ﰡ
[الجزء العشرين]
[تفسير سورة الطارق]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ" الطَّارِقِ" مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً
[سورة الطارق (٨٦): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قسمان: السَّماءِ قسم، والطَّارِقِ قَسَمٌ. وَالطَّارِقُ: النَّجْمُ. وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ زُحَلُ: الْكَوْكَبُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ «١» فِي تَفْسِيرِهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَخْبَارًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ الثُّرَيَّا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زُحَلُ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْجَدْيُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَالْفَرَّاءِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ: نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ مِنَ النُّجُومِ، فَإِذَا أَخَذَتِ النُّجُومُ أَمْكِنَتَهَا مِنَ السَّمَاءِ، هَبَطَ فَكَانَ مَعَهَا. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَهُوَ زُحَلُ، فَهُوَ طَارِقٌ حِينَ يَنْزِلُ، وَطَارِقٌ حِينَ يَصْعَدُ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: ثَقَبَ الطَّائِرُ: إِذَا ارْتَفَعَ وَعَلَا. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ أَبِي طَالِبٍ، فَانْحَطَّ نَجْمٌ، فَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ نُورًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: أَيُّ شي هَذَا؟ فَقَالَ:" هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ" فَعَجِبَ أَبُو طَالِبٍ، وَنَزَلَ: والسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا والسَّماءِ وَالطَّارِقِ [قَالَ: السَّمَاءُ «٢» [وَمَا يَطْرُقُ فيها. وعن
(٢). زيادة عن الطبري
ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا | فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ «١» |
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا | وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ |
يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ | إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارَا |
لَا تَفْرَحَنَّ بِلَيْلٍ طَابَ أَوَّلُهُ | فَرُبَّ آخِرِ لَيْلٍ أَجَّجَ النَّارَا |
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقِ | نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقِ |
(٢). الاستحداد: حلق العانة بالحديد. والمغيبة: التي غاب عنها زوجها. والشعثة: التي تلبد شعرها.
(٣). لم نعثر على هذين البيتين في ديوان ابن الرومي. وقد أورد الجاحظ البيت الأول في كتابه (الحيوان ج ٦ ص ٥٠٨ طبع مطبعة الحلبي) غير منسوب. ولم يعرف أن الجاحظ يستشهد بشعر ابن الرومي. وقد توفى الجاحظ وكانت سن ابن الرومي ٣٤ على أن هذا الشعر ليس من روح ابن الرومي. وقد أورد أيضا الغزالي في (الأحياء ج ٣ ص ١٨٠ طبع الحلبي) البيت الأول ضمن ستة أبيات من وزنه وقافيته.
(٤). هي هِنْدِ بِنْتِ بَيَاضَةَ بْنِ رَبَاحِ بْنِ طَارِقٍ الايادي، قالت هذا الرجز يوم أحد تحض على الحرب، والزجر بأكله في (اللسان: طرق). [..... ]
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا | حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ |
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ | بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ |
[سورة الطارق (٨٦): آية ٤]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
قَالَ قَتَادَةُ: حَفَظَةٌ يَحْفَظُونَ عَلَيْكَ رِزْقَكَ وَعَمَلَكَ وَأَجَلَكَ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَرِينُهُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَهَذَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ فِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَ" إِنْ": مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَ" مَا": مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ: يَحْفَظُهَا مِنَ الْآفَاتِ، حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى الْقَدَرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَافِظُ مِنَ اللَّهِ، يَحْفَظُهَا حَتَّى يسلمها إلى المقادير، وقاله الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وُكِّلَ بِالْمُؤْمِنِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مَلَكًا يَذُبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ الْبَصَرُ، سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ، كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ الذُّبَابُ. وَلَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ [. وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ" لَمَّا" بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عليها حافظ، وهي لغة
(٢). أي لم يرد به نجم معين، كالثريا أو زحل، كما قال بعض المفسرين.
