تفسير سورة الجن

اللباب
تفسير سورة سورة الجن من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الجن
مكية، وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا.

مكية، وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ﴾، هذه قراءةُ العامة، أعني كونها من «أوْحَى» رباعياً.
وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس: «وَحَى» ثلاثياً.
وهما لغتان، يقال: وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد، فقلبت الواو همزة،
404
ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ﴾ [المرسلات: ١١] ؛ وأنشد العجاج: [الرجز]
٤٨٩٢ - وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ... وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً: «أُحي» بهمزة مضمومة لا واو بعدها، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة، نحو «أعد» في «وَعَد» فهذا فرع قراءة «وَحَى» ثلاثياً.
قال الزمخشريُّ: وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً: ك «إشاح، وإسادة»، و «إعاء أخيه» [يوسف: ٧٦].
قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً، وحشواً، وآخراً، ولكل منها أحكام، وفي بعض ذلك خلاف، وتفصيل مذكور في كتب النحو. وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب.
ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ: وهذا تكثير وتبجح.
قوله: ﴿أَنَّهُ استمع﴾، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار، والمجرور، فيكون هذا باقياً على نصبه، والتقدير: أوحي إليَّ استماع نفرٍ «من الجن» صفة ل «نَفَر».

فصل في تفسير الآية


قال ابن عباس وغيره: قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ، والنَّفرُ: الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة، واختلفوا، هل رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لا؟.
فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى: ﴿أَنَّهُ استمع﴾، وقوله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن﴾ [الأحقاف: ٢٩].
وفي صحيح مسلم، والترمذي عن ابن عباسٍ قال: انطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشيطان، وبين خبر السماء، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟.
فقالوا: حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذلك إلا من شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو «تهامة» وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا
405
القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً﴾ فأنزل الله على نبيه المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن﴾ الآية.
قال القرطبيُّ: وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.
فإن قيل: الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ الجن كانوا مع الشياطين، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ.
الثاني: أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن، إلا أنهم قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الإنس والجنِّ، فإنَّ الشيطان كل متمرد، وبعيد من طاعة الله تعالى.
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟.
فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن﴾.
وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.
وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أرض «حرَّان» وأربعة من أرض «نَصِيبينَ»، : قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر.
وقيل: إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى.
وقال عكرمةُ: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل.
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، روى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ
406
يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الثانية: ثُمَّ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الثالثة، فقلتُ: أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ، فانطلقَ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال: لا تجاوزه، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ، قال ابنُ الأثير في» النهاية «:» الزّطّ: قومٌ من السودان والهنود «يقرعون في دُفُوفهِمْ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها، حتَّى غشاهُ، فغَابَ عنْ بَصرِي، فقُمْتُ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ، ولصقوا في الأرضِ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ».
وفي رواية أخرى، «قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ أنْتَ؟.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنَا نَبِيٌّ، قالوا: فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟.
فقال الحبيب المجتبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذه الشَّجرةُ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ، حتى انتصبتْ بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: على ماذا تشهدين فيَّ؟.
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها: اذْهَبِي، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ، حتى صارتْ كما كانتْ.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فلمَّا عاد إليَّ قال: أردت أن تأتيني، قلت: نعم يا رسول الله قال: مَا كَانَ ذلكَ لَكَ، قال: هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ، فَسألُونِي الزَّادَ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ، ولا بَعْر»
.
وفي رواية: «أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما فرغ وضع رأسهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حِجْرِ ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فرقد، ثُمَّ استيقظ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟
قال: لا، إلاَّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هَلْ هُو إلاَّ تمرٌ وماء»
فَتوضَّأ مِنْهُ «.
407
قال ابن الخطيب: وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه:
أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما رآهم، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا، وأي شيءٍ فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا، وقالوا كذا.
وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رآهم، وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾ وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه لأقوامهم.
قال ابن العربي:» ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس، لأنه شاهده، وابن عباس سمعهُ، وليس الخبرُ كالمعاينة «.
قال القرطبي: وقيل: إن الجنَّ أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دفعتين.
أحدهما: بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود.
والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس.
قال البيهقيُّ: الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود.

فصل في لفظ» قل «


قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ قوله تعالى: قُلْ»
أمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يظهر لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ، وفيه فوائد.
أحدها: أن يعرفوا بذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بُعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس.
وثانيها: أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
408
وثالثها: أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس.
ورابعها: أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا.
وخامسها: أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس.

فصل في بيان أصل الجن


اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ، روى الضحاك عن ابن عباس أن: الجن هم ولد الجان، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلاَّ مع إبليس، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً.
وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.

فصل في دخول الجِنة الجَنة


اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنَّة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان:
أحدهما: وهو قول الحسن: يدخلونها.
الثاني: وهو قولُ مجاهد: لا يدخلونها

فصل فيمن أنكر الجن


قال القرطبيُّ: وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة: الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج، إنما الواحد سبحانه وتعالى، وغيره مركب، ليس بواحد كيفما تصرف حاله، وليس يمتنع أن يراهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ.
ففي الحديثِ: «أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله» الحديث.
وفيه: «فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها» وذكر الحديث.
409
وفي الحديث: «أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر «
وقال:»
اذهبوا فادفنوا صاحبكم «».
وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح: «إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا»، وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها.
قال القرطبي: قلنا: هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة «المدينة» ؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله: «ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ» وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾، أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل﴾ [القصص: ٢٩] ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩]، ووصف القرآن ب «عَجَباً» إما على المبالغة، أي: خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه، وإما في بلاغة مواعظه، أو عجباً من عظم بركته، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل، أي: معجب. قوله «يَهْدِي» صفة أخرى، أي: هادياً.
﴿إِلَى الرشد﴾. قرأ العامةُ: «الرشد» بضمة وسكون، وابن عمر: بضمها وعنه أيضاً: فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى: يهدي إلى الصواب.
وقيل: إلى التوحيد.
قوله تعالى: ﴿فَآمَنَّا بِهِ﴾، أي: بالقرآن، أي: فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله، ﴿وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً﴾، أي: لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ تعالى﴾. قرأ الأخوان وابن عامر وحفص: بفتح «أنَّ»، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون: بالكسر.
وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ: «وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه» بالكسر، والباقون: بالفتح.
410
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾.
وتلخيص هذه أن «أنَّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام:
قسم: ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن﴾، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني: أن يقترن بالواو، وهوأربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها وهو قوله: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾ وهذا هو القسمُ الثاني.
والثالث: «وأنه لما قام» يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.
والاثنتا عشرة: وهي قوله ﴿وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ﴾ [الجن: ٣]، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ﴾ [الجن: ٤] ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ [الجن: ٥]، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ﴾ [الجن: ٦]، ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ﴾ [الجن: ٧]، ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا﴾ [الجن: ٨]، ﴿وَأَنَّأ كُنَّا﴾ [الجن: ٩]، ﴿وَأَنَّا لاَ ندريا﴾ [الجن: ١٠]، ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصالحون﴾ [الجن: ١١]، ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ [الجن: ١٢]، ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا﴾ [الجن: ١٣]، ﴿وَأَنَّا مِنَّا المسلمون﴾ [الجن: ١٤].
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.
فقال أبو حاتم في الفتح: هو معطوف على مرفوع «أوحِيَ»، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحِيَ»، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون» لم يستقم معناه.
وقال مكيٌّ: وعطف «أن» على «آمنَّا بِهِ» أتم في المعنى من العطف على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لأنَّك لو عطفت «وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا» وشبه ذلك على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.
الثاني: أن الفتح في ذلك عطف على محل «بِهِ» من «آمنَّا بِهِ».
قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي».
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال: «والفتح في ذلك على الجمل على معنى:»
411
آمنَّا بِهِ «، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك»
وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: فتحت «أن» لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن» نحو: صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب: [الوافر]
٤٨٩٣ - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا... فنصب «العيونَ» لإتباعها «الحواجب»، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.
وقال الزجاج: «لكن وجهه أن يكون محمولاً على» آمنَّا بِهِ «وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة».
الثالث: أنه معطوف على الهاء في «بِهِ»، أي: آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.
وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة» عند قوله:
﴿وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام﴾ [البقرة: ٢١٧] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال: هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن» أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى» مع «أن».
ووجه الكسر: العطف على «إن» في قوله: «إنَّا سَمعْنَا» فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا: «إنَّا سَمِعْنَا»، وقالوا: «إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا» إلى آخرها.
وقال بعضهم: الجملتان من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس﴾، ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ﴾ معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.
412
ووجه الكسرِ والفتح في قوله: ﴿وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله﴾ ما تقدم.
ووجه إجماعهم على فتح ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾ وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «أنَّه اسْتَمَعَ» فيكون موحى أيضاً.
والثاني: أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي: فلا تدعوا مع الله احداً، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.
وقال الزمخشريُّ: «أنَّهُ اسْتَمَع» - بالفتح - لأنه فاعل «أوْحِيَ»، و «إنَّا سَمِعْنَا» بالكسر لأنه مبتدأ، محكي بعد القول، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنِّ كسر، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما: «وأن المساجد، وأنه لما قام عبد الله يدعوه»، ومن فتح كلهن، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في «آمنَّا بِهِ»، أي: صدقناه وصدقنا به.
والهاء في ﴿أَنَّهُ استمع نَفَرٌ﴾، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر «أن».
قوله: ﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾. قرأ العامة: ﴿جَدّ رَبَّنَا﴾ بالفتح ل «رَبَّنَا».
والمراد به هنا العظمة.
وقيل: قدرته وأمره.
وقيل: ذكره.
والجدُّ أيضاً: الحظُّ، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» والجدُّ أيضاً: أبو الأب، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر.
وقرأ عكرمة: بضم ياء «ربُّنا» وتنوين «جدٌّ» على أن يكون «ربنا» بدلاً من «جد».
والجد: العظيمُ. كأنه قيل: وأنه تعالى عظم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة.
وعنه أيضاً: «جداً» على التمييز و «ربنا» فاعل ب «تعَالى»، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير: «جد ربنا» ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف، وربنا فاعل ب «تعالى»، والتقدير: تعالى ربُّنا تعالياً جداً، أي: حقاً لا باطلاً.
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل.
413
والثاني: أنه منصوب على الحال، أي: تعالى ربنا حقيقة وتمكناً، قاله ابن عطية.
وقرأ حميد بن قيس: «جُدُّ ربِّنا» - بضم الجيم - مضافاً ل «ربِّنا»، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل: ربنا العظيم، نحو: «جرد قطيفة» الأصل: قطيفةُ جرد، وهو مؤولٌ عن البصريين.
وقرأ ابنُ السميقع: «جدا ربنا» بألف بعد الدال مضافاً ل «ربِّنا».
والجَدَا والجدوى: النفع والعطاء، أي: تعالى عطاء ربِّنا ونفعه.

فصل في معنى «الجد»


