تفسير سورة الإسراء

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
سورة الإسراء سورة مكية، وعدد آياتها ١١١ إحدى عشرة ومائة آية، وقد قيل : إنها مكية نزلت بعض آياتها بالمدينة وهي قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( ٨٥ ) ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ( ٧٣ ) ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وقل جاء الحق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) ﴾، وكذلك قوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ﴾.
وقد ابتدئت السورة الكريمة بذكر خبر الإسراء والإشارة إلى المعراج في قوله تعالى :﴿ سبحانه الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ( ١ ) ﴾ وذكر سبحانه أن أهل مكة وبيت المقدس وغيرهم هم ذرية من حملهم الله من نوح.
ثم بين سبحانه أنه قضى لبني إسرائيل أن يفسدوا في الأرض، ففي الأولى يبعث الله لهم قوما أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار، ثم يجعل الله تعالى لأهل الإيمان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من رد الكرة عليهم، وأمد الله المؤمنين بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا، فإذا جاء وعد المرة الآخرة من فسدهم يدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة، وخاطب سبحانه المؤمنين بقوله تعالى :﴿... ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علموا تتبيرا ( ٧ ) ﴾ ويشير سبحانه إلى أن سبب ذلك فساد أحوال المسلمين، وأنهم إن صلحوا صلحت الأمور، فيقول ﴿ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( ٨ ) ﴾ ويشير سبحانه إلى أن خسارة المسلمين ترجع إلى ترك القرآن، ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( ٩ ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( ١٠ ) ﴾ وبين أحوال الإنسان فقال :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاؤه بالخير وكان الإنسان عجولا ( ١١ ) ﴾.
ويذكر الله سبحانه المؤمن المدرك بأنه خالق الليل والنهار ليبتغوا فضلا من ربهم، وليعلموا عدد السنين والحساب، ويذكر الله تعالى الناس بيوم الحساب، وأن كل إنسان يكون معه كتابه قد سجلت فيه حسناته وسيئاته ﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾.
ويبين سبحانه أن هلاك الأمم وضعف المسلمين أمام بني إسرائيل في جولتهم الأخيرة سببه الترف والتراخي :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( ١٦ ) ﴾، وبين الله سبحانه وتعالى بعد ذلك سنته في القرون الماضية الذين أهلكهم الله سبحانه، ويقرر سبحانه أن ﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ ﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( ٢٠ ) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( ٢١ ) ﴾ ونهى سبحانه عن عبادة غير الله مع الله ﴿ فتقعد مذموما مخذولا ﴾.
ويأمرنا سبحانه وتعالى أمرا :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( ٢٣ ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾، ثم يوصى سبحانه وتعالى بالقرابة كلها، وبالتوسط في إنفاق المال، ولا ينفقه إلا في خير، ثم ينهى عن قتل النفس وعن الزنا، وأن قتل النفس يجعل للمولى سلطانا في طلب الدم، ثم ينهى سبحانه عن أن يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ويأمر سبحانه بالوفاء بالعهد وبالوفاء بالكيل والميزان، ﴿ ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾، وأمر سبحانه أن : ألا يقف الإنسان ما لا علم له به، أو ما لا سبيل إلى العلم، ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾.
ويعلم الإنسان الأدب واللياقة حتى لا ينفر الناس منه، ﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) ﴾ وإن ذلك له في المجتمع عواقب سيئة مكروهة مقطعة لأوصال الجماعة.
وينهى سبحانه عن أن يكون مع الله إله آخر، ويندد بعادات أهل الجاهلية في كراهيتهم للبنات ﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( ٤٠ ) ﴾ وقد بين الله تعالى تصريفه سبحانه في القرآن ليتذكر الناس ولكنه يزيدهم نفورا ؛ لأنهم يرون فيه قوة الحق، والمبطل المعاند كلما وضحت الحجة نفر وما اهتدى، ثم بين سبحانه أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لنازعوه سبحانه وتعالى في عرشه فيفسد الكون.
ثم ذكر سبحانه تسبيح كل ما في الوجود له، ثم بين سبحانه هداية القرآن وضلال الناس :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( ٤٥ ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٤٧ ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) ﴾ وإن الأمر الذي يشغلهم عن الحق هو كفرهم بالبعث فهم يقولون :﴿ أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾، فيرد الله تعالى كلام هؤلاء فيقول :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقنا مما يكبر في صدورهم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) ﴾.
ويبن سبحانه أن هذا كله من نزغ الشيطان بينهم، وإن ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم، وما أرسلناك ( يا محمد ) عليهم وكيلا، وقد بين سبحانه أنه فضل بعض النبيين على بعض، وآتى الله داود زبورا، ويبين سبحانه عجز الأوثان عن كشف الضر، ويصف المؤمنين فيقول تعالت كلماته :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( ٥٧ ) ﴾.
ويضرب الله الأمثال بالقرى التي فسقت عن أمر ربها، فيقول سبحانه :﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا( ٥٨ ) ﴾.
طلب المشركون آيات حسية بدل القرآن، فيقول سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويف ( ٥٩ ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجر الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( ٦٠ ) ﴾.
ثم يشير سبحانه إلى قصة الخلق والتكوين ويذكر تكريم آدم بالأمر بالسجود له، وموقف إبليس، ويأمره سبحانه بأن يبذل أقصى ما يملك ﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( ٦٤ ) ﴾ وبين سبحانه أن عباده المؤمنين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلا.
ثم بين سبحانه نعمه في البر والبحر وكشف الضر إذ يستغيثون به، فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا وكان الإنسان كفورا.
وأشار سبحانه إلى قدرته القاهرة :﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( ٦٨ ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ٦٩ ) ﴾ أي مطالبا ينتصر لكم، ولقد ذكر بعد ذلك تكريم الله تعالى لبني آدم وذكر أن من تكريمهم أن يبعثوا، ﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( ٧١ ) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( ٧٢ ) ﴾.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى محادة المشركين أن يفتنوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن دينه، وأنه لولا أن الله ثبته لركن إليهم، ﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( ٧٤ ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( ٧٥ ) ﴾.
ثم أشار سبحانه إلى أن المشركين يستفزون محمدا وأتباعه ليخرجوه ﴿ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾ ويأمره سبحانه بإقامة الصلاة في أوقاتها فيقول :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( ٧٨ ) ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( ٧٩ ) وق رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدن سلطانا نصيرا ( ٨٠ ) وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) ﴾.
وبعد ذلك ذكر نزول القرآن وأنه يكون تنزيلا وقتا بعد آخر، ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( ٨٢ ) ﴾.
وبين سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان غير المؤمن، حيث يعرض عن الله عند النعمة ﴿ وإذا مسه الشر كان يئوسا ﴾ وكل يعمل على شاكلته ﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذين أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( ٨٦ ) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ( ٨٧ ) ﴾ وبعد ذلك بين القرآن وأن الله سبحانه وتعالى يتحدى به الخليفة إلى يوم القيامة.
ولقد ذكر سبحانه أنهم طلبوا آيات أخرى حسية، طلبوا أن تفجر لهم الأرض ينابيع، وأن تكون لهم جنات من نخيل وعنب، أو أن يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء ويرسل إليهم كتابا من السماء.
وكلها آيات مادية حسية، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ﴿ سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾.
ولقد كان المشركون يعجبون ويقولون أبعث الله بشرا رسولا ! فيقول سبحانه :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾ ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله شهيدا بينه وبينهم.
وإن من يهديه الله فهو مهتد ومن يضلل الله فلن تجد له أولياء من دونه، ﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبث زدناهم سعيرا ( ٩٧ ) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآيتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٩٨ ) ﴾.
ثم يذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض فهو قادر على أن يخلق مثلهم، ﴿... وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا ( ٩٩ ) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( ١٠٠ ) ﴾.
وإن المشركين يلحون في أن يأتيهم الرسول بآيات حسية، ولا يقتنعون بالقرآن معجزة مع أنه تحداهم مع أنه تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، فذكر الله تعالى أن الله آتى موسى تسع آيات بينات ﴿... فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( ١٠١ ) قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ( ١٠٢ ) ﴾ فهم مع هذه الآيات التسع لم يؤمنوا، فأخرجهم من الأرض فأغرقه الله ومن معه جميعا.
وقد بين سبحانه وتعالى مقام القرآن والرسالة المحمدية، فقال عز وجل من قائل :﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( ١٠٥ ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( ١٠٦ ) ﴾ وأنه لا يغض من شأن القرآن إلا من به أشرك :{ ق

جهدت نفس النبي صلى الله عليه وسلم ولم ييأس من رحمة الله عندما ماتت زوجه المواسية الحانية التي كان يسكن إليها بعد لغوب الحياة ومعاندة المشركين وإيذائهم له وللمؤمنين فهي التي واسته عندما نزل الوحي، وذهب إليها يرجف فؤاده، فقالت له : إنك تكرم الضيف وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، ولن يضيعك الله أبدا، وذهبت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها الذي كان على علم بالكتاب فقال له : إن هذا هو الناموس الذي نزل موسى من قبل، ليتنى أكون فيها جذعا إذ يخرجك قومك فقال صلى الله عليه وسلم :"أو مخرجي هم" فقال : ما أتى قوم بمثل ما أوتيت إلا أخرجوه١.
وفي سنة وفاتها توفي الحامي الحاني أبو طال الذي كان درئة٢ من قريش، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العام عام الحزن.
وذهب إلى الطائف يعلن الدعوة في ثقيف عسى أن يكون منهم النصراء المستجيبون ولكنهم ردوه ردا قبيحا وأحس أنه فقد المعين، فقال داعيا ربه :"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي إلا أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا لك".
استجاب الله تعالى لنبيه الكريم فأعطاه القوة بالبراهين الحسية التي لا يمارى فيها إلا المثبورون، فشق له القمر ورآه السارون٣ فماروا وقالوا سحر مستمر مع أنه رؤى رأى العين، وأعطاه الله قوة الحيلة فتحايل للدخول إلى مكة في جوار بعض القرشيين، فدخلها بين أولاد من نزل في جواره، وقد خرجوا ليناصروه، وإذا كان فقد العم البار الحاني، والزوجة المؤنسة الواسية الحانية فإنه الله تعالى أشعره بأن الله معه ومؤنسه، وكان ذلك بالإسراء والمعراج، فآنسه الله تعالى في وحشته.
قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ﴾ ( سبحان ) : اسم في معنى المصدر، وهو غير متصرف فلا تجرى عليه وجوه الإعراب وليس له فعل، وقد يعده بعض العلماء مصدرا من سبح يسبح تسبيحا وسبحانا، ومعنى هذه اللغة تنزيه الله تعالى وتقديسه وبراءته من كل نقص لا يليق بالذات العلية المكرمة، وقد روى أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى سبحان الله فقال :"تنزيه الله من كل سوء"، وصدرت الآية أو السورة بالتسبيح وتنزيه الله تعالى عن كل عيب ؛ لأنه سيكون فيها إسراء ومعراج، واتجاه إلى الله واستشراف بالملأ الأعلى فكان لا بد من الابتداء بما يدل على التنزيه عن التجسيم والأغراض التي لا تليق بذاته الكريمة، و( سبحان ) منصوبة على أنه مفعول مطلق ؛ لأنه في معنى المصدر أو مصدر كما ذكرنا.
وأسرى : أي سار ليلا، فالإسراء لا يكون إلا بالليل، وذكر ( ليلا ) للتبعيض فكان التنكير للدلالة على البعضية، فالإسراء كان في بعض الليل لا في الليل كله، فما استغرق الليل كله، بل كان في بعض، وكان ذكر ليلا للإشارة إلى أنه حين يكون السير ليس سهلا، إذ إن الانتقال إلى مكان بعيد لا يكون ليلا، بل يكون نهارا، ولا يكون بعض الليل بل يكون بعض النهار، فذكر "ليلا" للدلالة على موضع الغرابة، أنه كان بأقصى السرعة، وكان ليلا.
وذكر "عبده" في قوله تعالى ﴿ أسرى بعبده ﴾، للإشارة إلى قربه من بينه فقد خلص له، ولم يكن بينه وبينه حجاب إلا العبودية، وأضاف إليه سبحانه لمعنى الاختصاص وأنه صار خالصا لله سبحانه وتعالى، وفي ذلك إشارة إلى معنى دعائه صلى الله عليه وسلم :"إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي" فقال له ربه : أنت عبدي، أي أنت لي خالصا.
وقد عين ابتداء السير، وانتهاءه فقال سبحانه :﴿ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا ﴾ فالابتداء من المسجد الحرام لا من مكة كلها، وصحت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أسرى به من الحجر في المسجد٤، وقيل إنه أسرى به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، ونحن نرى أن الأولى أن يكون ابتداء الإسراء من الحجر، لصحة الرواية ولأنها التي تتفق مع النص ؛ لأن النص ذكر أنه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومكة وإن كانت حرما آمنا لأجل المسجد الحرام، فليست كلها الكعبة ولا المسجد الحرام.
والمسجد الأقصى هو بيت المقدس، قيل إن الذي بناه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام، ومهما يكن تاريخ بنائه فهو مسجد مقدس كما قال صلى الله عليه وسلم :"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : البيت الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا"٥.
وهو إحدى القبلتين – أولهما – اتجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان في صلاته يصلى متجها إليها غير مستدبر الكعبة، ولما هاجر استمر يتجه إلى بيت المقدس وحده نحو ستة عشر شهرا٦.
وكان الإسراء قبل الهجرة بعام، وبعد موت أم المؤمنين خديجة، وعمه أبي طالب، وقد ذكرت في أول القول ما كان للإسراء من أثر نفسي في التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الله تعالى بعد المسجد الأقصى وصفا كريما له فقال :﴿ باركنا حوله ﴾، ففيه آثار النبيين من أولاد إسحاق عليه السلام وفيه كانت الإمامة الكبرى بأرواحهم، وقد قال الزمخشري في قوله تعالى :﴿ باركنا حوله ﴾ يريد سبحانه بركات الدين والدنيا ؛ لأنه متبعد الأنبياء من وقت موسى، ومهبط الوحي، وهو محفوظ بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وكانت بركته أيضا في أنه إلى هذا الوقت كان قبلة المسلمين.
وقوله تعالى :﴿ لنريه من آياتنا ﴾ أي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى ومن إمامته لأرواح الأنبياء أو للأنبياء أنفسهم قد أحضرهم الله تعالى له بأجسادهم، كما يبعثهم يوم البعث بأجسادهم، وتلك آيات من آيات الله تعالى، وعرج به إلى السموات العلا، كما قال تعالى في سورة النجم :﴿ والنجم إذا هوى ( ١ ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى ( ٤ ) علمه شديد القوى ( ٥ ) ذو مرة فاستوى ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى ( ٧ ) ثم دنا فتدلى ( ٨ ) فكان قاب قوسين أن أدنى ( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه على ما يرى ( ١٢ ) ولقد رآه نزلة أخرى ( ١٣ ) عند سدرة المنتهى ( ١٤ ) عندها جنة المأوى ( ١٥ ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( ١٦ ) ما زاغ البصر وما طغى ( ١٧ ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( ١٨ ) ﴾.
هذه آيات المعراج لا نتعجل الكلام في ذكر معانيها، فنجل ذلك إلى الكلام في معاني هذه السورة التي تصور الرحلة النبوية إلى السموات العلا سواء أكانت هذه الرحلة بالروح فقط أم بالروح والجسد، والله على كل شيء قدير، بقى أن نتكلم في الإسراء والمعراج أكان بالروح أو بالجسد والروح ؟.
اتفق علماء السلف على أن الإسراء كان بالروح والجسد، وأنه كان ليلا، والنبي صلى الله عليه وسلم مستيقظ يرى ويسمع، ولذا وصف عير قريش وذكر أنه يتقدمها جمل أورق.
ولم يخالف في ذلك إلا ما روى عن عائشة وعن معاوية من الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلن، ونقول : إن عائشة رضي الله عنها ما كانت زفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانت في سن تسمح لها بالرواية، إلا أن تكون قد روت ذلك عن غيرها، ولم تذكر من روت عنه، ومهما يكن فهي الصديقة بنت الصديق، ولكنا لا نأخذ برأيها وقد كان رأيا لنا أن نخالفه، وأما معاوية فماله ولهذا وقد كان هو وأبوه ممن كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الإسراء، فلم يكن وقت الإسراء إلا مشركا ككل المشركين.
ونحن نرى أن الإسراء كان بالجسد في حال يقظة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن في منام :
أولا : لأن الله تعالى قال :﴿ سبحانه الذي أسرى بعبده ليلا ﴾ والعبد جسد وروح.
وثانيا : أنه وصف لهم ما رأى وعاين.
وثالثا : أنهم ما كانوا يختلفون عليه لو كانت الرؤيا منامية.
وأما المعراج، فإن بعض العلماء قال : إنه بالروح دون الجسد، وقد قال في ذلك القرطبي :"قالت طائفة كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا ﴾ فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء"٧، وإننا نميل إلى هذا الرأي، والله أعلم.
وختم الله سبحانه وتعالى آية الإسراء بقوله تعالى :﴿ إنه هو السميع البصير ﴾ الضمير يعود إلى الله تعالى، وذكر ﴿ السميع البصير ﴾ في هذا المقام للإشارة إلى أن الله تعالى عليم علم من يسمع بما قيل لك من مشركي قريش وأهل الطائف، والعليم من يبصر بما رد به سفهاء ثقيف وما أوذيت به من أذى رق له قلب بعض المشركين، وهو تعالى مؤنسك في وحشتك وناصرك في وحدتك، فإذا فقدت النصير من أهل الدنيا والمواسي منهم فالله معك، وهو أعز نصير وأرحم بك.
تنبيهان :
أولهما : أن المشركين عندما كانوا يطلبون آيات حسية كانوا يريدون الإعنات لا الإقناع، فهذه الآية الحسية قد جاءتهم فزادوا خسرانا، جاءتهم في الإسراء وشق القمر، فزادوا كفرا فقالوا : سحر مستمر.
ثانيهما : أن بعض الناس يذكرون الإسراء مع ما يقال الآن في الخروج إلى الفضاء والارتفاع إلى السماء وهذا تهجم على المعجزات، إن الارتفاع إلى الفضاء أو القمر أو المريخ بأسباب حسية مادية هي رافعة كرافع لأحمال لا فرق بين صغيرها وكبيرها، أما معجزة الإسراء فهي انتقال من مكان إلى مكان في وقت كان الانتقال يستغرق أربعين يوما من غير سبب ظاهر، أو دفعة حسية بل بسبب آخر وهو قدرة الله تعالى ولا شيء سوى قدرته ولا يوجد مثل هذا الآن ولا في أي زمان إلا أن يكون معجزة، فلا يستطيع ذلك أحد إلا الله العلي القدير الحكيم العليم ٨.
بعد أن ذكر بيت المقدس ذكر موسى الذي أراد أن يدخل الأرض المقدسة فقعد بنو إسرائيل، وقالوا مقالة الجبن والنذالة :﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( ٢٤ ) ﴾ [ المائدة ].
١ أخرجه البخاري: بدء الوحي – بدء الوحي(٣)، ومسلم: الإيمان – بدء الوحي (٢٣١)..
٢ الدريئة: الحلقة يتعلم الطعن والرمي عليها، وكل ما استتر به من الصيد ليخدع. القاموس المحيط (درأ)، والدرئة كذلك..
٣ سرى: سار ليلا، والسارون: السائرون بليل. الصحاح..
٤ عن أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة.. الحديث. رواه البخاري: المناقب – تنام عينه (٣٠٥).
٥ متفق عليه، وقد سبق تخريجه، ورواه بهذا اللفظ البخاري: الصوم – صوم صوم النحر (١٨٥٨) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
٦ متفق عليه، سبق تخريجه..
٧ الجامع لأحكام القرآن: ١/ ٢٠٤..
٨ الإسراء والمعراج : (من كتاب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم للإمام محمد أبو زهرة – الجزء الأول، ص ٥٩٦ - ٦١).
كان الإسراء في السنة التي كانت قبل الهجرة، وروى البيهقي عن ابن شهاب الزهري أنه كان في السنة التي قبل الهجرة، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة بستة عشر شهرا.
واختلف على ذلك في الشهر الذي أسرى به فيه، فالسدى قال إنه في ذي القعدة، والزهري قال في ربيع الأول.
وروى عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
وفي رواية أن الإسراء كان في ليلة السابعة والعشرين من شهر رجب، ويقول ابن كثير: "وقد اختاره الحافظ ابن سرور المقدسي، وقد أورد حديثا لا يصح سنده، كما ذكرناه في فضائل شهر رجب، وان الإسراء كان في ليلة السابعة والعشرين من رجب والله أعلم. ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان في أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك، والله أعلم.
وقد جاء في نهاية الأرب أن الإسراء كان ليلة السبت، ليلة سبع عشرة من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقد أسرى صلى الله عليه وسل به وسنه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر!!
وننتهي من هذا إلى أن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة. وقد اتفقوا على أنها بعد ذهاب النبي صلى لله عليه تعالى وسلم إلى الطائف، وردهم له الرد المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخير لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير، وقال من بعد ذكره: والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد وجدنا الناس قبلوا ذلك التاريخ، أو تلقوه بالقبول، وما يتلقاه الناس بالقبول ليس لنا أن نرده، بل نقبله ولكن من غير قطع ومن غير جزم ويقين.
واتفقت الروايات أيضا على أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة على الأقل، ويظهر أنها كانت في السنة التي قبل الهجرة في ثلثها الأول أو الأخير والله سبحانه تعالى أعلم.
ومن سياق التاريخ ومناسبات الحوادث نرى أن الإسراء كان بعد انشقاق القمر.
وهنا قد يسأل السائل ما المناسبة لمسألة الإسراء والمعراج، وتعيين الله تعالى لزمانها، والله سبحانه وتعالى حكيم عليم، يضع الأمور بموازينها وفي أوقاتها، وأجلها المعلوم، ولنا أن نتعرف حكمة الله تعالى من غير أن نقطع بأن هذا هو مراد الله تعالى، فهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه صغيرة أو كبيرة في السماء أو في الأرض.
ونجيب عن هذا التساؤل بما قررنا، وهو أن الله سبحانه وتعالى استجاب لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم في ضراعته بالدعاء الذي دعا ربه عقب خروجه من الطائف، شكا ضعف قوته فأمده الله تعالى بالقوة، وقلة الحيلة فأمده بحسن التدبير لدخول مكة آمنا مطمئنا، وأيده بآية حسية من نوع ما يطلبون، وإذا كانوا لم يستجيبوا لداعي الله تعالى، فلأن المعاند لا يقنعه الدليل، ولو كان حسيا، فقالوا سحرنا، مع أن انشقاق القمر رأته الركبان في أسفارها، ثم كان من بعد ذلك الأنس بلقاء الله تعالى في المعراج، سواء أقلنا إن لقاءه بالله تعالى، كان بالروح في الرؤيا، أم كان بما هو أكثر من الرؤيا (السيرة العطرة للأستاذ عبد العزيز خبير الدين، ونهاية الأرب ج ١٦، ص ٢٨٣، ٢٨٤).
لقد أحس النبي صلى الله عليه وسلم بالوحشة بعد وفاة الحبيبين خديجة العطوف، وأبي طالب الشفيق. فقال الله تعالى له بالفعل أنس الله أكبر، ورحمته أعظم، وحياطته أكرم، وإن عنايته بك وبرسالتك هي التي ستبلغك أمرك، وتحقق لك شأوك، وتصل بك إلى غايتك، وهو المهيمن الرءوف الرحيم، لذلك كان الإسراء، ومن بعده عروجه إلى السماء.
والآن ننتقل إلى الآيات الكريمات التي صرحت بالإسراء، ثم كانت إشارة إلى المعارج قال الله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (١)﴾ [الإسراء]. ففي هذا النص الإسراء صريحا، وكانت الإشارة إلى المعراج بقوله تعالى ﴿لنريه من آياتنا﴾.
وقال تعالى: ﴿وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (٦٠)﴾، فقد ذكر المفسرون أن الرؤيا هي المعراج.
وقال تعالى في سورة النجم: ﴿والنجم إذا هوى (١) ما ضل صاحبكم وما غوى (٢) وما ينطق عن الهوى (٣) إن هو إلا وحي يوحى (٤) علمه شديد القوى (٥) ذو مرة فاستوى (٦) وهو بالأفق الأعلى (٧) ثم دنا فتدلى (٨) فكان قاب قوسين أو أدنى (٩) فأوحى إليه عبده ما أوحى (١٠) ما كذب الفؤاد ما رأى (١١) أفتمارونه على ما يرى (١٢) ولقد رآه نزلة أخرى (١٢) عند سدرة المنتهى (١٤) عندها جنة المأوى (١٥) إذ يغشى السدرة ما يغشى (١٦) ما زاغ البصر وما طغى (١٧) لقد رأى من آياته ربه الكبرى (١٨)﴾. ولقد قرر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في المعراج، وإن تلك لواضح، وإذا كانت العبارات السابقة لم تصرح بالعروج إلى السموات العلا فإن الإشارات واضحة تكاد كون تصريحا، والإشارات الواضحة في قوة الدلالة تكون كالألفاظ الصريحة.
وقد قال بعض علماء السيرة: إن الإسراء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ من شعب أبى طالب، وإن كان السند في ذلك صحيحا، فإنه يشير إلى أن أبا طالب قد مات، وأن مهمته قد انتهت، وأن الله تعالى وهو الباقي الدائم، الأول والآخر والظاهر والباطن به تكون النصرة الدائمة المتجددة في الشدائد – ولكن الثابت في البخاري أنه ابتدأ من الحطيم بالمسجد الحرام (البداية والنهاية ج ٣، ص ١١٠).
الإسراء بالجسم: إن ظاهر الآية القرآنية التي أثبتت الإسراء وهي قوله تعالى: ﴿سبحانه الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام﴾، أن الإسراء كان بالجسد والروح؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال: ﴿أسرى بعبده﴾، والعبد هو الروح والجسد، وما دام الظاهر لا دليل يناقضه من عقل أو نقل، فإنه يجب الأخذ به، فإنه من المقررات أن الألفاظ تفسر بظاهرها إلا إذا لك يمكن حملها على الظاهر لمعارض، ولا معرض.
وفوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أعلن خبر الإسراء بين قريش ففتن بعض الذين أسلموا وارتد من ارتد، ويقول في ذلك ابن كثير فيما رواه عم قتادة: "انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك؛ فذكر أنه كذبه أكثر الناس، وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق، وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشيا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذ سمى أبو بكر الصديق.
وإنه روى أنه عند مروره صلى الله تعالى عليه وسلم على عير قريش فند بعير لهم نافروا، فأرشدهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكانه، وقد أخبروا أهل مكة بذلك (الروض الأنف، ج١، ص ٢٤٤).
وإنه روى أن أهل مكة الذين ردوا القول استوصفوه عيرا لهم فوصفها، وقد قال صلى الله عليه وسلم في إخبارهم، والاستدلال على صدقه: "وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان، بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حسن الدابة (هي البراق التي سنذكر الروايات عنه من بعد) فند لهم بعير، فدللتهم عليه، وأنت متوجه إلى الشام، ثم أقبلت، حتى إذا كنت بصحنان مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء، قد غطوا عليه بشيء، فكشف غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم (هو المكان) البيضاء يقدمهم جبل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء، والأخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية،... وسألوهم عن الإناء وعن العير فأخبروه، كما ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإن هذا كله يدل على أن الإسراء كان بالروح والجسد، فإن تلاقي مع المارين بين مكة والشام وأخبر عن التلاقي، وصدق خبره صلى اله عليه وسلم، وإذا كانت بعض هذه الروايات في إسنادها كلام، فإن بعضها يقوى الآخر، ونص القرآن ظاهر في تأييد الدعوى، بل لا يدل على غيرها حتى يقوم الدليل.
ولو كان الإسراء بالروح أو الرؤيا الصادقة ما كانت ثمة غرابة تمنع التصديق، ولبادر صلى الله عليه وسلم بإخبارهم إلى أن ذلك رؤيا في المنام، أو هذا وحي أوحى به إليه.
ولقد كان بجوار هذا القول الذي تنطق به الآية الكريمة قول آخر روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها الصديق، وروى أيضا عن معاوية بن أبي سفيان، وقد كان إبان ذلك هو وأبوه من المكذبين الذين يناوئون الدعوة، ولكن لعله نقل عن غيره ممن شاهدوا، وعاينوا، كما نقلت عائشة عن غيرها، وما كانت في ذلك الإبان قد زفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان معاوية مسلما من بعد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها الصديق،/ واحتج بقول عائشة هذا وقد أثر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أمر بأن يؤخذ الدين عن عائشة.
ولكن الخبر عنها يحمل في نفسه ما يوهم عدم صدقه عنها، ففيه أنها قالت: "لم تفقد بدنه" وإن ذلك يوهم أنها كانت معه في مبيت واحد، مع إجماع المؤرخين والمحدثين على أنه لم يبن بها إلا في المدينة.
وقد استدل أصحاب هذا القول بما روى الحسن البصري عن أن قوله تعالى: ﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس﴾ وقالوا إن الرؤيا هي ما يكون في المنام، كما حكى عن سيدنا يعقوب: أنه قال لابنه يوسف بعد أن قص عليه ما رآه في المنام: ﴿... لا تقصص رءياك على إخوتك...(٥)﴾ [يوسف].
وجاء في كتاب البصائر للفيروزأبادي: "الرؤيا ما رأيته في منامك، والجمع رؤى كهدى، وقد تخفف الهمزة من الرؤيا، فيقال بالواو" (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ج٣، ص ١٧٧). وهذا وغيره نصوص صريحة في أن الرؤءيا منامية. ولكن أهي كانت في الإسراء أم كانت في المعراج؟ إن رواية الحسن رشي الله عنه تقول: هي ما كان في ليلة المعراج، نعم إن الليلة كانت واحدة، ولكن النص على ليلة المعراج يدل على أن كلام الحسن ومن معه في المعراج لا في الإسراء.
ويستدل أصحاب هذا القول، وهو أن الإسراء كان بالروح بحديث البخاري عن أنس بن مالك قال: ليلة أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة داءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو، قال أوسطهم: هذا، وهو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم... فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، ولم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند زمزم، فتولاه منهم جبريل... والحديث طويل وقال في آخره واستيقظ وهو في المسجد الحرام، ويرى صاحب الروض الأنف أنه نص لا إشكال فيه.
ونرى أن فيه إشكالا؛ لأنه نص فيه على أنه كان قبل أن يوحى إليه، ونرى أنه يتعرض لذكر الإسراء والمعراج، ولعلها كانت إذا صحت الرواية في موضوع آخر.
ويرى صاحب الروض الأنف أنم الأدلة قد تعارضت بالنسبة للإسراء، وأنه يوفق بينهما بأن الإسراء كان مرتين: إحداهما بالروح والأخرى بالجسد والروح.
ونحن نرى أن الأدلة لم تتعارض، بل الأدلة على أن الإسراء كان بالجسد والروح هي التي لا ريب فيها، ولا يمكن أن يعارض الضعيف القوي.
ولذا نرى أن الإسراء كان بالجسد والروح، ولا نجد فيما استدل به على ما يدل على أنه كان بالروح فقط، وإن الآية {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك.

قال الله تعالى :
﴿ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ( ٢ ) ﴾.
إن الواو هنا عاطفة وعطفت ﴿ آتينا موسى الكتاب ﴾ على ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا ﴾ ويكون المعنى أكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج، وجعله حجة على الناس، إذ يكفرون بالآيات وقد طلبوها، وأكرم موسى بالكتاب أتاه في الشرائع، ﴿ وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ﴾ أي كفيلا، أو ربا تكلون إليه أموركم، أو وليا ونصيرا.
وإن هنا على قراءة التاء ﴿ تتخذوا ﴾ تفسيرية، أي هو ألا تتخذوا من دونه وليا، وهناك قراءة بالياء ( يتخذوا )١ وعلى هذه القراءة يكون المعنى جعلناه هدى لبني إسرائيل فلا يتخذوا من غير الله وكيلا أي وليا وربا، كقوله تعالى :﴿ ولا يأمركم أت تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا...( ٨٠ ) ﴾ [ آل عمران ].
وأنه بهذا العطف يتبين أن شرائع الله متصلة وأن أنبياء الله تعالى مكرومون، كما أن الإسراء جمع النبيين عند بيت المقدس فقد جمعهم الله تعالى في التكريم هذا بالكتاب والإسراء والمعراج، وذاك بالكتاب الذي كان هداية لبني إسرائيل ألا يتخذوا شريكا
١ (ألا يتخذوا) بالياء غيبا: قراءة أبي عمرو، وقرأ الباقون بالتاء خطابا. غاية الاختصار: ٢/ ٥٤٤..
ثم بين سبحانه وتعالى صلة الأنبياء من عهد نوح فقال :﴿ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ﴾.
هذه الآية الكريمة موصولة بما قبلها للدلالة على أن النبوة متصلة متحدة في غايتها، وفي نهايتها، ﴿ ذرية من حملنا مع نوح ﴾ منصوب على الاختصاص والمعنى نخص بالذكر ذرية من قد حملنا، ويصح أن تكون نداء، والمعنى يا ذرية من قد حملنا مع نوح، والخطاب لأتباع محمد أو من بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وبنى إسرائيل، وإنه قد أكد سبحانه وتعالى أنهم من ذرية من حمل مع نوح، وكان الذين حملوا مع نوح في السفينة هم المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يكونوا مشركين، كما قال تعالى عند النجاة فوق السفينة، ﴿... وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ( ٤٠ ) ﴾ [ هود ].
والمعنى أن أصلكم قد اختاره من بين المشركين ليكون الإيمان هو الباقي، وقد كرم الله من تبع نوحا، والذين آمنوا به بتكريم نوح وذكر فضله فقال :﴿ إنه كان عبدا شكورا ﴾، الضمير يعود إلى نوح عليه وسلم، وذكر له سبحانه وصفين كريمين :
الوصف الأول : أنه كان عبدا يحس بنعمة العبودية لله تعالى فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعا لله سبحانه وتعالى، والخضوع لله تعالى وحده هو العزة التي لا ذل فيها ولا استكبار.
والوصف الثاني : أنه شكور، أي كثير الشكر لله تعالى على نعمائه في سرائه وضرائه، جاء في الكشاف للزمخشري ما نصه :"إنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حزاني، ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاى في عافية، ولو شاء حبسه"، وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإنه وجده محتاجا آثره".
وسواء صحت نسبة هذه المعاني إلى أبى البشرية الثاني أم لم تصح فإن هذا الكلام يدل على أن في كل أمر من أمور الإنسان نعمة توجب الشكر.
وإذا ذكر هذه الأوصاف لنوح عليه وسلم فيه تعليل لشرف الاتباع له وبيان أن من حملهم معه جديرون بالتكريم، وفيه مع ذلك دعوة لأن يجعلوه أسوة فقد جعله من حملهم معه أسوة لهم فاتخذوه أيضا أسوة.
بعد ذلك بين الله ما فعله بنو إسرائيل في المسجد الأقص ى، فقال عز من قائل :
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( ٤ ) فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عباد لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( ٥ ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( ٦ ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( ٧ ) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكفرين حصيرا ( ٨ )
بعد أن ذكر سبحانه مكانة بيت المقدس وأنه مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه عرج بروحه إلى السموات العلا ذكر سبحانه ما صنعه بنو إسرائيل حوله، وما صنع به في حكمهم حتى أسلموا إلى غيرهم، أو انتزعوه منهم، وجاء الإسلام فأنقذه من أعدائهم، وكان في المسلمين قوة، وكان الإيمان قوتهم، فلما ضعفوا وهانوا كان الحكام من غيرهم، فآذاهم فيه النصارى أولا ثم تدرع اليهود بدرع غيرهم وتنمروا.
قال تعالى :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ﴾ أي تقدم إليهم في كتابهم الذي نزل عليهم، كما قال تعالى :﴿ وقضينا إليه ذلك الأمر أن دار هؤلاء مقطوع مصبحين ( ٦٦ ) ﴾ [ الحجر ] وقيل أوحينا إليهم علما مقطوعا مبتوتا، ولا شك أن الوحي هنا توجيه نفسي، وتصريف للقلوب ؛ لأنها غوت وضلت، وما كان الله تعالى يوحي بفساد وإنما هو من إغواء الشيطان. والكتاب هو ما قدره الله تعالى في اللوح المحفوظ.
وقد التفت سبحانه وتعالى في تصريف بيانه الحكيم من الغيبة إلى الخطاب فقال :﴿ لتفسدن في الأرض مرتين ﴾ وهذا موضع الإعلام الذي هو معنى ما قضاه الله وتقدم به إليهم في لوحه المحفوظ، واللام لام القسم، والنون نون التوكيد الثقيلة التي تقترن بالقيم وجوبا، والقسم من الله تعالى تأكيد لوقوع الأمر، كما أقسم سبحانه وهو أنهم "يفسدون في الأرض مرتين" وذكر سبحانه أن فسادهم تكون عاقبته أنه يعم الأرض، أي أرض بيت المقدس، أو يسرى في الأرض التي تقاربه، أما ما حول بيت المقدس فهو مبارك ببركة الله تعالى، كما قال في أول السورة :﴿ الذي باركنا حوله ﴾، والفساد بان لهم، ممن على شاكلتهم في الأرض، وقال سبحانه وتعالى مقسما :﴿ ولتعلن علوا كبيرا ﴾ فقرن علوهم بفسادهم، وذلك لما استمكن في قلوبهم من الحسد والحقد، وإن اقتران علوهم بالفساد يفيد أمرين :
الأمر الأول : أن علوهم يعقبه طغيان، والطغيان يعقبه الفساد.
الأمر الثاني : أن علوهم فيه اعتداء فاجر فاعتداؤهم بقتل الأنبياء وأكلهم الربا والسحت وأن يقتل بعضهم بعضا، ويلاحظ أنه ذكر الفساد مرتين، ولم يذكر عدد العلو لأنه لا عدد له إن وجدت أسبابه.
ووصف الله تعالى علوهم بأنه يكون علوا كبيرا ؛ وذلك لأنه يكون على أيدي أنبياء، وسرعان ما تعود إليهم نفوسهم الآثمة فيقتلون ما أعلاهم به الأنبياء إلى فساد وانحراف، ألم تروه بعد أن أنقذهم الله تعالى من فرعون، وأغرقه وملأه رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم ﴿... قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة...( ١٣٨ ) ﴾ [ الأعراف ]، وعبدوا العجل في غيبة موسى وقد ذهب على موعد من ربه.
﴿ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( ٥ ) ﴾.
أولاهما : هو المرة الأولى التي يفسدون فيها، وأكد الله تعالى الإفساد فيها في ضمن تأكيد الإفساد مرتين.
و ﴿ وعد ﴾ معناها – ميعاد – وعبر سبحانه وتعالى بوعد دون التعبير بميعاد ؛ لأن الميعاد اسم للزمن، ويتضمن الوعد ؛ وذلك لأن المصدر فيه إيذان بتوكيد ما وعدهم الله به، وقد قرن سبحانه وتعالى فساد المرة الأولى ببعث الجيوش المخربة الهادمة أو المذلة لهم أو المذهبة لاستقلالهم.
وقد جعل سبحانه ﴿ بعثنا ﴾ جواب شرط لقوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد أولاهما ﴾ وهي المرة الأولى للفساد، وهذه القضية الشرطية تفيد أن الفساد في الأمم يتردى إلى أن تكون نهبا للمغيرين عليهم، وأن الحصن الحصين لمنع غارات المغيرين هو استقامة الأمة في ذات نفسها وإقامة العدالة والحكم بالأمانة والعدل، وأما فسادها فإنه يؤدي إلى الانهيار وأن تكون طعمة للمغيرين يجدون فيها مغانم يغنمونها.
وقوله تعالى :﴿ بعثنا عليكم عبادا لنا ﴾ وعبر سبحانه ب ﴿ بعثنا ﴾، أي أنهم جاءوا إليهم كأنهم مبعوثون لهم مسلطون عليهم، وأسند سبحانه البعث إلى ذاته العلية ؛ لأنه جاء على سنة الوجود التي سنها، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وهو أن الفساد يغري بالهجوم على الفاسدين، ولأن المغالبة الإنسانية تجعل القوي يأكل الضعيف ولا ضعف أكثر من استشراء الفساد فإنه يهدم كيانها ويعرضها للفناء، سنة الله تعالى في الوجود.
