الغنائم
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
* * *
هذا تعليم الله تعالى بشأن توزيع الغنائم، فالله سبحانه وتعالى تعهد الحرب من وقت الإعداد لها إلى الإقدام عليها إلى اللقاء فيها حتى الانتهاء، ثم علمنا
3129
توزيع غنائمها ليكون التوزيع حكما شرعيا نخضع له، فلا نختلف ولا نتأثر، وقسمة الله تعالى هي العادلة وغيرها قسمة باطلة، وقسمة ضيزى لَا صلاح فيها، ولا خير.
قال تعالى:
3130
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...) " ما " في قوله تعالى هي اسم موصول بمعنى (الذي) والمصدر المنسبك من أن وما بعدها، مفعول لـ (اعلموا)، أي اعلموا كون الذي غنمتموه: خمسه لله ولرسوله إلى آخر النص الكريم.
والغنيمة ما يؤخذ بغير مقابل، ولكن بجهد، وخصت في عرف القرآن بما يؤخذ في الحرب من العدو؛ لأنه يؤخذ بغير مقابل، لأنه أبيح دم العدو وماله، إذ الحرب تبيح دماء العدو وأمواله، ولكنها لَا تؤخذ إلا بجهد، وصار ذلك حقيقة عرفية قرآنية.
ولكن أنطلق الغنائم على كل ما يستولى عليه في الحرب، سواء أكانت أرضا يستولى عليها، أم كانت أموالا منقولة، كالذهب والفضة والثياب والمطبوعات، أم كانت جواري وأناسي؟.
تجري الأقلام على ذلك، ولذلك لاقى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مخالفة بادي ذي بدء عندما منع قسمة الأرضين عن الفاتحين، وخالفه الأكثرون حتى إذا
قرأ عليهم قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠).
3130
وعندما تلا عليهم أمير المؤمنين عمر هذه الآيات خروا صاغرين ووافقوا على ما قال، وقد دل هذا على أمرين:
أولهما - أنهم عدُّوا الفيء من الغنائم، إذ أجروا على الغنائم حكمه، وكذلك قال بعض فقهاء الصحابة والتابعين فعدوا الأنفال والفيء والغنائم مؤداها واحد، وإن اختلفت أسماؤها.
ثانيهما - أن الغنائم لَا تكون إلا في المنقول الذي ينقل من حيز إلى حيز كالعروض والذهب والفضة والأواني والثياب ونحوها، وقد قال ذلك الرأي بعض الصحابة، جاء في تفسيرِ القرطبي: " لم يختلف العلماء "، في أن قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنمَّا غَنِمْتُم مِّن شيْء) ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلَب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، وكذلك الرقاب أعنى الأسارى الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف.... ومما خص به أيضا الأرض، والمعنى ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية.... ولو كانت الأرض ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول: (وَالَّذينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)، بالعطف على قوله:
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ...)، قال: أو إنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع.
نقلنا هذا الكلام، لبيان أن من علماء الصحابة من قال: إن الغنائم ما يؤخذ وينقل، والأراضي لَا تنقل ويستولى عليها، فلا تعد عليها، ولنضع الحجارة في أفواه الذين يقولون: إن الإمام عمر رضي الله عنه عارض النص بالمصلحة عندما عارض نصا، ولما اعتمد على المصلحة وحدها لم يجد من يوافقه من الصحابة إلا من كان له مثل علمه، وبصره بالنصوص كعلي بن أبي طالب عالم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) - من - في قوله تعالى: من شيء، بيانية
3131
لبيان عموم ما يغنم قليلا كان أو كثيرا، أي قدر من الغنيمة يغتنم يُخَمَّس قليلا كان أو كثيرا، وهذا دليل على أن هذا التقسيم من الله تعالى لَا يجوز لأحد أن يقسم غنائم الحروب العادلة كما يهوى، بل إنها أموال الله تعالى يتولى تقسيمها ولي الأمر بتقسيم الله تعالى، لَا بمجرد الهوى يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، كما كان يفعل ملوك الأمويين والعباسيين، حتى جاء الأتراك فطم سيل الفوضى، وضاع حكم الله تعالى، وصار أمر المؤمنين فرطا.
وقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أن ومصدرها مفعول لفعل محذوف، تقديره: ثبت والمعنى (وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء)، فقد ثبت وتقرر وحكم الله أن لله خمسه... وللرسول.
هذا تقسيم جعل الخمس أولا لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو خُمْس مُخَمَّس إلى خمسة أخماس، وأربعة الأخماس الأخرى تقسم على الغانمين، ولم يصرح بتوزيعها؛ لأنها معلومة بحكم الغنم الذي قام به الفاتحون، فهي تقسيم بين محصورين، وهم: الله ورسوله، وفقراء الأمة وضعفاؤها، والفاتحون، فإذا ذكرت حصة أحد الفريقين فقد علمت حصة الفريق الآخر، كما قال الله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُلُثُ...). ويعلم بذلك أن الأب حصته الباقي وهو الثلثان.
فإذا علم أن فريق الله ورسوله والضعفاء نصيبه الخمس، فأربعة الأخماس تكون للفاتحين.. ولنتكلم في حصة الله ورسوله والضعفاء.
قالوا: إنها مقسمة إلى خمسة أقسام، فالأول للرسول، وهو لله تعالى، والله ورسوله خمسهما واحد، والثاني لذوي القربى، والثالث من خمس الله ورسوله - للضعفاء ولليتامى، والرابع للمساكين، وهم الفقراء الذين سكَّنتهم الحاجة، ولا قوت عندهم، والخامس لابن السبيل، وهو الذي انقطع عن ماله في سفره، فإنه يعطي من ذلك الخمس، ما يكفيه حتى يعود إلى أهله.
3132
وهنا ملاحظة بيانية - ترتب عليها حكم فقهي، هي أن نصيب الرسول والضعفاء، ذكر فيه أنه لله، فلماذا ذكر الرسول بجواره؟ والجواب عن ذلك الإشارة إلى أن ما كان للرسول، إنما هو للقربات، ولأن الرسول هو لسان الحق، وهو ينطق باسم الله، ولأن ما خص به الرسول ليس لذاته، ولكن جعل تحت يده ينفق منه على الكعبة، وعلى المؤلفة قلوبهم ويرضخ منه لمن لَا سهم له من الفاتحين كالعبيد والنساء فهو ليس له خاصة، بل يسد به ما عساه يكون مكملا للقسمة ومهما يكن فمانه ينفق في الحاجات العامة للمسلمين.
هذا تخريج بعض العلماء، فخمس الله ورسوله والضعفاء يقسم إلى خمسة.
وبعض العلماء يقول: إن لله في هذا الخمس، كإصلاح الكعبة والقيام على سدانتها، ويظهر أن مثل ذلك المرافق العامة.
وأما ما يخص الرسول - ﷺ - فينفق منه على أزواجه، وعلى من يرضخ لهم ونحوهم مما يتعلق بالجهاد بالنسبة.
وقوله تعالى: (وَلِذِي الْقرْبَى)، قال العلماء: إن المراد بهم ذوو القرابة للنبي - ﷺ - من بني هاشم وبني المطلب، وقال رواة السيرة: إنه لم يعط كل بني عبد مناف، فلم يعط بني نوفل، ولا بني عبد شمس من الأمويين؛ وذلك لأن بني المطلب كانوا يناصرون النبي - ﷺ - في الجاهلية، وكانوا مع بني هاشم، ولما قاطعت قريش بني هاشم انضم إليهم في شعب أبي طالب بنو عبد المطلب فرضوا مختارين أن ينزل بهم ما نزل ببني هاشم، في الوقت الذي لم يشرك أبو لهب إخوته في بلائهم وروي أن عثمان بن عفان، وجبير بن مطعم لما أعطى بني المطلب ذهبا إلى رسوله - ﷺ -، وقالا له: هؤلاء إخوتك من بني هاشم لَا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم
3133
بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - ﷺ -: " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما هاشم وبنو المطلب شيء واحد " وشبك بين أصابعه (١).
وإنهم يأخذون بالنصرة والقرابة فهم واسوه في الشدة، فكان أن يواسوا في الغنيمة؛ لأنهم نصراؤه، ولم يسلموه إلى المشركين وقت أن رامه أولئك المشركون بالسوء..
ولقد كانوا يأخذون ورسول الله حي، ومن بعده يستحقونه لهذا السبب لأنهم نصراء رسول الله، ولأنهم لَا يأخذون الصدقة لأنها أوساخ الناس، ويأخذون سهمهم بالسوية بينهم غنيهم وفقيرهم على سواء، ولا يسقط سهمهم بوفاة النبي - ﷺ - لأنهم لَا يستحقون شيئا بالفقر، فبقي ذلك السهم لهم بالنصرة، والقرابة.
أما سهم النبي - ﷺ -، فإنه يسقط ويكون في يد ولي الأمر ينفقه حيث كان ينفقه الرسول - ﷺ -. والشافعي يبُقي سهم ذوي القربى غنيهم وفقيرهم على سواء غير إنهم لاستحقاقهم بمقتضى القربى كان التوزيع على نحو قريب من الميراث، بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن الأسهم الثلاثة الأخيرة تكون لليتامى والمساكين وابن السبيل لكل سهم، ولا يعدو أصحاب سهم على آخر. وقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: بعد سهم الله ورسوله وذوي القربى يكون الأمر في الأسهم الثلاثة الأخرى مفوضا لرأي الإمام إن شاء أعطى كل ذي سهم سهما، وإن شاء لم يعط واحدا، ولكنه لا يخليها منها.
وعلى الأسهم ستة يقدر لله سهم يكون للكعبة، وقد روى أن الرسول - ﷺ - كان يأخذ الخمس، فيقبض منه قبضة، فيجعلها للكعبة، وهو سهم الله تعالى، ثم
________
(١) رواه النسائي: قسم الفيء - باب (٤١٣٧)، وأحمد: أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين - حديث جبير بن مطعم (١٦٢٩٩). وهو عند البخاري: المناقب - مناقب قريش (٣٥٠٣).
3134
يقسم ما بقي على خمسة (١)، وقد جاء في الكشاف لجار الله الزمخشري: وقيل إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة أسهم، لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر - رضي الله عنه - الخمس على ثلاثة، أي اليتامى والمساكين وابن السبيل. وروي عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروي أن أبا بكر منع بني هاشم، وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، ويزوج أيمكم، ويخدم من لَا خادم له منكم، أما الغني منكم بمنزله ابن السبيل لَا يعطى غني من الصدقة، ولا يتيم موسر.
وخلاصة هذا القول أن رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ألا يعطى من بني هاشم، ويظهر أن مثلهم بنو المطلب ألا يعطى إلا ذوو الحاجة، يزوج الأيم، ويخدم من لَا خادم له، ويكون ذلك من سهم ذوي القربى، وأن سهم النبي - ﷺ - يسقط بقبض الله تعالى له، ويكون تحت يد ولي الأمر.
وعند من يقول: إن لله سهما، يكون تحت يد ولي الأمر من المؤمنين.
وإنه بالاتفاق لَا يأخذ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أسهمهم إلا بسبب الفقر لأن الصيغة نفسها تومئ إلى أن شرط الأخذ هو الحاجة.
بقيت أربعة الأخماس، فنقول: إنها تصرف للغزاة، وقد روى في طريق توزيعها إنها تقسم أسهما، فيكون للراجل سهم، وللفارس الذي له فرس ثلاثة أسهم؛ سهم للمقاتل، وسهم للفرس، وسهم للقائم على علف الفرس وتدريبه وملاحظته، وهذا روى في الصحيح، وهو مذهب الحنفية.
وروى أن للفارس سهمين اثنين فقط؛ سهمًا للفرس، وسهمًا لصاحبه، ولكن الأصح سندا الذي يتفق أكثر الرواة عليه هو الأول، تشجيعا للعناية بعدة القتال وتوفيرها إذ يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعْتم مِّن قوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُكمْ وَآخَرِين مِن دُونِهِمْ...).
________
(١) ذكره الزمخشري في كشافه: ج ٢، ١٥٨، والألوسي: ج ١٠، ص ٢، وأبو السعود: ج ٤، ص ٢٢ عن أبي العالية رضي الله عنه.
3135
وإن البرذون (١) من الخيل عند الحنفية، وعند الأوزاعي لَا يعد البرذون خيلا، والحق ما قاله الحنفية فإنه لَا فرق في المعنى بين الخيل والبرذون (راجع الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف). وإنه يجب التنبيه إلى أمرين: أولهما - أن ذلك التقسيم للغنائم هو عمل الله تعالى، يروى أن رسول الله - ﷺ - أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: " لا يحل من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود عليكم "، ولقد قال - ﷺ - فيما رواه أبوالدرداء وقد تناول وبرة بين أنملتيه: " إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخْيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله تبارك به من الغم والهم " (٢).
ثانيهما - أن هذه الغنائم ليست سلبا ولا نهبا، كما ادعى بعض الكذابين من كتَّاب الفرنجة، إنما هي مغازم النصر، ومغارم الاعتداء، وإنما حرب المسلمين للمعتدين رد لاعتدائهم، وسلوا جيوش أوربا فإنها لَا تكتفي بما يؤخذ من أموال المغلوب نتيجة للغلب، بل إنها بعد الصلح تأخذ كل ما تغنم، وتفرض عليه ما أنفقته في الحرب، وأنى هذا من عدل الإسلام الذي لَا يفرض أن ثمة مجرمي حرب، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
ويقول سبحانه: (إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ) الشرط هنا متعلق بقوله: (فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، أي الخمس يكون لله وللرسول (... إن كان الإيمان شعاركم، وكنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن ذلك الإيمان يجعلكم تعطون حق الله وحق الرسول)، وحق ذوي القربى واليتامى والمساكين طيبة بذلك نفوسكم مطمئنين
________
(١) البِرْذون: وجمعه براذين، دابة الحمل الثقيل.
(٢) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (٢٢١٩١).
3136
بذلك، فلا تأخذوا حق الله ولاحق الضعفاء، كما قال رسول الله - ﷺ -: " ابغوني في ضعفائكم، إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم " (١).
وإن الإيمان بالخمس الذي لله ورسوله وللضعفاء هو من الإيمان بالله، ولقد قال رسول الله - ﷺ -: " هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس، من الغنائم " (٢)، فجعل رسول الله - ﷺ - أداء خمس الله ورسوله والضعفاء من الإيمان.
وإن هذا يدل على أكمل التعاون؛ لأن خمس الله ورسوله لسد حاجة بيت المال، ولإعانة الضعفاء.
وقوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) في هذا النص تذكير بيوم بدر وأن النصر كان من عند الله وبفضل معونته وتأييده، ففي هذا اليوم كان تأييد الله، إذ بشرتهم الملائكة، وألقت في أرواحهم بالاطمئنان والبشرى وأن وهبهم الأمن ومعه النعاس، وأن ثبت لهم الأرض بالأمطار، وأن طهرهم من الرجس، وأن ثبت أقدامهم، وما كان النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، فـ " ال " للعهد، وفسره الله تعالى بأنه يوم التقى الجمعان، جمع الحق بقيادة محمد رسول الله - ﷺ -، وتأييد الله سبحانه وتعالى، وإمداده بالملائكة، (وجمع الباطل)، فقول تعالى:
(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) بدل من يوم الفرقان.
ثم ذيل الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفى هذا إشارة إلى الله تعالى القادر على كل شيء هو الذي نصركم، وهو الذي
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه البخاري: العلم - تحريض النبي وفد عبد القيس (٨٧)، ومسلم: الإيمان - الأمر بالإيمان بالله ورسوله (١٧) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
3137
قهر عدوكم مع كثرة العدد والعُدَد، وهو الذي بدَّل من ذُلِّكم عزا، ومن عزهم خذلانا، وهو الذي دمغ الباطل فأزهقه، وهو الذي حق الحق بكلماته وأبطل المجرمون.
فإذا كان نصركم بتأييد الله، وتؤمنون به حق إيمانكم فلا تستكثروا حق الله والضعفاء في الغنائم إن كنتم مؤمنين.
3138
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ... (٤٢)
ذكرت في الآية السابقة الغنائم التي أخذت في بدر، وكيف توزع، واختص الله تعالى بالذكر الخمس على الضعفاء، والذي ذكر باسم الله ورسوله.
ولكي تقى النفوس شحها، أشار سبحانه إلى أن النصر كان من عند الله، وفى هذه الآية: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا...) يبين سبحانه وتعالى أن الموقعة كلها كانت بتدبير الله تعالى، ولم تكن بتدبيرهم، ولا بتدبير المؤمنين، ولو تواعد الفريقان لاختلفا في الميعاد.
وإذ في قوله تعالى: (إِذْ أَنْتُمْ) متعلقة بمحذوف معناه: اذكر يا محمد أنت ومن معك إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وقد جئتم لمصادرة العير، لم تريدوا نفيرا، ولكن تريدون عيرًا، وقد أفلتت منكم، وهي أسفل منكم، أي أسفل من المدينة عند سيف البحر، فجاءكم جيش هو بالعدوة الدنيا، وقد قال بعض المفسرين: إن (إذ) بدل من يوم الفرقان، وذلك جائز، ولكن نختار ما ذكرنا؛ لبعد ما بين البدل والمبدل منه، ولأن تعلقها بمحذوف تكون ابتداء لكلام مستقبل فيه عبرة واضحة، وبيان لأن النصر من عند الله العزيز الحكيم استقلالا، ولأن ذكر يوم الفرقان لبيان التذكير به والإيمان بما فيه.
و (العُدْوَةِ) أعلى الجانب، و (الدُّنْيَا) مؤنث أدنى، والبعد والقرب بالنسبة للمدينة، و (الْقصْوَى) مؤنث أقصى، وهو القاصي عن المدينة، (وَالركْبُ أَسْفَلَ مِنكمْ)، الركب هو العير الذي كانت فيه متاجر قريش، وخرج المسلمون لأخذها
3138
بدلا من الأموال التي اغتصبها المشركون منهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، ومن المقرر في قانون العدل والإنصاف أن من ظفر بعين ماله أو بمثله ممن اعتدى عليه واغتصبه كان له أن يأخذه، فلا يذهب حق صاحب الحق هدرا، ولأن المشركين إذ أهدروا حقوق المسلمين وأموالهم واستباحوا دماءهم، فقد أباحوا دماء أنفسهم، وأموالهم وما على المؤمنين من سبيل إن استباحوها، فذلك قانون الحرب بسبب العداوة والبغضاء التي آثارها المشركون.
كان المؤمنون بالناحية القريبة من المدينة، وكانت العير أسفل عند سيف البحر، وقد كان ذلك لقاء بغير تدبير كامل مقدر مقصود، بل هو لقاء توفيقي من الله تعالى.
وقد جاء في سيرة محمد بن إسحاق " بعث رسول الله - ﷺ - حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يَتَحَسَّسُون له الخبر، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص، وغلاما لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله - ﷺ - فوجدوه يصلي، فجعلوا يسألونهما: من أنتما، فيقولون: نحن سقاة لقريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكرهوا خبرهما، فضربوهما حتى أزلقوهما، قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وقال - ﷺ -: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش: أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال رسول الله - ﷺ -: كم القوم؟ قالا: كثيراً، قال: ما عدتهم لهم؟ قالا: لَا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؛ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله) - ﷺ -: عدتهم ما بين التسعمائة إلى الألف.
هذا خبر يؤكد نزول جيش المشركين بالعدوة القصوى على كثيب من الأرض، والمؤمنون بالعدوة الدنيا، وهنا نجد سؤال الزبير وسعد وعليّ كان على العير، لأن رسول الله - ﷺ - كان - وهم - خارجا للعير، ولذلك كذبا الغلامين إذ لم يخبراهما عن العير الذي كان بحراسة أبي سفيان، والنبي - ﷺ - يسأل عن قريش.
3139
والعير كما ذكرنا كان من أسفل المدينة عند سيف البحر، كما أشار القرآن الكريم.
