هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص الله إياهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل الله على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في قوت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل الله بالتجارة بعدها.
ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما. ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث الله تعالى نبيا من الأميين، ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم لله من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء الله. فأوحى الله بفصول السورة على سبيل الرد والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. والله تعالى أعلم.
وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك١. مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود، وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من اليهود في المدينة، وقد نكّل النبي صلى الله عليه وسلم بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. والله تعالى أعلم.
ﰡ
( ٢ ) ولما يلحقوا بهم : الضمير في ( بهم ) عائد إلى الأميين موضوع الكلام في الآية الأولى كما تلهمه روح الآية وسياقها. وبخاصة كلمة ( منهم ) قبل الجملة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له، وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.
والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم، وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك :
١ ـ بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.
٢ ـ وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية لها وتمهيد لها.
وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنة رسوله التي هي الحكمة التي علمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.
وهذه المعاني كلها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة١ وعلقنا عليها بما يقتضي ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.
ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :" كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ :﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا، فوضع يده عليه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء " ٢. وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد وغيره. منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.
ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب. وكلمتا ( منهم وبهم ) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأعراف [ ١٥٧ و ١٥٨ ] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح، ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة، حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب، بحيث يصح القول : إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.
الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له، وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.
والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم، وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك :
١ ـ بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.
٢ ـ وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية لها وتمهيد لها.
وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنة رسوله التي هي الحكمة التي علمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.
وهذه المعاني كلها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة١ وعلقنا عليها بما يقتضي ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.
ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :" كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ :﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا، فوضع يده عليه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء " ٢. وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد وغيره. منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.
ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب. وكلمتا ( منهم وبهم ) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأعراف [ ١٥٧ و ١٥٨ ] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح، ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة، حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب، بحيث يصح القول : إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.
الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له، وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.
والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم، وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك :
١ ـ بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.
٢ ـ وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب في تكريمهم بإرسال نبيه منهم.
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية لها وتمهيد لها.
وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنة رسوله التي هي الحكمة التي علمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.
وهذه المعاني كلها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة١ وعلقنا عليها بما يقتضي ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.
ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال :" كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ :﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا، فوضع يده عليه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء " ٢. وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد وغيره. منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.
ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب. وكلمتا ( منهم وبهم ) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأعراف [ ١٥٧ و ١٥٨ ] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح، ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة، حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب، بحيث يصح القول : إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
هذا، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.
في الآيات :
١ ـ تنديد لاذع باليهود. فقد أتاهم الله التوراة وأمرهم بالسير عليها وتدبر ما فيها وتنفيذه، وهذا معنى حمّلوا التوراة، فلم يفهموها ولم يقوموا بحقها وانحرفوا عنها، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبا ؛ لأنه لا ينتفع بما فيها. وبئست حالة قوم مثل حالتهم بتكذيبهم آيات الله. ولن ينالوا توفيق الله وتسديده ؛ لأن الله لا يوفق الظالمين أمثالهم.
٢ ـ وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم. فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأصحاب الحظوة لديه دون سائر الناس فليتمنوا الموت الذي يقربهم إلى الجزاء الأخروي العظيم الذي يمنون النفس به.
٣ ـ وتقرير بحقيقة واقعهم. فإنهم لا يتمنون الموت أبدا ؛ لأنهم يخافون المصير الرهيب بسبب ما اقترفوه وقدموه بين أيديهم من الآثام. وإن الله لهو العليم بالظالمين.
٤ ـ وإنذار لهم. فالموت الذي يخافونه ويتهربون منه ملاقيهم لا محالة. وإنهم لراجعون إلى الله عالم الحاضر والمستقبل والمغيب ومنبئون بما عملوا ومحاسبون عليه.