وقال تعالى :﴿ عبادا لنا ﴾ هنا إشارتان بيانيتان :
الإشارة الأولى : أنه عبر ب ( عباد ) وذلك إشارة إلى أنهم خاضعون لإرادة الله تعالى فيهم.
والإشارة الثانية : إضافتهم له سبحانه وتعالى بما يفيد الاختصاص، ومؤدى ذلك أن الله جعلهم له لا لأجل العبودية والطاعة، بل ليكونوا آلة تأديب وتهذيب لمن يخرجون عن الهداية ويقعون في الفساد، وهؤلاء الجبارون هم طعمة لغيرهم إذا فسدوا، وهكذا يتدافع الشر، ويدفعه أخيرا الخير، ﴿... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( ٢٥١ ) ﴾ [ البقرة ].
ووصف سبحانه وتعالى أولئك العباد، بأنهم ﴿ أولي بأس ﴾، البأس : القوة، و ﴿ شديدة ﴾، أي فيه بطش وعتو، ولا يرحمون أعدائهم وقد نزعت منهم النواحي الإنسانية العاطفة كالتتر في طغيانهم، وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.
وإنهم في حروبهم لا يقنعون بأماكن الجند ومعسكرات الحرب، بل يدخلون المدائن ويجسون خلال دورها، ويتردون خلال هذه الدور، وفي ذلك إشارة إلى أنه يقتلون النساء والذرية والضعفاء من العجزة فلا يعرفون قانونا مانعا، ولا نظاما حاجزا، إنما شهوتهم إلى الدماء والمجازر البشرية.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك وعدا كان وعدا مفعولان، فقال سبحانه وتعالى :﴿ وكان وعدا مفعولا ﴾، أي كانت غارات هؤلاء الغلاظ الأشداء وعدا ؛ لأنه بمقتضى السنة الإلهية أن من كان فاسدا من الجماعات والأمم يكون فريسة لمن هم أقوى قوة، وأكثر عددا وأشد بأسا، ووصف سبحانه وتعالى الوعد بأنه مفعول، أي واقع وقائم، ومنجز لا تتخلف الإغارة عن الفساد، كما لا يتخلف السبب عن سببه، ولا المقدمة عن نتيجتها.
هذه هي المرة الأولى من الفساد التي ادلهمت على بني إسرائيل بسببها المدلهمات ونجوا بقيادة داود عليه السلام، إذ قتل داود جالوت، كما ذكر القرآن الكريم على بعض الأقوال، ولنشر بكلمة نقبض منها يسيرة من تاريخهم.
لقد ثبت في تاريخهم أنه بعد أن قتل داود جالوت، وآتى الله داود حكم بني إسرائيل ثم خلفه من بعد ابنه سليمان واتسع ملكه واستولى على اليمن، وقدمت إليه ملكتها وسخر الله تعالى له كل شيء. جاء من ذريته من كان شببا في انقسام الاثنى عشر سبطا، إلى سبطين سيطرت في حكمهما الوثنية، والعشرة الآخرون ترددوا بين الوثنية أحيانا قليلة والوحدانية أحيانا كثيرة، واستمرت مملكة بني إسرائيل نحوا من ألف وخمسين ومائتي سنة، وفي نهاية فسادهم أغار عليهم ملك آشور وفتح السامرة وأغار على السامرة وسباهم إلى آشور وأحل محلهم قوما من بلاده.
وبعض من الأسباط الذين انفصلوا استمر ملكهم أمدا حتى انقض عليهم – بختنصر – ملك بابل فسباهم وقتل من قتل وحرق التوراة وبذلك انقرضت مملكة بني إسرائيل وأقام اليهود بابل.
ثم جاء الإسكندر المقدوني ومن بعده، والإسرائيليون أحيانا يكونون تحت حكم غيرهم وأحيانا تحت تسلط سوريا.
ثم استولى الرومان على أرض فلسطين وجرت بينهم وبين الرومان حروب انتهت إلى تسلط الرومان عليهم.
هذه قبضة يسيرة من تاريخهم ثم نعود إلى القرآن.
قال الله تعالى :
﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( ٦ ) ﴾.
أكثر المفسرين على أن الخطاب لبني إسرائيل وعلى أمن الكرة التي كروا بها على أعدائهم كانت في عهد داود عليه السلام، وأن السلطان آل إليهم وتوطد في عهد سليمان عليه السلام، كما قال تعالى :﴿ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ( ٣٦ ) والشياطين كل بناء وغواص ( ٣٧ ) وآخرين مقرنين في الأصفاد ( ٣٨ ) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ( ٣٩ ) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ( ٤٠ ) ﴾ [ ص ].
وإن ذلك بلا ريب واضح ولكن مؤداه أن بني إسرائيل تمكنوا في الأرض من بعد انتصار داود على جالوت ولم يكن منهم فساد من بعد، مع أن النص القرآني أثبت أنهم أفسدوا مرتين فما هو الفساد الثاني ؛ وإذا لم يكن فساد ثان، أو مرة ثانية فهل تكون الآية غير صادقة ! معاذ الله، إنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولذلك نذكر رأيا نميل إليه، وهو أن قوله تعالى :﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون في الكلام التفاوت من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب محمد وأصحابه، ورد الكرة للنبي صلى الله عليه وسلم معناه رد الدولة إليه صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى :﴿ وأمددنكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ﴾، والنفير من ينفر مع الرجل من جند وجيش، وقد كان محمد وصحبه الأكرمين الأموال من غنائم الحروب والجند الكثيف، والبنون الذين جاءوا من ذرية المؤمنين.
وقد سوغ لنا أن نقول : في هذا القول أمور :
الأمر الأول : تحقيق الفساد من بني إسرائيل مرتين، وأنه لا يتحقق الفساد في المرة الثانية إلا بدخولهم المسجد كما دخلوه أول مرة، وأنهم ما أخرجوا منه في المرة الأخيرة إلا في عهد الرومان.
الأمر الثاني : أن المرة الثانية هي التي دخلوا فيها المسجد مرة ثانية وخربوا ما علوا تخريبا وذلك ما أضفه المسلمون إلى المسجد.
الأمر الثالث : أنه لا يمكن أن يكون المخاطبون اليهود ؛ لأنهم ما ساءت وجوههم بدخول المسجد بل ساء وجوه غيرهم، وهم الذين يعلمونهم ساسة المسلمين، وخصوصا ساسة العرب، وبالأخص ساسة مصر والأردن.
الأمر الرابع : قوله تعالى :﴿ عسى ربكم أن يرحمكم ﴾ لا يمكن أن يكون لليهود إنما يكون للمسلمين لينشطوا من عقال وليرتفعوا بعد عزة، وليذهبوا المذلة.
يقول عز من قائل :
﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( ٧ ) ﴾.
الخطاب للمسلمين، حثا لهم على أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الذل والعار ﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾، لأنه يزيل العار ويجلب الفخار، والإحسان إجادة العمل، والاستعداد لإخراج الأشرار من المسجد وتطهيره من طغاة أهل الأرض ورفع المذلة عن أهله وإعادة مسرى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين.
﴿ وإن أسأتم فلها ﴾، وإن أسأتم فمغبة الإساءة عليكم، وقال سبحانه :( لكم )، ولم يقل عليكم ؛ للإشارة إلى تمام التبعة، فكأنهم الذين اجتلبوها لأنفسهم كأنهم طلبوها وأرادوها، بكسلهم وفساد نفوسهم، وتفرق أمرهم وتركهم المعاني الإسلامية مفرطين في أمرها، بل مفرطين في أنفسكم لأنه لا قوة لكم إلا بها.
والفاء في قوله :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾، بعد قوله ﴿ وإن أسأتم فلها ﴾ فاء الترتيب والتعقيب. والمعنى "فإذا جاء وعد الآخرة بعد أن أسأتم، ليسوءوا وجوهكم" ( ليسوءوا ) : متعلق بفعل محذوف تقديره جاءوا أي جاءوا ليسوءوا وجوهكم، وعبر بالوجوه لأن تبدو عليه مظاهر السوء والكآبة والحزن، ومعالم العار والخزي من أتباع محمد الذين يدينون بدين العزة والكرامة، والبعد عن الذل والمهانة، وليدخلوا المسجد كما دخلوه، أي ليدخلوه بعد أن أخرجوا منه، إذ أخرجهم الرومان، وأخرجهم المؤمنون فكان من عهد عمر لأهل إيلياء ألا يدخل عليهم اليهود، وقد دخلوه أول مرة حتى أفسدوا فيه، فأخرجهم منه على أيدي النصارى والمسلمون، ﴿ وليتبروا ما علوا تتبيرا ﴾ التتبير : التخريب، أي مدة علوهم وغلبهم يخربون كل قائم، ويحرقون ويدمرون مدة علوهم وبقائهم في أرض الله المقدسة، ما بقوا فيها.
وقد قال الله تعالى :
﴿ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( ٨ ) ﴾.
الخطاب أيضا للمؤمنين ولا يتصور أن يكون لليهود لأنه دعوة إلى الهمة والأخذ في أسباب النصر واستنقاذ أرض الله المقدسة من أيدي طغمة اليهود، ومن يعاونونهم من وحوش الأرض الذين لا دين لهم ولا خلق، ولا أية ناحية من النواحي الإنسانية، والرجاء في ﴿ عسى ربكم أن يرحمكم ﴾ من الناس، ومعنى الرجاء منهم أن يتخذوا الجهاد سبيلا، ويعدوا القوة، ويتسربلوا بالصبر والإقدام، عندئذ يرحمكم الله تعالى بالنصر والتأييد، ﴿ وإن عدتم عدنا ﴾، أي وإن عدتم بالإيمان والصبر وإخلاص النية والجهاد لاستنقاذ الأرض الطاهرة عدنا إليكم بالنصر والتأييد والله معكم ولن يترككم لأعمالكم.
ثم ذكر أن اليهود الذين كفروا بالله وقتلوا الأنبياء لهم جهنم فقال تعالت كلماته :﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ﴾ أي بساطا مفروشا يتقلبون عليه من جانب إلى جانب، فهو فراش لهم يتقلبون عليه بجنوبهم وفي مضاجعهم، وهو جزاؤهم، وللمؤمنين النصر إن أخذوا في أسبابه.
القرآن يهدي
ذكر الله تعالى قصة الإسراء، وهي في ذاتها معجزة حسية مادية لا تقل عن معجزة إحياء الموتى بإذن الله، وقارنها في الزمن معجزة شق القمر، وإنه انشق قسمين رآه أهل مكة، ورآه المسافرون، ومع ذلك ازدادوا كفرا، وقالوا :﴿... سحر مستمر ( ٢ ) ﴾ [ القمر ] وفي معجزة الإسراء ازدادوا كفرا.
ودل هذا على الخوارق التي تحدث ثم تنقضي ولا تدوم لا تكون لخاتم النبيين الذي تكون حجته دائمة بدوام دعوته، واستمرار هدايته، ولا يكون ذلك إلا لقرآن يتلى، ويكون حجة دائمة لا تنقضي ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين يتحدى الإنسانية كلها بالمعجزة الكبرى التي تتضاءل عندها كل المعجزات من قبل، وهي القرآن، فقال تعالى بعد الإسراء وما تبعه :
﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( ٩ ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( ١٠ ) ﴾.
الإشارة ﴿ هذا ﴾ كانت بالقريب، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات الله تعالى ؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله، والمشركون يفتلون الذروة والغارب١ ليردوا دعوته، وهو مع ذلك يسرى في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية.
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى ﴿ يهدي للتي هي أقوم ﴾ أقوى أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا، فيحمل في نفسه برهان صدقه، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته، وقال الزمخشري : إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره. ونقول : إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدي للتي هي أقوم، وملة التوحيد التي هي أقوم، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كلما هو خير في ذاته، وخير في دلالته، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع، وحال الأسرة، وحال الإنسانية، وكل هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته، معاشه ومعاده.
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين، فقال تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾ ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولادهما : الإيمان، وثانيتهما : العمل الصالح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق يلزمهما العمل الصالح لا محالة، وقال تعالى :﴿ يعملون الصالحات ﴾ بالجمع لتنوعها وكثرتها فهي وإن ضبطها ضابط الصلاح مفترقة متنوعة، فالإصلاح بين الناس، والمعاملة الحسنة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والبعد عن ضلالها.
وذكر سبحانه أنه يبشر المؤمنين الصالحين ببشارتين :
البشارة الأولى : أجر كبير، ونكر الأجر لعظمه، ولتذهب النفس في تقديره مذاهب شتى، مع ملاحظة أنه أجر وثواب، ثم وصفه سبحانه وتعالى بالكبر الذي لا حد له.
البشارة الثانية : وهي قوله تعالى :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ وكيف تكون هذه البشارة لأهل الإيمان ؟ الجواب عن ذلك أن البشارة بالنجاة منها، وأنهم لم يتردوا تردية الذين لا يؤمنون بالآخرة، بل وقاهم الله تعالى، وبذلك يتبين أن ذكر عذاب الذين لا يؤمنون جاء تبعا لإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ونذكر هنا أمرين يتعلقان ببيان الذكر الحكيم :
الأمر الأول :
قوله تعالى :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ معطوفة على قوله تعالى :﴿ أن لهم أجرا كبيرا ﴾ فالباء مقدرة في قوله :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي وبأن الذين لا يؤمنون، فالبشارة لأهل الإيمان ابتداء، وهي تتضمن الإيذاء للكافرين، فهي قد اشتملت على التبشير والإنذار، ويبدو أن ما سبق له القول هو التبشير، والإنذار جاء بالتضمن.
الأمر الثاني : أنه سبحانه وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلم يذكر شركهم وفسادهم للمؤمنين مع أن هذه جرائم الكفر، والجواب عن ذلك أنه ذكر السبب، وذكر السبب ذكر للمسبب ؛ ذلك أن كفر الكافرين وشركهم وعنادهم، وفتنتهم المؤمنين، وغوايتهم، سبب ذلك كله أنهم لا يؤمنون بالبعث واليوم الآخر، ولو آمنوا به لاتجهوا إلى الحق كما اتجه المؤمنون، وقلنا : إن فيصل التفرقة بين قلب المؤمن وقلب الكافر، أن المؤمن سكن قلبه الإيمان بالغيب وما وراء الحس والمادة واليوم الآخر، أما قلب الكافر فلا يسكنه إلا المحسوس والمادة، فلا يؤمن باليوم الآخر.
وقد ذكر عذاب الكافرين، فقال سبحانه :﴿ أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ أي هيأنا لهم عذابا أليما أي مؤلما، وهو عذاب الجحيم، وكان التنكير لتكبيره، وتهويلهم به، وإنه لصادق.
١ مثل يضرب في الخداع والمماكرة، والذروة: أعلى السنام، وأعلى كل شيء. أصل فتل الذروة في البعير: هو أن يخدعه صاحبه ويتلطف له بفتل أعلى سنامه حتا ليسكن إليه فيتسلق بالزمام عليه، قاله أبو عبيدة، معجم الأمثال – الميداني – الباب العشرون – فصل الفاء (٢٧٣٠)..
﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( ٩ ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( ١٠ ) ﴾.
الإشارة ﴿ هذا ﴾ كانت بالقريب، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات الله تعالى ؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله، والمشركون يفتلون الذروة والغارب١ ليردوا دعوته، وهو مع ذلك يسرى في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية.
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى ﴿ يهدي للتي هي أقوم ﴾ أقوى أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا، فيحمل في نفسه برهان صدقه، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته، وقال الزمخشري : إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره. ونقول : إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدي للتي هي أقوم، وملة التوحيد التي هي أقوم، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كلما هو خير في ذاته، وخير في دلالته، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع، وحال الأسرة، وحال الإنسانية، وكل هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته، معاشه ومعاده.
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين، فقال تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾ ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولادهما : الإيمان، وثانيتهما : العمل الصالح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق يلزمهما العمل الصالح لا محالة، وقال تعالى :﴿ يعملون الصالحات ﴾ بالجمع لتنوعها وكثرتها فهي وإن ضبطها ضابط الصلاح مفترقة متنوعة، فالإصلاح بين الناس، والمعاملة الحسنة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والبعد عن ضلالها.
وذكر سبحانه أنه يبشر المؤمنين الصالحين ببشارتين :
البشارة الأولى : أجر كبير، ونكر الأجر لعظمه، ولتذهب النفس في تقديره مذاهب شتى، مع ملاحظة أنه أجر وثواب، ثم وصفه سبحانه وتعالى بالكبر الذي لا حد له.
البشارة الثانية : وهي قوله تعالى :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ وكيف تكون هذه البشارة لأهل الإيمان ؟ الجواب عن ذلك أن البشارة بالنجاة منها، وأنهم لم يتردوا تردية الذين لا يؤمنون بالآخرة، بل وقاهم الله تعالى، وبذلك يتبين أن ذكر عذاب الذين لا يؤمنون جاء تبعا لإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ونذكر هنا أمرين يتعلقان ببيان الذكر الحكيم :
الأمر الأول :
قوله تعالى :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ معطوفة على قوله تعالى :﴿ أن لهم أجرا كبيرا ﴾ فالباء مقدرة في قوله :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي وبأن الذين لا يؤمنون، فالبشارة لأهل الإيمان ابتداء، وهي تتضمن الإيذاء للكافرين، فهي قد اشتملت على التبشير والإنذار، ويبدو أن ما سبق له القول هو التبشير، والإنذار جاء بالتضمن.
الأمر الثاني : أنه سبحانه وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلم يذكر شركهم وفسادهم للمؤمنين مع أن هذه جرائم الكفر، والجواب عن ذلك أنه ذكر السبب، وذكر السبب ذكر للمسبب ؛ ذلك أن كفر الكافرين وشركهم وعنادهم، وفتنتهم المؤمنين، وغوايتهم، سبب ذلك كله أنهم لا يؤمنون بالبعث واليوم الآخر، ولو آمنوا به لاتجهوا إلى الحق كما اتجه المؤمنون، وقلنا : إن فيصل التفرقة بين قلب المؤمن وقلب الكافر، أن المؤمن سكن قلبه الإيمان بالغيب وما وراء الحس والمادة واليوم الآخر، أما قلب الكافر فلا يسكنه إلا المحسوس والمادة، فلا يؤمن باليوم الآخر.
وقد ذكر عذاب الكافرين، فقال سبحانه :﴿ أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ أي هيأنا لهم عذابا أليما أي مؤلما، وهو عذاب الجحيم، وكان التنكير لتكبيره، وتهويلهم به، وإنه لصادق.
١ مثل يضرب في الخداع والمماكرة، والذروة: أعلى السنام، وأعلى كل شيء. أصل فتل الذروة في البعير: هو أن يخدعه صاحبه ويتلطف له بفتل أعلى سنامه حتا ليسكن إليه فيتسلق بالزمام عليه، قاله أبو عبيدة، معجم الأمثال – الميداني – الباب العشرون – فصل الفاء (٢٧٣٠)..
بعد ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى وصفا للطبيعة الإنسانية سواء كانت كافرة أم مؤمنة، فقال :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ﴾.
كتبت العين مجردة من الواو، أي الواو محذوفة في الكتابة تبعا لحذفها في النطق بسبب التقاء الساكنين، فحذفت في الكتابة، وهذا ينبئ عن حقيقة مقررة، وهو أن القرآن الاعتماد فيه على القراءة، وعلى حفظه في الصدور، لا في السطور وذلك هو الذي حفظه إلى يومنا وحتى يوم القيامة.
وقوله تعالى :﴿ دعاءه بالخير ﴾، أي أن دعاء الشر من الإنسان كدعاء الخير، لا يتدبر فيه ولا يتريث، ولا يضبط نفسه بالتروي والتدبر، كما يدعو بخير واضح الخيرية نتيجته حسنة، وثمراته بادية، وقد وصف الله تلك الحال بأنها من طبيعة الإنسان فقال :﴿ وكان الإنسان عجولا ﴾.
ونريد أن نقف قليلا عند تفسير معنى "يدعو" ومعنى الشر والخير، أما معنى الشر فهو كل أمر لا نفع فيه ويسوء، ويؤدى إلى فساد وضرر، كالشرك، والعذاب، والإيذاء، والفتنة في الدين، تعجل كل ما هو مؤذ لنفسه أو لغيره، والخير كل ما فيه نفع عام أو خاص أو رفع ضرر، أو ما هو حق في ذاته كالتوحيد، والإيمان بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر، هذا هو معنى الشر والخير، أو هذا نظر بين يقرب معنى الخير والشر، والشر والخير الحكم الديني والخلقي فيهما إلى النية المحتسبة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر المعنى :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه"١.
ونتكلم في معنى يدعو، أهى من الدعاء، أم من الدعوة، فإذا كانت من الدعاء تكون بمعنى دعاء الله بالشر كدعائه بالخير لا يتروى فيه ؛ ففي الخير المسارعة فيه خير ؛ لأنها مبادرة إليه، والمسارعة إليه مطلوبة، لقوله تعالى ﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض...( ١٣٣ ) ﴾ [ آل عمران ]، وأما المسارعة بالدعاء إلى الشر فذلك ممقوت، كالدعوة على النفس بالهلاك عند الغضب، وكدعاء إنزال العذاب، كقول الله على لسان المشركين ﴿... فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٧٠ ) ﴾ [ الأعراف ]، وقد قال تعالى لائما على ذلك، ﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ( ١١ ) ﴾ [ يونس ].
هذا إذا كان يدعو من الدعاء، أما إذا قلنا إنها من الدعوة وتجئ بمعنى الدعاء فالمعنى أن الإنسان يدعو نفسه وغيره متلبسا بالشر، كدعوته إلى الخير، وإذا كانت الدعوة إلى الخير محمودة العاقبة في ذاتها لأنها خير مآلا، ولأنها مرئية في ذاتها فالدعوة المتلبسة بالشر تحتاج إلى تعرف عواقبها ونهايتها، والتروي والتدبر في دواعيها، وإذا فكر وتدبر لا يفعل إلا ما يؤدي إلى النفع، ولكنه لا يفعل، ولذلك قال تعالى بعد ذلك :﴿ وكان الإنسان عدولا ﴾ وذلك كقوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل...( ٣٧ ) ﴾ [ الأنبياء ] فهو في طبعه التعجل إلى الأمور، والعاقل من يتأتى ويتدبر ويصبر، ويدرس الأمور، فإذا كانت العجلة من غرائزه، فالإدراك يهذب هذه الغريزة، ويجعلها متنافسة مع مواهبه، وكذلك كل غريزة تشذب بغيرها من الغرائز، فإذا كانت فيه الغريزة الجنسية، فالعقل يجعلها في الحلال، وإذا كانت غريزة العجلة، فالعقل يضبطها بالصبر.
١ متفق عليه، سبق تخريجه..
هذا مقام القرآن، وهذا هو الإنسان، وقد انتقل سبحانه من الإنسان إلى الكون وفيه آيات الوحدانية، وبرهان الألوهية، فقال عز من قائل :
﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ( ١٢ ) ﴾.
ابتدأ سبحانه من الكون بما يمس الإنسان من أوقات فذكر الليل والنهار، وقال تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾، أي هما في ذاتهما آيتان، إذ يقبلان بأمر الله ويذهبان، وإذا كانا يرمزان إلى دوران الشمس حول الأرض، وأن القمر يستمد نوره من انعكاس ضوء الشمس على الأرض، كما قال تعالى :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل...( ٥ ) ﴾ [ يونس ] فإن يسير بقدرة الله تعالى وإراداته، وكل شيء عنده بمقدار، ثم هما يقصران ويطولان، فإذا قصر أحدهما طال الآخر، فإذا طال الليل في الشتاء قصر النهار، والعكس بالعكس.
هذا على أن الليل والنهار ذاتهما آيتان وترمزان إلى آية كونية هي دوران الأرض حول الشمس، وانعكاس ضوء الشمس على الأرض فتجعله منيرا من غير ضياء كالشمس.
وقد يراد بآيتي الليل ما يظهر بالحس في كل منهما، فالشمس تكون بالنهار، وهي آية، والقمر يكون بالليل، وهو آية، والقمر قدره الله تعالى منازل.
ومعنى محو آية الليل ما قاله الزمخشري :﴿ فمحونا آية الليل ﴾ أي جعلنا الليل محو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء، كما لا يستبان ما في اللوح الممحو.
وقوله تعالى :﴿ فمحونا آية الليل ﴾ في الكلام مجاز على تخريح الزمخشري مؤاده أنه شبه الليل الممحو نوره بالكتاب المطموس كتابته لعدم الوضوح والاستبانة فيهما.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾، أي يبصر الناس فيها، فيكون في الكلام مجاز أيضا فأسند الإبصار إلى الآية باعتبارها منها الإبصار، وذلك مجاز في الاشتقاقات، فأطلق اسم على المسبب، وهو ما يكون فيه من استبانة.
﴿ لتبتغوا فضلا من ربكم ﴾، أي لتطلبوا فيه أسباب رزقكم، ولتقيموا الصناعات، وتسيروا في الأرض وتفلحوا الأرض فتمتلئ بالنبات، والغرس، وتكون منافع هذه الدنيا إذ تتولون أسبابا وفضلا من الله، ولتعلموا عدد السنين والحساب، وذلك بتجدد الأيام، فيعرف اليوم، ويعرف الشهر، ويعلم عدد السنين وما يجرى في حساب الناس.
فبتجدد الليل والنهار يكون السكون وتكون الحركة، وطلب المعاش، والسعي في الأرض، وذلك كله يدل على الفاعل المختار ووحدانيته، قال تعالى :﴿ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ( ٦١ ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( ٦٢ ) ﴾ [ الفرقان ]. وقال تعالى :﴿ خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( ٥ ) ﴾ [ الزمر ].
بعد أن بين الله طبيعة الإنسان، وأشار إلى ما يحيط به أخذ يشير سبحانه إلى الحساب.
الحساب يوم القيامة
لم يختلق الله تعالى الإنسان سدى، ولم يخرج الحياة لتكون عبثا من غير حساب، بل إن الله تعالى مسئولا عما يعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ومن فاته حظ الحياة الدنيا مظلوما، فينال في الآخرة حظا موفورا، ومن اكتسب الإثم وأحاطت به خطيئته، فإن له جهنم، إن صلاح الإنسان لا يكون إلا بالثواب والعقاب في الآخرة، كذلك قدر الله تعالى ولذا كان الحساب، وقال تعالى :
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يقلاه منشورا ( ١٣ ) ﴾.
الطائر هنا كناية أو مجاز عن العمل، فالمعنى وكل إنسان ألزمناه عمله الذي عمله وطوقنا به عنقه، بحيث لا يمكن الخلاص منه، كما يطوق العنق بأي شيء لا يمكنه الفكاك، بل يلازمه ملازمة الطوق للعنق، وقد شبهتا ملازمة العمل للنفس حتى تنال جزاءها خيرا أو شرا بملازمة الطوق للعنق حلية أو قيدا.
هذا هو المعنى الإجمالي للآية الكريمة.
وفي التعبير عن العمل بالطائر إشارة إلى ما كان العرب من التشاؤم والتفاؤل، فالله سبحانه وتعالى يبين أن العمل كهذا الذي كنتم تتخذونه للتشاؤم والتفاؤل، ولكنه عمل هو خير لكم أو شر عليكم، وعبر عنه بملازمته الأعناق ؛ لأن العنق هو الذي تكون به القلائد، فكان ذلك ترشيحا للاستعارة، ولنستعر توضيح هذا المعنى من شيخ المفسرين الطبري، فهو يقول : إذ أعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان الذي ألزمه وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن، وإنما أضيف إلى العنق، ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل لأن العنق هو موضع السمات، وهو موضع القلادة والأطوقة ونحو ذلك مما يزين به أو يشين، فجرى كلام العرب على نسبة الأشياء الملازمة سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا : ذلك بما كسبت يداك، وإن كان الذي يجري عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله تعالى :﴿ ألزمناه طائره في عنقه ﴾ اه بتصرف قليل.
وخلاصته، أن قوله تعالى :﴿ ألزمناه طائره في عنقه ﴾ كناية عن ملازمة أعماله له لا تزايله ولا تفارقه يوم القيامة، وقد أكد سبحانه ذلك المعنى بأن أعماله الملازمة له ملازمة القلادة للعنق محصية عليه إحصاء دقيقا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فقال :﴿ ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ﴾ فيه قراءات ل ( يلقاه ) أولها بنون المتكلم العظيم في نفسه وذاته العلية، وهو الله سبحانه وتعالى، وثانيها بالياء، ويعود بالضمير على الله تعالى، وهو حاضر في النفس دائما، وهناك قراءة بالقاف المشددة ( يلقاه )، فيه مبالغة في لقائه أو حمل له على التلقي، وهذا الكتاب هو صحيفة أعماله التي يحاسب على خيرها، بالجزاء الأوفى، وعلى شرها بالعذاب الأليم، ويفهم من كلام البيضاوي أن هذا الكتاب هو ما ينقش على نفسه من الأعمال التي تتكرر، فتكون بتكرارها خطوطا منتقشة، وتعرض هذه النقش صحيفة منشورة مكشوفة، ولننقل عبارته :"هي أي الكتاب صحيفة عمله أو نفسه، المنتقشة بآثار أعماله، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالا، ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات"١، أي أن الأعمال بتكررها تحدث نقوشا بهذه الأعمال فتكون كتابا يكشفه الله، فتكون كتابا منشورا ظاهرا معلوما مكشوفا.
١ تفسير البيضاوي: ج ٣/ ٤٣٥. وذكره من أئمة التفسير الآلوسي، وأبو السعود في تفسير الآية (١٤)..
﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾.
مقول لقول محذوف، أي يقول الله تعالى أو الملائكة المطهرون : اقرأ كتابك المسجل عليك، الذي هو صادر عن نفسك أو منقوش عليها، فإنه دليل لك أو عليك، ففيه حسناتك وفيه سيئاتك، وحاسب نفسك بمقتضى هذا الكتاب الذي هو صورة منها، قد حفظت وبقيت حتى ظهرت، "كتابا منشورا" أي معروفا، وإنه يكفى حساب نفسك ؛ فإنها وحدها كاشفة، وقوله تعالى :﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾، أي كفى بنفسك حسيبا عليك يحصى عليك ما عملت إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وحسيبا : تتضمن الإحصاء والحساب والرقابة، فضميرك شاهد عليك، ونفسك بما نقش عليها وحفظ أقوى برهان على عملك، والله بعد ذلك يتولى الجزاء، مع قيام الدليل من نفسك أنت.
وقد بين بعد ذلك أن الجزاء من جنس العمل، فقال :
﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾.
حقائق تؤكدها هذه الآية الكريمة : الحقيقة الأولى : أن الإنسان في الأعمال الدنيوية إن اهتدى فهدايته عائدة بالخير عليه، وإن ضل فضلاله مغبته عليه.
الحقيقة الثانية : أن الإنسان ليس له إلا ما سعى، فوزره هو الذي يتحمله، ولا يتحمل وزر غيره. الحقيقة الثالثة : أنه لا عذاب إلا بعد الإنذار، ﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ].
ونتكلم في استخراج هذه الحقائق من نصوص الآية.
الحقيقة الأولى :
﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ الفاء هنا مترتبة على ما ذكر قبلها، ذلك أنه إذا كان الحساب بكتاب منشور لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمال الدنيا، إنه من يهتدي فهدايته لنفسه فلا يعذب، وينال الجزاء من عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر، ومن سلك طريق الضلالة وكتبت عليه دونت في كتابه فإن عاقبة ضلاله تكون على نفسه جزاء لما قدمت يداه من عذاب عسير، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب مقيم دائم، لهم جهنم خالدين فيها أبدا بما كانوا يكسبون.
الحقيقة الثانية :
هي كما أشرنا ما دل عليه بقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾، أي لا يحمل إنسان وزر غيره، و ﴿ وازرة ﴾ وصف لنفس، أي لا تحمل نفس وازرة إثم نفس أخرى، وعبر سبحانه عن حمل الوزر بالوزر، فقال :﴿ ولا تزر ﴾ لأن الوزر سبب حمله، فأطلق السبب وأريد المسبب، ألا يقال كيف ذلك والله تعالى يقول :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ( ١٣ ) ﴾ [ العنكبوت ]. ونقول في الجواب عن ذلك، إنما يحملون أثقال غيرهم إذا كانوا سببا فيها كالذين يصدون عن سبيل الله يحملون أثقال من صدورهم ؛ لأن نوعا من السببية في كفرهم بصدهم عن سبيل الله وضلالهم.
ويلاحظ في النص السامي أمران :
الأمر الأول : قوله تعالى :﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي وزر ضلاله عليها.
الأمر الثاني : أنه سبحانه يقول :﴿ فإنما يضل عليها ﴾ فذكر هنا القصر والاختصاص، للإشارة إلى أن الضلال لهم وحدهم، فلا يجديهم أن يقولوا ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإن على آثارهم مقتدون ( ٢٣ ) ﴾ [ الزخرف ]، فعليهم أن يتحملوا تبعة أعمالهم، وأن يقدموا على ما يقدمون عليه بتفكير من غير تقليد، فلا يتحمل من يقلدونهم شيئا من أوزارهم.
والحقيقة الثالثة :
أنه لا عذاب من غير إنذار، ودل على ذلك قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ إن العقل يدرك الخير والشر، ولكن لأن الغرائز البشرية متشابكة يؤثر بعضها على بعض، فالغريزة الجنسية توجد الهوى، والهوى يجعل غشاء القلوب فلا تفقه، وعلى الآذان فلا تسمع سماع الهداية، ولا يبصر بصر اعتبار، يكون ذلك، فلا بد من منبه يزيل غشاوة الأعين وضلال القلوب، ووقر الآذان، وهذا هو النذير، والعذاب من غير النذير لا يكون من رحمة الله تعالى بعباده، ﴿ وما كنا معذبين نبعث ﴾ نفي مؤكد حتى تكون الغاية، أي ما كان من شأننا ولا من رحمتنا أن نعذب إلى أن نبعث رسولا يعلم الحق ويبينه، والباطل ويزهقه، وقال تعالى :﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ].
الترف مآله الدمار
قال الله تعالى
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( ١٦ ) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( ١٧ ) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا ( ١٨ ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظور ( ٢٠ ) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجت وأكبر تفضيلا ( ٢١ ) الترف أن يسترخي الإنسان في إرادته وعزيمته وصبره، فيكون كل شيء فيه مسترخيا، فإرادته مسترخية، وعزيمته لا قوة فيها ونفسه غير منضبطة، والشهوات حاكمة، والأهواء جامحة، والمترف يختص بثلاث خصال : ضعف في الإرادة، واندفاع وراء الأهواء والشهوات، وأثره تجعله يعيش في محيط نفسه ولا يخرج عن دائرتها، ولذا كان المترفون دائما هم أعداء الأنبياء ؛ لأنهم أوتوا أثرة مقيتة، وكل حق يحتاج إلى فداء، وجهاد وبلاء وجلاء، وكان أتباع النبيين من الفقراء الذين لا يعيشون عيشة راضية، وكان أعداء النبيين من المترفين يقولون :﴿... وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي...( ٢٧ ) ﴾ [ هود ].
وهذه الآية الكريمة :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( ١٦ ) ﴾.
إن إرادة الله تعالى لهلاك الأمة تكون إذا سارت الأمة في أسباب الهلاك، وانتهت إليه، فيريد الله تعالى لها ما أخذت في أسبابا وسارت في طريقه قاصدة الغاية مريدة لها، فمعنى إرادة الله تعالى سيرها في طريق الهلاك حتى ترد موار الهلكة، وذهبت أسباب قوتها، وحلت محلها أسباب انهيارها.
والقرية : المدينة العظيمة، ويصح أن يراد بها الدولة أو الأمة، أو الجماعة أيا كان عددها، وقوله تعالى :﴿ أمرنا مترفيها ﴾ فيها قراءات ثلاث، وكلها متواترة، وكلها ذات معنى صادق مستقيم :
القراءة الأولى :( أمرنا ) بفتح الميم وهمزة من غير مد، والأمر هما مجازي، ليس المقصود به الطلب، وإنما المقصود تسهيل أسباب الترف، وأسبابا الاسترخاء الذي يلازمه، ولا يفترقان، ويتبعهما سيطرة الأهواء والشهوات، وغمر العقل والإدراك بهما حتى لا يدرك إلا من ورائهما، فإن تسهيل ذلك يكون كالأمر ؛ لأنه يؤدى مؤدى الطلب، وقد قال في ذلك الزمخشري كلمة حكيمة، قال : والأمر مجازي، حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه سبحانه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إملاء النعمة فيه وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا على الخير والشر، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب فدمرهم. هذا هو المعنى على قراءة الفتح بتخفيف الميم.
والقراءة الثانية : هي تشديد الميم، أي ( أمرنا ) مترفيها بأن جعلناهم أمراءها، وحكامها فكانوا أمراء أشرارا ؛ لأن الترف كما بينا يؤدى إلى الشر والأثرة، وحيثما كانت الأثرة بعد الخير، والأمراء الأشرار هم أساس الفساد، ولقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :"إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياؤكم، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"١.
والمترفون الذين أترفوا في ذات أنفسهم، وعمتهم الأثرة، والرخاوة، وحب الشهوات إن كانوا أمراء كانوا، ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن لكل شيء آفة، وآفة هذا الدين حكامه"٢.
القراءة الثالثة : أن الميم مفتوحة بالتخفيف ومد الهمزة أي "آمرنا" ويكون المعنى كثر أي إذا أكثر الله تعالى المترفين في الأمة عمها الفساد والفسق فدمرها الله تعالى تدميرا.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما :
الأمر الأول : في قوله تعالى : مترفيها – فيه إشارة إلى أن السبب في التدمير فهو الترف والاسترخاء، ولذا قال تعالى :"ففسقوا" والفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن تمكين المترفين مؤد إلى الفسق لا محالة.
الأمر الثاني : أن التدمير : الهلاك وهو نوعان : النوع الأول ذهاب قوتها، وأن تكون طعمة سهلة لغيرها، فذلك فناء لشخصية الأمة وضياع لقوتها، وصيرورتها تابعة لغيرها، فتفقد عزتها، والنوع الثاني : أن ينزل الله تعالى عليها عذابا من عنده، كريح حاصب صرصر عاتية، أو يجعل عاليها سافلها، ويمطرهم حجارة من سجيل، كما فعل بقوم لوط، إذ فسقوا عن أمر ربهم.
وأيا كان نوع التدمير، فقد رتبه سبحانه على الفسق، وأكده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق، فقال سبحانه :﴿ فدمرناها تدميرا ﴾، وقوله تعالى :﴿ فحق عليها القول ﴾، أي فوجب عليها القول أي أمر الله تعالى بتدميرها، إما بسبب عادي أدى إليه الترف، وإما بعذاب من عنده، والله تعالى أعلم.
١ رواه الترمذي: الفتن – ما جاء في سب الريح (٢١٩٢)..
٢ مسند الحارث بن أبي أسامة (٦٢) – ج٢/ ٦٤١، وأورده السيوطي في الجامع (١٧٢٧٨) ج ٦/ ١٧..
وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك كان السبب في هلاك القرون من قبل، فقال تعالى :
﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا { ١٧ ﴾ }.
الله سبحانه وتعالى يضرب الأمثال بالأمم السابقة من نوح إلى البعث المحمدي، فإن الترف هو الذي دفع المترفين إلى معاندة الأنبياء، واندفاعهم في الأهواء والشهوات، ثم دفعهم ذلك إلى أن غشى قلوبهم فأهلكوا بما أترفوا وبما فسقوا و "كم" في قوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا ﴾ دالة على الكثرة، فهي ليست استفهامية، والمعنى كثيرا أهلكنا من القرون، وموضع ( كم ) النصب بأهلكنا، و ( من ) بيانية، والقورون جمع قرن، وهو الجيل من الناس، والمعنى كثيرا أهلكنا من أجيال التي بعد نوح في أمم الأنبياء الذين أترفوا وفسقوا وعاندوا الأنبياء وكفروا بهم وبأمر ربهم، وذكرت الأجيال من بعد نوح ؛ لأن نوحا الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام، كما قال تعالى :﴿ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ( ٣ ) ﴾.