وإن قصة خروج جيش المؤمنين، وجيش المشركين، والعير، هي كما أشار القرآن الكريم، خرج جيش الإيمان وكان قليلا لمصادرة عير لقريش وقد أفلتت منه، وهي ذاهبة إلى الشام، فترصدها المؤمنون، وهي عائدة، وأحس بذلك أبو سفيان قائدها، فمال بها نحو سيف البحر، وأخبر قريشا بنجاتها ولكنها كونت جيشا لحمايتها، وأصروا على الذهاب إلى بدر، حيث كان الترصد للعير، ليفرضوا هيبتهم في البلاد العربية، وإنهم لم يتخاذلوا، ولم يضعفوا، فكان اللقاء بتوفيق الله تعالى أو توقيفه، وإرادته، ليعز الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) أي أن ذلك اللقاء الذي انتهى بذلك اللقاء الذي كان فرقانا بين الحق والباطل لم يكن بميعاد على حرب، ولا اتفاق ابتداء على معركة، (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ)، أي لتخلف بعضكم، فيختلف الميعاد، فالمؤمنون ابتداءً ما أرادوه: لقلة عددهم، ولقلة ما عندهم من عدة ولسطوة قريش في أرض العرب، فقد يودون غير ذات الشوكة تكون لهم، والمشركون ظهر التردد فيهم، فبنو زهرة تركوا جيش الشرك، وبعض بني هاشم تركه، ومن جاء منهم إلى الحرب كالعباس ما كان مريدا، بل كان متورطا، وما في قلوبهم من هيبة النبي - ﷺ - وما اعتراهم من العلم بأن الله معه، ولو لم يؤمنوا به، وخصوصا ما أفزعهم من خروجه من بين ظهرانيهم، وهم يترصدونه يوم الهجرة، فهم كانوا يتهيّبون لقاءه، وإن كانوا يعاندونه، ويقاومونه.
ولكن الله أوجد هذا اللقاء، وإن ابتدأ غير مقصود من الفريقين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالى:
(وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي ليقضي الله تعالى أمرا وحققه، وهو إعزاز الإسلام، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، و " كان "، أي قرره الله تعالى وثبته على أن يكون واقعا ثابتا مفعولا، ويصح أن تفسر (كان) بمعنى صار أي
3140
صار مفعولا، ولقد قال كعب بن مالك: إنما خرج رسول الله - ﷺ - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
أغراهم الله تعالى بالعير ليخرجوا، وأراد المشركون أن يحموا عيرهم فالتقوا وتحقق ما أراد الله. ثم قال تعالى:
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) (اللام) هنا لام العاقبة، والمعنى لتكون نتيجة ذلك اللقاء أن يهلك الذين هلكوا عن بينة وحجة قائمة، وهو أن الله تعالى ناصر المؤمنين وغالب الكافرين، وأن الله تعالى مؤيد جنده، ويستشرف المستشرفون إلى نصر الله، (وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي حجة ونور وهداية أن يكون الحق غالبا، وأن يظهر الله دينه، ولو كره المشركون.
ويصح أن يكون الهلاك والحياة مجازييَّن، ويراد من الهلاك الكفر، ومن الحياة الإيمان، ويكون المعنى وليكفر من يكفر عن بينة ظاهرة، وهي بيان أن الله ناصر المؤمنين ويحيا المؤمنون بالإيمان عن بينة برجاء النصر.
وللزمخشري في هذا كلام قيم ننقله، قال رضي الله تعالى عنه: (فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العير كان أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته تمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين، والثبات في أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي كان المشركون فيها كان فيها الماء، وكانت أرضا لَا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خَبَارٌ (أي لينة مسترخية) تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم
3141
وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذود عن الحريم، والغيرة على الحرب على بذل جهيداهم في القتال وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي الله أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه، وإعلاء كلمَته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله - ﷺ - لأموالهم حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراء العير يحامون عليها حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان) وهذا القول من عيون ما اشتمل عليه الكشاف من دقة معنى، وبلاغة لفظ، وتسامٍ لإدراك سر القرآن، وسر الأحداث.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي أن ذلك كله تدبير من الله، وهو من مقتضى علمه الشامل الذي هو علم من يسمع من غير أذن، ومن يبصر من غير عين جارحة؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقد أكد سبحانه علمه بالجملة الاسمية، وبـ " إنَّ " المؤكدة، وباللام في قوله: " لسميع "، وبصيغة فعيل، فسبحان من وسع كل شيء علما.
وإن الله تعالى يبين أنه سبحانه هو الذي جمع بين المؤمنين والمشركين في هذه المعركة فأغرى المؤمنين بالعير، وحرك قريشا لحماية عيرها، وهو الذي سهل اللقاء على الفريقين فأطمع المشركين في المؤمنين، وسهل للمؤمنين اللقاء بهم ليحقق ما أراد سبحانه وهو إعزاز الحق، وإذلال الباطل، فقال تعالى:
* * *
3142
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
* * *
إن اللقاء كما قررنا، وكما أرشدنا الله تعالى كان بجمع الله بين الفريقين، وتلاقيهما، والنصر أيضا والإقدام كان بإرادة الله تعالى وهدايته.
وإن أول النصر ألا يهاب المؤمن عدو الله وعدوه بل يقدم وهو مدرع بأمرين أولهما - إرادة النصر، والثاني - الصبر، وقد هيأ الله تعالى الأمرين، فقال تعالى:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ)
3143
أما الصبر فقد أمر به في آيات كثيرة، وقد أمر بالثبات، كما سيأتي في الآية الأخرى، وأما إرادة النصر فتكون بالإقدام، وذلك برؤية النبي - ﷺ - في المنام الأعداء قليلين، ورؤية النبي - ﷺ - وحي، وقد قال - ﷺ -: " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي " (١).
ومعنى رؤيتهم عددا قليلا، أنه - ﷺ - رآهم في حال يستهين بها، فلم يتكاثروا عليهم، ولم يتضافروا على المؤمنين، ورأى المؤمنين ظاهرين بارزين كأنهم كثيرون، وكأن أولئك قليلون من قوة الغلب، ومظاهرتهم عليهم، أو أنه يستتر عنه في منامه أكثرهم، فيستبشر النبي - ﷺ - بالنصر، ويفهم النبي - ﷺ - من تأويل رؤياه أنه سينصر أهل الإيمان، فما يفهم أن العدد قليل، ولكن يفهم أن الرؤيا الصادقة النصر المبين لَا محالة، وذلك لَا ينافي أن النبي - ﷺ - قدَّر عددهم بما بين تسعمائة وألف، وقد كانوا كذلك.
وقوله تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) إذ مفعول لفعل محذوف أي اذكر يا محمد لأصحابك (إِذْ يرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) و " قليلا " مفعول مطلق لموصوف محذوف أي عددا قليلا، ويقوم هنا الوصف مقام الموصوف.
وإن الله تعالى أرى النبي - ﷺ - العدد قليلا، ليقدم المؤمنون واثقين، فالثقة بالنصر تزيدهم قوة، وتدفعهم إلى الإقدام، ولا يصيبهم رهق ولا خوف، فيتقدمون واثقين بالنجاة.
ويقول تعالى: (وَلَوْ أَرَاكهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتمْ فِي الأَمْرِ)، أي لو أراكهم الله عددًا كثيرا قويا لأصاببهم الفزع ووراء الفزع العجز، وهذا معنى الفشل، فالفشل هو العجز، (وَلَتَنَازَعْتمْ) لاختلفتم في الخروج، ولكان فيكم من يخشى عاقبة الحرب مع قلة العدد، ومع قلة العدة، ومع قلة ما يحملكم، فلقد كنتم في قلة من الأمرين، ومع الاختلاف التنازع في الفكرة ثم التنازع من بعد ذلك فيما بينكم وبين أنفسكم.
________
(١) انظر مسلم: الرؤيا: باب - (٢٢٦٤).
3144
وقوله تعالى (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) مؤداه الاختلاف في أمر القتال؛ أتقدمون عليه مع إحساسكم بالقلة وضعف العدة أم تمتنعون عنه لهذا الإحساس. وعبر عنه بالتنازع لقوة أسباب الخلاف، فإنها في باب القتال أمر خطير.
وقد درأ الله تلك الأسباب عن أعينكم بما رآه النبي - ﷺ - من رؤيا صادقة كان تأويلها نصركم، ولقد كان النبي - ﷺ -، يطمئن المؤمنين بعد أن تقرر القتال، فبعد أن أخذ رأى الأنصار في القتال وقال قائلهم: " امض لما أمرك الله فإنا صدق في الحرب صبر عند اللقاء، قال النبي - ﷺ -: " إني لأرى مصارع القوم " (١).
ويقول سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ)، الاستدراك من الكلام السابق، وسلم الله تعالى من الفشل والجزع والتنازع، وكان اللقاء يوم الجمعين مع النصر المؤزر، الذي جعل المؤمنين أعزة، بعد أن كانوا مستضعفين يتخطفهم الناس، ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ذات الصدور هي ما يكون في الصدور مما يدفعها إلى الإقدام، أو يثبط فيها العزائم، أو يلقي فيها بالخور والخوف، فالله تعالى عليم بها، وبما يدفع الهمم، ويقوي القلوب، ويمنع الفشل والنزاع، فيطب لأدوائها بما يقيها الهلع والفزع ويطمئن القلوب، ويبعد عنها مخاوفها، إنه عليم حكيم.
هذا ما أودعه قلب القائد الحكيم، وأودعه قلوب المؤمنين بتلك الرؤيا الصادقة التي أراه إياها.
وقد كان الجيشان تحت عنايته سبحانه، ليقدم كل منهم على القتال غير خانع ولا خائف؛ ليبدي كل واحد منهما ما عنده من قوة، وليعلم كل منهما كيف كان نصر الله للمؤمن، وخذلانه للكافر مع أنه أبدى كل ما أوتي من قوة.
فقال سبحانه:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
________
(١) انظر البداية والنهاية: ج ٤، ص ٦٠، وسنن النسائي الكبرى، ج ٥، ص ١٨٦، وفي مجمع الزوائد (٨٧٩٩) وراجع رواية مسلم: الجهاد والسير - غزوة بدر (١٧٧٩).
3145
قد كان من أمر الله تعالى وتوفيقه أن يُرى المؤمنين المشركين عددهم قليلا، وأن يقلل عدد المؤمنين في نظر الكافرين، كما قال الله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣).
وإن الحكمة في أنهم في نظر المؤمنين عدد قليل واضحة، لأن الله تعالى ألقى في قلوب المؤمنين بأسا وقوة جعلتهم يستصغرون عددهم، ويستهينون بقوتهم لكي يقدموا من غير وجل مع الإيمان بالله وبالنصر، وقد رأوهم كذلك قلة، إذ صغر أمرهم في نظرهم، ولم يجدوا كثرتهم، والعين قد تخطئ في العدد بالكثرة أو القلة فقد كان المشركون عددًا كبيرا، قد قدر النبي - ﷺ - عددهم، ولكن المؤمنين عندما التقوا بهم لما ألقاه الله تعالى في روع المؤمنين من قوة بأس وإقدام رأوهم قليلا، لَا للهمة التي بدت من المؤمنين كحمزة، وعلي، والزبير، وابن رواحة، وسعد بن معاذ، فقد كانوا يفرون من سيوف هؤلاء حتى لم يروا في الميدان إلا عدداً قليلا.
وأرى الله تعالى جيش المؤمنين قليلا في نظر المشركين عند اللقاء ليستهينوا بهم، ويغتروا بقوتهم فيسترخوا في القتال، حتى إذا غطتهم قوة المؤمنين، ورأوا فيهم شدة البأس أرادوا المقاومة بعد الاستهانة والاسترخاء فلم يجدوا، وأخذت صفوف المسلمين المتراصة تحصدهم حصدا، وقد كانت رؤية عدد المسلمين قلة من الكافرين حقيقة، ولكنها سيطرت عليهم الاستهانة، فقتلت منهم.
وقوله تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فيه متعلق بفعل محذوف تقديره اذكروا إذ... وفي ذلك تذكير بفضل الله في هذه المعركة، إذ قواكم وسلطهم عليكم، وأذهب عنكم الفزع منهم، وثبت أقدامكم، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما - أنهم لم يكونوا قليلا، بل كانوا عددا كثيرًا، ولكن الله تعالى جعل أبصارهم ترى ذلك الكثير قليلا، فالله تعالى هو الذي يخلق الأبصار، فهو
3146
يجعله قليلا، ويجعله كثيرا، ولا تغير في الحقائق إنما التغير في الإدراك لحكمة علمها اللَّه وقدرها، وكان النصر بسببها وهو ينصر من يشاء بإذنه.
الثانية - قوله تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) - فقوله " في أعينهم " فيه إشارة إلى أن هذا التقليل في أعينهم هو من إرادة الله تعالى، لأنه استهأنة منهم أدت إلى استرخاء في القتال، فالله سبحانه وتعالى ما جعل المؤمنين قلة، لأنهم فعلا كانوا قلة، ولكن عمل الله جعلهم يجعلون من أمر قتالهم أثهم قلة فقاتلوهم على أنهم عدد قليل فاستهانوا ونهاونوا، وكان النصر المؤزر.
وقال تعالى: (لِيَقْضِيَ اللَّهَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي ليحقق الله بقضائه المحتوم أمرا كان مفعولا أي صار واقعا ثابتا، وهو النصر بفضل الله، وتأييده، فقد حقق الله تعالى كل أسباب النصر فهيا الأسباب المادية من النعاس الآمن، وأنزل المطر الذي لبد الأرض، وهيا الأسباب النفسية من بشارة الملائكة، ومن تقليلهم في أعينهم.
وختم الله تعالى بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ ترْجَعُ الأُمُور)، أي إلى الله وحده ترجع الأمور يوم القيامة، فهذا هو نصر الله عليهم في الدنيا بتوفيقه سبحانه، وتهيئة كل الأسباب المؤدية إلى النصر، وفي الآخرة الأمور كلها إليه سبحانه. وتقديم الجار والمجرور دليل على أن الأمور لَا ترجع إلا إليه سبحانه وهو يجازي المحسن إحسانا، وللمسيء العاقبة السوءى.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الثبات هو القوة، وقد ذكرنا أنه عبرة النفوس في القتال فقال تعالي:
3147
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)
الفئة الجماعة من الناس، والتعبير بفئة يفيد بأنهم قد فاء بعضهم إلى بعض، وتجمعوا لغرض أن ينالوا منكم، وكأن هذه الآية وما بعدها. تعد المؤمنين للقاء أشد عن لقاء بدر، لأن لقاء بدر كان لأجل حماية المال، واللقاء من بعد لأجل
3147
الثأر، ولأجل إلقاء السطوة والسلطان، وهو أعنف من المال، وإذا كان الله تعالى قد استقبل القتال في بدر بعدم الفرار فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦).
فإنه سبحانه يستقبل القتال الجديد، بطلب الثبات، والذكر لله، والطاعة لله ولرسوله، ومنعِ التنازع، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا).
أمران جليلان عند اللقاء، وهما الثبات، وذكر الله. واللقاء لم يبين فيه من الذي ابتدأ باللقاء، وظاهر القول أن المشركين هم الذين جاءوا إلى ديارهم والتقوا بهم، ولقد قال النبي - ﷺ - " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، ثم قام النبي - ﷺ -، وقال: " اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " (١).
أمر الله تعالى بالثبات بأن يلاقوهم ثابتين في أماكنهم، فإنهم إن لم يثبتوا ضُربوا في أقفيتهم، فيتمكن منهم العدو، فيقتلون، ولا ينالون من عدوهم منالا، وإن ثبتوا لَا يقتل واحد من المؤمنين إلا إذا قتل عددا من المشركين، وحيث كان الفرار كانت الهزيمة لَا محالة، وقد أمر بذكر الله كثيرا فإن النصر ليس بالسلاح ولا التخطيط فقط، بل مع ذلك بأمرين في القلوب:
أولهما - الثبات، فلا تضطرب الصفوف ولا يصيبها الخلل فترجف الأفئدة ولا تضيع الثقة بين الجند.
وثانيهما - ذكر الله تعالى، فإن ذكر الله يجعل القلوب تطمئن، وإن ذكر الله يملأها إيمانا ويقينا، ورجاء في النصر. وإن ذكر الله يذهب فزع القلوب، ويساعد على الثبات، وإن ذكر الله يذكر بوعده بالنصر فهو يزيده أملا بالنصر،
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الجهاد والسير (٢٩٦٦)، ومسلم: الجهاد والسير - كراهة تمني الموت (١٧٤٢). عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
3148
وإن ذكر الله إذا جهر به في الميدان ازداد المؤمنون حماسة، وألقى بالرعب في قلوب المشركين، وإن ذكر الله يجعلهم لَا يشغلهم عن الله شاغل، وتكون أجسامهم وقلوبهم لنصره، و (كَثِيرًا) مفعول مطلق أي اذكروا الله ذكرا كثيرًا بحيث لَا تتوقفوا عن ذكره مهما تشتد الحرب، وتلتحم السيوف وتتلاقى بالحتوف وقال تعالى: (لَعَلَّكمْ تفْلِحُونَ) أي راجين بثباتكم وذكر ربكم أن تفوزوا بالنصر، فالرجاء من الناس لَا من الله؛ لأن الله تعالى يعلم الغيب في السماء والأرض، ويعلم ما كان وما يكون.
وإن طاعة القائد والاتحاد أولى دعائم النصر، ولذا قال عز من قائل:
3149
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
إن الله سبحانه وتعالى يأمر بطاعته ورسوله في هذه الحرب التي أمر الله تعالى فيها بالثبات وذكر الله كثيرا، والأمر بطاعة الرسول في الحرب أمر بطاعة القائد؛ لأن الرسول - ﷺ - في الحروب التي قامت في عهده كان هو القائد، وطاعة القائد واجبة لأنه المُنَظِّم، وإذا كان ذلك وواقعة أحد التي خولف فيها القائد فكانت القتلة في المسلمين، وإن لم يكن الانهزام كما تصور بعض الأقلام، فيكون ذلك من الله تنبيها لما يقع، وهو علام الغيوب، وإن طاعة الرسول - ﷺ - في الحروب هو بكونه قائدا فيكون أمراً بطاعة القائد، فإن طاعته إذا كان دربة مخلصا من أسباب الانتصار.
وطاعة الله هي لب الاستقامة، وطهارة القلوب، وهي التي تكون بها قوة الإيمان، وقوة الإيمان دعامة الانتصار، وهي قوة الجهاد، ودعامة الصبر، وتلك عناصر الجهاد الحق في سبيل الله تعالى.
وذكر تعالى بعد الأمر بطاعته ورسوله - النهي عن التنازع، والنهي عن التنازع يكون أولا بالنهي عن الخلاف، فإن الخلاف يؤدي إلى النزاع، والنزاع يؤدي إلى التنابذ والتدابر، وأن يكون كل فريق جمعا منفصلًا عن الآخر، ويكون بأْسُهم
3149
بينهم شديدًا، وإن الأثر الواضح للتنازع هو الفشل؛ ولذا قال تعالى: (فَتَفْشَلُوا) الفاء للسببية تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي أنه بسبب ذلك التنازع يكون الفشل، والفشل هو العجز، بحيث كان النزاع كان العجز عن عمل جماعي؛ لأن العمل الجماعي يجب أن تتضافر فيه القوى، ويكون كل جزء من الجماعة متعاونا مع الجزء الآخر، فتتحد القوى، وتتلاقى نحو هدف معين يجمعها.
وإنه وراء الفشل ذهاب القوة، ويطمع فيهم الطامعون، ولذا قال تعالى: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم، ويفسر الزمخشري الريح بالدولة، ويقول رضي الله تعالى عنه: (والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمَشِّيه بالريح وهبوبها)، فيقال: هبت رياح بني فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، ومنه قوله:
يا صاحبي ألا لَا حيَّ بالوادي إلا عبيد قعود بين أزراد (١)
أتنظران قليلًا ريث عقلهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
ولقد قال قتادة لم يكن نصرًا إلا بريح يبعثها، وكان ذلك مناسبا فيكون الفشل فيه ذهاب للريح التي تكون القوة، ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدَّبور " (٢).
حذرهم الله تعالى من ثلاثة أمور أولها: مخالفة الله ورسوله بالعمل بغير أمر الله ونهيه، والثاني: من مخالفة الرسول - ﷺ - القائد، ومخالفة كل قائد رشيد، والأمر الثالث: من التنازع، فإن الاختلاف مضيعة الجيوش، ومهلكة الأمم.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وفي هذا النص الكريم يدعو الله تعالى إلى الصبر؛ لأنه قوة الجهاد، وقوة الطاعة، ويربي العزيمة، ويمنع الاختلاف، إذ إن الاختلاف ينشأ عن الجزع
________
(١) الزرد: والزَّرْد مثل السَّرْد وهو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض لسان العرب - زرد.
(٢) سبق تخريجه.
3150
أو عن الطمع، والصبر علاج الجزع والطمع معًا؛ إذ الجزع ضعف في الإرادات وخور في العزيمة، والطمع يتنافى مع ضبط النفس، وضبط النفس لَا يكون إلا مع الصابرين، والله تعالى مع الصابرين.
وقد رفع الله تعالى الصابرين إلى أعلى المراتب عند الله، فذكر أنه سبحانه في آية أخرى أنه يحب الصابرين، والحب أعلى من الرضوان؛ لأنه يتضمن رضا الله وأكثر منه، وهو أن يكون محبوبا عند الله؛ لأن الصبر تحمل المشقة في طاعة الله، وقد أكد الله محبته للصابرين بالجملة الاسمية وبـ (إن) المؤكدة، وبفعل المضارع الدال على تجدد المحبة كلما صبروا، وإن محبة الله - تعالى - غاية المؤمنين الصادقين.