تعليق على الآية
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا... ﴾ الخ
والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها والآيات السابقة لها سلسلة واحدة. نزلت دفعة واحدة. وفي سياق موقف جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود. وتفاخر اليهود فيه وتبجحوا بأنهم أولياء الله وأحباؤه وموضع حظوته، وأن الدار الآخرة خالصة لهم دون سائر الناس. بل ويستلهم من روح آيات السورة الأربع الأولى أنهم قالوا فيما قالوه : إن الله جعل النبوة فيهم خاصة وأنكروا ـ بناء على ذلك ـ نبوة النبي لأنه عربي. فنزلت الآيات تكذبهم وتندد بهم وتتحداهم وتفحمهم بأسلوب قوي نافذ ولاذع.
وننبه على أن مثل هذه المزاعم والأقوال والمواقف قد حكيت عن اليهود في آيات عديدة في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرتا وفي سورتي النساء والمائدة اللتين تأتيان بعد مما يدل على أنها كانت تتكرر منهم في المناسبات المختلفة.
وهذا الموقف من اليهود لا يمكن أن يكون منهم إلا في ظرف كانوا فيه في المدينة على شيء من القوة والاعتداد. وهذا يصدق عليهم في السنين الخمس الأولى من الهجرة. وهو ما جعلنا نقدم السورة على ما شرحناه في مقدمتها.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] التي سبق تفسيرها : أن أصحاب التوراة والإنجيل يجدون النبي الأمي مكتوبا في كتابيهما المذكورين وقلنا في سياق تفسيرها : إن الآيات كانت تتلى علنا ولا ريب في أنها كانت تعبر عن حق وحقيقة يسلم بهما أصحاب الكتابين. ولقد جاء في آية سورة الأحقاف [ ١٠ ] التي سبق تفسيرها أن من الإسرائيليين من شهد وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك تقرير لواقع لا شك فيه. ولقد جاء في آيات سورة الأنعام [ ١١٤ ] ﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ﴾ وهذا تقرير لواقع لاشك فيه. ولقد جاء في آيات سورة الإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] وآيات سورة القصص [ ٥٢ ـ ٥٥ ] أن الذين أوتوا العلم والكتاب اعترفوا وآمنوا بصدق القرآن ورسالة النبي. وجاء في آية سورة آل عمران [ ١٩٩ ] وسورة النساء [ ١٦٢ ] أن من أهل الكتاب ومن الراسخين في العلم من بني إسرائيل من اعترف وآمن بصدق رسالة النبي. وهذا وذاك تقرير لواقع لا شك فيه فيكون تنديد الآية الأولى التي نحن في صددها وتمثيل المنكرين لنبوة النبي من اليهود بالحمار الذي يحمل الأسفار محلين ملزمين مفحمين بأن الذين أنكروا نبوة النبي الأمي أنكروا ما هو وارد في توراتهم الذي جعل بعضهم يسلمون به ويؤمنون بالقرآن وبالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
في الآيات :
١ ـ أمر موجه للمسلمين بترك البيع والسعي إلى ذكر الله في المساجد حين يؤذن المؤذن وينادي للصلاة يوم الجمعة.
٢ ـ وإباحة لهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله بالكسب والعمل بعد انقضاء الصلاة.
٣ ـ وتنديد بفريق منهم كانوا يتركون النبي قائما في المسجد يوم الجمعة ويخرجون إذا ما رأوا أو سمعوا بتجارة أو لهو. ويغفلون بذلك عن أن ما عند الله هو خير من اللهو والتجارة وأنه خير الرازقين.
تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه بخطورتها الدينية والاجتماعية ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة يوم عيد وعطلة عاما للمسلمين.
والآيات فصل مستقل عن الآيات السابقة. ولا تبدو حكمة وضعه بعدها واقتصار السورة عليه وعلى الفصل السابق له إلا إذا صحّ ما ذكرناه في المقدمة. ونرجو ذلك.
وقد روى البخاري والترمذي في مناسبة نزول الآية الأخيرة فقط من هذه الآيات حديثا عن جابر قال :" أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ﴾١.
ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث ورووا زيادة مهمة لم ترد في الصحاح. ومن ذلك ما رواه البغوي أن الانفضاض كان بسبب سماع طبل صاحب القافلة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك حتى قال :" والذي نفسي محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا ". وفي رواية :" أنه سأل كم بقي في المسجد فقالوا : اثنا عشر رجلا وامرأة فقال : لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء ". وفي رواية رواها الطبري :" أن الانفضاض تكرر ثلاث مرات على ثلاث جمع، لم يكن يبقى في كل جمعة إلا اثنا عشر رجلا وامرأة وأن النبي قال في الثالثة : والذي نفسي بيده لو اتبع آخركم أولكم لالتهب عليكم الوادي نارا وأنزل الله ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ﴾ إلى آخر الآية ".
والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث نزلت دفعة واحدة في مناسبة تسلل المسلمين من المسجد. وقد احتوت الأولى والثانية بيانا تمهيديا بخطورة شهود صلاة الجمعة. وترك البيع في وقتها كمقدمة للتنديد. وفي هذا إذا صح صورة من صور المسلمين في العهد المدني. والراجح أنها صورة للمسلمين المستجدين من غير الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار الذين تواترت الروايات على أنهم كانوا مستغرقين في الله ورسوله، وأيدت ذلك الآيات العديدة التي مرّت أمثلة منها.
وروح الآيات تلهم أن صلاة يوم الجمعة والقيام للخطبة بين يديها مما كان جاريا ومفروضا قبل نزولها، وأنها نزلت للحثّ على شهودها وبيان خطورتها والتنديد بالمنفضين عنها أو المهملين فيها. وهذا المعنى يكون صحيحا وحاسما إذا صح ترجيحنا بأن الآيتين الأولى والثانية نزلتا مع الآية الثالثة دفعة واحدة وهو ما نرجوه.
وهناك روايات وآثار تؤيد ذلك حيث روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قباء حينما جاء من مكة مهاجرا، فأقام فيها أياما وأن صلاة الجمعة أدركته في بني سالم بن عوف فصلاها في مسجدهم الذي أسسه لهم في بطن وادي رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة٢. وهذه الرواية تدل على أن صلاة الجمعة كانت تقام في مكة أيضا قبل الهجرة. وقد يؤيد هذا حديث رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن مالك، وكان يقود أباه بعد ذهاب بصره قال :" كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فسألته عن ذلك فقال ؛ لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة قلت : كم أنتم يومئذ ؟ قال أربعون " ٣. وأسعد بن زرارة هو أحد زعماء الأوس الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتعاقدوا معه. ولا ريب أنه تلقى واجب صلاة الجمعة عنه كما تلقى عنه واجبات الإسلام الأخرى...
ولقد روي فيما روي٤ أن أهل يثرب رأوا أن يتخذوا لهم يوما يجتمعون فيه كما كان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاختاروا يوم الجمعة. كما روي٥ أن كعب بن لؤي رتب أو سنّ اجتماعات عامة تقوم في هذا اليوم وبدّل اسمه من ( العروبة ) إلى يوم الجمعة. والمتبادر أن اسم اليوم وما توخي منه أعم من نطاق يثرب وأقدم، وأن للاسم دلالة ظاهرة على معناه، وأن لرواية سنة كعب وتغييره اسم اليوم من العروبة إلى الجمعة أصلا وحقيقة مع ترجيحنا أن يكون الاجتماع المسنون ذا صبغة أو غاية دينية طقسية واجتماعية معا. وقد تكون فكرة التفرغ للصلاة أو لبعض الطقوس الدينية أو عقد اجتماعات عامة في يوم الجمعة في الجاهلية مقتبسة من اليهود والنصارى في الأصل أو قد لا تكون. فهناك أمم قديمة كثيرة كان لها أيام أسبوعية خاصة للاجتماعات الدينية والاجتماعية العامة لا تمت إلى النصرانية ولا إلى اليهودية كما لا يخفى.
