ﰡ
مدنية في قول جميع العلماء، وعدد آياتها سبعون آية.
نزلت هذه السورة تفضح المنافقين، وتبين إيذاءهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطعنهم فيه، وفي نكاحه لأزواجه. وكيف كان موقف المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب وغيرها، مع بيان الآداب النبوية لبيت النبي، وقصة زيد بن حارثة، وغير ذلك من الآداب الإسلامية، التي يحتاجها المجتمع الإسلامى الجديد في المدينة وخاصة بعد غزوة بدر الكبرى.
توجيهات وآداب [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
تُظاهِرُونَ الظهار: أن يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمى قصدا إلى تحريمها أَدْعِياءَكُمْ: جمع دعى، وهو من يدعى لغير أبيه على أنه ابنه وفي الواقع هو ابن غيره أَقْسَطُ: أعدل وأقوم وَمَوالِيكُمْ المراد: هم بنو عمومتكم جُناحٌ: ذنب.
المعنى:
يا أيها النبي دم على تقوى الله، واجتهد في الازدياد منها فإنها باب لا يبلغ مداه، وأنت أولى الناس بها، ولا تطع الكافرين والمنافقين، فلا تساعدهم على شيء، ولا تقبل لهم رأيا، ولا تجعل منهم صاحبا أو صديقا، ولا تطمع فيهم بل احترس منهم فإنهم أعداء الله ورسوله، إن الله كان عليما بحالك وحالهم، حكيما في كل ما أمر به..
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة كان حريصا على إيمان اليهود فإنهم أهل كتاب، ولهم رأى وكلام مسموع في هذا الباب وخاصة عند العرب، وكان يعرف فيهم بعض المنافقين، ويلين لهم الجانب، ويعاملهم معاملة كريمة، ويسمع لهم ويطيع أمرهم، فنزلت.
روى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم. وقام معهم عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين، وهمّ عمر- وكان حاضرا- بقتلهم، فنزلت
، وهذا نهى للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن إطاعة الكفار والمنافقين، وأمر له بإعلان الحرب عليهم غير آبه بهم ولا ملتفت إليهم، وفي هذا من الخطر ما فيه عند العقلاء.
يا لله، كأن القرآن ينادينا ويحذرنا من طاعة الكفار المنافقين والركون إليهم والاستماع لهم ما داموا يقفون منا موقف العناد، ويثيرون علينا غبار الذل والهوان، ولا علينا شيء بعد هذا، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم يقول: ثقوا بالله، إنه عليم حكيم فنفذوا أمره واجتنبوا نهيه، وعليكم باتباع القرآن وتنفيذه في كل صغير وكبير مع أنفسكم ومع إخوانكم وفي بيوتكم وأسركم، ثم بعد هذا توكلوا على الله فإنه من يتوكل عليه يكفيه كل مكروه، واعلموا أن الله يدافع عن الذين آمنوا.
وعلى هذا فالواجب علينا ما دمنا مؤمنين بالقرآن والنبي أن نطبق هذا الحكم، وأن نعالج أنفسنا وأمراضنا باتباع القرآن حقا في كل شيء، والتوكل على الله.
وانظر إلى قوله تعالى بعد هذا: ما جعل الله لرجل- أيا كان- قلبين في جوفه، والقلب محل التوجيه، ومبعث الاتجاهات والعواطف، فإذا كنت مع الله ورسوله وليس في قلبك مثقال ذرة من كفر أو نفاق، فلن تكون غير مؤمن صالح كامل متبع للقرآن داع له ولحكمه، متوكل على الله، والعرب تفهم في هذا أنه لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب كما لا يجتمع قلبان في جوف، ولا يصح أن تكون أخلاقنا وآدابنا من واد وديننا من واد، ونظامنا واقتصادنا من واد آخر.
ومن هنا كان استدراجا محكما حيث نفى اجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب الصريح بعد ما نفى وجود اجتماع اتجاهين مضادين في قلب واحد.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذكر القرطبي في تفسيره: أنه أجمع أهل التفسير على أن هذه نزلت في زيد بن حارثة،
وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد ابن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
وزيد هذا كان مسبيا من الشام، سبته خيل من تهامة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة ثم وهبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه وتبناه، وقد اختار زيد الرق مع رسول الله على الحرية مع أهله وقومه، فتبناه النبي
وقال: «يا معشر قريش اشهدوا أنّه ابني يرثني وأرثه»
ومن هنا نفهم أن التبني كان معمولا به في الجاهلية، وأقره الإسلام مدة، ثم جاء فحرمه حيث قال:
ذلكم، أى: دعاؤكم الذين تبنيتموهم قول باللسان فقط لا أساس له من شرع أو عقل، وذلك تأكيد لبطلان القول بهذا، بل الواجب أن تدعوهم لآبائهم في النسب لا في التبني، فالله يقول الحق، وهو يهدى إلى سواء السبيل، والواجب أن تترك تلك العادة وأن تدعوا الإنسان إلى أبيه في النسب فقد قال الحق تبارك وتعالى ما معناه..
ادعوا الذين تبنيتموهم لآبائهم هو أقسط عند الله وأعدل، فمثلا يقال: زيد بن حارثة لا زيد بن محمد كما كان الناس يقولون.
فإن لم تعلموا آباءهم فهم إخوانكم في الدين ومن بنى عمومتكم فمثلا تقولون لغير معروف النسب: يا فلان. يا أخى. يا بن عمى.. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات ١٠].
ولو نسب الإنسان إلى أبيه من التبني لا من النسب فإن كان ذلك على جهة الخطأ من غير تعمد فلا إثم ولا مؤاخذة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ
ولا يدخل في نطاق التحريم ما غلب عليه اسم التبني، كما حصل مع المقداد ابن عمرو، فإنه كان قد غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقدار بنى الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية قال:
المقداد بن عمرو، ومع ذلك فبقى الإطلاق عليه، ولم يسمع فيمن مضى حكم على من أطلق ذلك عليه أنه عصى بذلك، وكان الله غفورا رحيما برفع إثم الخطأ.
النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦ الى ٨]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
المفردات:
مَسْطُوراً: مكتوبا مِيثاقَهُمْ الميثاق: هو العهد المؤكد مِيثاقاً غَلِيظاً: ميثاقا شديدا.
المعنى:
النبي- عليه الصلاة والسلام- أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كل شيء من أمور
وأزواجه أمهاتهم في التعظيم والمحبة والإجلال وحرمة النكاح وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «١» وهذه كرامة لهن فقط، وحفظ لحقوقهن فقط فليس بناتهن إخوة، ولا أخواتهن خالات للمؤمنين.
وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، والوراثة باسم الدين والهجرة، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله- القرآن- أى: أولى من سائر المؤمنين والمهاجرين.
لكن أن تفعلوا إلى أوليائكم، أى: من توالونهم وتوادونهم من المؤمنين والمهاجرين والأجانب، أن تفعلوا معروفا كوصية فجائز لا شيء فيه، وإنما المحرم الإرث، كان ذلك، أى: تحريم الإرث بالإيمان والهجرة ووجوب الإرث بالقرابة والرحم، كان ذلك في الكتاب، أى: القرآن مكتوبا ومسطورا.
واذكر وقت أن أخذنا من النبيين ميثاقهم وعهدهم المؤكد عليهم بأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا، وإذ أخذنا منك يا محمد، ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- وخص هؤلاء بالذكر مع اندراجهم في النبيين لأنهم أصحاب شرائع وكتب، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا مما يؤكد تحريم التوارث بين المؤمن والكافر المفهوم من السياق، فهو مما لم تختلف فيه شريعة نوح ومن معه مع شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: أنه كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة ثم توارث بالقرابة مع الإيمان، وأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق، فلا تداهنوا في الدين، ولا تمالئوا الكفار.
غزوة الخندق أو الأحزاب [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ٢٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)
مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، أى: من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى: أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ: مالت فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول الْحَناجِرَ: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم ابْتُلِيَ: اختبروا بهذه الغزوة وَزُلْزِلُوا: حركوا حركة شديدة من الفزع مَرَضٌ: ضعف اعتقاد، وشك ونفاق غُرُوراً: باطلا لا ينفع يا أَهْلَ يَثْرِبَ: يا أهل المدينة عَوْرَةٌ: غير حصينة، يقال: دار معورة: ودار عورة إذا كان يسهل دخولها إِلَّا فِراراً أى: هربا مِنْ أَقْطارِها أى: من جوانبها ونواحيها، جمع قطر، وهو الجانب لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصل الأدبار جمع دبر، وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر، والمراد الهزيمة والفرار من الصف الْمُعَوِّقِينَ:
المثبطين الذين يصدون المسلمين عن القتال مع رسول الله الْبَأْسَ: القتال أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ: جمع شحيح، أى: بخلاء بالمعونة لكم من حفر أو نفقة في سبيل الله سَلَقُوكُمْ السلق: الأذى. والمراد آذوكم بألسنة سليطة الْأَحْزابَ: هم القبائل المتجمعة لحرب النبي والقضاء عليه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: قدوة حسنة نَحْبَهُ: مات، وأصل النحب: النذر، فجعلوه كناية عن الموت.