وإن ذلك الصبر يكون بإخلاص النية لله تعالى، وألا تكون الحرب بطرًا ورئاء الناس، بل تكون لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك حظر الله تعالى من الحرب بطرا ورئاء الناس فقال تعالت كلماته:
3151
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
إن الإيمان قوة الجهاد، وإخلاص النية لله تعالى هي خشيته، والمؤمنون كانوا يجاهدون طالبين مرضاة الله ومحبته، وكانوا يصبرون ويصابرون، وقد حثهم الله على طاعته ورسوله، وأن يمتنعوا عن النزاع، وقد جنبهم أن يكونوا كالمشركين الذين يحاربون مفاخرين، قد بطروا معيشتهم، ولا يهمهم إلا المراءاة بالقتال، والصد عن سبيل الله؛ ولذا قال تعالى: (وَلا تَكونُوا كَالَّذين خرجُوا مِن ديَارِهم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) البطر كفر النعمة والتقوية بها على معاصي الله، والاستعلاء بها على الناس، والرئاء مصدر راءى يرائي، يقصد به الظهور أمام الناس مفاخرا مباهيا، لا يقصد به رفع حق ولا خفض باطل، ولا إغاثة ملهوف، ولا نصرة مظلوم، بل يقصد الغلب لمجرد الغلب، وقد خرجوا من ديارهم لهذا الغرض وهو البطر ورئاء الناس، ولذا قالوا: إن بطرا ورئاء الناس مفعولان لأجله، أي العلة الباعثة للخروج من ديارهم هي البطر والمفاخرة والاستعلاء على الناس، وإذا كان لهم غرض آخر يظهر من أعمالهم، فهو الصد عن سبيل الله تعالى باستعلائهم، وإرهاب الناس
3151
وبيان أن لهم القوة في بلاد العرب، فيرهبهم المؤمن ويخافهم من يريد الإيمان، وبذلك يصدون الناس ويدفعوتهم عن سبيل الله تعالى، وهو الصراط المستقيم، وسبيل الحق.
ومعنى النهي عن مشابهتهم بهؤلاء في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) أن يخرجوا من المدينة لأجل الحق ونصرته، لَا للبطر والاستعلاء والمفاخرة.
ولقد كان المشركون قد خرجوا لذلك، أو انتهى الأمر في خروجهم في بدر إلى تمحض لذلك، لقد خرجوا ليحموا عيرهم، ولكن أبا سفيان انفلت بالعير عن طريق بدر، وعبر بها سيف البحر، وقد أرسل إليهم بنجاة العير، وكان حقا عليهم أن يعودوا أدراجهم إذ قد نجت عيرهم، وسلمت أموالهم، فذهب الباعث على خروجهم، وعاد بنو زهرة منهم، وتلكأ الباقون من عقلائهم، وترددوا وأرادوا حقن الدماء، وقالوا: نقاتل أبناء عمومتنا من غير حاجة إلى قتال؟! وغلب رأى السفهاء منهم، ووقف " أبو الحكم " الذي سمي في التاريخ الإسلامي " أبا جهل " وقال: " والله لَا نرجع عن قتال محمد، حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا، فتهابنا آخر الأبد "، وقد انساقت قريش وراء هذا الناعب، فكانت المعركة ولم يشربوا الخمر، بل ذاقوا كأس المنون، وكان الحِمَام بدل المُدَام، وناحت عليهم النواحي بدل غناء القيان.
ونرى أنهم ما اضطروا إلى الحرب، بل بطر النقمة، والاستعلاء بالقوة والصد عن سبيل الله، وأن يكون الشرك هو الغالب، مع أن الله تعالى هو القاهر.
وقد بين الله قدرته وأنه القاهر فوقهم، فقال تعالى في ختام الآية الكريمة:
(وَاللَّهُ بمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) وصدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة لبيان قدرة الله العالية وتربية الْمَهابة في نفوسهم، وقدَّم (بِمَا يَعْمَلُونَ) لبيان اختصاصه سبحانه بالعلم بما يعمله وإحاطته، والجملة السامية تهديد لهم، لأن هذا العلم الجزاء الوفاق لعملهم.
* * *
3152
أولياء الشيطان
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
* * *
إن الشيطان ولي الكافرين يخرجهم من النور إلى الظلمات، ومن الحق إلى الباطل، ولذا قال تعالى:
3153
(وِإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ).
(الواو) عاطفة هذا الكلام على ما قبله، والضمير في لهم يعود إلى الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، وفي هذا النص بيان أنهم ما دفعوا إلى ما فعلوا يوم بدر حتى كان نصيبهم الردى والهزيمة النكراء - إلا لوسوسة الشيطان، فالذي حرضهم على ذلك الخروج هو ما زين في نفوسهم من أن لهم الغلب،
3153
و (إذ) ظرف للماضي متعلق بمحذوف، أي: اذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال لهم لَا غالب لكم اليوم من الناس، وقوله تعالى: (زَيَّنَ) أي حَسَّنَ لهم ذلك، بأن وسوس في نفوسهم حُسْنَهُ وأوهمهم الشيطان بوسوسته في النفس أنهم أوتوا القوة كلها، وأنه لَا غالب لهم اليوم من الناس، وأن لهم بحيرا من أوهامهم فليس هناك شيطان ظهر لهم، وقال ما قال، إنما هي وسوسة الشيطان، وهو يجري في الإنسان مجرى الدم، فهو زين لهم بوسوسته، كما زين بها عبادة الأصنام، وكما زين لهم تحريم ما أحل من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، زين لهم بوسوسته أنهم لَا غالب لهم من الناس، وزين لهم بأوهامه التي بثها فيهم أنه مجير وجار لهم يجيرهم من أي ضيم ينزل بهم، كما تلاقى الخربان تبدد ذلك كله، ورأو! الأمر عيانا، وأنه لَا منجاة لهم، ورأوا أنه أوهمهم ما لم ير، وإن الحقاتق بدت لهم واضحة.
الكلام تصويريّ يحكي قصة إغرائه، وتزيينه لهم أنهم الأقوياء وكأنه يحدثهم، فيدليهم بغرورهم، وبث فيهم القوة الزائفة، ويوهمهم أنه جار ولا جوار، وأنه لما اشتدت الشديدة قال: إني بريء منكم، وإني أرى ما لَا ترون، وكل هذا تصور لما جاش في نفوسهم، وإنا نميل إلى هذا.
وقد جاء في السير وفي بعض الأخبار في مقابل ما ذكرنا أن إبليس تمثل في صورة رجل من العرب، روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وكان من أشراف بني كنانة فقال: أنا جار لكم أن تأتيكم لنا بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا، قال محمد ابن إسحاق: فذكروا لي أنهم كانوا يرونه في صورة سراقة بن مالك فلا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان كان الذي رآه حين نكص - الحارث بن هشام أو عمير بن وهب، فقال: أين سراقة؟! ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة
3154
قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين فنكص على عقبيه، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لَا ترون، وصدق الله، والله شديد العقاب.
وقد روى مثل هذا عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب، وقدر رأى ذلك النظر الحافظ ابن كثير بما ورد من آيات في شأن تغرير إبليس لأهل الضلال، فتلا قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦). (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢).
ذانكم الرأيان اللذان أخذ فيهما بظاهر الألفاظ، واعتمدا على روايات في رواتها نظر، والذي أخذ فيه بمعنى الألفاظ وإنا نؤمن بصدق قصص القرآن، ولكنا في هذه الآية نميل إلى النظر إلى أنها خير تصوير لاستمكان الشيطان من قلوب الكفار، وتحكمه فيها، وسد ينابيع الإدراك في نفوسهم، ونميل إلى ذلك؛ لأن خبر إبليس وتمثله بصورة سراقة لم يثبت بسند صحيح يفسر به القرآن، ولأننا نفسر القرآن بما يبعده عن الغرائب، وبما هو مأنوس للناس من غير تكذيب لأخباره، والله أعلم، وقوله تعالى: (فَلَمَّا ترَاءَتِ الْفِئَتانِ) أي الجماعتان المتقاتلتان (نَكَصَ عَلَى عَقبَيْه)، نكص معناها رجع على عقبيه، تصوير لارتداده متقهقرا سائرا على العقبينَ، وهو خائف مضطرب، ويتبرأ من لحق أغراهم، وقد رأى الشدة آخذة بهم، وذلك تصوير لما يكون في نفوسهم، وسيكون يوم القيامة محسوسا، وقوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) أي إني أعلم ما لَا تعلمون وقد أضلهم، وقد غرهم الغرور، (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يعلن أنه يخاف الله والله شديد العقاب.
وبذلك يصور لهم كيف ضلوا بوسوسته، وكيف تعرضوا للعقاب بتزيين ومثله في هذا التصوير كمثل من يدلي لإنسان في هاوية حتى إذا تردى فيها أخذ يعيره في هذا التردي، وما فعله إلا بتزيين وتحسينه فهو المجرم الأصيل.
3155
هذا حال الكفار، وقد كان من الذين يجاورون النبي - ﷺ - من كانوا إخوان الشياطين كالكافرين، وكانوا أخبث نفسا وأفسد قلوبا، وهم المنافقون ومن في قلوبهم مرض، وقد قال فيهم:
3156
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ... (٤٩)
عندما انتصر المسلمون في غزوة بدر وصارت لهم قوة ترهب أعداء الله وجد من ينافق بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لقد كان سكان المدينة منهم الذين آمنوا بالله ورسوله وأيدوه، ومنهم اليهود، ومنهم الوثنيون فلما صارت للإسلام شوكة وعزة وقوة - ظهر النفاق، وأولئك كانوا مع المؤمنين في المظهر، ومع أعداء الله - تعالى - في حقيقة نفوسهم، وكانوا يبثون الخبال في المومنين، فقال تعالى في أولئك المنافقين: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِين فِي قُلُوبِهِم مَّرَض) هما وصفان لطائفة واحدة، وهم الذين وصفوا بالنفاق، فلهم وصفان أحدهما النفاق، والثاني أن في قلوبهم مرضا، وقد وصفهم الله تعالى بذلك، فقال: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مرضًا...)، والعطف عطف أوصاف، لَا عطف موصوفين لقولهم:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أو نقول: إن هناك موصودين، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، والطائفة الثانية هم الذين في إيمانهم ضعف، فهم آمنوا على حرف ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
وقد بدا لي نظر لم أطلع عليه، ولكن له شواهد، وذلك أن الذين في قلوبهم مرض اليهود، ذلك أن في قلوبهم مرض الحسد، وهو أشد أدواء القلوب، وهو في اليهود دائما، فالمراد بالمنافقين الذين يقولون؛ إنهم مؤمنون ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض اليهود.
والوقائع التاريخية تؤيد ذلك أن المنافقين كانوا يقولون غرَّ هؤلاء دينهم، أي أوقعهم في غرور، فظنوا أنفسهم الأقوياء، وليسوا من القوة في شيء وقال اليهود
3156
من بني قينقاع: (لقد غر هؤلاء دينهم، وغرهم انتصارهم، لئن لاقونا فسيجدننا الناس) وكان منهم اعتداء على المسلمين حتى أجلاهم النبي - ﷺ -، هذا ما سبق إلى خاطرنا، وهو ينطبق على المنافقين واليهود، والشواهد التاريخية تؤيده، والله أعلم.
ولقد قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوكل هو التفويض إلى الله تعالى بعد أخذ الأسباب وتهيئة ما يكون سببا للنصر، ثم يتجه إلى الله تعالى معتمداً عليه مفوضا الأمور إليه، فإن الآسباب لَا تعمل وحدها بل تعمل بإرادة الله، وهذا فرق ما بين التوكل والتواكل، إذ أن المتواكل لَا يتخذ الأسباب.
وقوِله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ليست جواب الشرط وهو قوله تعالى: (وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ) بل هي سب جواب الشرط قام السبب مقام المسبب، والمعنى ومن يتوكل على الله حق توكله، فإن الله ناصره، وهو الغالب، لأن الله معه، وهو عزيز وحكيم ينصر من ينصره وهو على كل شيء قدير.
هذه نتائج النفاق وضعف الإيمان ومرض الحسد في الدنيا، أما في الآخرة فعذاب أليم، يبتدئ من وقت قبض أرواحهم؛ ولذا قال تعالى:
3157
(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠)
تصور هذه الآية الكريمة هول عذاب الجحيم، وتبين أنه من وقت أن تتوفاهم الملائكة الذين أمرهم الله بذلك، والتوفي مصدر توفاه، معناه أوفاهم الله أجلهم في الدنيا، وانتهوا به، وإذا جاء أجلهم لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
و (لو) في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى..) حرف امتناع لامتناع، وهي هنا لتصوير حالهم والعذاب يستقبلهم إذ تتوفاهم الملائكة إذ تتوفاهم الملائكة المأمورة
3157
بذلك آجالهم، وهنا فعل شرط حذف جوابه، لبيان هوله، وأن تذهب فيه النفس كل مذهب من حيث إنه لَا يدرك كنهه، ولا تتصور حقيقته في الدنيا، والمعنى لو عاينت الذين كفروا، وأرواحهم تقبض ثم ما يجيء بعد ذلك رأيت هولا عظيما، لا تدركه عقول أهل الدنيا ولا تحيط به أفهامهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
ويقول الزمخشري: إن (لو) إذا دخلت على المضارع جعلت معناه ماضيا، فمعنى لو ترى: لو عاينت ورأيت الذين ظلموا إلى آخره، وكان التعبير بالمضارع لتصوير الماضي حاضرا مرئيا مهيئا ليتصور ما يكون ويراه كأنه حاضر، والتعبير بالذين كفروا لبيان أن السبب في هذه الشدة التي يكونون عليها هو كفرهم، وهو مقابل لطغيانهم وتمردهم وعنادهم للحق في الدنيا، فإنه بسبب ذلك الطغيان، يكون الإذلال والخسران والهوان.
وقد صور حالهم فقال: (الْمَلائِكَة يَضربُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) وهذا تصوير لحال ذلهم الذي يقابل اغترارهم واستكبارهم عن الحق، فتضرب الوجوه التي تكون بها المواجهة، وضرب الوجوه لَا يكون لمن يعاملون بالصغار والهوان، وهذا عقاب معنوي شديد، وأدبارهم، أي يركلون بالأرجل في أدبارهم كما تضرب بالأيدي وجوههم، فهم في مهانة تحيط بهم، أو أن المهانة والذلة تحوط بهم من الأمام والخلف، وذلك تصوير لذلهم بعد الغطرسة، والاستهانة بهم بعد الغرور.
وذلك بلا ريب عقاب معنوي، بالتحقير، في مقابل تكريم المؤمنين الذين كانوا يقولون: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ).
وقد بين بعد ذلك العذاب المعنوي فقال: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) وهي معطوفة على قوله تعالى: (يَضربُونَ وجُوهَهُمْ) وذلك بتقدير فعل محذوف تقديره، ويقولون لهم ذوقوا عذاب.. ، أو تقول: إن هذا فعل أمر في معنى
3158
الخبر، ويكون ويذوقون عذاب الحريق، وعبر سبحانه وتعالى عن إصابة العذاب لهم بقوله: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) للإشارة إلى أن العذاب لَا يكون إلا بالإحساس به، فهم في إحساس دائم به، يذوقونه ويحسون به، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
والحريق هو النار المحترقة التي لَا يطيقها إحساس محس إلا أن يكون عذابا.
وإن التعبير بقوله: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) لَا يخلو من تهكم بهم؛ لأنهم فسقوا وذاقوا من الهوى ما ذاقوا، فكأنه يقال لهم: كما ذقتم المتع والشهوات، فذوقوا الحريق، وكأنَّه يبشرهم.
وقد قال بعض المفسرين: إن ذكر ضرب الوجوه، وضم الأدبار إليهم تذكير لهم بشهوتهم التي كانوا منغمسين فيها وأنهم يضربون فيها، كما وقعوا في المفاسد بها والله تعالى أعلم.
وقد بين سبحانه وتعالى عذابه مربوطا بسببه فقال:
3159
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
الإشارة إلى ما سينزله الله بالذين كفروا، من العذاب الشديد والعذاب الأليم، والباء للسببية والمعنى العذاب الشديد بسبب ما قدموا من إيذاء للمؤمنين، ومعانة لرب العالمين، وجحود بالآيات وتكذيب لكتاب الله ورسله، وعبر سبحانه وتعالى عن ذنوبهم التي تضافرت وتكاثرت بقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) مع أن الذنوب تكون بالألسنة وقول الباطل كما تكون بالأيدي؛ لأن الأيدي بها البطش الظاهر، وبها أوذي المؤمنون، وبها نكل بالضعفاء، وحملها للأسلحة في الحروب، وإن التعبير عن الكل باسم الجزء مجاز مرسل مشهور، إذا كان للجزء مكانة خاصة في الحكم، كقولهم عن الجاسوس: العين؛ لأن العين لها مظهر خاص في التجسس.
3159
والمراد بما قدموا من أعمال وما قالوا به من أقوال، وإن هذا الجزاء عدل لا ظلم فيه، ولذا قال تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، وقال سبحانه في هذه الآية (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والواو هنا للعطف، أي أن ذلك العذاب كان بسبب ما قدموه، وبسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، أي أنهم ينالون جزاء ما اقترفوا والعادل يعطي كل إنسان ما يستحق، (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ...)، فذلك يتحقق عدل الله الكامل، وينتفي عنه الظلم سبحانه إنه عَليٌّ قدير.
ولو كان الله تعالى سوى بين المجرمين والمحسنين، لكان ثمة شائبة ظلم، والله منزه عن ذلك، ومعاذ الله أن ينسب إليه، وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)، فيه تقرير العذاب، وتثبيته، وفيه تبريره.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) نفي للظلم الكثير المتكرر، فهل معنى ذلك بمفهوم المخالفة أن الظلم القليل، ليس بمنفي عنه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؟.
والجواب عن ذلك أن النص الكريم ينفي أصل الظلم عن رب العالمين، وإنما النفي بصيغة المبالغة للإشارة إلى أن المساواة بين المحسن والمسيء ظلم كبير ولا يفعله إلا ظلام للعبيد، وقيل: إن الظلم بصيغة المبالغة لكثرة المستحقين للعقاب، فلو لم يعاقبهم لكان ظلاما، والله تعالى ليس بظلام.
ومن هذا النص الكريم يفهم أن العدل يوجب أمرين أولهما ألا يعاقب
المحسن، فإن عقابه ظلم، وثانيهما أن يعاقب المسيء ولا تأخذ الناس به رأفة، لأنه لم يرحم الناس، ويقول - ﷺ - " من لَا يرحم لَا يُرحم " (١).
وقد أخذ سبحانه يقص بعض القصص عن الظالمين وعقابهم.
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
3160
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)
* * *
بين الله تعالى في الآيات السابقة أن الله تعالى يعاقب المشركين عقابين؛ عقابا في الدنيا وهو أن ينتصف للمؤمنين، وأن ينصرهم، وأن يجعل الكافرين الأذلين، وكلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ويبدل المؤمنين من خوفهم أمنا.
العقاب الثاني هو عقاب الآخرة، وإن عقاب الدنيا قد يكون بأسباب يوفق إليها، وقد يكون من الله تعالى يكون بمعجزة أو بأمر خارق للعادة كإغراق فرعون، والنصرة بالريح، وكلاهما من أمر الله تعالى، ومن توفيقه، وقد ذكر الله طواغيت مكة بطاغوت فرعون، وقد أدال الله تعالى منه، فقال تعالى:
3161
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
الكاف للتشبيه والمشبه ما فعله بالمشركين، وما ارتكبوه بالنسبة للمؤمنين، والمعنى أن الله تعالى لتشابه أفعال مع أعمال فرعون والله أنزل بهم ما أنزله بفرعون، لقد طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم بذنوبهم أي أنزل بهم عاقبة ما فعلوا، فأصابهم بالرجس وأرسل عليهم الضفادع والدم آيات مفصلات.
3161
وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب مصدر دأب دُءوبا، أي فعلوا مثل ما فعل آل فرعون دائبين مستمرين عليه من تذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإيذاء موسى وقومه، ومن قطع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف، إذ آمنوا بربهم، ومن طغيانه وملئه في البلاد، وادعائه الألوهية وطغيانه على أهل مصر، وقوله لهم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
تشابهت أفعال المشركين مع أفعال فرعون وملئه الذين دأبوا عليها، واستمروا قائمين بها، فكان حقا عليهم أن ينتظروا لهم مثل ما آل إليه أمر فرعون، وقد بين سبحانه وتعالى أنه أخذهم بذنوبهم فقال: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) الباء للسببية وأخذهم معناها أخذهم أخذ معذب مكافئ بما فعلوا، فالأخذ يتضمن عقابهم على ما فعلوا، وهو القوي القادر، كما قال تعالى في آية أخرى: (فَأخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)، وقوله تعالى بذنوبهم، أي أخذهم بالعقاب بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الناس من تاله، ومن تعذيب، وإفساد للعقول بالضلال، والنفوس بالإرهاق والأذى، وبصح أن تكون الباء للإلصاق، ويكون المعنى أخذهم مصاحبين لذنوبهم فيذكرون جرائمهم، إذ ينزل بهم العذاب. وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَويٌّ شَديدُ الْعِقَابِ).
