تفسير سورة سبأ

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يَلِجَ﴾ يدخل الولوج الدخول ومنه ﴿حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ [الأعراف: ٤٠] ﴿يَعْرُجُ﴾ يصعد ومنه المعراج لأنه صعودٌ إِلى السموات. ﴿يَعْزُبُ﴾ يغيب يقال: عزب عن عينه أي غاب عنها. ﴿مِثْقَالُ﴾ وزن ومقدار. ﴿جِنَّةٌ﴾ بكسر الجيم بمعنى الجنون وبضمها بمعنى الوقاية والحجاب. ﴿كِسَفاً﴾ قطعاً. ﴿أَوِّبِي﴾ سبحي والتأويب: التسبيح. ﴿سَابِغَاتٍ﴾ واسعات كاملات يقال: سبغ الدرعُ والثوبُ إذا غطَّى كل البدن وفضل منه شيء قال أبو حيان: السابغات: الدروع وأصله الوصف بالسبوغ وهو التمام والكمال، وغلب على الدروع فصار كالأبطح، قال الشاعر:
عليها أُسوٌ ضارياتٌ لبُوسُهم سوابغُ بيضٌ لا يخرقها النَّبل.
﴿السرد﴾ النسج، وهو نسج حلق الدروع قال القرطبي: وأصله من الإِحكام، قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفاً أسراده لينال طول العيش غير مروم
﴿القطر﴾ النحاس المذاب. ﴿جِفَانٍ﴾ جمع جفنه وهي القصعة الكبيرة. ﴿الجواب﴾ جمع جابية وهي الحوض الكبير يجمع فيه الماء، قال الأعشى:
نفى الذم عن آل المحلَّق جفنةٌ كجابية الشيخ العراقي تفهق
﴿مِنسَأَتَهُ﴾ المنسأة: العصا سميت بذلك لأنه يُنسأ بها أي يُطرد ويزجر، قال الشاعر:
499
التفسِير: ﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي الثناء الكامل على جهة التعظيم والتبجيل لله الذي له كل ما في الكمون خلقاً وملكاً وتصرفاً، الجميع ملكه وعبيده وتحت قهرهوتصرفه، فله الحمد في الدنيا لكمال، قدرته، وفي الآخرة لواسع رحمته ﴿وَلَهُ الحمد فِي الآخرة﴾ أي وله الحمد بأجمعه لا يستحقه أحد سواه، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ﴿وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ أي الحكيم في صنعه، الخبير بخلقه، فلا اعتراض عليه من فعلٍ من أفعاله ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ تفصيل لبعض معلوماته جلَّ وعلا أي يعلم ما يدخل في جوف الأرض من المطر والكنوز والأموات، وما يخرج من الأرض من الزروع والنباتات وماء العيون والأبار ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي وما ينزل من السماء من المطر والملائكة والرحمة، ما يصعد إليها من الأعمال الصالحات، والدعوات الزاكيات ﴿وَهُوَ الرحيم الغفور﴾ أي الرحيم بعباده، الغفور عن ذنوب التائبين حيث لا يعالجهم بالعقوبة، ثم حكى تعالى مقالة المنكرين للعبث والقيامة فقال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة﴾ أي وقال المشركون من قومك لا قيامة أبداً ولا بعث ولا نشور، قال البيضاوي: وهو إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاءً بالوعد به ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ قل لهم يا محمد: أقسم بالله العظيم لتأتينكم الساعة، فإنها واقعة لا محالة، قال ابن كثير: هذه إحدى الآيات الثلاث التي أمر الله رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوعها، والثانية في يونس
﴿قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [يونس: ٥٣]، والثالثة في التغابن ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧] ﴿عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ أي هو جل وعلا العالمُ بما خفي عن الأبصار، وغاب عن الأنظار، لا يغيب عنه مقدار وزن الذرة في العالم العلوي أو السفلي ﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ﴾ أي ولا أصغر من الذرة والا أكبر منها ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي إلا ويعلمه الله تعالى وهو في اللوح المحفوظ، والغرضُ أن الله تعالى لا تخفى عليه ذرة في الكون فكيف يخفى عليه البشر وأحوالهم؟ فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو تعالى عالمٌ أين ذهبت وتفرقت، ثم يعيدها يوم القيامة ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي أثبت ذلك في الكتاب المبين لك يثيب المؤمنين الذين أحسنوا في الدار الدنيا بأحسن الجزاء ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق حسن كريم في دار النعيم ﴿والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي وأما الذين بذلوا جهدهم وجدّوا لإبطال القرآن مغالبين لرسولنا، يظنون أنهم يعجزونه بما يثيرونه من شبهات حول رسالته والقرآن ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ أي فهؤلاء المجرمون لهم عذاب من أسوأ العذاب، شديد الإِيلام، قال قتادة: الرجزُ: سوء العذاب ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم﴾ أي ويعلم أولو العلم من أصحاب النبي عليه السلام ومن جاء بعدهم من العلماء العاملين ﴿الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق﴾ أي يعلمون أن هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد هو الحق الذي لا يأتيه الباطل ﴿ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ أي ويرشد من تمسك به إلى طريق الله الغاللب الذي لا يُقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله، ثم ذكر تعالى أساليب المشركين في الصدِّعن دين الله،
500