هذه هي غزوة الخندق الذي حفر حول المدينة، وسميت غزوة الأحزاب (لتجمع الأحزاب من قريش وغطفان وقبائل نجد مع يهود المدينة).
وهذه الآيات الكريمة تكلمت فيما تكلمت فيه عن:
١- الوصف العام للغزوة | من آية ٩ إلى آية ١١. |
٤- نهاية المعركة.. آية ٢٥.
٥- نهاية اليهود الذين ظاهروا المشركين.. من آية ٢٦ إلى آية ٢٧.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود لا قبل لكم بها، تجمعت لإبادتكم والقضاء عليكم، فأرسل الله عليهم ريحا قلعت خيامهم وأثارت خيولهم، وكفأت قدورهم، وأرسل عليهم جنودا من الملائكة لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا وعلى كل شيء قديرا.
رأى اليهود أن القبائل العربية لا طاقة لها بحرب النبي وصحبه متفرقين، فأخذوا يجمعون الجموع ويعقدون الأحلاف، ويحزبون الأحزاب حتى ترمى العرب المشركون الإسلام عن قوس واحدة يضربونه ضربة رجل واحد، فيمحونه من الوجود ويستريحون، وكان حيي بن أخطب وغيره من قادة اليهود يقومون بهذا فألبوا قريشا وغطفان، وبنى مرة، وأشجع وغيرها، وخرجت تلك القبائل بقيادة أبى سفيان لقريش، وعيينة بن حصن لغطفان، والحارث بن عوف على بنى مرة، ومسعر على قبيلة أشجع.
ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماعهم تشاور هو وصحبه فيما يعملون، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة مما يلي السهل، وقد اشترك المسلمون على رأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بهمة ونشاط، وإذا استعصت عليهم صخرة جاء النبي ففتتها بفأسه صلّى الله عليه وسلّم.
ولما فرغ الرسول وصحبه من حفر الخندق وأقبلت قريش ومن معها من قبائل كنانة وأهل تهامة من أسفل الوادي جهة الشرق، وأقبلت أسد وغطفان بمن معها من أهل نجد من أعلى الوادي جهة الغرب حتى نزلوا إلى أحد، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع- جبل المدينة- في ثلاثة آلاف، وضربوا خيامهم، والخندق بينهم وبين المشركين.
أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر الرسول لذلك ووافقهم.
وفي هذا نزل قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا.
وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة..
وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين.
وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة.
ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود، ودافعوا دفاع الأبطال، وابتلاهم الله فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم، وقام نعيم بن مسعود- وكان مشركا فأسلم، وكان محبوبا من الطرفين- بدور
وهذا أبو سفيان يقول: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. وارتحل..
وطلع النهار وإذا المدينة خالية من معسكر الأحزاب وقد فك الحصار، ورجعت الطمأنينة إلى النفوس، ونجح المسلمون في الاختبار بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا.
أما موقف اليهود من المسلمين فهذا ملخصه:
لما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم الوعد بكنوز كسرى وقيصر عند اشتداد المعركة قال طعمة بن أبيرق، ومعتب بن قشير وجماعة من اليهود والمنافقين: كيف يعدنا هذا، ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز؟! وانظر إلى فظاعتهم حيث يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا!! وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فارجعوا إلى منازلكم، واهربوا من جند محمد، وما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه؟! وفي رواية أن الذي قال هذا هم اليهود، قالوه لزعيم المنافقين عبد الله بن أبىّ بن سلول.
ومنهم من استأذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: إن بيوتنا عرضة للهجوم عليها وسرقة ما فيها، وفي الواقع ليست بيوتهم عورة وإنما هم كاذبون، وما يريدون إلا فرارا من القتال، وهربا من الميدان.
ولو انتهكت حرمة المدينة من جوانبها ثم طلب إليهم الفتنة والقيام بطعن المسلمين من الخلف لفعلوا كل هذا، وما انتظروا إلا قليلا لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [سورة التوبة آية ٤٧].
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أنهم لا يولون الأدبار، ولا يفرون من القتال وأنهم سيقاتلون مع النبي بإخلاص وعاهدوا الله على ذلك، ولكنهم لا عهد لهم ولا ذمة، وكان عهد الله مسئولا..
وإذا فررتم وكان في العمر بقية لا تمتعون إلا متاعا قليلا زمنه، إذ الدنيا لم تخلق زهرتها للجبناء.
قل لهم: كيف تفرون من حكم الله إلى حكم الله؟ ومن ذا الذي يعصمكم منه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة من خير ونصر وعافية؟ وهم لا يجدون لهم من دون الله نصيرا ينصرهم ولا وليا يلي أمورهم ويشفع لهم.
روى أن عبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين قالوا لإخوانهم من المسلمين: ما محمد وأصحابه إلا قلة وهو هالك ومن معه، فهلموا وفارقوا محمدا، وقيل: إن القائل هم اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فنزل قوله تعالى: قد يعلم الله المعوقين- المثبطين-
منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، وهم قوم جبناء لا يأتون البأس- القتال- إلا قليلا خوفا من الموت، ولا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة، وهم قوم بخلاء عليكم أشحاء بالمعونة عند الشدائد لا ينفعون، وعند الغنائم يحضرون ويطالبون، فإذا جاء الخوف واشتد لهيب المعركة وحمى وطيسها، رأيتهم- ويا لهول ما ترى- ينظرون يمينا وشمالا تدور أعينهم يمنة ويسرة لذهاب عقولهم حذرا من القتل، وهكذا الجبال الرعديد، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد وبسطوا إليكم ألسنتهم بالسوء، وآذوكم بالكلام الشديد. فهم عن الخير ممسكون وفي الشر مجدون أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم حيث لم يقصدوا بها وجهه، وكان نفاقهم وعملهم على الله هينا، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون! وهؤلاء المنافقون لشدة جبنهم وسوء رأيهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا، وهذا شأن الجبان لفرط خوفه إذا رأى شيئا ظنه رجلا، ولفساد اعتقادهم وسوء طويتهم يودون أن تأتى الأحزاب، وهم مع الأعراب المتحزبين حذرا من القتل وتربصا بالنبي الدوائر سائلين عن أنبائكم أيها المسلمون، وهم ليسوا في قليل ولا كثير، ولو كانوا فيكم وفي جيشكم ما قاتلوا إلا قليلا.
ولقد كان لكم- أيها المتخلفون عن القتال- أسوة حسنة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فكان
لقد كان لكم أسوة حسنة في النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه يوم القيامة، وذكر الله كثيرا حبا في ذكره وأملا في ثوابه.
وهذا عتاب للمتخلفين وإرشاد للناس أجمعين حيث يجب عليهم أن يأتموا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء فهو المثل الأعلى: المثل الكامل صلّى الله عليه وسلّم.
موقف المؤمنين في هذه الغزوة:
لقد عرفنا موقف من في قلوبهم مرض من المنافقين واليهود الذين غلبت عليهم نزعات الجبن والتردد وبرهنوا بأعمالهم على لؤم في الطبع وسوء في الرأى وفساد في العقيدة.
أما المؤمنون الواثقون الذين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان وامتلأت نفوسهم بنور اليقين فقد أفادتهم هذه التجربة القاسية وهذا الابتلاء من الله. أفادتهم يقينا على يقينهم، فهم رأوا الأحزاب قد تجمعوا وتكتلوا ضد الإسلام والمسلمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم ذلك إلا إيمانا بالله وتصديقا لرسول الله وتسليما بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم للمسلمين الصابرين المحتسبين.
نعم لقد وعدهم الله ورسوله بالنصر والظفر والظهور على قصور الحيرة ومدائن كسرى وقيصر، وهم واثقون بهذا الوعد مؤمنون بأن أية قوة في الأرض مهما تجمعت وتحزبت فلن تعجز الله في شيء ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، وما زادهم هذا الجمع الحاشد وتألب القبائل في الداخل والخارج من اليهود والمشركين، وما زادهم ذلك كله إلا إيمانا وتسليما.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال: «قال عمى أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بعد ليرينّ الله ما أصنعه. قال:
فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك. فقال:
يا أبا عمرو، أين؟ قال: واه- كلمة تفيد الإعجاب بالشيء- لريح الجنة، أجدها
وهذا معنى قوله تعالى: بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفوا عهودهم وأدوا حق الإسلام عليهم فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت وما بدلوا من حكم الله تبديلا، والآية عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد يقول قائل: إذا كان المسلمون على حق فلم هذا التعذيب والإيلام في الحرب والقتال؟ ولقد أجاب الله عن هذا بقوله: وإنما يحصل لهم ذلك ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء الله أو يتوب عليهم فيوفقهم إلى التوبة الصادقة، إن الله كان غفورا رحيما.
نهاية الغزوة:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم كأبى سفيان وعيينة بن حصن ومن معهما لم ينالوا خيرا بل هتكوا سترهم وافتضح أمرهم ورجعوا بخفي حنين، وأثبتوا للعرب جميعا أن قوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الذين أخرجوا من ديارهم مطرودين بلا مال ولا زاد أصبحت تلك القوة تضارع قوى العرب مجتمعة متحزبة مع قوة اليهود المالية.
وكفى الله المؤمنين القتال، فهو الذي أوقع الرعب في نفوس الأحزاب وثبت قلوب المؤمنين على الحق حتى جاءهم النصر من عند الله العزيز الحكيم.
نهاية من ظاهر المشركين من اليهود:
رجعت الأحزاب من قريش وغطفان إلى ديارهم وقد ملئت قلوبهم غيظا وحزنا لم ينالوا خيرا، وبقي اليهود في المدينة كالمجرم الآثم الذي ظهرت أدلة جرمه وهو ينتظر حكم القضاء فيه.
أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم غيظا وحقدا من أولئك اليهود المنافقين الذين عاهدوهم ونقضوا عهدهم وظاهروا عليهم أعداء من المشركين وخاصة بنى قريظة الذين لم يروا في جوار محمد وصحبه إلا كل بر ووفاء، لهذا كله اندفع المسلمون ضحوة اليوم الذي ذهب فيه الأحزاب إلى قتال بنى قريظة ونادى النبي في المسلمين محدثا عن الروح
تسابق المسلمون حول الراية التي يحملها على قاصدا بنى قريظة حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود إذ بهم يسبون رسول الله ونساءه سبا قبيحا وقد بلغ ذلك النبي، فلما دنا النبي من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟! فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فهل تجهل علينا؟! ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة وانتهى الأمر بتحكيم سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف قريظة في الجاهلية، فحكم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري من النساء والولدان وتقسيم الأموال، فأورث ربك المسلمين أرض بنى قريظة الخصبة، وديارهم وحصونهم وأموالهم الثمينة، وكان الله على كل شيء قديرا، وأقر النبي هذا القضاء الحازم، وفي هذا نزل قوله تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
المفردات:
صَياصِيهِمْ: حصونهم قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ: ألقى في قلوبهم الرعب، وفي هذا التعبير من البلاغة العربية ما فيه.
أما معنى الآية- فيظهر مما قلناه سابقا.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
المفردات:
أُمَتِّعْكُنَّ: أعطيكن المتعة، وهي مال يعطى نفلا للمطلقة وَأُسَرِّحْكُنَّ التسريح: الطلاق لقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: ظاهرة كالزنا ضِعْفَيْنِ أى: مثلين ومرتين لقوله تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ.
المعنى:
وهذه الآية متصلة بما تقدم إذا فيها الحث على منع إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الأطهار وتربية لنسائه على العفة والكرامة وحب الله ورسوله، ووصف دقيق لما كان عليه بيت النبي من التقشف.
يا أيها النبي قل لأزواجك مخيرا لهن ليخترن ما يرون: إن كنتن أيها النساء تردن الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، وتفضلنها على قربكن من رسول الله، والتمتع بجواره الكريم، ومجلسه الطاهر فتعالين أطلقكن وأعطيكن متعة بعد هذا.
فقال: والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة تسألنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال:
«وهن حولي كما ترى يسألننى النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة كل يريد أن يجأ عنق ابنته- يضغط على عنقها- قائلا: تسألن الرسول ما ليس عنده؟! فقلن:
والله لا نسأله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن النبي شهرا أو تسعا وعشرين يوما ثم نزلت عليه هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ- إلى قوله: لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً.
وبدأ النبي يخير نساءه فبدأ بعائشة فقال لها النبي: يا عائشة «إنّى أريد أن أعرض عليك أمرا أحبّ ألّا تعجلي فيه حتّى تستشيرى أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها هذه الآيات، قالت: أفيك يا رسول أستشير أبوى! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.
وهكذا فعل مع نسائه، وقال العلماء: إنما أمر النبي عائشة أن تستأمر أبويها وتستشيرهما لمحبته لها، ولعلمه أن والديها لا يشيران بالفراق أبدا، وأما أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فهن كما ترى، حتى يعرف الناس جميعا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يتزوج للشهوة أبدا.
١- خديجة بنت خويلد أول من تزوج من النساء تزوجها بمكة ومكثت معه بعد النبوة سبع سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، وهي أول من آمن من النساء، وكان لها فضل وعقل وبصر بالحياة، وكانت لها مكانتها في قريش.
٢- سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية دخل بها بمكة وتوفيت بالمدينة.
٣- عائشة بنت أبى بكر، الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله وبنت حبيبه، ولها مكانتها في العلم والسبق في الدين «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» حديث شريف، ولم يتزوج النبي بكرا غيرها.
٤- حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية تزوجها رسول الله ثم طلقها فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة.
٦- أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان تزوجها رسول الله وبنى بها بعد الهجرة بسبع سنين، والذي أصدقها هو النجاشيّ، لما مات زوجها تزوجها الرسول.
٧- زينب بنت جحش تزوجها النبي بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة ولها قصة ستأتى.
٨- زينب بنت خزيمة بن الحارث تزوجها النبي ومكثت عنده ثمانية أشهر ثم ماتت.
٩- صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية سباها النبي يوم خيبر وتزوجها بعد أن أعتقها.
١٠- ريحانة بنت زيد تزوجها في سنة ست وماتت بعد مرجعها من حجة الوداع.
١١- ميمونة بنت الحارث الهلالية تزوجها (بسرف) وهي آخر امرأة تزوجها.
فكل نسائه أيم أو مسنة أو بنت زعيم الحي أو لها أولاد وقد قتل زوجها في الحرب فتزوجها إكراما له ولأولاده، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة، فلم يكن صلّى الله عليه وسلّم يتزوج لشهوة، وإنما كان زواجه تأليفا للقلوب، وسياسة رشيدة لبناء الدولة وتوحيد الكلمة.
وهناك نساء تزوجهن النبي ولم يدخل بهن فمنهن الكلابية. وأسماء بنت النعمان بن الجون، وقتيلة بنت قيس، وغيرهن مما هو مذكور في كتب السيرة.
وكان له من السراري سريتان: مارية القبطية وريحانة.
لما اختار نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول الله شكرهن على ذلك وكرمهن فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «١». وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «٢»، وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن مضاعفا. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ فالله يضاعف لهن العذاب ضعفين لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن
(٢) - سورة الأحزاب آية ٥٣.
وكان ذلك، أى: مضاعفة العذاب لهن على الله يسيرا..
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
يَقْنُتْ القنوت: الطاعة في سكون والعبادة في خشوع مَرَضٌ: تطلع إلى الفسق والفجور وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يقال: قررت في المكان أقر به: إذا أقمت فيه وَلا تَبَرَّجْنَ التبرج: الظهور مع إظهار ما يجب ستره الرِّجْسَ: الدنس الحسى وَالْحِكْمَةِ هي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
المعنى:
لما كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيت النبوة، ومصدر العلم والمعرفة، ومنبع الحكمة وأساس الهداية كان الذنب منهن كبيرا، والمعصية الصغيرة في قوة الكبيرة، لذلك ضاعف الله لهن الجزاء ضعفين إذا أتين بفاحشة مبينة، ومن يقنت منهن لله ورسوله، وتعمل صالحا في سكون وخشوع وقنوت، مع إخلاص في النية وصدق في الطوية لقربهن من رسول الله وشرفهن بصحبته، وتمتعهن بنور الوحى. من يقنت منهن يؤتها الله أجرها مرتين، ويضاعف لها الثواب ضعفين، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً نعم وقد أعد الله وهيأ رزقا كريما- لم يجر على يد أحد- في الجنة، ولا غرابة فهن في منازل رسول الله في أعلى عليين فوق منازل البشر جميعا تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وهذه آداب إلهية أمر الله- تعالى- بها نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وكلها تهدف إلى بعد المرأة عن منطقة الخطر، واجتنابها الطرق التي قد تؤدى بها إلى الوقوع في المعصية، ونساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى الناس بالبعد التام عن هذا كله، وإنما جاء الخطاب لهن أولا لأنهن في مركز القيادة وفي بيت النبوة وهن أمهات المؤمنين، وعندهن الكثير من الأخبار، والناس في أشد الحاجة لمعرفة سيرة الرسول إذ هو القدوة الحسنة للمسلمين، فنساؤه معرضات للتحدث معهن وسؤالهن عن الوحى والحديث، فكان النهى أولا، وليعلم الجميع أن هذا دواء أعطى أولا لأطهر النساء وأعفهن على الله، وفي قبوله فليتنافس المتنافسون.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء في الفضل والشرف والقرب من الرسول مصدر الخير والنور، وهذا كقولهم: إن فلانا ليس كآحاد الناس، على معنى أن فيه مزية وأفضلية ليست في غيره، ونساء كذلك
الحديث: «لست كأحدكم»
وقد تحقق فيكم شروط التقوى، والأكرم عند الله هو التقى فلستن كغيركن.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تخضعن بالقول، ولا تلن فيه بل ليكن كلامكن مع الناس بجد وحزم وخشونة وقوة فلا يطمع الذي في قلبه مرض الفسق والفجور، أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا، وكلامهن فصلا، ولا يكن على وجه الليونة والطراوة حتى يطمع فيهن ضعاف الإيمان ممن في قلوبهم مرض، وفي عقولهم قصر.
وليس معنى هذا أن يكون أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال فيها إيذاء وأن يقلن منكرا من القول! لا. بل أمرهن أن يقلن قولا معروفا عند الحاجة مع الكف والبعد عن مواطن الريبة وأفهام السوقة ومن في قلبه مرض.
وقرن في بيوتكن. ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، والجاهلية الأولى هي الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي تردى فيها العرب قبل الإسلام، وليس هناك أولى وأخرى، والتبرج المنهي عنه ظهور المرأة على وجه لا يرضاه الشرع تكريما لها وصونا لعفافها ومحافظة على مكانتها في مجتمعها.
نهى الله نساء نبيه عن التبرج ليعلم العالم أجمع ما في التبرج من الخطر الداهم، وإذا خص الله الخطاب بهن- وإن كان المراد العموم- وهن أزواج حبيبه المصطفى فقد دل ذلك على أنه علاج وصف لبيت أكرم الخلق على الله وأحبهم وأقربهم لديه، أفيليق بنا نحن المسلمين ألا نتأسى بأزواج النبي؟ وألا نعالج نساءنا بما عالج به الخبير البصير نساء حبيبه ورسوله المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ولعل ذلك بعض السر في تخصيص الخطاب بزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأمر الله نساء رسوله أن يقرن في بيوتهن وأن يقمن بها فلا يبرحنها إلا لضرورة، فالبيت مملكة المرأة، وهو معهد الطفولة، ومصنع الرجولة، وسكن الرجل ومستراحه، وفيه يقضى نصف وقته ليستريح، وفي البيت متسع لنشاط المرأة، وفيه ما يستنفد حيويتها، وهو في أشد الحاجة لها ولإشرافها حتى تخرج لنا جيلا جديدا، وتبعث لنا بأزواج وإخوة يعرفون وطنهم وحقه، ودينهم وواجبه.
وليس معنى هذا أن الدين يكره الزينة أو النظافة، لا: بل هو يدعو النساء إلى التزين ما استطعن ولكن لأزواجهن! أما أن تظل المرأة في بيتها وعند زوجها على حالتها الطبيعية فإذا برزت إلى الشارع وخرجت جمعت المساحيق ووضعت الأصباغ وحاولت إظهار كل جزء فيها، لمن هذا؟! إن زوجك أولى به، فإذا خرجت في الشارع لضرورة فليكن ذلك بأدب واحتشام وبعد عن التبرج الممقوت الذي كان يفعل في الجاهلية الأولى من الإماء وبعض الساقطات، وإذا كان تبرج الجاهلية السابقة مذموما، ونحن نعلم أن الناس كانوا فيها على جانب من شظف العيش وقلة المدنية وبداوة التفكير فما يكون الوضع الذي نحن فيه الآن والذي نراه في عواصم الأمم الإسلامية؟! نهاهن الله عن الخضوع في القول والليونة فيه، وعن التبرج وإبداء ما يحسن إخفاؤه ثم أمرهن بالصلاة المطهرة للنفس والمقومة للشخص والموصلة بالله، وبالزكاة المنظمة للمجتمع، المطهرة له من أدران الحسد والحقد، والباعثة على التعاون، وبطاعة الله ورسوله في كل شيء، وليست هذه الأوامر والنواهي لشيء يعود نفعه على الله- معاذ الله- ولكن الباعث على ذلك كله إنما هو إرادة الله لأن يذهب عنكم (يا آل بيت النبي) الرجس والدنس، ويطهركم من كل ما يشينكم تطهيرا كاملا يليق بكم.
ومن هم آل البيت؟ هم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأولاده كفاطمة وعلى والحسن. أما دخول أزواجه فيهم فلأن السياق السابق واللاحق فيهن، وأما دخول على وفاطمة والحسن والحسين فلأن الله قال: ويطهركم بالميم، ولو كان المراد الزوجات فقط لقال عنهن:
واذكرن يا نساء النبي ما يتلى عليكن من آيات الله القرآنية، والحكمة التي ينطق بها رسول الله، واعملن بذلك كله إن الله كان لطيفا بعباده خبيرا بهم، فكل ما أمر به وحث عليه فهو في منتهى الحكمة فتقبلوه واعملوا به.
يا نساء الأمة الإسلامية لستن كغيركن من نساء العالم أجمع. إن اتقيتن الله: فلا تخضعن في القول حتى يطمع فيكن الطامعون ضعاف الإيمان والعقول.
وقلن قولا معروفا، فيه خير وبعد عن الشر ما استطعتم..
وقرن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة، فإذا خرجتن فلا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتظهرن في الشارع بهذا الوصف المنافى للآداب الإسلامية وأقمن الصلاة التي هي عماد الدين، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله في كل أمر ونهى فإن في ذلك كله خيرا لكن وأى خير؟ إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا، فطهرن النفوس وأصلحن القلوب وأعمرنها بنور الإيمان إن الله لطيف بكن حيث أمركن بهذا خبير بحالكن وبنفوسكن وما ركب فيكن من غرائز تثار عند مخالطة الرجال، وتندفع لأتفه الأسباب..
وأما خروج عائشة- رضى الله عنها- في موقعة الجمل، فما كان لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صار إليه الحال، ورجوا بركتها وإصلاح ذات البين بها، وظنت هي فخرجت لتصلح بين الناس وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «١» وانتهى الأمر بطعن الجمل الذي تركبه فأركبها علىّ- رضى الله عنه- إلى المدينة في ثلاثين امرأة، وكانت عائشة أم المؤمنين برة تقية مجتهدة مثابة في تأويلها مأجورة على فعلها. والله أعلم.
روى أن بعض النساء شكون إلى رسول الله أن كل شيء للرجال، وأن النساء لا يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية.
وإن وضعها هنا وهي تحمل علامات الإيمان الكامل إشارة إلى ما يجب أن يعرف به
إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، وهذا ترتيب حسن، فالإسلام قول باللسان وعمل بالجوارح، ثم إذا ثبت ورسخ كان الإيمان والاعتقاد والتصديق الكامل، ثم بعد هذا عمل متواصل، وقنوت لله وخضوع وإخلاص، ثم بعد أن كمل نفسه بالشهادة والإيمان والعمل يدعو غيره صادقا في دعواه، وأنها لله لا للدنيا ولا لشيء.
والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات.
نعم فبعد الصدق في الدعوة لله إيذاء وإيلام، ولا ينفع صاحبها إلا الصبر، وهل هو يكون متواضعا أم لا؟ فقال: والخاشعين والخاشعات، ثم بعد هذا يتصدق بما تجود به نفسه، جذبا للقلوب، وإرضاء للنفوس.
وهو دائما يؤدب نفسه ويهذبها بالصيام حتى يكبح جماحها، ويردها عن غيها، ويحفظ فرجه من ثورات الشهوة الجامحة، وهل هم في هذا كله يذكرون الله أم لا؟
فقال: هم يذكرون الله، ولا ينسونه أبدا، يذكرونه بقلوبهم، ألا بذكر الله تطمئن القلوب!! هؤلاء الذين تحقق فيهم هذا الوصف الجامع أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما جزاء بما كانوا يعملون..
قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
الْخِيَرَةُ: الاختيار مُبْدِيهِ: مظهره وَطَراً الوطر: كل حاجة المرء له فيها همة، والمراد، بلغ ما أراد من حاجته منها حَرَجٌ: ضيق وإثم.
المعنى:
زيد بن حارثة بن شرحبيل كان عبدا لخديجة فوهبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه وتبناه فكان يدعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقيل: زيد بن حارثة.
وزينب هذه بنت جحش، وأخوها عبد الله بن جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهي من ذؤابة قريش.
نعم ليس لمؤمن ولا مؤمنة- بهذا الوصف- إذا أمر الله- عز وجل- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بأمر أن يعصياه بحال ولا ينبغي منهم ذلك، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو حريص عليهم وبهم رءوف رحيم، ومن يختر خلاف أمر الله ورسوله فقد عصى وضل ضلالا مبينا يستحق عليه إثما كبيرا.
هذه المرأة التي أكرهت على الزواج من زيد لأنها شريفة وهو عبد أعتق، ولم تقبل إلا امتثالا لأمر الله ورسوله، ماذا تنتظر منها؟ مهما كان إيمانها! إنها إنسانة ومعها نفس لوامة، فلم تعاشر زيدا معاشرة الأزواج، وكانت له كارهة وعليه متعالية، وزيد رجل عزيز بالإيمان يعتقد أن أكرم الناس عند الله الأتقياء، وأنه لا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى، لهذا كانت حياتهما الزوجية غير سعيدة، وكان زيد يشكو منها لرسول الله كثيرا.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد أوحى إليه: أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلّى الله عليه وسلّم من خلق زينب وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة الأدب والوصية: «اتّق الله في قولك هذا وأمسك عليك زوجك»
وهو يعلم أنه سيفارقها زيد ويتزوجها هو- وهذا ما أخفاه النبي في نفسه- ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها وخشي الرسول من كلام المنافقين وقولهم: إن محمدا تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه.
وقد عاتبه الله على هذا القدر حيث خشي الناس في شيء قد أباحه الله له لحكمة عالية وعلة سيذكرها القرآن لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ وعاتبه ربه حيث قال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله مع علمه بأنه سيطلق، وحيث خشي الناس والله أحق بالخشية في كل حال.