وهذا في مقام التعليل لقدرته تعالى على الأخذ الشديد لفرعون وأشباه فرعون، وإن طغوا وبغوا، وقد وصف الله جل جلاله بوصفين يدلان على شدة الأخذ والعذاب؛ الأول وصف ذاتي معنوي، وهو القوة، فهو ذو القوة المتين، والوصف الثاني، وهو أن عقابه شديد متناسب مع الذنوب، ومثل فرعون وملئه ذنوبهم كبيرة شديدة قوية، فلابد أن العقاب من جنسها، وهو جزاء وفاق لها.
وأكد الله تعالى هذين الوصفين بعدة مؤكدات فأكده بتصويره الجملة بوصف الجلالة، وهو يلقي بالرهبة والهيبة، وبكون الجملة اسمية، وبـ " إنَّ " التي تؤكد القول.. وقانا الله تعالى شر عذابه ومنحنا رحمته، إنه هو الغفور الرحيم.
3162
وإن ما ينزل بالطغاة من أخذ لهم إنما هو منِ نفوسهم التي غيروها، وشوهوا فطرتها بمظالمهم، لذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)، وقال الله تعالى في معنى هذه الآية:
3163
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
الإشارة إلى ما فعله الله سبحانه وتعالى بالمشركين من أهل مكة، إذ عجَّل لهم عذاب بتنكيل المسلمين بهم، وغيَّرهم من سطوة في أرض العرب وجاه وسلطان إلى أن يغلبوا على أمرهم، ويذلوا بعد عزة، وإلى ما فعله سبحانه بآل فرعون ومن قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود، وآل مدين، فإن هؤلاء غيروا نفوسهم، وطمسوا فطرهم، فغير الله تعالى نعمته، فانتزع منهم ما كانوا في زرع فاكهين فيه.
والمعنى كان هذا الذي أنزله بالكافرين بآيات الله تعالى قد وضع نظما حكيمة في هذا الوجود الإنساني، (بأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ)، أي أن نظام اللَه تعالى في الإنسان أنه أنعم عليه نعما لها واجب وكما أنها له حق وعليها واجب، وأن الفطرة الإنسانية تدرك حق كل نعمة، وتفسد هذه الفطرة بالاتجاه إلى الشر، وذلك تغيير وطمس لنور الفطرة، والمعنى أن الله تعالى لَا يغير نعمة أنعمها على قوم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، و " ما " هنا موصولة بمعنى الذي، والذي بأنفسهم هو نور الفطرة، وإخلاصها، وما أخذه الله تعالى على ظهور بني آدم ذربتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى، فهذا العهد المودع في الفطرة وهو التوحيد هو الذي يغيرونه بأنفسهم، فكفار قريش كانت لهم القوة لأنهم كانوا يدينون بديانة إبراهيم، ولكنهم غيروا ما بأنفسهم فشوهوا الفطرة، وأشركوا بالله أحجارا لَا تضر ولا تنفع، وزاد تغييرهم لما في أنفسهم بأن جاءهم رسول من ربهم يدعوهم إلى التوحيد فعاندوا، وكفروا بآيات الله تعالى، فأزالهم من سطوتهم، إلى حيث يغلبون على أمرهم.
3163
وكذلك آل فرعون ومن قبلهم آتاهم نعمة المال والسلطان فغيروا ما بأنفسهم من موجبات الفطرة وكفروا بالله وعبدوا غير الله، فغير الله النعمة، وأزال أموالهم، وأغرقهم في اليم، وكانوا عبرة المعتبرين، وهذه سنة الله في الأكوان وفى الناس.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) جملة معطوفة على قوله تعالى:
(بِأنَّ اللَّهُ لَمْ يَكُ مغَيِّرًا نِّعْمَةً....) ولذلك كانت " أن " هي المفتوحة وليست المكسورة، والمعنى ذلك التغيير بسبب " أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم، وأن الله سميع عليم " أي بسبب ما سنه الله، وبسبب بأن الله تعالى سميع يسمع همسات القلوب، وخواطر النفوس وما يختلج في الأفئدة، فهو يعلم النفوس إذا تغيرت، عليم بكل ما يجري في الوجود، وما تتحرك به الجوارح، وما يعلمون من أمور مغيبة على الناس فإنها لَا تغيب عن الله.
وإن هذا النص يدل على أمرين جليلين:
أولهما - أن النفوس الإنسانية هي التي تتعلق بها الأحكام، ويجري الله تعالى أمره على ما في هذه النفوس من خير أو شر.
ثانيهما - أن النصر والتأييد من الله تعالى بالقوة إنما هو باستقامة النفوس، فإن استقام ما فيها استقام الأمر وكان النصر والتأييد، وبعد أن بين سبحانه وتعالى أن الله لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا الذي بأنفسهم، ذكر الطغاة، وما يقضي به عليهم فقال تعالت كلماته:
3164
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)
التشبيه منعقد بين المشركين وآل فرعون والذين من قبلهم، كما هو في الآية السابقة، بيد أنه في التشبيه صرح سبحانه بما لم يصرح به في الآية السابقة، ففي هذا التشبيه صرح سبحانه بأن أخذهم كان بالإهلاك الذي لَا بقاء معه، وفي هذا التشبيه صرح بإغراق آل فرعون، ولم يصرح بذلك في التشبيه السابق، وفي هذا
3164
التشبيه بأنه كان مع الكفر والتكذيب لآيات الله كان الظلم للناس فلم يكتفوا بكفرهم، وتكذيبهم لآيات الله، بل ظلموا أحكامهم، ولم يتخذوا العدل صراطا مستقيما وظلموا مخالفيهم، وظلموا رسلهم مع رعيتهم، والقول الجملي أن التشبيه الأول كان تقريبا ما بين الظالمين من مناهج ومسالك، والثاني فيه معنى تعيين وجه الشبه.
قال تعالى في أوصاف المشركين وآل فرعون ومن قبلهم (كذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) أي أنهم جاءتهم المعجزات الباهرة القاطعة، فجاء فرعون تسع آيات مفصلات، فكذبها أي كذب ما تدل عليه من وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والذات والألوهية، والمشركون كذبوا ما تدل عليه المعجزة الكبرى وهي القرآن فوق ما تدل عليه الخوارق الأخرى من وجوب الإيمان بالرسألة.
وهذا التكذيب سبب الكفر، فإذا كان قد ذكر في التشبيه الأول - بأن السبب في العذاب هو الكفر، فقد صرح في هذا بأن سبب الكفر هو إصرارهم على التكذيب كأنه لَا رقيب عليهم ولا حسيب.
وعبر سبحانه في التكذيب بأنهم كذبوا بآيات ربهم، ونسبة الآيات المكذبة إلى ربهم تفيد فائدتين:
إحداهما - بيان فظاعة التكذيب؛ لأنهم كذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم وهو العليم بما يناسبهم من أدلة.
والثانية - أن هذه الآيات من المتفضل عليهم بنعمة الوجود والتنمية، وإعطائهم القوة التي طغوا بها.
ويقول سبحانه: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (الفاء) عاطفة لربط ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بسبب تكذيبهم أهلكهم الله تعالى بسبب هذه عقابا من الله تعالى، ولأن الذنوب المتضافرة يترتب عليها الهلاك لَا محالة.
وفى الكلام التفات من الغيب إلى الحاضر، والإسناد إلى الله تعالى، بإسناد الإهلاك إليه سبحانه وتعالى؛ لبيان تأكد الوقوع لأنه من الله تعالى القاهر فوق عباده العزيز الحكيم، ولتربية المهابة في النفس، وللتذكير بالرهبة من الله تعالى.
3165
وقد خص آل فرعون بذكر هلاكهم فقال: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) اختص آل فرعون بذكر هلاكهم؛ لأن فرعون كان أشهر ملوك عصرهم، وأشدهم طغيانا عن رعيته، وأرهبهم، وأظلمهم، فذكره للعرب وقد أهلكه الله تعالى بالغرق أرهب لنفوسهم، وأشد على غرورهم، وأردع لطغيانهم، وفوق ذلك أغرقه الله تعالى بأمر خارق للعادة لم يكن في حسبانهم، إذ انفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ثم انطبق عليهم بما لم يعهدوا، ولم يحسبوا، فهو يذكر المشركين بأن الله تعالى يأتيهم من حيث لم يحتسبوا، وأنه سيهزمهم من حيث لَا يشعرون، بل يحسبون في أنفسهم أنهم الغالبون، ويوسوس لهم الشيطان بأنهم لَا غالب لهم وقد وصف الله تعالى العصاة جميعا بأنهم ظالمون، فقال تعالى: (وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) أي كل الذين كفروا برسل الله، وآيات ربهم كانوا ظالمين.
فـ (كلٌّ) مضاف إلى محذوف يعم حكم الله تعالى عليه بأنه ظالم، وأكد ذلك الحكم بـ (كان) الدالة على استمرار الظلم، وبالجملة الاسمية، وقد ظلموا أنبياءهم بتكذيبهم مع أن الحق واضح أبلج، وظلموا أنفسهم لأنهم ارتضوا الضلالة بدل الهداية، وظلموا المؤمنين لأنهم آذوهم، وسخروا منهم، وظلموهم لأنهم حاربوهم، وهم فاجرون في حربهم، وظلموهم لأنهم أشاعوا عنهم السوء، وهكذا أحاط الظلم بهم، والظلم ظلمات يوم القيامة والله منتقم جبار.
* * *
لا عهد للمشركين
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)
* * *
3166
في هذه الآيات البينات يبين ما عليه الذين كفروا من إصرارهم على الكفر، ونقضهم للعهد، وما ينبغي لهم من معاملة، وأنه إذا وجدهم في الحرب للمسلمين فيه غلب أن يضربهم ضربة قاسمة ليشرد الذين من ورائهم من قومهم أو يصيبهم الرعب، فلا يجتمعون عليه رهبا وخوفا، وإنه يجب توقع الخيانة منهم ومن كان يخاف خيانته، ينبذ عهده، ويتقى أذاه، وقد ابتدأ سبحانه بوصف الكفر، كيف يتدلى الكافر من مرتبة الإنسانية إلى مرنبة الدواب الحقيرة التي هي أدنى الحيوان إلى أن قال تعالى:
3167
(إِنَّ شَرَّ الدَوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كفَرُوا)
" الدواب " جمع دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من حشرات إلى قردة وخنازير، إلى كلاب وحمير وخيل، إلى الإنسان، والتعبير عن الذين كفروا بالدواب حط من إنسانيتهم؛ لأنهم أغفلوا مداركهم وصاروا كأقل الحيوان ذكرا، ومكانا.
وليسوا فقط أحط الأحياء، بل هم أحط من أحطها، فهم شر الدواب، وهم في الدرك الأسفل من الحيوانية، وأحط ما في هذا الدرك.
يقول تعالى مؤكدا القول: (إِنَّ شَرَّ الذَوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فحكم الله تعالى بأنهم أشد الحيوانات شرا، من الحشرات التي تدب إلى الإنسان الذي خلقه الله تعالى فسواه في أحسن تقويم، وشرهم الشديد؛ لأنهم أوتوا عقولا فشوهوا إدراكها، وأوتوا فطرة سليمة، فرضوا أن يعبدوا حجارة هي أحط من أحط الحشرات وجودا؛ لأن الحشرة فيها حياة وأوثانهم لَا حياة فيها، وهم شر الأحياء لأن كل شيء حي فيه نفع، وإن كنا لَا نحصيه، وهم شر لأنهم ظالمون ولا نفع فيهم، وهم شر لأنهم يعاندون الخير ويعاندون الحق ويؤيدون الشر، وإذا كان مقياس الخير والشر هو النفع في الخير، والفساد في الشر - فالذين كفروا بمقتضى هذا القياس سلب منهم كل ضر، واتسموا بكل شر، فكانوا شر الأحياء.
3167
ثم قال تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) " الفاء " تفيد السببية والمعنى هم سبب كفرهم لَا يؤمنون والنفي نفي متجدد للإيمان، أي أنه قد تلبس بهم الكفر فلا يؤمنون قط، وعبر بالمضارع لتجدد كفرهم آنًا بعد آنٍ، وتلك حالهم، ونفَى الله عنهم الإيمان بإطلاق، فلم ينف الإيمان بالله والرسول فقط، بل نفى الإيمان بإطلاق فهم لَا يؤمنون بحق إلا في ظل أهوائهم وشهواتهم، ولا يؤمنون بفضيلة، ولا يؤمنون بحق الإنسان على أخيه بل يؤمنون بالجبت والطاغوت، لَا يؤمنون إلا بالشيطان، فعقولهم كلها للشر، ونفوسهم سكنها الشيطان يعاضدون الظلم، ويؤيدون الباطل، فكانوا بهذا شر الدواب عند الله، أي في حكم الله تعالى خالق الحياة والأحياء.
وأوضح سبحانه إيذاءهم للناس بأنهم لَا يرتبطون بعهد مع الناس قط، فهم لا يشعرون بحق لغيرهم ولو بعقد التزموه أو عهد أبرموه فهم جائرون بائرون في تفكيرهم وإنسانيتهم، ولذا قال تعالى:
3168
(الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦)
(الَّذِينَ) في هذه الآية بدلا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية السابقة، فهذا وصف من أوصافهم، وحال من أحوالهم، وأوضح ما كان ذلك في. اليهود الذين جاءوا النبي - ﷺ - في المدينة فهم الذين عاهدوا النبي - ﷺ - ونقضوا عهده؛ ولذلك يقول تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ) وإذا كانت واضحة في اليهود، ولم يكن للمشركين إلا عهد الحديبية، وقد نقضوه، فيصح أن يكونوا عاهدوا النبي - ﷺ - ونقضوه، ولكن لم يتكرر نقضهم؛ ولذا نقول: إن البدل في الذين عاهدتهم ليس بدل كل من كل، بل بدل بعض من كل.
واليهود عاهدوا النبي - ﷺ - وتكرر النقض فقد عاهدهم النبي - ﷺ - أول إقامته عهد تعاون على البر والتقوى، ونقضه بنو قينقاع عقب وقعة بدر الكبرى، ثم أبرموه مرة ثانية بنو النضير حتى اضطر النبي - ﷺ - إلى إجلائهم، حتى يقيم في المدينة (والجنة تجاوره)، ثم كانت الممالأة للمشركين، ومكانتهم للمشركين، والنبي - ﷺ -
3168
فى الشديدة في غزوة الأحزاب، وقد تألبت عليه الجزيرة العربية كلها وتحزبت عليه، وقد جاءوا ليقتلعوا الإسلام من المدينة فرد الله الذين كفروا بغيظهم ولم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال.
ثم قال تعالى: (وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ) أي هؤلاء الذين ينقضون العهد، في كل مرة يعاهدون الرسول - ﷺ - (لا يتقون) وقد أطلق عدم الاتقاء فلم يذكر أنهم يتقون الله، أو يتقون أذى الناس، أو يتقون نقض فهو سبحانه أطلق عدم الاتقاء، أي من صفاتهم التقوى وتقدير الأمور، وتقدير معنى الوفاء بالعهد، فإنه لَا يصح نقض العهد لأي سبب؛ لأنه يفقد الثقة، وفقد الثقة يؤدي إلى ضعفهم، ولقد قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١).
ولا شيء يضعف الجماعات أكثر من النكث في العهود؛ لأن الناس لا يثقون، ويكونون جميعا إلبا لبعض، وتعد فاسدة الأخلاق، ولا تكون لها قوة أبدا.
وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن؛ ولذا يقول تعالى:
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَكَانَ مَسْئولًا).
وإذا كان الكافرون لَا يثقون في عهد عهدوه، ولا ينفعون بل يضرون، فلابد لحملهم على الحق من القوة الغالبة، والقهر الذي يرهبهم؛ ولذا قال تعالى:
3169
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
" الفاء " عاطفة، وهي فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن هؤلاء الكفار لَا يفعلون خيرا، وليس منهم إلا الأذى المنكر، ولا يُمنع شرهم بعهد يقدمونه، فإنه يجب قمعهم بالشر إذا وجدوا في حرب حتى لَا يجتمعوا على شر؛ لأن اجتماعهم إيذاء فلابد من إرهابهم.
3169
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهمْ) (إن) مدغمة في (ما)، و (ما) زائدة لتوكيد القول، ولذا جاء في الفعل نون التوكيد وجوبا. أو قريبا من الوجوب، والتأكيد للفعل، أي إن تأكدت من وجودهم، فلا تجعلهم يفلتون من يدك، واضربهم الضربة القاسمة التي تفزع من خلفهم فيشردون، بدل أن يكونوا مجتمعين للشر، فضرب من يقع في اليد من الأشرار ضربات قاسمة يجعل من خلفهم ممن هم على شاكلتهم مشردين غير مجتمعين، ومعنى (تَثْقَفَنَّهُمْ) تجدهم في ثِقاف، أي حال ضعف تقدر فيها عليهم، وذلك من قوله ثقفته أي وجدته.
وقوله تعالى: (فِي الْحَرْبِ)، أي انساقوا إليك محاربين، وقدرت عليهم فاغلظ عليهم واضربهم الضربات القاسمة التي تجعلهم نكالا لغيرهم، فلا يستمرئون الشر بعد ذلك، وقال تعالى: (فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ) أي شرد بضربهم والتنكيل بهم مَن خلفهم، فإذا رأوا الهوان ينزل بمن هم على شاكلتهم جزاء غيهم، فإنهم لَا يجتمعون لحرب أهل الحق بعد ذلك؛ إذ إن ضرب الذين جاءوا للحرب وأخذهم بالسوق والأقدام يجعلهم لَا يجتمعون على قتال لأهل الحق، فلا يهاجمون المؤمنين من بعد ذلك؛ ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهمْ يَذكًّرُونَ) أي رجاء أن يعتبروا بغيرهم، ويذكروا مآلهم الذي يستقبلهم بما يرون فيمن تقدَّموهم، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
3170
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)
" إما " هنا كما في قوله تعالى: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) هي " إنْ " الشرطية مؤكدة بلفظ " ما "؛ ولذا أكدت بالنون الثقيلة، ويكون تأكيدا للشرط، فهو تأكيد للخوف، والمعنى إن خفتم خوفا مؤكدا توافرت أسبابه، حتى يكون توقع الخيانة أمرا ثابتا قامت أماراته وبدرت بوادره، (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) أي اطرح عهدهم وانبذه نبذا ظاهرا معلوما تكون وهم على سواء، لَا يربطكم، ولتأكد الخوف قال بعض المفسرين: إن معنى الخوف هنا العلم.
3170
وقد فسرنا كما ترى معنى (عَلَى سَوَاء)، أي لتكونوا معهم على سواء أي متساوين تحُللون من العهد ويتحللون ويكون الاستعداد من الجانبين، وقيل: إن معنى (عَلَى سَوَاء) أي يكون النبذ معلوما مشهورا.
وإن النبذ يقتضي أن يكون ثمة عهد قد خانوه، أو همُّوا بأن يخونوه، وتأكد لديكم هذا، وتلك هي الأمانة التي أودعها الله تعالى أوامره للمؤمنين، بأن يكون أشرافا في الوفاء بعهودهم، فإذا توقعوا الخيانة متأكدين لها، فإنهم لَا يَسْبقون بالخيانة، بل يَنّبُذون ويُعلمونهم بأن لَا عهد.
وإن الخيانة لها صورتان:
الصورة الأولى - صورة الذين يتوقعون الخيانة ومتأكدين من وقوعها قبل أن تقع، وفي هذه الحال يعلنون ترك العهد واعتباره كان لم يكن ليستعدوا.
الصورة الثانية - أن يغدر المتعاهدون بالفعل، كما غدر المشركون في صلح الحديبية، فقد كان العهد يجيز لمن يدخل في جانب محمد أن يدخل فلا يعتدى عليه، فدخلت خزاعة في عهده، فاعتدت عليها قريش، وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن، ولذا يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَان مَسْئُولًا)، فكان الاعتداء بل الخيانة بالفعل.
وقد زال العهد بذلك، فكان متحللا، ولذا غزا الغزوة الكبرى بفتح مكة من غير نبذ، إذ هم قد نبذوه من قبل لَا بالقول بل بالفعل.
