تفسير سورة العصر

التفسير المنير
تفسير سورة سورة العصر من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

رسالة الحياة أو حال المؤمن والكافر
[سورة العصر (١٠٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)
الإعراب:
وَالْعَصْرِ قسم، وجوابه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ والمراد بالإنسان: الجنس، ولهذا استثنى منه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وَتَواصَوْا أصله «تواصيوا» إلا أنه تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفا، فاجتمع ساكنان: الألف والواو بعدها، فحذفوا الألف لالتقاء الساكنين.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ أي الناس بدليل الاستثناء، فهو إطلاق البعض وإرادة الكل.
لَفِي خُسْرٍ التنكير للتعظيم، أي في خسر عظيم.
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إطناب بتكرار الفعل، لزيادة العناية به.
وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ بعد قوله: بِالْحَقِّ خاص بعد عام، فإن الصبر داخل في عموم الحق، إلا أنه خصصه بالذكر للاهتمام به بعينه.
الْعَصْرِ، بِالصَّبْرِ، خُسْرٍ سجع عفوي غير متكلف، وهو من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
وَالْعَصْرِ والدهر، أقسم اللَّه به لاشتماله على الأعاجيب، وقيل: صلاة العصر، أو وقت العصر من بعد الزوال إلى الغروب. إِنَّ الْإِنْسانَ جنس الإنسان فالتعريف للجنس.
خُسْرٍ خسارة أو خسران في تجارته، والتنكير للتعظيم. والخسارة: النقصان وضياع رأس المال. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة الدائمة، فليسوا في خسران.
392
بِالْحَقِّ وهو الشيء الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل، أو هو ما أرشد إليه دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شرع صحيح جاء به نبي معصوم.
والتواصي بالحق: أن يوصي الناس بعضهم بعضا بما لا مجال لإنكاره من إيمان وخير وفضيلة.
بِالصَّبْرِ قوة في النفس تدعو إلى احتمال المشقة في العمل. والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا به، ويحث الواحد غيره عليه.
وقد اكتفى سبحانه ببيان سبب الربح دون الخسران لأنه المقصود، وما عداه يؤدي إلى الخسران والنقص.
التفسير والبيان:
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي قسما بالعصر وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس لما فيه من العبر وتقلبات الليل والنهار، وتعاقب الظلام والضياء، وتبدل الأحداث والدول، والأحوال والمصالح، مما يدل على وجود الصانع عزّ وجلّ وعلى توحيده وكمال قدرته، أقسم بذلك على أن الإنسان في خسارة وهلاك ونقص وضلال عن الحق، في المتاجر والمساعي، وصرف الأعمال في أعمال الدنيا، إلا من استثناهم اللَّه فيما يأتي. وإقسام اللَّه بالدهر دليل على شرفه وأهميته، لذا
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا تسبّوا الدهر، فإن اللَّه هو الدهر».
والآية كما ذكر الرازي كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة.
وقيل: المراد بالعصر: صلاة العصر، أو وقتها تعظيما لها، ولشرفها وفضلها، ولهذا فسّر بها الصلاة الوسطى عند كثير من العلماء. وفيه إشارة إلى أن عمر الدنيا الباقي هو ما بين العصر إلى المغرب، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خسران فيها، فإن الوقت قد ضاق، وقد لا يمكن تدارك ما فات.
والمراد بالإنسان: الجنس، واللام لام الجنس وهو الراجح. وقيل: اللام في الإنسان لمعهود معين، كما روي عن ابن عباس أنه أراد جماعة من المشركين
393
كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطّلب. قال أبو حيان:
والعصر، والإنسان: اسم جنس يعم، ولذلك صح الاستثناء منه.
ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان باللَّه والعمل الصالح، فإنهم في ربح، لا في خسر لأنهم عملوا للآخرة، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، فآمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم).
وإلا الذين وصّى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره: وهو الإيمان باللَّه والتوحيد، والقيام بما شرعه اللَّه، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله، أو هو أداء الطاعات، وترك المحرّمات. قال الزمخشري: وهو الخير كله، من توحيد اللَّه وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض اللَّه، وعن معاصي اللَّه، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات، واجتناب المنكرات، وتحمل المصائب والأقدار، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت السورة على ما يأتي:
١- الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير، فهو في خسارة محققة، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا.
٢- أقسم اللَّه تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان، لما فيه من التنبيه
394
بتصرف الأحوال وتبدّلها، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان.
والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء، فقال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا، يحمل على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان.
وقال الشافعي: يبرّ بساعة، إلا أن تكون له نية، أو يفسره بما يحتمله، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر.
٣- حكم اللَّه تعالى بالوعيد الشديد لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
فدلّ ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وعناصر الإيمان ستة:
أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المعاصي، وفعل الخير.
والتواصي بالحق: أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت، ويحث بعضهم بعضا على توحيد اللَّه، والعمل بالقرآن، والدعوة إلى الدين والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي اللَّه عنه:
رحم اللَّه من أهدى إلي عيوبي.
والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة اللَّه عزّ وجلّ، والصبر عن معاصيه، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن.
٤- قال الإمام الرازي رحمه اللَّه: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي «١».
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٩٠
395

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الهمزة
مكيّة، وهي تسع آيات.
تسميتها:
سميت سورة الهمزة لبدئها بقول اللَّه تبارك وتعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ والهمزة: الذي يغتاب الناس ويطعن بهم بقول أو فعل أو إشارة، واللمزة: الذي يعيب الناس بإشارة الحاجب والعين. قال ابن عباس:
الهمزة: المغتاب، واللمزة: العياب.
مناسبتها لما قبلها:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى في السورة المتقدمة أن جنس الإنسان في خسران ونقص وهلكة، أبان في هذه السورة حال الخاسر وأراد به تبيان الخسران بمثال واحد.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية في علاج مشكلة خلقية مستعصية بين الناس وهي الطعن في الآخرين بالغيبة أثناء غيابهم، أو بالعيب حال حضورهم.
وقد بدأت بالإخبار عن العذاب الشديد لكل عيّاب طعّان للناس، ينتقص الآخرين ويزدريهم ويسخر بهم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [١].
ثم ذمّت السورة الذين يحصرون على جمع الأموال في الدنيا، كأنهم مخلدون فيها: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ... [٢- ٣].
396
وختمت بردع الفريقين السابقين، وأنبأتهم بمصيرهم الأسود وهو النبذ في الحطمة: نار جهنم.
سبب نزولها:
قال عطاء والكلبي والسّدي: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وبخاصة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وروي أيضا أن أمية بن خلف كان يفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق والسهيلي: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف «١». وقد روى ذلك ابن جرير عن عثمان وابن عمر.
قال أبو حيان: ونزلت في الأخنس بن شريق، أو العاص بن وائل، أو جميل بن معمر، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف: أقوال، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف».
وعلى هذا فاللفظ عام، وإن كان في الأصل يشير إلى شخص معين، وكذلك قوله تعالى في سورة ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ..
[١٠- ١٥]، فإنه سبحانه تابع في سرد الصفات حتى علم أنه يريد في الأصل إنسانا بعينه.
والقاعدة العامة عند المحققين والأصوليين: أن خصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ.
وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن، وهو حكاية أقوال الجاحدين.
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٩١
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٥١٠
397
Icon