ولقد أهلكهم على علم بحالهم، واستحقاقهم للهلاك، ولذا قال تعالى :﴿ وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ﴾ الباء في ﴿ بربك ﴾ لتأكيد كفاية علم الله تعالى كقوله تعالى :﴿... وكفى بالله شهيدا ( ٧٩ ) ﴾ [ النساء ]، والباء في قوله تعالى :﴿ بذنوب ﴾ متعلقة بقوله :﴿ خبيرا بصيرا ﴾ وقدمت هي ومجرورها على خبيرا بصيرا، لكمال العناية، وللإشارة إلى أن العلم بالذنوب كان دقيقا على خبير بصيرا، لكمال العناية، وللإشارة إلى أن العلم بالذنوب كان دقيقا مبصرا، وذلك لبيان أنه لا ظلم، ﴿... وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلون ( ٣٣ ) ﴾ [ النحل ]. والخبرة : العلم الدقيق الذي لا يغيب، وهو علم واضح بين عنده، كالعلم بالأشياء المبصرة عند الناس، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض.
وإن الله تعالى هو المعطى الوهاب يعطي عباده من يريدون من حظوظ الدنيا والآخرة، ولذا قال سبحانه :
﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( ١٨ ) ﴾.
﴿ كان ﴾ هنا للدلالة على الرغبة المستمرة، والإرادة الدائمة ما دام على قيد الحياة، والعاجلة وصف للدنيا أي الدنيا العاجلة ومتعها، وجعلها غايته، ومرمى همته، ومطرح نظره، ولم يكن له هم سواها، وذكر الوصف دون الموصوف للإشارة إلى سبب الرغبة، وهو كونها قريبة دانية، فصاحب هذه الإرادة لا يريد إلا منافع العاجلة، وإن كانت زائلة، ولا يريد المنافع الآجلة، وإن كانت هي الباقية، وقد كان جواب الشرط ﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾، وفي الكلام جناس بين ( عاجلة )، و ( عجلنا )، وإنه يتلهف للعاجلة، فيشبع الله تعالى نعمته بالتعجيل بما أراد، ولكنه سبحانه يسير خلقه بحكمه ؛ فهو يعطى بحكمة، ويمنع لحكمة، ولذا لم يقل سبحانه إنه يعطيهم من العاجلة بما يشاءون، ولا أنه يعطى الجميع، بل يعطى من يريد تسجيلا لمشيئته ولحكمته، وتثبيتا لإرادته واختياره، ولذا قال :﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾، فقيد العطاء بمشيئته، بالنسبة للعطاء فقد يعطى هذا المال، ولا يعطيه الصحة، وقد يعطيه السلطان، ولا يعطيه العزة، وقد يعطى هذا الجاه، ولا يعطيه إلا الذل والهوان، والعيش الدون في الذلة، وفي الجملة يعطى العاجلة، ولكن ليست كلها، ولا يعطى العاجلة كل من يريدها بل يعطيها من اتخذ أسبابها، ولم يتنكب طريقه فيجتمع له مع كفره ذل الدنيا وعذاب الآخرة.
فيعطى طالب الدنيا هذا، وينال ما يشاء الله وبعض ما يتمناه، وهو في الآخرة ينال الحسرة والعذاب، ولذا قال تعالى :﴿ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ﴾، أي جعلنا له ومن اختصاصه بشكل دائم جهنم يتخذها مثوى دائما ومستقرا، ويصلى نارها، ويقال له ﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( ٤٩ ) ﴾ [ الدخان ] حال كونه ﴿ مذموما ﴾ لا يمدح أبدا، و ﴿ مدحورا ﴾، أي مطرودا من رحمة الله، ورضاه فلا ينظر الله إليهم، ولا يكلمهم...
هذا من أراد الدنيا، ومن أراد الآخرة قال تعالى فيه :
﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) ﴾.
﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( ١٩ ) ﴾.
من أراد الآخرة، وكان التعبير بالآخرة في مقابل التعبير بالعاجلة لفرق ما بين الاثنين ؛ ذلك يريد أمرا عاجلا لا يصبر ولا يضبط نفسه، وهذا يريد الآخر، ولو كان مؤجلا، فينال فضيلة الصبر والعمل، ويترقب الآجل ترقب المدرك العامل.
ولم يكتف بالترقب والانتظار، بل سعى لها سعيها، أي عمل لها العمل المقرب لنعيمها والمبعد عن جحيمها، وفي التعبير ب ﴿ وسعى لها سعيها ﴾، إشارة إلى أنه يسير لها، ويعمل ما يطلبه من بر وصدق وأمانة، وحسن معاملة، واستقامة نفس، وسير على صراط مستقيم، وقال تعالى :﴿ وهو مؤمن ﴾ فالإيمان أصل الأعمال الصالحة ولبها وذروتها وسنام الحق، وقد بين الله تعالى جزاءهم فقال :﴿ فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾ الفاء في جواب الشرط، والإشارة في أولئك إلى السابقين الموصوفين بإرادة الآخرة بالسعي بالعمل الصالح، وبالإيمان الذاعن الصادق، والإشارة إلى الأوصاف بيان أنها سبب الجزاء، والجزاء هو ذلك السعي الظاهر الفاضل، وشكره من الله تعالى بالجزاء عنه، وهو النعيم المقيم، وبالرضا، وهو أعظم ما يثاب به العبد، وعبر سبحانه بأنه شكور، أي أنه في ذاته يستحق الشكر، وهاتان الآيتان في معنى قوله :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ [ الشورى ].
وإن الله خالق الناس ورب الناس يمدهم بما يريدون من رغبات بما شاء، ولمن يريد، ولذا قال عز من قائل :
﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( ٢٠ ) ﴾.
أي كل فريق من هؤلاء وهؤلاء، وقالوا : إن التنوين هنا عوض عن المضاف إليه، ونمد نعطى المد، كمد الجيش، لا تذهب نعمة إلا أمدهم الله تعالى بنعمة أخرى، والإشارة في ﴿ هؤلاء وهؤلاء ﴾ إلى الذين أرادوا العاجلة وتعجيل الله لهم بمشيئته ومن يريد الله أن يعجل له فهؤلاء هم الأولون، والآخرون يعطيهم الله حرث الآخرة إذا قصدوا ما عند الله وسعوا سعيها بالبر والعمل الصالح، وكان الإيمان يظلهم، فالإشارة في الحالين إلى صفات كل منهما في طلبه، وثنى هؤلاء، فقال :﴿ هؤلاء وهؤلاء ﴾ ؛ لأنهما نوعان مختلفان في الطلب والجزاء والأوصاف، وما بترتب على هذه الأوصاف.
وقال :﴿ من عطاء ربك ﴾ والإضافة إلى الرب فيه إشارة إلى أنه عطاء لا ينفذ ولا ينتهي، فالله هو رب الوجود وهو الذي يمده بالحياة، ويمده بالمدد المستمر
الذي لا ينقطع، ﴿ وما كان عطاء ربك محظورا ﴾، أي ممنوعا ؛ لأنه ليس فوقه أحد يمنعه، وهو معط لا يمنع، ولكن يجازى كلا بجزائه، فإن شكر كان له النعيم المقيم، وإن كفر بنعمته وأنكرها فإن له عذاب الجحيم.
ونرى من هذا أن الله تعالى فضل بعض الناس بما سلكوا من سبل الخير، وعاقب بعض الناس بما سلكوا من الشر، وكيف من طلب العاجلة أخذ منها بما يشاء ولمن يشاء، ومن طلب الآخرة زاده في حرثه إن قصد الآخرة، وسعى وآمن، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾.
أمر من الله تعالى بأن ننظر نظرة تأمل في الحال التي فضل فيها بعض الناس على بعض في الرزق والمال، وأن الله سبحانه يعطي في الدنيا كلا على حسب رغبته مع أن مشيئة الله فوق هذه الرغبة، وأنه بهذا التمكين الرباني يكون من أعطاهم أفضل حالا من غيرهم فيكون من الناس الأغنياء والفقراء، ويفضل بعضهم على بعض في الرزق من غير أن يتبع تفضيل في الشرف أمر أو أية تفرقة طبقية، فالناس عند الله سواء وأمام شرعه سواء، ولا فضل لغني على فقير، ﴿ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء...( ٧١ ) ﴾ [ النحل ].
وإن ذلك الذي أشار إليه في الدنيا فقط، أما في الآخرة فطالبوها ﴿ أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ والمعنى أن الذين أرادوا حرث الآخرة، فقصدوها مخلصين، وسعوا لها سعيها مؤمنين أكبر درجات أي أعلى وأسبق وهم في درجات عليا، وكلمة درجات لا تكون إلا في العلو والشرف الرباني، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى :﴿... نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا...( ٣٢ ) ﴾ [ الزخرف ]، أي في الحياة الآخرة.
وقال ﴿ أكبر تفضيلا ﴾ أفعل التفضيل ليس على بابه فلا موازنة في كثرة الفضل، بل المراد أنه يلقون من الفضل كثرة ليس وراءه فضل لمستزيد، ونفينا المقابلة ؛ لأن طلاب العاجلة لا فضل عندهم، لا بقدر قليل، ولا بقدر كبير، بل هم يوم القيامة في العذاب الهون، والمنزلة الدون.
والاستفهام في ﴿ كيف ﴾ للتنبيه، وتقرير تلك الحقائق الثابتة.
وصايا الله وأوامره
إنه بلا شك كانت أكثر الأحكام بالمدينة حيث اقتضت العدالة وتنظيم الجماعة، وإقامة بنائها على أحكام الله تعالى، وعلى الفضيلة، والخلق العظيم، وكان بمكة أحكام قليلة كلها تمليها خصال المروءة والفضيلة، وإن لم تكن تنظيما لأحكام مفصلة تقوم عليها المدينة الفاضلة إلا أنها بمقتضى الفطرة الإنسانية في مبادئها الأولى، وأولها إفراد الله تعالى بالعبودية، وقد ابتدأها بها لأنه كانت البعثة ابتداء لأجلها، ثم ثنى بالإحسان إلى الوالدين، وإيتاء ذي القربى، وإقامة الأسرة بالبر والمودة وصلة الرحم ؛ أن الأسرة أصل بناء المجتمع، والأسرة في الإسلام هي الممتدة لا المقصورة على الزوجين والأولاد كما هو الشأن عند من لا يعرفون الرحمة والبر بهما، ويقطعون ما أمر الله به ا، يوصل، وقد ابتدأ سبحانه بالوحدانية فقال :
﴿ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ( ٢٢ ) ﴾
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونبي الوحدانية كيف يخاطب بهذا، وهو بعث له ابتداء، والوحدانية أولى دعوته، ولها أوذى، ولها حروب، ولها جاهد، والجواب عن ذلك أنه خطاب له أولا ولمن بعث فيهم ثانيا، وذكر هو في القول ليكون مع من يدعوهم على سواء، وأنه مطالب بما تطالبون به، وأنه ما جاء ليكون مسيطرا، فذاته مصونة، لا بل هو مطبق عليه ما يطبق على كل مؤمن، وينذر كما ينذر، ويخاف ويخوف، وهو مستقيم على الطريقة، وفي هذه التسوية التي يطويها الكلام دعوة إلى التوحيد بأقصى البلاغة وتحريض عليها، وقوله :﴿ فتقعد مذموما مخذولا ﴾، أي فتقعد عن السمو إلى المكارم مذموما، لأنك لم تسم إلى علو الوحدانية، ويخذلك الله تعالى يوم لا تجد نصيرا سواه.
قد أمر الله تعالى بعبادته وحده، وهو مقتضى ألا يجعل مع الله إلها آخر، فإن كان النهي سلبيا في الآية السابقة فالأمر هنا إيجابي، و ﴿ قضى ﴾ هنا بمعنى حكم، وحكم الله تعالى لا يحتاج إلى إبرام مبرم، ولا يتطاول إليه نقض ناقض سبحانه وتعالى.
﴿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ هنا باء محذوفة، دل عليها دخولها بعد ذلك في قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وهي معطوفة على ﴿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ والمعنى حكم الله تعالى حكما دائما ثابتا بأدلته القاطعة، وآياته البينة بألا تعبدوا إلا إياه فلا يصح عبادة غيره، وهي إذا كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فالحكم عام خوطب به الناس أجمعون، وأسند الحكم إلى ﴿ ربك ﴾ ؛ لأنه الخالق المنشئ المربى الذي خلقه وربه، وهو الذي أنزل الآيات، فذكر الرب ليكون الحكم مشتملا على أسبابه، وبعد أن حكم حكما تسجله كل الآيات في الوجود بألا يعبد إلا الله أعقبه بما يدخل في مضمونه، وهو الإحسان إلى الوالدين، ونجد دائما النهي عن الإشراك يقترن به دائما الإحسان إلى الوالدين فيقول سبحانه وتعالى مثلا :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...( ١٥١ ) ﴾ [ الأنعام ]، وقوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...( ٣٦ ) ﴾ [ النساء ]، وذلك كثير والحمد لله.
وكأنه في هذا يقرن حق الله تعالى الخالق بديع السموات والأرض، بالمنشئ نسبيا بإذن الله، وهما الأبوان، والإحسان إلى الأبوين ليس هو كفالتهما، وإمدادهما بما يحتاجان إليه فقط، بل هو أعمق من ذلك في القول والعمل والحيطة بهما، ولعل أجمع تعبير عن ذلك هو تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الصحبة، فقد سأله بعض الصحابة من أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله ؟ قال :"أمك" قال : ثم من ؟ قال :"أمك" قال : ثم من ؟، قال :"أمك"، قال : ثم من ؟ قال :"أبوك"١ وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ لمزيد الاهتمام بهما ولإثبات أنهما أولى من دون الناس بالإحسان، فلا يكون الرجل كريما مفاخرا بالعطاء بين الناس، ولا يحسن إلى أبويه.
وقوله :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾ ( إما ) هي إن المؤكدة بما، والتي يبلغ في تأكيد التعليق مبلغ القسم، ولذا تدخل معها نون التوكيد الثقيلة،
ولا تكون كذلك من غيرها، و ﴿ أحدهما ﴾ فاعل يبلغن، أو كلاهما معطوفة على أحدهما، والمعنى إن يبلغن عندك الكبر واحد منهما أو الاثنان فلا تقل لهما أف.
والتوكيد في بلوغ الكبر، ذكر لحالهما الضعيفة التي تقتضي الرعاية والإكرام في القول والعمل، وقوله تعالى :﴿ عندك ﴾ للدلالة على أنهما لجآ إليه لضعفهما ولشيخوختهما يعيشان في كنفه وظل قوته، ونعمته يرعاها، ولا ظل لهما غير ظله، وقد تكون هذه الحياة المستمرة، مع ضعف الشيخوخة، واستقذار بعض ما يكون منهما أو من أحدهما داعيا لبعض الضجر، فتتفلت منه عبارات تضجر أو تأفف، فنهاه سبحانه وتعالى عن مثل هذا فقال :﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ وهو صوت يصدر عن الإنسان منهيا عنه، فغيره أولى، ولذا أردفه بقوله :﴿ ولا تنهرهما ﴾ بأن يلومهما عن بعض ما يقع منهما، فإن ذلك منهى عنه، وذلك لأنهما تضعف مسئوليتهما لضعفهما في كل قوامها، وقال بعض العلماء : إن معنى النهر هو النهي، فهما من مادة واحدة، وكأنه لا يتضجر منهما ولا ينهاهما ؛ لأن النهي فيه منافاة لحسن الصحبة، فإن كان منهما ما يوجب النهي لا ينهى، بل يتلطف في القول منبها إلى ما يريد من غير مصارحة بالنهي، ولذا قال :﴿ وقل لهما قولا كريما ﴾ بدل التأفف والنهي والنهر، والقول الكريم : هو القول الجميل الذي يكون فيه تنبيه إلى ما يجب من غير أن يظهر من التضجر أو التأفف أو النهر أو النهي، أو اللوم فإنهما قد بلغا سنا علت بهما عن التأديب والنهي. والنهر واللوم من أعمال التربية والتهذيب، ولا يليق بهما ذلك، بل يوطئ كنفه في الفعل والقول، ويصح الاستعاضة في التنبيه بالإشارة عن العبارة، وألا يتكلم بما يرضيها.
١ متفق عليه، رواه البخاري: الأدب – من أحق الناس (٥٥١٤)، ومسلم: البر والصلة – بر الوالدين (٤٦٢١)..
وإن الحياة واستمرارها في بيته قد توقعهما في شيء من ذلك، فلا بد أن يدرع بدرع يكون وقاية له من أن يقع في شيء من هذا، والدرع هو أن يملأ نفسه برحمتهما، وعين الرحمة عاطفة، ولا تكون لائمة أبدا ولا تكون متأففة، ولا متضجرة أبدا، ولذا قال تعالى :
﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( ٢٤ ) ﴾.
الجناح هنا هو الحياطة والرعاية، وشبهت هذه المعاني بالجناح الذي يكون له قوة الطائر، وإضافة الذل إليه لتكون الرعاية ذلا لهما، وتواضعا من غير استكبار، وإن ذلك التطامن والانكسار من الرحمة لا من الذلة، وكان خفض جناح من ذل، لا من الذلة، بل من الرحمة، وفرق بين ذل الرحمة، فهو عطف ورفق وتطامن، وذل الاستخذاء والمذلة، فهو ذل خنوع، وضعف من غير قوة، وإن هذا التعبير أعلى ما يمكن من تعبير العطف والرحمة، ولكنه كلام الرحمن الرحيم، وإن الله تعالى طلب من عبده أن يقول داعيا لهما بالرحمة في كبرهما، فيقول تعالى :﴿ قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾، أي إنك لا تملك أن تصنع لهما ما صنعاه وأنت صغير، فقد حدبا عليك في محبة يريدان بقائك وأنت لا تملك هذا فتملك ما يقبله الله منك، وهو الكريم اللطيف الخبير، وهو الدعاء لهما بالرحمة مخلصا طيب النفس راضيا لعشرتهما مهما تكن حالهما من ضعف.
ولقد كتب الزمخشري صفحة في إكرام الأبوين ننقلها بحروفها لجمال لفظهما، وكريم معناها – يقول صلى الله عليه وسلم :"ولقد كرر الله تعالى في كتابه الوصية بالوالدين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم "رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما"١، وروى "يفعل البار بوالديه ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة"٢، وروى سعيد بن المسيب أن البار لا يموت ميتة سوء، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم :"إن أبوي بلغا من الكبر أن ألى منهما ما توليا مني في الصغر فهل قضيتهما ؟" قال :"لا، إنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما"٣.
وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به، فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال : إنه كان ضعيفا وأنا قوى، وفقيرا وأنت غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل علي بماله، فبكى سول الله صلى الله عليه وسلم، وقال :"ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى"، ثم قال للولد :"أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك"٤، وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال صلى الله عليه وسلم :"لم تكن سيئة الخلق حيث حملتك تسعة أشهر"، قال : إنها سيئة الخلق، قال الرسول الكريم :"لم تكن كذلك حتى أرضعتك حولين"، قال : إنها سيئة الخلق، قال الرسول الكريم :"لم تكن كذلك حتى سهرت لك ليلها، وأظمأت نهارها"، قال : لقد جازيتها. قال :"ما فعلت ؟" قال : حججت بها على عاتقي، قال صلى الله عليه وسلم :"ما جزيتها". انتهى كلام الزمخشري في الكشاف.
وقال صلى الله عليه وسلم :"إياكم وعقوق الوالدين، فإن الجنة توجد ريحها مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها، لا عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان، ولا حار إزاره..."٥.
١ رواه الترمذي، ورجع وقفه، وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وانظر الترغيب والترهيب للمنذري (٣٧٦٨): ٣/ ٢٢١..
٢ رواه ابن عساكر في تاريخه، كما في جامع الأحاديث للسيوطي: (١٨٣٢٤) – ج٦ /٢٢٠ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا..
٣ راجع الكشاف للزمخشري: ٢/ ٤٤٤..
٤ رواه ابن ماجه: التجارات – ما للرجل من مال ولده (٢٢٨٢)، كما رواه أحمد: مسند المكثرين – مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٦٠٨)..
٥ كنز العمل (٤٤٠٠٠) – ج ١/٣٢٩٥..
وأن بر الأبوين أمر مستتر خفى يظهر في العمل، فهو إخلاص وفاء وإيمان بالحق، ووفاء وإكرام، وهو دليل على صلاح النفوس، وقد قال تعالى :
﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ( ٢٥ ) ﴾.
إن الله سبحانه وتعالى نهى عن أمور، نهى عن التضجر، وعن النهي لهما عن أي عمل، وأمر بأن يقول لهما قولا كريما وربما يكون فيهما المسئ وربما يكون منهما الظالم، فبين الله سبحانه في هذا المقام وغيره مما يشابهه، فقال سبحانه وتعالى : إن الاعتماد على النفوس، وصلاحها، والله تعالى يغفر هنات الأفعال، وما لا تقصد فيه، ولا يعمد فيه إلى الشر مقصودا، وإنما يحاسب على ما تكسبه النفس ويريد به القلب، ولذا قال :﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم ﴾ وأفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه لا مفاضلة بين علمه سبحانه وعلم غيره، فلا يعلم خفى النفوس إلا خالقها الرقيب على كل شيء، العالم بكل شيء، وإنما المراد من أفعل التفضيل أنه سبحانه عالم بالنفوس علما لا يصل إليه علم قط.
وإذا كان يعلم النفوس، فهو يعلم ما تكسبه النفس، وتسوء به النية ويسود به القلب، ويعلم ما لا يقصد سوءا، وليس فيه إساءة إلا أن تجئ عفوا من إيراد الشر، ولا نية،
وصدر الكلام بقوله :﴿ ربكم ﴾ للدلالة على علمه الدقيق ؛ لأنه هو الذي خلق وأبدع، وربى ونمى، ﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ إن تكونوا في ذات أنفسكم صالحين بقلوبكم وأنفسكم، فإن الله كان للأوابين غفورا، والصالح هو المستقيم النفس، المملوءة نفسه بالإخلاص، والطاهر القلب، فالاستقامة هي الصلاح كله والاستقامة تقتضي النية المخلصة والنفس النيرة، سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشده إلى كلمة يقولها فتهديه، فقال له صلى الله عليه وسلم :"قل آمنت بالله ثم استقم"١.
وجواب الشرط ﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ هو كما أشرنا قولها تعالى :﴿ فإنه كان للأوابين غفورا ﴾ الأواب هو الذي يرجع إلى الحق دائما، فإن ضل عن الطريق آب إليه، وإذا ابتعد قليلا عن العمل الصالح آب إليه، لا يركس نفسه في شر أبدا، وبذلك يكون سريع التوبة لا يعصى، ولا تريد نفسه معصية، فإن المعصية إذا عرضت على النفس نكتت نكتة سوداء، فإذا تكررت أربد القلب، فالأواب التواب لا تنكت في قلبه نكته سوداء، فيتوب، فيغفر له الله، وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة، فقال :﴿ فإنه كان للأوابين غفورا ﴾ وقد أكد ذلك سبحانه بإن وبكان، وبصيغة المبالغة، كما قال تعالى :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( ٨٢ ) ﴾ [ طه ].
١ رواه أحمد: مسند المكيين – حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه (١٤٨٦٩)..
وبعد أن بين سبحانه حق الأبوين، وهو الإحسان في أعلى درجات الإحسان بين حق ذوي القربى فقال :
﴿ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( ٢٦ ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشياطين لربه كفورا ( ٢٧ ) ﴾.
وذو القربى هو ذو القرابة ؛ لأن القربى مؤنث الأقرب، أي يعطى ذا القربى الأقرب فالأقرب حقه، وحق ذي القربى نوعان : حق العطاء إن كان فقيرا فإن عليه نفقته إذا احتاج، كما أنه يرثه إذا مات غنيا، وقد قال تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ( ٦١ ) ﴾ [ النور ].
ولا يقتصر العطاء على المحارم، بل ذوو الأرحام جميعا لهم حق في ماله إذا احتاجوا، وقد قال تعالى :﴿... وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..( ٧٥ ) ﴾ [ الأنفال ].
والنوع الثاني من حقهم أن يصلهم بالمودة الواصلة فيزورهم ويعودهم، ويتعرف أحوالهم، ولو كانوا لا يصلونه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة"١، ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تبارك في الرزق، وتبقى الأثر بعد الموت، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه"٢. وذكر الزمخشري حقهم غير المالي فقال :( حقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك ).
هذه إشارات إلى حق ذي القربى، وأما حق المساكين وابن السبيل، فهو إطعامهم، وكسوتهم، وإيواؤهم، وذلك بالصدقات يعطيهم، وألا يبت شبعان وغيره جوعان.
ونجد أن النص القرآني يشير إلى أن الأسرة ممتدة، وإلى أن الضعاف لهم حق في المال، وهو حق السائل والحروم وأي مال في سبيلهم لا يعد تبذيرا ولا إسرافا، إنما التبذير والإسراف في غير هذه الحقوق التي يجب سدها، وإن الحق الذي يلي حق الأسرة في المال حق المساكين وأبناء السبيل والفقراء بشكل عام، سواء أكانوا مساكين أم كانوا متجملين لا يسألون الناس إلحافا.
وقد نهى سبحانه عن التبذير فقال عز من قائل :﴿ ولا تبذر تبذيرا ﴾، وتبذير المال ليس هو صرفه في حقه، بل هو تفريق المال فيما لا ينبغي وبالأولى إنفاقه في الحرام، ومما لا ينبغي ويعد تبذيرا إنفاقه في المفاخرات، وكل إنفاق في حرام أو ما لا يحسن للفخر ولو قليلا يعد تبذيرا وإسرافا، ولقد روى عن مجاهد أنه قال :( لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق جرهما في غير حق كان مبذرا ).
١ رواه البخاري: الأدب – ليس الواصل بالمكافئ (٥٥٣٢)، والترمذي: البر والصلة – ما جاء في صلة الرحم (١٨٣١)، كما رواه داود وأحمد..
٢ متفق عليه، رواه البخاري: البيوع – من أحب البسط في الرزق (١٩٢٥)، ومسلم: البر والصلة – صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٤٦٣٨)..
وإن التبذير، وهو كما ذكر : الإنفاق في غير ما يكون : من سيطر هوى المفاخرة، والمباهاة، وعدم احترم حق غيره، فلا يسرف من يعرف حق غيره عنده، ولذا قال تعالى :
﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( ٢٧ ) ﴾.
والأخوة التي تعقد بين المبذرين والشياطين تكون من وجوه :
الوجه الأول : أن الإسراف يضيع الحقوق، والشياطين يحرضون على ذلك ويرضونه، كما روى عن ابن عباس أنه قال : ما من مسرف إلا وراءه حق مضيع.
الوجه الثاني : أن التبذير إضاعة رزق الله تعالى، في غير نفع، بل في ضرر مؤكد، وهذا يرضى الشيطان، ويقرب المبذر إليه.
الوجه الثالث : أن التبذير كفر للنعمة والشيطان يحث على المعاصي، والمعاصي كلها كفر للنعم، وختم الله سبحانه الآية بقوله :﴿ وكان الشيطان لربه كفورا ﴾، أي أنه كافر بنعمة الله كفرا بلغ فيه أقصاه فلعنه الله.
وإذا كان الإسراف منهيا عنه، فالبخل أيضا منهى عنه، والاعتدال هو المطلوب ولا يكلف إنسان ما لا يقدر عليه، ولذا قال تعالى :
﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( ٢٨ ) ﴾.
الإعراض عن العطاء ألا يعطى، ولا يمنع بل يسكت كأنه المعرض، ولا يستحسن المنع، لأن المنع فيه إيئاس من العطاء، ولا يريد ذو المروءة ألا يلقى اليأس والرد القاطع المؤيس في نفس طالب، ولكنه لا يعطى عجزا، أو لعدم استحقاق الطالب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن وراء خطابه خطاب أمته، والآية تأديب كريم وتوجيه إلى ما يكون عندما لا يكون مال يجب العطاء منه، أو عندما لا يكون موجب للعطاء.
و ( إما ) هي ( إن ) المدغمة في ( ما ) التي تفيد توكيد الإعراض بتوكيد حاله أو توكيد موجبه، ولذلك كانت نون التوكيد الثقيلة، كما تكون عند القسم.
وفي قوله تعالى :﴿ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾ تخريجات ثلاثة، وكلها يؤدى إلى معنى سليم في ذاته :
التخريج الأول : أن يكون ﴿ ابتغاء ﴾ للإعراض أي أن الإعراض لتبتغي رحمة بهم من ربك ترجوها ؛ كأن ينفقوها في معصية أو خمر، فالرحمة التي يبتغيها بالإعراض هي منعهم من المعاصي أو عدم تسهيلها لهم، بعدم المعاونة عليها، وهذا حسن في ذاته، وربما يكون بعيدا بالنسبة للمسكين وابن السبيل، وهو القريب المنقطع عن ماله، وقد يكون مقصودا بالنسبة للقريب، وأولئك هم موضوع الإعراض، لأن الضمير في قوله تعالى :﴿ وإما تعرضن عنهم ﴾ يعود إلى هؤلاء.
التخريج الثاني : أن يكون قوله تعالى :﴿ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾ متعلقا بجواب الشرط، أي فقل لهم قولا ميسورا طلبا لرحمة من ربك ترجوها، برجاء يسر بعد يسر، أو لأن الجواب الجميل عند الإعراض فيه رحمة بهم لا تقل عن رحمة العطاء.
والتخريج الثالث : أن يكون قوله تعالى :﴿ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾ متعلقا بالشرط لا بالجواب، على أن يكون المعنى هكذا : إما تعرضن عنهم لفقد القدرة على العطاء مع رجاء رزق هو رحمة من ربك ترجوها، لتعطيهم عند تحقيق الرجاء وهذا هو أقربها ؛ إذ مؤداها أنك ترجوا رزقا، وقد طلب منك العطاء في وقت لا مال معك، فلا تردهم ردا قاطعا مانعا، رجاء الرزق.
وجواب الشرط ﴿ فقل لهم قولا ميسورا ﴾، أي قولا سهلا لينا من غير جفوة، بل في عطف يدينهم ولا يبعدهم، والميسور بوصف اسم المفعول من يسر، بالبناء للمجهول كسعد في قوله :﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها...( ١٠٨ ) ﴾ [ هود ] والقول الميسور لا يكون فيه قطع عن العطاء بل فيه رجاء لهم، كقوله له يسر الله لي ولكم، أو أعطاني الله وأعطاكم.
وبعد أن نهى سبحانه عن التبذير، وأمر بالعطاء أمر بالاعتدال فقال :
﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( ٢٩ ) ﴾.
معنى النهي في قوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾، نهى عن البخل بأبلغ تعبير، وفيه استعارة، وهو تشبيه البخيل بمن شد يده بغل من حديد إلى عنقه، فلا تمتد بعطاء قط، ولا تستطيع سد حاجة معوز، ولا إمداد مستغيث بقوت، والجامع في التشبيه هو عدم العطاء ؛ لأن البخيل غله بخله فلم يعط، والمشدود شدت يده فلا تتحرك، والبخل يؤدى إلى الذم من الناس.
وقوله تعالى :﴿ ولا تبسطها كل البسط ﴾ ومعنى بسط اليد فتحها بحيث لا تقبض شيئا يستولي على ما فيها من يستحق ومن لا يستحق فلا ينضبط عطاؤه، بل ينفق من غير ضابط يضبط، وقد شبه المسرف بمن تبسط يده يؤخذ ما فيها من غير إرادة صاحبها ومن غير تقديره، ومن غير تعرف من يستحق فيعطيه، ومن لا يستحق فيمنعها، بجامع ضياع المال من غير إرادة حكيمة مقدرة، تضع الندى في موضع المندى، وتمنع من يستحق المنع.
وقد بين الله تعالى نتيجة البخل والإسراف، فقال تعالت كلماته، ﴿ فتقعد ملوما محسورا ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وما قبلها هو البخل والإسراف، فقوله تعالى :﴿ فتقعد ملوما محسورا ﴾، و( تقعد ) هنا أي تصير في حال قاعدا فيها ملوما على بخلك، محسورا بضياع مالك في غير حقه، ففي الكلام لف ونشر مرتب، كما قال ابن كثير : أي فيكون ملوما في حال البخل، ومحسورا في حال الإسراف، ومحسورا، أي أصابته الحسرة على ضياع ما في يده، وصيرورته فقيرا بعد أن كان غنيا، ونقول محسورا من حسر في السفر لا يستطيع الحركة، ويكون في الكلام تشبيه حال من أصبح لا مال له بحال المحسور في السفر، الذي انقطع عن أهله، كما انقطع هذا عن ماله.
أو نقول إنه محسور، أي كليل عاجز كالدابة المحسورة العاجزة، كما في قوله تعالى :﴿ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ( ٤ ) ﴾ [ الملك ]، أي كليل.
والواقع أن الإسراف يجعل المسرف في حسرة على ماله الذي أضاعه يجعله مقطوعا عما كان له من مال كالمسرف المحسور ويجعله كليلا متبعا ؛ لأن الله أعطاه رزقا فأضاعه.
روى في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"ما من يوم يصبح العباد إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا"١.
١ متفق عليه: رواه البخاري: الزكاة (١٣٥١)، ومسلم: الزكاة – في المنفق والممسك (١٦٧٨)..
وإن بخل البخيل سببه حرصه على المال، وأنه يضيع إن ذهب، وإسراف المسرف سببه عدم احترامه لحق المال، فبين الله تعالى خطأ البخيل في تقديره، وخطأ المبذر في تبذيره، فقال تعالى :
﴿ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( ٣٠ ) ﴾.
إن الله سبحانه وتعالى هو مانح من يرزقه، وهو مقدر الرزق، وإذا كان الأمر كذلك فلا محل للبخل ؛ لأنه يعطى الرزق فربما يعطى خلفا لما ينفق ولا محل للإسراف ؛ لأن الإسراف ينافي شكر النعمة، ومعنى يبسط يوسع أي يجعله موسعا مبسوطا، ﴿ ويقدر ﴾، أي يجعله محدودا ليس بكثير، وقد قال في شأن الإنفاق :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله...( ٧ ) ﴾ [ الطلاق ].
إن الأرزاق بيد الله يعطي من يشاء عن سعة، وهو له مختبر، فإن أنفقها في خير كان شكرا لها، والله يقول :﴿... لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) ﴾ [ إبراهيم ] وإذا كان كله من الله السعة والفقر، فإن ذا السعة لا يغتر فيسرف، أو يبخل، والذي قدر عليه رزقه فليعلم أنه عطاء الله أعطاه لحكمة أرادها، والشكر حينئذ هو الرضا بها، والصبر، وقد وصف الله تعالى المؤمنين فقال تعالت كلماته :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( ٦٧ ) ﴾ [ الفرقان ].
وإن ذلك لحكمة أرادها، فربما يعطى ليظهر طغيان من أعطاه، أو شكره، ولذا ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾ الضمير يعود في ( إنه ) إلى الله العليم علم الخبير الذي أنشأ، علم من يرى ويبصر، فهو الذي قدر وأعطى، وهو الذي قدر وقلل، وللغنى الشاكر فضله عند الله، وللفقير الصابر قدره.
وقد صدر الآية الكريمة بقوله سبحانه :﴿ إن ربك يبسط... ﴾ فذكر الرب المنشئ القائم على كل شيء الذي يعطى كل إنسان قدره من هذه الحياة ويهديه.
نواهي الله لتطهي الجماعة
بين الله أنه لا يصح أن يبخل خوفا على المال وشحا به، وإنه لا يصح أن يسرف، فالإسراف تفريق للمال في غير مصارفه، ثم بين أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأشد أنواع الحرص والخوف من الفقر قتل الولد خشية الفقر، ولذا جاء النهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق وتلك مناسبة واضحة بين الآيات، وترى أن الآيات غير مقطعة بعضها عن بعض، بل هي موصولة يأخذ بعضها بحجز بعض، وهنا أمر آخر، وهي أن الآيات السابقة كان فيها بناء الأسرة على المودة والمحبة، وبناء المجتمع على رعاية الضعفاء كما قال صلى الله عليه وسلم :"إبغوني في ضعفائكم، وإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"١ وبعد بيان الأسرة وحماية الضعفاء، وفي ذلك بناء المجتمع بناء صالحا ثابتا، أخذ عن آفاته، وابتدأ بأشدها نكرا، وهو قتل الأولاد خشية الإملاق، فقال :
﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( ٣١ ) ﴾.
الإملاق هو الفاقة، وشدة الفقر، وأصلها اللغوي أملق الرجل إذا لم يبق له مما يملك إلا الملقات، وهي جمع ملقة، وهي الحجر الأملس الذي لا يقف الماء عليه، ولا ينبت زرعا، وذلك كناية عن أنه لا يملك ما يقوتهم به.
أي لا تقتلوا أولادكم خشية الفاقة، وألا تملكوا لهم مالا تنفقون عليهم منه، و﴿ خشية إملاق ﴾ تفيد أنهم الآن مالكون ما ينفقون منه، ولا يقتلونهم لذلك بل يقتلونهم خشية أن يتكاثروا فيكون الإملاق، ولذا قال تعالى :﴿ نحن نرزقهم وإياكم ﴾ بتقديم رزقهم عليهم ؛ لأنهم يخافون موتهم من جوع، فيسارعون بقتلهم، فالله تعالى أمنهم على رزق هؤلاء الأولاد، وفي تقديم رزق الأولاد إشارة إلى أمرين : أن رزقهم يتبع رزق الأولاد، فإن قتلوهم فقد حرموا هم أيضا الرزق ثم إن الأولاد ذاتهم رزق من الله.
وبعد هذا الترغيب، وتسهيل الأمر عليهم، بين أثر ذلك القتل أو أشار إليه فقال تعالى :﴿ إن قتلهم كان خطئا كبيرا ﴾ أي إثما، فالخطأ : الإثم والوزر، وقرئ بفتح الخاء٢ على أنه من الوزر أيضا، لأنه من خطئ يخطأ خطأ، كأثم يأثم إثما يقال : إثما، ويقال خطأ بمعنى الوزر، كما يقال حذرا وحذرا بفتح الحاء والكسر.
ووصفه سبحانه بالكبر منكرا، دليل أنه خطأ عظيم أشد ما يكون الإثم إذ إنه يؤدى إلى فناء الأمة أو ضعف نسلها، وفي ضعف النسل ذهاب ريحها وقوتها.
والقتل المنهى عنه في الآية يشمل ما كان في عصر نزول القرآن وما قبله من أعمال الجاهلين، من وأد البنات، وما يقوم به الآن بعض المنحرفين المعاندين الذين يمنعون النسل، أو يحددونه، أو يضبطونه، أو ينظمونه، أو غير ذلك من العبارات المقلدة التي يدعون إليها المسلمين ولا يدعون إليها النصارى واليهود. روى في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود :"قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم قال :"أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قلت : ثم أي ؟ قال :"أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"، قلت : ثم أي ؟ قال :"أن تزانى بحليلة جارك"٣.
وقد قال تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت ( ٨ ) بأي ذنب قتلت ( ٩ ) ﴾ [ التكوير ].
قالوا إن في الآية نهى عن القتل، وضبط النسل أو تحديده أو تنظيمه، هو بمنع الحمل، لا بالقتل بعد أن يولد حيا، ونقول في الجواب عن ذلك إن ذلك وأد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أخبار العزل :"العزل هو الوأد الخفي"٤ ومهما يكن فإنه محاربة لإرادة الله وتحد ؛ لأن الله هو الرزاق، ومعاندة لصريح الآية ﴿ نحن نرزقهم وإياكم ﴾.
ولقد رخص الإمام الغزالي في العزل لأسباب كثيرة، ولكنه قرر أمرين :
الأمر الأول : أنه لا يجوز العزل لحال الخوف والفقر ؛ لأن ذلك يكون مصادمة صريحة للنص القرآني، وإن الأرض لم تضق بسكانها، فلم ينل من خيرات إلا بعضها القليل، وأرض المسلمين واسعة.
الأمر الثاني : أن العزل في أي حال رخص فيها مما لا ينبغي أي أنه لا ينبغي بالجزء فلا يجوز بالكل، والله أعلم. بعد النهي عن قتل الأولاد رجاء ما يؤدى إلى قتل الأولاد أو ضياعها أو فيه بشكل عام إضعاف للنسل فقال تعالى :
﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( ٣٢ ) ﴾.