وقد كان الصحابة قبل أن ينقضوا هذا العهد بالفعل، يحذرون النبي - ﷺ - من نقضهم ويخافونه، فكان النبي الوفي الأمين يقول: " وفوا لهم واستعينوا الله عليهم ".
وإن ذكر الخوف من الخيانة يقتضي أن هناك عهدا عاهده - ﷺ - أو من جاء بعده، ويخاف من نقضه فإنه لَا خيانة إلا في عهد مبرم.
ونقول: إن الخيانة قد تكون بحرب يعدُّونها، وينقضون بها السلم الذي كان بحكم العلاقات الأدبية أو السلمية، ويريدون أن يخونوا المسلمين ويأخذوهم، فإنه
3171
إذا تأكد المسلمون نبذوا هذا السلم الذي كان أصل هذه العلاقة وكانوا معهم على سواء.
ولا يقال: إن النبذ بُني على الخوف من الخيانة، والخوف ظن، ولا يبنى أمر قطعي على أمر ظني - لأننا قلنا: إنه خوف مؤكد بدت بوادر الخيانة، وظهرت أماراتها، والقائد المدرك لَا ينتظر حتى تقع الخيانة، بل يسارع بنبذ العهد، ويستعد لهم، ويحلهم من العهد، كما أحل نفسه، حتى لَا يؤتى من غرة.
فعن عمرو بن عبسة أنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " من كان بينه وبين قوله عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء (١).
وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْخَائنينَ). هذا النص السامي فيه تعليل للنبذ على سواء، أي أن النبذ على سواء إعلام بإنهاء العقد، ليكون معلوما مشهورا، ولا يقع المؤمنون في خيانة؛ لأن الله تعالى لَا يحب الخائنين، فالنص يمنع عن الخيانة، بالنبذ على سواء، وإلا لو هجموا سواء على دمائهم قبل النبذ فقد خانوا، والله تعالى لَا يحب الخيانة وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة بالجملة الاسمية، وبـ " إن "، ونفي المحبة أبلغ في النهي؛ لأن محبة الله مطلوبة فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيا شديدا مؤكدا.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)
* * *
________
(١) رواه الترمذي وصححه: السير - ما جاء في الغدر (١٥٨٠)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٥٦٧) وأول مسند الكوفيين (١٨٩٤٣)، وأبو داود في الجهاد - الإمام يكون بينه وبين العدو عهد (٢٧٥٩).
3172
هاتان آيتان في بيان قوة الإيمان وأهله، وأنه لَا يعجزه شيء ما دام مؤمنا بالله ومستعينا به سبحانه، وما دام يستعد ويأخذ في أسباب القوة، ولقد كان المشركون يتوهمون الغلب لمجرد أن يسبقوا في أمر أو يفوزوا فيه أو يفلتوا من مصادرة عيرهم، فبين الله تعالى أنهم إن نجوا مرة لَا يعجزوا الله تعالى ورسوله والمؤمنين، ولذا قال تعالى:
3173
(وَلا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزونَ).
" الواو " للاستئناف، و " لا " ناهية، والنهي عن الحسبان والظن هو نهي عما ينبغي، لأن الحسبان لَا يقع عليه النهي إنما المراد - فيما يظهر والله أعلم - لَا ينبغي لهم أن يحسبوا أنهم سبقوا أي فازوا، إذا سبقوا إلى عيرهم وأخذوها وأفلتوا بها فإنهم لَا يعجزون، ولم يذكر في الآية ما سبقوا فيه أو ما فازوا به، بل أطلق نفي ظنهم أنهم سبقوا أي نوع من السبق، أو فازوا بأي نوع من الفوز، فالمعنى أنهم لا يظنون أنهم يسبقون بأي سبق، فحياتهم فارغة أبدا، لأنهم ليست لها غاية، لأن أي سبق لهم فهو لغو، وأن نهايتهم واحدة إن استمروا على كفرهم، وإن الله تعالى غالب، والنصر للمؤمنين وقوله تعالى: (إِنَّهمْ لَا يُعْجِزُونَ) قرنت بكسر (إن)، وتكون الجملة مستأنفة في معنى تعليل نهيهم عن حسبان أنهم سبقوا على المعنى الذي ذكرناه، لأنه ما دامت النهاية للمؤمنين وأنهم لَا يعجزون، فالهزيمة لاحقة بهم مهما سبقوا، ومهما يفوزوا في حركات ليست هي النهاية، والله من ورائهم محيط حتى يوم القيامة.
وهناك قراءة بفتح أن (١)، أي أنهم لَا يعجزون، وتكون هنا لام التعليل محذوفة، ومفهومة من مطوى الاسم: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون، وكثيرا ما تحذف لام التعليل، لأنها مفهومة من سرد القول، والمعنى الجملي للنص السامي أنهم مهما يسبقوا ويفوزوا فإن الغلب عليهم، ولا تحسبنهم معجزين من المؤمنين، كما في قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَروا معْجِزِينَ فِي الأَرْضِ...)، وقوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ... ).
________
(١) قراءة (أنهم لَا يعجزون) بها قرأ ابن عامر، وقرأ الباقون بكسر الهمزة. غاية الاختصار (٩٣٨).
3173
إنهم لن يعجزوا الله، ومهما ينالوا من سبق فلن يعجزوا الله عن أخذهم من نواصيهم بالهزيمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
ولكن هزيمة الدنيا لَا بد لها من أسباب يقوم بها العباد بتوفيق الله تعالى، والتوكل عليه سبحانه بعد الاستعداد بالعدة، وأخذ الأهبة والعزيمة والصبر؛ ولذا قال تعالى:
3174
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ... (٦٠)
(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) هذا أمر تكليفي وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية يجب على الأمة كلها أن تتعاون في إعداد هذه القوة، بالدربة، والتعليم والرمي، وكل ما يربي الجند القوي.
فلا بد من التربية على الجندية، وإعداد عدة القتال، وذلك بالمستطاع بل بأقصى ما يستطاع، ومن هنا بيانية في قوله (مِّن قُوَّةٍ) وهي تدل على عموم القوى، فأعدوا كل ما يمكن أن يكون قوة في الحرب من دربة على الرمي بالسهام، ولقد كان النبي - ﷺ - يقول: " ألا إن القوة الرمي " (١)، كما روى عقبة بن عامر عن رسول الله - ﷺ -، وقد كان الراوي نفسه وهو عقبة راميا حتى لقد مات وعنده سبعون قوس رمي، ومن القوة الحصون، ومن القوة المنجنيق، وهكذا كل ما يكون سببا للقوة، ومنها من الماضي النار الإغريقية، ولم تكن معروفة عند العرب، وإن وجدت في الحروب الإسلامية.
فكل قوة مستطاعة يجب على الأمة أن تتضافر على إيجادها، وإلا أثمت كلها، ولم ينج من الإثم فقيرها وغنيها ولا قويها أو ضعيفها، فالقادر بقدرته، والضعيف بلسانه.
وقوله تعالى: (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) معطوفة على (مِّن قُوَّة)، ورباط الخيل جماعة الخيل خمسة فأكثر، وقيل رباط جمع ربيط، وقيل رباطا مصدر - رابط،
________
(١) رواه مسلم: الإمارة - فضل الرمي (١٩١٧). كما رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي.
3174
وأطلق على الخيل؛ لأن المرابطة تكون بها، ومهما يكن فالمراد من رباط: الخيل المجتمعة، وخصت الخيل بالذكر؛ لأنها كانت قوة الحرب، في العرب، وربط الخير بنواصيها، فكانت رمز القوة، ولقد قال النبي - ﷺ -: " الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء فهي له وزر " (١).
وقوله تعالى: (تُرْهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَكُمْ) ترهبون أي تخيفون، وتفزعون، وتربون في نفوس أعدائكم المهابة، وتلقون في قلوبهم الرهبة وسمى الكفار عدو الله؛ لأنهم كفروا به وكذبوا آياته، وسماهم " عدوكم؛ لأنهم يريدون بكم الأذى، ويناصبونكم العداوة لإيمانكم وكفرهم.
وقال تعالى: (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) وقوله: (مِن دُونِهِمْ) أي من غيرهم، أي من غير الذين يجاهرون الآن بعداوتكم من المشركين واليهود وغيرهم ممن يلاقونكم من الرومان الذين يعاصرونكم، ويشير بهذا إلى الذين يجيئون بعد ذلك الذين لَا يعلمهم المسلمون في عصر النبي - ﷺ -، ومن والاه والله تعالى يعلمهم؛ لأنه علام الغيوب، وإن الله تعالى يشير بذلك إلى الأخلاف الذين يجيئون بعد ذلك، فإنه بمجرد أن انتشر الإسلام في الأرض ودخل الناس في الدين أفواجا، صار المسلمون في مذأبة من الأرض، فأوربا أرادت أن تنقض على الإسلام من الشرق والغرب.... والتتار أخذوا ينقصون على المسلمين الأرض من أطرافها.
وكان لابد من قوة تقهر وترهب هؤلاء، وتلقي مهابة المسلمين في قلوبهم، ولكن مع ذلك لم يستجيبوا لنداء الله، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة، وإن ذلك الاستعداد كان يوجب أولا - أن يكون لهم مصانع تصنع لهم الأسلحة لَا أن
________
(١) سبق تخريجه.
3175
يستعينوا بأسلحة من غيرهم، إن شاء أعطى وإن شاء منع، وفي عطائه ومنعه يعمل لمصلحة نفسه، ولا يريد بالإسلام خيرا.
ويوجب ثانيا: أن ينافسوا الناس في اختراع الأسلحة ليدفعوا أذاهم، وإلا كانوا - وهم هم المرهوبون - يُرهَبُون ولا يُرهِبون، يَخافون، ولا يُخيفون، وتتبدد قواهم ضياعا.
ويوجب ثالثا: تعاونهم جميعا في ذلك، حتى لَا يؤكلوا في الأرض.
وقد كان عكس ذلك، فتقطعت وحدتهم، وضرب الناس بهم في افتراقهم فتوزعتهم الأرض، وأكلتهم ذئابها، وصيروا الخير لغيرهم دونهم، وصاروا لأعداء الله وأعدائهم ما يصنعون به السلاح ليستعمل لإرهابهم، وإرهاب كل من يعاونهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
هذا وإن إعداد عدة الحرب، والحرب ذاتها تحتاج إلى المال، ولذا قال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
إن الحرب تحتاج إلى نفقات، وإعداد العدة يحتاج إلى نفقات، وفي أيامنا تحتاج العدة إلى الإنفاق من الدولة والجماعات، ولقد كان من أصحاب رسول الله - ﷺ - من يخرج من ماله كله للجهاد في سبيل الله، كأبي بكر، ومنهم من كان يخرج من نصف ماله كعمر، ومنهم من كان يجهز جيشا بأسره كذي النورين عثمان بن عفان، وأنى لنا بأمثال هؤلاء من أمراء المسلمين وملوكهم، وعندهم المال الوفير من أكناز الأرض.
ومن لَا ينفق ألقى بنفسه وبقومه في التهلكة، ولقد قال تعالى في الإنفاق في الحرب: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلكَةِ...).
(وَمَا تُنفِفوا) و " ما " هنا شرطية، أي أن تنفقوا في سبيل الله تعالى، وسبيل الله تعالى هو الجهاد (يوَفَّ إِلَيْكمْ) أي بالبركة في رزقكم وبتيسير الرزق لكم وتسهيل سبل الحياة، والنماء في أموالكم، وبعد ذلك الجزاء في الآخرة، وهي خير
3176
وأبقى، وأوفى وأتم بهذا التفسير الدنيوي والنماء في هذه الحياة، والجزاء في الآخرة لَا يظلمون لَا تُنقصون شيئا مما قدمتم.
* * *
السلم
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
* * *
إن الإسلام ما جاء للحرب، بل جاء للسلام، وهو يقول: (وَلا تَقولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)، فهو دين السلام، وما كانت الحرب إلا لتأييد السلام، وليكون على العدل، وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
وما حارب النبي - ﷺ - المشركين إلا بعد أن فتنوا الناس عن دينهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وشردوا المؤمنين، فكان لابد من القتال ليقدعوهم، ويمنعوهم من هذا الظلم، فإذا جنحوا للسلم، وامتنعوا عن الفتنة، فقد زال سبب القتال، وعاد الأمر إلى أصل السلام الذي هو أساس العلاقة الإنسانية بين المسلمين وغيرهم؛ ولذا
3177
(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ).
3177
(جَنَحُوا) أي مالوا، والضمير يعود إلى المشركين الذين وقعت الحرب بينهم وبين النبي - ﷺ - والذين كانوا يريدون الغارة على النبي ومن معه من المؤمنين الوقت بعد الآخر، والذين يخاف النبي - ﷺ - خيانتهم من وقت لآخر، وإنهم إن كانوا كذلك ينبذ إليهم على سواء، والسَّلم تكون بفتح السين كما في هذه الآية، وتكون بكسرها، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨).
والسَّلْمُ هو السلام، وهي مؤنثة كنقيضها، وهي الحرب، ولذا عاد الضمير عليها مؤنثا في قوله تعالى: (فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ) ومؤدى هذا النص السامي أنهم إذا مالوا إلى السَّلْم، ولم يقولوه بظاهر من القول، بل قالوه مطمئنين إلى أنه أصلح لهم، فإنه لَا مضارة منه عليهم، ولا على المسلمين.
ومؤدى ذلك أن الإسلام يكون في قوة وعزة وغلبة أو أقرب إلى الغلب، فإنه يجب على المؤمنين، ولو كانوا هم الأقوياء الغالبين أن يميلوا إلى الصلح كما مالوا، فالإسلام لَا يريد الغلب لذات الغلب، فليست فروسية، إنما يريد دفع الأسرى وتسهيل الدعوة، وإزالة كل العقبات المانعة للدعوة، فإن كان ذلك بسلم فهو أولى بالأخذ والاتباع.
وقد لوحظ في الدعوة المحمدية أنها تقوى في السلم العزيمة، ولا تضعف، فقد حصل في فترة الحديبية أنه دخل الناس في الإسلام بعدد يعد أضعاف ما دخل فيه المسلمون من وقت البعثة المحمدية إلى وقت عهد الحديبية.
وإنه واضح من النص الكريم أن الذين جنحوا إلى السلم هم المشركون، وأن المسلمين كان فيهم الغلب والقوة، وقد نهى الإسلام بنص القرآن عن أن يعرض المسلمون الصلح على المشركين، وهم في صلفهم لَا يبدون ميلا للسلام، ولذا قال تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْم وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهً مَعَكُمْ...).
وإن التقدم بطلب الصلح في هذه الحال خنوع في وقت القوة، والصلح في هذه الحال يمكنهم من معاودة الحرب، والاستعداد لها.
3178
فالصلح، أو السلام لَا يكون إلا حيث تكون شوكة العدو قد خضدت، وفلَّت حدتها، فهو صلح حيث تُؤْمَن الحرب من بعد؛ ولذا قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي اجعل اعتمادك على الله تعالى وتوقع الأمن الدائم، وأن يتجهوا إلى الحق في هدأة السلم وأن يؤمنوا، ولقد رأوا قوة الإيمان، وخذلان الشرك.
وإن الله تعالى حامي دينه، وعاصم نبيه، وناصر أوليائه، وهو سميع لكل ما يقولون، عليم بكل ما يفعلون؛ ولذا قال تعالى:
3179
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)
إن الإسلام يتشوق للسلم إن كانت الحرب، كما يتشوق الجراح المخلص لإنهاء جراحة بالشِّفار اضطرته حال الجسم لإقامتها. فمثل الحرب في نظر الإسلام كمثل الجراحة التي يقطع بها جسم فاسد، يخشى أن يسري فساده؛ ولذلك إذا جنح العدو للسلم كان على المؤمن أن يبادر إلى المجاوبة على السلم بسلم غير متردد، ولا متوانٍ؛ لذلك قال تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) فهذا النص فيه أمر بمنع التردد، لشك يقوم في نية الصلح أو السلم، إذ السلم خير كله، ولا يمنع الخير، لظن الخديعة، ولذا قال تعالى: (وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ) جعل سبحانه فعل الشرط إرادة الخديعة لَا الخديعة نفسها، وعبَّر في حرف الشرط بـ " إن " الدالة على الشك، لبيان أنه يجب إبعاد إرادة الخديعة والخديعة نفسها ليقدم على السلم بقلب سليم، وإرادة معتزمة مع اليقظة والحذر، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ) فالإقدام على السلم يكون من غير دخل، ولا تردد في العزيمة مع الحذر.
وجواب الشرط هو قوله تعالى: (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي أن الله تعالى كافيك وعاصمك من الناس بقوته وقدرته القاهرة الظاهرة، وقد أكد الله تعالى عصمته لنبيه وأنه عاصمه من الناس بـ " إنَّ "، وبتعريف الطرفين، وهو يفيد قصر العصمة على الله تعالى وحده، أي أنه وحده هو العاصم لك من الناس، ومن يحاول أن يخدعك، فإنما يخدع الله، والله بكل شيء عليم.
3179
وقد أيد الله تعالى عصمته بحاضر نصرته، والماضي نور للحاضر، فقال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)
إن الله تعالى وحده هو الذي أيدك بالنصر المؤزر كما كان في بدر، فأيدك بالملائكة، وأيدك بالاطمئنان في المعركة، وأيدك بما كان من إلقاء الرعب في قلوبهم، وإذ يريكموهم في أعينكم قليلا، وأيدكم بالكلمة، وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين فقال تعالى: (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمنون اجتمعوا ولم يختلفوا، واعتزموا ولم يترددوا، وانتظموا في صفوف كالبنيان، وأمدهم بالصبر ولم يهنوا ولم يحزنوا.
وما ذلك كله إلا بفضل من الله العزيز الحكيم، وإن أعظم أسباب النصر بعد تأييد الله تأليف القلوب، ولذا قال سبحانه في فضل نعمة التأليف:
3180
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
" التأليف " إيجاد ألفة بين الجماعات، بحيث تألف كل واحد من الجماعة صاحبه، كالألفة التي أنشأتها المؤاخاة بين المؤمنين، وهو غير الاتحاد؛ لأن الاتحاد الاجتماع على أمر بالرأي والنظر، وقد لَا يأتلف واحد صاحبه، وذلك قد يكون يجمع على فكرة أو حزب، ولا يشترط فيه تلاقي قلوب الاجتماع، وائتلاف النفوس، وإن ذلك لَا يستطيعه إلا الله، لقد ألف الله تعالى بين المؤمنين والمهاجرين حتى كان الأنصار يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وألف بين الأنصار بعضهم مع بعض، حتى زال ما بين الأوس والخزرج ما كان بينهما من حروب، وامتزجت نفوس القبائل المهاجرة، حتى زالت من بينهم العصبية الجاهلية.
وإن تأليف القلوب لَا يمكن أن يجيء إلا من عمل مقلب القلوب، ومؤلف الأرواح، وقد بين الله استحالة ذلك إلا من الله فقال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) كما أن خلق شيء من العدم لَا يكون إلا من خالق
3180
الوجود، وكما أن الزرع لَا يخرج من كمئه إلا من الله، وكما أن الله يذرأ الإنسان كهذه كلها يكون التأليف بعد النفور، والمودة بعد العداوة كذلك خلق الله تعالى هذا التأليف في النفوس؛ لتكون الجماعة القوية المتألفة المتآزرة التي يكون فيها البنيان يشد بعضه بعضا، وإن ذلك مستحيل من العبيد، وقد بين الله استحالة ذلك، فقال تعالى: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قلُوبِهِمْ) أي لو ملكت كل ما في الأرض جميعا، وأنفقته طالبا بهذا الإنفاق أن تؤلف القلوب، ما استطعت لأنك لَا تستطيع أنت ومن أن تخلقوا ذبابا، والتأليف لَا يملكه إلا الخالق، فهو ليس في مقدور أحد من العباد، ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) الاستدراك، ارتقاء في القول من قدرة الإنسان العاجز، إلى ما يملكه الخالق القادر.
وإن هذا التأليف كما قلنا هو الذي أوجد الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت الخلية التي بذرت فيها بذرة الإسلام، فنمت وترعرعت، وكانت قوة الإسلام وقد قال الزمخشري في معنى ذلك التأليف: (التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - ﷺ - من الآيات الباهرة؛ لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإبقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لَا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - ﷺ - واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحد، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد وأماطه عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء، ويصنع فيها ما أراد، وإنه إذا كان للنبي - ﷺ - خوارق عادات غير معجزة القرآن فهذا أشد خوارق العادات وضوحا وبيانا.
وإن الآية تدل على تأليف قلوب العرب الذين كانوا أول من خوطب بالرسالة، يستوي في ذلك المهاجري والأنصاري والأوسي والخزرجي، بهذا نما الإسلام قويا عزيزا غالبا بقوة الله وقدرته).
3181
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فهو عزيز يخلق العزة وأسبابها، عالم يجمع القلوب بحكمته وتدبيره، وهو الذي أحاط بكل شيء علما.