[سورة الطارق (٨٦): الآيات ٥ الى ٨]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أَيِ ابْنُ آدَمَ مِمَّ خُلِقَ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بِمَا قَبْلَهُ تَوْصِيَةُ الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَسُنَّتِهِ الْأُولَى، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ وَجَزَائِهِ، فَيَعْمَلَ لِيَوْمِ الْإِعَادَةِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا يُمْلِي عَلَى حَافِظِهِ إِلَّا مَا يَسُرُّهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. ومِمَّ خُلِقَ؟ استفهام، أي من أي شي خُلِقَ؟ ثُمَّ قَالَ: (خُلِقَ) وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أَيْ مِنَ الْمَنِيِّ. وَالدَّفْقُ: صَبُّ الْمَاءِ، دَفَقْتُ الْمَاءَ أَدْفُقُهُ دَفْقًا: صَبَبْتُهُ، فَهُوَ مَاءٌ دَافِقٌ، أَيْ مَدْفُوقٌ، كَمَا قَالُوا: سِرٌّ كَاتِمٌ: أَيْ مَكْتُومٌ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِكَ: دُفِقَ الْمَاءُ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَلَا يُقَالُ: دَفَقَ الْمَاءُ «٤». وَيُقَالُ: دَفَقَ اللَّهُ روحه: إذا دعي عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: مِنْ ماءٍ دافِقٍ أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ، الزَّجَّاجُ: مِنْ مَاءٍ ذِي انْدِفَاقٍ. يُقَالُ: دَارِعٌ وَفَارِسٌ وَنَابِلٌ، أَيْ ذُو فَرَسٍ، وَدِرْعٍ، وَنَبْلٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. فَالدَّافِقُ هُوَ الْمُنْدَفِقُ بِشِدَّةِ قُوَّتِهِ. وَأَرَادَ مَاءَيْنِ: مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، لَكِنْ جَعَلَهُمَا مَاءً وَاحِدًا لِامْتِزَاجِهِمَا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دافِقٍ لَزِجٍ. (يَخْرُجُ)
(٢). آية ٦٥ سورة يوسف.
(٣). آية ٥٢ سورة الأنبياء.
(٤). بل يقال ذلك، ونقله صاحب اللسان عن الليث. وانظره أيضا في المصباح المنير للفيومي.
صلب، وصلب- وقرى بِهِمَا- وَصَلَبٌ (بِفَتْحِ اللَّامِ)، وَصَالَبٌ (عَلَى وَزْنِ قَالَبٍ)، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ: «٢»
تُنْقَلُ مِنْ صَالَبٍ إلى رحم
(وَالتَّرائِبِ): أَيِ الصَّدْرُ، الْوَاحِدَةُ: تَرِيبَةٌ، وَهِيَ مَوْضِعُ القلادة من الصدر. قال:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ | تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ «٣» |
فَإِنْ تُدْبِرُوا نَأْخُذْكُمُ فِي ظُهُورِكُمْ | وَإِنْ تُقْبِلُوا نَأْخُذْكُمُ فِي التَّرَائِبِ |
وَبَدَتْ كَأَنَّ تَرَائِبًا مِنْ نَحْرِهَا | جَمْرُ الْغَضَى فِي سَاعِدٍ تَتَوَقَّدُ |
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا | شَرِقٌ بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ «٥» |
(٢). هو ابن عبد المطلب، يمدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتمام البيت:
إذا مضى عالم بدا طبق
(٣). البيت من معلقة امرئ القيس. والمهفهفة: الخفيفة اللحم: التي ليست برهلة ولا ضخمة البطن. والمفاضة: المسترخية البطن. والسجنجل: المرآة. وقيل: سبيكة الفضة، أو الزعفران، أو ماء الذهب.
(٤). في بعض نسخ الأصل: (أنها عظام النهد والصدر).
(٥). البيت للخبل. وشرق الجسد بالطيب امتلأ فضاق. واللبات (جمع لبة): موضع القلادة.
نِظَامُ دُرٍّ عَلَى تَرَائِبِهَا
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
ضَرَجْنَ البرود عن ترائب حرة «١»
أَيْ شَقَقْنَ. وَيُرْوَى" ضَرَحْنَ" بِالْحَاءِ، أَيْ أَلْقَيْنَ. وفي الصحاح: والتربية: وَاحِدَةُ التَّرَائِبِ، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ، مَا بَيْنَ الترقوة والثندوة. قال الشاعر:
أشرف ثدياها على التريب
«٢» وَقَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ:
وَمِنْ ذَهَبٍ يُسَنُّ «٣» عَلَى تَرِيبٍ | كَلَوْنِ الْعَاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ «٤» |
وعن أعين قتلتنا كل مقتل
(٢). القائل: هو الأغلب العجلي. وعجز البيت:
لم يعدوا التفليك في النتوب
وتفلك ثدي الجارية: استدار. والنتوب: النهود، وهو ارتفاعه.
(٣). كذا في بعض النسخ والطبري. وفي بعضها:" يسر" بالراء. وفي روح المعاني: (يبين). وفي اللسان وشعراء النصرانية (يلوح). [..... ]
(٤). في اللسان مادة (ترب):"... ليس له غضون". والبيت من قصيدة مكسورة القافية، مطلعها:
أفاطم قبل بينك متعيني | ومنعك ما سألت كأن تبيني |
(٦). راجع ج ٤ ص ٧
(٧). راجع ج ١٦ ص ٣٤٣
فِي صَلَبٍ مِثْلِ الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ
وَفِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَنْقُلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ
«٣» الْأَبْيَاتُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ. إِنَّهُ أَيْ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلى رَجْعِهِ أَيْ عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الْإِحْلِيلِ، لَقادِرٌ كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَعَنْهُمَا أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى: إنه على رد الماء في الصلب، وقال عِكْرِمَةُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ لَقَادِرٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الْكِبَرِ، لَقَادِرٌ. وَكَذَا فِي الْمَهْدَوِيِّ. وَفِي الْمَاوَرْدِيِّ وَالثَّعْلَبِيِّ: إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ، لَقَادِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَقَادِرٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ الْأَقْوَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: ٩] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ بَعْثِهِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الكفار يسألون الله تعالى فيها الرجعة.
(٢). أنظر ما سبق في ص ٥.
(٣). تمام البيت
إذا بدا عالم بدا طبق
وهو من قول للعباس بن عبد المطلب فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الطارق (٨٦): آية ٩]
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي يَوْمَ- فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَعْنَى إِنَّهُ عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ- قَوْلُهُ لَقادِرٌ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ رَجْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِخَبَرِ" إِنَّ". وَعَلَى الْأَقْوَالِ الْأُخَرِ الَّتِي فِي إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَكُونُ الْعَامِلَ فِي يَوْمَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ لَقادِرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الدُّنْيَا. وتُبْلَى أَيْ تُمْتَحَنُ وَتُخْتَبَرُ، وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطُّهَوِيُّ: «١»
وَلَا تَبْلَى بَسَالَتُهُمْ وَإِنْ هُمْ... صَلُوا بِالْحَرْبِ حِينًا بَعْدَ حِينِ
وَيُرْوَى" تُبْلَى بَسَالَتُهُمْ". فَمَنْ رَوَاهُ تُبْلَى- بِضَمِّ التَّاءِ- جَعَلَهُ مِنَ الِاخْتِبَارِ، وَتَكُونُ الْبَسَالَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْكَرَاهَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهَا كَرَاهَةٌ. وتُبْلَى تعرف. قال الرَّاجِزُ:
قَدْ كُنْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ تَزْدَرِينِي... فَالْيَوْمَ أَبْلُوكَ وَتَبْتَلِينِي
أَيْ أَعْرِفُكَ وَتَعْرِفُنِي. وَمَنْ رَوَاهُ (تَبْلَى) - بِفَتْحِ التَّاءِ- فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَضْعُفُونَ عَنِ الْحَرْبِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِمْ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الشِّدَادَ إِذَا تَكَرَّرَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ هَدَّتْهُ وَأَضْعَفَتْهُ. وَقِيلَ: تُبْلَى السَّرائِرُ: أَيْ تُخْرَجُ مُخَبَّآتُهَا وَتُظْهَرُ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ اسْتَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَضْمَرَهُ مِنْ إِيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ، كَمَا قَالَ الْأَحْوَصُ: «٢»
سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا... سريرة ود يوم تبلى السرائر
(٢). كذا ورد في بعض نسخ الأصل و (خزانة الأدب ج ١ ص ٣٢٢ وفي بعض نسخ الأصل، والشعر والشعراء، و (كتاب الأغاني ج ٤ ص ٢٤٢ طبع دار الكتب المصرية):" ستبلى لكم... ".
[سورة الطارق (٨٦): آية ١٠]
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَما لَهُ) أَيْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قُوَّةٍ أَيْ مَنَعَةٍ تَمْنَعُهُ. وَلا ناصِرٍ يَنْصُرُهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ مَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْقُوَّةُ: الْعَشِيرَةُ. وَالنَّاصِرُ: الْحَلِيفُ. وَقِيلَ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ فِي بَدَنِهِ. وَلا ناصِرٍ مِنْ غَيْرِهِ يَمْتَنِعُ بِهِ مِنَ اللَّهِ. وهو معنى قول قتادة.
[سورة الطارق (٨٦): الآيات ١١ الى ١٦]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ. تَرْجِعُ كُلَّ سَنَةٍ بمطر بعد مطر. كذا قاله عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ، وَأَنْشَدُوا لِلْمُتَنَخِّلِ يَصِفُ سَيْفًا شَبَّهَهُ بِالْمَاءِ:
أَبْيَضُ كَالرَّجْعِ رَسُوبٌ إِذَا | مَا ثَاخَ فِي مُحْتَفَلٍ يَخْتَلِي |
رَبَّاءُ شَمَّاءُ لَا يَأْوِي لِقُلَّتِهَا | إِلَّا السَّحَابُ وإلا الأوب والسبل «٢» |
(٢). البيت للمتنخل الهذلي. قال السكري في شرح هذا البيت:" رباء يربأ فوقها، يقول لا يدنو لقلتها، أي لرأسها: أي لا يعلو هذه الهضبة من طولها إلا السحاب والأوب. والأوب: رجوع النحل. والسبل: القطر حين يسبل".
يَجِدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَنَهْزِلُ «٣»
إِنَّهُمْ أَيْ إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ يَكِيدُونَ كَيْداً أَيْ يَمْكُرُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَكْرًا. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أَيْ أُجَازِيهِمْ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. وَقِيلَ: كَيْدُ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ"، عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥]. مستوفي «٤».
(٢). راجع ج ١ ص ٥ طبعه ثانية أو ثالثة. [..... ]
(٣). صدر البيت:
أرانا على حب الحياة وطولها
(٤). راجع ج ١ ص ٢٠٨ طبعه ثانية أو ثالثة.
[سورة الطارق (٨٦): آية ١٧]
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ أَخِّرْهُمْ، وَلَا تَسْأَلِ اللَّهَ تَعْجِيلَ إِهْلَاكِهِمْ، وَارْضَ بِمَا يُدَبِّرُهُ «١» فِي أُمُورِهِمْ. ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ([٥) «٢». أَمْهِلْهُمْ تَأْكِيدٌ. وَمَهَّلَ وَأَمْهَلَ: بِمَعْنَى، مِثْلَ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ. وَأَمْهِلْهُ: أَنْظِرْهُ، وَمَهِّلْهُ تَمْهِيلًا، وَالِاسْمُ: الْمُهْلَةُ. وَالِاسْتِمْهَالُ: الِاسْتِنْظَارُ. وَتَمَهَّلَ فِي أَمْرِهِ أَيِ اتَّأَدَ. وَاتْمَهَلَ اتْمِهْلَالًا: أَيِ اعْتَدَلَ وَانْتَصَبَ. وَالِاتْمِهْلَالُ أَيْضًا: سُكُونٌ وَفُتُورٌ. وَيُقَالُ: مَهْلًا يَا فُلَانُ، أَيْ رِفْقًا وَسُكُونًا. رُوَيْداً أَيْ قَرِيبًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَتَادَةُ: قَلِيلًا. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْهِلْهُمْ إِمْهَالًا قَلِيلًا. وَالرُّوَيْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَصْغِيرُ رُودٍ. وَكَذَا قاله أبو عبيد. وأنشد:
كَأَنَّهَا ثَمِلٌ يَمْشِي عَلَى رُودِ «٣»
أَيْ عَلَى مَهَلٍ. وَتَفْسِيرُ رُوَيْداً: مَهْلًا، وَتَفْسِيرُ (رُوَيْدَكَ): أَمْهِلْ، لِأَنَّ الْكَافَ إِنَّمَا تَدْخُلُهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَفْعِلْ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا حُرِّكَتِ الدَّالُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَنُصِبَ نَصْبَ الْمَصَادِرِ، وَهُوَ مُصَغَّرٌ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّهُ تَصْغِيرُ التَّرْخِيمِ مِنْ إِرْوَادٍ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَرْوَدَ يُرْوِدُ. وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَصِفَةٌ، وَحَالٌ، وَمَصْدَرٌ، فَالِاسْمُ نَحْوَ قَوْلِكَ: رُوَيْدَ عَمْرًا، أَيْ أَرْوِدْ عَمْرًا، بِمَعْنَى أَمْهِلْهُ. وَالصِّفَةُ نَحْوَ قَوْلِكَ: سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا. وَالْحَالُ نَحْوَ قَوْلِكَ: سَارَ الْقَوْمُ رُوَيْدًا، لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَعْرِفَةِ صَارَ حَالًا لَهَا. وَالْمَصْدَرُ نَحْوَ قَوْلِكَ: رُوَيْدَ عَمْرٍو بِالْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَرْبَ الرِّقابِ «٤» [مُحَمَّدٍ: ٤]. قَالَ جَمِيعَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالَّذِي فِي الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ، أَيْ إِمْهَالًا رُوَيْدًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، أَيْ أَمْهِلْهُمْ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ لَهُمُ الْعَذَابَ. خُتِمَتِ السورة.
(٢). آية ٥ سورة التوبة.
(٣). هذا عجز بيت للجموح الظفري. وصدره:
تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها
(٤). آية ٤ سورة محمد.