١ سبق تخريجه..
٢ قراءة (خطئا) بفتح الخاء والطاء: يزيد (أبو جعفر المدني) وابن ذكوان. غاية الاختصار: ٢/ ٥٤٦..
٣ متفق عليه، رواه بنحو ذلك البخاري: البخاري: تفسير القرآن – قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) (٤١١٧)، كما رواه في خمسة مواضع أخرى بألفاظ متقاربة، ومسلم، ومسلم: الإيمان – كون الشرك أعظم الذنوب (١٢٤)، (١٢٥). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٤ سبق تخريجه..
﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( ٣٢ ) ﴾.
النهي عن قرب الزنى، وهو يتضمن النهي، فلم يقل سبحانه : لا تزنوا، بل قال : لا تقربوا، وهذا يتضمن النهي عن الزنى وعن كل ما يؤدى – أو يظن أنه يؤدى – إليه، كالقبلة والملامسة، ورؤية الأجزاء المغرية من جسم المرأة، والرقص الذي يثير الغريزة الجنسية، وأصوات النساء المغرية التي تتلوى فيها المرأة بما يثير ويدفع، ونشر الصور العارية، وغير ذلك مما نراه ونسمعه كل يوم، فكل هذا منهى عنه، وهو حرام ؛ لأنه قرب من الزنى أو ذريعة إليه، وكل ما كان حراما في ذاته فذريعته ممنوعة، وهذا باب يسمى في الفقه سد الذرائع، فكل ما يؤدى إلى حرام لذاته يكون حراما لأنه يؤدى إليه.
والزنى يؤدى إلى ضياع النسل، فإذا كان وأد الأولاد محرما، لأنه يضعف النسل، فالزنى يضيع النسل، ويذهب بقوة الأمة، وما كثر الزنى في أمة إلا عمها الخراب، وضاعت فيها الأنساب بل ضاع نسلها، واعتبر ذلك بالأمم التي تنحل بشيوع الزنى فيها، فإنه يقل عددها، ويضيع نسلها، ويكثر فيها الأولاد الذين لا آباء لهم، وإن البلاد الأمريكية والأوربية لكثرة الزنى فيها، وانحلالها قل نسلها، والمسلمون مهما تكن حالهم في القرب من الإسلام أو البعد لا تزال هذه الفاحشة ليست كثيرة فيهم ولكثرتها عند الأمريكان والأوربيين يعملون على إضعاف النسل بين الذين تغيظهم كثرتهم بأمرين :
الأمر الأول : إشاعة اللهو والمجون لتفرغ من الحقائق الإسلامية ولتميع نفوسهم كما ماعوا.
الأمر الثاني : العمل على منع النسل أو منع كثرتهم بدعايات منظمة وأموال يبذرونها في المسلمين لتعم هذه الدعاية فيهم.
وقد وصف الله الزنى بقوله تعالت كلماته :﴿ إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ وصف الله سبحانه بأنه فاحشة، أي أنه حال قبيحة مفرطة في القبح زائدة زيادة فاحشة، ﴿ وساء سبيلا ﴾، ساء تستعمل بمعنى أفعل التعجب أي ما أسوأه سبيلا وطريقا في الحياة ؛ لأنه اعتداء على الفضيلة، ويؤدى إلى انحلال الأسرة، وانحلالها انحلال للمجتمع.
وبعد بيان أسباب قتل الأمة نهى سبحانه عن القتل المباشر فقال سبحانه :
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( ٣٣ ) ﴾.
تدرج في النهي، فالنهي الأول كان عن قتل الأولاد، ثم حرم ما يؤدى إلى ضياع الأولاد وموتهم، وضياع النسل وانحلال الجماعة ثم نهى النهي الصريح، ﴿ ولا تقتلوا النفس ﴾ وعبر بالنفس ؛ لأن القتل، وإن اتجه إلى الجسم، غايته الاعتداء عليه، وإزالتها من الوجود، وقد صرح الله تعالى بأنه محرم قتلها، فهو وصف كاشف مبين دل على التحريم القاطع الذي لا مسوغ له، وقوله تعالى :﴿ إلا بالحق ﴾، استثناء من النهي، وقد صرح الله تعالى ببعض المسوغات أو الحال التي يكون فيها القتل فقال :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنها قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا...( ٣٢ ) ﴾ [ المائدة ].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم معنى القتل بالحق فقال :"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، وزنية ثيب، وردة بعد إيمان"١.
وإن القتل أشد الجرائم، فقد قال :﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( ٩٣ ) ﴾ [ النساء ]، والنبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشافعي :"لزوال السموات والأرض أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق"٢.
ولذلك سوغ الله تعالى لولى المقتول أن يطالب بدمه، ﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ ووليه هو قريبه بالعصبة، ويكون ولي الأمر وليا في المطالبة بدمه إذا لم يكن له ولي ولا عاصب، وإذا كان قاتله هو ولي الأمر الأكبر وعجز وليه العاصب عن المطالبة بدمه فإن المسلمين جميعا عليهم أن يطالبوا بالدم، لأنهم أولياؤه ؛ ويكونون عصاة مذنبين إذا لم يطالبوا بدم من قتل مظلوما، ولو كان القاتل هو الخليفة الأعظم، ولو خذلوه، ولم يطالبوا بدمه يكونون آثمين وعصاة، وبترك ذلك الواجب المقدس ذهبت قوة المسلمين.
وقد روى التاريخ الكثير عن قتل الحكام الظالمين لبعض أهل الإيمان، وسكوت المؤمنين، ورأينا في عصرنا من قتل المؤمنين قتلة فاجرة والمسلمون ساكنون ينظرون، ومن يتسربلون بسربال الدين يبررون ويحثون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإن من مقررات الإسلام أنه لا يهدر دم الإسلام، كما روى عن علي كرم الله وجهه أنه لا يطل دم في الإسلام.
وقوله تعالى :﴿ فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾، أي تسلطا على القاتل، يتتبعه حتى يقتضي الحاكم منه، وقوله تعالى :﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ بقتل غير القاتل أو بقتل كثيرين في واحد، كما كان يفل أهل الجاهلية، ومن الإسراف المثلة، ﴿ إنه كان منصورا ﴾، أي إن الله ناصره، وقد خذله حقه فلا يتجاوزه، وقد خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين القود أو العفو أو الدية فإن زاد عن الثالثة فخذوا على يديه.
١ **** رواه البخاري: الديات – قول الله تعالى أن النفس بالنفس (٦٣٧٠)، ومسلم بنحوه: القسامة والمحاربين – ما يباح من دم المسلم (٣١٧٥)..
٢ ٤ كما رواه بنحوه ابن ماجه عن البراء بن عازب، والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو. وقد سبق تخريجه..
وإن الله سبحانه بين حق القرابة، وحق الضعفاء من المساكين وأبناء السبيل، ثم بين بعد ذلك من يجتمع فيهم أحيانا حق القرابة والضعف، وأحيانا لا تكون لهم قرابة راحمة، بل يكونون في رحمة الله، والجماعة تكنفهم، فقال تعالى :
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا العهد إن العهد كان مسئولا ( ٣٤ ) ﴾.
اليتيم إما أن يكون قوة بانية في الجماعات أو قوة هادمة، فإن روعى حق رعاية، وحوفظ عليه بالصيانة والتربية والتنشئة نشأة صالحة يحس بأن من حوله يرعاه، ويكلؤه ويحميه نشأ محبا رحيما بغيره، لأنه عاش برحمة غيره، وإن نشأ في بيت لا يؤنسه ولا يكرمه، ولا يعطيه محبة ورفقة نشأ عدوا للجماعة، وكان فيه ما يسمى عقدة النفس، أو مركب النقص، ولذا عنى به الإسلام أبلغ عناية بنصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر ( ٩ ) ﴾ [ الضحى ]، وقوله تعالى :﴿... ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح...( ٢٢٠ ) ﴾ [ البقرة ]، وترى القرآن الكريم قد حث على المحافظة لأن المخالطة مع الإكرام تؤنسهم وتبعد عنهم الوحشة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"خير البيوت بيت يكرم فيه يتيم وشر البيوت بيت يقهر فيه يتيم"١.
وإن اليتيم إن كان فقيرا كان في رحمة المجتمع بأمر الله تعالى، ولقد قال تعالى :﴿ فلا اقتحم العقبة ( ١١ ) وما أدراك ما العقبة ( ١٢ ) فك رقبة ( ١٣ ) أو إطعام في يوم ذي مسبغة ( ١٤ ) يتيما ذا مقربة ( ١٥ ) أو مسكينا ذا متربة ( ١٦ ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ( ١٧ ) ﴾ [ البلد ].
وإذا كان اليتيم ذا مال، تهافت عليه الطامعون، كما يتهافت الذباب على الطعام الحلو الذي لا حامى له، فتقعد نفس اليتيم بما يحس له من طمع الناس، وأكلهم ماله أكلا لما، ويحس في مذأبة لئام، ولأنه يناله الحرمان والقهر، وهو ذو مال، ولذا نهى الله تعالى عن أخذ ماله ووجوب رعايته، والمحافظة عليه، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ ونهى سبحانه عن القرب من ماله إلا بالتي هي أحسن، وذلك يتضمن ثلاثة أمور :
الأمر الأول : ألا يأكله أو ينهبه أو يأخذ بغير حق، وإنه لضعف يسهل أخذ ماله من غير حسيب إلا الله.
الأمر الثاني : أنه إذا قربه يقربه بالتي هي أحسن أي بالطريقة التي أحسن، وأدعى لحفظه، وذلك بالمحافظة عليها وإعطائها اليتامى في وقت قدرتهم على إدارتهم، كما قال تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم...( ٦ ) ﴾ [ النساء ].
الأمر الثالث : أن يعمل على تنميتها، فإن ذلك من الطريقة التي هي أحسن، وأن يدفع زكاة أمواله، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة"٢.
نهايته أن يبلغ أشده، ويؤنس رشده، ويختلف ذلك باختلاف العصور والمعاملات، فيبلغ الرشد حيث لا تكون المعاملات معقدة بحجر كبلوغ النكاح، ثم تعلو سن الرشد كلما تعقدت المعاملات وهذا ما يرمى إليه قوله تعالى :﴿ حتى يبلغ أشده ﴾، أي أعلى قواه العقلية البدنية ويستطيع أن يدير ماله بنفسه من غير رقابة، والأشد هو القوة العالية على صيغة الجمع من غير مفرد وقيل له مفرد وهو شدة بمعنى قوة ولكن لم يعهد جمع فعلة على افعل، وقيل يجمع على أشد مثل كلب وأكلب.
وأطلقت كلمة أشد على بلوغ الأربعين، كما في قوله تعالى :﴿... حتى إذا بلغ أشده أربعين سنة...( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ]، وهي التي تجمد فيها العادات والتقاليد ويعلو صاحبها عن الردع، ولذا قال بعده :﴿... وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي...( ١٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
ولقد قال في ذلك الأصفهاني :"إن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكاد يزايله بعد ذلك". وما أحسن ما قاله الشاعر :
إذا المرء في الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقد قرن سبحانه النهي عن القرب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن بالأمر بالوفاء بالعهد فقال سبحانه وتعالى :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ﴾، العهد هو عهد الله تعالى بالإيمان به والقيام بحق التكليف، والعهد الذي يعاهد الناس عليه في معاهدة أو عقد أو غير ذلك مما يرتبط به أمام الناس موثقا العهد بيمين الله تعالى أو غير موثق، وعلل الأمر بقوله تعالى :﴿ إن العهد كان مسئولا ﴾، أي أنه يسأل إذا نكث فيه، ويسأل إذا لم يوف به على الوجه الكامل وهو تحت رقابة الله تعالى وكفالته، فلا يصح التفريط فيه، وقد بينا طلب الإسلام للوفاء بالعهد في قوله :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( ٩١ ) ﴾ [ النحل ].
وقد يسال سائل لماذا اجتمع الأمر بالأمر بالوفاء بالعهد مع النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في آية واحدة ؟ ونقول : إن ذلك يشير أولا أن اليتيم مع كافلة كأنه في عهد أمانة عاهد الله تعالى عليه فلا يضيع ذلك العهد، ويشير ثانيا إلى أن العقد في مال اليتيم يجب الوفاء به كما يجب الوفاء في مال غيره، ويشير ثالثا إلى أنه مسئول أمام الله عما فعل ف مال اليتيم، والله أعلم.
١ سبق تخريجه..
٢ سبق تخريجه..
بعد أن بين الله تعالى ما يقوم عليه بناء الأسرة، المجتمع وما يحفظه من الآفات بين ما ينميه وهو العدالة في التعامل فقال :
﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( ٣٥ ) ﴾.
أوفوا الكيل : قدموه وافيا إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، القسطاس هو الميزان، والقسطاس كلمة في أصلها رومى، ولكنها عربت وما يعرب يكون عربيا، وإن اللغات تنمو بزيادة ألفاظ فيها ولو كانت مستعارة من غيرها، ولا يطعن في القرآن بأن فيه عربيا على ذلك النحو ؛ لأنها صارت عربية بتعريبها ما دام النحو سليما والبناء قويما.
والقسطاس المستقيم أي السوي الذي لا يميل ميلا غير سليم، فيزن بالباطل و ﴿ ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾، أي ذلك خير في ذاته لأنه عدل في المعاملة، وبه تستقيم أمور الناس، ويطمئون ﴿ وأحسن تأويلا ﴾، أي أحسن مآلا فإن العدل والتساوي في المعاملة مآله في الأمم حسن دائما.
وإن ذكر الكيل والميزان لأنهما حسيان، ولكنهما رمز لكل المعاملات التي تكون بين الجماعة، فالمعاملة العادلة تربط الناس برباط من القوة لا تنفصم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك"١، فذلك هو القانون العادل الذي يصلح الناس في هذه الحياة.
١ سبق تخريجه..
طلب الحق هو السبيل إلى الخير
هذا بيان للطريق السوي الذي يسلكه المؤمن للوصول إلى الحق، وهو ألا يتبع الأوهام، فما ضل الناس إلا باتباع الأوهام، ووراء الأوهام ودأب العقول غير المدركة تكون الأهواء والشهوات وضلال الأفهام، ووراء ضلال الأفهام عبادة الأوثان، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ( ٣٦ ) ﴾.
القفو معناه التتبع، وأصله ما يؤدى إلى الكذب أو القذف أو البهتان، ومنه القائف وهو المتتبع للآثار، وأصله القياس وهو العلم بالحدس والتخمين وإلا كان كما يعبر الشافعي، الظن الذي لا يبنى على أساس علمه، وقد قال تعالى :﴿... وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( ٢٨ ) ﴾ [ النجم ].
والآية تنهى عن أن يتبع ما ليس عنده أسباب للعلم به، أو ما ينافيه العلم الصحيح والوقائع البينة كشهادة الزور، وقذف المحصنات وتتبع عورات المؤمنين ليعلنها، وقد سترها الله تعالى عليهم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج"١.
ويقول ابن كثير بعد أن روى أقوال الصحابة في قفو ما ليس ما به علم، ومضمون ما ذكره : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخبال، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن...( ١٢ ) ﴾ [ الحجرات ]، وإن تتبع الأمور من آخذ العلم من غير مظانه يحل عرى العقل، حتى يتوهم ما ليس بحق، ويفترى ما لم ير، ولم يسمع، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"إن أفرى الفرى أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا"٢، وإن نتيجة قفو الإنسان والحكم بغير علم يؤدى إلى ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يرى عينيه ما لم تريا بعين خياله، وإن ذلك هو الخبال، وقد سمعنا في مصر منذ بضع سنين شائعة بين الناس أشاعها النصارى أنهم رأوا سورة العذراء، وادعوا أنهم رأوها، وما رأوها.
وإن اتباع الأوهام يجئ دائما من أن يقفو الرجل ما لم يكن عنده أسباب العلم به، فيتخيل ثم يخال، وذلك هو الخبال، وكذلك تنشأ العقائد الباطلة من عبادة الأوثان، والتثليت، وغير ذلك من العقائد الباطلة التي تنشأ من الأوهام وأن يرى العين ما لم تر، فذلك هو الضلال المبين.
وقد بين الله طريق العلم الهادي المرشد، وهي هبات الله تعالى التي وهبها للإنسان فقال :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾، هذه طرائق ؛ فالسمع ينقل العلم الغيبي وينقل العلم الحسي، والفؤاد وهو هنا العقل يربط بين ما سمع وأبصر من آيات، ويكون حكمه القطعي الرشيد.
وإنها مسئولة فيسأل السمع لماذا لم يسمع الحق وينصت إليه، ويسأل البصر لماذا لم ير الآيات وينظرها نظرة إدراك وتعرف، والعقل لماذا لم يفكر فيما تنقله إليه الحواس، ولماذا لم يأخذ بأسباب العلم ويتبع الأوهام فيكون الخبال ووراءه الضلال.
وقوله :﴿ كل أولئك ﴾ الإشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وكل واحد منها كان مسئولا بمفرده، ومسئولا في جماعته و ( أولئك ) يشار بها إلى الجمع مذكرا كان أو مؤنثا، أو كان خليطا والله تعالى أعلم.
١ رواه أحمد: مسند المكثرين (٥٢٨٥)..
٢ رواه أحمد – مسند المكثرين ()٥٤٥٣..
ونهى الله تعالى بعد ذلك عن العجب والخيلاء، وهو سبيل الضلال كالأوهام :
﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( ٣٨ ) ﴾.
"المرح" الخيلاء والعجب، والفرح بما أوتى من صحة أو مال أو جاه أو سلطان، أو مرحا مصدر أي ذا مرح، وهناك قراءة بالكسر١، وتكون حالا أي مرحا معجبا مختالا متزينا معتزا بما أعطيه.
قال تعالى :﴿ إنك لن تخترق الأرض ﴾، أي تخترقها بوطائك مهما تكن قوتك، ﴿ ولن تبلغ الجبال طولا ﴾، أي لن تناهد السماء وتناصبها، حتى تبلغ طولها، وتعلو عليها، أي إنك مهما تكن في قوتك لن تكون قادرا على خرق الأرض أو التطاول على السماء، وهذا يدل على عجزه مهما زعم نفسه قويا، وأنه مهما يتفاخر فهو قمئ٢ لا يقدر على شيء مهما يعط نفسه من فخار، وكأن في الكلام تشبيها لحاله بحالة من يحاول أن يرق الأرض بقوته أو يعلو إلى السماء بغروره، وإن ذلك مستحيل فكذلك ما يزعمه لنفسه مستحيل.
وإن هذا من الكبر والخيلاء، وهما يؤذيان الناس ولا ينفعان صاحبهما، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من تواضع لله رفعه"٣ هو في نفسه حقير وعند الله كبير، ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وهو عند الله حقير.
وإن الكبر يسئ إلى الناس ؛ لأن المتكبر يستعلى عليهم ويضيع حقوقهم، ولا يباليهم ولا يحس بإحساسهم ويشمخ بنفسه كأنه فوق التبعة، ولا يسأل عن فعله وحاله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :"الكبر بطر الحق، وغمط الناس"٤.
١ قراءة (مرحا) بكسر الراء، لم أجدها في العشر المتواترة..
٢ القمئ: الذليل الصغير حجما أو قدرا. القاموس المحيط (ق م أ)..
٣ رواه مسلم: البر والصلة والآداب (٤٦٨٩)، كما رواه الترمذي وأحمد ومالك والدارمي..
٤ **** سبق تخريجه..
﴿ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( ٣٨ ) ﴾.
الإشارة إلى المذكور قريبا هو المشي مختالا مرحا معجبا بنفسه، ﴿ سيئه ﴾ يقرأ بالضمير أي يسوء في ذات نفسه ويسئ لغيره وهو عند الله مكروه مبغوض، فيلتقى فيه أمران مذمومان :
الأمر الأول : أنه في ذاته عمل سيء ويسوء الناس.
والأمر الثاني : وهو الأهم : مكروه مبغوض عند الله تعالى.
إن الكبر ينبعث من إحساس بأنه أوتى ما لم يؤت غيره.
وإننا نشاهد ذلك في بعض المنتسبين للعلم، إذ أعطوا لأنفسهم مكانا ليس لهم أو اتصلوا بالحكام الظالمين، وقد رأينا ذلك في عصرنا، ورأيناه يذكر عمن كانوا قبلنا، قال الناصر أحمد الذي مات في القرن السابع، فقد قال في قوله تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾ : وفي هذا من التهكم والتقريع لمن يمشي هذه المشية كفاية في الزجر عنها، وقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها بعض قراؤنا وفقهاؤنا، فبينما أحدهم قد عرف مائتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شد طرفا من رياسة الدنيا، إذ هو يتبختر في مشيته، ويترفع ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، والله ولي التوفيق :
﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( ٣٩ ) ﴾.
الإشارة في ﴿ ذلك ﴾ إلى المذكور من الآيات من قوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( ٣٧ ) ﴾ وإن الله تعالى ذكر ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة، والحكمة هي العلم النافع، وفي هذا العلم نفع كبير، فقد ابتدأ بتطهير العقل والنفس من أدران الشرك، ورجس الأوثان ثم بين بناء المجمع على دعائم الأسرة، وعلى ألا يجعل يده مغلولة إلى عنقه ولا يبسطها كل البسط ونهى عن الإسراف وما من إسراف إلا ووراءه حق مضيع، ثم طهر المجتمع من أوزاره فنهى عن الفحشاء، وقتل النفس أو قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وأمر بأن تقوم العلاقة بين الناس على أساس الوفاء بالعهد، وعلى أن يحب الإنسان لنفسه ما يحب لغيره، وأن العلاقة على أساس المقام الذي لا اعتداء فيه هي خير وأحسن، ونهى عن السير وراء الأوهام، وهذه كلها علوم نافعة ؛ لأن فيها نفع الإنسان وإقامة مجتمع صالح قد حلى بمكارم الأخلاق وخلى من ملائم الناس.
وعن ابن عباس هذه الثماني عشرة كانت في ألواح، أولها ﴿ ولا تجعل مع الله... ﴾ إلى هذه الآية.
ويقول الزمخشري في الكشاف :"وسماها حكمة ؛ لأنها كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه" وأقول : لأنها معان محكمة لا تقبل النسخ بحال من الأحوال، وقال الزمخشري أيضا :"ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمها النهي عن الشرك ؛ لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وأن بذ فيها الحكماء، وبلغ بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهو عن دين الله أضل من النعم".
وختم الله الآيات بقوله :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾، أي يجتمع عليك عذابان :
العذاب الأول : أنك ملوم لأن فعلت فعلا لا يليق بالعقلاء وهو في ذاته مذموم عند من يدرك الحقائق.
العذاب الثاني : أن تدحر أي تهلك بالإبقاء في نار جهنم، وقد ابتدأ سبحانه ببيان أن الشرك يقعد به عن الوصول إلى الحق ويقعد مذموما مخذولا، لا ينصره أحد، وختم الآيات بأنه يلقى في جهنم هالكا مذموما ملوما لا يبرر كفره أحد.
آثار الشرك ضلال العقول
إنهم يجرون وراء الأوهام ويقفن ما ليس لهم به علم، فيدعون ما لا دليل عليه من نقل ولا من عقل، ومن ذلك أن جعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثا، وكان ذلك غريبا لأن مؤداه أنه سبحانه اصطفى لهم البنين، وجعل له الإناث وهذا غير معقول في ذاته ؛ لأن الناس في شئونهم العادية يؤثرون أنفسهم بالخير ويختارون لغيرهم دونه، وكذلك قال سبحانه وتعالى في استفهام إنكاري :
﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( ٤٠ ) ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ترتب على أنهم يقفون ما ليس لهم به علم أن ساروا وراء أوهام لم يبنوا علمهم على علم علموه، ولكن على أوهام توهموها.
و ( الفاء ) مؤخرة عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ ﴿ أفأصفاكم ﴾، أي اختار لكم الصفو الخالي من الشوب، الذي لا يخالطه ضعف، أي هل اختار لكم البنين واتخذ الملائكة إناثا، وهذا يتضمن ادعاءين ادعوهما بأوهامهم :
الادعاء الأول : أنهم قالوا : إن الملائكة إناثا.
والادعاء الثاني : أنهم بنات الله تعالى، وإنهم بذلك قد افتروا على الله تعالى أعظم الفرية، وزينت لهم أوهامهم أعظم الباطل، إذ جعلتهم في خبال، ولذا قال تعالى :﴿ إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾، أي عظيم في أنه بهتان عظيم ؛ لأن الله تعالى ليس من جنس الحوادث، ﴿ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة...( ١٠١ ) ﴾ [ الأنعام ]، وإن الولد من صفة الحوادث، والله سبحانه وتعالى منزه عن المشابهة بالحوادث، ﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) الله الصمد ( ٢ ) لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ولم يكن له كفوا أحد ( ٤ ) ﴾ [ الإخلاص ] وقد أكد سبحانه أن هذا القول منهم عظيم أولا ب ( إن ) للتوكيد، وثانيا ب ( لام ) التوكيد.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى معجزته الكبرى وهو القرآن فقال تعالى :
﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( ٤١ ) ﴾.
أكد الله تعالى أنه يصرف القول في القرن، فقال :﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ﴾، أي صدقنا عباراته ومعانيه، فأحيانا تكون قصصا فيها العبر، وأحيانا تكون بالأمثال يضربها، وأحيانا يقرر الحقائق بطريق الاستفهام، وأحيانا ينفيها، ويستنكرها، وهو في كل ذلك ينتقل من إقرار حكيم معجز إلى مثله، وقد قال بعض العلماء في تصريف القرآن : لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وهكذا كان التصريف من أسرار الإعجاز وهو أعلى درجات البلاغة وأسرارها.
وإنك وأنت تقرأ القرآن وهو مأدبة الله تعالى تنتقل فيها من طيب سائغ إلى طيب سائغ، في حلاوة طعم، وجمال منظر وكله هنئ مرئ ؛ لأنه مائدة رب العالمين.
وقد صرف الله سبحانه في القرآن ذلك التصريف ﴿ ليذكروا ﴾، أي ليملأوا قلوبهم بذكر الله وليعتبروا بعبره، وليروه فيه الكلام المعجز الذي يذكرهم برسالة النبي ليؤمنوا.
ولكن المتنعت المعاند لا يقنعه الدليل ولا يزيده إيمانا بل إن عناده وطغيانه يزيده استمساكا بضلاله وإصرارا على كفره، ولذا قال :﴿ وما يزيدهم إلا نفورا ﴾، أي إلا بعدا عن الحق نافرين منه.
والتذكير هنا هو التدبر كما قال تعالى :﴿... قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ( ١٢٦ ) ﴾ [ الأنعام ]، والنفور كما أشرنا الإيغال ف الضلال والإمعان فيه، وأي ضلال أشد من النفور من الحق واجتنابه.
ولقد قال تعالى موجها القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم لإبطال شركهم :
﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) سبحانه وتعالى عما قولون علوا كبيرا ( ٤٣ ) ﴾.
هذه الآية الكريمة متصلة بقوله تعالى :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾ وتوسط بينهما وهم أن الملائكة بنات، وتصريف القرآن ليتذكرون وذلك للإشارة إلى أن الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى يتبعون الأوهام ويصيبهم الخبال بهذه الأوهام، ولا يجد الدليل الإيجابي مجازا إلى قلوبهم، فصرف الله تعالى القرآن ليتذكروا فأبوا إلا نفورا كشأن أعداء الحق، ويبين الله تعالى على لسان نبيه بطلان ما يعبدون، فيقول سبحانه :
﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾
ذو العرش هو الله تعالى، وعبر بهذا التعبير لبيان كمال سلطانه في ملكه وأنه لا شريك له، فأظهر بعد الإضمار لذلك، والمعنى كما يقرر ابن عباس : لو كان مع الله تعالى آلهة غيره كما يدعون لنازعوه السلطان في الوجود، ولعاندوه في خلقه، ولكن لا يمكن ذلك، وإلا فسد الكون، كما قال تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( ٢٢ ) ﴾ [ الأنبياء ].
ويكون هذا الكلام لإبطال زعمهم بدليل يؤدى إليه من نزاع وذلك باطل، وقد خرج الآية آخرون تخريجا فيه مثل هذه من حيث إنه إبطال الدعوة التي يدعونها، وذلك التخريج الآخر أنهم قالوا : إن المعنى أنه لو كان هناك آلهة كما يقولون ﴿ لابتغوا ﴾، أي لطلبوا سبيلا لذي العرض ليعبدوه، كما قال تعالى في آية ﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة...( ٥٧ ) ﴾ فأتى سبحانه ببرهان التوحيد من دعواهم، أي أن التي يدعون لها الألوهية خاضعة لله ؛ لأن كل من في الوجود خاضع لله تعالى ؛ لأن له السلطان الأعلى في ملكوت السموات والأرض.
ومهما يكن التخريج فإن الآية إبطال لعبادة الأوثان وأنها من الأوهام وأنها من أنهم يقفون ما ليس لهم به علم، فيقعون في الباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولقد قال تعالى منزها ذاته العلية عن هذه الأوهام :
﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( ٤٣ ) ﴾.
أي تقدست ذاته عن أن له شريكا، وتعالت وسمت. ﴿ علوا كبيرا ﴾، أي علوا بعيدا في علوه، كبيرا في ذاته بحيث لا يكون ثمة علاقة بأي نوع من أنواع العلاقة بينه وبين رب البرية ؛ لأن الوجود كله يخضع له، ويسبح بحمده، ولذا قال تعالى :
﴿ تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( ٤٤ ) ﴾.
﴿ تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( ٤٤ ) ﴾.
﴿ تسبح له السموات السبع والأرض ﴾، أي طبقات النجوم وبروجها، وكل سماء زينت بمصابيح هي نجومها، والتسبيح الخضوع له سبحانه وتعالى، وكونها طائعة له سبحانه فكل الوجود في قبضته، وإن هذا التسبيح يرشح للتفسير الثاني ؛ لقوله تعالى :﴿ إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ﴾، أي الذي يقول : إن المعنى أن آلهتهم خاضعة لله يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
والتسبيح هو بمعنى الخضوع الكامل لله تعالى، لا يخرج شيء مما في الوجود أو أحد عن طاعته سبحانه، ويصح أن يراد بهذا الخضوع مع ذكر الله تعالى بالتنزيه عن الشريك وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإنه يكون خاشعا مسبحا عابدا، وإن كان غير مكلف كما يكلف العقلاء وإن الحجارة طوع يمينه سبحانه، ولقد قال تعالى :﴿... وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله...( ٧٤ ) ﴾ [ البقرة ].
وإذا كانت هذه حال الوجود كله من أنه يسبح الله تعالى، وإن كانا لا ندرك تسبيحه فكان ذلك دليل وجوب عبادته وحده لا يعبد سواه، وقد استدرك الله تعالى على حكمه سبحانه بتسبيح الوجود بقوله :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾، أي لا تنفد بصائركم ومدارككم إلى إدراك تسبيحه ؛ لأنه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( ١٤ ) ﴾ [ الملك ] سبحانه وتعالى.
ولقد ذكر الزمخشري أن معنى يسبح بحمده أنها تسبح بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تتعلق بذلك وكأنها تتنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيره، ويقول : إن قوله تعالى :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ خطاب للمشركين من حيث إنهم لم يأخذوا بمقتضى دلالة الحال، وما توجبه من إيمان بالله وحده.
وفي الحق، إن الزمخشري أخرج النص من ظاهره إلى مجاز صحيح في ذاته، ولكنه بعيد من جهة، ولا ينقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة توجب الخروج، وإلا بتعذر الحقيقة أو يكون في المجاز جمال لفظي خاص يليق بمقام البيان القرآني، وقد فند الناصر كلام الزمخشري بقوله :"ولقائل أن يقول فما تصن بقوله تعالى :﴿ كان حليما غفورا ﴾ وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين ﴿ حليما غفورا ﴾ المؤمنين والظاهر أن المخاطب المؤمنون، وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى النملة والبعوضة، وكل ذرة من ذرات الكون لوجدها تسبح الله تعالى وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعندي أن قوله تعالى :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ خطاب لكل من هو أهل للخطاب.
وقوله تعالى :﴿ إنه كان حليما غفورا ﴾ لا يعاجل بالعقوبة ويفتح الغفران لمن يتوب، ولو كان مشركا يتوب عن شركه، كما :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف...( ٣٨ ) ﴾ [ الأنفال ]، وأكد سبحانه وصفه بهذين الوصفين ب ( إن ) المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار، وصفه التشبيه الدالة على كمال الاتصاف.
القرآن حجاب مستور عن المشركين لشركهم
يقول الله تعالى مخاطبا نبيه الذي يدعو إلى الحق والقرآن بالقرآن :
﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخر حجابا مستورا ( ٤٥ ) ﴾..
وذكر سبحانه الذين لا يؤمنون بالآخرة ؛ لأن الذين لا يؤمنون بالبعث تجمد قلوبهم على الحس فلا يؤمنون بغيره، وتغلظ على الهدى ؛ لأنهم يحسبون أنه لا حياة غير هذه الحياة، فيرتقبون ويلعبون ويلهون وكأنما خلق الإنسان عبثا، وذلك أداهم إلى الكفار فصاروا لا يؤمنون بشيء.
و ﴿ حجابا مستورا ﴾ : الحجاب هو الحاجز عن الوصول إلى أمر أو اعتقاد، وقال بعض العلماء : إن مستورا معناه ساتر، وإن ذلك مجاز أساسه تلاقى المشتقات، وأحسب أن ذلك مبالغة في ستره، حتى إنه من ستره للحقائق عليهم صار هو كأنه مستور عندهم، ويصح أن يقال : إنه مستور عليهم لا يدركونه ولا يعرفونه ويحسبون أنهم يعرفونه، أو أن القرآن مستور عليه بحجاب، فهم لا يعرفون مغزاه ولا مرماه، أو أن هذا الحجاب ليس بمحسوس بل أمر معنوي مستور عليهم، وكلها معان تتجه إلى بيان أنهم لا ينتفعون من القرآن ولا يتدبرون معانيه لهذا الحجاب الذي يسترهم عنه، ويسترون بفعلهم وبأهوائهم أنفسهم، وكان التعبير بقوله تعالى :﴿ مستورا ﴾ إشعار بأنهم الذين صنعوا الحجاب بأعراضهم وهم الذين ستروه عن أنفسهم بأنفسهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو ستره عنهم وكونهم محجوبين عنه بقوله تعالى :
﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه في آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) ﴾.
﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه في آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( ٤٦ ) ﴾.
الأكنة جمع كنان، و( جعلنا ) معناها صيرنا وأنشأنا أكنة تكون غلافا مانعا قلوبهم عن أن تدرك وتصل إلى النور، ﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾، أي صمما وثقلا فيها يمنعها من أن تستمع إلى القرآن الحق، فالأكنة تمنع أن يفقهوه لأن غلافا وضع بينها وبين النور، فلم تفقه أي لم تدرك وتتدبر في بلاغته، ومعانيه، وقصصه، وعبره، وما فيه من نور الحق فلا تراه، وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماع القرآن وتذوق ألفاظه ونغمه، وجمال عباراته ونسق بيانه.
ويصح أن نقول إن الكلام السامي ممثل لحالهم في عدم فقههم للقرآن وعدم سماعهم لآياته سماع فهم وتدبر وتعرف لبلاغته بحال من جعل الله تعالى على قلبه غشاوة فلا يصل إلى الحق، وحال من في آذانه ثقل فلا يسمع، ثم يصور سبحانه نفورهم من الحق وتأثرهم بالأصنام التي جعلتهم يعتقدون فيها الألوهية فقال تعالى :﴿ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم ﴾.
وإذا ذكرت ربك الذي خلقك وخلقهم وربهم وحده من غير آلهتهم على أنه المتفرد وحده بالألوهية اعتراهم إعراض أشد، فأعرضوا سائرين على أدبارهم نافين من الحق كما يفر ذو الرمد من ضوء الشمس، أي يسارعون بالتولي والإعراض نافرين مدبرين، سائرين بظهورهم لا بإقبالهم، وهذا النص يصور شخصا رأى شيئا فهاله ما رأى فولى مدبرا، رجع مدبرا نافرا كأنه رأى شيئا مخيفا، اقشعر له بدنه، وهذا يصور مقدار نفورهم من التوحيد الحق، وإقبالهم على الوثنية الباطلة، فالأوهام التي استكنت في نفوسهم صورت لهم الحق مخوفا مرهوبا، والباطل طيبا حسبوا فيه السلامة وما وراءه إلا الحسرة والندامة وساء ما كانوا يصنعون.
وإن هذه النفوس التي تنفر من الحق هذا النفور نفوس مريضة، عرتها آفة حولتها عن الحق وصرفت فطرتها وطمست فؤادها فقال تعالى :
﴿ نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٤٧ ) ﴾.
يتكلم الله تعالى معبرا عن ذاته العلية فيذكر أنه يعلم علما ليس فوقه علم بالحال التي يكونون عليها ومتلبسين بها، إنهم حين يستمعون إليك تكون قلوبهم مصروفة عنك، وعما تقرأ وذلك باستهزاء باطل، وهم في نجوى مع إخوانهم الكفار فيودعون نفوسهم المنحرفة، وعقولهم المستهواة بالباطل التي تريهم الباطل حقا والحق باطلا، إذ يقول أولئك الظالمون ﴿ إن تتبعون إلا رجلا ﴾ هو مريض في ذاته، ﴿ مسحورا ﴾ يحتاج لأن يطيب من الخبال الذي أوجد السحر في نفسه.
هذه الخلاصة الواضحة المنيرة لمعنى الآية، وكلام الله تعالى أسمى وأعلى وهو ذروة البيان وأعلاه، ولنعرج باستقاء هذه المعاني من ألفاظها التي هي نور على نور.
﴿ نحن أعلم ﴾ أفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه لا مفاضلة بين علم الله تعالى وعلم أحد من خلقه، وإنما المراد به أقصى العلم الذي ليس فوقه علم، ﴿ بما يستمعون به ﴾ "ما" هنا دالة على الحال، ( به ) الضمير عائد على لفظ "ما"، ويكون المعنى أعلم بالحال التي تكونون متلبسين بها عند سماعهم هذا القرآن الكريم، وقد صور الله سبحانه وتعالى هذه الحال، إذ يستمعون إليك وهم في نجوى يتذاكرون فيها القول الصارف عن الحق، إذ يقول الظالمون في هذه النجوى، ﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ والسرية مدرجة الفتنة فهم يسرون إليهم في النجوى ظالمين للحق وللنبي لا تتبعوه، ﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ والمسحور هو الذي أفسد تفكيره السحر، وجعله في خبال يحتاج إلى طب الأطباء، إن النجوى دائما تكون أفعل في نفس الذين لا يريدون اتباع الحق، ألم تر أنك إذا أردت أن تخدع إنسانا تخفت في صوتك، وتتسار معه فيؤثر فيه، هؤلاء الذين ينفرون من الحق نفورا يتولون على أدبارهم لا يكونون في حال طبيعية بل يكونون قد استهوا بالباطل استهواء، فعندما يذكر الله وحده في القرآن يولون الأدبار نفورا.
الداء الذي يسبب الكفر عدم الإيمان بالبعث
قال الله تعالى :
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٤٩ ) قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقا ما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغصون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثم إلا قليلا ( ٥٢ )
إنهم في نجواهم يقول الظالمون بسبب ظلمهم :﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾، فهم يشبهون حاله بما لا يشابهها، ونقيض ما كانوا يعرفونه عنه من الكمال الإنساني من صدق وأمانة وعدالة، واستقامة في القول والعمل، ولقد قال تعالى في قولهم :
﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( ٤٨ ) ﴾.
المثل هو تشبيه حال بحال أو وصف بوصف، وضربه : بيانه : فالمعنى انظر كيف شبه حال الرسول أحيانا بالشاعر، وأحيانا بالساحر، وأحيانا بالمسحور وأحيانا الكاهن، وكلما ضربوا مثلا باطلا أوغلوا في الفساد النفسي والفكري، وانحرفوا عن الحق، فإن كل مثل بالباطل تنحرف به النفس عن الطريقة المثلى، ولذا قال تعالى مرتبا على كثرة الأمثال الباطلة ﴿ فضلوا ﴾، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم أكثروا من التشبيهات الباطلة، وكلما ضربوا مثلا زادوا انحرافا وضلالا، وكلنا أوغلوا لا يستطيعون سبيلا فإن مثارات الضلال تبعد عن الطريق المستقيم فلا يهتدون
وأنهم يعجبون من أن يكون هناك بعث بعد أن يصيروا عظاما نخر، ولذا قال تعالى :
﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاثا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٤٩ ) ﴾.