وفيه إشارة إلى أمرين:
أولهما - أن ائتلاف القلوب والتحاب والتواد، والبعد عن التباغض والتنابز هما عماد العزة، والتدبير الحكيم.
وثانيهما - إنه لَا غلب ولا سلطان إلا بالتآلف، وإن يصير المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
اللهم أعد للمسلمين ائتلافهم، واجمعهم على محبتك ومحبة رسولك، وأزل ما بينهم من بغضاء وعداوة وأبدل بهما محبة وولاء، إنه لَا يقدر على ذلك إلا أنت، كما ألفت القلوب ابتداء، فأعدها بعزتك وحكمتك إنك سميع مجيب الدعاء.
3182
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
النداء للنبي - ﷺ -، وكان النداء بـ " يا " التي تكون للبعيد، لبعد الشرف في موضوع النداء وهو الاعتماد على الله والالتقاء بحمايته، وبكلاءته سبحانه.
والكلام السابق في هذه الآية وما قبلها للتحريض على الجنوح للسلام إن جنحوا معتمدا على الله، آمنا من أن يخدعوه؛ لأن الله تعالى منه وكالته، والمؤمنون معه يؤيدونه وينصرونه، وإنه بنعمته سبحانه ألف بين قلوبهم، وما كان يمكن لأحد أن يؤلف قلوبهم، وتلك إحدى خوارق العادات، وهنا تصرح الآية الكريمة بأن الله وحده عاصم نبيه ومن معه.
(حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) معنى حسبك عاصمك وكافيك وحاميك، ولقد قال شاعر:
3182
أي إذا كانت الهيجاء تكاد تحبك مع الضحاك سيف مهند.
و" الواو " في قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) هي واو المعية، والمعنى عاصمك وكافيك مع المؤمنين ذلك، أن النبي خاف من الحروب على من معه من المؤمنين أن يُخانوا أو يخدعوا، فبين الله أنه حاميه وعاصمه هو ومن معه من المؤمنين، فلن يأخدهم من مأمنهم، لأن الله معهم.
ويصح أن تكون الواو عاطفة " من اتبعك من المؤمنين " على " الكاف " في " حسبك "، ويجوز العطف على الضمير المجرور من غير إبرازه بضمير منفصل، ويكون المعنى حسبك أنت ومن معك من المؤمنين.
والمعنيان واضحان من حيث المؤدى، ولكن الأخد بأن الواو للمعية أولى؛ لأنها تدل على الصحبة، والتصريح به هنا يقوى الكلام ويؤيده.
وقوله: (وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يشير إلى حكمة العصمة والكفاية، وهو كونهم الذين اتبعوا النبي - ﷺ - في دعوته، ونصرته، وإنهم بذلك قوة الرسالة، فهم قوة الدين الحق، وكان الله تعالى عاصمهم كما وعد نبيه بأنه عاصمه من الناس كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...).
وإن الله تعالى إذ يأمرنا بالسلام، إن جنحوا، ويزيل كل شك في أن يأخدوا المؤمنين على غِرَّة يأمر النبي - ﷺ - بأن يجعل المؤمنين على حذر ويستعدوا للحرب إن جالوا جولة ثانية، وذلك بأن يحرضهم على الاستعداد للقتال، وأن يقووا وحدتهم، وجماعتهم وأن يعلموا أنهم لن يُغلبوا من قلة.
إن الفئة المؤمنة لها قوتان: قوة الإيمان، والعدد المناسب، وقوة الألفة فوقهما، فيكونون بهذه القوة محاربين أشداء؛ ولذا قال تعالى:
* * *
3183
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
* * *
هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذا جنحوا للسلم، فلا تُغمد السيوف في أجفانها، ولا يسترخون، ويسكنون فإن المشركين إن جنحوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة (١)، ويكونون مستعدين للنفير دائما، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِروا ثبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا). ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق، كما يبث فيهم الإيمان، فإنه لَا بد لهم من شوكة
________
(١) الهيعة: الصوت عند حضور العدو.
3184
(يا أَيّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُومِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) أي حثهم وبث فيهم روح الحمية، وإعداد العدة والاستعداد للحرب وإن يأخذوا الأهبة للقتال، ويدربوا أولادهم، فإن الكفار لا أمان لهم، ولو جنحوا للسلم، لأن الاستعداد وقاية من أن ينقضُّوا على المؤمنين انقضاضا.
ولقد كان من الحض على القتال أن يبين لهم أنهم لإيمانهم أشد بأسا، وأكثر عزما، فإن كانوا في العدد كثير، فهم بالإيمان أكثر وأغلب، وأقوى وأثبت، وبالصبر والعزيمة أعظم وأشد.
3184
وقوله تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلى آخر ما ذكر من أعداد؛ أهو إخبار من الحكيم الخبير، ويتضمن الحض على الإيمان والصبر، أم هو أمر بالثبات مع هذا العدد، وعلى أنه أمر يكون ما في النص تكليف بألا يفر مائة من ألف، ولا عشرون من مائة، فإذا التقى عشرون في سرية بمائة لَا يفرون منهم، ويعودون أدراجهم لمكاثرتهم بالعدد، بل عليهم أن يقاتلوهم صابرين في قتالهم، وإذا التقى مائة بألف، لَا يفرون منهم لكثرتهم، بل يقاتلون مريدين النصر والعزة، وعندما تكاثر المجوس على المسلمين، وخاف عمر رضي الله عنه على المسلمين لم يأمرهم بأن يعودوا، بل اعتزم أن يخرج إليهم، ويتقدم صفوفهم، ويذهب للقتال، واستشار الصحابة في ذلك فمنهم من وافقه، ولكن عليا اعترض ومنع، وهو أخبرُهم بالجهاد في سبيل الله، فقال رضي الله عنه: " كن قطبا، واستدر رحى الحرب بالعرب، فإنك إن خرجت فما تَدع وراءك من العورات أشد، وأما كثرة العدد، فإنا ما كنا ننتصر بالعدد، بل بالنصر والمعاونة ".
هذا على قول من قال: إذ ذكر الأعداد للأمر بألا يكون الفرار من أقل من هذا العدد.
وابتدأ بذكر العشرين؛ لأن السرية عادة لَا تكون في أقل من العشرين.
وقال بعض المفسرين، والنص يحتملها: إن ذلك للإخبار عن قوة النفوس بالصبر والإيمان، وأن الواحد بها بعد كعشرة ممن لم يؤتوا الإيمان والصبر وعزة الحق، ونفوسهم بوار من هذه القوى كلها، وهذا النحو من القول فيه تثبيت للقلوب، فإن جنحت فعندها من مدخر من هذه القوى، ما تقابل بها الخيانة إن كانت، وإن حاربوا ولم يسالموا ولم يجنحوا إلى سلم - كانت القوى واقفة تدفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق وللكافرين الويل مما يصفون، وإنه إذا كان القول للإخبار، فإن الأمر يجيء نتيجة للخير، إذ إن مقتضى إخبار الله المحيط بكل شيء علما بذلك الخبر الذي لَا يتطرق إليه الشك - أن يكون الوجوب عليهم بمقدار ما منحهم الله تعالى من هذه القوة التي منحهم الله إياها، فالوجوب على مقدار
3185
الاستطاعة، والاستطاعة كانت عظيمة، فالواجب عظيم. ينتهي الأمر بأن المؤمنين عليهم أن يعدوا العدة من قوة المادة والدربة وأن يعدوا أقوى عدة، وهي الصبر والعزيمة والاعتزاز بعزة الله تعالى وعزة الحق.
وهنا أمور تجب ملاحظتها هنا في هذه الآية التي تثبت القلوب:
أولها - أنها تثبت أن المؤمنين إن كانوا أقوياء بالوحدة المؤلفة الجامعة للقلوب والمشاعر، يكون العشرون غالبين لمائتين، فإذا كان الرجل بالرجل، فلِقُوَّة النفس والائتلاف تسعة رجال وحدها، فيكون الواحد بعشرة، وبذلك يتبين فضل الصبر والوحدة المؤتلفة التي لَا تفرق فيها.
ثانيها - أن الله تعالى وصف العشرين بالصبر، وترك ذكره في المائة، وهو ملاحظ فيها، ولم يذكر اعتمادا على ذكره في الأول، وذلك شأن الكلام البليغ فكيف يكون الشأن في أبلغ كلام في الوجود.
ثالثها - قوله تعالى في آخر الآية: (يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو وصف أيضا للمائتين، أي أنهم من الذين كفروا، وذكر الوصف بالموصول للدلالة على الكفر هو سبب الضعف كما كان الإيمان والصبر هما بسبب القوة فينا، فعلينا أن ندرع بالصبر والإيمان دائما، لأنهما قوتنا، وعزتنا.
وقد علل الله سبحانه هزيمة الكفار بقوله تعالت كلماته: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أي سببًا لذلك التفاوت في القوة الذي كان مظهره التفاوت العددي، بأن
كانت العشرون الصابرة تعادل منهم، السبب في ذلك " أنهم قوم لَا يفقهون " أي لايدركون إدراكا ينفد إلى الحقائق، وإلى لب الأمور، فإنهم بذلك ضلوا، فلم ينفذوا إلى الحق فيؤمنوا به، ولم ينفذوا إلى إدراك قوة الحق فظنوا أنهم يغلبونه بالكثرة الكاثرة، ولا تغنيهم في الشديدة فتيلا، ولم ينفذوا إلى سبب الغلب، فغرهم الغرور.
3186
والله سبحانه وتعالى يعبِّر عن الجماعة التي يجمعها هوى " بالقوم " لأنه لا قوة لهم إلا كونهم قوما، جمعهم جامع من هوى أو غرور، وضلال.
ذكر الله تعالى مدى جهاد المؤمنين إن كانوا جمعا قد تحلى بالقوة التي ْقوامها الصبر والألفة، والعزة من الله، وقد ذكر قوتها إذا عراها ضعف، والضعف يكون بأن يعروها ما يناقض أسباب القوة.
فقال تعالى:
3187
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ... (٦٦)
كان هذا التناسب في العدد الذي ذكره القرآن من أن العشرين الصابرين فيهم كفاية لمائتين، كان ذلك في حال القوة المؤمنة، وتلك القوة تقوم على الاتحاد والائتلاف، وعلى قوة الإيمان بالنصر والتأييد من الله تعالى وعلى قوة العزم والتوكل عليه سبحانه، وعلى الرغبة في إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد، وفيه حياة، فمن كانوا على هذه الحال كانوا الأقوياء حقا وصدقا.
أما إذا كان الضعف فقد خفف الله النسبة؛ ولذا قال تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا).
وقوله تعالى: (خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ) فيه إشارة إلى أن التناسب العددي فيه تكليف بالثبات لما يناسبه من عدد، فالعشرون مكلفون أن يثبتوا أمام مائتين وقد ذكرنا أن ذلك مطلوب، إما بالقصد الصريح، أو بالتضمن وقد بين معنى القوة، فلنشر إلى معنى الضعف، وهو ألا يكون الائتلاف قويا، وألا يكون العزم صادقا وأن يكون فيهم ضعفاء الإيمان ومنافقون، وقد بدا ذلك واضحا في غزوة أحد، فقد كان في جيش تردد في الخروج من المدينة ابتداء، وكان في بعضهم ميل إلى المادة، وكان في بعضهم ضعفاء الإيمان، وكان فيهم منافقون، ولم يكن في بعضهم صدق، وكان الصادقون قوته؛ ولذا في أول الأمر همت طائفتان أن تفشلا، والله وليهما.
3187
ولذلك لم يكن النصر المؤزر كما كان في بدر؛ إذ لم يكن الأقوياء الذين غير بهم وجه القوة في البلاد العربية هذا هو الضعف، وذاك هو العزة، وخفف الله التكليف في تناسب العدد في حال الضعف، فجعل المائة تغلب مائتين. وقال تعالى في ذلك: (فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ مَابِرَة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أن التكليف يكون بأنه إذا كان مائة لَا يجوز أن يفروا من مائتين، بل عليهم أن يثبتوا، وإن كان ألف يجب أن يثبتوا أمام الألفين.
والتخفيف هو تخفيف التكليف، وتخفيف التكليف لَا يمكن أن يعد نسخا، وقد يعد ترخيصا من عزيمة وهي الأصل، ولم يقل: ألف صابرة، أي لم يذكر وصف الصبر، اكتفاء بذكره أولا، وذلك شأن الكلام البليغ موجز حيث يوجد ما يدل على المضمون.
وذكر المائة في مقابل المائتين، كما ابتدأ في الآية الماضية ذكر العشرين ابتداء، وذلك من التخفيف؛ لأن العشرين مع القدرة عدد مناسب للسرايا ونحو ذلك، فلا يرسل فيها إلا الأقوياء، ولا يرسل فيها من يكون فيه ضعف، إلا بعدد كثير، فكان ذكر المائة كحد أدنى، لجماعة فيهم ضعف.
ومع قلة التناسب في العدد في حال وجود الضعف، لَا يكون النصر بقوتهم الذاتية، إنما يكون النصر بإذنه أي بتوفيقه وتوجيهه، وهو لازم في كل الأحوال في حال القوة، وإن كان هناك ضعف، وصرح به هنا لأنه واضح بأنه من أسباب النصر، أو سببه في حال ما إذا كان ضعف.
ومن الناس من شغف بإثبات النسخ في القرآن فيفرضون النسخ لأوهى معارضة لفظية، كما فرضوا النسخ في آيات الصيام، ولا معارضة بين آياته، وكما فرضوا النسخ بين الآيتين، وكان المعنى بين الآيات واحدا يكمل بعضه بعضا، كذلك ادعوا النسخ هنا، فافترضوه لمجرد التخالف التقديري بين الآيتين، وادعوا أن الثانية ناسخة للأولى مع أنه لَا تعارض بين الآيتين، إن الأولى ذكرت ذلك
3188
العدد في حال القوة، والتآلف بين المؤمنين، والثانية خفف فيها العدد الأول لحال الضعف، والجهة منفكَّة بينهما.
وهكذا بيَّن أو مسلم الأصفهاني ونفي أن يكون النسخ بينها سيرا على مبدئه الذي انتهى إليه أنه لَا نسخ في القرآن قط، وأن القرآن ينسخ غيره، ولا ينسخ حكمه أبدا.
ولقد ادُّعي الإجماع بأن الثانية نسخت الأولى، ولكنه ليس إجماعا، ولكنه قول قيل، وقبله كثيرون من علماء الأصول وساروا في دراسة الموضوع في الآيتين على أن ثمة نسخا.
والحق أن الآيتين حكمهما خالد دائم إلى يوم القيامة، وهو أنه في حال القوة يكون العشرون كفء المائتين وفي حكم الضعف بالأسباب التي ذكرناها، أو بعضها - يكون المائة في مقابل مائتين.
ولقد قال تعالى في نصر المائة أمام مائتين، والألف أمام الألفين: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وفى الواقع كان نصر إنما هو بإذن الله، ولكن ذكر هنا، ولم يذكر في الآية الأولى للإشارة إلى أن الضعف والتخاذل لَا يكون معه نصر إلا إذا كان ثمة إذن الله، للحث على منع التخاذل والتنازع والتردد، واتقاء كل أسباب الضعف والله يؤيد من يشاء بغير حساب.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمعنى في ذلك: والله تعالى بجلاله وقوته وتأييده مع الصابرين، وهذه المعية السامية تجعل الصابر مطمئنا إلى النصر لَا محالة لسببين:
أولهما - أن الله معه، ومن يكون اللَّه معه تكون معه القوة كلها، فلا تقف أمامها قوة في الأرض فكيف يغلب، إنها تدرأ العجز، وتغلب القوة، بل يجعل من الضعف قوة فيكون النصر.
3189
ثانيهما - أن الصبر يقرب من الله؛ لأن فيه ضبط النفس عن الهوى، وعن الجزع يوم الفزع، والقرب من الله لشد العزائم، وتثبيت القلوب.
وإن الله تعالى يحب الصابرين، والمحبة أعلى من الراضي الذي هو أكبر الجزاء، فالمحبة أكبر من الرضوان.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦).
كانت غزوة بدر غزوة مباركة إذ انتصر فيها المسلمون قتلوا سبعين، وساقوا من المشركين سبعين أسيرا من كبار قريش، وكان المقتولون مثلهم من كبار قريش، وكان النبي - ﷺ - يميل إلى الإبقاء على الأسرى، سيرًا على سنته في الدعوة من أنه يريد الإيمان للمشركين مع حياتهم، ولا يريد قتلهم كافرين فما كان يحارب لأجل كفرهم، ولكن كان يحارب لتنفذ الدعوة وتستمر رجاء إيمان الإجماع، وذلك سبب الميل في إبقاء الأسرى.
والله تعالى عاتب نبيه لَا على إبقاء الأسرى، بل عاتبه لأنه أسر، وليست له قوة قاهرة مستمرة، عاتبه لأنه في أول واقعة التقى بهم، وأسر منهم، بل كان قتلهم في الميدان، وإثقالهم بالجراح وهو الإثخان، حتى تكون له قوة قاهرة قاصمة، ويأسر فَيَمُنَّ أو يفدى.
* * *
3190
الأسرى
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
* * *
كان النبي - ﷺ - يريد أن يستبقي المقاتلين من أعدائه رجاء أن يكونوا للحق أو أن يكون من ذريتهم من يعبد الله تعالى، كان يقول - ﷺ - في حروبه لقواده: " لأن تأتوني بهم مؤمنين، خير من أن تأتوني بنسائهم وذرياتهم سبايا مأسورين " (١).
فكان يحب الإبقاء على مقاتليه بدل إبادتهم، ولذا كان لَا يبيد الخسيس، فلما انهزم المشركون أسر منهم بدل أن يقتلهم، وقد كره سعد بن معاذ الأمر عندما وقع، وقد كان يحرس عريش النبي - ﷺ -، وذكر ذلك وقال للنبي - ﷺ -: إن هذه أول واقعة بيننا وبين المشركين فما أحب أن أأسر قبل أن نثقلهم بالجراح، وجاء القرآن الكريم بذلك النظر فقال تعالى:
________
(١) سبق تخريجه.
3191
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ).
3191
أي ما ساغ لنبي، أمره الله تعالى بالجهاد لجعل كلمة الله أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حتى يثقلهم بالجراح بحيث لَا يستطيعون أن يقفوا للحرب مرة ثانية، فالإثخان المبالغة في الجراح، حتى يثقلوا عن استئناف القتال، وتكون المعركة شافية لَا تبقى من باقية، وذلك حتى لَا يتجمعوا لكم من بعد في وقت قريب، كما فعلوا في أُحُد، وحتى لَا تُثقلوا أنتم بإطعام الأسرى، وقد يكون ذلك عليكم عسيرا، وإطعامهم لَا بد منه، ولذا يقول تعالى في أوصاف المؤمنين:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، ولكي يبد باب الخديعة والنفاق، كما حدث من بعض الأسرى.
لهذا كان النفي الذي يتضمن نهيا مؤكدا، عن أن يكون للنبي - ﷺ - أسرى، والآية كما تضمنت النهي عن أخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض، ويُثقل العدو حتى لَا يتحرك إليه عن قريب، لما نهى عن ذلك نهى عن أخذ الفدية، في حال عدم الإثقال؛ ولذلك قال تعالى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يرُيدُ الآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا بالمال تأخذونه، وقد برروا أخذ الفداء بأن يكون قوة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى يريد الآخرة، أي يريد ما يكون نصرا غالبا مؤزرا يؤدي إلى إرضائه سبحانه.
وقصة إشارة النبي - ﷺ - بالفداء كانت بشورى أشار بها بعض كبار المؤمنين الصديقين، وإليك الخبر كما جاءت به كتب السنة والسيرة في أصح أخبارها.
لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس فقال رسول الله - ﷺ -: " ما ترون في هؤلاء الأسرى "، فقال أبو بكر: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك؛ قدِّمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم.
فدخل رسول الله - ﷺ -، ولم يرد عليهم مسغيا، ثم خرج رسول الله - ﷺ - وقال: " إن الله ليلين قلوب رجال منه حتى يكون ألين من اللبن ويشدد قلوب
3192
رجال حتى تكون أشد من الحجارة، ومثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رحِيم)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَهُمْ عِبَادُكَ وَإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإَِّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
اختار النبي - ﷺ - أخذ الفداء، لأنه أرفق، ولأنه رأى فيه تقوية للمؤمنين، بالمال يأخذه منهم، وتقوية للمؤمنين بتعليم الأميين من الصحابة إذ كان من يقرأ ويكتب من الأسرى وليس معه مال، تكون فديته بتعليم بعض المؤمنين، ولقد مَنَّ على العاجزين عن الأمرين ممن رجا فيه خيرا.
