ﰡ
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة. واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل. وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم. وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [١٠ و ١٥ و ٣٥] مدنيات، وانسجامها في السياق والموضوع وما يبدو عليها من طابع العهد المكي بقوة يسوّغ التوقف في الرواية.
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣). ابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء والتنبيه على ما قلناه في أمثالهما. وأعقبهما تقرير توكيدي بأن القرآن تنزيل من الله المتصف بالعزة والحكمة جريا على النظم الذي كان في السور السابقة.
ويبدو من فحوى الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لما احتوته تلك من حكاية مواقف الكفار وأقوالهم ومجادلتهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٤ الى ٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
. (١) أثارة من علم: شيء من علم يقيني تأثرونه عن أحد أو بينة أو دلالة من مثل ذلك.
في الآية الأولى أمر للنبي ﷺ بسؤال الكفار سؤالا ينطوي على التحدي عما إذا كان شركاؤهم خلقوا شيئا من الأرض أو لهم شركة في السماء حتى يستحقوا العبادة مع الله، وبطلب البرهان على الأهلية التي يرونها فيهم لذلك مستمدا من كتاب إلهي أو علم صحيح إن كانوا صادقين في دعواهم وعقيدتهم.
أما الآيتان الثانية والثالثة فقد احتوتا تعقيبا على هذا التحدي قائما على فرض الواقع من عجزهم عن الإجابة. وقد جاء ذلك بأسلوب التساؤل عما إذا كان هناك من هو أضلّ من الذين يدعون من دون الله من لا يمكن أن يستجيبوا لهم ولو ظلوا يدعونهم إلى يوم القيامة وهم في غفلة عن هذا الدعاء لا يدرون من عبادة عابديهم شيئا ولا يستجيبون لشيء من دعائهم أولا، وإذا حشر الناس يوم القيامة وقفوا منهم- أي الكفار المشركين الذين كانوا يدعونهم في الدنيا ويعبدونهم- موقف
والآيات متصلة بالمطلع كما هو واضح من حيث احتواؤها تحديا موجها للمشركين الكافرين الذين ندد بهم فيه. وأسلوبها قوي محكم ولاذع في مجال الإفحام والحجة والتحدي والتقريع كما هو ظاهر. وبدؤها بأمر قُلْ قد يدل على أنها في صدد موقف حجاجي وجاهي مع بعض المشركين أو ما هو بمثابة ذلك.
والمتبادر أن المقصود من الذين يدعوهم المشركون من دون الله والذين تشير إليهم الآية [٥] هم الملائكة بقرينة تقرير الآية التالية لها بأنهم يقفون من عابديهم يوم القيامة موقف العداء والإنكار. وفي آيات سورة الفرقان [١٧- ١٨] وسورة سبأ [٤٠- ٤١] اللتين مرّ تفسيرهما صراحة مؤيدة لذلك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
. (١) تفيضون فيه: تتحدثون وتتبادلون الكلام الكثير فيه.
(٢) بدعا: شيئا مبتدعا لا سابق له.
في الآيات:
١- حكاية لما كان يقوله الكفار حينما كانت تتلى عليهم آيات الله الواضحة حيث كانوا يقولون إن ما احتوته من أخبار البعث والحساب الأخروي وغير ذلك من أمور هو سحر، أو لا يخرج عن تخيلات السحر. أو حيث كانوا يتهمون النبي ﷺ بافتراء القرآن ونسبته إلى الله كذبا.
وواضح أن الآيات هي استمرار في حكاية موقف المناظرة والحجاج بين النبي ﷺ والمشركين التي بدىء بها في الآيات السابقة. والاتصال بينهما قائم سياقا وموضوعا، وأسلوبها قوي أخّاذ ومفحم معا وموجه إلى القلوب والعقول وبخاصة ما أمر النبي ﷺ بقوله في ردّ تهمة افتراء القرآن.
وجملة وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في مقامها رائعة ذات مغزى بديع، وهي أن غفران الله ورحمته تتسعان للناس رغم ما يصدر منهم من أقوال بذيئة فيها سوء أدب نحو الله ورسله، ومن انحراف عن طريق الحق والهدى. وهذا يجعله لا يعجل لهم بالعذاب ويمد لهم لعلهم يرجعون ويهتدون وإليه مرجعهم في الآخرة حيث يحق العذاب على من بقي مصرا على موقفه وهذا المعنى قد تكرر بأساليب مختلفة مرّت أمثلة عديدة منه في السور السابقة.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
. الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى القرآن على ما قاله جمهور المؤولين وما يفيده فحوى الآية. وقد تضمنت أمرا للنبي ﷺ بسؤال الكفار سؤال المستنكر المندد عن عنادهم واستكبارهم وقد شهد من بني إسرائيل شاهد على صدق مثله
والآية استمرار في موقف المناظرة والحجاج وبالتالي فهي متصلة بالسياق.
ولما كان بنو إسرائيل بخاصة وأهل الكتاب بعامة موضع ثقة عند أهل بيئة النبي ﷺ فالآية تنطوي على إفحام وإلزام قويين كما هو المتبادر.
تعليق على ما روي في صدد هذه الآية من روايات وما احتوته من تسجيل
لقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية. وروى الطبري والبغوي في سياقها حديثا رواه البخاري أيضا عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «ما سمعت النبي ﷺ يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنّه من أهل الجنة إلّا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ... إلخ [١٠] » «١». وروى الطبري روايات عديدة عن مواقف تصديقية وإيمانية لعبد الله بن سلام كان يفحم فيها اليهود وفي كل منها ذكر أن هذه الآية نزلت في مناسبتها. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه أنه قال: «نزلت فيّ آيات من كتاب الله فنزلت فيّ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى آخر الآية، ونزلت فيّ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «٢» [الرعد: ٤٣]. وقال ابن كثير: إن هذا ما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي والثوري ومالك بن أنس! على أن الطبري والبغوي يرويان عن مسروق: «والله ما نزلت في عبد الله بن سلام وما نزلت إلّا بمكة وما أسلم
(٢) المصدر نفسه.
ويلحظ أن الانسجام تام بين الآية وما قبلها موضوعا وسبكا وسياقا. وأن الخطاب فيها موجه إلى الكفار وبسبيل الرد عليهم وإفحامهم في موقف جدلي ووجاهي. وهذا مما يقوي القول المروي عن مسروق. وقد قال الطبري إنه الأولى بالصواب. وقد يكون إسلام عبد الله بن سلام أو بعض مواقفه قد ذكر في مجلس من المجالس وتليت الآية فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت فيه. ولسنا نرى القول الذي ذكره البغوي بأن الشاهد هو موسى عليه السلام متسقا مع فحوى الآية إذا ما تمعن فيها. لأنها تفيد أن هناك شهادة عيانية وإيمانا واقعيا من إسرائيلي في ظروف نزولها وبهذا فقط تلزم الحجة المتوخاة منها للكفار. وهذا كله يجعلنا نعتقد أن الآية بسبيل ذكر حدوث تلك الشهادة والإيمان في مكة على علم ومسمع من الكفار ولقد كانت الصلات وثيقة بين مكة والمدينة التي كان فيها جالية كبيرة من الإسرائيليين ومن المعقول أن يكون بعضهم قد تسلل إلى مكة وأقام فيها أو على الأقل أن يكون بعضهم يتردد عليها للتجارة وغير ذلك من الشؤون. ولقد تكرر استشهاد الآيات المكية بأهل الكتاب وأهل العلم إطلاقا وتكرر تقرير كونهم كانوا يشهدون بأن القرآن منزل من الله ويؤمنون به مما مرت منه أمثلة عديدة وليس من مانع من أن يكون من هؤلاء إسرائيليون. وهكذا يمكن أن يقال بشيء من الجزم إن الآية تسجل إيمان إسرائيلي بالقرآن والنبي ﷺ بصراحة في العهد المكي والله تعالى أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
١- حكاية لقول صدر عن الكفار موجه إلى المؤمنين برسالة النبي ﷺ وهو أن القرآن والرسالة المحمدية لو كانا حقا وصدقا وخيرا لما تركناهم يسبقوننا إليهما وإنهما لكذب من الأكاذيب القديمة ولذلك لم نؤمن بهما.
٢- وردّ عليهم بأن كتاب موسى هو قديم جاء قبل القرآن وهو هدى ورحمة، وبأن القرآن مثله ومتطابق معه نزل باللغة العربية لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين.