العظام هي العظام التي خلت من اللحم الذي كسيت به، وهو عظام الموتى، والرفت ما تكسر وبلى، وعن أبي عبيدة والفراء والأخفش تقول منه رفت الشيء رفتا أي عظم مرفوت.
وهنا في الآية الكريمة كأنهم تعجبوا من ثلاثة أمور :
الأمر الأول : التعجب من أنها بعد أن تصير عظاما مرضوضة مكسورة محطومة تجتمع وتكون إنسانا سويا.
الأمر الثاني : التعجب من البعث في ذاته.
الأمر الثالث : أن هذه العظام النخرة تكون خلقا جديدا.
فالتعجب الأول هو قولهم ﴿ أئذا كنا عظاما ورفاتا ﴾ وأفرده بالاستفهام ؛لأن بعثه خلقا جديدا بعد أن صار عظاما ورفاتا فكان إفراده بالاستفهام مع أنه مع البعث خلقا جديدا كل مثار تعجب، للإشارة إلى أنه موضع عجب في ذاته، وكذلك كان إفراد ﴿ أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾.
والتعجب في الأجزاء جزءا جزءا وفي الهيئة الاجتماعية.
والاستفهام إنكاري يفيد الاستبعاد والتعجب، ولا عجب في خلق الله تعالى : إذ يقول :﴿... كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
وقال تعالى ردا لتعجبهم :
﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعبدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغصون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) ﴾.
قالوا في مثلهم الذي ضربوه :﴿ أئذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾، هذا مثلهم الذي ضربوه ناسين حقائق الوجود وحقيقة نشأتهم كما قال تعالى :﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه...( ٧٨ ) ﴾ [ يس ]، ﴿ وقالوا أئذا كنا عظانا ورفاتا... ﴾ أنبعث بعدها ؟ فأمر الله تعالى نبيه ﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) ﴾ و ﴿ كونوا ﴾ هنا من معنى كنا، أي أئذا صرنا عظاما ورفاتا فيكون المعنى صيروا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم، أي إنكم تعودون لا محالة، ولو صرتم حجارة أو حديدا فالله على ذلك قادر، ولا يعجز.
ولنا في هذه الآية الكريمة نظران غير متباينين :
النظر الأول : أنه يشير سبحانه إلى أنه لا يعجز عن الحجارة والحديد، ومما يكبر في صدوركم أي في قلوبكم فتأخذكم به رهبتكم، وإذا كان الله تعالى لا يعجز عن أن يوجد الحياة في حجارة أو حديد، أو نحو ذلك فأولى أن يعيد الحياة فيكم، وقد كنت من قبل ؛ فالإعادة أسهل من الإنشاء في نظر الإنسان وإن كانت كلها عند الله سواء، هذا هو النظر الأول.
أما النظر الثاني : فهو أن المعنى صيروا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم وادخلوا في أجزائها وكونوا في صلابتها، وتظنون أنه يصعب استخلاصكم منها فإنه سيعيدكم كاملي الأجسام منها، ويقوى هذا قوله تعالى :﴿ فسيقولون من يعيدنا... ﴾ إلى آخر الآية الكريم.
وقد بين الله تعالى ما يثير استغرابهم فقال سبحانه :﴿ فسيقولون ﴾ الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنا حجارة أو حديدا... فقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم :﴿ قل الذي فطركم أو مرة ﴾، أي الذي أنشأكم النشأة الأولى وهي الفطرة أول مرة، وإذا كان أنشأ هذا الإنسان الأول فهو على الإعادة أقدر، كما جاء في سورة "يس" ﴿... قال من يحيي العظام وهي رميم ( ٧٨ ) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة...( ٧٩ ) ﴾ وبعد أن رد عليهم ذلك الرد المقنع لمن يتدرن قلبه بالشرك ويتعصب له ويعاند فيه، فإنهم يستمرون في عجبهم واستغرابهم، ولذا قال الله تعالى عنهم :﴿ فسينغضون إليك رءوسهم ﴾ ويقولون في تحد جاهل ﴿ متى هو ﴾.
والإنغاض تحرك الرأس من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى استغرابا وتعجبا فما زادهم الدليل إلا إيغالا في الاستغراب وما زادهم الحق إلا ضلالا، والفاء في ﴿ فسينغضون ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على بيان الحق أنم استهزءوا وتهكموا، وهؤلاء لا يجدي معهم الدليل ولا يزيدهم إلا خسارا، ويقولون متحدين :﴿ متى هو ﴾، أي متى يكون أي يستعجلون تحديا وإمعانا في الكفر، فأمر الله تعالى نبيه :﴿ قل عسى أن يكون قريبا ﴾، أي أنه يرجى أن يكون قريبا.
ونرى في هذه الآيات وما قبلها يأمر الله تعالى نبيه أن يتولى المجاوبة معهم ؛ لأنه الداعي إلى الحق المبلغ عن الله تعالى الهادي المرشد.
وقد بين الله تعالى ذلك اليوم فقال :
﴿ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثم إلا قليلا ( ٥٢ ) ﴾.
﴿ يوم ﴾ هو جواب للمشركين عن تحديهم ﴿ متى هو ﴾ ويكون الخطاب للمشركين، ويكون قوله تعالى :﴿ يدعوكم فتستجيبون بحمده ﴾ معناه الإشارة إلى أن إعادتهم لا تكون إلا بأمره سبحانه إجابتهم كقوله تعالى :﴿... كن فيكون ( ١١٧ ) ﴾ [ البقرة ]، فالدعوة لا مجاز فيها، والاستجابة تكون بالإيجاز كما ذكرنا في الآية الكريمة.
وقالت طائفة من المفسرين وعلى رأسهم الزمخشري : إن هذا كناية عن سرعة الإعادة كما يدعو الداعي فيجيب المدعو فور الدعوة، والاستجابة هنا معناها الرغبة في الإجابة وطلبها كأنهم كانوا وهم خامدون في قبورهم يتوقعونها، ولا يستغربونها، وقوله تعالى :﴿ بحمده ﴾، أي حالهم تكون حال الحامد الراغب العالم بقدرة الله تعالى لا حال المستنكر أو المستغرب، وكأنهم يكونون في حال غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا من كفر وإنكار، بل هم على حال الإقرار بالله تعالى وأنه وحده المستحق للألوهية سبحانه وتعالى.
﴿ وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾، أي أنهم يحسبون أنهم مكثوا قليلا في الدنيا على حسب ما قرره قتادة وتبعه الزمخشري، فاللبث القليل في الدنيا، وكما قال قتادة تقاصرت مدة الدنيا في نظرهم واعتقدوا أنها متاع وأن الآخرة هي الحياة وأنها أبقى، وفي ذلك إيمان بما لم يكونوا آمنوا به قبل، أي أنهم أدركوا الحقائق على وجهها ولكن كان حمدهم وإدراكهم بعد فوات الوقت، فلم ينفعهم في إبانها ولم ينفعهم حمد، ولا إيمان.
هذا على أن اللبث القليل في الدنيا، ولكن نرى كما رأى كثيرون من علماء السلف أن اللبث القليل كان في القبور قبل البعث، ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ( ١٠٢ ) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ( ١٠٣ ) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثم إلا يوما ( ١٠٤ ) ﴾ [ طه ]
ونريد أن نقول كلمة في إعراب قوله :﴿ وتظنون إن لبثم إلا قليلا ﴾ إن ( إن ) نافية أي "ما لبثتم إلا قليلا" ويكون ذلك خبرا ل ( أن )، وتقدير الكلام ويظنون أنكم ما لبثتم إلا قليلا، والآية بينة لا تحتاج في بيانها إلى هذا الإعراب ولكنه تخريج نحوى ذكرناه حيث لم يذكره المعنيون بإعراب القرآن والله أعلم.
دعوة الله الحق
كانت العلاقة بين المشركين والمؤمنين إيذاء مستمرا من جانب المشركين، وصبرا ومصابرة من المؤمنين حتى اضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة مرتين، وقد أفرط المشركون في أذاهم، وربما حسب بعض المؤمنين أن ذلك صغار للمؤمنين، وتفريط في حق الإيمان، فكان منهم من دعا إلى المقاومة، وإن المصابرة حسبها استرخاء يغريهم، وإن من له عصبية لا تسلمه، وروى أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب، فهم عمر بأن يقتله وكان على ذلك قديرا، فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنون بأن يصبروا، وأن يقولوا التي هي أحسن، فقال تعالى :
﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( ٥٣ ) ﴾.
قل يا محمد مطمئنا ومهدئا لعبادي :﴿ يقولوا التي هي أحسن ﴾ ويقولوا : مجزوم في جواب الأمر، وهو في معنى المعلل لأمر بالقول، أي قل لهم داعيا إلى الصبر، وألا يقابلوا الإساءة بمثلها، ليقولوا التي هي أحسن، أي الكلمة التي هي أحسن، والفعلة التي هي أحسن، وإن رد الإساءة يكون عندما يكون للمسلمين قوى يؤدبون بها المعتدين، ويحملونهم على الحق وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة كما يدل السياق، وقد استشرفت النفوس لمعرفة السبب في ذلك الأمر وفي نتيجته، فهدأ الله هذه النفوس المستشرفة بقوله :﴿ إن الشيطان ينزع بينهم ﴾، أي إن الشيطان ينزع بينهم، أي يهيج الشر بينهم فتكون المخاشنة داعية إلى الجفوة والمهاترة، والجفوة تبعد النفوس عن الحق أو تزيدها بعدا، بينما الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، والمودة في غير إثم تقرب، ولا تنفر، وأكد الله هذا النزغ الشيطاني بقوله تعالى :﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ﴾، أي إن الشيطان كان مستمرا للإنسان عدوا مبينا للعداوة، ظاهر العداوة وإن حكمة الله تعالى اقتضت كما ذكرنا أن يصبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى لأتباعه، والأذى لشخصه، حتى تستمر المودة من جانبه موصولة، فإن المودة تدنى، وتجعل المؤذى يتردد في استمرار أذاه، بينما المخاشنة أو المغالبة تجعل للكافر معذرة فيلح في كفره، وقد كان في المؤمنين من يستطيع المغالبة بشخصه وعشيرته، ولكن لم يرد الله ؛ حتى لا تضيع دعوة الحق وسط المنافرة فيكون النفور، وقد
خاطب الله تعالى المشركين مقربا منذرا، فقال :
﴿ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( ٥٤ ) ﴾.
صدر الكلام بقوله تعالى :﴿ ربكم ﴾ للإشارة إلى أنه الذي خلقهم وربهم، وهو الحي القيوم الذي قام على حياتهم وشئونهم، وهو يهدي ؛ لبيان علمه ﴿ ألا يعلم من خلق...( ١٤ ) ﴾ [ الملك ]، ﴿ أعلم بكم ﴾ أي يعلم أنفسكم وأحوالكم، وما أنتم إليه علما ليس فوقه علم، وهذا معنى أفعل التفضيل ؛ إذ إنه ليس على بابه، لأنه لا مفاضلة بين علم الله تعالى وعلم غيره، والمراد كما أشرنا يعلم علما لا يسامى ولا يناهد.
وإن مع علمه المحيط بحالهم يعمل بمشيئته المطلقة، ﴿ إن يشأ يرحمكم ﴾ ورحمته سبحانه وتعالى بأنه يهديكم إلى السير في طريق الإيمان، وإذا سرتم فيه رحمكم بالإيمان، وهو أكبر رحمة للإنسانية، ﴿ أو إن يشأ يعذبكم ﴾، بأن تسيروا في طريق الضلالة فتصلوا فيه إلى غايته، فيكون منكم الضلال والشرك، فيكون ذلك الضلال عذابا لكم في الدنيا باضطراب نفوسكم وبعدكم عن الفطرة، وفي الآخرة يكون العذاب الأليم، ألا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان المشركين، حتى قال له ربه :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) ﴾ [ الشعراء ]، ولذا قال تعالى :﴿ وما أرسلناك علهم وكيلا ﴾، أي موكولا إليك أمورهم بقسرهم على الإيمان، بل إنا أرسلناك بشيرا ونذيرا، وقد بشرت وأنذرت فما عليك بعد ذلك تبعة كفرهم وضلالهم :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( ٥٦ ) ﴾ [ القصص ].
ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن الله يعلم من في السموات ومن في الأرض، وأنه هو الذي يعلم حيث يجعل رسالته فقال :
﴿ وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ( ٥٥ ) ﴾.
صدر الكلام ب ( ربك ) للإشارة إلى أنه الخالق والقائم على خلقه، وهو الذي يعلم ما خلق، وقلنا : إن أفعل بالنسبة لله تعالى لا يكون على بابه ؛ لأنه لا مفاضلة بين الذات العلية وغيرها.
وذكر سبحانه علمه بمن في السموات ومن في الأرض، وذكر العقلاء في السموات إشارة إلى الملائكة، وعقلاء الأرض هم بنو الإنس والجن.
يعلم الله تعالى طبيعة من في السموات، وهم الملائكة أرواح طاهرة مطهرة لا تنزل إلى الأرض بطبعهم وحالهم، بل لو كان ملك في الأرض لجعله الله تعالى في سورة إنسان، كما قال تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ]، ويعلم سبحانه وتعالى من في الأرض، ويجعل الأنبياء من جنسهم، ليكونوا أقرب إلى إرشادهم، ويتعذر على من في السماء بمقتضى طبعهم أن ينزلوا، وليس في طاقة أهل الأرض أن يتلقوا الإرشاد من الملائكة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يتصبب عرقا، عندما يخاطبه جبريل الأمي، وعند أول لقاء به رجع إلى خديجة يرجف فؤاده.
الله يعلم من في السموات ومن في الأرض، ولذلك كان اختيار الرسل من أهل الأرض، وبيان الله لعلمه من في السموات ومن يشير إلى اختياره الأنبياء منهم، ولذا قال بعد ذلك :
﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾ ففضل الله تعالى أولى العزم من الرسل وهم نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرهم بأسمائهم في القرآن، فقال تعالى في سورة الأحزاب :﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم...( ٧ ) ﴾ وقال تعالى في سورة الشورى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( ١٣ ) ﴾.
وإن أولئك الأنبياء أمروا بشرائع إلا ما كان من أمر عيسى، فإنه أحيا شريعة التوراة، وزاد عليها، وإن ثمة كتبا ثلاثة كانت قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التوراة والإنجيل، وقد ذكرهما القرآن في عدة مواضع، وذكر التحريف فيهما، وقال سبحانه وتعالى :﴿... يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به...( ١٣ ) ﴾ [ المائدة ].
ولقد ذكر سبحانه كتاب داوود فقال :﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ وهو لم يكن فيه أحكام غير التوراة، ولكن كانت فيه أدعية لله تعالى أوحى بها.
وإن داود كان حاكما كما قال تعالى :﴿ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق...( ٢٦ ) ﴾ [ ص ]، وكان له من شرف الحكم الخلافة من الله في الأرض، قد أنزل عليه الزبور، وهو بهذا شرف أعظم، وأكرم.
وفي ذكر لزبور إشارة إلى التوراة والإنجيل، وكان بعد التوراة وقبل الإنجيل.
في ذكر هذا وذكر تفضيل بعض النبيين، وذكر محمد خاتم النبيين إشارة إلى كمال الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض برسالة محمد خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، والله أعمل.
وإن الأوثان التي يعبدونها، والآلهة التي يقدسونها من ملك أو بشر أو جن لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يغيثون، ولذا قال تعالى :
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( ٥٦ ) ﴾.
من صفات الربوبية القدرة المطلقة، ولا يعبد إلا من يكون قادرا على كشف الضر، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى وأنه القادر وحده على كل شيء، فكانوا يستغيثون به إذا أصابهم بأس في البر والبحر، ويعتقدون أنه لا ينجيهم سواه، وإذا مسهم ضر لا يلجأون إلا إليه كما قال :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه...( ١٢ ) ﴾ [ يونس ] ولكنهم عند العبادة يعبدون مع الله غيره من الأوثان، أو الملائكة، أو عيسى كالصائبة، والنصارى لا يعرفون المسيح على انه عبد خلقه الله.
لهذا يقول لهم :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم ﴿ ادعوا الذين زعمتم من دونه ﴾، أي زعمتم أنهم آلهة من دون الله سبحانه وتعالى : ادعوهم ساعة أن ينزل بكم الضر أو الشدة في البر أو البحر، أو عندما يداهمكم ريح صرصر عاتية، ﴿ فلا يملكون كشف الضر عنكم ﴾، الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر ما قبله وبعده بأن يزول عنكم أو تحويله لغيركم، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تحويلا ﴾.
وإذا كانوا لا يستطيعون لكم جلب نفع، ولا دفع ضر، فكيف تعبدونهم، والعجز ظاهر حالها، وعجيب أمركم عبادتها مع هذا العجز.
وأن بعض الذين يدعون كالملائكة، والجن، والمسيح، وعزير، وكانت عبادة هؤلاء من صائبة العرب ويهودهم ونصاراهم، يتضرعون إلى الله ويعبدونه، ولذى قال تعالى فيهم :
﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون إن عذاب ربك كان محذورا ( ٥٧ ) ﴾.
يقول ابن جرير الطبري : إن هذه الآية نزلت في بعض مشركي العرب الذين كانوا يعبدون الملائكة وعزير والمسيح وهؤلاء جميعا كانوا في أطراف الجزيرة العربية في اليمن والأقاليم التي تصاقب العراق، من الصائبة وغيرهم الذين كانوا يعبدن النجوم والأرواح، وكانوا إلى النصرانية أقرب، ومنهم إلى المجوسية أقرب.
وهذه المعبودات المزعومة لا تضر ولا تنفع، وينطبق عليها بالنسبة للضر والنفع ما ينطبق على الأوثان تماما، ولكن فيها عباد مكرومون كالمسيح، فلن يستنكف أن يكون عبد الله، ولا الملائكة المقربون.
قوله تعالى :﴿ أولئك ﴾ الإشارة إلى المعبودات غير الله تعالى، والمخصوص منهم بالقول من يعبد الله تعالى ؛ ﴿ الذين يدعون ﴾ والدعاء هنا بمعنى العبادة أو الالتجاء إلى الله تعالى، ﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾، أي يبتغون الوسيلة إليه وهي الطاعة، والمعنى يبتغون الطاعة، ومجئ الوسيلة بمعنى الطاعة جاءت في آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة...( ٣٥ ) ﴾ [ المائدة ]، أي اطلبوا الطاعة، وهي الوصيلة الموصلة إليه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى :﴿ أيهم أقرب ﴾، "أي" اسم موصول بدل من الواو في يبتغون والمعنى على هذا من غير افتيات على النسج القرآني الكريم، يبتغون ( أخص ) الذين هم أقرب، أي أن هؤلاء الذين يبتغون الطاعة ويطلبونها ويريدون عبادة الله وحده هم الأقرب إلى الله.
فإذا كان أولئك المقربون الأطهار يبتغون إليه الطاعة، ويرجونها فيكف تكون حال من يعبدونهم أنهم بذلك أولى أو أجدر.
ثم ذكر سبحانه، وصفين أو حالين ينافيان أن يكونوا معبودين، فقال :﴿ يرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ الواو عاطفة، عطفت ﴿ يرجون ﴾ على ﴿ يبتغون ﴾، أي أن أولئك العباد المقربين يدعون الله وحده، ويبتغون مزدلفين إليه بالطاعات، ويرجون رحمة الله لأنه هو الغفور الرحيم، ويخافون عذابه، لأنه هو المنتقم الجبار :﴿ إن عذاب ربك كان محذورا ﴾ كان من شأنه أن يحذر أن يخاف، وإن مقام الربوبية والعبودية أن يرجو الرحمة ويخاف العذاب، ومن الأتقياء من يغلب الرجاء على العذاب، ومنهم من يغلب الخوف على الرجاء، وكلاهما في طاعة الله وفي أعلى مقامات العبادة لله تعالى.
وإذا كان ذلك شأن من يعبدونهم، فأولى بالمشركين ثم أولى أن يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئا.
العبرة في الماضين
قال الله تعالى :
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القايمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( ٥٨ ) وما منعنا أن نرسل بالآيت إلا أن كذب يها الأولون وآيتنا وثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويف ( ٥٩ ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغينا كبيرا ( ٦٠ )
﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتب مسطورا ( ٥٨ ) ﴾.
"إن" هنا نافية، و "من" لاستغراق النفي، والقرية : المدينة العظيمة التي يبعث فيها الأنبياء، والحصر في الهلاك قبل يوم القيامة، أو العذاب في يوم القيامة، إنما هو في القرية الظالم أهلها الذين يكفرون بالنبيين، والهلاك هو اجتثاثهم في الدنيا بخسوف تجعل عاليها سافلها كما فعل بقوم لوط، أو بريح صرصر عاتية، كما فعل بعاد ثمود، أو بالغرق كما فعل بقوم فرعون وملئه، وغير هؤلاء، هذه هي الحال التي يكون فيها الاستئصال وقطع الدابر، وذلك يكون قبل يوم القيامة. الحالة الثانية أن يتركوا في الدنيا يعصون في الآخرة عذابا شديدا، ﴿ كان ذلك في الكتاب مسطورا ﴾ والكتاب هو اللوح المحفوظ الذي يسجل فيه ما يقضى به بين عباده.
وإن هذا التنويع لحكمة الله تعالى وتقديره، فإنه إذا كانت الدعوة خالدة باقية، وهي دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم استأنى بهم لأن فيهم الطائعين، وليسوا قليلين، وفيهم من طغى وبغى، وفي ذرية الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا مجاهدين كعكرمة ابن أبي جهل، وكخالد بن الوليد، وغيرهم ممن كانوا لهم في الجهاد باع مشهور، وقوله :﴿ إلا نحن مهلكوها ﴾ أو ( معذبوها ) فيها تنوع حالهم، ﴿ أو معذبوها ﴾ و "أو" مانعة خلو، لا مانعة جميع، فكان منهم من اهلكوا قبل يوم القيامة ومن عذبوا بعدها، وأمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكها الله بعاصف يقتلعها من الأرض، ولكن أهلك العصاة لينالوا عذاب الآخرة.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة الني صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فأوحى إليه قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني بقومك استأنيت بهم، قال :"يا رب استأن بهم"١.
وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله :﴿ كان ذلك في الكتاب المسطور ﴾، أي أنه مسجل في اللوح المحفوظ كما أشرنا من قبل، لقد تبين من هذا أن المشركين كانوا يطلبون آيات حسية كآيات النبيين السابقين كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى، وكإخراج الموتى من القبور أيضا، وقد أجابهم الله تعالى بأنه أنزل هذه الآيات، ومع ذلك لم يؤمنوا، وإن
١ **** هذه رواية أحمد عن ابن عباس: مسند بني هاشم – بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (٢٢١٧)..
هذه الآيات لا تبقى بقاء المعجزة الكبرى، وهي القرآن الكريم التي ما زالت تغالب كل باطل، وتؤيد كل حق، ولذا قال تعالى :
﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) ﴾.
المنع هنا هو الترك، وهو لازم لمنع، فأطلق الملزوم، وأريد لازمه وما أحد بمانع رب البرية أنى هو ترك، لحكمة أرادها، وأمر قدره، وهو أنه يعلم – وهو علام الغيوب أن الآيات الحسية لا يؤمنون بها كما لا يؤمن بها من سبقهم، ولأن الآيات الحسية، كحاصب من السماء، أو خسف أو ريح صرصر ينقضي بعد ساعته، ويكون خبرا من الأخبار، ولو أن القرآن سجل معجزات عيسى وموسى ونوح وإبراهيم ما علم بها أحد علما متواترا من غير تحريف.
وقوله تعالى :﴿ أن نرسل ﴾ مصدر منسبك من "أن" وما بعدها في المفعول للمنع، وقوله تعالى :﴿ إلا أن كذب بها الأولون ﴾ وهم الذين نزلت إليهم، و "أن" وما بعدها في مصدر منسبك في موضع الفاعل للمنع، وقد علمت أن المنع أريد به الترك وإنما عبر بالمنع ولا يوجد من يمنع ؛ للإشارة إلى أن الحكمة التي أرادها رب العالمين من الآيات هي التي تمنع، فالله تعالى هو الذي منع ذاته العلية، كقوله تعالى :﴿... وكان حقا علينا نصر المؤمنين ( ٤٧ ) ﴾ [ الروم ].
وقد ذكر الله تعالى آية كان العرب يعلمون بها، وقد كانت في أرضهم، وقريبا من دارهم، فقال تعالى :﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة ﴾، أي مبنية هادية ليبصروا به الحق، ولكنهم بعد أن أبصروه تجنبوه، وقال تعالى :﴿ وآتينا ثمود الناقة ﴾، أي انه سبحانه آتاها لثمود، مع أنه آتاها لصالح حجة له، ولكن ذكر الإيتاء لهم، وقد كفروا وضلوا بها، ولأنها نزلت فيهم حجة عليهم ؛ لأنهم هم الذين طلبوها.
﴿ فظلموا بها ﴾، أي بسببها، أو تضمن الظلم معنى الكفر، فيكون المعنى فكفروا بها، ولم يصدقوا، ولم يذعنوا لما تهديهم إليه، ويقول :﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾، أي ما نرسل الرسل مؤيدين بالآيات إلا تخويفا، إلا ليعلموا رسالة الرسل الذين جاءوا مبشرين ومنذرين، فمعنى التخويف هو ما تدل عليه من الرسالة المنذرة المخوفة من عذاب الله تعالى.
ويقول تعالى في آيات حسية جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فتنة فقال :
﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أرينك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( ٦٠ ) ﴾.
"إذ" متعلقة بمحذوف تأويله "اذكر"، أي اذكر الوقت الذي قلنا :﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾، الناس إما أن يريد بهم الناس جميعا، وهو الظاهر، فالعام لا يراد به بعض من يشملهم إلا بقرينة تدل على الخصوص، ومعنى الإحاطة العلم أو القدرة أو الهلاك، فمن العلم قوله تعالى :﴿... أحاط بكل شيء علما ( ١٢ ) ﴾ [ الطلاق ]، والقدرة أي أن كل شيء في قبضته، والإهلاك مثل ﴿... وظنوا أنهم أحيط بهم...( ٢٢ ) ﴾ [ يونس ]، أي تعرضوا للهلاك.
والمعنى إنا أعلمناك بوحي أن الناس قد أحيط بهم، وأنهم في قبضة الله تعالى، والله عاصمك منهم فبلغ دعوتك غير خائف، فإنه سبحانه وتعالى عاصمك من الناس كما في قوله تعالى :﴿ يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس...( ٦٧ ) ﴾ [ المائدة ].
ويفسر الزمخشري الناس بأنهم أهل مكة، والإحاطة الإهلاك، وقد بلغ الله نبيه يوم بدر بأن يهلكهم، ويفسر الرؤيا المنامية بأنها رؤياه أنه مهلكهم في هذه الغزوة، وأنه إن لم يهلكهم بالإبادة فقد أضعف سلطانهم، وقد قال في ذلك :"واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك ﴿ أحاط بالناس ﴾، أي بقريش، يعنى بشرناك بوقعة بدر، وبالنصرة عليهم، وذلك قوله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾ [ القمر ]، ﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم...( ١٢ ) ﴾ [ آل عمران ] وغير ذلك، فجعله كأنه قد كان وجد، فقال أحاط بالناس على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول :"اللهم إني أسألك عهدك ووعدك"١ ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس إلى آخر ما جاء في أخبار بدر.
وخلاصة تفسير الإمام الزمخشري أنه يفسر الناس بأهل مكة، وأن الرؤيا رؤيا منامية، وأنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رآها عندما التقى الجمعان في يوم الفرقان، وأن الهلاك ذهاب شوكة المشركين، وإن أخبار القرآن الكريم تكون عن وقائع المستقبل كأنها وقعت الآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك عندما اشتد أذاهم وإثباتهم، وكانت الفتنة في أنهم كذبوا.
ونحن مع إجلالنا لمقدم الإمام الزمخشري في البيان لا نرى رأيه.
أولا : أنه تأويل بعيد، ولأنه لا تكون فتنة، ولم يحدث كفر لهذه المناسبة.
ثانيا : لأن الأصل إطلاق العام على عمومه، حتى يقوم دليل أو قرينه على إرادة التخصيص.
ثالثا : أن الآية مكية، وقد أجاب عن ذلك بأن الكلام كان تبشيرا بما سيكون يوم بدر، ونقول : إن الألفاظ لا تساعده، ولا تومئ إليه، والقرآن كتاب عربي مبين.
ولذلك نرى أن الله أحاط بالناس، وأنهم في قبضته، وأنه قادر على كل شيء، وعاصم نبيه منهم، وحافظه حتى يؤدى برسالة ربه تعالى.
ولكن ما هي الرؤيا ؟ قال أهل اللغة : الرؤيا تستعمل في الرؤية البصرية في اليقظة، والرؤيا المنامية في النوم، ويصح أن يراد بها هنا البصرية في اليقظة، وهي الإسراء، "فقد أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".
وقد كانت فتنة للناس ؛ لأن من أهل مكة من ذهب به الاستغراب والدهشة إلى حد الردة بعد الإيمان، أو على الأقل الشك بعد اليقين، ويصح أن يراد الرؤيا التي تكون بالروح، وهي ما كان بالعروج إلى الملأ الأعلى على ما اخترنا واتبعنا فيه كثرة من السلف الصالح.
ونلاحظ هنا أن المشركين كانوا يطالبون بآيات كآيات عيسى وموسى، فلما جاءتهم كفروا، فلما جاءتهم في انشقاق القمر، قالوا سحر مستمر ولما جاءتهم في الإسراء كفروا فصدق فيهم قول الله تعالى :﴿ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ( ٩٧ ) ﴾ [ يونس ] ؛ لأنهم طبع قلوبهم فلا يفقهون، هذا ما نراه، ولا مانع من أن نذكر أمرا يتعلق بتاريخ الإسلام، وإن كنا لا نرى ذلك في هذه الآية، وربما نراه في غيرها.
لقد قال سهل بن سعد : إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم٢. وإن ذلك يؤيده التاريخ، فقد صيروا الحكم ملكا
عضوضا، وذهبت الشورى، وقد قال الحسن البصري في شأن بيعة معاوية ﴿ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ( ١١١ ) ﴾ [ الأنبياء ].
قال تعالى :﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ وذلك لسوء مذاقها، وقبح مكانها، وأنها تخرج من أصيل الجحيم، فليس معنى لعنها أنها مطرودة كما يطرد العصاة المسئولون ؛ لأنها لا توصف بالعصيان والمسؤولية، وإنما هي مذمومة، فيقال للطعام القبيح المذاق ملعون، وهي معطوفة على قوله تعالى :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ فيه فتنة لهم كما أن الرؤيا كانت فتنة لهم، وقال تعالى مشيرا إلى أنها فتنة :﴿ أذلك خير نزلا أن شجرة الزقوم ( ٦٢ ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( ٦٣ ) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( ٦٤ ) طلعها كأنه رؤوس الشياطين ( ٦٥ ) ﴾ [ الصافات ].
وإنها كانت فتنة لهم، لأنهم بدل أن يعتبروا بما فيها من إرهاب، وإفزاع فتنوا بالألفاظ، فقالوا : إنها تخرج في أصل الجحيم، ونار الجحيم تأكل الحجارة فكيف تنبت فيها الأشجار، وأخذوا مفتونين يردون هذا القول كأنهم أخذوا على القرآن أمرا مختلفا، فكانت هي الأخرى فتنة لهم، والضال لا يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، فهو يتعرج به في المعارج من غير اتجاه إلى صراط مستقيم.
وقد ذكر الزمخشري أن النار لا تحرق في طبائع الأشياء، فقال :"فقالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم تأكل الحجارة ثم يقول ينبث فيها الشجر، وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وأنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل، وهي دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار، فيذهب الوسخ ويبقى سالما لا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر، وقطع الحديد المحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها".
وقد قرب الزمخشري وجود شجر ينبت أصلها بالجحيم بالواقع المشاهد، ولكن تقرر أن قدرة الله تعالى فوق ما يتصور المشركون، وكل شيء عنده بمقدار، وكل أمر يذكر لغاية يتخذونها على النقيض، ولذا قال عن الشجرة الملعونة ﴿ ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ﴾ بهذه السخرية والاستهزاء والتهكم على أهل الإيمان.
إبليس والكرامة الإنسانية
نبه سبحانه وتعالى إلى أصل الخلق والتكوين، ونبه إلى أن أصل عداوة إبليس لآدم هو أنه يحسد آدم على ما أتاه الله تعالى من تكريم حرم إبليس وذريته منه، فناصب آدم العداء لهذه الكرامة، وحاول أن يفض١ فيها بالإغراء بالمعاصي، وبذلك فهم أنه بمقتضى الفطرة أن الكرامة والمعصية نقيضان لا يجتمعان فيمن كان عاصيا يتفحش في المعاصي لا كرامة له، وإن ظهر بين الناس متغطرسا طاغيا، فإن الكرامة ليست هي السلطان، إنما هي الحق، فإن كان مع السلطان الحق توافرت الكرامة، وإن خلا منها فهو المهين المتغطرس، وهذا يشير إلى أن المشركين في إشراكهم لا كرامة لهم، وإن تعصبوا وغلبت عليهم العنهجية الجاهلية.
ولذا قال تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ﴾.
"الواو" لوصل الكلام، إذ إنهم يتغطرسون ويطيعون الشيطان فيبين الله أنهم إذ يطيعونه يذهبون التكريم الذي كرمهم الله تعالى، وينزلون برءوسهم وأجسامهم، إلى كرامة أبيهم آدم، و "إذ" متعلقة بمحذوف، ويذكر الله تعالى أمره للملائكة بالسجود مضيفا الأمر إلى ذاته العلية بيانا لمركز آدم، والله تعالى بذاته العلية وجه الأمر إلى الملائكة بالسجود، وإن إبليس كان يدخل في عموم المخاطبين بهذا الأمر أكان من الملائكة أم كان من الجن، كما صرح بأنه من الجن في آية أخرى، إذ قال :﴿... إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه...( ٥٠ ) ﴾ [ الكهف ]، والسجود كان لآدم بوصف الآدمية، فكأن الآدمية مكرمة لذاتها، والمهانة تعتريها من العصية، ﴿ فسجدوا إلا إبليس ﴾، أي أطاعوا، وخروا ساجدين إلا إبليس، فقد تمرد، وفسق عن أمر ربه، وقال متمردا متعاليا من غير علو، كشأن أتباعه ﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾ الاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع أي النفي، أي : لا أسجد، معترضا على ربه، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( ٧٦ ) ﴾ [ ص ]، وقوله :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ﴾، أي لمن خلقته من طين، ولكنه أتى بكلمة ( طينا ) على أنه حال، أي : أأسجد لمن خلقته من طين، ولكنه أتى بكلمة ( طينا ) على أنه حال، أي : أأسجد لمن خلقته من طين، أي أنه ينكر أن الله سواه، وكأنه إلى وقت السجود كان طينا حتى إلى هذه الحال، وكان هذا من مظاهر الاستكبار.
١ الفض: الكسر بالتفرقة الصحاح..
وقد بين نية الشر الذي دفع إليه الحسد، وسبب ذلك الحسد، قال :
﴿ أرأيتك هذا الذي كرمت علي ﴾ الكاف لتأكيد الخطاب، ويقول بعض اللغويين، لا محل لها من الإعراب، وأرى أنه لا مانع من أن تكون في موضع المفعول لرأى، والهمزة للاستفهام، ومعنى الكلام أخبرني أهذا الذي كرمت على، وفي هذا معنى التصغير لآدم، والاستكبار عليه، كأنه يقول ما هذا الذي كرمت علي، أي كرمته مفضلا له علي، وأنه لا يستحق التكريم دوني، ويقول إبليس : أنا الجدير بالتكريم، كما توهم أن كونه من نار يجعله أكرم ممن هون من طين، وذلك من فرط الغرور ؛ لأن الذي أمر بذلك الأمر الجازم هو الذي جعلك من نار وجعله من طين، وذلك من تغفيله، واستعلائه بالباطل، وكان قياسه هذا باطلا، واستدل نفاة القياس على بطلانه بقياس إبليس.
ثم يقول متوعدا آدم وذريته، ومتحديا ربه عن جهالة :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾ اللام للقسم، ولأحتكن جواب القسم، ودخلته نون التوكيد الثقيلة، وهو يؤكد ذلك، كقوله في آية أخرى :﴿... ولأغوينهم أجمعين ( ٣٩ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) ﴾ [ الحجر ]، والاحتناك : الاستئصال، من احتنك الجراد الزرع إذا لم يبق منه شيئا، وكقولك : الرجل احتنك شاتين أي أكلهما، ويصح أن يكون من احتنكت الفرس وضعت في فمها الرسن أو الحبل، يجرها منه، والمعنيان يصلحان، إذ يكون المعنى استأصلهم بالإغراء والإغواء حتى يجرهم كما يجر الرجل دابته، ويجعلهم له تبعا، وقد استثنى من ذريته فقال :﴿ إلا قليلا ﴾، أي إلا عددا قليلا، وهو كقوله :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) ﴾ [ الحجر ]، وفي هذه الآية قال : إلا قليلا، وباجتماع يكون المخلصون من عباد الله عددا قليلا.
وكيف علم ذلك ؟، نقول : إنه اعتزم أن يفعل ذلك، ويريد أن يكون أتباعه عددا كبيرا، وأطعمه في ذلك أن الملائكة عندما قال الله تعالى لهم :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك...( ٣٠ ) ﴾ [ البقرة ]، ولأنه أدرك أنه يؤتى من قبل شهوته وهواه وأنه أوتى غرة بحيث يكون قابلا للانخداع لا يستمسك، كما قال الله تعالى في آدم :﴿... ولم نجد له عزما ( ١١٥ ) ﴾ [ طه ].
ولقد أجاب الله سبحانه إبليس على ما قاله بقوله :
﴿ قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( ٢٣ ) ﴾.
﴿ اذهب ﴾ معناها هنا امض فيما أنت معتزم عليه فإن لهم اختيارا وإرادة، فلا نستمكن منهم إلا بإرادة يريدونها، ويبتغونها، ولذا قال تعالى :﴿ فمن تبعك منهم ﴾ والفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إن ذهبت وأغريت، وحاولت السيطرة على نفوسهم فمن تبعك إلى ما تدعوه إليه :﴿ فإنه جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ﴾ فمن يتبعك مختارا مستجيبا لإغرائك، فأنت وهم قد صرتم جمعا واحدا، جزاؤك وجزاؤهم واحد، ولذا خاطبهم جميعا باعتبار أنهم جميعا صاروا جمعا واحدا، وكان الخطاب بالجمع ؛ لأن الخطاب له ابتداء، ولهم بالتبع، ووصفت بأنها جزاء موفور أي كامل على قدر ما أساءوا، وهي كاملة ووفاق لما أجرموا، وقد قال في وصف جزائهم في آية أخرى في قوله تعالى في سورة الحجر :﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( ٤٣ ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( ٤٤ ) ﴾ [ الحجر ].
وكان الخطاب بالجمع لما ذكرنا من الخطاب لإبليس، وهو له تبع.
وقد دعاه سبحانه لأن يبذل أقصى جهده، لأن الله تعالى قضى أن يهبطوا منا جميعا، بعضهم لبعض عدو، وأنه خلق لإغواء من يستطيع إغواءه من ذرية آدم، ولذا قال تعالى :
﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( ٦٤ ) ﴾.