نزلت هذه المعاتبة بعد ذلك، فبكى النبي - ﷺ -، وبكى معه صاحبه في الغار، وصدِّيق هذه الأمة، وقالوا: " إن القرآن نزل برأي عمر " (١).
ونحن نرى أن القرآن نزل برأي سعد بن معاذ، وروي أنه وافق سعدا الفاروق عمر، وعبد الله بن رواحة؛ لأن العتاب ابتداء ما كان متجها إلى أخذ الفداء، إنما كان متجها ابتداء إلى أخذ الأسرى قبل أن يثخن في الأرض، أما الفداء فلا لوم فيه، وقد جاء به القرآن في نظام الأسرى، فقال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
وهنا يسأل سائل لماذا لم يعلم الله رسوله الحق قبل أن يقع في الخطأ بدل أن يتركه يخطئ، ثم يعتب عليه والجواب عن ذلك أن حكمة الله تعالى في أقواله وأفعاله بالغة، فإن في ذلك تعليم لنا ومنع لغرورنا، إن هذا يبين أن هذا النبي
________
(١) البداية والنهاية: ج ٤، ص ١٠٤، وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسلم: الجهاد والسير - الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (١٧٦٣).
3193
المختار المصطفى إذا تُرك في أمر قد يقع في الخطأ والوحي ينزل، أو تعرض للخطأ، وإن كل إنسان عُرضة للخطأ، وإن العقل يعجز عن إدراك الحقائق كاملة، وبيان فساد حكم الطغاة الذين ينفردون بالحكم، ويحسبون أنهم لَا يخطئون، وبجوارهم فئة المنافقين الضالين المضلين الذين يأكلون السحت مما يتساقط من أموالهم التي هي سحت كلها، إن هذا رسول الله وسيد الخلق المصطفى إذا ترك من غير وحي في أمر تشريعي، كان عرضة للخطأ وقد أخطأ فكيف بكم أيها الطغاة الذين قمتم للشر وقام بنيانكم على الشر.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي أنه هو العزيز الذي أعطاكم العزة والرفعة في هذه، وجعل لكم قدرة على الأسر بعد أن كنتم قليلين مغلوبين يتخطفكم الناس في الأرض، وقد فعل ذلك بمقتضى حكمته.
ثم بين سبحانه أنهم معفوون من خطئهم، فقال تعالت كلماته:
3194
(لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
الآية كسابقتها في موضوع الأسرى وأخذ الفداء عنهم، وعتب الله على النبي - ﷺ - في شأنه وأخذ الفداء عنهم.
و" لولا " في قوله تعالى: (لَوْلا كِتَابٌ) حرف شرط امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، أي امتنع أن يمسكم عذاب عظيم بوجود كتاب سبق، والكتاب الذي سبق هو الذي عهد إلى بني آدم ألا يعذبهم حتى يبين، (فلا عذاب إلا إذا سبقه بيان)، وهو أيضا ألا عقاب على الخطأ في اللفظ كما قال النبي - ﷺ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (١)، والعهد أيضا لا عقاب على الخطأ في الرأي، وأن المخطئ في الاجتهاد له أجر، ومن له أجر في أمر ليس عليه عقاب فيه، فلا يجتمع الأجر والعقاب، فلوجود الكتاب كان العفو، وهذا الشرط وجوابه يومئ إلى أن أخذ أسرى هو في ذاته موضع مؤاخذة، ولكن
________
(١) سبق تخريجه.
3194
لم يكن العقاب لهذا الكتاب الذي أشرنا إليه، فالنص يومئ إلى أن أخذ الأسرى لولا ما حف به - لكان محل العقاب.
وعبر سبحانه وتعالى عن العذاب بقوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فعبر عن العذاب بـ (مسَّكم)؛ لأن عذاب النار يمس الجلد، ونكر العذاب ببيان أنه عذاب شديد، ووصفه بأنه عظيم، لأنه على قدر الذنب الموقع يكون العذاب، والذنب لو وقع كان في الحرب، والحرب إما هزيمة وانتصار، ويجب ألا يكون فيها تراخ، ولا أخذ بالهوادة، بل إنها أخذ بالصرامة والصرامة في الحرب تمنعها، ويرهبها الناس، فلا يقعون في أسبابها.
وقوله تعالى: (فِيمَا أَخَذْتُمْ) من المال يوهم أن أخذ المال وحده هو السبب في هذا العقاب، والحقيقة أن ذلك جزء من السبب وإن لم يكن جوهر السبب؛ لأن السبب الأصلي هو أخذ الأسرى، وتبع هذا الأخذ إن اختار النبي - ﷺ - أخذ الفداء تيسيرا عليهم، واستبقاء لهم عسى أن يتوبوا، وقد دخل في الإسلام أكثرهم واستمر على الكفر أقلهم، والتيسير في الدعوة مطلوب لقول النبي - ﷺ - للمجاهدين: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (١).
وقلنا: إن أخذ المال جزء من سبب المؤاخذة؛ لأن المؤاخذة هي على الأسر وما تبعه من أخذ الفداء أو إن شئت فقل إذا إن السبب أخذ المال في هذا الأسر الذي لم يسغ.
وقد قال الرازي: إن بعض المفسرين قال إن قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)، نسخت: (لَوْلا كِتَابٌ منَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) إلى آخرها، والحق أنه لَا نسخ، بل الآيتان متلاقيتان متضافران في الدلالة على معنى واحد وهو أنه لَا أسر إلا عند الإثخان، وإذا كان الأسر في موضعه ووقته، فالإمام يخير بين المَنِّ من غير فداء، والفداء بالمال، أو مبادلة
________
(١) سبق تخريجه.
3195
الأسرى كما بادل النبي - ﷺ - أسرانا بأسراهم، فتلك شريعة محكمة باقية خالدة لَا تغيير فيها ولا تبديل.
ولقد بين الله للنبي - ﷺ - أنهم كانوا في غناء بالغنائم عن أن يأخذوا فداء، ولذا قال:
3196
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
(الفاء) فاء الإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر، أي تقديره مأخوذ من حالهم عند أخذ الغنائم، والتقدير هكذا إذا كنتم تريدون تقويتكم بالمال، وما تأخذونه منكم، فعندكم الغنائم، ولذا قال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومعنى الأكل هنا الأخذ، كما في قوله تعالى: (وَلا تَأكلًوا أَمْوَالَكم بَيْنَكم بِالْبَاطِلِ)، أي لَا تأخذوه، وعبر عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل هو الأمر الضروري الذي يؤخذ لأجله المال ابتداء، فعبر عن الشيء بأهم مسبباته، وذلك من المجاز المرسل السائغ، كقوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِر خَمْرًا)، أي أعصر عنبا يكون سبب الخمر.
وقوله تعالى: (مِمَّا غَنِمْتُم) المراد بها الغنائم التي وزعت بحكم الله تعالِى في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأنَّ للَّه خُمُسَة وَلِلرَّسُولِ وَلذي الْقًرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ...) إلى آخر النص الكريم العادل، وعلى ذلك يكون المراد هذه الغنائم، وذكره (من) للدلالة على نصيب المجاهد منها، والمعنى على هذا ما كان لكم أن يكون لكم أسرى ولم تثخنوا في الأعداء، لتكون الغاية أن تأخذوا منهم ما تتقون به، فإنه يكفيكم ما تأخذون من الغنائم حلالا، لَا لوم فيه ولا عتاب، وإنه لكثير يغنيكم عما يكون فيه لوم أو عتاب تأخذونه من فداء الأسرى في أمر جاء في غير وقته ومن غير مبرراته.
وقال بعض المفسرين: إن النص لإباحة تناول الفداء باعتباره من الغنائم، واللوم في أصل الأمر، وإنا نرى أن الأظهر للأوضح الذي يتفق مع العتاب على أخذ الفداء مع الأسر، ويكون النص تأكيدا للعتب وتدليلا على وجوبه.
3196
ويقول الله تعالى بعد ذلك: (وَاتَّقُوا اللَّهَ....) أي اجعلوا بينكم وبين الوقوع في الحظور وقاية، فلا تفعلوا ما يغضبه. وارجوا رحمته ومغفرته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) أي كثير المغفرة يرحم الناس بمغفرته، وقد أكد سبحانه وتعالى مغفرته ورحمته، بصيغة المبالغة أو الصفة المشبهة في (غَفُورٌ رحِيمٌ)، وبالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) المؤكدة " اللهم اغفر لنا وارحمنا.
وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يتجه إلى الأسرى يرشدهم ويهديهم ويطيب نفوسهم، فيقول تعالى.
3197
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
يظهر أن ذلك العتب كان والأسرى لَا يزالون بالمدينة أو أكثرهم، وكانوا قد دفعوا الفداء؛ وذلك لأنه سبحانه أمر نبيه بأن يخاطبهم هذا الخطاب وعبر بأنهم لا يزالون في أيدي المسلمين أو بعضهم.
خاطب الله نبيه بأن يقول لهم كلمة رحيمة هادية تقرب القلوب، ولا تجفيها، قال سبحانه لنبيه: (قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى)، أي لَا يزالون تحت سلطانكم، وقريبين منكم (إِن يَعْلَم اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يؤْتكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكمْ) أي إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، وهو رجاء الإيمان منكم، أو قرب احتماله، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي يؤتكم إيمانا وأن تكونوا في صفوف جيش الله ومع المؤمنين، فيكون الإيمان، وهو خير مطلق، وفضل عميم ويؤتكم من خير الغنائم أكثر مما أخذ منكم.
وهذا تحريض على الإيمان، وقوله تعالى: (يُؤْتكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ) من غنائم غنمها المسلمون، ومن فدية افتديتم بها أنفسكم، وقد روت صحاح السنة أن ممن شملهم خطاب النبي - ﷺ - العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - ﷺ -. ويقول بعض المفسرين: إن الآية نزلت فيه، ونحن نقول: إنها تشمله فيمن كان معه من الأسرى الذي أخذت منهم غنائم في القتال، وأخذت فدية في الأسر، وقد عوض من الأمرين خيرا مما أخذ منه.
3197
روي عن العباس رضي الله عنه من طريق الزهري: بعثت قريش في فداء أسرهم، ففدى كل قوم أسيرهم، وقال العباس رضي الله عنه - وكان في الأسرى:
قد كنت مسلما، فقال رسول الله - ﷺ -: " الله أعلم بإسلامك فإن يكن كلما تقول فإن الله يجزيك، وأنا ظاهرك " (فقد كان علنيا وقد كان ممن ضمن طعام جيش مكة في بدر) فافْدِ نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، وعبد الله " قال: ما ذاك عندي يا رسول الله قال - ﷺ -: " فأين المال الذي دفعته أنت لأم الفضل؟ ".
قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي فيه لبَنيِ الفضل، وعبد الله، وقثم.
قال العباس: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك لرسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل.
فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مالي، فقال رسول الله - ﷺ -: " لَا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، ففدى نفسه وولدَي أخويه، وحليفه " (١).
وقد قال: عوضني الله عن أربعين أوقية أربعين عبدا في الغزوات، وأعطاني زمزم، وما أحسب أن لي بها جميع مالي، وهكذا عوض الله تعالى كل من آمن من بعد ذلك وغزا مع النبي - ﷺ - الغزوات فأصاب من خير وآتاه الله تعالى مع ذلك الإيمان والإخلاص، ومن قبل منهم في الجهاد، أعطى خيرا من كل هذا فضل الشهادة وإن فضلها لعظيم.
ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي أنه سبحانه وتعالى مع هذا العطاء المضاعف لما أخذ منكم يعطيكم شيئا غير قابل للتعويض وهو من فضل الله ورحمته وهو غفران ما أسلفتم من كفر وجحود ومعاندة لله تعالى، فهو الغفور الذي يغفر ما سبق بأبلغ درجات الغفران ويرحمكم أبلغ الرحمة.
________
(١) رواه أحمد: مسند بني هاشم - باقي المسند السابق (٣٣٠٠).
3198
هذا حال الأسرى إن آمنوا واستبدلوا بالكفر إيمانا، والأكثرون منهم كانوا كذلك، ومنهم من خانوا ما عاهدوا النبي - ﷺ -، فمن عاهد النبي - ﷺ - على ألا يدعو الجموع ضد، فمنَّ النبي - ﷺ - من غير فداء، فعاد ورفع عقيرته بالدعوة ضد النبي - ﷺ - وألب الناس عليه داعيا لأخذ الثأر؛ ولذا قال:
3199
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
الزمخشري لَا يعد الضمير يعود على الكفار الذين يخونون العهود في المستقبل، والذي خانوا عهد الله بارتدادهم، ويذكر أنه ربما يعود على الأسرى الذين عاهدوا النبي - ﷺ - على أن يكفوا ألسنتهم عنه فلم يكفوها وألبوا الناس، وهؤلاء خانوا.
ويلاحظ أن الله تعالى يقول: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ) أي وسوست لهم شياطينهم بالخيانة وأرادوها، فإن أرادوها فخذ حذرك وَلا تأس عليهم، فقد خانوا الله تعالى وكفروا به وأشركوا به الأوثان وهموا أن يقتلوك، فأمكن الله تعالى أهل الإيمان منهم، وأعلنوا بذلك كلمة الحق والإيمان.
وإن مضمون النص يجعلني أميل إلى أن الضمير لَا يعود على الأسرى، ولا يعود على من ذكر الإيمان وردده من المشركين وأظهروا أنهم يريدونه تقربا للمسلمين.
وإنما أميل إلى الذين جنحوا للسلم، وأمر الله نبيه أن يجنح ولا يمنعه أن يحاولوا خديعته؛ لأن الله حسبه، وفي هذه الآية بين الله تعالى لنبيه أنه يجب أن يستمر غير ملتفت لهم إن أرادوا خيانة بعد أن جنحوا للسلم، ولكن أرادوا خيانتك، وألا يهتم لخيانتهم في ذاتها، وألا يأسى على خيانتهم بعد أن جنحوا للسلم والله تعالى ينبه نبيه بأنهم إن أرادوا خيانتك بأن هموا بالانقضاض على المؤمنين، فإنهم قوم من طبعهم الخيانة فقد خانوا الله تعالى من قبل بأن عبدوا الأحجار والأوثان وهموا بأن يقتلوا الرسول، أو يحبسوه أو يخرجوه، وخانوا الله
3199
تعالى بخيانة أهله فلا تأس عليهم، والله من ورائهم محيط؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بخبايا نفوسهم، وما تحدثهم به خواطرهم، وبنزعات نفوسهم، وقد رتب لهم سبحانه ما يصلح لهم بمقتضى علمه وحكمته، فهو حكم من يضع الأمور في مواضعها، ويدبر لك بحكمته، فلا تخش وبالهم، والعاقبة للمتقين.
* * *
ولاية المؤمن للمؤمن وولاية الكافر للكافر.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
* * *
3200
المؤمنون أمة واحدة، وولايتهم واحدة، فلا ولاية للمؤمنين إلا من المؤمنين، ولن يجعل الله للمؤمنين على الكافرين سبيلا، وأكد الله تعالى هذه الوِلاية ومنع غيرها، فقال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)، وقد نهى الله تعالى عن كل مدارة للكافر يكون فيها نصرة له، وانتصار به، أو اتخاذه بطانة يعرف منها أسراره وخفايا أموره، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). وعندما هاجر النبي - ﷺ - كان المؤمنون فريقين مؤتلفين متوادين متحابين قد عقد النبي - ﷺ - المؤاخاة التي قد صارت سنة يجب اتباعها إلى اليوم.
ولقد أكد سبحانه وتعالى الولاية بينهم مع افتراق كقبائلهم وفخوذهم وبطونهم فقال تعالى:
3201
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) وصف الله المهاجرين بأنهم آمنوا إيمانا لقوا فيه الأسى والعذاب فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، وصبروا وصابروا، وبأنهم هاجروا، أي تركوا ديارهم وأسرهم وأموالهم وخرجوا من ديارهم وهي الحبيبة إليهم، فنالوا فضل الهجرة بترك الأحبة في سبيل الله، وما هاجروا للسياحة والراحة بل خرجوا ليحملوا مشقة أعظم مما يحملوا، ولذا قال تعالى فيهم: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جاهدوا الهوى في النفس والركون للراحة، وحملوا السيوف مقاتلين في سبيل الله، وبذلوا أموالهم التي كسبوها بكدهم من كسبهم بعد الهجرة بعد أن فقدوا أموالهم التي كسبوها قبل الهجرة، وكان من هؤلاء من يخرج من كل ماله لله ورسوله، ومنهم من يحمل من ماله نفقات جيش، كما حمل عثمان نفقات جيش العسرة.
وكل ذلك في سبيل الله تعالى لَا يرجون إلا ما عند الله، وهؤلاء أولياء لمن يماثلون خيرا، وهم الذين آووا ونصروا وتحلوا بما تحلى به إخوانهم المهاجرون،
3201
فآمنوا الإيمان الكامل، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم فضل الهجرة، فقد عُوِّضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
هؤلاء الأطهار قرر الله تعالى أن بعضهم أولياء فقال سبحانه وتعالى في خبر (إنَّ) (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين، والأنصار فقد اجتمعت فيها المودة، فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار وجمع الجهاد معنى النصر، والتعاون بالجهاد في سبيل الله، وإن هذه الولاية كانت تتضمن مع ما ذكرنا معنيين آخرين:
أولهما - أنهم يقتسمون الغنيمة بالسوية على النظام الذي قرره الله تعالى في الغنائم، لَا فضل لأنصاري على مهاجري، ولا فضل للمهاجر على الأنصاري، ولما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم، وجد بعض الأنصار، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: " إنها لعاعة (١) مال تألفت بها قلوب قوم، وتركتكم لدينكم "، ودعا للأنصار دعوة ختمها بأنه من الأنصار لولا الهجرة، " ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ".
ثانيهما - أن هذه الولاية التي كلَّلها رسول الله بالمؤاخاة كانت تثبت الميراث بين المهاجرين والأنصار إذا مات أحدهما من غير قريب مسلم، فالمؤاخاة تثبت الميراث، كأنها تحل محل بيت المال.
________
(١) اللُّعاعة: البقية اليسيرة من الشيء، ونص الرواية عند أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (١١٣٢٢).
3202
هذه الولاية بين المهاجرين والأنصار، والإيمان وحده من غير هجرة يوجد ولاية الإيمان لَا موجد ولاية قسم الغنيمة والميراث بالمؤاخاة؛ ولذلك نفي هذا النوع من الموالاة عن الذين يؤمنون ولم يهاجروا نعمة الجهاد المشترك بين المهاجرين والأنصار ونعمة المؤاخاة؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا).
عندما شاع أمر الإسلام، وذاع في البلاد الربية مع استمرار الدعوة والجهاد قد آمن ناس ولم يهاجروا وقد رغب الإسلام في هجرتهم، ليكثر بهم جمع أهل الإيمان، وليكون الجهاد متكاملًا أمام أهل الشرك، ولكي لَا يستضعف المشركون يستخذي المؤمنون لقلتهم وضعفهم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧).
وقد ذكر الله تعالى في هذه مقدار ولايتهم، وهي ثابتة لأنها ولاية الإيمان، ولكن لَا تكون لهم ولاية قسمة الغنيمة، ولا الولاية التي تثبت بالإخاء، ولذا قال تعالى: (مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء) أي ليس لكم من ولايتهم في الغنائم أي شيء وهذا النص يومئ إلى أنه يحسن بهم أن ينضموا لجماعة المؤمنين ويتناصروا.
ولقد جاء في تفسير الحافظ ابن كثير ما نصه: كان رسول الله - ﷺ - إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا ديارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى
3203
الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا - أي الإسلام - فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا - أي الإسلام والجزية - فاستعن بالله وقاتلهم " (١).
هذه رواية مسلم، وظاهر أن الولاية المنفية هي ولاية الاشتراك في قسمة الغنائم وما يترتب على الإخاء، أما الإيمان فولايته قائمة ثابتة وهي ولاية النصرة، ولذا قال تعالى:
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ).
إن هذه ولاية الإيمان وهي توجب النصرة على أساس أن المؤمنين جميعا إخوة، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠).
فحيثما كان المؤمن فهو في ولالة المؤمنين مهما تختلف الديار، وتتباعد الأقطار، ولذلك إذا استنصر المؤمن؛ أي طلب النصر - وجبت نصرته، فالسين والتاء للطلب أي طلب النصرة، في دفع عدوٍّ دَاهِم، أو في حرب عادلة؛ ولذا قال تعالى: (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) والاستجابة لطلبه، وقد استثنى الله حالا واحدة، وهي أن يكون ثمة ميثاق، أي عقد موثق بمواثيق الله تعالى، وميثاق وزن مفعال من (وثق)، فأصله (مِوْثاق) قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، والمعنى عليكم النصر، أي فإن دعوكم فعليكم الإجابة إلا أن يكون النصر الذي تنصرونهم فيه يكون على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أي لَا تنصروهم على قوم لهم ميثاق، ولكن يجب أن تدفعوا عنهم كل من يعتدى عليهم، ولو كان بينكم وبينهم ميثاق، لأنهم ينقضون الميثاق بمجرد أن يعتدوا على مؤمنين، فلا عهد مع الاعتداء على أهل الإيمان.