والآيات كما هو واضح استمرار في السياق السابق من حيث حكاية مواقف الكفار وحجاجهم. ولقد تعددت الأقوال في القائلين والمقول عنهم حسب تعددها في الآية السابقة حيث قيل إن القائلين اليهود الذين ظلوا كافرين بعد إسلام عبد الله بن سلام وقيل إن القائلين بعض زعماء قريش والمقول عنهم بعض فقراء المسلمين ومنهم من سمّي عمّارا وبلالا وصهيبا. ومعظم المفسرين رجحوا القول الثاني «١» وهو الأوجه ولا سيما إنه صدر قبل هذه المرة أيضا على ما حكته آية سورة الأنعام هذه: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وهذا يعني أن هؤلاء الزعماء عوتبوا من قبل بعض المؤمنين البارزين على عدم إيمانهم فأجابوا بما ذكرته الآية [١١] مما فيه صورة طريفة من صور السيرة النبوية في مكة ودليل على عدم قيام قطيعة شاملة بين المؤمنين والكفار، وهو ما ذكرت الروايات صورا كثيرة منه مبثوثة في كتب السيرة.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
. في الآيات ثناء على المستجيبين للدعوة المحمدية وتطمين لهم، ولعلها مما
فمهما يكن من مركز الذين آمنوا فهم موضع ثناء الله وتطمينه، فليس هناك ما يثير فيهم الخوف والحزن وهم أصحاب الجنة خالدين فيها.
وواضح أن الآيات بناء على ذلك متصلة بالسياق.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن إطلاقها يجعلها مستمد تلقين مستمر المدى ومبعث تطمين وبشرى دائم لكل مؤمن مستقيم على إيمانه قائم بما يوجبه هذا الإيمان من حقوق نحو ربّه وبني ملّته وبني جنسه ومجتمعه. كما أنه ينطوي فيها حثّ على ذلك كما هو المتبادر.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
. (١) أوزعني: يسّر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
(٢) أن أخرج: بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما:
٢- والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
٣- وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرّت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلّا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجنّ الذين استحقوا غضب الله وعذابه.
٤- وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
٥- ولسوف يوجه الله تعالى الخطاب يوم القيامة إلى الذين كفروا حينما يساقون إلى النار ويصفون أمامها لطرحهم فيها قائلا: إنكم استوفيتم طيباتكم في الحياة الدنيا واغتررتم بما كان لكم فيها. وألهاكم ذلك عن التفكير في الله وواجبكم، وأضعتم الفرصة فسرتم في طريق الكفر والعصيان والاستكبار فاليوم تجزون بما تجزون وفاقا على سيرتكم هذه.
وقد يبدو أنه لا صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة ويتبادر لنا احتمال كون
تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وما بعدها
ولقد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص «١». وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له: أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف؟ فقالت عائشة أخته: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلّا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله «٢». وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه: «كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان: إنّ هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [١٤- ١٥] التي مرّ تفسيرها وآية سورة العنكبوت [٨] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرين كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [١٥] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
ولقد وقف بعض المفسرين عند جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ وأوردوا بعض الأحاديث التي قد تلقي في روع المسلم خوفا من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وتأثير ذلك على ما قد يكون له من نعيم في الآخرة، فمما أورده البغوي حديث روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «دخلت على رسول الله ﷺ فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّرت الرمال بجنبه فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم وهم لا يعبدون الله! فقال:
(٢) انظر تفسير ابن كثير.
ومما أورده الطبري «أن عمر بن الخطاب قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي». و «أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنّة، فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا بالجنّة لقد باينونا بعيدا» و «أن النبي ﷺ دخل على أهل الصفّة وهي مكان يتجمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا قال: أنتم اليوم خير أو يوم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ بخير؟ قال: بل أنتم اليوم خير». و «قال أبو هريرة: إنما كان طعامنا مع النبي ﷺ الأسودين الماء والتمر والله ما كنّا نرى سمراءهم هذه ولا ندري ما هي». ومما
فالاستمتاع إنما يكون مذموما محظورا إذا كان فيه إثم أو إسراف أو استغراق يحول
تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشدّه نقول: إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ... إلخ [٦] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشدّ وموقفه أدقّ في حالتي الصلاح والطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي ﷺ حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
. (١) أخا عاد: المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
(٣) وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه: النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى وقد مضت ومن بين يديه ومن خلفه قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
(٤) لتأفكنا: لتصرفنا.
(٥) عارضا: هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي ﷺ بالتذكير بقوم عاد ونبيهم، حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده. فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد وقالوا له إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم إن علم ذلك عند الله وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربّه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأوا سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلّا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ليكون فيها عظة للكفار الذين وقفوا نفس الموقف. ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
وتعبير أَخا عادٍ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه بياض لهواته وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقلت يا رسول الله إنّ الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» «١». وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت: «كان النبي ﷺ إذا رأى مخيلة تغيّر وجهه وتلوّن ودخل وخرج وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سرى عنه وذكرت له الذي رأيت قال: وما يدريك لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا الآية [٢٤] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم». وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت: «إن رسول الله ﷺ كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ عاقبته فإن كشفه الله تعالى حمد ربّه عزّ وجل وإن أمطر قال اللهمّ صيبا نافعا».
حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله ﷺ عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
(٢) فلولا: هنا بمعنى هلا للتحدي.
(٣) قربانا: هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.
جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي ﷺ السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي ﷺ وذكّر قوم النبي ﷺ بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غيّ وضلال.
فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عند ما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلّا إفكا وافتراء.
والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.
والمتبادر أن تعبير ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
. (١) صرفنا: وجهنا أو بعثنا.
(٢) فلما قضى: فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجنّ للقرآن وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي ﷺ في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه
ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما: «قيل لعبد الله من آذن النبيّ ﷺ بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنت بهم شجرة» «٣». وجاء في ثانيهما: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال العظم والرّوث لا يستنجى بهما؟ قال: هما من طعام الجنّ وإنّه قد أتاني وفد جنّ نصيبين ونعم الجنّ فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألّا يمرّوا بعظم ولا بروثة إلّا وجدوا عليه طعاما» «٤». ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه:
«إن النبي ﷺ قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ فأيّكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخطّ على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود:
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨- ٢٠٩. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطّفك بعضهم». وفي رواية عن ابن عباس «٢» أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماءهم: حسى وحسى، ومنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاث صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون «٣». وفي رواية عن ابن عباس «٤» جاء فيها: لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي ﷺ يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون: «يا قومنا إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به».
وتعليقا على ذلك نقول: إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير ابن كثير.
(٤) انظر تفسير البغوي.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي ﷺ حينما ذهب لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي ﷺ أحد.
والروايات تذكر أن النبي ﷺ رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي ﷺ لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [٢٧] تفيد أن الإنس لا يرون الجن «٢».
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله ﷺ ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه
(٢) الآية في صدد إبليس ولكن إبليس هو من الجن كما جاء في آية سورة الكهف هذه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ... [٥٠].
«إنّ النبي ﷺ ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم». حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي ﷺ للجنّ ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجنّ بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحقّ فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا وموضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي ﷺ من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله ﷺ وبثّ الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوىء المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول ﷺ هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه- على الدين النصراني. وهكذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني فلقد آمن برسالة النبي ﷺ فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
. (١) ولم يعي: ولم يتعب.
(٢) أولو العزم: المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا
(٣) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.
في الآيات:
١- سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السموات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.
٢- وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.
٣- وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ: ذوقوا العذاب جزاء كفركم وعنادكم.
٤- وأمر للنبي ﷺ بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لا حق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلّا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلّا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.
وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.
ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب.
ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها
ولقد ذكر بعض المفسرين «١» أن تعبير بَلاغٌ قد قصد به تقرير كون القرآن أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين أو ما أمر النبي ﷺ بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون «٢» والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.
لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد: أن كل الرسل كانوا أولي عزم وأن الله لم يبعث نبيا إلّا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل وأن (من) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا أن بعضهم قال: إن جميع الأنبياء أولو عزم إلّا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ...
الآية [٤٨] سورة القلم. وأن قوما قالوا: هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [٩٠] وأن الكلبي قال: إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم وأن هناك من قال إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير: إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي: إنهم الذين شرّعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلّا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.
(٢) انظر تفسير الطبري والطبرسي.
وقد ذكر بعض المفسرين «١» في صدد تعبير وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [٣٥] أن النبي ﷺ كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.