والسخرية برسول الله فقال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي وقال الكافرون من مشركي مكة المنكرون للبعث والجزاء ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ﴾ أي هل نرشدكم إلى رجلٍ يحدثكم بأعجب الأعاجيب؟ يعنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي إذا بليتم في القبور، وتفرقت أجسادكم في الأرض، وذهبت كل مذهب بحيث صرتم تراباً ورفاتاً ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ؟ أي إِنكم ستخلقون خلقاً جديداً بعد ذلك التمزق والتفريق؟ والغرضُ من هذا المقال هو السخرية والاستهزاء، قال أبو حيان: والقائلون هم كفار قريش قالوه على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ ولما كان البعث عندهم من المحال جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، ونكّروا اسمه عليه ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ﴾ مع أن اسمه أشهر علم من قريش بطريق الاستهزاء ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي هل اختلق الكذب على الله، أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدري؟ قال تعالى رداً عليهم: ﴿بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ ﴿بَلِ﴾ للإِضراب أي ليس الأمر كما يزعمون من الكذب والجنون، بل الذي يجحدون البعث ولا يصدقون بالآخرة ﴿فِي العذاب والضلال البعيد﴾ أي بل هؤلاء الكفار من ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم عذاب النار، فهم واقعون في الضلال وهم لا يشعرون وذلك غاية الجنون والحماقة، ولما ذكر تعالى ما يدل على إثبات الساعة، ذكر دليلاً آخر يتضمن التوحيد مع التهديد فقال: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض﴾ أي ألم يشاهدوا ما هو محيط بهم من جميع جوانبهم من السماء والأرض؟ فإن الإِنسان أينما توجه وحيثما نظر رأى السماء والأرض أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، وهما يدلان على وحدانية الصانع، أفلا يتدبرون ذلك فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتتهم؟ ثم هددهم بقوله: ﴿إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ أي لو شئنا لخسفنا بهم الأرض كما فعلنا بقارون، أو أسقطنا عليهم قطعاً من السماء كما فعلنا بأصحاب الأيكة، فمن أين لهم المهرب؟ قال ابن الجوزي: المعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإن شئتُ أسقطت عليهم قطعة من السماء ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أي إن فيما يشاهدون من آثار القدرة الوحدانية لدلالة وعبرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله، متأمل فيما يرى، قال ابن كثير: يريد أن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخافضها وأطوالها وأعراضها، قادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام، ثم ذكر تعالى قصة داود وما خصَّه الله به من الفضل العظيم فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزة الله وجلاله لقد أعطينا داود منا فضلاً عظيماً واسعاً لا يُقدر، قال المفسرون: الفضل هو النبوة، والزبور، وتسخير الجبال، والطير وإلاَنة الحديد، وتعليمه صنع الدروع إلى غير ذلك ﴿ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير﴾ أي وقلنا يا جبال سبحي معه ورجّعي التسبيح إذا سبَّح وكذلك أنت يا طيور، قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبَّح، وكان إذا قرأ لم تبقَ دابةٌ إلا استمعت لقراءته وبكت
501
لبكائه ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد﴾ أي جعلنا الحديد ليناً بين يديه حتى كان كالعجين، قال قتادة: سخر الله له الحديد فكان لا يحتاج أن يُدخله ناراً، ولا يضربه بمطرقة، وكان بين يديه كالشمع والعجبين ﴿أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ﴾ أي اعمل منه الدروع السابغة التي تقي الإِنسان شر الحرب، قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، ويصنع الدرع في بعض يوم يساوي ألف درهم فيأكل ويتصدق، والسابغات صفة لموصوف محذوف تقديره دروعاتً سابغات، وفي الدروع الكوامل التي تغطي لا بسها حتى تفضل عنه فيجرها على الأرض ﴿وَقَدِّرْ فِي السرد﴾ أي وقدر في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقاتها، قال الصاوي: أي جعل كل حلقة مساوية لأختها ضيقة لا ينفذ منها السهم لغلظها، ولا تثقل حاملها واجعل الكل بنسبةٍ واحدة ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ أي واعملوا يا آل داود عملاً صالحاً ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي إني مطلع على أعمالكم مراقب لها وسأجازيكم بها، قال الإمام الفخر: ألاَن الله لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإنه يَلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد ذلك على قدرة الله وهو أول من صنع الدروع حلقاً وكانت قبل ذلك صفائح ثقالاً كما قال تعالى:
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠]، ثم ذكر تعالى ما أنعم به على ولده «سليمان» من النبوة والملك والجاه العظيم قال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ أي وسخرنا لسليمان الريح تسير بأمره، وسيرها من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر اللسائر المجد، ومن الظهر إلى الغروب مسيرة شهر، قال المفسرون: سخّر الله له الريح تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات معدودات، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلدٍ إلى بلد، تغدو به مسيرة شهر إلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر إلى آخر النهار، فتقطع به مسيرة شهرين في نهار واحد ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر﴾ أي وأذبنا له النحاس حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، قال المفسرون: أجرى الله لسليمان النحاس، كما ألاَن لداود الحديد، آية باهرة، ومعجزة ظاهرة ﴿وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي وسخرنا له الجن تعمل بأمره وإرادته ما شاء مما يعجز عنه البشر، وكل ذلك بأمر الله وتسخيره ﴿وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي ومن يعدل منهم عمّا أمرنا به من طاعة سليمان ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير﴾ أي نذقه النار المستعرة في الآخرة، ثم أخبر تعالى عما كلف به الجنُّ من الأعمال فقال: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ﴾ أي يعمل هؤلاء الجن لسليمان ما يريد من القصور الشامخة ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ أي والتماثليل العجيبة من النحاس والزجاج، قال الحسن: ولم تكن يومئذٍ محرمة، وقد حرمت من شريعتنا سداً للذريعة لئلا تُعبد من دون الله ﴿وَجِفَانٍ كالجواب﴾ أي وقصاعٍ ضخمة تشبه الأحواض، قال ابن عباس: «كالجواب» أي كالحياض ﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ أي وقدورٍ كبيرة ثابتات لا تتحرك لكبرها وضخامتها، قال ابن كثير: والقدور الراسياتُ أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ أي وقلنا لهم اشكروا
502
يا آل داود ربكم على هذه النعم الجليلة، فقد خصكم بالفضل العظيم والجاه العريض، واعملوا بطاعة الله شكراً له جل وعلا ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ أي وقليل من العباد من يشكر الله على نعمه، قال ابن عطية: وفيه تنبيه وتحريض على شكر الله، ثم أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان فقال: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت﴾ أي حكمنا على سليمان بالموت ونزل به الموت ﴿مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ أي ما دلَّ الجن على موته إلا تلك الحشرة وهي الأَرَضة السوسة التي تأكل الخشب تأكل عصا سليمان ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب﴾ أي فلما سقط سليمان عن عصاه ظهر للجن واتضح لهم أنهم لو كانوا يعرفون الغيب كما زعموا ﴿مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين﴾ أي ما مكثوا في الأعمال الشاقة تلك المدة الطويلة، قال المفسرون: كانت الإنس تقول: إن الجن يعلمون الغيب الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان في محرابه يصلى متوكئاً على عصاه، فمات ومكث على ذلك سنةً والجنّ تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته، حتى أكلت الأَرَضةُ عصا سليمان فسقط على الأرض فعلموا موته، وعلم الإنس أن الجنَّ لا تعلم الغيب لأنهم لو علموه لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة وهم يظنون أنه حي وهو عليه السلام ميت.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
١ - تعريف الطرفين لإفادة الحصر ﴿الحمد للَّهِ﴾ ومعناه لا يستحق الحمد الكامل إلا الله.
٢ - الطباق بين ﴿يَلِجُ.. و.. يَخْرُجُ﴾ وبين ﴿يَنزِلُ.. و.. يَعْرُجُ﴾ وبين ﴿أَصْغَرُ.. و.. أَكْبَرُ﴾.
٣ - صيغة فعيل وفعول للمبالغة ﴿وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ ﴿وَهُوَ الرحيم الغفور﴾ ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾.
٤ - المقابلة بين ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات..﴾ الآية وبين ﴿والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ فقد جعل المغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين، وجعل العذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين.
٥ - الاستفهام للسخرية والاستهزاء ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ﴾ وغرضهم الاستهزاء بالرسول ولم يذكروا اسمه إمعاناً في التجهيل كأنه إنسان مجهول.
٦ - التنكير للتفخيم ﴿آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ أي فضلاً عظيماً، وتقديم داود على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
٧ - الإِيجاز بالحذف ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ أي غدوها مسيرة شهر ورواحها مسيرة شهر.
٨ - التشبيه ﴿وَجِفَانٍ كالجواب﴾ ويسمى التشبيه المرسل المجمل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
503
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر «داود» و «سليمان» بيَّن حال الكافرين لأنعه بقصة سبإ، موعظةً لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى من المصائب والنكبات على من كفر بأنعم الله، ثم ذكَّر كفار مكة بنعمه ليعبدوه ويشكروه.
اللغَة: ﴿سَبَإٍ﴾ قبيلة من العرب سكنت اليمن سميت باسم جدهم «سبأ من يشجب بن قحطان». ﴿العرم﴾ الحاجز بين الشيئين، قال النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مُسنَّاة أي
504
حاجز فهو العرهم. ﴿خَمْطٍ﴾ الخمط: المرُّ البشع، قال الزجاج: كل نبتٍ فيه مرارةٌ لا يمكن أكله فهو خمط، وقال المبرد: هو كل ما تغيَّر إلى ما لا يُشتهى، واللبنُ إذا حمض فهو خمط. ﴿أَثْلٍ﴾ الأثل: شجر لا ثمر له، قال الفراء: وهو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولاً ومنه اتخذ منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والواحدة أثلة. ﴿سِدْرٍ﴾ قال الفراء: هو السَّرو، وقال الأزهري: السدر نوعان: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عصفة لا تؤكل، وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول. ﴿ظَهِيرٍ﴾ معين. ﴿الفتاح﴾ القاضي والحاكم بالحق.
التفسِير: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾ اللام موطئة للقسم أي والله لقد كان لقوم سبإ في موضع سكانهم باليمن آية عظيمة دالة على الله جل وعلا وعلى قدرته على مجازات المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فإن قوم سبإ لما كفروا نعمة الله خرَّ الله ملكهم، وشتَّت شملهم، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر، ثم بيَّن تعالى وجه تلك النعمة فقال: ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أي حديقتان عظيمتان فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار عن يمين الوادي بساتين ناضرة، وعن شماله كذلك، قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار، تسرُّ الناس بظلالها، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مِكْتل أو زنبيل، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه وقال البيضاوي: ولم يُرد بستانين اثنين فحسب، بل أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم، وجماعة عن شماله سميت كل جماعة منها جنة لكونها في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ﴿كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ﴾ أي وقلنا لهم على لسان الرسل: كلوا من فضل الله وإنعامه واشكروا ربكم على هذه النعم ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ أي هذه بلدتكم التي تسكنونها بلدةٌ طيبة، كريمة التربة، حسنة الهواء، كثيرة الخيرات، وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره ربٌ غفورٌ لمن شكره ﴿فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم﴾ أي فأعرضوا عن طاعة الله وشكره، واتباع أوامر رسله، فأرسلنا عليهم السيل المدمّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته، فغرَّق بساتينهم ودورهم، قال الطبري: وحين أعرضوا عن تصديق الرسل، ثُقب ذلك السدُّ الذي كان يحبس عنهم السيول، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها، وخرَّب أرضهم وديارهم ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ أي وأبدلناهم بتلك البساتين الغناء، بساتين قاحلة جرداء، ذات أُكل مرٍّ بشع ﴿وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها كشجر الأثل والسِّدر، قال الرازي: أرسل الله عليهم سيلاً غرَّق أموالهم، وخرَّب دورهم، والخمطُ كلُّ شجرة لها شوك وثمرتها مرة، والأثلُ نوع من الطرفاء، ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات، يكونه عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه: ﴿قَلِيلٍ﴾ لأنه كان أحسن أشجارهم، وقد بيَّن تعالى بالآية طريقة الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس تكون فيها
505
الفواكة الطيبة بسبب العمارة، فإذا تكرت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها، فتقل الثمار وتكثر الأشجار قال المفسرون: وتسمية البدل «جنتين» فيه ضربٌ من التهكم، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة ﴿ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إنما كان بسبب كفرهم ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ ؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إلا الكافر المبالغ في كفره، قال مجاهد: أي ولا يعاقب إلا الكفور، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته، والكافرُ يجازى بكل سوءٍ عمله ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمين إلى الشام، يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إلى منزلن ومن قرية إلى قرية ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار، قال الزمخشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخفاون شيئاً ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ إخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة، وملوا العافية، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فعجَّل الله إجابتهم، بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً ﴿وظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي جعلناهم أخباراً تُروى اللناس بعدهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي وفرقناهم في البلاد شذر ومذر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء، شاكر في النعماء، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حلّ بمن قبلهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي تحقق ظن إبليس اللعين في هؤلاء الضالين، حين ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم، وأقسم بقوله:
﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩] فتحقق ما كان يظنه، قال مجاهد: ظنَّ ظناً فكان كما ظن فصدَّق ظنَّه ﴿فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾ أي فاتبعه الناس فيما دعاهم إليه من الضلالة إلا فريقاً هم المؤمنون فإنهم لم يتبعوه، قال القرطبي: أي ما سلم من المؤمنين إلا فريق، وعن ابن عباس أنهم المؤمنون كلُّهم فتكون ﴿مِّنَ﴾ على هذا للتبيين لا للتبعيض، وإنما علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب، لأنه لمَّا نفذ له في آدم ما نفذ، غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته وقد وقع له تحقيق ما ظنَّ ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي وما كان لإِبليس تسلط واستيلاء عليهم بالوسوسة والإغواء {إِلاَّ لِنَعْلَمَ
506
مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي إلا لحكمة جليلة وهي أن نظهر علمنا للعباد بمن هو مؤمن مصدِّق بالآخرة، ومن هو شاك مرتاب في أمرها، فنجازي كلاً بعمله، قال القرطبي: أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين وقال الحسن: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ﴾ أي وربك يا محمد على كل شيء رقيب، لا تخفى عليه خافية من أفعال العباد، فهو الذي يحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم وأحوالهم، قال الصاوي: الشيطان سبب الإغواء لا خالق الإغواء، فمن أراد الله حفظه منع الشيطان عنه، ومن أراد إغواءه سلَّط عليه الشيطان، والكل فعل الله تعالى، وإنما سبقت حكمته بتسليط الشيطان على الإنسان ابتلاءً وامتحاناً ليميز الله الخبيث من الطيب، والمراد بقوله: ﴿لِنَعْلَمَ﴾ أي لنظهر للخلق علمنا، وإلا فالله تعالى عالم بما كان وما يكن ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من الأصنام، وزعمتم أنهم آلهة من دون الله، ادعوهم ليجلبوا لكم الخير، ويدفعوا عنكم الضرب، قال أبو حيان: والأمر بدعاء الآلهة للتعجيز وإقامة الحجة عليهم ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي لا يملكون وزن ذرة من خيرٍ أو نفع أو ضر ﴿فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ أي في العالم العلوي أو السفلي، وليسوا بقادرين على أمرٍ من الأمور في الكون بأجمعه ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ﴾ أي وليس لتلك الآلهة شركة مع الله لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ﴾ أي وليس له تعالى من الآلهة معينٌ يُعينه في تدبير أمرهما، بل هو وحده الخالق لكل شيء، المنفرد بالإيجاد والإعدام، ثم نفى عنها الخلق والملك، نفى عنها الشفاعة أيضاً فقال: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ أي لا تكون الشفاعة لأحدٍ عند الله من ملكٍ أو نبي، حتى يُؤذن له في الشفاعة، فكيف يزعمون أن آلهتهم يشفعون لهم؟ قال ابن كثير: أي أنه تعتالى لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحدٌ أن يشفع عنده في شيءٍ إلا بعد إذنه له في الشفاعة كقوله:
﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] وإنما كانت الشفاعة لسيد ولد آدم إظهاراً لمقامة الشريف، فهو أكبر شفيع عند الله، وذلك حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم ﴿حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ أي حتى إذا زال الفزع والخوف عن قلوب الشفعاء، من الملائكة والأنبياء ﴿قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق﴾ أي قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في أمر الشفاعة؟ فأجابوهم بقولهم: قد أذن فيها للمؤمنين، قال القرطبي: إن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة، وهم على غاية الفزع من الله، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل، والخوف الشديد أن يقع منهم تقصير، فإذا سُرِّي عنهم قالوا للملائكة فوقهم: ماذا قال ربكم؟ أي بماذا أمر الله؟ قالوا: الحقَّ أي إنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين ﴿وَهُوَ العلي الكبير﴾ أي هو تعالى المتفرد بالعلو والكبرياء، العظيم في سلطانه وجلاله، قال أبو السعود: وهذا من تمام كلام
507
الشفعاء، قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب الله عزو جل، فليس لأحدٍ أن يتكلم إلا بإذنه، ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق فقال: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض﴾ أي قل لهم يا محمد من الذي يرزقكم من السموات بإِنزال المطر، ومن الأرض بإخراج النبات والثمرات؟ ﴿قُلِ الله﴾ أي قل لهم: الله الرازق لا آلهتكم، قال ابن الجوزي: وإنما أُمطر عليه السلام أن يسأل الكفار عن هذا احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة، وهم لا يثبتون رازقاً سواه، ولهذا جاء الجواب ﴿قُلِ الله﴾ لأنهم لا يجيبون بغير هذا ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي وأحد الفريقين منا أو منكم لعلى هدى أو ضلال بيِّن، وهذا نهاية الإنصاف مع الخصم، قال أبو حيان: أخرج الكلام مخرج الشك، ومعلوم أن من عبد الله وحده كان مهتدياً، ومن عبد غيره من جماد كان ضالاً، وفي هذا إنصافٌ وتلطفٌ في الدعوى، وفيه تعريضٌ بضلالهم وهو أبلغ من الردّ بالصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، مع تيقين أن صاحبه هو الكاذب ﴿قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي لا تؤاخذون على ما ارتكبنا من إجرام، ولا نؤاخذ نحن بما اقترفتم، وإنما يعاقب كل إنسان بجريرته، وهذا ملاطفة وتنزُّلٌ في المجادلة إلى غاياة الإنصاف، قال الزمخشري: وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول، حيث أسند الإِجرام لأنفسهم والعمل إلى المخاطبين ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق﴾ أي يجمع الله بيننا وبينكم يوم القيامة ثم يحكم بيننا ويفصل بالحقِّ ﴿وَهُوَ الفتاح العليم﴾ أي وهو الحاكم العادل الذي لا يظلم أحداً، العالم بأحوال الخلق، فيدخل المحقَّ الجنة، والمبطل النار ﴿قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ﴾ توبيخٌ آخر على إشراكهم وإظهارٌ لخطئهم العظيم أي أروني هذه الأصنام التي ألحقتموها بالله وجعلتموها شركاء معه في الألوهية، لأنظر بأي صفةٍ استحقت العبادة مع الذين ليس كمثله شيء؟ قال أبو السعود: وفيه مزيد تبكيتٍ لهم بعد إلزام الحجة عليهم ﴿كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم﴾ ردعٌّ لهجر وزجر أي ليس الأمر كما زعمتم من اعتقاد شريك له، بل هو الإِله الواحد الأحد، الغالب على أمره، الحكيم في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه أبداً ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي وما أرسلناك يا محمد للعرب خاصة وإما أرسلناك لعموم الخلق، مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكنَّ هؤلاء الكافرين لا يعلمون ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغيّ والضلال ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطاب للنبي والمؤمنين ﴿قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي لكم زمان معيَّن للعذاب يجيء في أجله الذي قدَّره الله له، لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يتقدم لرجاء أحد، فلا تستعجلوا عذاب الله فهو آتٍ لا محالة، ثم أخبر تعالى عن تمادي المشركين في العناد والتكذيب فقال {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن
508
وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لن نصدِّق بالقرآن ولا بما سبقه من الكتب السماوية الدالة على البعث والنشور ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي ولو شاهدت يا محمد حال الظالمين المنكرين للبعث والنشور في موقف الحساب ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول﴾ أي يلوم بعضهم بعضاً ويؤنب بعضهم بعضاً، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف للتهويل تقديره لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً ﴿يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ أي يقول الأتباع للرؤساء: لولا إضلالكم لنا لكنا مؤمنين مهتدين ﴿قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ﴾ ؟ أي قال الرؤساء جوباً للمستضعفين: أنحن منعناكم عن الإشيمان بعد أن جاءكم؟ لا، ليس الأمر كما تقولون ﴿بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ﴾ أي بل أنتم كفرتم من ذات أنفسكم، بسبب أنكم مجرمين راسخين في الإِجرام ﴿وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار﴾ أي وقال الأتباع للرؤساء: بل مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي صدَّنا عن الإِيمان ﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً﴾ أي وقت دعوتكم لنا إلى الكفر بالله، وأن نجعل له شركاء، ولولا تزيينكم لنا الباطل ما كفرنا ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أي أخفى كل من الفريقين الندامة على ترك الإِيمان حين رأوا العذاب، أخفوها مخافة التعيير ﴿وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي وجعلنا السلاسل في رقاب الكفار زيادةً على تعذيبهم بالنار ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يجزون إلا بأعمالهم التي عملوها ولا يعاقبون إلا بكفرهم وإجرامهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآية الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين لفظ ﴿يَمِينٍ.. و.. شِمَالٍ﴾ وبين ﴿بَشِيراً.. و.. نَذِيراً﴾ وبين ﴿تَسْتَقْدِمُونَ.. و.. تَسْتَأْخِرُونَ﴾ وبين ﴿استضعفوا.. و.. استكبروا﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير سِيرُواْ﴾ فإن كلمة ﴿سِيرُواْ﴾ مشقتة من السير.
٣ - التعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع ولا يحس ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله﴾.
٤ - التوبيخ والتبكيت ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض﴾ ؟.
٥ - حذف الخبر لدلالة السياق عليه ﴿قُلِ الله﴾ أي قل الله الخالق الرازق للعباد ودل على المحذوف سياق الآية.
٦ - المبالغة بذكر صيغ المبالغة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ فإن فعَّال وفعيل وفعول من صيغ المبالغة ومثلها ﴿وَهُوَ الفتاح العليم﴾.
٧ - حذف الجواب للتهويل والتفزيع ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ حذف الجواب للتهويل أي لو ترى حالهم لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً.
٨ - المجاز العقلي ﴿بَلْ مَكْرُ اليل والنهار﴾ أسند المكمر إلى الدليل والمراد مكر المشركين بهم في الليل ففيه مجاز عقلي.
509
٩ - الاستعارة ﴿لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ليس للقرآن يدان ولكنه استعارة لما سبقه من الكتب السماوية المنزلة من عند الله.
١ - مراعاة الفواصل لما لها من وقع حسن على السمع مثل ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور.. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ الخ.
510
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى قصة أهل سبإ وكفرهم بنعم الله، وما أعقب ذلك من تبديل النعمة إلى النقمة، ذكر هنا اغترار المشركين بالمال والبنين، وتكذيبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وختم السورة الكريمة ببيان مصرع الغابرين، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه سلم وتخويفاً وتحذيراً للمشركين.
510
اللغَة: ﴿مُتْرَفُوهَآ﴾ المترف: المنعَّم المتقلب في الغنى والعز والجاه. ﴿يَبْسُطُ﴾ يوسّع. ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يقتَّر. ﴿زلفى﴾ قربى. ﴿إِفْكٌ﴾ كذب مختلق. ﴿مِعْشَارَ﴾ المعشار: العُشر، قال الجوهري: ومعشار الشيء عشره، فهما لغتان. ﴿نَكِيرِ﴾ أصلها نكيري حذفت الياء لمراعاة الفواصل، قال الزجاج: النكير: اسم بمعننى الإِنكار. ﴿جِنَّةٍ﴾ بكسر الجيم أي جنون. ﴿فَوْتَ﴾ نجاة ومهرب. ﴿التناوش﴾ التناول، قال الزمخشري: والتناوش والتناول أخوان، إلا أن التناوش تناولٌ سهلٌ لشيء قريب، ومنه المناوشة في القتال وذلك عند تداني الفريقين، قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذه ناشَه.