أي استخفهم، وحرضهم، وحركهم إلى اتبعاك ليجيئوا إليك تابعين، لصوتك الداعي، وجاهر به في الدعوة إلى المعاصي، ﴿ وأجلب عليهم ﴾، أي صح عليهم بجلبة وصياح كما يدعى الجيش للقتال، فأعد عدتك وأجلب من يكونون في جلبة لك ﴿ بخيلك ﴾ بالذين يناصرونك من خيالة، ﴿ ورجلك ﴾ اسم جامع لراجل، وفي الكلام تشبيه، وهو تشبيه حال الشيطان في دعوته الغاوية الضالة والمستعد للشر والإغواء بحال جيش من الأشرار يستفز الأنصار الأتباع، ويكون جلبة من خيالة وراجلين، فهذه الحال تشبه حال جيش فساد مستعد للإغارة على الخير، وجاء في أمر الله تعالى :﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾ في الأموال التي يكتسبونها بالسحت، ومن غير الحلال، وفي الأولاد الذين يجيئون أيضا من غير طريق حلال، وقال الزمخشري في هذه الجلبة وهذا الاستفزاز ما نصه :"مثلث حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم وصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم من مراكزهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجاله حتى استأصلهم" أي حتى أزال كل ما فيهم من عناصر، أو غلب عليهم عناصر الشر، ثم تكلم عن المشاركة في الأموال، فقال :"وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها، كالربا والمكاسب المحرمة، والبحيرة السائبة والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة والتواصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب".
ومعنى هذه المشاركة في الأموال أنه يشاركهم في إثمها، والعذاب عليها لا أنه يشركهم فيها بالأخذ، إنه لا يريد منهم إلا الإغواء، فهو يغويهم، ويشاركهم في كل مآثم الإغواء.
﴿ وعدهم ﴾ المواعيد الباطلة من المعبودات الأخرى غير الله التي تشفع لهم – في اعتقادهم – عند الله، وتمنع عنهم، وأن ذوي الأنساب هم يوم القيامة لهم المنزلة، كما هي لهم في الدنيا، واذكر لهم أيضا أن الحياة الدنيا هي كل شيء، ﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾، أي إلا أمورا تخدعهم، ولا يكون فيها جزاء، بل هي أوهام في أوهام، وإن الشيطان يولد فيهم الأوهام الكاذبة فيتصورون غير الواقع واقعا، وبذلك يدلون بغرور.
هؤلاء هم الذين رضوا بأن يكونوا أتباعا للشيطان حيث أغواهم، أما عباد الله المخلصون فليس للشيطان عليهم سلطان، وقد تخلصوا من غوايته، وقال الله تعالى فيهم :
﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( ٦٥ ) ﴾.
﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( ٦٥ ) ﴾.
أحس الشيطان بأنه لا يستطيع إغواء عباد الله المخلصين، وقد قال :﴿... ولأغوينهم أجميعن ( ٣٩ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) ﴾ [ الحجر ]، وقال تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾، وفي التعبير عنهم ب ﴿ عبادي ﴾ فيه إشارتان :
الإشارة الأولى : أن لهم شرف الانتساب إلى الله تعالى ؛ لأنهم قاوموا غرور الشيطان وخداعه وإغواءه، فكانوا بأن يختصهم الله بأنهم عباده، وإن كان الجميع عبادا لأنه خلقهم، فالطائع والعاصي عباد الله، لكن الاختصاص هنا للطائعين.
الإشارة الثانية :
الإشارة بأن الآخرين أتباع الشيطان، فهم كعبادهم، ولذلك يقال عنهم عبدة الشيطان وعبدة الطاغوت...
ويقول سبحانه :﴿ ليس لك عليهم سلطان ﴾، أي تسلط ؛ لأنهم تحصنوا بالعزيمة والإرادة والعزم القوي، والاتعاظ بعظات الله تعالى، والاهتداء بهدى رسله :﴿ وكفى بربك وكيلا ﴾، أي كفى ربك وكيلا يتوكلون عليه، ويكفيهم غرور الشيطان ويرد إغواءه عنهم ؛ لأنهم استمسكوا بالعروة الوثقى وارتضوا طريق الخير طريقا.
في الوجود آيات الله تعالى ونعمه
هذه آيات الله البينات تحوطنا فيما حولنا وفي ذات أنفسنا، وفي مجريات أمورنا توقظنا فلا نستيقظ، وهي تذكير من الله سبحانه وتعالى، وروى عن ابن مسعود أنه جفت الكوفة، فقال :"يا عباد الله إن يستعتبكم فأعتبوه".
ذكر الله تعالى نعمته على الناس في الفلك المشحون فقال سبحانه :﴿ ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ﴾، وإزجاء الفلك سوقه وإجراؤه، كما قال تعالى :﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( ٤٣ ) ﴾ [ النور ].
فكلمة يزجى تتضمن أن الله يسوق السفينة وأحمالها، وهو الذي يجريها في وسط الأمواج المتلاطمة، وهو سبحانه حفيظ عليها في وسط الرياح التي تهزها هزا، والأمواج التي تعلو حتى تكون كالجبال، وتهبط حتى تكون كأنها تسير على بساط الأرض.
وقال تعالى :﴿ لتبتغوا من فضله ﴾ ويصف سبحانه وتعالى الفلك بأنه الفلك المشحون، أي المملوء بالأمتعة والبضائع التي تنقلها من بلد إلى بلد، أو إقليم إلى إقليم.
وهنا نذكر معجزة للقرآن الكريم، في إخباره عما يكون في المستقبل، فكل ملم بالتاريخ يعلم أن المتاجر في البلاد العرب كانت تسير بالقوافل في باطن الصحراء، حتى كان المثل : الجمل سفينة الصحراء، ويندر من العرب من كان يرى البحر، ولكن القرآن تنبأ بأن الفلك ستكون هي الطريق لنقل البضائع من إقليم لإقليم، من أقصى الأرض إلى أقصاها، والآن نرى أن البلد يكون مقدار اقتصاده تبعا لمقدار سواحله، ومقدار المنشآت التي تمر بمراسيه، وتمخر عباب البحر إليه.
ولا تكاد تجد سورة من القرآن خلت من وصف البحر والجواري المنشآت، ولقد اطلع بعض البحارة على بعض تراجم القرآن – وإن لم تكن قرآنا – فعجب عندما عليم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر، فآمن.
وقوله تعالى :﴿ لتبتغوا من فضله ﴾، أي لتطلبوا مبتغين مريدين بعض فضله، ومن هنا للتبعيض ؛ لأن الفضل الذي يبتغى بالسفائن، إنما هو سبب واحد من أسباب الكسب الحلال، وهو الاتجار، ونقل البضائع بين الأمصار عمل ذي أخطار، وهناك فضل كثير لله غيره، فهناك الزراعة، وهناك استخراج المعادن من باطن الأرض، واللآئي والجواهر من باطن البحار، فكل أولئك من رحمة الله، ولذا ختم الآية بقوله تعالت كلماته ونعمه :﴿ إنه كان بكم رحيما ﴾ الضمير يعود إلى ﴿ ربكم ﴾ الذي صدر به القول و ﴿ كان ﴾ دالة على الاستمرار، وقدم ﴿ بكم ﴾ على ﴿ رحيما ﴾ لكمال العناية بخلقه، وللاهتمام بالإنعام وبالرحمة بهم، فالإنسان محوط بنعمه مغمور بها، ولكن قليل الشكور من بين عباده، وكثير الكفور.
وإن الله كما يجرى السفائن في البحار يحفظ راكبيها من كل ضر يسببه ركوب البحار أو لا يكون به، ولذا قال تعالى :
﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( ٦٧ ) ﴾.
الضر هو ما يصيب الإنسان في جسمه من مرض أو خوف أو اضطراب، وإن أهوال البحر كثيرة، وخصوصا عندما كان السير فيه بالمراكب الشراعية، ولا تزال الأهوال قائمة، فمنها دوار البحر، ومنها تلاطم الأمواج وعلوها أحيانا حتى تصير كالجبال، ومنها المرض حيث يكون منقطعا عن أهله، فإنه يكون في هذه الحال منقطعا عن الناس لا يعلم به أحد ممن يستغيثهم فيغيثونه، فهل يذكر الأوتان التي يدعوها من دونه قال سبحانه :﴿ ضل من تدعون إلا إياه ﴾، أي غاب عن خواطركم من تدعونها آلهة وبدت لكم حقيقتها وهي أنها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغيث ولا تستغاث، ولعلكم لا تدركون هذه الحقيقة وقت سرابكم وتغمركم الأوهام التي أضلتكم وقوله تعالى :﴿ إلا إياه ﴾، أي غاب كل ما تزعمون قوة، ولا يحضر الله سبحانه وتعالى، و ( إياه ) ضمير منفصل في محل النصب، والكلام يشير إلى وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة.
وقوله تعالى :﴿ وإذا مسكم ﴾ معناه أصابكم، وقال سبحانه وتعالى :﴿ وإذا مسكم ﴾ للإشارة إلى أن البحر مخوف مرهوب، فالمس يشمل الإصابة التي تصيب الأبدان، ويشمل خوف الغرق والفزع عندما تضطرب الأمواج ويعلو الفلك وينخفض، وقد وجفت القلوب واضطربت الأفئدة.
وقال تعالى :﴿ فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾.
الفاء هنا عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو ترتيب عكسي، أي أنه كان يترتب على هذا الشكر، ولكن ترتب العكس، فهذا دليل على الجحود، وعمقه في نفوسهم وتغلغله بسبب قلوبهم الكافرة غير الشاكرة.
وقوله تعالى :﴿ فلما نجاكم إلى البر ﴾ يشير إلى أنهم وهم في البحر هم في مخاطره، ولذلك جعلت غاية النجاة البر، ﴿ نجاكم ﴾ فيها معنى الإنقاذ، وأنهم ما داموا في البحر فهم عرضة لأهواله، وبعد أن جاء عصر البخار الذي تسير به السفن وسائر المراكب من قطر إلى قطر وغيرها ما تزال في البحر مخاطرة.
ويقول سبحانه :﴿ أعرضتم ﴾، أي انصرفت نفوسكم عن معاني الضراعة ونسيتموها وكأن لم يكن ضر ولا صرف، وكذلك شأن الإنسان دائما لا يذكر الأهوال إلا وقت نزولها فإذا زالت نسيها، كمال قال تعالى :﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) ﴾ [ هود ].
وقد قال البيضاوي في معنى ﴿ أعرضتم ﴾ : اتسعتم، أي صرتم في سعة بعد ضيق واستشهد بقول ذي الرمة :
عطاء فتى يمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
وقد ذكره على أنه احتمال في المعنى، ونرى أن المعنى بعمومه يشمله.
هذا، وإن السير بالمركب في البحار أمر شديد أو كان شديدا جدا في العصر الأول، وكان يدفع للإيمان إذا كانت النفس مدركة، ويروى أنه عند الفتح الإسلامي لمكة نفر ناس من أن يخضعوا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم وهربوا وركبوا الفلك إلى الحبشة ومنهم عكرمة بن أبي جهل، فركب البحر، فجاءتهم ريح عاصفة فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفا رحيما، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه.
وإذا كانوا قد أعرضوا بعد أن زالت عنهم شدة البحر، فإن الله يذكرهم، وهو العليم الحكيم أنه ينزل بهم الشدة في البر أيضا، إذ هم في قبضة الله تعالى فيقول :
﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( ٦٨ ) ﴾.
( الفاء ) عاطفة على فعل محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم.... والهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار الواقع ؛ لأنهم زعموا أنهم إذ نجوا الخسف في الأرض، أو الريح الحاصب من السماء.
وإذا كان كذلك فهذا توبيخ لهم على هذا الغرور وظنهم الآمن المطلق بعد النجاة من البحر، هكذا الغرور دائما تحكمه الساعة التي يكون فيها، وهي التي توحى إليه بالغرور.
ومعنى قوله تعالى :﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ﴾، أي أن غرورهم ليس في موضعه وأنهم أمنوا حيث لا مأمن، وظنوا أنهم قد خرجوا عن قدرة الله تعالى مع أنهم قد دخلوا في قدرته، وما هم بخارجين منها، فإذا نجوا من البحر وأهواله، ففي البر أهوال، والخسف أن تنهار الأرض، ويقال : بئر خسيف إذا انهدم أصلها، وجانب البر ناحية الأرض، والخسوف يقع في جانب منها، ويقال الله تعالى في قارون عندما بغى على قومه :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض...( ٨١ ) ﴾ [ القصص ].
فإذا نجوا من البحر فلن ينجوا من خسف الأرض، أو يرسل الله تعالى حاصبا، أي ريحا شديدة، وهي التي ترمى بالحصباء وهي الحصى الصغيرة، والحجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط، فقد جاء الخسف والحاصب معا، قال الله تعالى :﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ( ٨٢ ) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾ [ هود ].
فجاءهم الخسف، وجاءهم الريح الحاصب معا وكانوا يستحقون.
وقوله تعالى :﴿ جانب البر ﴾ منصوب مفعول ل ﴿ يخسف ﴾، وعلل الزمخشري ذكر الجانب بقوله :"معناه أن الجوانب والجهات كلها في قدرته، وله في كل جانب برا كان أو بحرا مرصد من أسباب الهلكة ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، فهو تغيب تحت التراب كما أن الغرق تغيب تحت الماء".
ويستفاد من هذا أن ذكر الجانب في البر في مواجهة الجانب من البحر، وليس جزءا خاصا من الأرض إنما الأرض، كلها جانب في مقابل جانب البحر كله، وكان على العاقل المدرك أن يعرف أنه لا يغيب عن قدرة الله تعالى في بر أو بحر.
وإذا فهو تحت سلطان الله تعالى في البحر والبر، فلا يتوهمن أنه يوجد من ينجيه من عذابه إلا إياه، وليس لأحد قدرة في أن يمنع قدر الله تعالى فقال :﴿ ثم لا تجدوا لكم وكيلا ﴾ تتكلمون عليه، ويصرف عنكم ما يقدره عليكم.
﴿ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ٦٩ ) ﴾.
﴿ أم ﴾ هي أم المعادلة، أأمنتم أن يخسف بكم جانب من البر، أم أمنتم أن يعيدكم إلى البحر تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا إلى آخره، والمعنى واضح أن غير المؤمن في غرور دائم، لا يكفر إلا في الحال الوقتية كشأن كل مادي فيه قصر فكر وإدراك، لا يفكر في العواقب، إنك إذ نجوت من البحر وأهواله، ونجوت من ضره وأسقامه فقد حسبت أن الوجود قد استقام كله لإرادتك وهواك، وإنه لا يجئ ما يجعلك تلجأ إلى الله تعالى وحده، أفأمنت جانب البر أم أمنت أنك لا تعود إلى البحر مرة أخرى فتتعرض لعقاب على كفرك.
﴿ تارة ﴾، أي مرة أخرى لرغبة قويت في نفوسكم أنسيتم ما أصابكم أولا، كما نسيتم رحمة الله وأن ذلك بإرادة الله فهو وحده الذي يعيدكم بتقوية هذه الرغبة ﴿ فيرسل عليكم قاصفا ﴾ ( الفاء ) عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب، أي أأمنتم أن يعيدكم فيرسل، فهو في قضائه ونقدره قد رتب على إعادتكم أن يرسل عليكم قاصفا ؛ وهي الريح التي يكون لها صوت شديد مزعج كأنها تنقصف أي تنكسر، وهي لا تمر بشيء إلا قصفته فتهز الدوح١ وتكسرها وكل ما يقف في سبيلها تكسره، ويترتب على قصفها الفلك وشراعها أن تغرق بمن فيها، ولذا قال تعالى :﴿ فيغرقكم ﴾ ولا مناجاة لكم بسبب كفركم بالنعمة التي أنعمها عليكم في النجاة إذ مسكم الضر وبسبب كفركم بالله تعالى.
﴿ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾ أي مطالبا بحق لكم لأنه لا حق لكم، إنكم بكفركم أخذتم، فالتبيع هو من يتبع الغريم المطلوب منه أداء ما عليه، كقوله تعالى :﴿... فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان...( ١٧٨ ) ﴾ [ البقرة ]، والمعنى أنهم يصنع بهم ما يصنعه الله فيهم ولا مطالب لهم بحق أو ما يشبهه.
١ جمع دوحة: وهي الشجرة العظيمة من أي شجرة كان. الصحاح..
كرامة بني آدم
كرم الله بني آدم من وقت أن خلق آدم وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولأن الله خلق شهوة، وملكية فإن غلبت ملكيته فهو أفضل من الملائكة وإن غلبت شهوانيته، فهو أحط من البهائم فكان من تكريمه تكليفه، فإن ذلك التكليف علو به من البهيمة إلى الملكية أو إلى خاصة الإنسانية، ومن هذا التكريم أن كان يبعث وينشر ؛ لأن هذه ضريبة العقل، ولا يكون الحساب والعقاب إلا للعقلاء المختارين الذين يميزون بين الخبيث والطيب، وإن العلاقة بين هذه الآيات وما سبقها من آيات أن الآيات السابقة كانت تتعرض لاعتراض إبليس على تكريم الله تعالى لآدم دونه، ثم ذكرت فضل الله ونعمه وكفر المشركين بهذه النعم، وعدم شكرها.
وفي هذه الآية يذكر تكريمه للإنسان في هذه الدنيا كما كرم أباه منذ النشأة الأولى.
قال تعالى :﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾ التكريم يتناول التكريم الأول بأمر الملائكة بالسجود لآدم، فإن ذلك تكريم للخلق الإنساني منذ الابتداء، وليس معناه أن كل إنسان أكرم عند الله من الملائكة، بل معناه أن آدم ذاته قبل أن يعصى كان مستحقا للكرامة فوق الملائكة، ولكنه بعد ذلك عصى آدم ربه فغوى، وهذا يشير إلى أن آدم يستحق الكرامة التي كرمه بها إلا إذا عصى.
وإن تكريم الله للإنسان ابتداء كما رأيت منذ النشأة الأولى، ثم كان من تكريمه أن خلقه في أحسن تقويم، ثم كان من تكريمه أن أعطاه سبحانه وتعالى العقل المميز، ثم كان من تكريمه أن جعل له إرادة يختار بها الخير والشر فيعلو عن الملائكة إن اختار الخير، وذلل كل الصعوبات التي تعترض طريقه، ثم كان من تكريمه أن سخر له السموات والأرض والنجوم وصار كل من في الوجود له، كما قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا...( ٢٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وذكر الله تعالى من تكريمه أنه تمكن من الأرض يحمل فيها بالركائب التي سخرها له من بغال وحمير وخيل مسوق وغير مسوقة وجمال له فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وكان حمله في البحر بالفلك المشحون كما ذكر سبحانه في آيات أخرى.
وإن الحمل في البر يدخل فيه الحمل في الجو بالطائرة التي تسبح في الهواء كما يجري الفلك في الماء، كما قال تعالى :﴿... ويخلق ما لا تعلمون ( ٨ ) ﴾ [ النحل ]، وقوله تعالى :﴿ فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾ وإن كل المخلوقات التي لم تؤت مثل ما أوتى ابن آدم من عقل مدبر وإرادة للخير والشر وابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى :﴿... ونبلونكم بالشر والخير فتنة...( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ]، كل هؤلاء فضل الإنسان عليهم بالفعل والتمييز والإرادة لما فعل وتحمل التبعة.
وقوله تعالى :﴿ ممن خلقنا ﴾، ( من ) بمعنى بعض وهم كثرة، فالإنسان من بين ما خلق قليل محدود، وغيره كثير غير محدود، وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان بوصف كونه إنسانا لا لأنه عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود أو متخلف أو متعلم، فهي حق كل إنسان، وإن البعث والنشور والحساب والعقاب والثواب من أسباب تكريم الإنسان لأنه يكون مسؤولا عما يفعل، والمسؤولية تكريم للإنسان لأن غير المسؤول همل، والمسئول من له كرامة وأدته إلى الجحيم، ولذا قال تعالى :
﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( ٧١ ) ﴾.
﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( ٧١ ) ﴾.
﴿ يوم ﴾ منصوب بفعل محذوف تقديره ( ذكر ) ﴿ يوم ندعو كل أناس ﴾، ومجئ هذا بعد آية التكريم يدل على أن ذلك له صلى بالتكريم فكان من تكريم الإنسان أنه لم يخلق سدى، بل خلق متحملا التبعة التي لا يتحملها إلا الكرماء، فمنكرو البعث رافضون للكرامة التي أكرمهم الله تعالى إياها لو كانوا يعقلون.
وقوله تعالى :﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم ﴾ أضاف سبحانه الدعاء إليه للإشارة إلى أنهم يلقونه، وقد كذبوا من قبل بلقاء ربهم، وخسروا بذلك خسرانا مبينا كما قال تعالى :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله...( ٣١ ) ﴾ [ الأنعام ]، و ( إمامهم ) أي بما يأتمون به ويتبعونه من بين هاد أو مرشد أو كتاب تدارسوه واتبعوه، وغير ذلك مما يكونون له تبعا، وفسره ابن كثير بأنه كتاب أعمالهم، فإنه في هذا الوقت تكون الأعمال هي الناطقة التي تقدم أصحابها، كما قال تعالى :﴿ وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ( ٢٨ ) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( ٢٩ ) ﴾ [ الجاثية ].
وإنه يرشح لذلك قوله تعالى :﴿ فمن أوتي كتابه... ﴾.
وكن كيف يسمى كتاب الأعمال في الدنيا إماما، وهو نتيجة لاتباع غيره من هاد أو ضال، ولهذا رجح الأكثرون بأن الإمام هو القدوة المتبع هاديا مرشدا، أو غاويا مضلا.
وقد يجاب عن الرأي الأول بأن الكتاب سمى بذلك ؛ لأنه حجة عليه لا يستطيع معه إنكارا، ﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه ﴾ الفاء تشير إلى أن هناك من يعطى بيمينه، ومن يعطى بشماله، أو هي تفصح عن كلام مقدر، ﴿ أوتي ﴾، أي أعطى كتابه بيمينه وإعطاء الكتاب بيمينه يشير إلى أنه من أهل اليمين وهم أهل الجنة كما قال الله تعالى :﴿ وكنتم أزواجا ثلاثة ( ٧ ) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( ٨ ) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشأمة ( ٩ ) ﴾ [ الواقعة ]، ويقول سبحانه عن أصحاب الشمال :﴿ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ( ٤١ ) في سموم وحميم ( ٤٢ ) وظل من يحموم ( ٤٣ ) لا بارد ولا كريم ( ٤٤ ) ﴾ [ الواقعة ].
وقوله تعالى :﴿ فأولئك يقرءون كتابهم ﴾، أي أنهم يقرءون كتابهم مستمتعين بهذه القراءة مدركين جزاءهم متوقعين له، ﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾، أي مقدار فتيل، وهو ما يكون بين جزأي النوات وهو ضئيل، كما قال تعالى :﴿... ولا يظلمون شيئا ( ٦٠ ) ﴾ [ مريم ]، وكما قال تعالى :﴿... فلا يخاف ظلما ولا هضما ( ١١٢ ) ﴾ [ طه ].
وقد ذكر سبحانه أن أهل اليمين يقرءون كتابهم ولم يذكر أهل الشمال أنهم يقرءئون كتابهم ؛ لأنهم لا يقرءونه استخزاء من أفعالهم وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وإن هذه حال أهل اليمين، أما حال أهل الشمال فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله تعالى :
﴿ ومن كان في هذه أعمى في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( ٧٢ ) ﴾.
العمى هنا هو عدم إدراك النعمة أو عدم شكرها والكفر بها، ففي الكلام استعارة حيث شبه عمى القلب بعمى البصر بجامع عدم الإدراك في كل، فمن عمى في الدنيا لا يدرك النعم أو يدركها ولا يشكرها ﴿ فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾، أي فهو في الآخرة أكثر عمى وأضل سبيلا، أي أبعد عن إدراك الطريق المستقيم ؛ لأنه في الآخرة قد انتهى وقت العمل وفيها الجزاء، أو لأن عمى الدنيا قد يعوض بجارحة أخرى كالسمع واللمس، أما عمى الآخرة فلا يوجد فيه معوض عن البصر، ولأن عمى الدنيا قد تدركه التوبة ففي الزمان متسع لها، أما الآخرة فالعمى فيها لا يستدرك بتوبة، إنما زمن الاستدراك في الحياة الدنيا، وإن التعبير بالعمى في الدنيا مجازى كما أشرنا وفي الآخرة هو مجازى أيضا، وقيل : إن كلمة ﴿ أعمى ﴾ الثانية هي أفعل تفضيل ويجوز ذلك في عمى القلب، ولعل ذلك أخذوه من العطف عليها بأضل وهي أفعل تفضيل.
ولقد روى أنه جاء نفر من أهل اليمين إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية، فقال اقرأ ما قبلها ﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( ٧٠ ) ﴾ قال ابن عباس : من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
محمد يحاول هدايتهم وهم يريدون تحويله
كان محمد صلى الله عليه وسلم محبوبا في قومه يألفونه، ويكبرونه ويعدونه فيهم خيرهم أمانة وصدق وقوة خلق، حتى إذا بعث رسولا، فرق شعور بعضهم بينه وبينهم بسبب الحق الذي جاء به، وما هم عليه من باطل يستمسكون به، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يحب هدايتهم، أنهم قومه ولأنه داعية الحق يريد أن يؤمن الناس به فهو يحاول أن يستدنيهم ويتمنون بجدع الأنف أن يترك هداية الله إلى ضلالهم، ولذا قال تعالى :
﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لأتخذوك خليلا ( ٧٣ ) ﴾.
الكلام موصول لما قبله بالواو، وإن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام هي اللام الفارقة وهي مؤكدة، يفتنونك معناها يزيلونك عما أنت عليه أو يصرفونك، وقال الراغب الأصفهاني إن معناها يوقعنك في الفتنة، بالنزول على ما يريدون.
وأوضح المعاني أن تكون بمعنى يصرفونك عن الذي أوحينا إليك وهو القرآن الكريم، بأن تنصرف عن أحكامه وعن شريعته وعن المبادئ المقررة فيها التي تسوى بين الغني والفقير، ﴿ لتفتري علينا ﴾، أي لتكذيب على الله وتدعى أنه نزل عليك غيره، وفي هذه الحال تكون خليلهم وحبيبهم كما كنت، ولذا قال سبحانه :﴿ وإذا لأتخذوك خليلا ﴾، أي إذا كان ذلك منك وتحولت عن الله تعالى إليهم يتخذونك وليا وخليلا، و ( اللام ) هي الواقعة في جواب ( إذا ).
ويذكر المفسرون روايات تدل على هذه المحاولة منهم، فيقولون إن ثقيفا حاولوا أن يستنزلوا من أحكام الإسلام ما يهوون فأرادوا أن يكون الربا حلالا لهم إذا كانوا دائنين وأن يكون حراما إذا كانوا مدينين، وأن يستمتعوا بعبادة اللات إلى آخر ما ذكروا، ونقول : إن وفد ثقيف الذي طلب ما طلب كان بعد الهجرة بسنين فهو كلام يحمل في نفسه دليل بطلانه.
وقيل : إنهم منعوه من استلام الحجر الأسود إلا إذا كان معهم فلان، وهذا أيضا كلام يحمل في نفسه دليل بطلانه ولا يوجد من الصحاح ما يؤيده أو يشير إليه.
ولعل أقرب الروايات في أسباب نزول هذه الآية هو ما ذكر أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ؛ فقالوا : إنك تأتى بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا، وما زالوا به حتى يقاربهم في بعض ما يريدون فعصمه الله، وخير من هذا هو قول أكابر قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالى حتى نجلس معك ونستمتع منك فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك١، هذه أصح الروايات في محاولاتهم، ولها شاهد من القرآن الكريم فقد قال تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( ٥٢ ) ﴾ [ الأنعام ]، وقوله تعالى :﴿ وإن كادوا ﴾ ذكر محاولتهم ولم يذكر استجابة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ الله أن يستجيب خاتم النبيين، ولكن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجذبهم إلى الإسلام ربما كانت سببا في أن يقارب بما دون الاستجابة، ولذا قال تعالى :
﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( ٧٤ ) ﴾.
١ انظر ما جاء في ذلك في مسلم: فضائل الصحابة – في فضل سعد بن أبي وقاس رضي الله عنه (٤٤٣٤)..
﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( ٧٤ ) ﴾.
( لولا ) يقول علماء اللغة أن ( لولا ) حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجوده، أي امتنع أن تركن إليهم لوجود التثبيت، أي أن إغراءهم لتعدل عن دعوتك دائم مستمر، ولكن لا جدوى لأن تثبيت الله دائم مستمر.
وإن هذا يفيد أمورا ثلاثة :
الأمر الأول : تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار على دعوته الحق غير مباليهم في شيء وأن يصر على قوله، ولا يتهاون قيد أنمله فيما يدعو إليه.
الأمر الثاني : أن الله مؤيده في الحق وفي دعوة الحق المستمرة والله تعالى عاصمه منهم نفسيا وماديا، فهم لا ينالون من جسمه ولا يمكن أن ينالوا من نفسه، فالله معه، وحامي الحق.
الأمر الثالث : أن إرادتك هدايتهم لا يصح أن يأتوك من قبلها.
وقد أكد الله تعالى أن إغراءهم من شأنه أن يميل إليهم، ولكن محمدا في عصمة ربه وتثبيته، والله تعالى يثبت القلوب كما يثبت الألسنة :﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( ٢٧ ) ﴾ [ إبراهيم ].
ويقول :﴿ لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾.
أكد سبحانه أنه كاد يميل إليهم، وكان التأكيد باللام وبقد، ولكنه وصف الكيدودة بأنها شيء قليل لم تمل معه النفس، وكان تأكيد الميل لقوة الإغراء وقوة ما يحاولون أن يميل قلب النبي صلى الله عليه وسلم، و﴿ تركن ﴾ معناه تميل، ولم تكن استجابة ولكن مظنة الاستجابة لولا عصمة الله تعالى.
وقد حذر الله تعالى نبيه من هذه الاستجابة بقوله تعالى :
﴿ إذ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( ٢٥ ) ﴾.
﴿ إذا ﴾، أي كان منك أنك ركنت إليهم، وجرك هذا إلى الاستجابة لهم ﴿ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ﴾ اللام جواب ﴿ إذا ﴾، أذاقناك عذابا هو ضعف عذاب الحياة بعجزك عن التبليغ والخزي، والهوان والذلة فيكون عذابا مضاعفا يكون معه الخزي والهوان وهذا ضعف عذاب الحياة، أما ضعف الممات فهو أن العذاب يكون يوم القيامة مضاعفا، والعذاب يكون على مقدار العلم ومقدار ما أوتى من بيان وأي علم أعظم من علم النبوة، وأي آيات أعظم من تأييد الحق، وإن العذاب يكبر بكبر من وقع في سببه.
ولقد قال الزمخشري في هذا المقام : في ذكر الكيدودة وتقلبها مع إضافة العذاب الشديد المضاعف في الدارين دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله تعالى، وخروج عن ولايته وسبب موجب لغضبه ونكاله، فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبير وأن يستشعر الناضر فيها الخشية.
وإنه إذا كان قد ذكر القرآن الكريم أنه كاد يركن، فليس معنى النص يفيد أنه ركن، وقدر ذكر الله عقابا مضاعفا للركون لا لقرب الركون، فمعنى ﴿ إذا لأذقناك... ﴾، أي إذا ركنت أذقناك، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون منه ركون، وهي تحذير لأمته من أن يخطوا مع الظالمين وأن يركنوا إليهم، كما قال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( ١١٣ ) ﴾ [ هود ].
ولقد قال تعالى محذرا محمدا وأمته :﴿ ثم لا تجد لك علينا نصيرا ﴾، العطف ب ﴿ ثم ﴾ بعد النصرة إذا كان منه الركون، وقال :﴿ علينا ﴾، أي ليس لك علينا أن ننصرك إنما نتركك لمن ركنت إليهم، وإن لك تحذير للأمة من أن تركن لظالم قط، أو تقع تحت إغوائه، وأنهم كانوا يحاولون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ولذا قال تعالى :
﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( ٧٦ ) ﴾.
﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( ٧٦ ) ﴾.
كان كفار مكة يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فلقد آذوا أصحابه إيذاء بالغا، حتى إن منهم من مات تحت حر العذاب كأم عمار بن ياسر وأبيه، وحتى إن من هم من نطق بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد هاجر منهم فرارا من الأذى إلى الحبشة طائفة من المؤمنين استنقاذا لإيمانهم وقد هاجروا مرتين، والنبي صلى اله عليه وسلم ثابت في مكانه مقيم يشارك من لم يستطع السفر الأذى والمصابرة، ولو خرج لضاقوا في أنفسهم، واشتد بهم الألم بعدم من يشاركهم، وهو قطب الدعوة.
رأى المشركون ذلك ورأوا أن يزيدوا في إيذائه ليزعجوه ويستفزوه ليخرج، وبلغ ذلك أقصاه عندما هموا أو تثبيته أو إخراجه، وإلى هذا يشير قوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ و ( إن ) هنا هي المخففة من الثقيلة كما هي في الآية السابقة في التلاوة، واللام لام التوكيد فارقة بينها وبين ( إن ) النافية، ومعنى استفز، أي طلب الفز بألا يكون قرا ثابتا، وهؤلاء طلبوا أن يفز النبي صلى الله عليه وسلم من الأرض بألا تكون مستقرا له يأمن فيها ويسكن حتى لا يبقى بها ؛ لأنهم علموا أنه لا محالة مضيع شركهم قاض على أوثانهم مزعج لهم فأزعجوه منها ليخرج، والأرض هي أرض مكة ؛ لأنها المعهودة، ف ( أل ) لعهد، ولأنها الجديرة بأن تسمى الأرض الحرام ؛ لأنها الحرم الآمن الذي يجبى إليه ثمرات كل شيء ولأنها أم القرى، إنهم يفعلون ذلك ليخرجوكم من أرض مكة، ولكنه إن خرج فإنه يبتدئ زوال سلطانهم وهي تضطرب من تحتهم، ولذا قال تعالى :﴿ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾، أي أنه نتيجة لخروجه من بينهم لن يستمروا بعده إلا زمنا فإن دولتهم تأخذ في الزوال، وذلك بأحد أمرين :
الأمر الأول : أن يجد قوما غيرهم يستجيبون لدعوته وتكون له بهم قوة فيردون اعتداءاتهم، وفتنهم وقد كان ذلك، فإن الله تعالى أمره بالهجرة في ميقاتها عندما وجد من استجاب من أهل يثرب، فكانوا هم ومن هاجروا قوة الإسلام استنصفوا منهم، ثم زالت دولة الأوثان بعد ذلك ويئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض.
الأمر الثاني : أن ينزل الله بهم ما أنزل بالذين آذوا أنبياءهم وأخرجوهم أو سدوا سبل الحق عليهم حتى يئسوا من أن يؤمنوا، وقال الله لكل نبي منهم :﴿... لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن...( ٣٦ ) ﴾ [ هود ]، فإنه ينزل عليهم من آياته خسفا، أو زلزالا، أو حاصبا، أو ريحا صرصرا عاتية.
وقد كان الأول وإن ذلك سنة الأولين، وقد قال تعالى :
﴿ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( ٧٧ ) ﴾.
﴿ سنة ﴾ منصوبة على أنها مفعول مطلق كمصدر، والفعل المحذوف سننا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، أو نسن لك سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، وهو أنه لا يخرج قوم أنبياءهم إلا أدلنا منهم ؛ فآل لوط أخرجوا نبيهم فجعل عليهم الأرض عاليها سافلها، وثمود عقروا الناقة وآذوا صالحا فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، وموسى أخرجوا فرعون وملؤه فأغرقهم الله تعالى وأدال منهم، كما قال تعالى :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( ٥ ) ﴾ [ القصص ].
﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾، أي تغييرا ؛ لأنها لها منهاجا معلوما لا تتحول عنه، وهو أن ينصر رسله، وقال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا...( ٥١ ) ﴾ [ غافر ]، وقد كان الأمر بالنسبة كذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه بعد بضع سنين من هجرته دخل مكة محطما أوثانها، وقد أمن أهلها وذهبت دولة الشرك.
في شريعة محمد دواء النفس ونصر الحق
نحسب أن هذه الآيات كان قبيل الهجرة، بل إن سورة الإسراء كلها كانت قبيل الهجرة ؛ إذ فيها الإسراء، وقد كان قبيل الهجرة إيناسا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يحميه، وزوجه خديجة التي كانت السكن المواسية، ولذا نقول : إن قوله تعالى :
﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( ٧٨ ) ﴾.
وإن الآيات السابقة تدل على ما كان يحاوله المشركون ليفتنوا المؤمنين في دينهم، وتطاولوا فحسبوا أنهم يفتنون محمدا صلى الله عليه وسلم عما أوحى الله تعالى به إليه، ثم أشار إلى ما كانوا يفعلونه لكيلا تكون له مكة مقاما ومستقرا، بعد ذلك أمره بالصلاة مبينا أوقاتها له ولأمته، فقال :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ﴾ والصلاة فيها ابتلاء النفس بالقوة لأنها انصراف ولجوء إلى الله تعالى واستحضار ذاته العلية، والصلاة هي ركن الإيمان السديد، ولقد قال تعالى :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( ٩٧ ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( ٩٨ ) ﴾ [ الحجر ]، ويقول تعالى :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( ١٣٠ ) ﴾ [ طه ]،
فكان الأمر بالصلاة والإشارة إلى أوقاتها ؛ لأنها مادة الصبر والإيمان وفيها أعلى درجات السلوان عن متاعب الحياة ولأوائها.
اللام في قوله تعالى :﴿ لدلوك ﴾ للتوقيت، كما تقول في توقيت أعمالك أو الحوادث كان هذا لخمس خلون من جمادى أو نحو ذلك، ويصح أن تكون للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل دخول وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل... ولهذا يقول علماء الأصول : إن الوقت سبب وجوب الصلاة، من حيث إن الصلاة لا تجب إلا بدخوله.
وإقامة الصلاة التي هي مصدر أقام، و﴿ أقم ﴾ معناها أداؤها مقومة مستقيمة مستوفية الأركان الظاهرة، من قيام وركوع وسجود وقراءة ودعاء وأركانها الباطنة من خشوع واستحضار لمعانيها، ومعاني قراءتها وأدعيتها حتى تكون كلها ذكرا له تعالى، وهو لب معناها.
و ( دلوك الشمس ) معناه ميلا من وقت زوالها، وكونها في كبد السماء إلى غسق الليل، وبهذا تشمل آيات الأوقات كلها ؛ لأنها شملت الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غسق الليل، والفجر في قوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾.
وفسر بعض الصحابة الدلوك بالغروب لأنه نهاية ميل الشمس ؛ إذ تختفى. ومن فسر الدلوك بميلها في الزوال، فسرها بابتدائه، وقال المارودي : من جعل الدلوك اسما لغروبها، فلأن الإنسان يدلك عينيه براحتيه لتبينها حالة الغروب، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها.
ونرى أن تفسير الدلوك بميلها وقت الزوال هو الأوضح ؛ لأن الآية بهذا التفسير تشمل كل أوقات الصلاة، ولأن ( دلك ) معناها ( مال ). جاء في تفسير البيضاوي ما نصه :"وأصل التركيب للانتقال، ومنه الدلك فإن الدالك لا تستقر يده وكذا كل ما تركب من الدال واللام كدلج، ودلح، ودلع، ودلف".
وقوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾، أي ميلها من الزوال شيئا فشيئا، فيكون الظهر ثم يشتد الميل فيكون العصر، واتساع الميل علامته طول كل الأشياء، ويكون العصر، ثم تغيب وينقطع الميل فيكون المغرب وتختفي الشمس وآثارها، فيكون غسق الليل وهو اجتماع ظلمته، وذهاب كل شفق ينير، فيكون العشاء ثم نبه سبحانه وتعالى إلى الفجر وصلاته، فقال :﴿ وقرآن الفجر ﴾ صلاة الفجر بقوله :﴿ وقرآن الفجر ﴾ ؛ لأن القراءة ركنها ولأنه يجب أن يكون الجهر بها، ولأنه يندب أن تكون القراءة فيها بطوال السور أو ببعضها، ولأن القرآن فيها مشهود مستحسن، وقوله تعالى :﴿ إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾، أي تشهده الملائكة إذا لم تدرن النفس بعوجاء الحياة، واختلافات الأهواء والمنازع ؛ ولأن الفجر ينبغي أن يؤدى في جماعة، ويجب أن يشهده أكثر المؤمنين القريبين من المسجد، ولأنه أول ما تستقبل به الحياة، ويصح أن نقول : إن ﴿ مشهودا ﴾ كناية عن رفعته ومقامه عند الله وعند المؤمنين، وهذه الأوقات تتلاقى مع قوله تعالى في سورة الروم المكية :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( ١٧ ) وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( ١٨ ) ﴾ [ الروم ].