ولما انقضت عدة زينب خطبها رسول الله ودخل بها بغير إذن ولا عقد ولا صداق لأن الله زوجها له من فوق سبع سموات.
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ- مواليهم ومن تبنوهم- إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وكان أمر الله في كل شيء مفعولا لا محالة إذ هو صاحب الأمر، وإليه يرجع الأمر كله.
ما كان على النبي من حرج وليس عليه إثم ولا ضيق في كل شيء فرضه الله وسنه له وهكذا الأنبياء جميعا، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبله من الأنبياء، وكان أمر الله قدرا مقدرا من لدن الحكيم الخبير، والعليم البصير، هؤلاء الأنبياء هم الذين يبلغون رسالات ربهم متوكلين عليه لا يخشون أحدا غيره، وهذا شأن المؤمن الصادق، فما بال الأنبياء والمرسلين؟! وكفى بالله حسيبا ورقيبا، وهو على كل شيء شهيد.
أيها الناس: ليس محمد أبا أحد من رجالكم حتى تقولوا: كيف يتزوج محمد زوجة ابنه ومولاه؟ ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين وإمام المرسلين لا نبي بعده به ختمت الرسالات، وإليه انتهى الوحى من السماء، وانقطعت الأوامر الإلهية اكتفاء بالأمر الدائم والدستور المحكم الذي أنزل من لدن حكيم خبير على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وكان الله بكل شيء عليما فجعل محمدا خاتم الأنبياء ورسالته عامة شاملة كاملة فيها الخير إلى يوم القيامة.
ومن المؤسف أن تندس في كتب التفسير أقوال تنسب إلى أكابر العلماء، والله يعلم أنهم برآء، أو هي في الواقع سموم إسرائيلية، وضعها من أسلم من اليهود عن حسن قصد أو عن سوئه، ومنها ما قيل في تفسير هذه الآيات من نسبة أمور لا تليق بأى رجل عادى فضلا عن أشرف الخلق المشهود له من كافة الناس أنه رجل صادق ذو خلق.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية ٤].
قالوا: إن محمدا رأى زينب فأحبها ثم كتم هذا الحب، ثم لم يجد بدا من إظهاره
ونظرة بسيطة إلى تاريخ زينب وظروفها في زواج زيد تجعلنا نؤمن بأن سوء العشرة التي كانت بين زينب وزيد إنما هو من اختلافهما اختلافا بينا في الحالة الاجتماعية فزينب شريفة، وزيد كان بالأمس عبدا. وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ العصبية القبلية والشرف الجاهلى، وجعل الشرف في الإسلام والتقوى فخضعت زينب مكرهة، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان الألم والضيق.
ومحمد هذا كان يعرف زينب من الصغر لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدم إنسان امرأة لشخص وهي بكر، حتى إذا تزوجها وصارت ثيبا رغب فيها؟
لا يا قوم: تعقلوا ما تقولون. وتفهموا الحق لوجه الحق تدركوه بلا تلبيس ولا تشويش.
وانظر إليهم وهم يقولون: إن الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب، وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟! ولكن الحق هو أن هذا الزواج كان امتحانا في أوله لزينب وأخيها حيث أكرها على قبول زيد، وفي النهاية كان امتحانا قاسيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يؤمر به، ويعلم نهايته، وزينب تحت مولاه زيد، والحكمة- كما نطق القرآن- هو تحطيم مبدأ كان معمولا به ومشهورا عند العرب هو تحريم زواج امرأة الابن من التبني كتحريمها إذا كان الابن من النسب، ولتغلغل العادة في النفوس جاء هدمها على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى يد زيد بن حارثة مولاه.
فالذي كان يكتمه النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض وتراخيه في إنفاذ أمر الله به وخوفه من لغط الناس- وبخاصة المنافقين- عند ما يجدون نظام التبني قد انهار بعد ما ألفوه، ولهذا فقد عوتب.
هذه الحادثة تلقفها المستشرقون ومن على شاكلتهم من المسلمين، وخبوا فيها ووضعوا وأباحوا لأنفسهم الخوض في الأعراض، والتكلم في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتصويره بصورة يترفع عنها كثير من الناس، وكان سندهم في ذلك كله ما نقلته كتب التفسير
من تأديب الله للمؤمنين وعنايته بهم [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
المعنى:
يا أيها المؤمنون: اذكروا الله ولا تكونوا كالذين نسوه فأنساهم أنفسهم حتى ضلوا السبيل، يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله كثيرا في القيام والقعود وعلى جنوبكم، أى: في كل حال يجب على المسلم أن يذكر ربه ولا ينساه، يذكره بقلبه، ويستشعر عظمته، ويخشى حسابه وعذابه، ويراقبه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، اذكروه على سبيل التعظيم والإجلال، وسبحوه بكرة وأصيلا، والذكر والتسبيح أعم من الصلاة وأشمل، والمراد بالبكرة والأصيل: أول النهار وآخره، وإن كان المقصود جميع الأوقات فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [سورة الروم الآيتان ١٧، ١٨].
هو الذي يصلّى عليكم أيها المؤمنون، وتصلى عليكم ملائكته، والصلاة من الله رحمة بنا، ومن الملائكة استغفار لنا، كل ذلك ليخرجكم من ظلمات النفس الأمارة بالسوء. ومن ظلمات الدنيا الغرور. ومن ظلمات وسوسة الشيطان. بما يهديكم ويرشدكم ويثنى عليكم ويوفقكم إلى طرق النور والعلم والإسلام والخير، وكان بالمؤمنين رحيما اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة ٢٥٧].
واذكروا أيها المؤمنون أن الله- سبحانه- لا ينساكم يوم القيامة بل هو صاحب الفضل عليكم يحيى عباده بالتحية المباركة الطيبة: تحيتهم يوم يلقونه سلام، سلام من الله وفضل عظيم، وأعد لهم وهيأ أجرا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه، وإنما هو أجر كريم يأتى العباد بلا طلب ولا تعب ولا مشقة. نسأله- سبحانه- أن يوفقنا للعمل حتى نكون مع هؤلاء في ذلك الأجر الكريم!!
بعض الآداب الإسلامية [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على الناس ترقب أحوالهم، وتشاهد أعمالهم، وتتحمل الشهادة على ما صدر عنهم من التصديق والتكذيب، وسائر الأعمال: تشهد عليهم وتؤدى الشهادة يوم القيامة بعد أن دعوتهم سرا وإعلانا ليؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة آية ١٤٣].
يا أيها النبي إن ربك أرسلك شاهدا على الناس يوم القيامة، ومبشرا من آمن بك بالجنة، ومنذرا من كفر بك أو عصاك بالنار، وداعيا إلى الله وإلى طاعته بإذنه وأمره، فلست مدعيا ولا متقولا بل كل هذا أمر الله وإذنه، وأنت أيها الرسول السراج المنير الذي يهدى الناس إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
أرسلك ربك لتفتح أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا، والسكينة والوقار لباسك، والبر شعارك، والتقوى زادك، والحكمة قولك، والصدق طبعك، والخلق الكريم خلقك، والحق والعدل شريعتك، وقد ألفت بهذا أمما متفرقة، وقلوبا متنافرة، وأنقذت بهذا فئات من الناس قد ضلوا من قبل سواء السبيل، حتى أصبحوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين صادقين مصدقين، يهدون بالحق وبه يعدلون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
فحقا لقد صدق الله إذ يقول: وبشر يا محمد المؤمنين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله، بشرهم بأن لهم من الله فضلا لا يعرف له قدره، فضلا من الله كبيرا، وأجرا من عند الله عظيما، ورزقا من الله كريما. وبعد هذا لا تطع الكافرين والمنافقين، ولا تأبه بهم ولا تعن بشأنهم، ودع أذاهم حتى تؤمر بما فيه علاجهم، وتوكل على الله وحده ناصرك وحافظك ومن توكل على الله فهو حسبه، وكفى بالله وكيلا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ الآية قد يقول قائل: وما مناسبة هذه الآية لما قبلها؟ وقد أجاب على ذلك الفخر
والمعنى المراد: إذا نكحتم المؤمنات وكذلك الكتابيات- وإنما تركهن ليعلم المؤمنون أن الأولى نكاح المؤمنات- ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن فليس لكم عليهن من عدة، إذ المطلقة قبل الدخول بها لا تحتاج إلى براءة رحم، وإنما المتوفى زوجها عدتها أربعة أشهر وعشر تفجعا على زوجها لا لبراءة الرحم إذ الرحم تبرأ بشهر أو بحيضة.
والواجب هو أن يمتّعن، أى: يعطين المتعة وهي نصف المهر إذا فرض لها مهر، أو أى شيء يستمتعن به جبرا لخاطرهن، وسرحوهن سراحا جميلا لا ألم فيه ولا تعذيب.
من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
أُجُورَهُنَّ: مهورهن أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ: رده يَسْتَنْكِحَها: ينكحها حَرَجٌ: إثم وضيق تُرْجِي: من الإرجاء وهو التأخير وَتُؤْوِي: تضم ابْتَغَيْتَ أى: طلبت عَزَلْتَ والعزلة: الإزالة والمراد عزلتها من القسمة.
المعنى:
يا أيها النبي إن الله أحل لك أن تتزوج من النساء اللاتي أعطيتهن مهورهن واللاتي تملكهن بيمينك من الفيء والغنيمة. وأحل الله لك من بنات أقاربك ما شئت من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك. وأحل الله لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها إليك. وأردت نكاحها خالصة من دون المؤمنين، كل ذلك لئلا يكون عليك حرج ولا إثم.
روى السدى عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه- لأننى كنت امرأة كثيرة العيال- فقبل عذري فأنزل الله هذه الآية. قالت: فلم أكن أحل له، لأننى لم أهاجر وكنت من الطلقاء.
ويؤكد هذا المعنى- أفضلية وأولوية تلك الأصناف- قوله تعالى: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأراد نكاحها خالصة له حتى تصير له زوجة، وللمؤمنين أما.
وقد ذكر القرطبي- رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية وجهين آخرين: أولهما أن الآية تفيد حل جميع النساء للنبي إذا آتاهن أجورهن، وعلى هذا فالآية مبيحة للنبي صلّى الله عليه وسلّم التزوج بمن شاء ما عدا المحارم لأنه لا جائز أن تفهم أن المراد أحل له أزواجه اللاتي هن معه لأن الحل يقتضى تقدم الحظر، ولا حظر موجود، وأيضا فلم يكن تحته من بنات عمه ولا عماته. ولا خاله ولا خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهؤلاء ابتداء، وعلى ذلك فالآية ناسخة- على رأى من يقول بالنسخ- لقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإن كانت متقدمة عليها.
وقيل المراد: أحللنا لك أزواجك اللاتي هن عندك فقط، وآتيتهن أجورهن لأنهن اخترنك وآثرن البقاء معك على الدنيا وزخرفها، والذي رجح هذا قوله- تعالى- آتيت أجورهن: لأن (آتى) فعل ماض ليس للمستقبل، ويؤيد هذا التأويل قول ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتزوج من أى النساء شاء، وكان يشق ذلك على نسائه.
فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمى سر نساؤه، وهذا رأى الجمهور، وفيه تضييق على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد رجح القول الأول القرطبي لما ذكرناه عنه، ولقول عائشة- رضى الله عنها-:
ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل الله تعالى له النساء. بقي ذكر بنات عمه
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [سورة الرحمن آية ٦٨]- الله أعلم بكتابه.
وإنما خص المهاجرات من الأقارب بجواز تزوج النبي منهن متى شاء لأن من لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لا يصلح للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كمل وشرف وعظم.
وهل يجوز نكاح الهبة؟ لقد أجمع العلماء أن هبة المرأة نفسها غير جائزة وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، وعند أبى حنيفة وصاحبه: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
لقد وهب كثير من النساء أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم،
وروى عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟ حتى أنزل الله- سبحانه وتعالى-: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ
فقالت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وروى البخاري أن خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله، وقيل الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قال الشعبي في قوله تعالى: ترجى من تشاء منهن.. الآية.. هن الواهبات أنفسهن وتزوج رسول الله منهن، وترك منهن، وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. وهذا هو المعقول، والآية سيقت توسعة على رسول الله.
وقيل: المعنى المراد هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخير مع أزواجه بين أن يقسم بالسوية أو يترك القسم إن شاء أرجأ وأخر بعضهن، وإن شاء آوى إليه وجمع بعضهن، ولكنه كان يقسم بالسوية، ويؤوى إليه الكل، دون أن يفرض الله عليه ذلك من قبل، وإنما فعل ذلك تطييبا لنفوسهن وصونا لها عن أحوال الغيرة التي قد تؤدى إلى ما لا تحمد عقباه.
ومن الأحكام الشرعية أن الرجل الذي يتزوج امرأتين واجب عليه أن يعدل بينهن بالسوية في كل شيء.
الله يعلم ما في قلوبكم، وكان الله عليما بكل شيء حليما في كل حكم.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.. في هذه الآية خلاف بين العلماء تبعا لما قالوا في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية.
فقال بعضهم: لا يحل لك النساء من بعد ما وصفنا وبينا لك من الأوصاف السابقة أما غيرهن من الكتابيات أو غير المهاجرات من أقاربك فلا يحل لك منهن أحد، وقال بعضهم: هذه منسوخة بالآية المتقدمة، وتقدمها في التلاوة لا يضر.
وقال بعضهم: لما اختار نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاته الشريفة جوزين على ذلك بتحريم غيرهن على النبي، وعدم طلاقهن منه، وجعلهن أمهات للمؤمنين، ذلك مكافأة لهن على ذلك.
ولا أن تبدل بهن من أزواج، أى: لا يحل طلاقهن وتزوج غيرهن، ولو كنت معجبا بحسنهن إلا ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك.
وكان الله على كل شيء رقيبا.
كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم
لقد تكلم بعض الناس في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وكثرتهن يرمون إلى أنه رجل شهوانى لا يعقل أن يكون نبيا!! حقيقة مات النبي عن تسع نسوة لكل واحدة ظرف خاص في زواجها لو عرفناه لحكمنا حكما صحيحا في هذا الموضوع. أما السيدة خديجة فقد تزوجها وسنه خمس وعشرون سنة وسنها أربعون سنة، ومع هذا الفارق الكبير فقد عاشا عيشة سعيدة حتى توفيت، وقد أمضى معها زهرة شبابه، إذ ماتت وهي في سن
ولا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش عيشة المترفين في بيته، فهذه عائشة يروى أنها قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار! فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء.
فعلى رسلكم أيها النقاد بغير علم، أو بعلم، وقد أعماكم هذا التعصب الذي يجعل القلوب في أكنة بعيدة عن نور الحق، هذه حياة النبي، وتلك ظروف زوجاته كلهن فما تزوج لجمال أو لشباب، أو لطلب رفاهية؟ وما كان صلّى الله عليه وسلّم مترفا في مأكل أو مشرب أو مسكن «تقول عائشة: لقد توفى رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي»، وكان الحصير يؤثر في جنبه صلّى الله عليه وسلّم
ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
إِناهُ: منتظرين نضجه، وأصل الكلمة من: أنى الشيء يأنى إناه: إذا حان إدراكه، وفي شرح القاموس: (أنى) بمعنى أدرك وبلغ. فَانْتَشِرُوا: اذهبوا حيث شئتم وتفرقوا. مَتاعاً المراد: ما يحتاج إليه وينتفع به من سائر المرافق.
هذه الآيات تضمنت أمرين مهمين:
أولهما: الآداب العامة عند الطعام والجلوس له.
ثانيهما: الحجاب وعدم الاختلاط، وقد نزلت الآيات في بيت النبي، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما الأمر الأول: فالجمهور من المفسرين على أن سبب النزول هو: لما تزوج النبي من زينب بنت جحش أولم عليها ودعا الناس، فلما طعموا جلس بعض الناس يتحدثون في بيت رسول الله، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط- إذ البيت عبارة عن حجرة واحدة- فثقلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أنس بن مالك: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج
وعن ابن عباس: أنها نزلت في أناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثمّ يأكلون ولا يخرجون. وقال بعضهم: هذا أدب أدب الله به الثقلاء.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا في حال قد أذن لكم فيه إلى طعام غير منتظرين نضجه، أى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا في وقت الإذن لكم إلى طعام، ولا تدخلوه إلا غير منتظرين إناه، ولكن إذا دعيتم إلى الطعام وأذن لكم في الدخول فادخلوا فإذا طعمتم فاذهبوا متفرقين، ولا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل بعضهم في وليمة زينب جحش.
إن ذلكم كان يؤذى النبي، وأى إيذاء أكبر من بقاء عامة الناس في بيت الزوجية؟
الذي هو حق لها، وسكن الزوج مع زوجته، وكان النبي يستحى ويمتنع من إظهار ألمه لكم، ولكن الله لا يستحيى من إظهار الحق. بل يبين للناس ما به يتأدبون بأدب القرآن فاعلموا أن هذا الانتظار خطأ وحرام عليكم فلا تعودوا لمثله أبدا.
روى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت الآية.
وانظر إلى القرآن وهو يعالج أمر الحجاب مبتدئا بأمهات المؤمنين اللائي هن أطهر النساء وأعفهن، حتى نتبصر في أمرنا حينما يقال لنا: إنا نختلط ولا يحصل شيء أبدا، ولست أدرى: ما سبب الحوادث التي نقرؤها كل يوم في الجرائد عن الخيانات والقتل والطلاق؟! أليس مرجعها كلها إلى ضعف الوازع الديني وإلى الاختلاط في البيوت والشارع بل وفي المقاهى والمسارح والمصايف؟!
ذلكم، أى: ما ذكر من الاستئذان قبل الدخول، وعدم الاستئناس للحديث، وسؤال المتاع من وراء الحجاب ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر التي تعرض لكل رجل وامرأة إذا اختلى بها، وذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة وأمنع في الحصانة.
أليس هذا دليلا على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن وأحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
وإذا كان هذا حال الرعيل الأول من المسلمين فما بالنا اليوم؟ اللهم نسألك اللطف والهداية والرحمة.
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا ينبغي منكم ذلك.
وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، فإنهن أمهات المؤمنين، ولا يليق بكم أن تفعلوا ذلك أبدا. وهذه الآية رد على من قال: إذا مات رسول الله أتزوج عائشة من بعده، إن ذلكم المذكور من ألم رسول الله بدخول الناس بدون إذن أو مكثهم لغير حاجة أو طلبهم نكاح أزواجه من بعده، إن ذلكم كان عند الله عظيما، فلا ذنب أعظم منه، وهذا يفيد أن هذه من الكبائر، واعلموا أن الله يعلم الغيب والشهادة وهو العليم بذات الصدور، فإن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليم، وسيجازى عليه.
ولما نزلت آية الحجاب تساءل بعض أقارب أمهات المؤمنين: أنحن نكلمهم من وراء حجاب؟ فرد الله عليهم بقوله: لا جناح عليهن ولا إثم في أن يكلمن آباءهن أو أبناءهن، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، وكذا بقية المحارم التي ذكرت في سورة النور كالعم والخال مثلا.
واتقين الله- أيها النساء- فأنتن سبب الاختلاط، وعليكن الوزر الأكبر فيه، إذ المرأة هي التي تستطيع رد الرجل، ويستحيل عليه أن يتمكن منها إلا برضاها، ولذا خصهن بالأمر بالتقوى، إن الله كان على كل شيء شهيدا ورقيبا، فاحذروه، واتقوه، واعلموا أنّه يراكم ويحصى عليكم أعمالكم.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
المفردات:
لَعَنَهُمُ اللَّهُ: أبعدهم وطردهم من رحمته مُهِيناً: غاية في الإهانة مُبِيناً: بينا واضحا.
المعنى:
وهذه الآية قد أظهرت الرسول، وأبانت مكانته عند الله وعند ملائكته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والصلاة من الله على نبيه رحمة ورضوان، ومن الملائكة دعاء واستغفار، ومن الأمة دعاء وتعظيم للنبي، وصلاتنا عليه صلّى الله عليه وسلّم بل وصلاة الملائكة بعد هذا الشرف العالي بالصلاة عليه من المتعالي- جل جلاله- لإظهار مكانته عند ربه. ولننال شرف الصلاة عليه وثوابها الجزيل،
فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من صلّى علىّ صلاة صلّى الله عليه عشرا»
، وكفاه شرفا أن الله وملائكته يصلون عليه، ولا عجب إذ يوجبها الشافعى في الصلاة ويعد الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركنا من أركانها، وإن خالفه في ذلك أكثر الأئمة.
أما كيفية الصلاة على النبي فصل بأى صيغة شئت، والوارد
أن مالكا روى عن أبى مسعود الأنصارى قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلى عليك يا رسول الله فكيف نصلى عليك؟ قال:
فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا:
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مّجيد. والسّلام كما قد علمتم»
أى: في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
هذه مكانة أشرف الخلق على الله وفضل الصلاة عليه، وهم كما يقولون: الضد أقرب خطورا بالبال، فما جزاء من يؤذيه، ولا يصلى عليه؟
أما من يؤذى الله ورسوله فالويل ثم الويل له ألف مرة ومرة، إنما جزاؤه لعنة الله وطرده من رحمته، ويا له من جزاء قاس يناسب هذا الجرم وفي الآخرة أعد له عذاب شديد ذو إهانة وقسوة.
من يؤذى الله بالإشراك به ونسبة ما لا يليق له والكذب عليه، وعدم الامتثال لأمره، ومخالفة رسله، وإيذاء الرسول بوصفه بما لا يليق، والهجوم عليه، وعدم الامتثال له وتكذيبه والطعن في آل بيته، والكلام في حقه وعدم الرضا بفعله، كل هذا إيذاء لله ورسوله عليه الجزاء الشديد في الدنيا والآخرة.
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير جرم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه إيذاء بالظلم لا بالحق، وهم بهذا الوصف وهو الإيمان، أى: لأجله، هؤلاء قد احتملوا إثما كبيرا هو كإثم البهتان والكذب على الله.
ولا يدخل في ذلك من يقوم.. بالرعاية والتأديب فيقسو لغرض شريف.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
المفردات:
يُدْنِينَ الإدناء: التقريب، والمراد الإرخاء والسدل جَلَابِيبِهِنَّ: جمع جلباب وهو الثوب الذي يستر جميع البدن.
المعنى:
توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تسع من النساء هن عائشة، وحفصة، وأم حبيبة.
وسودة، وأم سلمة، وميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وصفية بنت حيي ابن أخطب الهارونية.
وأما أولاده فسبعة: ثلاثة ذكور، وهم القاسم، وعبد الله وأمهما خديجة، وإبراهيم وأمه مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم القبط بمصر، وأربع إناث وهن فاطمة الزهراء- رضى الله عنها- وزوجها على بن أبى طالب وأمها خديجة، وزينب وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، ورقية زوجها عثمان بن عفان، وماتت والنبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة بدر، وأم كلثوم تزوجها عثمان بعد وفاة أختها ولذا سمى بذي النورين وتوفيت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فكل أولاده صلّى الله عليه وسلّم الذكور والإناث من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية، وقد فارقن الحياة قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا فاطمة الزهراء فماتت بعد النبي وهي أول من لحق به من آل بيته الكرام- رضى الله عنهم جميعا- فتلك ذرية بعضها من بعض.
وقد جاء الإسلام دين السلام ودعوة الحق والتحرر من قيد التقليد الأعمى، والانطلاق نحو المثل العليا وتكوين المجتمع الصالح، المؤسس على تقوى من الله ورضوان.
جاء الإسلام فخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا في شأن أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة ليعلم الكل أن هذا علاج مر. وأنه لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال، وحقا لا يستطيع تأديب زوجته وأخته وبنته، وكبح جماح الغريزة التي تدعو إلى التبرج والظهور إلا كل رجل! وكفى!!..
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فيسترن أجسامهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق، ويرى بعضهم أن ستر الوجه إنما يكون عند الفتنة، ولا يبدين زينتهن، أى: موضعها إلا لمحارمهن التي ذكرت في سورة النور، آية ٣١.
أمر الله تعالى جميع النساء بالستر وإن ذلك لا يكون إلا بما يستر بدنها، إلا إذا كانت المرأة مع زوجها وفي بيتها، فلها أن تلبس ما تشاء لأن لزوجها أن يستمتع بها كيف شاء! يا نساء المؤمنين اسمعن ما نصح به النبي بعض أصحابه:
روى أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبطية فقال:
«اجعل صديعا- نصفا- لك قميصا ولصاحبتك صديعا تختمر» ثم قال له: «مرها تجعل تحتها شيئا لئلّا يصف..».
وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهنّ مثل أسنمة البخت- نوع من الإبل- لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها».
وقال عمر- رضى الله عنه-: ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها وأطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.
أيتها المؤمنات: إن الدين حينما يفرض الحجاب، ويوصى بالستر التام للجسم كله إنما يهدف إلى عدم الإيذاء لكن، فكم من امرأة عفيفة ظهرت في الشارع سافرة فلاقت من الأذى ما لاقت! وإنى لأعجب حينما نرى بعض نساء المؤمنين في الشارع قد برزن بروزا يلفت النظر، خرجن كاشفات عن مواضع في أجسامهن لا يليق بهن أبدا كشفها.
أفيليق من المرأة المؤمنة أن تخرج كاشفة عن وجهها ورأسها وثديها وساقها وإبطها، وتستر الباقي بثوب شفاف يظهر ثديها؟.. وايم الحق قد ترى حلمة الثدي وموضع السرة!!..
يا لله للمسلمين والمسلمات!! يا نساء المسلمين إن جاز هذا من غيرنا فليس يجوز أبدا منا!! يا نساء المؤمنين ليس في الكشف عن العورة فائدة أبدا بل هناك الضرر كل الضرر..
يا نساء المؤمنين كل بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها.
يا نساء! إن في ستر العورة منعا للفتنة، ومدعاة للعفة وبعدا عن مظان التهمة، وحفظا لكن من تعرض الفساق وإيذائهم بالرفث وفحش القول.
يا أيها المؤمنون اعلموا أنكم المطالبون بستر عورات نسائكم، فأنتم مع الرسول مخاطبون يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية.. فلا يعتذرن أحد، ولا يلقين أحد تبعة هذا على النساء وحدهن!! أيتها الأخت المسلمة: كوني مثلا أعلى للمسلمات، واحذرى الشيطان وفتنة المجتمع المنحل الذي تعيشين فيه، وتذرعى بالصبر، واعلمي أنه لا يزال في الأمة من يقدر العفاف والأدب وحسن السيرة! وإنى أختتم هذا بأن أدعو الله أن يرزقنا التوفيق والسداد فهو ربنا الرحمن الرحيم بنا،
هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
المفردات:
مَرَضٌ المراد: مرض الفسوق والعصيان وَالْمُرْجِفُونَ: الإرجاف والرجفان الاضطراب الشديد، والمراد المتلمسون الفتنة المشيعون للأكاذيب والأباطيل لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لنسلطنك عليهم.