________
(١) مختصرا من حديث طويل رواه مسلم: الجهاد والسير تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته (١٧٣١)
3204
وإذا كان في المؤمنين غير المهاجرين ضعف، واستضعفهم أعداء الإسلام أيان كانوا، وجبت نصرتهم، ويقول في ذلك ابن العربي في تفسيره في أهل الميثاق إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد، حتى تتم مدته إلا أن يكونوا - أي المسلمون - أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لَا تبقى منا عين تطرف، حتى تذهب إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو ينزل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد منا درهم.
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي أن الله العلي الكريم الغالب على كل شيء مطلع كما يطلع ذو البصر على ما تعملون، ومكافئكم عليه، وقدَّم " بما تعملون " على " بصير " لمزيد الاهتمام، والحساب على مقتضى علمه سبحانه وتعالى بما يعملون.
هذه حدود ولاية المؤمنين، ولقد ذكر سبحانه وتعالى ولاية الكفار بعضهم مع بعض، وعدم ولايتنا معهم، فقال تعالى:
3205
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣)
إذا كان المؤمن لَا يوالي إلا مؤمنا، ولا تكون له المحبة والولاية إلا لمؤمن مثله، فلا تكون ولايته لغيره، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أنهم لا يكونون إلا أولياء لأنفسهم، فالمسلمون ولايتهم للإسلام، والكفار لَا يتولون ولا يصح لمسلم أن يتولاهم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، والولاية هنا النصر، أي أن الكافر نصير الكافر، ولا يصح أن ينصر المسلم الكافر، والنص يتضمن ذلك المعنى، أي أنه لَا تناصر بين المسلم والكافر، ولا تناصر إلا بين الكافر والكافر.
وقوله تعالى: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) الضمير هنا يعود على التناصر بين المسلم والكافر بأن يستنصر المسلم بالكافر أو ينصر المسلم، ونفيه مفهوم ضمنا من
3205
اختصاص الولاية للمؤمن بأن تكون مع مؤمن، واختصاص الولاية للكافر بألا تكون إلا لكافر، و (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) هي " إنْ " المدغمة في " لا " النافية، ففعل الشرط (لا تفعلوه)، ومعنى إلا تفعلوه أي إن لَا تتقوا تناصركم معه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والمعنى إن كنتم تتناصرون بهم فتستنصرون بهم وتنصرونهم تكن فتنة في الأرض وفساد، لأن نفي النفي إثبات، ومؤدى ذلك: إن كنتم لا تتباعدون عن المناصرة فيهم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وذلك حق؛ لأن أقبح الفتنة أو أشدها أن يكون ولاء المؤمن للكافر، بأن يكون للولي ناصرا، ومستنصرا فإن ذلك يفتن المسلمين عن دينهم، ويجعلهم في ولاء للكافرين، والله تعالى يقول: (لا تَتَوَلَوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ)، فتوفيهم فتنة تفتن المؤمن عن دينه وفي خلقه، وتجعل تعاونه مع الكفار، وفيه فساد كبير ففيه قوة للكفر، وضعف للإيمان وأي فساد أكبر.
وإن الفساد الذي أصاب المسلم الآن، والفتنة التي يموج فيها المؤمنون، إنما هي من ولاء المؤمنين للكافرين كما ترى ذلك في ساسة المسلمين منذ ضعفوا، فقد ازدادوا ضعفا بهذا الولاء، وكان أمر المسلمين إلى بوار، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦).
3206
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)
جمع الله تعالى في هذه الآية الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هَدْي الرسول - ﷺ - قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت وتلقت الصدمة الأولى من المشركين، ويقول - ﷺ -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (١)، فهم الذين
________
(١) سبق تخريجه.
3206
تلقوها من عتاة المشركين الذين قابلوا أهل الحق بالأذى من أمثال أبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة فرارًا بإيمانهم، ومنهم من هاجر إليها مرتين، وهم الذين لاقوا العنت، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، ومنهم من اضطروه تحت العذاب أن ينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من مات بعض أسرته تحت حر العذاب.
ثم في آخر الأمر هاجروا إلى المدينة، فاستقبلهم إخوانهم بالترحاب وآووا ونصروا.
والأنصار هم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداء، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة، وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد - ﷺ - في ديارهم وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداء بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها، ولذا قال تعالى:
(أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).
الإشارة إلى السابقين، والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقا، أي إيمانا ثابتا صادقا حقا تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم.
3207
وفى الكلام قصر، أي من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقا، أي لَا يؤمنون حقا غيرُهم، ومن هم على صفاتهم، وفيهم قوة الإيمان مثلهم، أي ذلك هو الإيمان حقا وصدقا (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
ولقد كرر الله تعالى الثناء على المهاجرين والأنصار في كثير من محكم آياته، من ذلك قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ..).
ويقول تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ...).
وقال تعالى في توزيع ما أفاء الله على رسوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
وهكذا ترى قوة الإيمان، والجهاد ونصرة الرسول، والإيثار فكانوا بذلك المؤمنين حقا وصدقا، وقد ذكر الله تعالى ما كتب من خير في الدنيا والآخرة، بعد أن ذكر أنهم المؤمنون حقا، قال: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهذا يتضمن جزاءين:
أولهما - المغفرة السابقة ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.
3208
ثانيهما - رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها والله واسع هذا شأن المهاجرين الذين آمنوا والذين آووا ونصروا، وقد ذكر بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال تعالى:
3209
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين، ويحكم الرِّتاج على من بعدهم، لَا بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقا، ولهم مغفرة ورزق كريم (١).
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي من بعد نزول هذه الآيات الكريمات، ويفعلون فعل من سبقوهم فيهاجرون ويجاهدون معكم لَا فرق بينكم وبينهم في الميدان فأُولئك منكم، ومثل هؤلاء أبو موسى الأشعري، ومن معه من الأشعريين، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ) أي أولئك يصيرون جزءا منكم لهم حكمكم، ولهم ثناؤكم، لا تعلون عليهم لأنهم منكم، فالمهاجر الأول والذين آووا ونصروا لهم فضلهم، ويلحق بهم في الفضل والثناء والجزاء من آمنوا من بعد وأبلوا مثل بلائهم، ولم
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ.. رواه أبو داود: الجهاد - في سكنى الشام (٢٤٨٢)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٨٣٢).
3209
يتخلفوا عنهم في الفضل وإن تخلفوا في الزمن، وهو لَا حساب فيه عند الله ما دام الإيمان والجهاد والهجرة قد تحقق فيهم.
هذا ولاء المؤمنين بعضهم مع بعض، وكهدي القرآن لَا يمحو ولاء الفطرة ولا يمحو الولاء العام، ولاء الأسرة لأنه يدعمه ويقويه، ولذلك جاء ولاء الأسرة بعد الولاء العام، فقد قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ).
أي في حكم كتاب الله تعالى، ومقررات الإسلام الثابتة، فالأسرة لَا تفنى بجوار الإيمان ولكن تقوى دعائم المجتمع الإسلامي.
3210
(سُورَةُ التَّوْبَةِ)
تمهيد:
وهي مدنية وعدد آياتها ١٢٩ ويقولون إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان.
وفى المصحف أنها نزلت بعد المائدة، ولكن الثابت أن آية (... الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا...)، نزلت في عرفة في حجة الوداع، وأن براءة نزلت في حجة الصديق رضي الله عنه، وصلى بها علي بن أبي طالب، فهي قبل المائدة، وقالوا: إنها نزلت في تبوك، وفيها أخبار المسلمين والمنافقين في هذه الغزوة مما يدل على أنها مقارنة لها في الزمان، وتسمى " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى " البَحُوث؛ لأنها بحثت أسرار المنافقين وكشفتها، ولم تبدأ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كغيرها من السور.
وقالوا في ذلك: إن الصحابة لم يفصلوا بينها وبين سورة الأنفال بالبسملة، وذلك لأن القرآن الكريم كتب ما كتب فيه بالتوقيف لَا بالرأي، ووضعت آياته وسوره بالتوقيف، وقد اتبع زيد بن ثابت والجماعة الذين كانوا معه ما رسمه رسول الله - ﷺ - من سوره ونزل عليه من آياته ووضع كل آية في موضعها من سورتها، ولم يضع " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بين الأنفال وبين براءة، والكتابة سنة متبعة ثابتة بالتوقيف، هذا لَا مجال للريب فيه فقد ثبت بالتواتر.
وقالوا في الحكمة في عدم كتابة البسملة: فمنهم من قال إن البراءة امتداد للأنفال فموضوعهما في الحرب والعهود، وتلك حكمة واضحة بينة، وقال بعضهم إن الرحمة والسلام اللذين تدل عليهما البسملة، لَا يتناسبان مع ما اشتملت سورة براءة من نقض للعهود، وتهديد بالحروب، وكشف للنفاق.
3211
ونحن نرتضي التعليل الأول؛ لأن الحرب بكلِ صوِرها ما دامت إسلامية عادلة، فهي رحمة بالناس، (... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...).
والسورة الكريمة قد اشتملت على العهود الموثقة، ونقض المشركين لها والبراءة ممن ينقضونها، وبيان أن الجهاد سياحة المؤمن، كما صرح الرسول - ﷺ - (١) ولذا قال في الفراغ من الجهاد (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر...)، وإعلان البراءة من الشرك وأهله، وأوجب سبحانه مع هذه البراءة الوفاء للمشركين الذين لم ينقصوكم شيئا من عهودكم.
وإن القتال محرم في الأشهر الحرم، فإذا انسلخت كان القتال لغير أهل العهد، وتتبع المشركين في كل مكان، وكل ذلك مع ملاحظة النجدة، وإجارِة من يريد الجوار، وقال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦).
ثم بين سبحانه أنه لَا يصح الاعتماد على عهود المشركين، لأنهم لَا يبرون بعهودهم، واستثنى سبحانه الذين تفرض فيهم الاستقامة على أحد الاحتمالين، ولذا قال تعالى: (... فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ...).
وإن استقامتهم المفروضة تكون والمسلمون أقوياء (... وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً...)، وإن ماضيهم ينبئ عن حاضرهم إذ كانوا يصدونكم عن المسجد الحرام.
وأنهم إذا تابوا فإخوانكم في الدين، وإن أستمروا على الكفر ونكثوا الأيمان فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لَا أيمان لهم، وأمر سبحانه وتعالى وقد استمروا على عداوتهم والنكث على عهودهم أن على المؤمنين أن يقاتلوهم، وقال تعالى:
________
(١) عَنْ أبِى أمَامَةَ أن رَجُلا قَالَ: يَا رَسولَ اللَّه ائْذَنْ لِى فِى السًيَاحَة، قَالَ النَبِى - ﷺ -:. إِنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ". رواه أبو داود: الجهادَ - النهي عن السياحة (٢٤٨٦).
3212
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤).
وإن هذا الخزي يذهب غيظ قلوبهم، والهزيمة تجعله يتبدد. وإن الجهاد فريضة محكمة يعلم الله تعالى به المجاهدين علم واقع يرونه.
بعد ذلك اتجه سبحانه وتعالى إلى عمَّار البيت المشركين وبيان أنهم ليس لهم
أجر؛ لأن عمارة المساجد شرطها الإيمان (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨).
وذلك إشارة إلى عمارتهم المساجد، فإنه لايفيدهم ما داموا مشركين، ولذا قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاج وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
بعد أن بين الله أنه لَا يستوي المؤمن والكافر. بيَّن جزاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم.
ثم بيَّن سبحانه أن هؤلاء يجب أن يكونوا لله سبحانه وتعالى، فبين أنه يجب عليهم ألا يتخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء من دون الله إن استحبوا الكفر على الإيمان، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤).
وذكَّرهم سبحانه وتعالى بنصرهم في مواطن كثيرة، وذكَّرهم سبحانه بيوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغنِ عنهم شيئا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت،
3213
ثم ولوا مدبرين (ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنودًا لَّمْ تَروْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).
قد كسرت الأصنام، ولكن كان المشركون يدخلون المسجد، فأمر الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨).
وقد أمر سبحانه من بعد ذلك بقتال الكافرين سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم - مشركين حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وبيَّن أن اليهود قالوا عزير ابن الله فكانوا كالمشركين، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله فكانوا مثل المشركين في أن أشركوا في عبادة الله المخلوقات.
وزادوا بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم وسائط في العلمِ عن الله فاتخذوهم أربابا، (... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدَا لَا إِلَهَ إِلَّا هُو سُبْحَانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وبين سبحانه مساوى الأحبار والرهبان في أكلهم أموال الناس بالباطل.
ثم ذكر سبحانه مآل هؤلاء يوم القيامة: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥).
بعد ذلك ذكر سبحانه عدة الشهور وهي اثنا عشر منها أربعة حرم، لَا يحل فيها القتال لأنها أشهر الحج أو الانتقال إلى بيت الله الحرام، وكذلك العُمرة، وهي ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب (مُضَر) الذي بين جمادى وشعبان فهو شهر عمرة مُضَر. فأُلحق بأشهر الحج.
وحرم الله تعالى النسيء (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ...) وإن ابتداء الحرب في الأشهر الحرم لَا يجوز، ولكن إذا كان القتال (... فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦).
3214
بعد ذلك أمر الله تعالى بالقتال، ولامهم على التثاقل عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨).
وبين سبحانه وتعالى عذاب من لَا ينفرون في سبيل الله فإنه يستبدل قومًا غيرهم، وبيَّن أنهم إن لم ينصروا النبي - ﷺ - فإن الله ناصره: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) وصرح الله تعالى بوجوب النفور إلى القتال خفافا وثقالا.
بعد ذلك أشار الله سبحانه وتعالى إلى تخذيل المنافقين للمؤمنين كما فعلوا في غزوة تبوك، فقد عوَّقوا وخذلوا، ولم ينفروا مع المؤمنين وقال تعالى في ذلك:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢).
ولقد عفا الله جل جلاله عن نبيه أن أذن لهم بالتخلف، ولو لم يأذن لتبين نفاقهم (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥).
وأخذ سبحانه وتعالى يبين أحوال المنافقين فهم لنفاقهم وريبهم لم يستعدوا للقتال، وأن الله كره انبعاثهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، وإن قعودهم فيه خير لأهل الإيمان: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ
3215
الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩).
إنهم يخذلون النبي فيأمر الله نبيه بأن يقول لهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١).
وبين الله تعالى لنبيه أنهم يتربصون للمؤمنين الموت والخذلان (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢).
وقد منع الله نبيه أن يقبل منهم نفقة في حرب؛ لأن مالهم سحت، ولا يجدي في الحرب إلا المال الطيب الذي ليس فيه خبيث، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)، َ وبين سبحانه وتعالى حالهم في أيمانهم الكاذبة، ويبين أنهم يخافون ويفرقون، (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧).
وإن منهم لمن يعرض بالنبي في الصدقات ليعطي منها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩)،
ولقد بين الله سبحانه وتعالى مصارف الصدقات فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠).
ولقد كان المنافقون يؤذون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكل أنواع الأذى، فكانوا من إيذائهم قولهم: (... أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١).
3216
ومن اختلاق المنافقين الكذب أنهم يحلفون ليرضوا المؤمنين، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، يحادون الله ورسوله ومن يحاد الله فله نار جهنم، هم يرون أدلة قائمة ويعلمونها، ولكن لَا يذعنون للحق إذا تبين لهم، ويحذرون أن تنزل سورة تخبرهم بما في قلوبهِم، (... قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥).
وقد ذكر سبحانه وتعالى ضلال المنافقين وأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
ثم بين الله تعالى العذاب الشديد الذي يلقاهم، وأنهم كالذين من قبلهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم وخاضوا في الفتن كما خاضوا، ثم بين لهم العبرة في قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيم وأصحاب الأيكة والمؤتفكة أتتهم رسلهم بالبينات، ونزل بهم ما نزل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم بين سبحانه وتعالى علاقات المؤمنين في مقابل علاقات الكافرين وِالمنافقين فقال: (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١).
وبين من بعد ذلك ما وعد الله به المؤمنين من جنات ونعيم خالدين فيها ورضوان من الله أكبر وذلك هو الفوز العظيم.
وأمره الله بأن يجاهد هؤلاء المنافقين والكافرين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣).
ولقد كان المنافقون يفترون على النبي - ﷺ - ويثيرون الفتنة بالقول على المؤمنين، (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤).
3217
وبيَّن سبحانه وتعالى أخلاق النفاق، إذ يعاهدون الله لئن آتاهم من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به، وتولوا وهم معرضون، وبذلك زادوا نفاقا لأن نفوسهم تمرست به.
وإن أولئك المنافقين حياتهم سخرية بالمؤمنين، فالذين يطوعون أنفسهم في الجهاد والذين لَا يجدون إلا جهدهم يلومونهم، ويسخرون منهم، ولقد كان النبي - ﷺ - ككل رسول يطلب لهم الهداية، وككل قائد يستغفر لهم لكي يقربوا بدل أن تبعد نفوسهم. ولكن الله تعالى بين أنه لن يغفر الله لهم (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠).
وإذا خرج النبي لجهاد عام، كما في غزوة تبوك تخلفوا وفرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، (... وقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشدّ حَرًّا لَّوْ كَانوا يَفْقَهُونَ).
بعد ذلك كشف الله أمر النفاق وأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (... لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤).
وإنهم كلما نزلت سورة تدعو إلى الجهاد (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧).
وقد بين الله سبحانه وتعالى حال الرسول والذين معه يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبيَّن حكم ذوي الأعذار فقال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى
3218
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢).
وقد بيَّن بعد ذلك أن الذي يؤاخذ الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم فهم لَا يعلمون (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤).
ومن مظاهر النفاق كثرة الحلف ولذا قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦).
بعد ذلك بيَّن الله تعالى أحوال الأعراب، وهم الذين وجد المنافقون فيهم مرتعا خصبا، فذكر أنهم (... أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨).
وقد أنصف الله تعالى بعض الأعراب وهم الذين آمنوا، (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩).
وقد ذكر سبحانه وتعالى السابقين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا دعامة الإسلامِ وقوته (... رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠).
عاد سبحانه وتعالى إلى حديث المنافقين فذكر أن أكثرهم حول المدينة وفي المدينة الذين مردوا على النفاق وتربوا عليه، وعلىٍ رأسهم عبد الله بن أُبي (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
3219
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢).
وقد أمر الله تعالى بعد ذكر المنافقين أن تؤخذ الزكاة، فهي كاشفة النفاق، ونماء المؤمنين وطهارتهم. ثِم فتحِ باب التوبة للآثمين وحث على العمل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥).
وبيَّن سبحانه وتعالى أن من الذين خوطبوا بالدعوة مرجون لأمر الله إما أن يعذبهم دماما أن يتوب عليهم والله عليم حكيم، وأن المنافقين الذين حول المدينة قد اتخذوا مسجدا يتلقون المعلومات من أعداء الله والرسولِ، والذي سمي مسجد الضرار، وقال الله تعالى فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠).
وبعد هذه الآيات التي ذكرت المنافقين، ومن يدورون حول فلكهم، ومن يتقربون منهم - ذكر الله تعالى المؤمنين الصادقين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (... يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أوصافهم البرة، فقال سبحانه:
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢).
3220
وقد ذكر الله تعالى أنه ما كان لنبي أن يستغفر للمشركين، ولو كانوا أُولي قربى، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، وإن الذين اهتدوا ما كان الله ليضلهم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم.
وقد بيَّن سبحانه سلطانه في ملك السماوات والأرض، ثم بين سبحانه توبته على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمهاجرين الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم.
وكان من المؤمنين الصادقين من تخلفوا في غزوة تبوك من غير عذر من الأعذار التي ذكرها القرآن فرباهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو خير المربين - بالإعراض عنهم حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لَا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.
وقد أمر الله المؤمنين الصادقين بأن يلتزِموا. وقد وضع سبحانه وتعالى مبدأ ثانيا مقررا فقال: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١).
وإن الله خفف على المؤمنين بألا ينفروا جميعا، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ثم أمر بجهاد الذين يلونهم من الكفار؛ لأنهم يحادونهم فقال: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
3221
وقد ميز الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين عند نزول آيات الله تعالى فقال سبحانه: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦).
يقول سبحانه في المنافقين (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧).
وختم الله تعالى السورة بأنها رحمة في جهادها، وكشف المنافقين بهاتين الآيتين اللتين قيل عنهما أنهما نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)
3222
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
* * *
3223
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند