تفسير سورة الطارق

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الطارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة

سورة الطّارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ هي المعروفة على ما عليه الجمهور، وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
ولا يخفى حاله والطَّارِقِ وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع أشده يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها، ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها، ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله:
طرق الخيال ولا كليلة مدلج سدكا (١) بأرحلنا ولم يتعرج
والمراد به هاهنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام وتنبيه على أن
(١) سدكا بفتح فكسر أي مونعا اه منه.
305
رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم ف ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره وما الثانية خبر والطَّارِقُ مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق.
وقوله سبحانه النَّجْمُ الثَّاقِبُ خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو النجم إلخ والثَّاقِبُ في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضيء لتصور أنه يثقب الظلام، وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك. وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها. وقال الفراء الثَّاقِبُ المرتفع، يقال: ثقب الطائر أي ارتفع وعلا، والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضرب التفاوت في ذلك، وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود، فعن ابن عباس أنه الجدي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم، وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون، وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه، وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم في السماء السابعة لا يسكنها فميّزه فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد
، ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لكن لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الارتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها أبعد من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الارتفاع فذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل. وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعلى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الإنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه، وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما
روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال: أي شيء هذا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت
لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى. وزعم ابن عطية أن المراد ب الطَّارِقِ جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره، ويكون معنى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ حق الطارق بأن تكون أل في مَا الطَّارِقُ مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وأن ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق، ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب، ولإرادة ذلك لم يقل ابتداء والنَّجْمُ الثَّاقِبُ مع أنه أخصر وأظهر ولله عز وجل أن يفخم شأن ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه هاهنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى.
306
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها، وقيل جوابه قوله سبحانه إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ وما في البين اعتراض وهو كما ترى وإِنْ نافية ولَمَّا بمعنى إلّا ومجيئها كذلك لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون: أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت، وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك. وقال الرضي: لا تجيء إلّا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف. إلّا وكُلُّ لتأكيد العموم لتحقق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور حافِظٌ وعَلَيْها متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز وجل كما في قوله تعالى وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب: ٥٢].
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
وقيل: هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: ١٠، ١١] الآية. وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة، وقيل: هو ومن وكل على حفظها والذب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: ١١]
وعن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبّون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».
وقيل: هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره.
وقرأ الأكثر لما بالتخفيف، فعند الكوفيين إِنْ نافية كما سبق واللام بمعنى إلّا، وما زائدة. وصرحوا هنا بأن كُلُّ وحافِظٌ مبتدأ وخبر فلا تغفل. وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة وكُلُّ مبتدأ و (ما) زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة وحافِظٌ خبر المبتدأ وعَلَيْها متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل، وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه، ولعل من قال أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى. وحكى هارون أنه قرىء «إنّ» بالتشديد «وكلّ» بالنصب و «لما» بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» زائدة وعلى جميع القراءات أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: ٥٦] وبالنافية وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [فاطر: ٤١] وقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ متفرع على ما قبله وليست الفاء بفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام إما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عز وجل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه، كأنه قيل فليعرف المهيمن عليه بنصبه الرقيب أو بنفسه، وليعلم رجوعه إليه تعالى، وليفعل ما يسر به حال الرجوع. وعبر عن الأول بقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وإما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطليه وإلغائه كأنه قيل: فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبه وأنه إذا قدر
307
على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل ومِمَّ خُلِقَ استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالاستفهام.
وقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل: مم خلق؟ فقيل خُلِقَ مِنْ ماءٍ إلخ وظاهر كلام بعض الأجلّة أنه جواب الاستفهام المذكور مع تعلق الجار بينظر. وفيه مسامحة، وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر ليس بشيء عند من له نظر. والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة، وأريد بالماء الدافق المني، ودافِقٍ قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول. وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلابن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول. وقيل: هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي أو مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا. وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع، فقال: الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال: تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق، وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب، ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصبّ بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل، وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في القاموس وغيره وقيل: من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلّا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة، ولذا كان خلق عيسى عليه السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالامتزاج صارا ماء واحدا، ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزأيه وهو مني الرجل، وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل. قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ أي من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره وَالتَّرائِبِ أي ومن بين ترائب كل امرأة أي عظام صدرها جمع تريبة، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر. وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قوله امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
باعتبار ما حوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب العبدي:
ومن ذهب يبين على تريب كلون العاج ليس بذي غضون
وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلّا أنهما قالا: أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه، وعليه قيل: هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه، وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل. ثم إن ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد، وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا: أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما، ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر، وقيل ما بين الثديين، وقيل ما بين المنكبين والصدر، وقيل التراقي، وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته. وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن
308
ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه، وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ من كل عضو طبيعة وخاصية مستعدا لأن يتولد منه تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه. وأجاب رحمه الله تعالى بأن لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التربية فلذا خصّا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه اهـ. وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التريبة بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف، والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوى الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأ الشخص على ما بيّن في موضعه.
