ﰡ
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ١٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
اللغة:
(وَالطَّارِقِ) أصله كل آت ليلا ومنه النجوم لطلوعها ليلا ومنه قول جرير:
وقد نقدته سكينة بنت الحسين إذ قالت لرواية جرير قبح الله صاحبك وقبح الله شعره وأي وقت أشهى من الطروق وهو اسم فاعل من طرق طرقا وطروقا إذا جاء ليلا والمراد به هنا النجم وإنما سمي طارقا لطلوعه ليلا وكل من آتاك ليلا فقد طرقك ولا يكون الطروق إلا بالليل، قالت هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
تريد أن أبانا كالنجم في علوّه وشرفه وأصل الطرق الدق ومنه سمّيت المطرقة وإنما سمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب أي دقّه غالبا ثم اتسع به في كل ما ظهر بالليل كائنا ما كان ثم اتسع كل التوسع حتى أطلق على الآتي نهارا وفي المصباح: «طرقت الباب طرقا من باب قتل وطرقت الحديدة مددتها وطرقتها بالتثقيل مبالغة وطرق النجم طروقا من باب قعد طلع وكل ما أتى ليلا فقد طرق وهو طارق والمطرقة بالكسر ما يطرق به الحديد» أما ابن جنّي فقد منع أن يأتي الطروق نهارا قال: «وأما قول العامة: نعوذ بالله من طوارق الليل والنهار فغلط لأن الطروق لا يكون إلا بالليل والصواب أن يقال نعوذ بالله من طوارق الليل وجوارح النهار لأن العرب تقول طرقه إذا أتاه ليلا وجرحه إذا أتاه نهارا». وفي الصحاح: «الطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح».
(الثَّاقِبُ) المضيء لثقبه الظلام، قال أبو عبيدة: العرب تقول:
أثقب نارك أي أضئها وقيل الثاقب العالي يقال ثقب الطائر إذا علا في الهواء وأسف إذا دنا من الأرض ودوّم إذا سكن جناحيه ليستقل وعبارة الأساس واللسان: ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء
أرين محاسنا وكننّ أخرى | وثقبن الوصاوص للعيون |
(الصُّلْبِ) الشديد يقال هو صلب في دينه وراع صلب العصا إذا كان يعنّف الإبل وعظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل إلى العجب أو أسفل الظهر ويجمع على أصلاب وأصلب وصلبة وهو المراد هنا ويقال هو من صلب فلان أي من نسله وولده وفيه أربع لغات بضم الصاد وسكون اللام والصلب بفتحتين والصلب بضمتين وقد قرىء بها جميعا وثمة لغة رابعة وهي الصالب.
(وَالتَّرائِبِ) الترائب عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة الترائب ما بين ثديي المرأة وحكى الزجّاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدرة، وفي الحديث «إن الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم»، وفي المختار: «والترائب جمع تريبة كصحيفة وصحائف» قال امرؤ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة | ترائبها مصقولة كالسجنجل |
(السَّرائِرُ) ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات وما أخفي من الأعمال وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث، وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:
ومن ذهب يلوح على تريب | كلون العاج ليس بذي غضون |
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا | سريرة ودّ يوم تبلى السرائر |
(الرَّجْعِ) المطر لأنه يعود كل حين فالسحاب تحمل الماء من الأمطار ثم ترجعه إلى الأرض ويسمى أوبا لأنه يئوب أي يرجع، قال المتنخل الهذلي:
رباء شماء لا يأوي لقلتها | إلا السحاب وإلا الأوب والسبل |
(الصَّدْعِ) الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وفي الأساس:
«وانصدعت الأرض بالنبات وصدعها الله تعالى: والأرض ذات الصدع».
الإعراب:
(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والطارق قسم أيضا منسوق على ما قبله والواو حرف عطف وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبرها وما اسم استفهام والطارق خبرها والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والنجم بدل من الطارق أو خبر لمبتدأ محذوف كأنه جواب للاستفهام الوارد قبله تفخيما له وجملة إن كل نفس لما عليها حافظ لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وما بين القسم وجوابه اعتراض وإن بالتخفيف نافية وكل نفس مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى إلا وعليها خبر مقدّم وحافظ مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر كل، وقرئت لما بالتخفيف فاللام الفارقة وإن مخففة من الثقيلة مهملة وما زائدة وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة فقال:
وخففت إن فقل العمل... وتلزم اللام إذا ما تهمل
وقد تقدم نظيرها في يس (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم باللام والإنسان فاعل، وممّ: من حرف جر وما اسم استفهام في محل جر بمن وقد تقدم أن ما الاستفهامية قد يحذف ألفها إن سبقها حرف جر والجار والمجرور متعلقان بخلق وجملة خلق في موضع نصب بقوله فلينظر المعلّق عنها بالاستفهام وجواب الاستفهام خلق من ماء وجملة خلق من ماء دافق مستأنفة كأنها جواب سؤال مقدّر وخلق فعل ماض مبني للمجهول ومن ماء متعلق بخلق ودافق نعت لماء أي مدفوق أو هي من صيغ النسب كلابن وتامر أو هو مجاز بالإسناد فقد أسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة وجملة يخرج نعت ثان أو حالية ومن بين الصلب متعلقان بيخرج والترائب عطف على
البلاغة:
١- في قوله «من بين الصلب والترائب» طباق، فقد طابق بين عظم الظهر وعظم الصدر وأفرد الأول وجمع الآخر لأن صدر المرأة هو تريبتها فيقال للمرأة ترائب يعني بها التريبة وما حواليها وما أحاط بها وكذلك تقول العرب: رأيت خلاخيل المرأة وثديها وإنما لها ثديان وخلخالان أو يقال أنه تعالى أراد: يخرج من بين الأصلاب والترائب، فاكتفى بالواحد عن الجماعة كما قال تعالى: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، ولم يقل والأرضين هذا وقد رمق أبو الطيب سماء هذه الآية فنقلها نقلا خفيا ينمّ على قدرة وألمعية فقال متغزلا وأجاد:
بأبي الشموس الجانحات غواربا | اللابسات من الحرير جلاببا |
المنهبات قلوبنا وعقولنا | وجناتهنّ الناهبات الناهبا |
الناعمات القاتلات المحييا | ت المبديات من الدلال غرائبا |
حاولن تفديتي وخفن مراقبا | فوضعن أيديهنّ فوق ترائبا |
وبسمن عن برد خشيت أذيبه | من حر أنفاسي فكنت الذائبا |
٢- وفي قوله «النجم الثاقب» الفصل، وسياق الكلام يقتضي الوصل لأنه قصد إشراكهما في الحكم واتفقا فيه وإنما عدل عنه تفخيما لشأنه فأقسم أولا بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيما لشأنه ثانيا ثم فسّره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام، روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحطّ نجم فجزع أبو طالب وقال أيّ شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله.
٣- وفي قوله «والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم
كأن المدام وصوب الغمام... وريح الخزامى ونشر العطر
وأورد الشيخ عبد الغني النابلسي للقاضي يحيى بن أكثم بيتين في المماثلة:
إنما الدنيا طعام... ومدام وغلام
فإذا فاتك هذا... فعلى الدنيا السلام
وأورد لابن الصائغ أيضا:
زار الحبيب بليلة... ووشاته لم يشعروا
فضممته ولثمته... وفعلت ما لا يذكر
ولهذا قال ابن حجة عن فن المماثلة: أنه نوع سافل بالنسبة إلى غيره.
الفوائد:
أجوبة القسم:
أجوبة القسم أربعة: إنّ وما واللام ولا، فحرفان يوجبان وهما إن واللام، وحرفان ينفيان وهما ما ولا كقولك والله ما قام زيد ولقد قام زيد.