وبعد ذكر الله تعالى الفرائض، أشار سبحانه وتعالى إلى النوافل فقال :
﴿ ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( ٧٩ ) ﴾
من هنا للتبعيض، والفاء عاطفة على فعل محذوف وتقدير الكلام قم جزءا من الليل فتجهد به نافلة ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾، أي رجاء أن يبعثك ربك مقاما محمودا، والتهجد معناه قطع الليل في العبادة وخاصة الصلاة، وقالوا : إنه سلب الهجوم أي النوم فمادة تفعل تأتي أحيانا بمعنى سلب الفعل، فالتهجد سلب الهجوم وهو النوم والاستراحة كالتأثم سلب الإثم أو إبعاده، والتحرج إبعاد الحرج إلى آخر أمثال هذه الألفاظ.
والمقام المحمود هو المقام الذي يحمد قائمه، وهو مقام العبادة، وهو النسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقام الشفاعة يوم القيامة، فهو المقام الذي يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يؤمر بالشفاعة، كما قال تعالى :﴿... ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾ [ الأنبياء ].
وقوله تعالى :﴿ نافلة لك ﴾، أي هذا التهجد نافلة أي زائدة، أي أن هذا التكليف بالتهجد كنافلة زائدة هو لك أنت مثل قوله تعالى :﴿... وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين...( ٥٠ ) ﴾ [ الأحزاب ]، ولقد قامت هذه النافلة في الذكر عن قراءة الفجر وتأخرت عن صلاة الغسق، وكانت بينهما ؛ لأن التهجد ليس فرضا على المؤمنين، ولقد قال تعالى في هذه النافلة المطلوبة من النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ يأيها المزمل ( ١ ) قم الليل إلا قليلا ( ٢ ) نصفه أو انقص منه قليلا ( ٣ ) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ( ٤ ) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ( ٥ ) إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ( ٦ ) إن لك في النهار سبحا طويلا ( ٧ ) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ( ٨ ) ﴾ وإن العبادة إذا أديت على وجهها وخصوصا الصلاة كان العبد قريبا من ربه، يدعوه فيستجيب له، ولذا قال تعالى :
﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( ٨٠ ) ﴾.
﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( ٨٠ ) ﴾.
الإدخال متعدى دخل، والإخراج متعدى خرج، وقيل : إن هذه الآية نزلت عندما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكة مهاجرا، وأن يدخل المدينة داعيا مستنصرا، ويصح أن يفسر الإدخال والإخراج بهذا المعنى الخاص، ونرى أنه عام في كل أمر يقدم عليه الإنسان ويريد منه خيرا، وهو بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هو الدخول في تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى، وأداؤه لها والاستمرار في أدائها والزود عنها، حتى يقبضه الله سبحانه وتعالى إليه.
وما معنى الصدق في هذا المقام، يقال قول صدق، وعمل صدق، وموقعه صدق، ووقفه صدق، ونقول : الصدق هو الكمال في الأفعال والأقوال والواقع، والمواقع ومعنى صدقها أي يبتدئ بها الشخص مخلصا متجها إلى الغاية في أكمل صورها، مالكا الحق في طلبها سلوكا مستقيما من غير التواء ولا مراء، معطيا ما يحتاج إليه الأمر من وسائل الاستقامة والخلق الكريم، وفي الصدق صدق النفس بالإخلاص، وصدق العمل بالنية الطيبة، وصدق اللسان والجوارح.
فالدعاء بأن يدخله مدخل صدق، وأن يخرجه مخرج صدق دعاء بأن يحاط في المدخل والمخرج بالفضائل الإنسانية، والمكارم كلها، والحق من كل نواحيه، هذا الدعاء الذي علمه الله تعالى، وكل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم هو خطاب لكل أتباعه لأنه الأسوة المتبع.
وآخر الدعاء قوله تعالى :﴿ واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾ كان الدعاء الأول بلفظ المتكلم المفرد، أما في هذا الدعاء فكان بلفظ المتكلم الذي معه غيره، و ﴿ لدنك ﴾، أي من عندك وهي تكاد تكون في اللغة العربية خاصة بالعندية لدى الذات العلية.
وكان الدعاء بأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه غيره بأن يهبه ومن معه السلطان أي القوة، و ﴿ نصيرا ﴾، أي قوة تنصره وتؤيده ويستعمل السلطان بمعنى الحجة، وبمعنى التسلط، وبمعنى القوة، وهي في هذا الموضع تشمل الحجة والقوة الناصرة التي لا تنهزم، وقد أعطاه الله سبحانه وتعالى كل ما طلب، وأعطاه سلطانا له ولمن معه فأجيبت دعوته وعصمه الله تعالى من الناس وجعل حزبه هو الغالب وقال :﴿... فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾ [ المائدة ]، وظهر دينه على الدين كله، واستخلفهم في الأرض ونزع الله ملك فارس وممالك أخرى، وهكذا.
ونلاحظ أنه عندما طلب القوة، لم يطلبها لنفسه، بل طلبها لمن معه وهو بينهم، لتكون القوة الجماعية، ومن يطلبها لنفسه فإنما يطلبها للغلبة وقهر المؤمنين كما رأينا من رؤساء المسلمين في هذا الزمان.
وإن وراء المدخل الصدق والمخرج الصدق، والسلطان للجماعة المؤمنة يكون انتصار الحق، وخذلان الباطل، ولذا قال تعالى :
﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( ٨١ ) ﴾.
هذه الآية تؤذن بما سيقع بعد أن يكون الخروج الصدق من مكة بالهجر والدخول بالمدينة وهو النصرة والإيواء.
وبعد أن أعطاهم السلطان النصير، والقوة ومجابهة الشرك، أمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك مقررا مثبتا جاهرا بهذه الحقيقة وإن لم يكن ذلك ظاهرا، ولكن أسباب النصر القريب قد وجدت وتضافرت، وكان أشدادهم في الإعنات بشيرا للمؤمنين بقرب الفرج، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدخله مدخل صدق وأن يخرجه مخرج صدق ؛ إيذانا بالهجرة التي كان من بعدها النصر المؤزر.
يروى أن المؤمنين ابتدءوا الهجرة من بعد أن بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج البيعتين على النصرة، وأن يحموا محمدا ودعوته كما يحمون نساءهم وأولادهم١، ومن هذا الوقت ابتدأت الهجرة فرادى وجماعات صغيرة يستخفون بها ولا يعلنون، ويظهر من المساق التاريخي أن دعوة الرسول بأن يدخل مدخل صدق، ويخرج من مكة مخرج صدق كان في هذا الإبان وكانت قريش تأتمر به لتقتله أو تثبته أو تخرجه وانتهت إلى قتله في مؤامراتها، وهذا في قوله تعالى :﴿ وإذ يمكروا بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنفال ].
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل المؤمنون وقوتلوا ثم كان النصر بأمر الله، فقوله تعالى :﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل ﴾، أي قل مبشرا مثبتا جاء الحق غالبا منصورا وزهق الباطل أي ذهب وضاق من زهوق الروح، ﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾، أي مضمحلا غير ثابت.
ولو أننا نأخذ من روح النصوص القرآنية ما اقترن بها من حوادث، لقلنا إن هذه الآيات، والنبي صلى الله عليه وسلم قد التقى بوفد الأوس والخزرج وبايعهم بعد أن آمن من آمن منهم ولكن لم نجد في كتب التفسير ما يؤيد ما نقول وحسبنا القرآن مبينا أو مسيرا.
١ انظر في ذلك ما رواه أحمد: باقي مسند المكثرين – مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (١٤١٢٦)..
ولقد قال تعالى في القرآن الذي هو الحق، وبه علا الحق وكل ما فيه حق، ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( ٨٢ ) ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى إشراق النفوس بالحق وطمس الباطل أشار سبحانه إلى مصدر الحق في الإسلام وهو القرآن فليس فيه إلا الحق، ولا يلتمس إلا منه ولا يطلب إلا من آياته، فقال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ﴾، ( من ) هنا يقول بعض علماء اللغة : إنها بيانية، أي ننزل القرآن الذي هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين ؛ لأن القرآن كله شفاء ورحمة، وإذا جعلنا ( من ) للتبعيض يكون معنى الآية أن بعضه ليس فيه شفاء ولا رحمة وذلك باطل ما يؤدى إليه.
وقال ابن عطية من المفسرين :"إن جعل ( من ) للتبعيض لا ينافى أن القرآن كله شفاء ؛ لأن ( ننزل ) معناه النزول شيئا فشيئا فيكون المعنى على هذا "وننزل من القرآن شيئا فشيئا ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" فالتبعيض في طريقه النزول لا في الحكم بأنه كله شفاء ورحمة للمؤمنين".
والشفاء والرحمة للمؤمنين ؛ لأنهم الذين ينتفعون به، والشفاء الذي اشتمل عليه القرآن هو شفاء النفوس من أوهام الباطل، وشفاء العقول من رجس الوثنية والأخلاق الجاهلية ومفاسد الأخلاق والرذائل الأثيمة، وتلك تخلية وبعدها التحلية، وتلك هي الرحمة، فتملأ النفوس بمكارم الأخلاق وتنظم المعاملات بين الناس في شريعة محكمة وحقائق ثابتة، وتنظم أعمال الناس بنظم اجتماعية واقتصادية تحفظ للفرد في التصرف والامتلاك، وتصريف أموره في ظل جماعة عادلة رحيمة مترابطة غير متقاطعة، ولا متنازعة لا تسلب فيها الحقوق بكلام لا معنى له.
وإن هذا النص الكريم يتقارب في مؤداه من قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ( ٥٧ ) ﴾ [ يونس ] وإن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالغذاء الطيب التي يغذى النفوس والدواء الناجح الذي يزيل أمراض القلوب، أما غير المؤمنين فلأنهم أعرضوا عن الحق، وصموا آذانهم عنه إذا سمعوا القرن لا يشفيهم ولا يغذيهم بل يزيدهم خسارا، ولذا قال :﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾ ؛ لأن الكفار لجوج في كفره معاند ولا تزيد الحجة المعاند إلا عندا وخسارا.
ولقد قال في وقع نزول القرآن على المنافقين :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( ١٢٤ ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ( ١٢٥ ) ﴾ [ التوبة ].
وإن الإنسان تطغيه النعمة فيبطرها ويؤسه البلاء، إلا الصابرون، وهذا قوله تعالى :
﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( ٨٣ ) ﴾.
﴿ الإنسان ﴾ ( أل ) للجنس، أي جنس الإنسان أنه تبطره النعمة وتطغيه، وتوئسه النعمة وتضعفه، وإن هذه طبيعة الإنسان إلا من هداه الله تعالى بالصبر والإيمان، أو ( أل ) للعهد، وهو كما يدل عليه آخر الآية السابقة وهو الظالم الذي لا يزيده علم القرآن إلا خسارا، وإن هذه طبيعته الضالة التي جانف بها الفطرة ومال عنها.
ويقول في توجيه الحق في ذلك : إن الغريزة الإنسانية تنشأ منفعلة بما أحاطها وما منحت، فإن منحت القوة والصحة والمال ربما تطغى وتعرض عن الحق إلا أن تتهذب بتهذيب الدين، ويصيبها اليأس من روح الله إن الله إن أصابها أمر يضرها ويسرها إلا أن تؤمن وتصبر.
وهذا قوله تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان ﴾ بنعمة الصحة والمال وتوفير الرزق، والسكن ﴿ أعرض ونأى بجانبه ﴾، أي أعرض عن الحق والتطامن له، وعن الطاعة لله تعالى، وقد صور سبحانه وتعالى فقال :﴿ ونأى بجانبه ﴾، أي ثنى وجهه واستدبر من يخاطبه وأدار وجهه وواجه بظهره ؛ وهذه سورة حسية لمن يعرض مطرحا الأمر وراء ظهره، غير ملتفت إليه.
﴿ وإذا مسه الشر كان يئوسا ﴾، أي كان يائسا يأسا شديدا من روح الله وإنقاذه مما نزل به بأسا شديدا، ﴿... إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( ٨٧ ) ﴾ [ يوسف ].
والشر هو ما يسوء ويؤلم ولو كانت عاقبته خيرا، وقوله تعالى :﴿ مسه ﴾ إشارة إلى أنه يصيبه ولو قليلا يجعله يائسا من رحمة الله، فالقوة تغريه وتطغيه، والضعف ولو صغيرا يهده ويوئسه.
وهذا كقوله تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( ٩ ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) ﴾ [ هود ].
معنى الآيات السابقة والقرآن الكريم في محكم آياته يبين أن الناس على أصناف شتى فمنهم المهتدى الذي يتجه إلى الحق اتجاها من غير اعوجاج، ومنهم الضال المعرض عن الحق إعراضا، ومنهم المنافق، ومنهم الذين يسلمون ولم يؤمنوا أو يرجى لهم الإيمان، وكل يسير في طريقه مختارا منتهيا إلى ما كتب له، وهذا قوله تعالى :
﴿ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( ٨٤ ) ﴾.
﴿ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( ٨٤ ) ﴾.
﴿ قل ﴾ يا نبي الله ﴿ كل يعمل على شاكلته ﴾، أي كل فريق، فالتنوين في ﴿ كل ﴾ قائم مقام المضاف إليه الذي يقدر بما يناسب المقام، والشاكلة الناحية أو الطريقة أو المذهب، أي كل يعمل على ناحيته التي اختارها والمذهب الذي اعتنقه، وهذا كقوله تعالى :﴿ قل يا أيها الكافرون ( ١ ) لا أعبد ما تعبدون ( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( ٤ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٥ ) لكم دينكم ولي دين ( ٦ ) ﴾ [ الكافرون ].
لقد حاولوا أن يفتنوا النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه، فكأن هذه الآية رد عليهم ؛ ومعناها قد اخترتم ما اخترتموه فاتركوا الناس أحرارا في اختيارهم، ولا تفتنوهم عن دينهم والحكم في هذه الشواكل عند الله تعالى، ولذا قال تعالى :﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ﴾.
وربكم الذي خلقكم ورباكم هو العالم علما ليس فوقه علم بمن هو أهدى وأسألك طريقا، وهو الذي يحكم بينكم يوم القيامة وهو خير الحاكمين، وأفعل التفضيل ليس على بابه كما ذكرنا مرارا.
الروح والقرآن
إن المشركين كانوا يعنتون في أسئلتهم وإجاباتهم، ويستعينون بأهل الكتاب في إحراج النبي صلى الله عليه وسلم.
ويروى أنهم قد قالوا لهم : سلوه عن ثلاثة : عن الروح، وعن العبد الصالح، وعن ذي القرنين، فإن أجاب عن بعضها فهو نبي١، وقد بين سبحانه وتعالى حال العبد الصالح الذي صحب موسى، وعن ذي القرينين في سورة الكهف، وعن الروح فقال :
﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( ٨٥ ) ﴾.
سألوه عن الروح ما ماهيتها أهي عرض أم جوهر، والروح أهي الروح التي تكون في الأجسام فتجعلها تتحرك بإرادتها وتسير باختيارها، ويقصد من الناس، ويصح أن يراد منها النفس التي تتجه بالحق إلى مقاصده وغاياتها، سألوه عنها فأجاب سبحانه، أو أمر نبيه أن يجيب بقوله :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾، أي أنها خلق من خلقه والعلم بها من شأنه وأمره الخاص به، ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾، أي ما الذي أوتيتموه من العلم إلا قدرا ضئيلا، والعلم بها فوق طاقتكم إنما اختص الخلاق العليم، وعبر ب ﴿ ربي ﴾ للإشارة إلى أنها سر خلقه وتكوينه، وقد شرف الله تعالى الروح فقال تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ٢٩ ) ﴾ [ الحج ]، فأضاف سبحانه روح آدم إليه تشريفا وتكريما للروح الإنسانية.
وإن التوراة التي بأيدينا فيها النص على أن نفس كل إنسان دمه، أما القرآن كلام الله الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو يقرر الحقيقة الثابتة الخالدة وهي أن الروح من أمر إنشاء الله وخلقه وسر الله تعالى في إبداعه وتكوينه، وما أوتى الإنسان إلا العلم بالمحسوسات واستخدام قواها، وهو لا يعرف حقيقة الأشياء ولكن يعرف مظاهرها وقوانينها الظاهرة لديه، وهذا مؤدى قوله تعالى :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ وهو العلم بالمحسوسات وظواهرها البيئية التي تتكشفها العقول وتعرفها الفهوم.
ألم تر الإنسان قد علا من الأرض وجعل النجوم له مراما، ووصل إلى القمر والمريخ، ويحاول أن يتعرف ما وراء هذا الفضاء فهل تراه استطاع أن يخلق ذبابا، كما قال تعالى :﴿ يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ﴾ [ الحج ].
قولوا للذين يقتعدون الفضاء وينقلون أجهزة العلم إليه : أيستطيع أحد أن ينشئ روح إنسان أو حيوان أو بعوضة في الأرض أو هامة من هوام الأرض ؟ إن ذلك من شأن منشئ الوجود بديع السموات والأرض والأجسام والأنفس والأرواح وكل شيء عنده بمقدار.
١ رواه البخاري: تفسير القرآن – ويسألونك عن الروح – (٤٣٥٢)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (٥٠٠٢). العبد الصالح..
وإن القرآن هو روح الشريعة، وأنه من أمر الله ومن شأنه، ولذا جاء ذكره بعد ذكر الروح التي من أمر الله تعالى، فقال تعالى :
﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( ٨٦ ) ﴾.
ذهب به يستعملها القرآن الكريم بمعنى أذهبه وكأن الباء تنوب عن همزة التعدية، كقوله تعالى :﴿... ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم...( ٢٠ ) ﴾ [ البقرة ]، أي لأذهبها ذهابا مؤكدا ومعناه ذهب بالذي أوحينا أي محاه وصحبه وأخذه معه فهو يتضمن المحو عند الناس والأخذ به عند الله.
واللام في قوله تعالى :﴿ ولئن شئنا ﴾ اللام الموطئة للقسم، واللام في قوله تعالى :﴿ لنذهبن ﴾ هي اللام الواقعة في جواب القسم، ولنذهبن القسم وهو قائم مقام جواب الشرط.
والمعنى أن الله تعالى يؤكد أن الله تعالى قادر على أن يذهب بهذه المعجزة التي بهرت العقول والأفهام وعجز العرب عن يأتوا بمثلها لو شاء ذلك وأراده، ولكنه لم يشأ ولم يرتضيه وقوله :﴿ بالذين أوحينا إليك ﴾التعبير بالموصول فيه إشارة إلى أنه لا يشاء ذلك لأنه هو الذي أوحاه سبحانه وتعالى إليه، وقال تعالى :﴿ ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ﴾، ﴿ ثم ﴾ هنا في موضعها من التراخي المعنوي، أي لو ذهبنا به، بعد أن تجد من يتوكل بإعادته علينا، أي بإلزامنا وبغير مشيئتنا، فالباء متعلقة ب ﴿ وكيلا ﴾، أي لا تجد لك وكيلا به يرده إليك علينا من غير مشيئتنا يلزمنا، معاذ الله تعالى أن يكون ذلك.
وإن هذا النص الكريم يفيد أمرين :
الأمر الأول : منزلة القرآن ومكانها العظيم ومن الله تعالى على الخلق به ؛ لأن فيه الشفاء والرحمة والهداية والموعظة وهو فصل الله على عباده وأنه لو شاء لاسترده.
الأمر الثاني : سنة بقائه إلى يوم القيامة نور الوجود لإنساني وهاديه ومرشده عندما تفسد الضمائر وتطمس القلوب.
والنص فوق دلالته المحكمة على القرآن الكريم وهدايته الدائمة يدل على أنه فاعل مختار وعلى أن قوله تعالى :
﴿ إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ( ٨٧ ) ﴾.
﴿ إلا ﴾ الاستثناء فيها من النفي في الجملة الأخيرة من الآية السابقة، ويكون المعنى "لا يجد لك علينا به وكيلا" ويكون المعنى لا تجد لك من يوكل باسترداده علينا إلا رحمة من ربك ويكون الاستثناء متصلا، أي أنه إن شاء سبحانه إذهابه لا يعود، إلا رحمة من الله رب العالمين بنبيه وبالناس لينتفعوا من شفائه وهدايته ورحمته ومواعظه، فهو القرآن العظيم، ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا ويكون متعلقا بالآية السابقة كلها، ولكن ( إلا ) بمعنى ( لكن ) ويكون سياق الكلام فيما نعلم هكذا :"﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( ٨٦ ) ﴾ لكن رحمة من ربك الذي علمك ما لم تكن تعلم، وشفى صدرك واصطفاك، وهذه الرحمة قامت فلم يشأ أن يذهب به".
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله :﴿ إن فضله كان عليك كبيرا ﴾ وإن فضل الله تعالى على هذه الأمة ونبيها كان عميما بإنزال القرآن الكريم وبقائه حجة قائمة إلى يوم القيامة وبما اشتمل عليه من شفاء ورحمة وهداية، والضمير يعود إلى الله، وقوله :﴿ كان عليك كبيرا ﴾ قدم ﴿ عليك ﴾ للاهتمام بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وفضل الله تعالى عليه، وقد أكد سبحانه وتعالى فضله ب ( إن ) المؤكدة و ( كان ) الدالة على الاستمرار.
ولماذا أكد سبحانه وتعالى فضله في نزول القرآن على قلبه، وأن يكون معجزته الكبرى ؟ الإجابة لأن المشركين حسبوا أن المعجزات الحسية التي انقضت بانقضاء أزمانها مثل معجزات عيسى تدل على فضل هؤلاء الرسل، فبين سبحانه أن فضله عظيم على نبيه في أن اختصه بمعجزة القرآن الخالدة الباقية التي كانت هي المعجزة وسجلت كل المعجزات السابقة، فلولا القرآن ما عرفتها الأجيال التالية.
ثم بين سبحانه أنه معجز للأجيال كلها إنسهم وجنهم، فقال :
﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب فيه إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة القرآن وأنه ليس كمثله كتاب قط، وأنه معجز يستطيع أن يتحدى به الإنس ولجن في كل الأجيال، ولو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يأتون ولو كان بعضهم يظاهر بعضهم الآخر، وفيه أيضا أن القرآن يعجز الجميع من الجن والإنس لا العرب وحدهم كما توهم بعض الناس أنه لا يعجز غيرهم، ولا يخاطب به غيرهم ؛ لأنه ليس بلغتهم وأن حسبه أن يعجز عن الإتيان بمثله العرب.
﴿ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ ( اللام ) هي الموطئة للقسم، والتي تدل على أن في الكلام قسما مطويا في القول، وجواب القسم لا يأتون، ولولا اللام لكان جواب الشرط ؛ لأنه لا يجزم الجواب إذا كان فعل الشرط ماضيا، وقوله اجتمعت يتضمن معنى انقضت واجتمعت في صعيد واحد وأرادوا أن يأتوا بمثله أو كتاب مثله لا يأتون ﴿ ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾، أي لو تعاونوا جميعا ولظاهروا على أن يأتوا بمثله ؛ وذلك لأنه معجز بذاته في ألفاظه وعباراته ونظمه ونسقه ونغمته، حتى إن كل جملة من جمله لها نغم وموسيقا منفردة، ولا يوجد في أية لغة من اللغات مثل هذا النغم الذي يسمع في عباراته ومعانيه، وكل ذي ذوق موسيقى يرى فيه من روائه النغم ما ليس في كلام بأي لغة، حتى إن كاتبا أوربيا كان يعلم العربية بعض العلم حكم بأنه لا يزال معجزا بتآخى عباراته، وموسيقا فواصله من غير أن تعتدي الألفاظ على المعاني، بل إنه يتآخى في أداء المعاني، ألفاظه وعباراته وفواصله ونغماته، ولا تدري أيها أشد تأثيرا في نفسك، وفوق هذا كل شيء فيه معجز، فشرائعه إذا قيست بشرائع عصره كان معجز، وعلمه من أخبار وتنبيه إلى الكون معجز لأنه ينبه إلى أمور من شئون الكون لم تكن معلومة عند علماء الكون في عصره، غير ذلك مما أحاط به علم القرآن
ثم ذكر سبحانه وتعالى معرض إعجاز القرآن فقال :
﴿ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( ٨٩ ) ﴾.
( اللام ) لتوكيد القول، و ( قد ) لتوكيده، ﴿ صرفنا ﴾ أي حولنا فيه ضروب القول من خبر إلى إنشاء ومن استنكار إلى إقرار ومن قصص فيها الموعظة الحسنة والعبرة المرشدة إلى أحكام شرعية مصلحة للآحاد الأسر والجماعة والأقاليم، رابطة بين الإنسانية في مجتمعات إلى آيات مبين للحقائق الإنسانية والطبائع في الجواب والكون والإنسان، وكان ذلك التصريف في هذا القرآن للناس من كل مثل، و ( من ) هنا بيانية، أي صرفنا لهم كل مثل، أي كل حال ذكرناها لتشاكلها مع الوجود الإنساني.
وكان حقا على الناس أن يؤمنوا به، ولكنهم لم يؤمنوا، ولذا قال سبحانه :﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ﴾ وموضع الاستثناء هنا أن الإباء دخل على كثير فيقدر هكذا : فأبى أن يكثر كل شيء ﴿ إلا كفورا ﴾، أي إلا أن يكونوا كافرين كفورا لازمهم، وصار وصفا من أوصافهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن القرآن معجزة غير مزعجة ولا قارعة، ولكنها مخاطبة للعقل الذي يذعن الحقائق والقلوب المشرقة بنور الهداية ولذا طالب أهله بمعجزات قارعة، لا لنقص في معجزة القرآن، بل لأنهم لا يؤمنون ولأنهم ناقصون في مداركهم، ولذا قال سبحانه عنهم :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كم زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا تقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( ٩٣ ) ﴾.
لم تصل أفهامهم إلى القرآن حتى يقتنعوا به معجزة، أو اقتنعوا به معجزة ولكنهم يمارون ويستمسكون بما هم عليه من جهل وضلال، ويتعللون بالرفض وهم في ذات أنفسهم غير رافضين، أخذوا يطلبون ما يحسبون يعجز النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عجز يعد عن دعوته ويستريحون منه، ومن هذا الدين الجديد.
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) ﴾.
﴿ وقالوا لن نؤمن ﴾ أكدوا ب ﴿ لن نؤمن ﴾، أي لن نؤمن مسلمين بصدق ما تدعونا إليه، حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، الينبوع العين التي يخرج الماء منها، ﴿ تفجر ﴾، أي تشق لنا هذا الينبوع المستمر، وكانت أرضهم جافة من الماء وهي صخرية فهم يطلبون منه أن يشقق هذه الأرض الصلبة فيخرج منها الماء المستمر الذي يكون كالغيث يشربون منه، ويسقون زرعهم.
فإن لم تكن هذه يكون الأمر الآخر الذي ذكرته الآية التالية :
﴿ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) ﴾.
أو تكون لك ﴿ جنة ﴾ حديقة من نخيل وعنب تجري خلالها الأنهار لتكون ذات منظر بهيج، والتفجير بالتضعيف يفيد كثرة الأنهار وأنها تجري من خلالها النخيل والكروم.
وإن هذين الطلبين أو أحدهما فيه تشبيه لحال النبي صلى الله عليه وسلم بحال موسى إذ ضرب عصاه، فانفجر من الحجر اثنتا عشرة عينا فهم يطلبون معجزة كمعجزة موسى عليه السلام، وقد علموها فهم يطلبون مثلها، وقد جاءتهم الآيات بأقوى منها كشق القمر، فقالوا سحر مستمر، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ففتنوا الناس في دينهم، حتى ارتد من ارتد من ضعاف الإيمان ومرضى القلوب.
هذا الطلب الأول أو أحد مطالبهم، وهو أولها : وهو ذو شعبتين إحداهما فجر ينبوع يسح بالماء طول الزمان، الثانية : أن تكن حديقة من نخيل وعنب تجري خلالها الأنهار، وهذه الشعبة يتضمن أن يكون غنيا له حدائق غناء تجري من تحتها الأنهار ليكون عظيما، والعظمة عندهم بالمال الوفير والتنعم والترفه لأنهم حسيون لا يعرفون إلا الحس والمادة والنعيم المادي الحسي.
والمطلب الثالث : الذي جعلوه أحد المطالب وكان التخيير بينها بأمر قد نقل القرآن تعبيرهم بقوله تعالى :
﴿ أو تسقط السماء كما زمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) ﴾.
هذا هو التحدي الثالث المخير فيه ﴿ أو تسقط السماء ﴾ والمراد الكسف، وهي بدل بعض من كل من السماء، والكسف جمع كسفة وهي القطعة من السماء التي تنزل فتلقى الرعب، وقد تكون نارا تلهب وتفزع، وعبر بالسماء ثم البدل منها للإشارة إلى أن نزول القطع تساوي من حيث الرعب والإفزاع والإنذار نزول السماء كلها، وقوله :﴿ كما زعمت ﴾ من أن السماء تنشق وتنفطر يوم البعث في مثل قوله تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت ( ١ ) وإذا الكواكب انتثرت ( ٢ ) وإذا البحار فجرت ( ٣ ) ﴾ [ الانفطار ]، وكما زعمت من أنه فيه نزل ذلك بنا، كما في قوله تعالى :﴿... إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء...( ٩ ) ﴾ [ سبأ ]، ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ وهو اسم جنس جمعي لقبيلة، أي تأتي بهم قبيلة ليشهدوا بصدق نبوته ويتضافرون على الحكم بصدقها.
وهذا الطلب فيه تحد للرسول صلى الله عليه وسلم من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن قوله :﴿... إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء...( ٩ ) ﴾ [ سبأ ] فيه إنذار فهم يتحدون بأن يكون ذلك الإنذار.
الناحية الثانية : أنهم يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم الملائكة قبيلا يشهدون بالصحة وهم يعلمون أن الملائكة لا ينزلون أفواجا بهذا الشكل، وهذان مطلبان وإن كانا في آية واحدة.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم فقيرا يتيما، فطلبوا منه للمرة الخامسة واحدا من أمرين كما في المطلب الرابع : أولهما : أن يكون له بيت من زخرف أو يرقى إلى السماء عارجا، وأن يرسل كتاب يقرءونه، وهذا ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله تعالى :
﴿ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( ٩٣ ) ﴾.
صدرت الآية ب ﴿ أو ﴾ الدالة على التخيير، يتحدون به النبي صلى الله عليه وسلم وكرر ( أو )، وكلاهما مزدوج، وهذا الأمر الثالث مكون من جزأين : الجزء الأول أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم كان يتيما ثم كان فقيرا، وقد حسبوا أن النبوة مقترنة بالثروة، فالنبي يجب أن يكون ثريا ليكون عظيما، فالعظمة عندهم بالمال ولا عظيم من غير مال، ولذا قال سبحانه وتعالى عنهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ [ الزخرف ]، أي الطائف أو مكة.
هم يعيبون نبوة محمد بأنه فقير، فيقولون له : أما كان يغنيك بالمال ما دمت في الأرض، أو يرفعك إلى السماء إذا كنا ذا منزلة عند ربك ﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ الزخرف هو الذهب، أي بيتا مموها بماء الذهب مزخرفا، فإن لم يعطك هذا ويجعلك غنيا من الأغنياء من العظماء فليعرج بك إلى السماء ﴿ ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ ونعلم منه أنك ارتفعت وعلوت، ونعلم هذا الكتاب رقيك إلى السماء.
والمعنى الذي يتحدون به رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك إن كنت رسولا من أهل الأرض فليجر عليك حكم أهل الأرض وأهل الأرض العظمة فيهم بالمال والثروة، وليكن لك بيت مزخرف كأهل الترفه والتنعم، وإن كنت لا تريد أن تكون كأهل الأرض فلتكن من أهل السماء، ولترق إلى السماء لنؤمن برسالتك ولن نسلم بأنك ارتفعت إلى السماء إلا إذا نزل علينا كتاب نقرؤه.
هذا هو تحديهم وهو إلى الهزل أقرب، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم عن هذه المطالب المتحدية بقوله :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ تقدست ذات ربي الذي خلقني ورباني وكلمني ﴿ هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، فهو إنكار للوقوع، معناه ما كنت إلا بشرا أرسلت من عند الله تعالى : وكانت صيغة النفي على شكل الاستفهام تقريرا للنفي والإثبات وانحصار الوصف الكامل للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه بشر رسول، وليس وصف غير هذا وهو أعلى أوصاف الكمال الإنساني.
هذه اعتراضات المشركين ومطالبهم التي يتحدون بها النبوة، والآيات الكريمات صور من المجادلات التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم. ولنقيض قبضة من السيرة الطاهرة تبين وقائع هذه الآيات الكريمات الساميات :
ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رؤساء قريش الذين كانوا يقودون الشرك اجتمعوا عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا، فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم بدو، وكان حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، فلما جلس إليهم قالوا له : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من الرعب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما من أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب شفائك حتى يبرئك منه أو نعذر فيك.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن بعثني الله إليكم وأنزل علي كتابا أمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئت فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس من أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا، وليخرق لنا أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث قصى بن كلاب فإنه شيخ صدق.
قال لهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه : إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم.
قالوا : سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقدم الأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
قال لهم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه : ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا منى ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا : فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل.
قالوا : يا محمد فما علم ربك أننا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك.
وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقد انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وانفض جمعهم ولكن تبعه بعضهم وهو عبد الله بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ولم يكن قد أسلم، فقال كلاما ختمه بقوله : فوالله لأومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتي ثم تأتي معك بصك معك يصحبك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدقك١.
هذه كلمة عبد الله بن أمية بن المغيرة تصور لك أنهم ما طلبوا الذي طلبوا إلا عناتا، فيقول : إنه إذا أجيب إلى كل ما طلب ما أظنه يؤمن ولكنه من بعد ذلك آمن وحس إيمانه.
١ البداية والنهاية: فصل ف مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين ج ٣/ ١٨٢..
الرسالة لا تكون إلا من البشر
إن المشركين لم يكونوا يطلبون حجة غير القرآن لنقص في الحجة إنما في إدراكهم وعمى في قلوبهم، إنما يعنتون بما يطلبون، ولقد قال تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾ [ الأنعام ]، ولقد قال تعالى :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( ١٤ ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( ١٥ ) ﴾ [ الحجر ].
ولقد رأينا منهم من يقول : لو جاء ما نطلب ما ظننا إننا نؤمن، إنما الداء الذي أمرض نفوسهم هو استبعادهم أن يبعث الله تعالى رسوله من البشر، ولذا قال تعالى :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾.
كان الوحي قد غاب عن العرب أمدا طويلا بعد إبراهيم وإسماعيل ولوط وصالح وهود، فكانوا يجهلون النبوات ولا يعلمون الرسالات السماوية إلا ما بقى لهم من ملة إبراهيم أبيهم، وقد كانت العصبية الجاهلية مسيطرة عليهم، وقد جعلتهم أوزاعا متفرقين، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم من أوسطهم نبيا بشيرا ونذيرا، فاستغل الذين ينافسون بني هاشم الشرف وينافسون بني عبد مناف الشرف ذلك الاستغراب أن يكون من البشر رسول وآثاروها به عليهم.
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾.
أي ما منع الناس الإيمان أن يدخل قلوبهم، ف ( أن ) وفعلها ينسبك منهما مصدر هو المفعول الثاني، و ( الناس ) المفعول الأول، والفاعل ( أن ) التي بعد ( إلا ) وفعلها هو قولهم، ومعنى الكلام وما منع الناس الإيمان إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ما منع الناس الإيمان إلا قولهم لم يبعث الله بشرا رسولا، وجاء على صورة الاستفهام لبيان معنى الاستغراب والتساؤل الذي أدى إلى النفي، ويلاحظ هنا أمران :
الأمر الأول : قوله تعالى :﴿ إذ جاءهم الهدى ﴾ هذه إشارة إلى أنهم لا يؤمنون بالرسالة مع أنها تحمل في نفسها دليلها ؛ لأنها هادية مرشدة مقنعة مع ما تقتضيه أحكام العقول ومكارم الأخلاق.
الأمر الثاني : أن نفيهم لأن يكون البشر رسولا إنما هو قولهم لا حقيقة أمرهم، فهم لا يؤمنون بألا يكون البشر رسولا ولكنهم يقولونه قولا من غير برهان ولا إيمان.
وإذا كانوا مستبعدين أو مستغربين أن يكون البشر رسولا فهلا تكون رسالة أو يكون الرسول من الملائكة، لا جائز أن يترك الإنسان من غير رسالة، وإذن فعلى زعمهم يكون من الملائكة، ولكن الملائكة لا يتجانسون مع البشر فلا يهدوهم، ولذا قال تعالى :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾.
أمر الله نبيه الكريم أن يعلمهم أن الطبيعة الملكية لا يمكن أن تعيش قارة ساكنة مع طبيعة الأرض، وأن كل جنس في هذا الوجود له ما يشاكله، فالأرض تشاكل الإنسان والملائكة يشاكلهم مكانهم الذي يعيشون فيه، والرسول يكون من بين المرسل إليهم بل من قومهم، ولذا بين الرسالة لهم هذه الاستحالة قال : قل لهم يا نبي الله ﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين... ﴾، أي لو كان في الأرض مكانا مهيأ للأرواح الطاهرة المطهرة يمشون فيه مطمئنين، أي ساكنين سكونا يتفق مع طبائعهم الروحية ﴿ لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ﴾، أي رسولا من الملائكة.
و ﴿ لو ﴾ كما يقول علماء البيان : حرف امتناع لإمتناع، أي امتنع أن ينزل الله عليهم ملكا رسولا لامتناع أن يكون لهم في الأرض مكان يمشون فيه ويسكنون ويتفق مع روحانيتهم.
أما وجه امتناع المقدم، وهو الشرط ؛ فذلك لأن الأرض مادة فيها زرع وغرس وفيها أحجار ورمال وغير ذلك من شئون المادة، والملائكة أرواح لا ترى، فكيف يمكن أن يكون لهم مكان في هذه الأرض المادية يروحون فيه ويغدون ويخاطبون من أرسلوا إليهم، إنه لا بد من أن تجسد هذه الأرواح ليمكن أن ترى وأن تسير في الأرض وفي هذه الحال لا يكون ثمة فارق بينهم الآدميين، وقد قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾.
ولو كان المشركون يريدون أن يخاطبوهم وهم أرواح لا يرونها ويسمعون فإن الأوهام تسيطر عليهم ويقول الضالون المصلون : رئى من الجن خيل لهم.
إذا كان ذلك كذلك، فمن المستحيل أن يجد الملائكة في الأرض ما يصلح لدعوتهم، وألا يكون المرسل إليهم صالحين لخطابهم والاستماع إليهم، وإذا امتنع المقدم ( لو ) فإن الثاني يمنع أيضا بهذه البدهيات العقلية، يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إن كان في قلوبهم متسع للإرشاد ولكنهم لا يطلبون دليلا جديدا لنقص في الدليل، أو تغيير للرسول لعجز فيه، بل يكابرون ويعاندون.
وإذا كانوا معاندين فلا جدوى وكفى بالله شهيدا، وقد قامت دلائل شهادته، ولذا قال تعالى :﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني إنه كان بعباده خبيرا بصير ( ٩٦ ) ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قام الجدل بينهم وبينه، والله من ورائهم محيط، وهو المؤيد والناصر لنبيه، ويقول الله تعالى لنبيه : قل يا أيها النبي لهؤلاء المعاندين الضالين الذين يطلبونه دليلا على رسالتك غير القرآن أو يريدون رسولا من الملائكة ﴿ كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ الباء هنا لتأكيد معنى الكفاية بشهادة الله تعالى، و ﴿ شهيدا ﴾ إما أن تفسر الشهادة بمعنى الحكم، وهي تستعمل في ذلك، كقوله تعالى :﴿... وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل....( ٢٦ ) ﴾ [ يوسف ] إلى آخر الآية، ويكون معنى النص السامي، وكفى بالله حاكما بيني وبينكم، بأنى رسول، وأن المعجزة الكبرى وهي القرآن كافية ملزمة وقد ألزمنكم الحجة، وإن حكم الله واضح، وشهادته قائمة بصدق ما جئتكم به.