المعنى:
وهذه آية نزلت في المنافقين كاشفة حالهم، هاتكة سترهم، مهددة لهم، وأى تهديد أكثر من قوله: لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا؟! وقد أجمع المفسرون تقريبا على أن هذه الأوصاف الثلاثة- النفاق، ومرض القلب والإرجاف- لشيء واحد، ولا شك أن من لوازم النفاق مرض القلب فهما
على أن المنافقين قوم برزوا في إظهار مرض القلب الذي ينشأ عنه كل إثم وفسوق وعصيان، وخاصة تتبع النساء والتعرض لهن بالسوء، وإغرائهن على الفاحشة، وفيهم قوم برزوا في الإرجاف وإذاعة السوء، وإذاعة الأكاذيب التي تفت في عضد الجماعة، وتقتل فيهم روح الإقدام، وكانوا ينتهزون فرص الحرب والقتال فيذيعون كل ضار ومفسد.
ولقد أقسم الله بنفسه مهددا لهم: لئن لم يكف هؤلاء المنافقون عن نفاقهم، وينتهوا عن أعمالهم القبيحة التي تنشأ عن مرض القلب وسوء القصد، وفساد النفس، ولئن لم يبتعدوا عن الإرجاف في المدينة بالسوء، لئن لم ينتهوا عن ذلك لنغرينك بهم!! إنه لتصوير بديع جدا حيث أبرز الرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه أسد مفترس أمامه فريسته ضعيفة مهينة، وهو ممنوع منها.
ثم هم بعد ذلك لن يجاوروك في تلك المدينة التي جئتها مهاجرا إلا زمنا قليلا، وقد كان ذلك كذلك.
وهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله ومنبوذون من الناس حيث عرفوا وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [سورة التوبة آية ٨٤].
أينما ثقفوا ووجدوا أخذوا بالضرب والتنكيل والاحتقار، وهذا جزاء النفاق وهم يقتلون تقتيلا حيثما وجدوا، ولا غرابة في ذلك، فالأمم الحديثة الآن لا تعرف الرحمة مع الجواسيس والخارجين على الدولة الذين يطعنون من الخلف، ويتعاونون مع العدو مع تظاهرهم بالإخلاص.
وتلك سنة الله مع المنافقين في كل زمن، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولا تغييرا.
يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «وفي الآية جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات، أى: النبي».
ولعل السر في وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو الفعل، والتعرض بالسوء لنسائه وبيته، وعدم امتثال أمر الله مطلقا وخاصة في ستر
وهذا جزاء الكافرين [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
المفردات:
سادَتَنا: جمع سيد، وهو كبير قومه ضِعْفَيْنِ: مثلين.
المعنى:
كان النبي يتوعد الكفار والفساق بعذاب شديد يوم الساعة، فكانوا يسألون عن الساعة استبعادا لها وتكذيبا، لأنهم كانوا ينكرون البعث ويقولون: ما يهلكنا إلا الدهر.
فيرد الله عليهم آمرا نبيه أن يقول لهم: قل لهم: إنما علمها عند الله فهو الذي يعلم
لقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى.
إن الله لعن الكافرين وطردهم من رحمته وأعد لهم عذاب جهنم، نارا مسعرة خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا يلي أمورهم، ولا نصيرا ينصرهم يوم تقلب وجوههم في النار التي وقودها الناس والحجارة، وخصت الوجوه بالذكر لأنها طالما عصت ربها، وآذت رسوله، وتكبرت على عباده المؤمنين.
واذكر يوم يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول!! ندموا على ما فرط منهم حين رأوا العذاب المعد لهم، ندموا ولات ساعة مندم؟
وقالوا معتذرين: يا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فهم الذين قادونا إلى هذا العذاب وأضلونا عن سواء السبيل.
ربنا آتهم ضعفين من العذاب، ضعف لكفرهم، وسوء أعمالهم، وضعف لأنهم أضلونا وقادونا إلى هذا. ربنا اطردهم من رحمتك وأبعدهم عن جنابك بعدا كبيرا فهم يستحقون ذلك، وكثيرا ما ينازعون، ويلقى كل منهم التبعة على الآخر والكل سواء في العذاب المهين لأن الله خلق عقلا وفكرا مستقلا فآثر طريق الشيطان والهوى على طريق الحق والهدى فكان هذا جزاءه ومأواه، وبئس مأوى الظالمين مأواهم.
توجيهات وعظات [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
وَجِيهاً الوجيه: العظيم القدر، الرفيع المنزلة، المعروف بكرم الفعال سَدِيداً: صوابا.
المعنى:
سبق أن بين الحق- تبارك وتعالى- أن إيذاء الله يوجب اللعن والطرد من رحمة الله، وهذا الإيذاء يجر إلى الكفر، وهناك نوع منه يجر إلى الإثم، نهى الله المؤمنين عنه قائلا:
يا أيها المؤمنون لا تتقدموا إلى رسولكم بإيذاء أيا كان نوعه حتى لا تكونوا كالذين آذوا موسى، فبرأه الله مما قالوا، وأعد لمن آذاه عذابا شديدا. وكان موسى عند الله وجيها.
وقد ورد أن بعض الناس لم يرض بقسمة الرسول، وبحكمه في الفيء، وهذا بلا شك إيذاء.
أما إيذاء موسى فحسبك ما رواه القرآن من أن بعض بنى إسرائيل قالوا لموسى:
اذهب أنت وربك فقاتلا. وقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وقولهم: لن نصبر على طعام واحد، وقيل: إنهم كانوا يصفونه بأنه آدر.
فأراد الله- سبحانه وتعالى- أن يرشد المؤمنين إلى طريق الخير، وينبههم إلى مواضع الخطر، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل مع موسى، فإذا أمرهم الرسول بقتال لا يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولا يليق بالمؤمنين أن يسألوا ما لم يؤذن لهم فيه،
فاحذروا أيها المؤمنون، ولا تكونوا كمن سبقكم، فهذا الرسول الكريم على الله مبرأ من كل دنس وعيب وآل بيته الكرام، فكفوا عن الأذى، واتبعوا ما أنزل عليكم، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
ويا أيها المؤمنون اتقوا الله، وقولوا قولا سديدا، قولا صوابا فيه خيركم، ولا تقولوا ما فيه ضلالكم وما به عذابكم من كل قول فيه إثم وفحش وزور وبهتان، فإن تتقوا وتصلحوا أنفسكم، وتقولوا الخير كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: يصلح لكم أعمالكم في الدنيا والآخرة ويغفر لكم ذنوبكم.
فيا عباد الله: إن تتقوا الله يصلح لكم أعمالكم، ويمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله في الآخرة، والله على كل شيء قدير، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أمانة التكاليف وحملها [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
وهذا ختام رائع لتلك السورة التي جمعت أوامر عالية، وآدابا سامية وحكما ومواعظ رائعة كلها من تكاليف الإسلام بل هي لبابه، وفي هذه الآيات بيان أن التكاليف ليست هينة، وإنما هي عظائم الأمور التي نأت عنها السموات والأرضون.
المعنى:
إنا عرضنا الأمانة- التكاليف كلها من طاعات وفرائض- عرضناها على السموات والأرض والجبال فلم تطقها وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان على ما بها إنه كان ظلوما جهولا.
الله- سبحانه وتعالى- عرض التكاليف على السموات وما فيها، والأرض وما عليها من جبال وسهول ونبات وغيره، فأدت ما طلب منها فورا، وأبت كل هذه الأشياء أن تحمل الأمانة وتؤخر الوفاء بها، ألا ترى إلى الملائكة؟! هل هم يحملون الأمانة؟ أم هم يقومون بما عليهم فورا، ولا يحملون شيئا، الملائكة على هذا الاعتبار لم يحملوا الأمانة، ولأضربن لك مثلا بسيطا: إذا وجب الظهر وجبت عليك صلاته في وقته، فإن أديته فورا صدق عليك أنك لم تحمل أمانته بل أديتها في وقتها كالرجل الذي عنده وديعة إلى أجل إذا حل الأجل لم يحملها، بل يعطيها لصاحبها، وإذا تأخرت عن الصلاة حتى فات الوقت كنت حاملا للأمانة، والله أعلم. فالسماوات والأرض والجبال ومن فيهن وما عليهن لا يحملون الأمانة أبدا بل يقومون بما طلب منهم فورا ساعة طلبه.
أما الإنسان، أى: بعضه فقد حمل الأمانة على ما بها من جزاء العاملين وعذاب المقصرين بهذا المعنى السابق، ولم يأب حملها، ولم يشفق منها ومن عذابها إنه كان ظلوما لنفسه جهولا لم يعمل ما يقيه من العذاب المعد لمن خان الأمانة، ولم يوف بالعهد.
وكان من نتائج أن الله حمله تلك التكاليف فحملها: أن الله يعذب المشركين والمنافقين على أعمالهم السيئة، وعلى خيانتهم للأمانة وعدم وفائهم بالعهود.
وكان من نتائج ذلك أيضا أن الله يتوب على المؤمنين، ويثيبهم على ما عملوا من صالح الأعمال، وعلى ما أدوا من أمانات ووفوا بالتزامات، وكان الله غفورا رحيما.