قال القرطبيُّ: الجد في اللغة: العظمةُ والجلالُ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه -: «كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا» أي: عظم وجل فمعنى «جَدُّ ربِّنَا» أي: عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضاً: ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً: غناه.
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود: أي: محظوظ، وفي الحديث: «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ»، قال أبو عبيد والخليل، أي ذا الغنى منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قدرته وقال الضحاك: فعله.
وقال القرظي والضحاك: آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه.
وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السدي: أمره.
وقال سعيد بن جبير: ﴿وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا﴾، أي: تعالى ربنا.
414
وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من الجنِّ.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه.
قال القشيريُّ: ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنُّبُه أولى.
قال القرطبيُّ: «ومعنى الآية: وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما، أو الحاجة إليهما، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء».
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً﴾، مستأنف، فيه تقرير لتعالي جده.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً﴾.
الهاء في «أنه» للأمر أو الحديث، و «سَفِيهُنَا» يجوز أن يكون اسم «كَانَ» و «يقُولُ» الخبر، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل «كَانَ» لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ، نحو «سَفِيهُنَا يقُولُ»، لو قلت: «يَقُولُ سَفيْهُنَا» على التقديم والتأخير، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب «كَانَ» يلتبس بالفعل والفاعل، وفي باب «كَانَ» يؤمن ذلك.
ويجوز أن يكون «سَفِيهُنَا» فاعل «يقُولُ» والجملة خبر «كَانَ» واسمها ضمير الأمر مستتر فيها، وقد تقدم هذا في قوله: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] وقوله تعالى: ﴿شَطَطاً﴾ تقدم في سورة الكهف مثله.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون» كان «زائدة، والسفيه: هو إبليس، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: المشركون من الجنِّ.
قال قتادةُ: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط: الغلو في الكفر.
415
قال أبو مالك: هو الجور وقال الكلبي: هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر: [الطويل]
٤٨٩٤ - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ
قوله: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ أي: حسبنا ﴿أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً﴾.
» أنْ «مخففة، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها، والفاعل بينهما هنا حرف النفي، و» كذباً «مفعول به، أو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب:»
تقَوَّل «- بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع» تقوَّل «أي: كذب، والأصل: تتقوَّل، فحذف إحدى التاءين، نحو» تذكرون «. وانتصب» كَذِباً «في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب، فهو نحو قولهم:» قَعدْتُ جُلُوساً «.
ومعنى الآية: وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقيل: انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو -:
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس﴾ فمن فتح، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله: ﴿أَنَّهُ استمع﴾، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه، من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.
وقيل: كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا، بعثُوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ، يعنون من الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وإن أفزعهم الجن رجعوا.
قال مقاتل: أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
416
وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ، فلما انتصف الليل جاء الذئب، فحمل حملاً من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي جارك الله، فنادى منادٍ: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً﴾، أي: زاد الجنُّ الإنس رهقاً، أي: خطيئة، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
والرَّهقُ: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧] ؛ وقال الأعشى: [البسيط]
٤٨٩٥ - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا
يعني إثماً، ورجل مرهق، أي: يغشاه السائلون.
قال الواحديُّ: الرَّهَقُ: غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾.
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها.
وقال مجاهد أيضاً: «فزَادُوهُم» أي: أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ، حتى قالت الجنُّ: «سدنا الإنس والجن».
وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن.
وقال سعيد بن جبير: كفراً.
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ، فالمعنى: وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي.
قال القشيريُّ: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن.
وقوله: «مِنَ الإنس» صفة ل «رِجَالٌ» وكذلك قوله «مِنَ الجِنِّ».
417
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً﴾.
الكلام في «أنْ لنْ» كالكلام في الأول، و «أن» وما في خبرها، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال، لأن «ظنُّوا» يطلب مفعولين، و «ظَننْتُم» كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.
والضمير في «أنَّهُم ظنُّوا» للإنس، وفي «ظَنَنْتُمْ»، للجن، ويجوز العكس

فصل في الخطاب في الآية


هذا من قول الله تعالى للإنس، أي: وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.
قال الكلبيُّ: ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي: إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنتم أحق بذلك.
قوله: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء﴾. هذا من قول الجنِّ، أي: طلبنا خبرها كما جرت عادتنا ﴿فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً﴾، أي ملئت حفظاً يعني: الملائكة.
فاللَّمْسُ: المس، فاستعير للطلب، لأن الماس متقرب، يقال: لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه.
والمعنى: طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها.
قوله: ﴿فَوَجَدْنَاهَا﴾، فيها وجهان:
أظهرهما: أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها: أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قوله «مُلِئَتْ» في موضع نصب على الحال على إضمار «قَدْ».
والثاني: أنها متعدية لاثنين، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني.
و «حَرَساً» نصب على التمييز نحو «امتلأ الإناء ماء».
والحَرَس: اسم جمع ل «حَارِس» نحو «خَدَم» ل «خَادِم» و «غيب» لغائب، ويجمع تكسيراً على «أحْراس» ؛ كقول امرىء القيس: [الطويل]
418
والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدر الحراسةُ، و «شديداً» صفة ل «حَرسَ» على اللفظ؛ كقوله: [الرجز]
٤٨٩٧ - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا... ولو جاء على المعنى لقيل: «شداد» بالجمع، لأن المعنى: مُلئتْ ملائكة شداد، كقولك السلف الصالح، يعني: الصالحين.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى: حرست حراسة شديدة».
قوله: «وشُهُباً». جمع «شِهَاب» ك «كِتَابِ وكُتُب».
وقيل: المراد النجوم، أو الحرسُ أنفسهم، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع، وقد تقدم في سورة «الحجر، والصافات».
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ، كقوله: [الطويل]
٤٨٩٨ -............................. وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرجُ: «مُلِيتْ» بياء صريحة دون همزة.
قوله: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾، المقاعد: جمع «مقعد» اسم مكان، والضمير في «منها»، أي: من السماء، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ، فقالت الجن حينئذ: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾ يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.
قوله «الآن». هو ظرفٌ حالي، واستعير هنا للاستقبال، كقوله الشاعر: [الوافر]
٤٨٩٩ -........................ سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا
فاقترن بحرف التنفيس، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله: «فالآن باشروهن».
419
و «رصداً» إما مفعول له، وإما صفة له «شهاباً» أي «ذا رصد» وجعل الزمخشري: «الرصد» اسم جمع ك «حرس»، فقال: والرصد: اسم جمع للراصد ك «حرس» على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب» بمعنى الراصد، أو كقوله: [الوافر]
٤٩٠٠ -...................................... ومِعَى جَياعَا

فصل في بيان متى كان قذف الشياطين


اختلفوا: هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
فقال قوم: لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب، قاله الكلبيُّ، ورواه عطية عن ابن عباس، ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمرو: لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء.
قال نافع بن جبيرٍ: كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رميت بالشهب، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال: لم يرم بنجم، منذ رفع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حتى نُبِّىءَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرُمِيَ بها.
وقيل: كان ذلك قبل البعثِ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنذاراً بحاله.
وهو معنى قوله: «قَدْ مُلِئَتْ»، أي: زيد في حرسها.
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي -: [الكامل]
٤٨٩٦ - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
420
قال الجاحظُ: «هذا البيت مصنوع، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث».
والقول بالرمي أصح لهذه الآية، لأنها تخبر عن الجن، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس، والشهب.
وقال بشر بن أبي خازم: [الكامل]
٤٩٠١ - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا
٤٩٠٢ - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ»
قالوا: كُنَّا نقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ، أو يولد عظيم [فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ، سبَّح حملةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ: ماذا قال ربُّكمْ، فيُخْبَرُون، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه»
وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث، وهو قول الأكثرين.
قال الجاحظ: فلو قال قائلٌ: كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟.
فالجوابُ: أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله - تعالى - قال له: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين﴾ [الحجر: ٣٥]، ولولا هذا لما تحقق التكليف.
قال القرطبيُّ: «والرَّصدُ»، قيل: من الملائكة، أي: ورصداً من الملائكة، وقيل: الرَّصَد هو الشهب، والرصد: الحافظ للشيء، والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس، والواحد: راصد.
وقيل: الرَّصَد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ك «الخَبَط والنفض».
قوله: ﴿وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض﴾، في ﴿أَشَرٌّ أَرِيدَ﴾ وجهان:
421
أحسنهما: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.
والثاني: أن الرفع على الابتداءِ.
ولقائل أن يقول: يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر، وهو أنه قد عطف ب «أمْ» فعل، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ «أمْ» عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وهو أن الأصل: أشَرٌّ أريد بهم، أم خيرٌ، فوضع لقوله: «أمْ أراد بِهمْ» موضع خير.
وقوله: «أشَرٌّ» ساد مسدَّ مفعول «ندري»، بمعنى أنه معلق به، وراعى معنى «مَنْ» في قوله: «بِهمْ ربُّهُمْ» فجمع.

فصل في معنى الآية


قال ابن زيد: معنى الآية: أنَّ إبليس قال: لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً.
وقيل: هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا: إنَّا لا ندري، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟.
قوله: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾.
هذا من قول الجنِّ، أي: قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.
قوله: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾، يحتمل وجهين:
أحدهما: يحتمل أن «دُونَ» بمعنى «غير»، أي: ومنا غير الصالحين، أي: كافرون، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش.
422
والثاني: أن «دُونَ» على بابها من الظرف، وأنها صفة لمحذوف، تقديره: ومنا فريق أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع «مِنْ» التبعيضية يكثر، كقولهم: منَّا ظعنَ ومنَّا أقام، أي: منا فريقٌ ظعن، ومنا فريق أقام.
ومعنى الآية: ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.
قوله: ﴿كُنَّا طَرَآئِقَ﴾، فيه أوجه:
أحدها: أن التقدير: كنا ذوي طرائق، أي: ذوي مذاهب مختلفة.
الثاني: أن التقدير: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ.
الثالث: أن التقدير: كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله: [الكامل]
٤٩٠٣ -................................ كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ
الرابع: أن التقدير: كانت طريقتنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشريُّ.
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً.
وقال: إنَّه قدر في الأول: «ذَوِي».
وفي الثاني: مثل.
وفي الثالث: طرائق.
ورد عليه ابو حيَّان قوله: ﴿كُنَّا طَرَآئِقَ﴾ ؛ كقوله: [الكامل]
٤٩٠٤ -............................... كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ
بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، فلا يخرج القرآنُ عليه، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.
والقددُ: جمع قددة، والمراد بها الطريقةُ، وأصلها السيرة، يقال: قِدَّة فلان حسنة، أي: سيرته، وهو من قدَّ السير، أي: قطعه على استواء، فاستعير للسيرة المعتدلة.
قال الشاعر: [البسيط]
٤٩٠٥ - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ
وقال آخر: [البسيط]
423
وقال لبيد في أخيه: [المنسرح]
٤٩٠٦ - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ
٤٩٠٧ - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ
والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: إناء من خشب.

فصل في معنى الآية


قال سعيد بن المسيِّب: معنى الآية «كنا مسلمين، ويهود ونصارى ومجوساً».
وقال السدي: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية.
وقال قوم: إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون، ومنا الكافرون.
وقيل: أي: ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ٣٠]، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان، وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر، والطرائق: جمع طريقة، وهي مذهب الرجل، أي: كنا فرقاً، ويقال: القوم طرائق أي: على مذاهب شتَّى، والقددُ: نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده: قدَّة، يقال: لكل طريقةٍ قِدَّةٌ».
قوله: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً﴾.
والظنُّ هنا بمعنى العلم، واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً﴾، «وأنَّهُم ظنُّوا»، أي: علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى، أنا في قبضته، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره.
وقوله: «فِي الأرضِ»، حال، وكذلك «هَرباً» مصدر في موضع الحالِ، تقديره: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.
قوله: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى﴾، يعني القرآن «آمنَّا بِهِ»، وباللَّه، وصدقنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على رسالته، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ.
424
قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بعث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى﴾ [يوسف: ١٠٩].
وفي الحديث: «بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ»، أي: الإنس والجن. وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ [الآية: ١٣٠].
قوله: ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾.
قال ابنُ عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس: النقصان، والرهق: العدوان، وغشيان المحارمِ، وقد تقدم في بيت الأعشى.
قوله: «فَلا يَخَافُ»، أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ، ولولا ذلك لقيل: لا يخف، قاله الزمشخريُّ.
ثم قال: «فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟.
قلتُ: الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل:»
فهُو لا يخَافُ «، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره».
قال شهاب الدين: «وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية».
وقرأ ابن وثاب والأعمشُ: بالجزم، وفيها وجهان:
أحدهما: ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، أن «لا» نافية، والفاء حينئذ واجبة.
والثاني: أنها نافية، والفاء حينئذٍ زائدةٌ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله «بَخْساً»، فيه حذف مضاف، أي: جزاء بخس، كذا قرره الزمخشريُّ.
وهو مستغنى عنه.
وقرأ ابن وثاب: «بَخَساً» بفتح الخاء.
قال القرطبيُّ: وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم: «فَلا يَخفْ» جزماً على جواب الشرط، وإلغاء الفاء أيضاً.
425
قوله: ﴿وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون﴾. أي: وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط: الجائر لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل لأنه عادل إلى الحق، قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال: [الكامل]
٤٩٠٨ - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ
وقد تقدم في أول «النساء» أن «قَسَطَ» : ثلاثياً بمعنى «جَارَ»، و «أقسط» الرباعي بمعنى «عَدَل». وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ: ما تقول فيَّ؟.
قال: إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال، فقال: يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾. وقرأ ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١].
قوله: ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾.
أي: قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.
قال الراغبُ: «حرى الشيء يحري، أي: قصد حراه، أي: جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد؛ قال الشاعر: [الكامل]
٤٩٠٩ -................................. والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي
ويقال: رماه الله بأفعى حارية، أي: شديدة»
انتهى.
وكأن أصله من قولهم: هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به. و «رَشَداً» مفعول به.
والعامة قرأوا: «رشداً» - بفتحتين - والأعرج: بضمة وسكون.
قوله: ﴿وَأَمَّا القاسطون﴾. أي: الجائرون عن طريق الحق والإيمان ﴿فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ أي: وقوداً، وقوله «فَكانُوا» أي: في علم الله تبارك وتعالى.
فإن قيل: ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.
فالجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله ﴿تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾ أي: تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.
فإن قيل: فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار؟.
فالجواب: أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.
426
وهذا آخر كلام الجن.
قوله ﴿وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة﴾، «أنْ» هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي ب «لو»، فأصله بين «أن» المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سَبَأ».
وقال أبو البقاء هنا: «ولو» عوض كالسِّين، وسوف، وقيل: «لَوْ» بمعنى «إن» و «إن» بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ [مريم: ٤٦]، وقال في موضع آخر: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾ [المائدة: ٣٧] ذكره ابن فضالة في البرهان.
قال شهاب الدين: «وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين».
وقرأ العامة: بكسر «وأن لو» على الأصل.
وابن وثَّاب والأعمشُ: بضمها، تشبيهاً بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق


هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من «أنَّ» المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال ابن الأنباريِّ: ومن كسر الحروف، وفتح ﴿وأنْ لو اسْتقَامُوا﴾ أضمر يميناً تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.
قال الشاعر: [الوافر]
٤٩١٠ - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير: ﴿أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ﴾، ﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾ أو «على آمنا به» ويستغنى عن إضمار اليمين.
427
والضمير في قوله ﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾، قيل: يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي: هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقيل: بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ، إنما يليق بالإنس، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١].
وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
قال ابن الخطيب: «ويدل على صحة قول القاضي، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة».
والغدق - بفتح الدال وكسرها -: لغتان في الماء الغزير، ومنه الغداق: للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق، والكثير النطق.
ويقال: غدقت عينه تغدق أي: هطل دمعها غدقاً.
وقرأ العامة: «غَدَقاً» بفتحتين.
وعاصم فيما يروي عنه الأعشى، بفتح الغين وكسر الدال، وقد تقدم أنهما لغتان.
قوله: ﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾.
قال ابن الخطيب: إن قلنا: إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان:
أحدهما: أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض﴾ [الأعراف: ٩٦] الآية، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ﴾ [المائدة: ٦٦] الآية، وقوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾ [الطلاق: ٢]. وقوله: ﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ﴾ [نوح: ١٠ - ١١]، إلى قوله: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢] الآية.
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب.
الثاني: أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله: ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣] الآية.
428
والقول الأول: اختيار الزجاج، قال: لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة، وهي طريقة الهدى.
ومعنى: ﴿لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي: لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا، وإن قلنا: إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.
قوله: ﴿لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة، بأنَّ الفتنة هي الاختبار، كما يقال: فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى ﴿لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.
وأجيبوا: بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.

فصل في التحذير من الدنيا


روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا «قالوا: ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟.
قال:»
بَركَاتُ الأرْضِ «. وذكر الحديث»
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ»
قوله: ﴿وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ﴾، أي: عن عبادته، أو عن موعظته، أو عن وحيه.
وقال ابن زيدٍ: يعني القرآن، وفي إعراضه وجهان:
الأول: عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان.
وقيل: ﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ﴾، أي: لم يشكره.
قوله: ﴿يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾.
قرأ الكوفيون: «يَسْلكْهُ» - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى، وباقي السبعة: بنون العظمة على الالتفات.
وهذا كما تقدم في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾
[الإسراء: ١]، ثم قال: ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ﴾ [الإسراء: ١].
429
وقرأ مسلم بن جندب: «نسلكه» بنون العظمة مضمومة من «أسلكه». وبعضهم: بالياء من تحت مضمومة، وهما لغتان، يقال: سلكه وأسلكه.
وأنشد: [البسيط]
٤٩١١ - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ... و «سلك، وأسلك» يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال: يتعديان إلى أحد المفعولين، بإسقاط الخافض، كقوله تعالى: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٥].
فالمعنى: ندخله عذاباً، أو نسلكه في عذابٍ، هذا إذا قلنا: إن «صَعَداً» مصدر.
قال الزمخشريُّ: يقال: صَعَداً وصُعُوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب، أي: يعلوه، ويغلبه، فلا يطيقه، ومنه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول: ما شقَّ عليَّ، ولا غلبني.
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم، كما قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وغيره، فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون «صعداً» مفعولاً به أي «يسلكه» في هذا الموضع ويكون «عذاباً» مفعولاً من أجله.
الثاني: أن يكون «عذاباً» مفعولاً ثانياً كما تقدم، و «صعداً» بدلاً من عذاباً، ولكن على حذف مضاف أي: عذاب صعد، وقرأ العامة بفتحتين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك «جُنُب» و «شُلُل».

فصل


ومعنى عذاباً صعداً: أي شاقاً شديداً.
[وقيل عن ابن عباس:] هو جبل في جهنم، قال الخدريُّ: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت.
430
وعن ابن عباس: إن المعنى مشقّة من العذاب، لأن الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك، ومنه قول عمر المتقدم، والمشي في الصعود يشق، وصعود العقبة الكئودِ.
وقال عكرمةُ: هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.
وقال: يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف صعودها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾ [المدثر: ١٧].
قوله: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾. قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح، بتقدير: وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ.
وقال الخليل: أي ولأن المساجد، فحذف الجارُّ، ويتعلق بقوله «فلا تدعُوا».
وجعلوه كقوله تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش: ١] فإنه متعلق بقوله ﴿فَلْيَعْبُدُواْ﴾ كقوله: ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ﴾ [الأنبياء: ٩٢].
وقرأ طلحة وابن هرمز: «وإنَّ المسَاجِدَ» - بالكسر.. ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل، فيكون في المعنى كتقدير الخليل

فصل في المراد ب «المساجد»


المساجدُ: قيل هي جمع «مسجد» - بالكسر - وهو موضع السجود، وقد تقدم أن قياسه الفتح.
وقيل: هو «مسجد» - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ: «الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان»، وهو قول سعيد بن المسيب.
والمعنى: إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله، وقال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ» وقيل: بل جمع مسجد، وهو مصدر بمعنى السجودِ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.
431
وقال القرطبي: «المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة».
قال سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قالت الجن: كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾، أي: بنيت لذكر الله ولطاعته.
وقال ابن عبَّاسٍ: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة مساجد، لأن كلَّ أحد يسجد إليها.
قال القرطبيُّ: «والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة، وهذا أظهر الأقوال، وهو مروي عن ابن عباس».
قال ابن الخطيب: «قال الواحديُّ: وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها -» مسجد «- بفتح الجيم - إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها» مسجد «- بكسر الجيم - لأن المواضع، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد، والمطلِع، والمنسِك، والمسكِن، والمنبِت، والمفرِق، والمسقِط، والمجزِر، والمحشِر، والمشرِق، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح، وهي: المنسك والمطلع والمسكن والمفرق، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع».
قوله: «للَّهِ». إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق، فقال تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ﴾ [الحج: ٢٦] وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ»
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ»
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا «
432
قال القرطبي:» وهذا حديث صحيح «.

فصل في نسبة المساجد إلى غير الله


فإن قيل: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث:
«سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق»
.
ويقال: مسجد فلان، لأنه حبسه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

فصل في معنى الآية


معنى: ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ﴾ لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها، ويجوز وضعُ الصدقات فيها، على رسم الاشتراك بين المساكين، والأكل فيها، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم، وسكن المريضِ فيه، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.
قوله: ﴿فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾. وهذا توبيخٌ للمشركين، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.
وقال مجاهد: كانت اليهودُ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا بالله تعالى، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد.
وقيل: المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، وفي الحديث: «مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا: لا ردَّها اللَّه عليكَ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا»
وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله، لأن قوله تعالى ﴿فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.
وروى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال:» وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ «فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:» اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً
433
ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً «».
قوله: ﴿وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾.
يجوز الفتحُ، أي: أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و «عَبْدُ اللَّهِ» هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة. «يَدعُوهُ»، أي: يعبده.
وقال ابن جريج: «يَدْعوهُ»، أي: قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي: يوحد الله.
﴿كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾.
قال الزُّبيرُ بن العوام: هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم.
وقيل: كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: رغبة في سماع القرآن.
يروى عن مكحول: أن الجنَّ بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند الفجر.
وعن ابن عباس أيضاً: أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقيل: كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: «لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ» محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبريُّ
434
أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.
قال مجاهد: اللِّبَد: الجماعات.
قوله «لِبَداً» : قرأ هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها.
فالأولى: جمع «لُبْدَة» - بضم اللام - نحو «غُرفَة وغُرَف».
وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو «حطم» وعليه قوله تعالى ﴿مَالاً لُّبَداً﴾ [البلد: ٦].
وأما الثانية: فجمع «لِبْدة» - بالكسر - نحو «قربة وقِرَب».
واللبدة: الشيء المتلبد، أي: المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم «لبدة الأسد». كقول زهير: [الطويل]
٤٩١٢ - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ
ومنه: اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد: اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا: أطال اللَّهُ الأمد على لبد.
والمعنى: كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: «لُبُداً» - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.
وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جمع «لَبْد» نحو «رَهْن» جمع «رُهُن».
والثاني: أنه جمع «لَبُود» نحو «صَبُور، وصُبُر» وهو بناء مبالغة أيضاً.
وقرأ ابن محيصن: بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً: «لُبَّداً» - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.
وقيل: وهو جمع «لابد» ك «ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع».
435
قوله «يَهْدِي » صفة أخرى، أي : هادياً.
﴿ إِلَى الرشد ﴾. قرأ العامةُ :«الرشد » بضمة وسكون، وابن عمر١ : بضمها وعنه أيضاً : فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى : يهدي إلى الصواب.
وقيل : إلى التوحيد.
قوله تعالى :﴿ فَآمَنَّا بِهِ ﴾، أي : بالقرآن، أي : فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله، ﴿ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ﴾، أي : لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٧٩، والبحر المحيط ٨/٣٤٠، والدر المصون ٦/٣٨٩..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ تعالى ﴾. قرأ الأخوان وابن عامر وحفص : بفتح «أنَّ »، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون١ : بالكسر.
وقرأ أبو بكر٢ وابن عامرٍ :«وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه » بالكسر، والباقون : بالفتح.
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾.
وتلخيص هذا أن «أنَّ » المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام :
قسم : ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن ﴾، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني : أن يقترن بالواو، وهو أربع عشرة كلمة، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ وهذا هو القسمُ الثاني.
والثالث :«وأنه لما قام » يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.
والاثنتا عشرة : وهي قوله ﴿ وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ ﴾[ الجن : ٣ ]، ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ﴾ [ الجن : ٤ ]، ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّا ﴾ [ الجن : ٥ ]، ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ ﴾[ الجن : ٦ ]، ﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ ﴾ [ الجن : ٧ ]، ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا ﴾ [ الجن : ٨ ]، ﴿ وَأَنَّأ كُنَّا ﴾ [ الجن : ٩ ]، ﴿ وَأَنَّا لاَ ندري ﴾[ الجن : ١٠ ]، ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصالحون ﴾ [ الجن : ١١ ]، ﴿ وَأَنَّا ظَنَنّا ﴾ [ الجن : ١٢ ]، ﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ﴾ [ الجن : ١٣ ]، ﴿ وَأَنَّا مِنَّا المسلمون ﴾ [ الجن : ١٤ ].
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.
فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع «أوحِيَ »، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحِيَ »، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون » لم يستقم معناه.
وقال مكيٌّ : وعطف «أن » على «آمنَّا بِهِ » أتم في المعنى من العطف على «أنَّهُ اسْتمَعَ » لأنَّك لو عطفت «وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا » وشبه ذلك على «أنَّهُ اسْتمَعَ » لم يجز ؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.
الثاني : أن الفتح في ذلك عطف على محل «بِهِ » من «آمنَّا بِهِ ».
قال الزمخشريُّ :«كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي ».
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال :«والفتح في ذلك على الجمل على معنى :" آمنَّا بِهِ "، فيه بعدٌ في المعنى ؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك »
وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال : فتحت «أن » لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن » نحو : صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب :[ الوافر ]
٤٨٩٣ - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا٣ ***. . .
فنصب «العيونَ » لإتباعها «الحواجب »، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.
وقال الزجاج :«لكن وجهه أن يكون محمولاً على " آمنَّا بِهِ " وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة ».
الثالث : أنه معطوف على الهاء في «بِهِ »، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.
وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة » عند قوله :﴿ وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام ﴾[ البقرة : ٢١٧ ].
على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن » أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى » مع «أن ».
ووجه الكسر : العطف على «إن » في قوله :«إنَّا سَمعْنَا » فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا :«إنَّا سَمِعْنَا »، وقالوا :«إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا » إلى آخرها.
وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس ﴾، ﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ ﴾ معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.
ووجه الكسرِ والفتح في قوله :﴿ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله ﴾ ما تقدم.
ووجه إجماعهم على فتح ﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على «أنَّه اسْتَمَعَ » فيكون موحى أيضاً.
والثاني : أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي : فلا تدعوا مع الله أحدا، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.
وقال الزمخشريُّ :«أنَّهُ اسْتَمَع » - بالفتح - لأنه فاعل «أوْحِيَ »، و «إنَّا سَمِعْنَا » بالكسر لأنه مبتدأ، محكي بعد القول، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنِّ كسر، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما :«وأن المساجد، وأنه لما قام عبد الله يدعوه »، ومن فتح كلهن، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في «آمنَّا بِهِ »، أي : صدقناه وصدقنا به.
والهاء في ﴿ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ ﴾، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر «أن ».
قوله :﴿ جَدُّ رَبِّنَا ﴾. قرأ العامة :﴿ جَدّ رَبَّنَا ﴾ بالفتح ل «رَبَّنَا ».
والمراد به هنا العظمة.
وقيل : قدرته وأمره.
وقيل : ذكره.
والجدُّ أيضاً : الحظُّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ » والجدُّ أيضاً : أبو الأب، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر.
وقرأ عكرمة٤ : بضم ياء «ربُّنا » وتنوين «جدٌّ » على أن يكون «ربنا » بدلاً من «جد ».
والجد : العظيمُ. كأنه قيل : وأنه تعالى عظم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة.
وعنه أيضاً٥ :«جداً » على التمييز و «ربنا » فاعل ب «تعَالى »، وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير :«جد ربنا » ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا أنه بكسر الجيم، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف، وربنا فاعل ب «تعالى »، والتقدير : تعالى ربُّنا تعالياً جداً، أي : حقاً لا باطلاً.
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل.
والثاني : أنه منصوب على الحال، أي : تعالى ربنا حقيقة وتمكناً، قاله ابن عطية.
وقرأ حميد٦ بن قيس :«جُدُّ ربِّنا » - بضم الجيم - مضافاً ل «ربِّنا »، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها، إذ الأصل : ربنا العظيم، نحو :«جرد قطيفة » الأصل : قطيفةُ جرد، وهو مؤولٌ عن البصريين.
وقرأ ابنُ السميقع٧ :«جدا ربنا » بألف بعد الدال مضافاً ل «ربِّنا ».
والجَدَا والجدوى : النفع والعطاء، أي : تعالى عطاء ربِّنا ونفعه.

فصل في معنى «الجد »


قال القرطبيُّ٨ : الجد في اللغة : العظمةُ والجلالُ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه - :«كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا » أي : عظم وجل فمعنى «جَدُّ ربِّنَا » أي : عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة٩، وعن مجاهد أيضاً : ذكره١٠.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً : غناه١١.
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي : محظوظ، وفي الحديث :«وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ »، قال أبو عبيد والخليل، أي ذا الغنى منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : قدرته١٢ وقال الضحاك : فعله١٣.
وقال القرظي والضحاك : آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه١٤.
وقال أبو عبيد والأخفش : ملكه وسلطانه.
وقال السدي : أمره١٥.
وقال سعيد بن جبير :﴿ وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا ﴾، أي : تعالى ربنا.
وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من الجنِّ.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه١٦.
قال القشيريُّ : ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنُّبُه أولى.
قال القرطبيُّ١٧ :«ومعنى الآية : وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما، أو الحاجة إليهما، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء ».
وقوله عز وجل :﴿ مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ﴾، مستأنف، فيه تقرير لتعالي جده.
١ ينظر: السبعة ٦٥٦، والحجة ٦/٣٣٠، وإعراب القراءات ٢/٤٠٠، وحجة القراءات ٧٢٧..
٢ ينظر السابق..
٣ تقدم..
٤ ينظر المحرر الوجيز ٥/٣٧٩، والبحر المحيط ٨/٣٤١، والدر المصون ٦/٣٩٠..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤١، والدر المصون ٦/٣٩٠..
٦ ينظر السابق..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤١، والقرطبي ١٩/٧..
٨ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٥٩-٢٦٠) عن مجاهد وعكرمة وقتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد..

١٠ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٠) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد..
١٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
١٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١١٠.).
١٤ ينظر المصدر السابق وتفسير القرطبي (١٩/٧)..
١٥ ينظر المصدر السابق..
١٦ ينظر المصدر السابق..
١٧ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩/٧..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً ﴾.
الهاء في «أنه » للأمر أو الحديث، و «سَفِيهُنَا » يجوز أن يكون اسم «كَانَ » و «يقُولُ » الخبر، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل «كَانَ » لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ، نحو «سَفِيهُنَا يقُولُ »، لو قلت :«يَقُولُ سَفيْهُنَا » على التقديم والتأخير، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب «كَانَ » يلتبس بالفعل والفاعل، وفي باب «كَانَ » يؤمن ذلك.
ويجوز أن يكون «سَفِيهُنَا » فاعل «يقُولُ » والجملة خبر «كَانَ » واسمها ضمير الأمر مستتر فيها، وقد تقدم هذا في قوله :﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾[ الأعراف : ١٣٧ ] وقوله تعالى :﴿ شَطَطاً ﴾ تقدم في سورة الكهف١ مثله.
قال القرطبيُّ٢ :«ويجوز أن يكون " كان " زائدة، والسفيه : هو إبليس، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم٣ وقيل : المشركون من الجنِّ.
قال قتادةُ : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس٤ والشططُ والإشطاط : الغلو في الكفر.
قال أبو مالك : هو الجور وقال الكلبي : هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق٥ ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٨٩٤ - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا***وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْط٦
١ آية رقم ١٤..
٢ الجامع لأحكام القرآن (١٩/٨)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٢) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
أما حديث أبي موسى فقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) وقال: أخرجه الديلمي وابن مردويه بسند واه..

٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨)..
٦ ينظر القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨)..
قوله :﴿ وَأَنَّا ظَنَنّا ﴾ أي : حسبنا ﴿ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً ﴾.
" أنْ " مخففة، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها، والفاعل بينهما هنا حرف النفي، و " كذباً " مفعول به، أو نعت مصدر محذوف، أي : قولاً كذباً.
وقرأ الحسن١ والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب :" تقَوَّل " - بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع " تقوَّل " أي : كذب، والأصل : تتقوَّل، فحذف إحدى التاءين، نحو " تذكرون ". وانتصب " كَذِباً " في هذه القراءة على المصدر ؛ لأن التقول كذب، فهو نحو قولهم :" قَعدْتُ جُلُوساً ".
ومعنى الآية : وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقيل : انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو- :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس ﴾
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٠، والبحر المحيط ٨/٣٤١، والدر المصون ٦/٣٩١..
﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس ﴾ فمن فتح، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله :﴿ أَنَّهُ استمع ﴾، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن١ زيد وغيرهما.
وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا، بعثُوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ، يعنون من الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وإن أفزعهم الجن رجعوا.
قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم٢.
وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ، فلما انتصف الليل جاء الذئب، فحمل حملاً من الغنم، فقال الراعي : يا عامر الوادي جارك الله، فنادى منادٍ : يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكة :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً ﴾، أي : زاد الجنُّ الإنس رهقاً، أي : خطيئة، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم٣.
والرَّهقُ : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله :﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾[ يونس : ٢٧ ] ؛ وقال الأعشى :[ البسيط ]
٤٨٩٥ - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها***هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا٤
يعني إثماً، ورجل مرهق، أي : يغشاه السائلون.
قال الواحديُّ : الرَّهَقُ : غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى :﴿ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾.
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها.
وقال مجاهد أيضاً :«فزَادُوهُم » أي : أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ، حتى قالت الجنُّ :«سدنا الإنس والجن »٥.
وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن٦.
وقال سعيد بن جبير : كفراً.
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ.
وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ، فالمعنى : وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي.
قال القشيريُّ : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرِّجالِ على الجن.
وقوله :«مِنَ الإنس » صفة ل «رِجَالٌ » وكذلك قوله «مِنَ الجِنِّ ».
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٣) عن الحسن ومجاهد وابن زيد.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٦/٤٣٢) عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر كما ذكره عن مجاهد وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد وابن المنذر..

٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٨)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٣) عن قتادة وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد..
٤ ينظر القرطبي ١٩/٨، والبحر ٨/٣٤١، وروح المعاني ٢٩/١٠٦..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٤) عن الربيع بن أنس وابن زيد.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٣) عن الربيع بن أنس وعزاه إلى عبد بن حميد..

قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً ﴾.
الكلام في «أنْ لنْ » كالكلام في الأول، و «أن » وما في خبرها، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال، لأن «ظنُّوا » يطلب مفعولين، و «ظَننْتُم » كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.
والضمير في «أنَّهُم ظنُّوا » للإنس، وفي «ظَنَنْتُمْ »، للجن، ويجوز العكس

فصل في الخطاب في الآية


هذا من قول الله تعالى للإنس، أي : وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.
قال الكلبيُّ : ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي : إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق بذلك١.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٥) عن الكلبي.
وذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٩)..

قوله :﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء ﴾. هذا من قول الجنِّ، أي : طلبنا خبرها كما جرت عادتنا ﴿ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ﴾، أي ملئت حفظاً يعني : الملائكة.
فاللَّمْسُ : المس، فاستعير للطلب، لأن الماس متقرب، يقال : لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال : جسوه بأعينهم وتجسسوه.
والمعنى : طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها.
قوله :﴿ فَوَجَدْنَاهَا ﴾، فيها وجهان :
أظهرهما : أنها متعدية لواحد ؛ لأن معناها : أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قوله «مُلِئَتْ » في موضع نصب على الحال على إضمار «قَدْ ».
والثاني : أنها متعدية لاثنين، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني.
و «حَرَساً » نصب على التمييز نحو «امتلأ الإناء ماء ».
والحَرَس : اسم جمع ل «حَارِس » نحو «خَدَم » ل «خَادِم » و «غيب » لغائب، ويجمع تكسيراً على «أحْراس » ؛ كقول امرئ القيس :[ الطويل ]
٤٨٩٦ - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَر***حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي١
والحارس : الحافظُ الرقيبُ، والمصدر الحراسةُ، و «شديداً » صفة ل «حَرسَ » على اللفظ ؛ كقوله :[ الرجز ]
٤٨٩٧ - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا٢ ***. . .
ولو جاء على المعنى لقيل :«شداد » بالجمع، لأن المعنى : مُلئتْ ملائكة شداد، كقولك السلف الصالح، يعني : الصالحين.
قال القرطبيُّ٣ :«ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى : حرست حراسة شديدة ».
قوله :«وشُهُباً ». جمع «شِهَاب » ك «كِتَابِ وكُتُب ».
وقيل : المراد النجوم، أو الحرسُ أنفسهم، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع، وقد تقدم في سورة «الحجر، والصافات ».
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ، كقوله :[ الطويل ]
٤٨٩٨ -. . . *** وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ٤
وقرأ الأعرجُ٥ :«مُلِيتْ » بياء صريحة دون همزة.
١ ينظر ديوانه ص (١٣)، وجمهرة اللغة ص ٧٣٦، وخزانة الأدب ١١/٢٣٨، ٢٣٩، وشرح شواهد المغني ٢/٢٥١، ومغني اللبيب ١/٢٦٥، ورصف المباني ص ٢٩٢، والدر المصون ٦/٣٩٢..
٢ صدر بيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، وعجزه:
... *** والذئب أخشاه وكلبا عاويا
ينظر اللسان (رجل) والكشاف ٤/١٢٤، والبحر ٨/٣٤٢ والدر المصون ٦/٣٩٢..

٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٩..
٤ تقدم..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨١، والبحر المحيط ٨/٣٤٢، والدر المصون ٦/٣٩٢..
قوله :﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾، المقاعد : جمع «مقعد » اسم مكان، والضمير في «منها »، أي : من السماء، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ، فقالت الجن حينئذ :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.
قوله «الآن ». هو ظرفٌ حالي، واستعير هنا للاستقبال، كقوله الشاعر :[ الوافر ]
٤٨٩٩ -. . . *** سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا١
فاقترن بحرف التنفيس، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله :«فالآن باشروهن »٢.
و «رصداً » إما مفعول له، وإما صفة له «شهاباً » أي «ذا رصد » وجعل الزمخشري :«الرصد » اسم جمع ك «حرس »، فقال : والرصد : اسم جمع للراصد ك «حرس » على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب » بمعنى الراصد، أو كقوله :[ الوافر ]
٤٩٠٠ -. . . ***. . . ومِعَى جَياعَا٣

فصل في بيان متى كان قذف الشياطين


اختلفوا : هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقال قوم : لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب، قاله الكلبيُّ، ورواه عطية عن ابن عباس، ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمرو : لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ٤.
وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء.
قال نافع بن جبيرٍ : كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال : لم يرم بنجم، منذ رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها٥.
وقيل : كان ذلك قبل البعثِ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله.
وهو معنى قوله :«قَدْ مُلِئَتْ »، أي : زيد في حرسها.
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي - :[ الكامل ]
٤٩٠١ - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ***نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا٦
قال الجاحظُ :«هذا البيت مصنوع، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث ».
والقول بالرمي أصح لهذه الآية، لأنها تخبر عن الجن، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس، والشهب.
وقال بشر بن أبي خازم :[ الكامل ]
٤٩٠٢ - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا***يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ٧
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ » ؟.
قالوا : كُنَّا نقُولُ : يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ، أو يولد عظيم [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ، سبَّح حملةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ : ماذا قال ربُّكمْ، فيُخْبَرُون، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه »٨ ]٩.
وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث، وهو قول الأكثرين.
قال الجاحظ : فلو قال قائلٌ : كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم ؟.
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله - تعالى - قال له :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين ﴾[ الحجر : ٣٥ ]، ولولا هذا لما تحقق التكليف.
قال القرطبيُّ١٠ :«والرَّصدُ »، قيل : من الملائكة، أي : ورصداً من الملائكة، وقيل : الرَّصَد هو الشهب، والرصد : الحافظ للشيء، والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس، والواحد : راصد.
وقيل : الرَّصَد هو الشهاب، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل » بمعنى «مفعول » ك «الخَبَط والنفض ».
١ عجز بيت وصدره:
فإني لست خاذلكم ولكن ***...
ينظر الدسوقي على المغني ١/١٤٩، والبحر المحيط ٨/٣٤٢..

٢ آية ١٨٧..
٣ جزء من عجز بيت للقطامي وتمام البيت:
كأن نسوع رحلي ضمت***حوالب غرزا.....
ينظر اللسان (غرز)، والكشاف ٤/٦٢٥ وفيه "كأن قتود" بدل "كأن نسوع"..

٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٤) وعزاه إلى الواقدي وأبي نعيم في "الدلائل"..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٦/٤٣٤) وعزاه إلى الواقدي وأبي نعيم في "الدلائل"..
٦ ينظر القرطبي ١٩/١٠، والكشاف ٤/٦٢٦، والبحر ٨/٣٤٣، وروح المعاني ٢٩/١٠٩..
٧ ينظر الكشاف ٦/٦٢٥، والبحر ٨/٣٤٣..
٨ تقدم تخريجه..
٩ سقط من أ..
١٠ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٠..
قوله :﴿ وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض ﴾، في ﴿ أَشَرٌّ أَرِيدَ ﴾ وجهان :
أحسنهما : الرفع بفعل مضمر على الاشتغال، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.
والثاني : أن الرفع على الابتداءِ.
ولقائل أن يقول : يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر، وهو أنه قد عطف ب «أمْ » فعل، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ «أمْ » عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وهو أن الأصل : أشَرٌّ أريد بهم، أم خيرٌ، فوضع لقوله :«أمْ أراد بِهمْ » موضع خير.
وقوله :«أشَرٌّ » ساد مسدَّ مفعول «ندري »، بمعنى أنه معلق به، وراعى معنى «مَنْ » في قوله :«بِهمْ ربُّهُمْ » فجمع.

فصل في معنى الآية


قال ابن زيد : معنى الآية : أنَّ إبليس قال : لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً١.
وقيل : هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي : لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل : لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا : إنَّا لا ندري، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون ؟.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٦٦)..
قوله :﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾.
هذا من قول الجنِّ، أي : قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم : وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.
قوله :﴿ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾، يحتمل وجهين :
أحدهما : يحتمل أن «دُونَ » بمعنى «غير »، أي : ومنا غير الصالحين، أي : كافرون، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾[ الأنعام : ٩٤ ] فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش.
والثاني : أن «دُونَ » على بابها من الظرف، وأنها صفة لمحذوف، تقديره : ومنا فريق أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع «مِنْ » التبعيضية يكثر، كقولهم : منَّا ظعنَ ومنَّا أقام، أي : منا فريقٌ ظعن، ومنا فريق أقام.
ومعنى الآية : ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.
قوله :﴿ كُنَّا طَرَائِقَ ﴾، فيه أوجه :
أحدها : أن التقدير : كنا ذوي طرائق، أي : ذوي مذاهب مختلفة.
الثاني : أن التقدير : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ.
الثالث : أن التقدير : كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ ؛ كقوله :[ الكامل ]
٤٩٠٣ -. . . *** كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ١
الرابع : أن التقدير : كانت طريقتنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشريُّ.
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً.
وقال : إنَّه قدر في الأول :«ذَوِي ».
وفي الثاني : مثل.
وفي الثالث : طرائق.
ورد عليه أبو حيَّان٢ قوله :﴿ كُنَّا طَرَائِقَ ﴾ ؛ كقوله :[ الكامل ]
٤٩٠٤ -. . . *** كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ٣
بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، فلا يخرج القرآنُ عليه، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.
والقددُ : جمع قددة، والمراد بها الطريقةُ، وأصلها السيرة، يقال : قِدَّة فلان حسنة، أي : سيرته، وهو من قدَّ السير، أي : قطعه على استواء، فاستعير للسيرة المعتدلة.
قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٩٠٥ - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه***في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ٤
وقال آخر :[ البسيط ]
٤٩٠٦ - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة***إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ٥
وقال لبيد في أخيه :[ المنسرح ]
٤٩٠٧ - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا***لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ٦
والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ، ويقال : ما له قد ولا قحف، فالقد : إناء من جلد، والقحف : إناء من خشب.

فصل في معنى الآية


قال سعيد بن المسيِّب : معنى الآية «كنا مسلمين، ويهود ونصارى ومجوساً »٧.
وقال السدي : في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية٨.
وقال قوم : إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون، ومنا الكافرون.
وقيل : أي : ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبيُّ٩ رحمه الله :«والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾[ الأحقاف : ٣٠ ]، وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان، وأيضاً لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر، والطرائق : جمع طريقة، وهي مذهب الرجل، أي : كنا فرقاً، ويقال : القوم طرائق أي : على مذاهب شتَّى، والقددُ : نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده : قدَّة، يقال : لكل طريقةٍ قِدَّةٌ ».
١ ينظر الكشاف ٦/٦٢٧، والبحر ٨/٣٤٣، والدر المصون ٦/٣٩٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٥٠..
٣ تقدم..
٤ ينظر القرطبي ١٩/١١، والبحر ٨/٣٣٩، والدر المصون ٦/٣٩٤ وروح المعاني ٢٩/١١٠..
٥ ينظر البحر ٨/٣٣٩، والدر المصون ٦/٣٩٤..
٦ ينظر: ديوانه (١٥٩)، والقرطبي ٩/١١..
٧ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١١)..
٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٥) وعزاه إلى أبي الشيخ. وذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١١)..
٩ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١١..
قوله :﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ﴾.
والظنُّ هنا بمعنى العلم، واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى :﴿ وَأَنَّا ظَنَنّاَ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً ﴾، «وأنَّهُم ظنُّوا »، أي : علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى، أنا في قبضته، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره.
وقوله :«فِي الأرضِ »، حال، وكذلك «هَرباً » مصدر في موضع الحالِ، تقديره : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.
قوله :﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى ﴾، يعني القرآن «آمنَّا بِهِ »، وباللَّه، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته، وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ.
قال الحسن - رضي الله عنه - بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء، وذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾١[ يوسف : ١٠٩ ].
وفي الحديث :«بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ »، أي : الإنس والجن٢. وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ يَا مَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾[ الآية : ١٣٠ ].
قوله :﴿ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ﴾.
قال ابنُ عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته٣ ؛ لأن البخس : النقصان، والرهق : العدوان، وغشيان المحارمِ، وقد تقدم في بيت الأعشى.
قوله :«فَلا يَخَافُ »، أي : فهو لا يخافُ، أي فهو غير خائف ؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ، ولولا ذلك لقيل : لا يخف، قاله الزمشخريُّ.
ثم قال :«فإن قلت : أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف ؟.
قلتُ : الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل :" فهُو لا يخَافُ "، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره ».
قال شهاب الدين٤ :«وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية ».
وقرأ ابن وثاب٥ والأعمشُ : بالجزم، وفيها وجهان :
أحدهما : ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، أن «لا » نافية، والفاء حينئذ واجبة٦.
والثاني : أنها نافية، والفاء حينئذٍ زائدةٌ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله «بَخْساً »، فيه حذف مضاف، أي : جزاء بخس، كذا قرره الزمخشريُّ.
وهو مستغنى عنه.
وقرأ ابن٧ وثاب :«بَخَساً » بفتح الخاء.
قال القرطبيُّ٨ : وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم :«فَلا يَخفْ » جزماً على جواب الشرط، وإلغاء الفاء أيضاً.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١١٣) والقرطبي (١٩/١٢)..
٢ تقدم..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٢)..
٤ الدر المصون ٦/٣٩٤..
٥ ينظر: الكشاف ٤/٦٢٨، والمحرر الوجيز ٥/٣٨٢، والدر المصون ٦/٣٩٤..
٦ في أ: زائدة..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٤..
٨ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٢..
قوله :﴿ وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون ﴾. أي : وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط : الجائر لأنه عادل عن الحق، والمقسط : العادل لأنه عادل إلى الحق، قسط : إذا جار، وأقسط : إذا عدل ؛ قال :[ الكامل ]
٤٩٠٨ - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً***عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ١
وقد تقدم في أول «النساء » أن «قَسَطَ » : ثلاثياً بمعنى «جَارَ »، و «أقسط » الرباعي بمعنى «عَدَل ». وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ : ما تقول فيَّ ؟.
قال : إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون : ما أحسن ما قال، فقال : يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾. وقرأ ﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١ ].
١ ينظر القرطبي ١٩/١٢، والبحر ٨/٣٤٤، وروح المعاني ٢٩/١١١..
قوله :﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً ﴾.
أي : قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.
قال الراغبُ :«حرى الشيء يحري، أي : قصد حراه، أي : جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد ؛ قال الشاعر :[ الكامل ]
٤٩٠٩ -. . . *** والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي١
ويقال : رماه الله بأفعى حارية، أي : شديدة » انتهى.
وكأن أصله من قولهم : هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به. و «رَشَداً » مفعول به.
والعامة قرأوا :«رشداً » - بفتحتين - والأعرج : بضمة وسكون.
قوله :﴿ وَأَمَّا القاسطون ﴾. أي : الجائرون عن طريق الحق والإيمان ﴿ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ أي : وقوداً، وقوله «فَكانُوا » أي : في علم الله تبارك وتعالى.
فإن قيل : ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.
فالجواب٢ : بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله ﴿ تَحَرَّوْاْ رَشَداً ﴾ أي : تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.
فإن قيل : فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار ؟.
فالجواب : أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.
وهذا آخر كلام الجن.
١ ينظر مفردات الراغب ١٦٥، والدر المصون ٦/٣٩٤..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٤٢..
قوله ﴿ وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة ﴾، «أنْ » هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي ب «لو »، فأصله بين «أن » المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سَبَأ ».
وقال أبو البقاء هنا :«ولو » عوض كالسِّين، وسوف، وقيل :«لَوْ » بمعنى «إن » و «إن » بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ﴾[ مريم : ٤٦ ]، وقال في موضع آخر :﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾[ المائدة : ٣٧ ] ذكره ابن فضالة في البرهان.
قال شهاب الدين١ :«وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين ».
وقرأ العامة : بكسر «وأن لو » على الأصل.
وابن وثَّاب والأعمشُ : بضمها٢، تشبيهاً بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق


هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السورة من «أنَّ » المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن » المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الأنباريِّ : ومن كسر الحروف، وفتح ﴿ وأنْ لو اسْتقَامُوا ﴾ أضمر يميناً تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.
قال الشاعر :[ الوافر ]
٤٩١٠ - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً*** ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ٣
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير :﴿ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ﴾، ﴿ وَأَلَّوِ استقاموا ﴾ أو «على آمنا به » ويستغنى عن إضمار اليمين.
والضمير في قوله ﴿ وَأَلَّوِ استقاموا ﴾، قيل : يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي : هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقيل : بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ، إنما يليق بالإنس، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾[ القدر : ١ ].
وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
قال ابن الخطيب٤ :«ويدل على صحة قول القاضي، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة ».
والغدق - بفتح الدال وكسرها - : لغتان في الماء الغزير، ومنه الغداق : للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق، والكثير النطق.
ويقال : غدقت عينه تغدق أي : هطل دمعها غدقاً.
وقرأ العامة :«غَدَقاً » بفتحتين.
وعاصم فيما يروي٥ عنه الأعشى، بفتح الغين وكسر الدال، وقد تقدم أنهما لغتان.
قوله :﴿ وَأَلَّوِ استقاموا ﴾.
قال ابن الخطيب٦ : إن قلنا : إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان :
أحدهما : أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الآية، ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ [ الطلاق : ٢ ]. وقوله :﴿ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ ﴾، إلى قوله :﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [ نوح : ١٠- ١٢ ] الآية.
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب.
الثاني : أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ] الآية.
والقول الأول : اختيار الزجاج، قال : لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة، وهي طريقة الهدى.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٣٩٥..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٤، والدر المصون ٦/٣٩٥..
٣ ينظر الإنصاف ١/١٢١، وخزانة الأدب ٤/١٤١، ١٤٣، ١٤٥، ١٠/٨٢ والجنى الداني ص ٢٢٢، وجواهر الأدب ص١٩٧، والدرر ٤/٩٦، ٢١٩، ورصف المباني ص ١١٦، وشرح التصريح ٢/٣٣٣، وشرح شواهد المغني ١/١١١، ومغني اللبيب ١/٣٣ والمقاصد النحوية ٤/٤٠٩، والمقرب ١/٢٠٥، وهمع الهوامع ٢/١٨، ٤١..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٤٢..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٣، والبحر المحيط ٨/٣٤٥، والدر المصون ٦/٣٩٥..
٦ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٤٢..
ومعنى :﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ أي : لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا، وإن قلنا : إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.
قوله :﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة، بأنَّ الفتنة هي الاختبار، كما يقال : فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى ﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.
وأجيبوا : بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.