وقوله سبحانه مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة، فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر، والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل: ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالإحليل انتهى. وقيل: لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر. وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط، وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه لا ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل به ولا يخفى ما فيه، والقول بأن المرأة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم «يخرج» مبنيا للمفعول وهما أهل مكة وعيسى «الصلب» بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي على اللغتين قول العجاج:
ريا العظام فخمة المخدم في صلب مثل العنان المؤدم
وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس:
تنقل من صالب إلى رحم وهي قليلة الاستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنفس الناطقة الإنسانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه. وقال إنه شاهد قوي على ذلك وتأويله على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى. وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضمير الأول للخالق تعالى شأنه وكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ
309
إذ لا يذهب إلى خالق سواه عز وجل فخم بالإضمار ثانيا، والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله:
لئن كان تهدي برد أنيابها العلى لأفقر مني إنني لفقير
فإنه أراد لبين الفقر وإلّا لم يصح إيراده في مقابلة لأفقر مني والتأكيد البالغ لفظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى، ولذا فسر (قادر) هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه أيضا الاختصاص، فقال: أي على إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين، وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الاستفهام دونها. وقال مجاهد وعكرمة:
الضمير الثاني للماء أي إنه تعالى على رد الماء في الإحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه جل وعلا رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث، وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر. وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ»
وفي البحر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأحوص:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر
فقال: ما أغفله عما في السَّماءِ وَالطَّارِقِ وكأنه حمل البقاء فيه على عدم التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم إلخ. وقال الزمخشري وجماعة: ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا بين المصدر ومعموله بأجنبي وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين: إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخّر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى. وقيل: ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفا وهو كما ترى، ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز وجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: فروا من أن يكون العامل لَقادِرٌ للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام فَما لَهُ أي الإنسان مِنْ قُوَّةٍ في نفسه يمتنع بها وَلا ناصِرٍ ينتصر به وَالسَّماءِ وهي المظلة في قول الجمهور ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر في قولهم أيضا كما في قوله الخنساء:
يوم الوداع ترى دموعا جاريه كالرجع في (١) المدجنة السارية
(١) كذا في خط المؤلف وليحرر الوزن اه.
310
وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأب مصدر آب ومنه قوله:
رياء شماء لا يأوي لقلتها إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض، وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا، وقال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل. ابن عباس ومجاهد تفسير السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السَّماءِ هي المعروفة والرَّجْعِ رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقبل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم. وقيل الرَّجْعِ الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمّي به النبات مجازا، أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد، وقيل: تشققها بالعيون، وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون، ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قوله مجاهد الصَّدْعِ ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره وما روي عنه أيضا الصَّدْعِ الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور إِنَّهُ أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا. وقوله تعالى لَقَوْلٌ فَصْلٌ أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة.
وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحارث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة» قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن: ١، ٢] من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدى به هدي إلى صراط مستقيم»
وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه.
إِنَّهُمْ أي كفار مكة يَكِيدُونَ يعملون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله
311
تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة كَيْداً أي عظيما حسبا تفي به قدرتهم، والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل: إذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا، وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الإخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها، وقيل للإشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى أَمْهِلْهُمْ بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه رُوَيْداً إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة. وأخرج ابن المنذر عن السدّي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل. واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته، والظاهر ما قال السدي وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد:
كأنها ثمل تمشي على رود اي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير إرواد مصدر رود يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو ريدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين، ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر بمعنى فكأنه قيل: أمهل الكافرين أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك
ففي الحديث: «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل باطل باطل»
ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا.
وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل، والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: ٦٠] فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا: والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلّى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام، وإنما دلت الزيادة من حيث الإشعار بالتغاير كأن كلّا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس «مهّلهم» بفتح الميم وشد الهاء وموافقة للفظ الأمر الأول.
312
Icon