وإما أن نقول : إن شهيدا معناه شاهد، للفصل بيني وبينكم، وحاسمة لخلافكم، والشاهد حاكم ؛ لأن الحكم يبنى على شهادته، كما قال علي كرم الله وجهه : إنما قتلك شاهداك.
والمعنى على ذلك إنما يشهد الله وحده فيما بينى وبينكم، وإن شهادة الله تعالى هي المحكمة، ولذا قال سبحانه :﴿ إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾، أي عليما علما دقيقا، و ﴿ بصيرا ﴾ علم من يبصر، فيعرف ما يصلح لكم وما لا يصلح، ومن يكون رسولا ومن لا يكون وهو على كل شيء قدير.
ثم قال تعالى :
﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( ٩٧ ) ﴾.
بعد أن بين سبحانه أن شهادته كافية لصدق الرسول، وصحة معجزته في الدلالة على نبوته، أشار سبحانه إلى أنه قد قام الدليل، وما بقي إلا أن يسير المهتدى في ضوئه، ويتردى الضال في مهواة الضلالة ﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ﴾.
( الواو ) عاطفة جملة على جملة، كانت الأولى بمثابة مقدمة الدليل للثانية، ومعنى ﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ﴾، أي من اهتدى بنور الحق، وسار في طريقه، فهو المهتد حقا وصدقا وهو البالغ الكمال في الهداية، والآخذ بالرشاد، والسالك طريق النجاة، وقد عبر عن هداية المهتدى بقوله تعالى :﴿ ومن يهد الله ﴾، أي من سلك سبيل الحق مستقيما فإن الله يهديه، فهداية الله تعالى ليس معناها الإجبار على الهداية، وإلا ما كان الجزاء الوفاق، فإنه لا جزاء إلا مع الاختيار، وإن المهتدى يكون مختارا في ابتداء السير، ثم أخذه في النهاية إلى الطريق الموصل للغاية بلطف الله تعالى وتوفيقه، ثم قال سبحانه :﴿ ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ﴾ الإضلال ليس معناه الإجبار على الضلال، وإلا ما ساغ العقاب بعد الحساب، وإما الإضلال معناه أن يسير الضال في طريق الضلال متبعا هواه وإغواء الشيطان، فيصل إلى نهايته بتقدير الله تعالى وكتابته في سجل الضالين، وقوله تعالى :﴿ فلن تجد لهم أولياء من دونه ﴾، أي أنصار غير الله من الآلهة التي كانوا يعبدونها أو غيرها، إنما هم يهوون إهواء في طريق الضلال من غير منج منه.
والضمير يعود على معنى "من"، ومعنى ( من ) جمع، وكان عود الضمير في ﴿ ومن يهد الله ﴾ على لفظ، وهو مفرد ومعناه جمع، وإنما أعيد في حال الضلال على المعنى لتعدد الضلال وكثرته وتشعب مسالكه، وأعيد على لفظ ( من ) في الهداية لتوحد طريقهما، إذ يقول تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله...( ١٥٣ ) ﴾ [ الأنعام ]، ولقلة المهديين بالنسبة لكثرة الضالين، ولأن ( أل ) التي للجنس تدل على الكمال والعموم، فهي مغنية عن لفظ الجمع.
وجواب الشرط يشير إلى أن أوثانهم لا تجديهم شيئا، ولا يصلحون لأي ولاية، ثم بين بعد ذلك عقاب الله تعالى ﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ﴾ فسرها بعض المفسرين بتقدير محذوف، أي مسحوبين على وجوههم ؛ وذلك لأنهم يسحبون فعلا على وجوههم إذلالا لهم وهوانا بهم، وإظهار لمقت الله تعالى عليهم، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيسيرون على وجوههم، فقال ما مؤداه : كما سيرهم على أرجلهم سيرهم على وجوههم١، ويصح أن يكون ذلك مجازا لإذلالهم وأنهم لا إرادة لهم في سير، بل يدفعون دفعا إلى جهنم.
وقال بعض المفسرين : إن معنى ﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ﴾ أنهم يسيرون منكسى الرءوس، خائفين، فالوجه يعبر به عن الذات، وذلك معقول في ذاته، ويستقيم عليه وعنى النص القرآني السامي.
ومعنى قوله :﴿ عميا وبكما وصما ﴾ أنهم يكونون في عماء من أمورهم، ولا يسمعون ما تطيب به نقوسهم، ولا يتكلمون بحجة فهم يصيبهم العمى والصم والبكم، كما عموا عن الحق فلم يبصروه، وعن الاستماع إليه، وعن النطق.
ويقول البيضاوي ما تقر به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ لهم سماعه ولا ينطقون بما يقبل منهم ؛ لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن استماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق" وقد نقله عن الكشاف، وهذا كقوله تعالى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( ٧٢ ) ﴾
وقد بين سبحانه الغاية من حشرهم، وهو أن يصلوا إلى مأواهم، فقال ﴿ مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾.
أي أنهم يسكنون جهنم، والتعبير بالمأوى، وهي عادة موضع القرار والاطمئنان فيه تهكم بهم لأن جهنم لا تكون موضع استقرار واطمئنان بل تكون موضع قلق وآلام.
وإن العذاب فيها مستمر، ﴿ كلما خبت ﴾، أي سكنت أو أطفئت لاستغراقها كل العظام ولحومهم ﴿ زدناهم سعيرا ﴾ وبدلناهم جلودا غيرها، كما قال تعالى :﴿... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها...( ٥٦ ) ﴾ [ النساء ].
١ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. كما رواه أحمد: باقي مسند المكثرين – باقي مسند أبي هريرة رضي الله عنه (٨٢٩٣)..
وقد بين الله تعالى سبب ذلك العذاب الأليم المباشر، وغير المباشر فقال :
﴿ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآيتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( ٩٨ ) ﴾.
"ذلك" إشارة إلى ما مضى من جزاء المشركين أنهم يحشرون منكسي الوجوه لا يبصرون ما يلذ لهم أن يبصروه، ولا يسمعون ما يطيب لهم سماعه، ولا ينطقون بما يدفعون له عن أنفسهم، ومأواهم جهنم يذوقون العذاب فيها دفعة بعد دفعة، والإشارة إلى هذه الصفات تتضمن أنها العقاب، وقد صرح الله فوق الإشارة بالسببية، وهو الكفر بالآيات الدالة على وحدانية الله، والمعجزات الدالة على إرسال الرسل وخصوصا معجزة القرآن، وهو المعجزة الكبرى.
وأشاروا إلى السبب الأصلي لكفرهم بكل الحق، وهو إنكارهم للبعث، وأشار إلى ذلك بقوله تعالى عنهم :﴿ أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾.
أي أنهم ينكرون البعث، ويستغربونه، كيف يعودون وقد صالوا عظاما نخرة، ورفاتا ورميما، أيكونون خلقا جديدا ؟ ! وقد ذكرنا ذلك، ورد الله تعالى ذلك الاستغراب.
قدرة الآيات والكفر بها من المشركين
أنكروا الإيمان باليوم الآخر، وعجبوا من أن يعادوا خلقا جديدا، وقد صاروا عظاما ورفاتا، وأنكروا أن يكون القرآن معجزة، وطلبوا معجزات حسية محادة لله تعالى، ولتكون معجزته صلى الله عليه وسلم كمعجزات الأنبياء السابقين فرد الله قولهم في الأمرين، ففي الأمر الأول أشار إلى قدرته على خلق أمثالهم، وأن قدرة الله واسعة ولا يحاسب بها خشية الإنفاق، وفي الأمر الثاني ذكر الله تعالى قدرته أنه أعطى موسى تسع آيات بينات، وقد قال فرعون بعد أن رآها، وعاينها آية بعد آية :﴿... إني لأظنك يا موسى مسحورا ( ١٠١ ) ﴾.
قال تعالى في الأمر الأول :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ﴾ ( الواو ) عاطفة على فعل مقدر بما يناسب الكلام، وتقديره أقالوا ذلك ولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، والاستفهام داخل على لم يروا، ومعناه النفي مع التنبيه، يعني قد قالوا قولهم، وقد رأوا أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وإذا كان قادرا على أن يخلق مثلهم، فبالأولى وهو قادر على أن يعيد بعضهم أو كلهم، فهذا إثبات لإعادتهم خلقا جديدا بطريق دلالة الأولى، ذكر مقدم الدليل، وترك لهم أن يأخذوا التالي من المقدم.
وقوله تعالى :﴿ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ﴾ ( الواو ) عاطفة "جعل لهم أجلا" على "خلق السموات والأرض"... فهو جعل لهم أجلا ينتهي ولا يتغير في نهايته، ﴿... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( ٣٤ ) ﴾ [ الأعراف ]، فمعنى ﴿ لا ريب ﴾ أنه لا شك فيه ؛ لأنهم يرون الناس ينتهون ولا يخلدون، ولا ريب فيه أيضا ؛ لأن الله أخبر أن له نهاية ينتهي إلى أجل مسمى، فالنجوم مسخرات لأجل مسمى، وقد قدم سبحانه وتعالى قوله :﴿ قادر على أن يخلق ﴾ على قوله :﴿ وجعل لهم أجلا ﴾ للمبادرة بالنتيجة قبل أوصاف الفعل الأول، لأنها ثابتة بالرؤية والحس، وكل ما في الوجود له دور ينتهي عنده، فالليل والنهار في ميقاته، والشمس والقمر، يظهران كل في ميقاته.
والأجل الذي يذكره الله تعالى أجلان : أحدهما أجل يرى ويحس، وهو أفول النجوم والكواكب، ونحوهما بالنسبة لكل ما تراه في السماء ذات البروج، والموت بالنسبة للإنسان والأحياء بشكل عام، وهو أجل تراه ينتهي كل يوم، والأجل الثاني هو أجل هذه الدنيا فإنها إلى أجل محدود هو يوم القيامة، وقد أقام القرآن الأدلة القاطعة على نهاية هذا العالم، وهو أيضا لا ريب فيه، لقيام الأدلة بالنقل والعقل على أن الدنيا إلى فناء وبعدها الآخرة.
ومع قيام هذه الأدلة القائمة لم يؤمن أكثر الناس، ولذا قال تعالى ﴿ فأبى الظالمون إلا كفورا ﴾ الفاء هنا للترتيب والتعقيب، وهي بهذه الدلالة فيها توبيخ لهم على كفرهم ؛ لأن مؤدى القول أنه كان يترتب على هذا النظر والعلم الذي لا ريب فيه أن يؤمنوا، ولكنهم بدل ذلك كفروا كأنهم يرتبون على الحكم المؤيد بالدليل نقيضه، والناس هنا أهل مكة أو الناس جميعا، فإن أكثر الناس لا يذعنون للحق إذا تبين، ﴿ فأبى ﴾، أي لم يرتب على ذلك أكثر الناس ﴿ إلا كفورا ﴾، أي إلا كفرا بهذه الحقائق البينة، ف ﴿ كفورا ﴾ معناه كفر ملح لاح في الكفر، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
هذه حقائق ونتائجها في قلوب الكافرين، وهي عند الله أوسع وأعظم هم يضيقون مدلول الآيات التي تحت أيديهم، والله يريد أن يوسعوا عقولهم وتفكيرهم، ولا يقترون في مداركهم، وإن كان من أوصاف الإنسان أنه قتور ولذا قال تعالى :
﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( ١٠٠ ) ﴾.
كان الكلام من الله تعالى ؛ لأنه ذكر لحقائق الوجود، ولطبائع الأشياء والخلق والتكوين فلما اتجه سبحانه إلى بيان الطبائع الإنسانية أمر من وجب عليه التبليغ أن يبلغهم طبائعهم، فقال عز من قائل :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي... ﴾، قل لهم يا رسولي إليهم لو كنتم تملكون خزائن رحمة الله إذا لأمسكتم، أي إنكم تضيقون على أنفسكم دانما ولا توسعون في مدارككم وتفكيركم، فلو أنتم بهذا التفكير الضيق تملكون أو تسيطرون على خزائن رحمة الله على أصحابها كما ضيقتم عقولكم، ومدارككم وتفكيركم، وخزائن رحمة الله هي الرزق والصحة، والقوة، وكل ما ينعم الله به تعالى على عباده، وقوله :﴿ إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ﴾، أي إذا كان ذلك لأمسكتم، و ( اللام ) هي الواقعة في جواب ( إذا )، أي الافتقار بمعنى الإملاق، كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق...( ٣١ ) ﴾، أي إنكم تبلون حتى في مال غيركم، وتمنعون أصحاب الحقوق من حقوقهم، ثم قال تعالى :﴿ وكان الإنسان قتورا ﴾، أي بخيلا، لأنه يطلب دائما المعاوضة، وهو بالخير ضنين، وإنه يشعر بالاحتياج دائما ؛ لأنه بالنسبة للدنيا يخشى النفاد، ويحرص على أن يبقى لنفسه في كل الأزمان، وهو لا يحض على طعام المسكين خشية الفقر، وهذا في طبع الإنسان، ولكنه لا يمنع أن المؤمنين منهم الجواد السخي الذي يعطى المال على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، ولذا قال تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا ( ١٩ ) إذا مسه الشر جزوعا ( ٢٠ ) وإذا مسه الخير منوعا ( ٢١ ) إلا المصلين ( ٢٢ ) ﴾ [ المعارج ]، وإن الإنسان إذا لم يهذبه دين الحق، ولا مجتمع فاضل يبدو فيه أمران : حرص شديد ليحفظ لنفسه في عزمه نفقته في القابل، وخوف الفقر، حتى تتحقق الحكمة :"الناس من خوف الفقر في فقر" فهم فقراء في ذات أنفسهم إذا خافوا الفقر، وإن هذا النص الكريم يدل على أمور ثلاثة :
الأمر الأول : أن خزائن رحمة الله تعالى لا تنفد تشمل البر والفاجر، وتعم الغني والفقير، والقادر والعاجز.
الأمر الثاني : أن العبد هو الذي يقتر، ويحس بالفقر دائما إلا أن يكون مؤمنا يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة.
الأمر الثالث : أنه على الإنسان أن يهذب غرائزه، فإذا كان قتورا يجب أن يعود السخاء والإيثار.
ذكرنا أن الآيات من قوله :﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض... ﴾ تدل على قدرة الله على البعث، وإعادة الخلق كما بدأه، وتدل على طبيعة الإنسان وخلقه، وأنه حريص على هذه الحياة الدنيا، ومن حرصه عليها أنه قتور ضنين، ومن ضنه أنه لا يؤمن باليوم الآخر ؛ لأنه لا يؤمن إلا بما في قبضة يده، ويحرص عليه.
وذكر أن الآيات من بعد هذا رد بالواقع الصادقة على الذين يقولون لو جاءتهم آية حسية لآمنوا، فبين الله تعالى لهم أن من سبقوكم جاءتهم آيات حسية كثيرة.
ولقد ضرب الله مثلا من ذلك فرعون مع موسى فقال تعالى :
﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( ١٠١ ) ﴾.
( الواو ) واصلة الكلام بما قبله، وهي عاطفة جملة على جملة، و﴿ آتينا ﴾ معناها أعطيناه حجة ودليلا ﴿ تسع آيات ﴾، أي معجزات بينات في دلالتها على رسالة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل، وتلك الآيات التسع كما ذكرها ابن عباس إجمالا فيما روى عنه هي : العصا التي لقفت ما ألقاه السحرة إذ أمره بأن يلقى السحرة حبالهم وعصيهم، ﴿ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ( ٤٥ ) ﴾ [ الشعراء ]، واليد إذ قال الله تعالى :﴿ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ( ٢٢ ) ﴾ [ طه ]، كما قال تعالى :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( ١٣٣ ) ﴾ [ الأعراف ]، والآية الثامنة أنه سبحانه وتعالى أخذهم بالجدب والسنين الشديدة، التي يقل الخير والثمر، ولذا قال تعالى :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ( ١٣٠ ) ﴾ [ الأعراف ].
والآية التاسعة، فلق البحر، وفتح الطريق لبني إسرائيل، وكان عليهم أن يعتبروا بهذه الآية، ولكنهم اغتروا فاتخذوا الشق سبيلا ليتبعوا بني إسرائيل، فاتبعوهم فكانوا من المغرقين.
هذه آيات، واجه موسى بها فرعون، ﴿ فسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ﴾، أي إذ واجه بها موسى فرعون ﴿ فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ﴾، أي أنه بدل أن يذعن بها ويؤمن بالحق إذ جاءته بينات، كابر واستمر في غيه، وضلاله القديم وما أجدت تلك الآيات الحسية شيئا، بل قال مؤكدا، ﴿ إني لأظنك ﴾ الظن هنا العلم، وقد أكد علمه بسحر موسى ب "إن" و"اللام" و﴿ مسحورا ﴾ قال الفراء والزجاج : إنها بمعنى ساحر، وأقول : إن معناها بمعنى مفعول لأن معناها أنك فيما تدعيه مسحور، أي مخدوع أو مخيل لك، فأنت لا تقول الحق، بل إنك واهم.
أجابه موسى عليه السلام مستيقنا بما يقول، ومبينا له أنه يناقض حسه بما زعم من أنه مسحور أو واهم.
﴿ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا في فرعون مثبورا ( ١٠٢ ) ﴾.
ضمير الفاعل يعود إليه ؛ لأنه المتحدث عنه في الآيات التي أعطيها ﴿ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ﴾ ( التاء ) ضمير المخاطب بالفتح على قراءة الأكثرين١، وفيه تأكيد موسى لفرعون أنه علم أنه ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض بصائر، أي آيات مبصرة، وبصائر جمع بصيرة، أي من شأنها أن تبصر من له بصيرة ينظر فيها بعين قلبه متذكرا متدبرا مؤمنا مذعنا غير متمرد، وقد يقال : كيف يعلمها وينكرها كافر به وبأنعمه ؟ والجواب عن ذلك أنه علم ولم يذعن لقوله تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم...( ١٤ ) ﴾ [ النمل ]، من شأنها أن تلقى باليقين في نفس كل من يراها، ولكن ألقت في نفوسهم بالجحود، والجحود يزداد قوة كلما قويت أسباب العلم.
وقرأن علي بن أبي طالب علمت بضم التاء على أنها للمتكلم، والمعنى على هذه القراءة لقد علمت أنا بأنها نزلت من رب السموات، والبصائر منيرة للحق، ومعجزات مثبتة للحق، وحسبي الله تعالى شاهدا بها، وأما أنت يا فرعون فقد قدمنا الحجة، ولك أن تؤمن، وإن كفرت فالإثم عليك، ولذا ختم موسى عليه السلام بقوله :﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ﴾، أي هالكا وملعونا وناقص الإدراك ؛ والثبور الهلاك والمنع من الخير، يقال ثبره الله تعالى يثبره ثبرا، أي أهلكه ومنعه.
وهنا نلاحظ أن قوله :﴿ وإني لأظنك ﴾ المراد بالظن العلم المحقق، وعبر عن العلم بالظن مجاراة لما جاء عن فرعون، وقد أكد هذا العلم أولا ب ( إن )، وثانيا ب ( اللام )، وذلك بالقسم.
ويلاحظ أنه ناداه باسمه لأنه إذا كان فرعون قد استعلى بجبروته فموسى قد أعلاه الله تعالى بمقام الرسالة، فحق له أن يخاطبه باسمه الصريح، وألاحظ أن فراعنة هذا الزمان الذين مات آخرهم قريبا كان يظن نفسه أكبر.
١ قراءة لقد علمت بفتح التاء، كلهم، ما عدا (الكسائي)، والأعشى عن بكر بن عاصم، فقد قرآها بضم التاء. غاية الاختصار: ٢/ ٥٥١..
زادت فرعون الآيات الحسية عتوا في الأرض وفسادا، ولم تقنعه، وكذلك لم تقنعه أشباه فرعون من طواغيت ملكه، ولقد خرج فرعون عن عهده، فحاول إخراج موسى وبنى إسرائيل في بزيادة طغيانه عليه، ولذا قال تعالى :
﴿ فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ( ١٠٣ ) ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه ترتب على إيتاء موسى الآيات التسع التي أقام بها الحجة أمام فرعون، ترتب عليها أن اشتد طغيان فرعون، ولم يترك العناد إلى الإيمان، بل ازداد ولوجا في الإعنات، ففيه تهكم بهم، وبمن يسلكون مخرفه، وهو طريق الشيطان. واستفزازهم إزعاجهم بالأذى، والاستخفاف : القتل والذبح، والنفي في الأرض، وقد هموا بالخروج، فأتبعهم فانفلق البحر، وكان كل فرق كالطود العظيم فدخلوه، وهذا قوله تعالى في سورة الشعراء الآيات المبينة للاستفزاز وتنحية موسى ومعه بني إسرائيل، قال تعالى :
﴿ فأرسل فرعون في مدائن حاشرين ( ٥٣ ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( ٥٤ ) وإنهم لنا لغائظون ( ٥٥ ) وإنا لجميع حاذرون ( ٥٦ ) فأخرجناهم من جنات وعيون ( ٥٧ ) وكنوز ومقام كريم ( ٥٨ ) كذلك وأورثناها بني إسرائيل ( ٥٩ ) فأتبعوهم مشرقين ( ٦٠ ) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( ٦١ ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( ٦٣ ) وأزلفنا ثم الآخرين ( ٦٤ ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( ٦٥ ) ثم أغرقنا الآخرين ( ٦٦ ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( ٦٧ ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( ٦٨ ) ﴾.
هذه نتائج الآيات الحسية التسع، فهل آمن فرعون بها، لم يؤمن، ولكن ازداد إعناتا وطغيانا، وكذلك يفعلون
ثم قال تعالى في آل بني إسرائيل :
﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ( ١٠٤ ) ﴾.
أي بعد أن نجاهم من فرعون إذ خرجوا من البحر ناجين، وغرق هو وجيشه الذي يسيطر به، ويقول لقومه بقوته :﴿... ما علمت لكم من إله غيري...( ٣٨ ) ﴾ [ القصص ] مغترا باغترارهم، مستقويا بضلالهم، يقول قلنا لهم بلسان الحال والواقع من بعده ﴿ اسكنوا الأرض ﴾ والأرض هنا أهي أرض مصر، ومصر ومن يحكمهم فرعون بعد أن زال هو وجنوده، وصاروا عبرة للمعتبرين أم هو جنس الأرض ؟.
إننا نميل إلى أرض مصر، لعلهم دخلوها مستباحة لهم ثم عادوا طالبين الأرض ؛ لأن ظاهر الآيات في سورة القصص يفيد ذلك، إذ يقول الله تعالى :﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ( ٤ ) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( ٥ ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( ٦ ) ﴾ [ القصص ]، وهذا الفساد لبني إسرائيل وأهل مصر وملأ فرعون، والخلق أجمعين لأمد محدود، وهو يوم الآخرة، ولذا قال تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ وهو الميعاد الذي تنتهي به هذه الدنيا، ويجئ وعد الآخرة ﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾، أي مختلطين من أشتات شتى سود وبيض وصفر وحمر، وحاكم ومحكوم، وطاغ وعادل، فاللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، أي يجئ الأذلاء والطلقاء، والأعزاء والكرماء، وكل يقوم في مقام، ويحاسبون بميزان الحق الذي لا شطط فيه، ولا نقص ولا بخس، فأما من كان قد جاء بالخير فله الحسنى، وأما من جاء بالأخرى فله عذابه مقيم.
بعد ذلك بين الله مقام القرآن وأنه بعد أن بين أن الآيات الحسية لا تجدى معه الضلال.
قال الله تعالى :
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( ١٠٥ ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( ١٠٦ ) قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( ١٠٧ ) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ( ١٠٨ ) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( ١٠٩ ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( ١١٠ ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبرة تكبيرا ( ١١١ )
بعد أن بين الله تعالى أن المعجزة الحسية لم تجد مع من سبقوهم، وضرب مثلا بفرعون وكيف زادت الحجة الحسية التي كثر عددها حتى صارت تسعا لما تزده إلا إعناتا واستمرار في غيه، وهم يقلدون فرعون في طغيانه، فاتخذوه أسوة لهم في كفره بالآيات التسع، وليقصدوا القرآن، فهو حجة الله تعالى الخالدة إلى يوم القيامة، ولذا قال تعالى :
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( ١٠٥ ) ﴾.
أي بالحق وحده نزل، وأفاد القصر، هو تقديم الجار والمجرور على الفعل أنزلناه، أي أنزلناه من عندنا بالحق حكمة ثابتة أردناها، فإن كل معجزة تكون مناسبة لرسالة الرسول، ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، وهو خاتم النبيين فناسب أن تكون معجزة ليست حادثة تقع، ثم تنقضي بانقضاء زمانها، بل تبقى خالدة باقية تتحدى الأجيال إلى يوم الدين، فالله تعالى هو الذي اختار بحكمته لنبيه هذه المعجزة، وهذا كقوله تعالى :﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ( ١٦٦ ) ﴾ [ النساء ]، ﴿ وبالحق نزل ﴾ يفيد الاختصاص، أي نزل مشتملا على الحق لا بعضه، فقد اختاره الله معجزة لمحمد بالحق، وللحكمة العالية التي قدرها رب العالمين، وهو وحده الذي يشتمل على الحق من بين الكتب السماوية، فهو مهيمن عليها يبقى منها من يستحق البقاء، وينهى ما يبقى من أحكام نسخها، كالتي كانت فرضت على بني إسرائيل تهذيبا لنفوسهم، وفطما لشهواتهم.
وإذا كنت معجزة القرآن هي التي اختارها سبحانه لك، فما عليك إذا لم يؤمنوا بها، وما عليك إذا لم يهتدوا إذا قام الدليل، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، أي مبشرا للمؤمنين الذين آمنوا بالحق واهتدوا، ومنذرا للذين كفوا وأصموا آذانهم عن الحق، وعميت أبصارهم عن رؤيته، وضلت أفئدتهم سواء السبيل.
وإن هذا الكتاب الحكيم الذي هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم نزل مقروءا ليبقى إلى يوم القيامة حجة خالدة، ويحفظ في الأجيال بحفظ الله تعالى كما قال :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾ [ الحجر ]، ولقد قال تعالى في نزول القرآن.
﴿ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( ١٠٦ ) ﴾.
﴿ قرآنا ﴾ مفعولا لفعل محذوف يناسب المقام، ويبينه ما جاء بعده، وتقديره، ونزلنا قرآنا، أي نزلنا كتابا مقروءا، لا مكتوبا فقط، ولقد علم الله محمدا صلى الله عليه وسلم طريق قراءته، وهو ترتيله، فقال تعالى :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ( ١٦ ) إن علينا جمعه وقرآنه ( ١٧ ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( ١٨ ) ثم إن علينا بيانه ( ١٩ ) ﴾ [ القيامة ]، أي إن علينا أن تقرأ مرتلة مبينة، كما قال تعالى :﴿ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ( ٤ ) ﴾ [ المزمل ].
فالقرآن الكريم محفوظ بكل عباراته، وكلماته وقراءاته، وتلاوته، ومنهاج هذه التلاوة ؛ لأن ذلك كله متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتر يعد العلم به علما ضروريا لا يرتاب فيه إلا كافر.
والتنكير في قوله تعالى :﴿ قرآنا ﴾ للتعظيم، وليذهب العقل في عظمته كل مذهب، ولأن المقصود وصفه بأنه مقروء غير مكتوب فقط، بل هو محفوظ في الصدور قبل السطور، وكان حفظه في الصدور حماية له من التحريف.
وقوله تعالى :﴿ فرقناه ﴾ فيها قراءة بالتخفيف، وأخرى بتشديد الراء، والمعنى واحد، ومتلاق، وهو أنه نزل مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة، بل نزل منجما نجما بعد نجم على حسب ما تقتضيه حكمته تعالى وإرادته فكان ينزل مع الحوادث، وهي تشير إلى بيانه، وليستطيع النبي وصحابته حفظه، ولو نزل دفعة واحدة ما وجد من يكتبه، لأنهم قوم أميون، ولأن الكتابة قد يصيبها التحريف، وما في الصدور لا يحرف، ولا يصحف، ولا يذهب حفظه كشأن الكتب السابقة التي حرفت، ونسى النصارى واليهود حظا مما ذكروا به.
وذكر سبحانه السبب في نزوله مفرقا بقوله تعالى :﴿ لتقرأه على الناس على مكث ﴾ أي على تمهل وتطاول في المدة، فيحفظوه حفظا بدل أن يلقوا بكتابته على رقاع أو قطع من مواد أخرى كما في الشجر، وهكذا.
و ﴿ مكث ﴾ تتضمن امتداد الزمن امتداد يمكثون فيه من قراءته وحفظه، وتفهمه، وتعريف غاياته ومراميه، وكان الصحابة كلما جمعوا عدة آيات حفظا وترتيلا، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن جملة معانيها إن كانوا لم يفهموها.
ثم قال تعالى :﴿ ونزلناه تنزيلا ﴾، أي نزلناه متدرجا منجما، وأكد نزل بالمصدر ليعلموا أنه تنزل بمعانيه وألفاظه، ولعل في هذا ردا على الذين افتروا الكذب، وقالوا إنه نزل بمعناه، والعبارة كيف نزل، ولقد كذبوا في تلك وأعظموا الفرية، وإن ذلك من افتراء الكفار عليه، ووهن إيمان لعض من ينتسبون للإسلام.
هذا ما ساقاه الله تعالى لبيان مقام القرآن وسط آيات الله تعالى، وأنه أعظم آيات الله تعالى في الدلالة على رسالة الرسول، وأدومها، وأتقاها، وبين أن الآيات الحسية قد جاءت في أحوال كثيرة، ولم تنتج إيمانا بل تبعها من الطغاة عتوا واستكبارا، وتوالي المظالم
وبعد هذا البيان قال تعالى :
﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( ١٠٧ ) ﴾.
أمر الله تعالى أن يبين لهم أن إيمانهم وعدم إيمانهم عند الله على سواء، فما يضير القرآن أن يؤمن به الجهال، ولا يرفعه فوق منزلته التي وضعه الله فيها ألا يؤمنون، ويقول الزمخشري في هذا :"أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن، وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وهم العلماء الذين قرءوا الكتاب، وعلموا ما الوحي وما الشرائع وقد آمنوا به وصدقوا، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم فإذا تلى عليهم خروا سجدا، وسبحوا الله تعظيما لأمره، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر من بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم وهو المراد بالوعد في قوله تعالى :﴿ إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى علهم يخرون للأذقان سجدا ﴾ هذا النص الكريم في مقام التعليل لقوله :﴿ آمنوا به أو لا تؤمنوا ﴾، أي سيان إيمانكم وعدم إيمانكم بالقرآن، فإنكم إن كفرتم فقد وجد من يؤمن به، ويدرك منزلته، وكان من أولي العلم قبله من يعرف قدره ويؤمن به، وينزل في قلبه المنزلة التي أرادها الله تعالى.
وأولو العلم هم أهل الكتاب كما ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين إذ أوتوا علم الكتاب السماوي، وعلم النبوات، والعلم بأنه سينزل كتاب مصدق لما بين يديه، ولعله لا مانع من التوسع في معنى أولى العلم بأنهم أولو الإدراك والتأمل والعلم بكل ما يتعلق بالله تعالى من أهل الكتاب، وأهل الحكمة والمعرفة الذين أوتوا المعرفة، فإن هؤلاء قد يكونون من أوساط لا إيمان فيها كإيمان مؤمن آل فرعون، وكإيمان السحرة وكإيمان الأوس والخزرج، وقوله تعالى :﴿ من قبله ﴾، أي من قبل البعث المحمدي، فإن يكونون، حيث يكون العقل والتفكير، لا حيث الكتب السماوية فقط، ولكن الظاهر أنهم أهل الكتاب المدركون.
وقد قال تعالى في وصف أهل العلم عندما يتلى عليهم ﴿ يخرون للأذقان سجدا ﴾ سجدا جمع ساجد كركع، و ﴿ يخرون ﴾ ينزلون في خشوع وخضوع ساجدين، وقوله تعالى :﴿ يخرون للأذقان ﴾، أي يخرون بوجوههم وهو أعلى موضع شرفهم البدني والتعبير ب ﴿ يخرون ﴾ من قبيل تسمية الكل باسم الجزء، فهو عبر عن الوجه بأبرز أجزائه، وهو الذقن، وهو موضع الشرف، ويظهر أنها الأذقان بما يشتمل عليه من اللحا ؛ لأن اللحية من كمال جمال الوجه.
ويقول سبحانه بعد ذلك في أوصاف أهل العلم :
﴿ يخرون للأذقان سجدا ( ١٠٧ ) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعدا ربنا لمفعولا ( ١٠٨ ) ﴾.
ذكر سبحانه وتعالى أنهم يخرون ساجدين، وإنهم مع سجودهم يملك التأثر نفوسهم ﴿ ويقولون سبحان ربنا ﴾، أي تقديسا وتنزيها وخضوعا لربنا الذي خلقنا وأمدنا برحمته نزول القرآن، وذكر الله تعالى باسم ربنا، بيانا لامتثالهم، وبيانا لأنه رباهم، وأن القرآن من كمال تهذيبهم ﴿ إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾ و ( إن ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي إنه الحال والشأن وعد ربنا، و ( اللام ) في قوله ﴿ لمفعولا ﴾ لام التوكيد، وهي الفارقة بين ( إن ) النافية، و( أن ) المؤكدة، و ( كان ) دالة على الاستمرار، ووعد الله تعالى هو بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وتكرار ربنا لكمال معنى الخضوع والربوبية والعبودية، وقوله لمفعولا، أي واقعا يفعله الله تعالى بإرادته المختارة وه على كل شيء قدير، فوعد سبحانه وما أخلف.
الوصف الثالث من أوصاف أولى العلم عندما يستمعون القرآن ذكره سبحانه بقوله :
﴿ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( ١٠٩ ) ﴾.
هذا هو الوصف الثالث من أوصاف أولى العلم عندما يتلى عليهم القرآن، وكرر خرورهم الأول أي سقوطهم للأذقان باكين من تأثرهم به، وإحساسهم بأن الله تعالى يخاطبهم بكلامه، وأنهم يستمعون إليه فيتغلب عليهم البكاء من فرط إدراكهم، ولعلو إحساسهم، ويقول :﴿ ويزيدهم خشوعا ﴾، أي خضوعا لله تعالى وإيمانا بحق عبوديته، فكلما تلى عليهم ازدادوا علما، وكلما ازدادوا علما ازدادوا إيمانا وخشوعهم يستمر في نمو، وإيمانهم بحق العبودية يزداد كلما تلى عليهم.
وإن هذه الآيات تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الزمخشري، فإن كان المشركون قد أنكروا آيات الله، فهناك أهل العلم المدركون الذين يعلمون الوحي، والرسالة والرسل، ويدركون نعم الله تعالى، ويعرفون رسالتك، ويقدرون معجزتك حق قدرها فلا تأس عليهم، ولا تلتفت، فالله معك وأهل العلم يشهدون لك.
وإنه بعد بطلان قولهم فيما طلبوا من آيات، وبيان مقام القرآن بين الله سبحانه دعوة الله وأشار إلى أسمائه الحسنى فقال :
﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا له الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( ١١٠ ) ﴾.
﴿ دعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ ناده باسم الله أو باسم الرحمن، فإنهما صفات الله تعالى، وله أسماء غيرهما تدل على جلاله وكبريائه، واتصافه بكل كمال، وذاته العلية واحدة وقوله تعالى :﴿ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ الأسماء التي تبلغ أعلى درجات الحسنى، التي ليس فوقها درجة، الحسنى مؤنث الأحسن، وأفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لا مفاضلة بين أسماء الله تعالى، وأسماء غيره، ﴿ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾، ﴿ أيا ﴾ مفعول ل ﴿ تدعوا ﴾، والتنوين عوض عن المضاف المحذوف و ﴿ ما ﴾ صلة لتوكيد الكثرة في [ أيا ]، أي أيا من الأسماء تدعو مهما يكن قدرها ؛ فذلك سائغ لأن الأسماء فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى، على ما شرحنا.
وكان ذكر الدعاء بالرحمن أنه كالدعاء، واختص ذكر الرحمن بالذكر من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى ؛ لأن العرب كما قيل لا يعرفون الرحمن إلا رحمان اليمامة، أو كما روى، وفي صحاح السيرة أن المشركين عندما أخذ علي يكتب العهد في صلح الحديبية قال : بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا أما الرحيم فنعرفه، وأما الرحمن فلا نعرفه اكتب باسمك اللهم١، فالله سبحانه بين بهذا أن الرحمن اسم الله، وأن غيره من الأسماء الحسنى.
قال تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ وفي هذا قرينة على أن الدعاء المذكور في النص ليس هو مجرد نداء أو دعاء إنما هو عبادة، وقالوا في سبب نزول هذه الآية، أو هذا النص، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيسب المشركون كلام الله تعالى فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يجهر، ولا يخافت، وروى أن أبا بكر كان يخافت ويقول إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي، وكان عمر يجهر ويقول : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر ارفع قليلا، ولعمر اخفض قليلا ﴿ وابغ بين ذلك سبيلا ﴾، أي اطلب طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة، وفي الكلام مجاز، في إطلاق وسط القراءة التي بين الجهر والخفت على الطريق الوسط.
وقيل تفسير الجهر والخفت بألا يجهر المصلى في كل صلاته، ولا يخافت في كلها، بل يجهر في صلاة الليل، ويخافت في صلاة النهار وذلك هو الوسط بين السبيل البين بعد ذلك.
١ انظر ما رواه مسلم: الجهاد والسير – صلح الحديبية في الحديبية (٣٣٣٧)، وأحمد: باقي مسند المكثرين – باقي مسند أنس رضي الله عنه (١٣٣٣٢٥). وراجع رواية البخاري: الشروط – الشروط في الجهاد (٢٥٢٩)، عن المسور بن مخرمة ومران يصدق كل منهما حديث صاحبه، وفيها طول..
وقد نهى سبحانه وتعالى سورة الإسراء بتكبير الله تعالى كما ابتدأت بالإسراء، فقال تعالى :
﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ( ١١١ ) ﴾.
أمر الله تعالى نبيه أن يحمده ويكبره، فإن لا يوجد من يستحق الحمد والتكبير غيره. قل يا رسول الله :﴿ الحمد لله ﴾، أي الحمد كله لله سبحانه وتعالى، فلا يستحق، ولا يختص بالحمد سواه على ما خلق وأنشأ وكون، ﴿ الذي لم يتخذ ولدا ﴾، وهذا يشير إلى أنه ليس مماثلا للحوادث في أي حال من أحوالهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقد قال تعالى :﴿ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة...( ١٠١ ) ﴾ [ الأنعام ]، وقوله تعالى :﴿ لم يتخذ ولدا ﴾ يشير إلى أن جميع خلقه على سواء، ﴿ لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ﴾ [ الإخلاص ]، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فليس هناك أبناء كما ادعى اليهود، وليس عيسى ابنه.
﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾، فهو المالك الخالق لكل شيء، ﴿ ولم يكن له ولي من الذل ﴾، أي لم يكن ولي يناصره ويحميه من الذل، ﴿ وكبره تكبيرا ﴾، أي تكبيرا يليق بذاته العلية.
نفى الله تعالى كما ذكرنا عن ذاته العلية ثلاثة أمور، وأثبت بعد هذا النفي وجوب التكبير، أما الأمور الثلاثة، فهي اتخاذه ولدا كما ذكرنا، ونفاه ؛ لأن الولد ينبئ عن الحاجة، والله تعالى غني حميد، ﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( ١٥ ) ﴾ [ فاطر ]، ونفى سبحانه أن يكون له شريك في سلطانه فلا ينازعه أحد ؛ لأنه الخالق، وهو المالك ﴿ لو كان فيهم آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( ٢٢ ) ﴾ [ الأنبياء ]، ونفى أن يكون له ولي من الذل، ( الولي ) النصير، ومن يكون في جواره لحمايته، وقال :﴿ من الذل ﴾، أي بسبب ذله، واحتياجه إلى النصير، وذكر لفظ الذل ليؤكد النفي ذلك محال على الله، ونسبته إليه سبحانه لا يليق بذي الجلال والإكرام، وإن نفى ذلك كله ينتهي بوجوب تكبيره تكبيرا مؤكدا. فالله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا وسبحان الله تعالى بكرة وأصيلا.
Icon