على أن سكوت الروايات عن الإشارة بشيء هام إلى هذا الاجتماع الأسبوعي الجاهلي القديم يدل على أنه لم يظل على خطورته الأولى، أو بالأحرى على أنه قد أهمل في عهد الجاهلية المتأخر ولم تبق له إلا ذكرى الاسم فأحياها الإسلام ليكون هذا اليوم العربي الأسبوعي يوما مشهودا لذكر الله واجتماع المسلمين للصلاة في وسطه وسماع الخطبة والموعظة من رسول الله والأئمة من بعده.
وظاهر مما تقدم أن تشريع صلاة الجمعة في الإسلام كان في بدئه مكيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا، ولعلّ في إيراد الآيات الثلاث بعد فصل التنديد باليهود ردّا على ما خمناه من تفاخر هؤلاء بيوم معين في الأسبوع كله عندهم. فالله سبحانه قد جعل للمسلمين أيضا يوما معينا له هو يوم الجمعة ولقد رويت أحاديث عديدة في تعيين الله يوم الجمعة للمسلمين وفي فضلها وفضل صلاتها ووجوب شهودها والاحتفال لذلك، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والنسائي جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا تبع فيه. اليهود غدا والنصارى بعد غد " ٦. وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم والنسائي وأحمد جاء فيه :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " ٧. وحديث عن أبي الجعد الضمري رواه أصحاب السنن والحاكم جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه " ٨. وحديث عن ابن عباس رواه الشافعي جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : على كل محتلم رواح الجمعة وعلى كل من راح الجمعة الغسل " ٩.
وحديث رواه أبو داود والبيهقي عن طارق بن شهاب جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل " ١٠ وحديث رواه أبو داود والنسائي عن حفصة جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " ١١. وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن سلمان الفارسي وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطهر ما استطاع من الطهر ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " ١٢. ولفظ أبي داود :" من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس ثم صلى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها " ١٣. وحديث رواه ابن ماجه وعبد السلام عن عبد الله بن سلام قال :" سمعت رسول الله يقول على المنبر في يوم الجمعة : ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته " ١٤. وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده ". ولفظ النسائي " على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل هو يوم الجمعة " ١٥. وحديث رواه الترمذي جاء فيه :" من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم " ١٦. وحديث رواه الخمسة إلا أبا داود جاء فيه :" أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها " ١٧. وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي موسى عن وقت هذه الساعة أن رسول الله قال :" هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " ١٨. وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " )١٩(.
وهناك أحاديث أخرى اكتفينا بما تقدم حيث تدل كثرتها على ما كان من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة وشهودها والتطهر والتزين والتجمل لها، وحيث ينطوي في هذا ما ينطوي من تعليم وتأديب رائعين. وخطورة واجتماع الجمعة الاجتماعية أيضا واضحة بالإضافة إلى خطورته الدينية ؛ حيث يجتمع المسلمون جميعهم في المساجد في المدن والقرى في مشهد رائع عظيم فيذكرون اسم الله ويصلون له ويستمعون لوعظ الخطباء. وقد يدخل هذا في حكمة التنبيه والإنذار القرآنية والنبوية. ولقد كانت هذه الخطورة أشد وأعظم في زمن رسول الله وخلفائه الراشدين، حيث كانوا هم الذين يخطبون الناس خطبا تتناول أمور المسلمين العامة الحاضرة سياسية واجتماعية وجهادية وأخلاقية حثّا وزجرا وتعليما وإرشادا وإخبارا واستشارة. ومن الواجب حتما على المسلمين وخطبائهم أن يلتزموا بالأمر الرباني والنبوي والسنة النبوية والراشدية.
ولقد استدل الفقهاء والمفسرون من جملة ﴿ وتركوك قائما ﴾ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة الجمعة وهو واقف. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن )٢٠. وفي رواية :" كان للنبي خطبتان يجلس بينهما )٢١.
وهناك بعض أحكام فرعية للفقهاء فيها بعض الخلاف ليس هنا موضع التبسط فيها، غير أننا نرى أن نشير إلى نقطة هامة كثر القول فيها، وهي فكرة اتخاذ يوم الجمعة يوم عطلة وراحة للمسلمين. فالذي يتبادر لنا أن الأمر بترك البيع والسعي إلى الص