فصل في التحذير من الدنيا


روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا " قالوا : ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا ؟.
قال :" بَركَاتُ الأرْضِ " ١. وذكر الحديث »
وقال - عليه الصلاة والسلام - :«فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ ». ٢
قوله :﴿ وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ ﴾، أي : عن عبادته، أو عن موعظته، أو عن وحيه.
وقال ابن زيدٍ : يعني القرآن٣، وفي إعراضه وجهان :
الأول : عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان.
وقيل :﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ ﴾، أي : لم يشكره.
قوله :﴿ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾.
قرأ الكوفيون٤ :«يَسْلكْهُ » - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى، وباقي السبعة : بنون العظمة على الالتفات.
وهذا كما تقدم في قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾، ثم قال :﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [ الإسراء : ١ ].
وقرأ مسلم بن جندب٥ :«نسلكه » بنون العظمة مضمومة من «أسلكه ». وبعضهم٦ : بالياء من تحت مضمومة، وهما لغتان، يقال : سلكه وأسلكه.
وأنشد :[ البسيط ]
٤٩١١ - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ٧ ***. . .
و «سلك، وأسلك » يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال : يتعديان إلى أحد المفعولين، بإسقاط الخافض، كقوله تعالى :﴿ واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ].
فالمعنى : ندخله عذاباً، أو نسلكه في عذابٍ، هذا إذا قلنا : إن «صَعَداً » مصدر.
قال الزمخشريُّ : يقال : صَعَداً وصُعُوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب، أي : يعلوه، ويغلبه، فلا يطيقه، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - : ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول : ما شقَّ عليَّ، ولا غلبني.
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، فيجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون «صعداً » مفعولاً به أي «يسلكه » في هذا الموضع ويكون «عذاباً » مفعولاً من أجله.
الثاني : أن يكون «عذاباً » مفعولاً ثانياً كما تقدم، و «صعداً » بدلاً من عذاباً، ولكن على حذف مضاف أي : عذاب صعد، وقرأ العامة بفتحتين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد، وقرئ بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك «جُنُب » و «شُلُل ».

فصل


ومعنى عذاباً صعداً : أي شاقاً شديداً.
[ وقيل عن ابن عباس :] هو جبل في جهنم٨، قال الخدريُّ : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت٩.
وعن ابن عباس : إن المعنى مشقّة من العذاب١٠، لأن الصعد في اللغة هو المشقة، تقول : تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك، ومنه قول عمر المتقدم، والمشي في الصعود يشق، وصعود العقبة الكئودِ.
وقال عكرمةُ : هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.
وقال : يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف صعودها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ [ المدثر : ١٧ ].
١ أخرجه مسلم (٢/٧٢٨) من حديث أبي سعيد الخدري..
٢ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (٢/٥٣٩)..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١١٨) والقرطبي (١٩/٢١٤)..
٤ ينظر: السبعة ٦٥٦، والحجة ٦/٣٣٢-٣٣٣، وإعراب القراءات ٢/٤٠١، وحجة القراءات ٧٢٩..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٥، والدر المصون ٦/٣٩٥..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٣، والبحر المحيط ٨/٣٤٥، والدر المصون ٦/٣٩٥..
٧ تقدم..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٠) والحاكم (٢/٥٠٤) من طريق عكرمة عن ابن عباس.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٦) وزاد نسبته إلى هناد وعبد بن حميد وابن المنذر..

٩ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٤)..
١٠ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾. قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح، بتقدير : وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ.
وقال الخليل : أي ولأن المساجد، فحذف الجارُّ، ويتعلق بقوله «فلا تدعُوا ».
وجعلوه كقوله تعالى :﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ [ قريش : ١ ] فإنه متعلق بقوله ﴿ فَلْيَعْبُدُواْ ﴾ كقوله :﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٩٢ ].
وقرأ طلحة١ وابن هرمز :«وإنَّ المسَاجِدَ » - بالكسر. . ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل، فيكون في المعنى كتقدير الخليل

فصل في المراد ب «المساجد »


المساجدُ : قيل هي جمع «مسجد » - بالكسر - وهو موضع السجود، وقد تقدم أن قياسه الفتح.
وقيل : هو «مسجد » - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ :«الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان »، وهو قول سعيد بن المسيب.
والمعنى : إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله، وقال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.
قال - عليه الصلاة والسلام - «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » وذكر الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام :«إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ »٢ وقيل : بل جمع مسجد، وهو مصدر بمعنى السجودِ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.
وقال القرطبي٣ :«المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة ».
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : قالت الجن : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾، أي : بنيت لذكر الله ولطاعته٤.
وقال ابن عبَّاسٍ : المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة مساجد، لأن كلَّ أحد يسجد إليها٥.
قال القرطبيُّ٦ :«والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة، وهذا أظهر الأقوال، وهو مروي عن ابن عباس ».
قال ابن الخطيب٧ :«قال الواحديُّ : وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها – " مسجد " - بفتح الجيم - إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ، فإنَّ واحدها " مسجد " - بكسر الجيم - لأن المواضع، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد، والمطلِع، والمنسِك، والمسكِن، والمنبِت، والمفرِق، والمسقِط، والمجزِر، والمحشِر، والمشرِق، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح، وهي : المنسك والمطلع والمسكن والمفرق، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع ».
قوله :«للَّهِ ». إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق، فقال تعالى :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾[ الحج : ٢٦ ] وقال - عليه الصلاة والسلام - :«لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ »٨
وقال - عليه الصلاة والسلام - :«صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ »٩
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا " ١٠.
قال القرطبي١١ :" وهذا حديث صحيح ".

فصل في نسبة المساجد إلى غير الله


فإن قيل : المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث :«سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ».
ويقال : مسجد فلان، لأنه حبسه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

فصل في معنى الآية


معنى :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها، ويجوز وضعُ الصدقات فيها، على رسم الاشتراك بين المساكين، والأكل فيها، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم، وسكن المريضِ فيه، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.
قوله :﴿ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً ﴾. وهذا توبيخٌ للمشركين، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.
وقال مجاهد : كانت اليهودُ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا بالله تعالى، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد١٢.
وقيل : المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، وفي الحديث :«مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّها اللَّه عليكَ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا ».
وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله، لأن قوله تعالى ﴿ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً ﴾ في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.
وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال :" وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ " فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال :" اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً " ١٣.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٥، والدر المصون ٦/٣٩٦..
٢ أخرجه البخاري (٢/٢٩٧) كتاب الأذان، باب: السجود على الأنف حديث (٨١٢) ومسلم (١/٣٥٤) كتاب الصلاة، باب: أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر (٢٣٠/٤٩٠) من حديث ابن عباس..
٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٤..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧١) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٦)..
٥ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١١٩) والقرطبي (١٩/١٥)..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٤..
٧ ينظر الرازي ٣٠/١٤٤..
٨ تقدم..
٩ أخرجه البخاري ٣/٦٣ كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: (١١٩٠) ومسلم (٢/١٠١٢) كتاب الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (٥٠٥/١٣٩٤) ومالك في الموطأ ١/١٩٦ في كتاب القبلة، باب: ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم..
١٠ هذا الحديث ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٥) وقال: لو صح ولم يصححه كما قال المؤلف عقب الحديث..
١١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٥..
١٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٥) عن مجاهد..
١٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٢٠) والقرطبي (١٩/١٥)..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾.
يجوز الفتحُ، أي : أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و «عَبْدُ اللَّهِ » هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول السورة. «يَدعُوهُ »، أي : يعبده.
وقال ابن جريج :«يَدْعوهُ »، أي : قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي : يوحد الله.
﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾.
قال الزُّبيرُ بن العوام : هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أي : كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم١.
وقيل : كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ٢.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رغبة في سماع القرآن٣.
يروى عن مكحول : أن الجنَّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند الفجر٤.
وعن ابن عباس أيضاً : أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود٥.
وقيل : كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد :«لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ » محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره٦، واختار الطبريُّ أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.
قال مجاهد : اللِّبَد : الجماعات٧.
قوله «لِبَداً » : قرأ هشام٨ : بضم اللام، والباقون : بكسرها.
فالأولى : جمع «لُبْدَة » - بضم اللام - نحو «غُرفَة وغُرَف ».
وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو «حطم » وعليه قوله تعالى ﴿ مَالاً لُّبَداً ﴾[ البلد : ٦ ].
وأما الثانية : فجمع «لِبْدة » - بالكسر - نحو «قربة وقِرَب ».
واللبدة : الشيء المتلبد، أي : المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم «لبدة الأسد ». كقول زهير :[ الطويل ]
٤٩١٢ - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ*** لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ٩
ومنه : اللبد ؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد : اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا : أطال اللَّهُ الأمد على لبد.
والمعنى : كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.
وقرأ الحسن١٠ والجحدريُّ :«لُبُداً » - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.
وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جمع «لَبْد » نحو «رَهْن » جمع «رُهُن ».
والثاني : أنه جمع «لَبُود » نحو «صَبُور، وصُبُر » وهو بناء مبالغة أيضاً.
وقرأ ابن محيصن١١ : بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.
وقرأ الحسن١٢ والجحدريُّ أيضاً :«لُبَّداً » - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.
وقيل : وهو جمع «لابد » ك «ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع ».
وقرأ أبو رجاء١٣ : بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.
وقيل : اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء - : الشيء الدائم، واللبد أيضاً : الذي لا يسافر ولا يبرح ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٩١٣ - من امرئ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ*** بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ١٤
ويروى : اللَّبد، قال أبو عبيد : وهو أشبه، ويقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد.
ولبيد : اسم شاعر من بني عامر.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الزبير..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٢)..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٦)..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٢) والترمذي (٣٣٢٣) والحاكم (٢/٥٠٤) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن مردويه والضياء "المختارة"..

٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٢-٢٧٣) عن قتادة وابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٧) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٣)..
٨ ينظر: السبعة ٦٥٧، والحجة ٦/٣٣٣، وإعراب القراءات ٢/٤٠٢، وحجة القراءات ٧٢٩..
٩ تقدم..
١٠ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٤، والبحر المحيط ٨/٣٤٦، والدر المصون ٦/٣٩٦..
١١ ينظر السابق..
١٢ ينظر السابق..
١٣ ينظر السابق..
١٤ ينظر: القرطبي ١٩/١٧..
وقرأ أبو رجاء: بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.
وقيل: اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء -: الشيء الدائم، واللبد أيضاً: الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر: [البسيط]
٤٩١٣ - من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ
ويروى: اللَّبد، قال أبو عبيد: وهو أشبه، ويقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد.
ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.
قوله
: ﴿إِنَّمَآ
أَدْعُواْ
، قرأ عاصم وحمزةُ: بلفظ الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد، والباقون: «قال» إخباراً عن «عبد الله» وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الجحدريُّ: وهي في المصحف كذلك. وقد تقدم لذلك نظائر في «قل سبحان ربي» آخر «الإسراء»، وكذا في أول «الأنبياء» وآخرها، وآخر «المؤمنون».
قال المفسرون: سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له: إنَّك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نجيرك، فنزلت.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا﴾.
قرأ الأعرج: «رُشُداً» - بضمتين -. وجعل الضر عبارة عن الغي؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته، فأقام المسبب مقام السبب، والأصل: لا أملك غياً، ولا رشداً، فذكر الأهم.
وقيل: بل في الكلام حذف، والأصل: لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه.

فصل في معنى الآية


المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً.
436
وقيل: ﴿لا أملك لكم ضرّاً﴾، أي: كفراً «ولا رَشداً» أي: هُدَى، أي: إنما عليَّ التبليغ.
وقيل: الضَّرُّ: العذاب، والرشدُ: النعيم، وهو الأول بعينه.
وقيل: الضرُّ: الموت، والرشد الحياة.
قوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ﴾، أي: لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرُك.
وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: انطلقتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان: أنا أزجلهم عنك، فقال: ﴿إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ﴾، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه، قال: ويحتمل معنيين:
أحدهما: لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.
الثاني: لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ، ﴿وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ أي: ملجأ الجأ إليه، قاله قتادة، وعنه نصيراً ومولى.
وقال السدي: حِرْزاً، وقال الكلبيُّ: مدخلاً في الأرض مثل السِّرب، وقيل: مذهباً ولا مسلكاً، حكاه ابن شجرة؛ قال الشاعر: [البسيط]
٤٩١٤ - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ
و «مُلتَحَداً» مفعول «أحد» لأنها بمعنى «أصيب»
قوله ﴿إِلاَّ بَلاَغاً﴾، فيه وجوه:
أحدها: أنه استثناء منقطع، أي: لكن إن بلغت عن الله رحمتي، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله: ﴿وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾.
لأنه لا يكون من دون الله - عَزَّ وَجَلَّ - وبعنايته وتوفيقه.
والثاني: أنَّه متصل، وتأويله، أن الإجارة مستعارة للبلاغ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلاً من «مُلتحَداً» لأن الكلام غير موجب، وهذا اختيار الزَّجاجِ.
437
والثاني: أنه منصوب على الاستثناء.
الثالث: أنه مستثنى منقطع من قوله ﴿لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً﴾.
قال قتادة: أي: لا أملك إلا بلاغاً إليكم، وقرره الزمخشري، فقال: أي: لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وقيل: ﴿إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله﴾ جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.
الرابع: أنَّ الكلام ليس استثناء، بل شرطاً، والأصل: «إن لا» ف «إنْ» شرطية وفعلها محذوفٌ، لدلالة مصدره، والكلام الأول عليه، و «لا» نافية، والتقدير: «إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ».
وجعلوا هذا كقول الآخر: [الوافر]
٤٩١٥ - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ
أي: وإن لا تطلقها يعلُ، فحذف الشرط ونفى الجواب، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين:
أحدهما: أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً.
والثاني: أنَّه حذف الجزءان هنا، أعني الشرط والجزاء.
فيكون كقول الشاعر: [الرجز]
٤٩١٦ - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وإنْ... كَانَ فَقيراً مُعدماً، قالتْ: وإنْ
أي قالت: وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته.
وقد يقال: إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.
وقال الحسنُ: ﴿إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ﴾. فإن فيه النجاة والأمان.
قوله ﴿مِّنَ الله﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن «مِنْ» بمعنى «عَنْ» لأن «بلغ» يتعدى بها، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ألاَ بلَّغُوا عنِّي».
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ».
قال الزمخشري: «مِنْ» ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «مِنْ» في قوله تعالى ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١]، بمعنى: «بلاغاً كائناً من اللَّهِ».
438
قوله ﴿وَرِسَالاَتِهِ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنها منصوبة نسقاً على «بلاغاً»، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره.
والثاني: أنها مجرورة نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر، ويجوز في جعله «مِنْ» بمعنى «عَنْ»، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم.
قوله: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ﴾، في التوحيد، والعبادة ﴿فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾، العامة: على كسر «إن» جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء.
قال الواحديُّ: «إن» مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء.
ولذلك حمل سيبويه قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]، ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٢٦] ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره: فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم.
قال ابن خالويه: «سمعت ابن مجاهد يقول: لم يقرأ به أحدٌ، وهو لحنٌ، لأنه بعد فاء الشرط، قال: سمعتُ ابن الأنباري يقول: هو صواب، ومعناه: فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم».
قال شهاب الدين: ابن مجاهد، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] في «الأنعام»، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية.
قول «خالدينَ». حالٌ من الهاء في «له»، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «مِنْ» فلذلك جمع؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ، ثم جمع المعنى.

فصل في رد كلام المعتزلة


استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات، وأيضاً: فقوله «أبداً» ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ.
والجوابُ: أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله، والرسالة، ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال، أو نقول: هذه الصورة لا بد
439
وأن تندرج في العموم، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب، أو نقول: إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة، ومعنى، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك، أو نقول: ﴿وَمَن يَعْصِ الله﴾ إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى ﴿وَمَن يَعْصِ الله﴾ متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي.
فإن قيل: يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل.
قلنا: يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه.

فصل في أن الأمر للوجوب


دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: ٩٣]، ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: ٦]، ﴿وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ [الكهف: ٦٩].
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾.
قوله: ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ﴾.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تعلق حتى، وجعل ما بعده غاية له؟.
قلت: بقوله: ﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ [الجن: ١٩] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ﴾ من بوم بدر، وإظهار الله عليهم، أو من يوم القيامة ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ حينئذٍ ﴿مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً﴾.
قال: ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار، واستقلالهم لعددهم، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون، قال المشركون: متى هذا الوعد؟ إنكاراً له.
فقال: «قُلْ» : إنه كائن لا ريب فيه.
قال أبو حيان: قوله: بم تعلق، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها
440
حرف ابتداءٍ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج، وابن درستويه، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح، وأما تقديره: أنها تتعلق بقوله: ﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف، فقال: تقديره: دعهم حتَّى إذا رأوا.
وقال التبريزي: جاز أن يكون غاية لمحذوف، ولم يبيِّن ما هو.
وقال أبو حيان: «والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون».
قوله: ﴿مَنْ أَضْعَفُ﴾. يجوز في «مَنْ» أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء، و «أضْعَفُ» خبره، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها.
وأن تكون موصولة، و «أضعف» خبر مبتدأ مضمر، أي: هو أضعف، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان.
قال القرطبي: «حتى» هنا مبتدأ، أي «حتى أذا رأوا ما يوعدون» من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل يوم بدر ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً﴾. و «مَنْ» يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم، بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ و «أقَلُّ عَداداً» معطوف.
441
قوله :﴿ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا ﴾.
قرأ الأعرج١ :«رُشُداً » - بضمتين -. وجعل الضر عبارة عن الغي ؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته، فأقام المسبب مقام السبب، والأصل : لا أملك غياً، ولا رشداً، فذكر الأهم.
وقيل : بل في الكلام حذف، والأصل : لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه.

فصل في معنى الآية


المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً.
وقيل :﴿ لا أملك لكم ضرّاً ﴾، أي : كفراً «ولا رَشداً » أي : هُدَى، أي : إنما عليَّ التبليغ.
وقيل : الضَّرُّ : العذاب، والرشدُ : النعيم، وهو الأول بعينه.
وقيل : الضرُّ : الموت، والرشد الحياة.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٤، والبحر المحيط ٨/٣٤٦، والدر المصون ٦/٣٩٧..
قوله :﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ ﴾، أي : لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرُك.
وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان : أنا أزجلهم عنك، فقال :﴿ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ ﴾، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه، قال : ويحتمل معنيين :
أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.
الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ، ﴿ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾١ أي : ملجأ الجأ إليه، قاله قتادة، وعنه نصيراً ومولى.
وقال السدي : حِرْزاً٢، وقال الكلبيُّ : مدخلاً في الأرض مثل السِّرب٣، وقيل : مذهباً ولا مسلكاً، حكاه ابن شجرة ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٩١٤ - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ***عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ٤
و «مُلتَحَداً » مفعول «أحد » لأنها بمعنى «أصيب »
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٨) وعزاه إلى ابن مردويه والبيهقي في "الدلائل"..
٢ ذكره القرطبي (١٩/١٨)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر: القرطبي ١٩/١٨، والبحر المحيط ٨/٣٤٦، والدر المصون ٦/٣٩٧، وروح المعاني ٢٩/١١٦..
قوله ﴿ إِلاَّ بَلاَغاً ﴾، فيه وجوه :
أحدها : أنه استثناء منقطع، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله :﴿ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾. لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه.
والثاني : أنَّه متصل، وتأويله، أن الإجارة مستعارة للبلاغ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلاً من «مُلتحَداً » لأن الكلام غير موجب، وهذا اختيار الزَّجاجِ.
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء.
الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله ﴿ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً ﴾.
قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم١، وقرره الزمخشري، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وقيل :﴿ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله ﴾ جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.
الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء، بل شرطاً، والأصل :«إن لا » ف «إنْ » شرطية وفعلها محذوفٌ، لدلالة مصدره، والكلام الأول عليه، و «لا » نافية، والتقدير :«إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ ».
وجعلوا هذا كقول الآخر :[ الوافر ]
٤٩١٥ - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ***وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ٢
أي : وإن لا تطلقها يعلُ، فحذف الشرط ونفى الجواب، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين :
أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً.
والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا، أعني الشرط والجزاء.
فيكون كقول الشاعر :[ الرجز ]
٤٩١٦ - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ***كَانَ فَقيراً مُعدماً، قالتْ : وإنْ٣
أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته.
وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.
وقال الحسنُ :﴿ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ ﴾. فإن فيه النجاة والأمان٤.
قوله ﴿ مِّنَ الله ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أن «مِنْ » بمعنى «عَنْ » لأن «بلغ » يتعدى بها، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - :«ألاَ بلَّغُوا عنِّي »٥.
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ ».
قال الزمخشري :«مِنْ » ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «مِنْ » في قوله تعالى ﴿ بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ [ التوبة : ١ ]، بمعنى :«بلاغاً كائناً من اللَّهِ ».
قوله ﴿ وَرِسَالاَتِهِ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة نسقاً على «بلاغاً »، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره.
والثاني : أنها مجرورة نسقاً على الجلالة، أي : إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر٦، ويجوز في جعله «مِنْ » بمعنى «عَنْ »، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم.
قوله :﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ ﴾، في التوحيد، والعبادة ﴿ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾، العامة : على كسر «إن » جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء.
قال الواحديُّ :«إن » مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء.
ولذلك حمل سيبويه قوله :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ ﴾[ المائدة : ٩٥ ]، ﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾[ البقرة : ١٢٦ ] ﴿ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ﴾ على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم.
قال ابن خالويه :«سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحدٌ، وهو لحنٌ، لأنه بعد فاء الشرط، قال : سمعتُ ابن الأنباري يقول : هو صواب، ومعناه : فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم ».
قال شهاب الدين٧ : ابن مجاهد، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي ﴿ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] في «الأنعام »، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية.
قول «خالدينَ ». حالٌ من الهاء في «له »، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «مِنْ » فلذلك جمع ؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ، ثم جمع المعنى.

فصل في رد كلام المعتزلة


استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصلاة يخلدون في النار ؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات، وأيضاً : فقوله «أبداً » ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ.
والجوابُ٨ : أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله، والرسالة، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال، أو نقول : هذه الصورة لا بد وأن تندرج في العموم، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة، ومعنى، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك، أو نقول :﴿ وَمَن يَعْصِ الله ﴾ إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى ﴿ وَمَن يَعْصِ الله ﴾ متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي.
فإن قيل : يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل.
قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه.

فصل في أن الأمر للوجوب


دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [ طه : ٩٣ ]، ﴿ لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ ﴾ [ التحريم : ٦ ]، ﴿ وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾ [ الكهف : ٦٩ ].
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى ﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾.
١ ينظر القرطبي (١٩/١٨)..
٢ تقدم..
٣ ينظر: القرطبي ١٩/١٩..
٤ ينظر: القرطبي (١٩/١٨)..
٥ تقدم..
٦ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٥٤..
٧ الدر المصون ٦/٣٩٨..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٤٦..
قوله :﴿ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ﴾.
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تعلق حتى، وجعل ما بعده غاية له ؟.
قلت : بقوله :﴿ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم ﴿ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ﴾ من بوم بدر، وإظهار الله عليهم، أو من يوم القيامة ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ ﴾ حينئذٍ ﴿ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً ﴾.
قال : ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار، واستقلالهم لعددهم، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون، قال المشركون : متى هذا الوعد ؟ إنكاراً له.
فقال :«قُلْ » : إنه كائن لا ريب فيه.
قال أبو حيان١ : قوله : بم تعلق، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداءٍ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج، وابن درستويه، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله :﴿ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف، فقال : تقديره : دعهم حتَّى إذا رأوا.
وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف، ولم يبيِّن ما هو.
وقال أبو حيان٢ :«والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون ».
قوله :﴿ مَنْ أَضْعَفُ ﴾. يجوز في «مَنْ » أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء، و «أضْعَفُ » خبره، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم٣ قبلها.
وأن تكون موصولة، و «أضعف » خبر مبتدأ مضمر، أي : هو أضعف، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان.
قال القرطبي٤ :«حتى » هنا مبتدأ، أي «حتى أذا رأوا ما يوعدون » من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل يوم بدر ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً ﴾. و «مَنْ » يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم، بكينونة النار لهم، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون ؟ و «أقَلُّ عَداداً » معطوف.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٥٤..
٢ السابق ٨/٣٥٥..
٣ في أ: للفعل..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٨..
قوله: ﴿قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾، يعني: قيام الساعة لا يعلمه إلاَّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ.
قوله: ﴿أَقَرِيبٌ﴾، خبرٌ مقدمٌ، و ﴿مَّا تُوعَدُونَ﴾ مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون «قَرِيبٌ» مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و «مَا تُوعَدُون» فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون، نحو «أقَائِمٌ أبواك»، و «مَا» يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية فلا عائد، و «أمْ» الظاهر أنها متصلة.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما معنى قوله: ﴿أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً﴾، والأمد
441
يكون قريباً وبعيداً، ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً﴾ [آل عمران: ٣٠]، قلت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة، أم مؤجل ضربت له غاية؟».
وقرأ العامة: بإسكان الياء من «ربِّي».
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بالفتح.

فصل في تعلق الآية بما قبلها


قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾. قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟.
فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ إلى آخره، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن، وأما وقت وقوعه فغير معلوم.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً﴾، أي: غاية وبعداً، وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾.
فإن قيل: أليس «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال:» بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ «، فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ، فكيف قال - هاهنا -: لا أردي أقريب أم بعيد؟.
فالجواب: أن المراد بقرب وقوعه، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
قوله: ﴿عَالِمُ الغيب﴾، العامة: على رفعه، إما بدلاً من»
ربِّي «وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر، أي هو عالم.
وقرىء: بالنصب على المدح.
وقرأ السديُّ: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله:»
فلا يُظهرُ «. العامة: على كونه من» أظْهَر «، و» أحَداً «مفعول به.
442
وقرأ الحسنُ:» يَظْهرُ «بفتح الياء والهاء من» ظهر «ثلاثياً، و» أحد «فاعل به.

فصل في تفسير الغيب


الغيب ما غاب عن العباد.
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.
قوله: ﴿إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾. يجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و»
مِنْ «في قوله:» مِنْ رسُولٍ «لبيان المرتضين وقوله: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ بيان لذلك.
وقيل: هو متصل، و «رَصَداً»
تقدم الكلام عليه.
ويجوز أن تكون «مِنْ»، شرطية، أو موصولة مضمنة معنى الشرط، وقوله «فإنَّهُ» خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً، أي: لكن، والمعنى: لكن من ارتضاه من الرسل، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه.

فصل في الكرامات


قال الزمخشريُّ: «في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخل في السخط».
قال الواحديُّ: وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة، أو موت، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال ابن الخطيب: واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.
قال ابن الخطيب: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله ﴿أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ الآية.
فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟.
443
قلنا: لعله إذا قربت القيامةُ يظهر، وكيف لا، وقد قال: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٥] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّاً وسطيحاً» كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى، وربيعة بن مضر، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا، يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيه، وأيضاً: قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.
قال ابن الخطيب: وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.
وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر» في شرح حالها وقالت: تفحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فإن قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.

فصل في معنى الآية


قال القرطبيُّ: المعنى ﴿فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾ فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩].
وقال ابن جبير: ﴿إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ﴾ هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.

فصل في استئثار الله بعلم الغيب


ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا: لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره
444
دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال: إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل: [الكامل]
٤٩١٧ - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟
وقيل لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ولم؟.
قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده. ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم: نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في
445
الحبس ما بقيتُ، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة «النَّهروان» الثابتة في «صحيح مسلم»، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال: إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناسُ، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.
قوله: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾، يعني: ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا: هذا رسول ربِّك.
وقال ابن عباس وابن زيد: «رَصَداً»، أي: حفظةُ يحفظون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين.
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب: هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله.
وقال الفرَّاءُ: فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.
وقال السديُّ: «رَصَداً» أي: حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان، و «رَصَداً» نصب على المفعول.
قال الجوهريُّ: «والرَّصدُ: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا: أرصاد، والرّاصد للشيء: الراقب له، يقال: رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والتَّرصُّد: الترقب، والمرصد: موضع الرصد».
قوله: ﴿لِّيَعْلَمَ﴾. متعلق ب «يَسْلكُ».
والعامة: على بنائه للفاعل، وفيه خلاف. أي: ليعلم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.
446
قال القرطبيُّ: «وفيه حذف تتعلق به اللام، أي: أخبرناه بحفظنا الوحي، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق».
وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
قاله ابن جبير، قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام -.
وقيل: ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا.
وقيل: ليعلم الله، [أي: ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الرسول، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا].
وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.
وقال ابن قتيبة: أي: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.
وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين، قد بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان، لإفراد الضمير.
والضمير في «أبْلغُوا» عائد على «من» في قوله: «من ارْتضَى» راعى لفظها أولاً، فأفرد في قوله ﴿مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾، ومعناها ثانياً، فجمع في قوله «أبْلَغُوا» إلى آخره.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.
وقرأ ابن أبي عبلة والزهري: لِيُعلم «- بضم الياء وكسر اللام - أي: ليعلم الله رسوله بذلك.
وقرأ أبو حيوة:»
رِسَالة «بالإفراد، والمراد الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة:»
وأحيط، وأحصي «مبنيين للمفعول،» كل «رفع ب» أحصي «. قوله:» عَدَداً «، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل: أحصى عدد كل شيء، كقوله تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢]، أي: عيون الأرض على خلاف سبق.
447
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى، لأن» أحْصَى «بمعنى» عَد «، فكأنه قيل: وعد كل شيء عدداً.
أو يكون التقدير: وأحصى كلَّ شيء إحصاء، فيرد المصدر إلى الفعل، أو الفعل إلى المصدر.
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار، فقال:»
عَدَداً «نصب على البيان، ولو كان مصدراً لأدغم.
يعني: أن قياسه أن يكون على»
فَعْل «بسكون العين؛ لكنه غير لازم، فجاء مصدره بفتح العين.
ولما كان «لِيعْلمَ»
مضمناً معنى «قَد عَلِمَ ذلِكَ» جاز عطف «وأحَاطَ» على ذلك المقدر.
قال القرطبي: «عَدَداً»، نصب على الحال، أي: أحصى كل شيء.

فصل في معنى الإحاطة في الآية.


المعنى: أحاط علمه بما عند الرسل، وما عند الملائكة.
وقال ابن جبيرٍ: المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم، فيبلغوا رسالاته ﴿وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾ أي: علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات، وبجميع الموجودات.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ» والله تعالى أعلم بالصواب.
448
سورة المزمل
مكية في قول الحسن رضي الله عنه وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: ﴿واصبر على ما يقولون﴾، والتي تليها [الآية: ١٠، ١١]، ذكره الماوردي وغيره.
449
قوله :﴿ عَالِمُ الغيب ﴾، العامة : على رفعه، إما بدلاً من " ربِّي " وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر، أي هو عالم.
وقرئ : بالنصب١ على المدح.
وقرأ السديُّ٢ : علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله :" فلا يُظهرُ ". العامة : على كونه من " أظْهَر "، و أحَداً «مفعول به.
وقرأ الحسنُ٣ :" يَظْهرُ " بفتح الياء والهاء من " ظهر " ثلاثياً، و " أحد " فاعل به.

فصل في تفسير الغيب


الغيب ما غاب عن العباد٤.
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٨، والدر المصون ٦/٣٩٩..
٢ ينظر: السابق، والمحرر الوجيز ٥/٣٨٥..
٣ ينظر: السابق..
٤ في أ: العيان..
قوله :﴿ إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾. يجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و " مِنْ " في قوله :" مِنْ رسُولٍ " لبيان المرتضين وقوله :﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ بيان لذلك.
وقيل : هو متصل، و «رَصَداً » تقدم الكلام عليه.
ويجوز أن تكون «مِنْ »، شرطية، أو موصولة مضمنة معنى الشرط، وقوله «فإنَّهُ » خبر المبتدأ على القولين ؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً، أي : لكن، والمعنى : لكن من ارتضاه من الرسل، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه.

فصل في الكرامات


قال الزمخشريُّ :«في هذه الآية إبطال الكرامات ؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخل في السخط ».
قال الواحديُّ : وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة، أو موت، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال ابن الخطيب١ : واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.
قال ابن الخطيب : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله ﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية.
فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ ؟.
قلنا : لعله إذا قربت القيامةُ يظهر، وكيف لا، وقد قال :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾[ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّاً وسطيحاً » كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى، وربيعة بن مضر، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا، يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيه، وأيضاً : قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.
قال ابن الخطيب٢ : وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.
وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر » في شرح حالها وقالت : تفحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فإن قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.

فصل في معنى الآية


قال القرطبيُّ٣ : المعنى ﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله :﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾[ آل عمران : ٤٩ ].
وقال ابن جبير :﴿ إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي : اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.

فصل في استئثار الله بعلم الغيب


ذكر القرطبيُّ٤ أن العلماء قالوا : لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال : إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ؛ ولقد أحسن القائل :[ الكامل ]
٤٩١٧ - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي*** يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ*** وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ ؟٥
وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب ؟ فقال : فأين قمرهم ؟٦ وكان ذلك في آخر الشهر٧. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم ؟.
قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده. ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ، وبقيت، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة «النَّهروان » الثابتة في «صحيح مسلم »، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال : إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال : يا أيها الناسُ، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.
قوله :﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾، يعني : ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا : هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربِّك٨.
وقال ابن عباس وابن زيد :«رَصَداً »، أي : حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين٩.
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله١٠.
وقال الفرَّاءُ : فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.
وقال السديُّ :«رَصَداً » أي : حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان، و «رَصَداً » نصب على المفعول.
قال الجوهريُّ١١ :«والرَّصدُ : القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا : أرصاد، والرّاصد للشيء : الراقب له، يقال : رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والتَّرصُّد : الترقب، والمرصد : موضع الرصد ».
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٤٨..
٢ السابق ٣٠/١٤٩..
٣ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٩..
٤ السابق..
٥ ينظر: القرطبي ١٩/١٩..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٩)..
٧ في أ: السنة..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٩) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٦)..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٧) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٣٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة"..
١١ ينظر: الصحاح ٢/٤٧٤..
قوله :﴿ لِّيَعْلَمَ ﴾. متعلق ب «يَسْلكُ ».
والعامة : على بنائه للفاعل، وفيه خلاف. أي : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.
قال القرطبيُّ١ :«وفيه حذف تتعلق به اللام، أي : أخبرناه بحفظنا الوحي، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق ».
وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
قاله ابن جبير، قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام -.
وقيل : ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا٢.
وقيل : ليعلم الله، [ أي : ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل : ليعلم الرسول، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا ].
وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.
وقال ابن قتيبة : أي : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.
وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين، قد بلغوا رسالات ربهم٣.
وقيل : ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان، لإفراد الضمير.
والضمير في «أبْلغُوا » عائد على «من » في قوله :«من ارْتضَى » راعى لفظها أولاً، فأفرد في قوله ﴿ مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾، ومعناها ثانياً، فجمع في قوله «أبْلَغُوا » إلى آخره.
وقرأ ابن عباس٤ ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.
وقرأ ابن أبي عبلة٥ والزهري : لِيُعلم «- بضم الياء وكسر اللام - أي : ليعلم الله رسوله بذلك.
وقرأ أبو حيوة٦ :" رِسَالة " بالإفراد، والمراد الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة٧ :" وأحيط، وأحصي " مبنيين للمفعول، " كل " رفع ب " أحصي ". قوله :" عَدَدا "، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل : أحصى عدد كل شيء، كقوله تعالى :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ]، أي : عيون الأرض على خلاف سبق.
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى، لأن " أحْصَى " بمعنى " عَد "، فكأنه قيل : وعد كل شيء عدداً.
أو يكون التقدير : وأحصى كلَّ شيء إحصاء، فيرد المصدر إلى الفعل، أو الفعل إلى المصدر.
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار، فقال :" عَدَداً " نصب على البيان، ولو كان مصدراً لأدغم.
يعني : أن قياسه أن يكون على " فَعْل " بسكون العين ؛ لكنه غير لازم، فجاء مصدره بفتح العين.
ولما كان «لِيعْلمَ » مضمناً معنى «قَد عَلِمَ ذلِكَ » جاز عطف «وأحَاطَ » على ذلك المقدر.
قال القرطبي٨ :«عَدَداً »، نصب على الحال، أي : أحصى كل شيء.

فصل في معنى الإحاطة في الآية.


المعنى : أحاط علمه بما عند الرسل، وما عند الملائكة.
وقال ابن جبيرٍ : المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم، فيبلغوا رسالاته ﴿ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾ أي : علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات، وبجميع الموجودات.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢٠..
٢ سقط من أ..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٢٣)..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٥، والبحر المحيط ٨/٣٤٩، والدر المصون ٦/٤٠٠..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٤٩، والدر المصون ٦/٤٠٠..
٦ ينظر: السابق..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٥، والبحر المحيط ٨/٣٤٩، والدر المصون ٦/٤٠٠..
٨ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢١..
Icon