التفسِير: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ﴾ أي لم نبعث في أهل قريةٍ رسولاً من الرسل ينذرهم عذابنا ﴿إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ﴾ إي إلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ أي لا يؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به، قال قتادة: المترفون هم جبابرتهم وقادتهم ورؤساؤهم في البشر، وهم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء، والقصد بالآية تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تكذيب أكابر قريش له ﴿وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً﴾ أي وقال مشركو مكة: نحن أكثر أموالاً وأولاداً من هؤلاء الضعفاء المؤمنين ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أي إن الله لا يعذبنا لأنه راضٍ عنا، ولم يكن راضياً عنا لما بسط لنا من الرزق، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة، قال أبو حيان: نصَّ تعالى على المتفرقين لأنه أول المذكبين للرسل، لِما شُغلوا به من زخرف الدنيا، وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة، بخلاف الفقراء فإنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهُم أقبل للخير ولذلك كانوا أكثر أتباع الأنبياء ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي قل لهم يا محمد: إن توسعة الرزق وتضييقه ليس دليلاً على رضى الله، فقد يوسّع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع ابتلاءً وامتحاناً، فلا تظنوا أن كثرة الأموال والأولاد دليل على المحبة والسعادة، بل هي تابعة للحكمة والمشيئة ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون الحقيقة، فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيراًما يكون للاستدراج كما ال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢] ولهذا أكَّد ذلك بقوله: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ أي ليست أموالكم ولا أولادكم التي تفتخرون بها وتكاثرون هي التي تقربكم من الله قربى، وإنما يقرّب الإِيمان والعمل الصالح، قال الطبري: الزلفى: القربى، ولا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، ولهذا قال تعالى بعده: ﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلّم ولده الخير ويربيه على الصلاح فإن هذا الذي يقرّب من الله ﴿فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ﴾ أي تضاعف حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة ضعف ﴿وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾ أي وهم في منازل الجنة العالية آمنون من كل عذاب
511
ومكروه، ولما ذكر جزاء المؤمنين، ذكر عقاب الكافرين، ليظهر التابين بين الجزاءين فقال: ﴿والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي يسعون في الصدِّ عن سبيل الله، واتباع آياته ورسله، معاندين لنا يظنون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ﴿أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ﴾ أي فهم مقيمون في العذاب، محضرون يوم القيامة للحساب ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ أي قل يا محمد: إن ربي يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويقتّر على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال الي رزقكم الله إيَّاها، قال في التسهيل: كررت الآية لاختلاف اقصد، فإنَّ القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإِنفاق ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ أي وما أنفقتهم في سبيل الله قليلاً أو كثيراً فإن الله تعالى يعوّضه عليكم إما عاجلاً أو آجلاً ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي هو تعالى خير المعطين، فإنَّ عطاء غيره بحساب، وعطاؤه تعالى بغير حساب، قال المفسرون: لما بيَّن أنَّ الإِيمان والعمل الصالح هو الذي يقرّب البعد إلى ربه، ويكون مؤدياً إلى تضعيف حسناته، بيَّن أن نعيم الآخرة لا ينافي سعة الرزق في الدنيا، بل الصالحون قد يبسط لهم الرزق في الدنيا مع ما لهم في الآخرة من الجزاء الأوفى والمثوبة الحسنى بمقتضى الوعد الإلهي ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي واذكر يوم يحشر الله المشركين جيمعاً من تقدم ومن تأخر للحساب والجزاء ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين أي هؤلاء عبدوكم من دوني وأنتم أمرتموهم بذلك؟ قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر «إيَّاك أعني واسمعي يا جارة» ونحوه قوله تعالى
﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦] ٍ؟ وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى منزهون عما نُسب إليهم، والغرض من السؤال والجواب أن يكون تقريع للمشركين أشدّ، وخجلهم أعظم ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ﴾ أي تعاليت وتقدست يا ربنا عن أن يكون معك إله، أنت ربنا ومعبودنا الذي نتولاه ونعبده ونخلص له العبادة، ونحن نتبرأ إليك منهم ﴿بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن﴾ أي بل كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذي زينوا لهم عبادة غير الله فأطاعوهم ﴿أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ قال القرطبي: أي أكثرهم بالجنّ مصدقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً قال تعالى رداً على مزاعم المشركين ﴿فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾ أي في هذا اليوم يوم الحساب لا ينفع العابدون ولا المعبدون بعضهم لبعض، لا بشفاعة ونجاة، ولا بدفع عذاب وهلاك، قال أبو السعود: يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إظهاراً لعجزهم وقصورهم عن نفع عابديهم، وإظهاراً لخيبة رجائهم بالكلية، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض للمبالغة في المقصود، كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة كنفع العبد لهم ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي ونقول للظالمين الذين عبدوا اغير الله ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي ذوقوا عذاب جهنم التي كذبتم بها في الدنيا
512
فها قد وردتموها، ثم بيَّن تعالى لوناً آخر من كفرهم وضلالهم فقال: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي وإِذا تُليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن واضحات المعاني، بينات الإعجاز، وسمعوها غضة طريةً من السان رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ﴾ أي ما هذا الذي يزعم الرسالة إلا رجلٌ مثلكم يريد أن يمنعكم عمَّا كان يعبد أسلافكم من الأوثان والأصنام ﴿وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى﴾ أي ما هذا القرآن إلا كذبٌ مختلق على الله ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم للحقِّ النيّر: ما هذا القرآن إلا سحرٌ واضح ظاهر لا يخفى على لبيب، وقال الزمخشري: وفيه تعجيب من أمرهم بليغ، حيث بتّوا القضاء على أنه سحر، ثم بتّوه على أنه بيِّن ظاهر، كل عاقلٍ تأمله سمَّاه سحراً وفي قوله: ﴿لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ المبادهة بالكفر من غير تأمل، ثم بيَّن تعالىأنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمداً عن يقين، بل عن ظنٍّ وتخمين فقال: ﴿وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ أي وما أنزلنا على أهل مكة كتاباً قبل القرآن يقرؤون فيه ويتدارسونه ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ﴾ أي وما بعثان إليهم قبلك يا محمد رسولاً ينذرهم عذابالله، فمن أين كذبوك؟ قال الطبريك أي ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليه نبياً قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ﴾ أي وكذَّب قبلهم أقوام من الأمم السابقين وما بلغ كفار مكة عشر ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر، قال ابن عباس: ﴿مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ﴾ أي من القوة في الدنيا ﴿فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يُغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وفيه تهديدٌ لقريش ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إنما أنصحكم وأوصيكم بخصلةٍ واحدة ثم فسرها بقوله: ﴿أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى﴾ أي هي أن تتحرَّوا الحق لوجه الله والتقرب له مجتمعين ووحداناً، أو اثنين اثنين وواحداً وواحداً، قال القرطبي: وهذا القيام إلى طلب الحق، لا القيام الذي هو ضدُّ القعود ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ أي ثم تتفكروا في أمر محمد لتعلموا أن من ظهر على يديه هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون مسٌّ من الجنون أو يكون مجنوناً، قال أبو حيان: ومعنى الآية: إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحقِّ وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، ثم تتكروا في أمر محمد وما جاء به، وإنما قال ﴿مثنى وفرادى﴾ لأن الجماعة يكون من اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، كما يكون في الدروس التي يجتمع بها الجماعة، وأما الاثنان إذا نظرا نظر إنصاف وعرض كل واحدٍ منهما على صاحبه ما ظهر له فلا يكاد الحقُّ أن يعدوهما، وإذا كان الواحد جيّد الفكر عرف الحق، فإذا تفكروا عرفوا أن نسبته عليه السلام للجنون لا يمكن، ولا يهذب إلى ذلك عاقل ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أي ما هو إلا رسول منذر لكم إن كفرتم من
513
عذاب شديدٍ في الآخرة ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، قال الطبري: المعنى إني لم أسألكم على ذلك جُعلاً فتتهموني وتظنوا أني إنما دعوتكم إلى اتباعي لمالٍ آخذه منكم ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ أي ما أجري وثوابي إلا على الله رب العالمين ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي هو تعالى رقيب وحاضر على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء وسيجازي الجميع، قال أبو السعود: أي هو مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ أي يبيِّن الحجة ويظهرها، قال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق كقوله:
﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: ١٨] ﴿عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي هو تعالى الذي أحاط علماً بجميع الغيوب التي غابت وخفيت عن الخلق ﴿قُلْ جَآءَ الحق﴾ أي جاء نور الحق وسطع ضاؤه وهو الإِسلام ﴿وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ﴾ أي ذهب الباطل بالمرَّة فليس له بدءٌ ولا عودٌ، قال المزخشري: إذا هلك الإنسان لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدىء ولا يعيد مثلاً في الهلاك والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى:
﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل﴾ [الإِسراء: ٨١] ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن حصل لي ضلالٌ كما زعمتم فإن إثم ضلالي على نفسي لا يضر غيري ﴿وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ أي وإن اهتديتُ إلى الحق فبهداية الله وتفويقه ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ أي سميعٌ لمن دعاه، قريب الإجابة لمن رجاه، قال أبو السعود: يعلم قول كلٍ من المهتدي والضال وفعله وإن بلغ في إخفائهما ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ أي ولو ترى يا محمد حال المشركين عند فزعهم إذا خرجوا من قبورهم ﴿فَلاَ فَوْتَ﴾ أي فلا مخلص لهم ولا مهرب ﴿وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي أخذوا من الموقف أرض المحشر إلى النار، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره: لرأيت أمراً عيظماً وخطباً جسيماً ترتعد له الفرائص ﴿وقالوا آمَنَّا بِهِ﴾ أي وقالوا عندما عاينوا العذاب آمنا بالقرآن وبالرسول ﴿وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي ومن أين لهم تناول الإيمان وهم الآن في الآخرة ومحل الإِيمان في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت منهم بمكان بعيد؟ قال أبو حيان: مثَّل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بُعدٍ كما يتناوله الآخر من قرب ﴿وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ أي والحال أنهم قد كفروا بالقرآن وبالرسول من قبل ذلك في الدنيا، فكيف يحصل لهم الإِيمان بهما في الآخرة ﴿وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، قال القرطبي: والعربُ تقول لكل من تكلم بما لا يعرف هو يقذف ويرجم بالغيب، وعلى جهة التمثيل لمن يرمي ولا يصيب ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي وحيل بينهم وبين الإِيمان ودخول الجنان ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ﴾ أي كما فعل بأشباههم في الكفر من الأمم السابقة ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ﴾ أي كانوا في الدنيا في شك
514
وارتياب من أمر الحساب والعذاب وقوله: ﴿مَّرِيبٍ﴾ من باب التأكيد كقولهم: عجبٌ عجيب.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿يَبْسُطُ.. و.. يَقْدِرُ﴾ وبين ﴿نَّفْعاً.. و.. ضَرّاً﴾ وبين ﴿مثنى.. و.. فرادى﴾.
٢ - المقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار ﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً.. والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾.
٣ - الالتفات من الغائب إلى المخاطب ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ﴾ والغرض المبالغة في تحقيق الحق.
٤ - أسلوب التقريب والتوبيخ ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ ؟ الخطاب للملائكة تقريعاً للمشركين.
٥ - وضع الظاهر موض الضمير لتسجيل جريمة الكفر عليهم ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ﴾ والأصل وقالوا.
٦ - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه أي ما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا.
٧ - الاستعارة ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال والشدائد أمام الإنسان.
٨ - الكناية اللطيفة ﴿وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ﴾ كناية عن زهوق الباطل محو أثره.
٩ - الاستعارة التصريحية ﴿وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ شبّه الذي يقول بغير عللم، ويظن ولا يتحقق، بالإِنسان يرمي غرضاً وبينه وبينه مسافة بعيدة فلا يكون سهمه صائباً واستعار لفظ القذف للقول.
١٠ - توافق الفواصل لما له من جميل الوقع على السمع مثل ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ، وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾.
515
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إِذا دببتَ على المنْساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل