تفسير سورة الليل

اللباب
تفسير سورة سورة الليل من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وقيل : مدنية، وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة، وثلاثمائة وعشرة أحرف.

مكية، وقيل: مدنية، وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة، وثلاثمائة وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾. أي: يغطي، ولم يذكر مفعولاً، للعلم به.
وقيل: يغشى النهار.
وقيل: الأرض.
قال قتادة: أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً والنهار مضيئاً مبصراً.
قال ابن الخطيب: أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويجيئهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ثم أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى، لأن النهار إذا كشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، جاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم والطير والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً﴾ [الفرقان: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار﴾ [إبراهيم: ٣٣] فقوله ﴿والنهار إِذَا تجلى﴾ أي: انكشف وظهر وبان بضوئه عن ظلمة الليل. وقرأ العامة: «تَجَلّي» فعلاً ماضياً، وفاعله ضمير عائد على النهار.
368
وقرأ عبد الله بن عمير: «تتجلى» بتاءين، أي: الشمس، وقرأ «تُجْلِي» بضم التاء وسكون الجيم أي: الشمس أيضاً، ولا بد من عائد على النهار محذوف أي: تتجلى أو تجلى فيه. قوله: ﴿وَمَا خَلَقَ﴾. يجوز في «ما» أن تكون بمعنى «من» على ما تقدم في سورة «والشمس».
قال الحسن: معناه، والذي خلق فيكون قد أقسم بنفسه تعالى.
وقيل: مصدرية.
قال الزمخشري: «والقادر: العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد»، وقد تقدم هذا القول، والاعتراض عليه، والجواب عنه في السورة قبلها. وقرأ أبو الدرداء: «والذكر والأنثى»، وقرأ عبد الله: «والذي خلق» وقرأ الكسائي، ونقلها ثعلبة عن بعض السلف: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرِ﴾ بجر الذكر.
قال الزمخشري: «على أنه بدل من محل ما خلق بمعنى وما خلقه الله، أي: ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم بالخلق، إذ لا خالق سواه».
وقيل: المعنى، وما خلق من الذكر والأنثى، فتكون «من» مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه ويكون قسمه بهم تكريماً لهم وتشريفاً.
قال أبو حيان: وقد يخرج على توهم المصدر، أي: وخلق الذكر؛ كقوله: [المتقارب]
٥٢٢٤ - تَطُوفُ العُفَاةُ بأبْوابِهِ كمَا طَافَ بالبَيْعَةِ الرَّاهبِ
بجر «الراهب» على توهم النطق بالمصدر، أي: كطوف الراهب انتهى.
369
والذي يظهر في تخريج البيت أن أصله: الراهبي - بياء النسب - ثم خفف، وهو قليل، كقولهم: أحمري، وداودي، وهذا التخريج بعينه في قول امرئ القيس: [الطويل]
٥٢٢٥ -.................................... فَقِلْ في مَقِيلٍ نَحسهُ مُتغيِّبِ
لما استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعل.
وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كان يقرأ: ﴿والنهار إِذَا تجلى والذكر والأنثى﴾ ويسقط ﴿وَمَا خَلَقَ﴾.
وفي صحيح مسلم عن علقمة، قال: قدمنا «الشام»، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم، أنا، قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ ؟ قال: سمعته يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى» قال. وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ومَا خَلَقَ» فلا أتابعهم.
وقال ابن الأنباري: حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله، قال: أقرأني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي أنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينُ».
قال ابن الأنباري: كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له، وإن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود فيما عليه جماعة من المسلمين، وموافقة الإجماع أولى من الأخذ بقول واحد يخالفه الإجماع.

فصل في المراد بالذكر والأنثى


قيل المراد بالذكر والأنثى، آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قاله ابن عباس والحسن والكلبي.
وقيل: جميع الذكور والإناث من جميع الحيوانات.
370
وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.

فصل في معنى الآية


وقوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾. هذا جواب القسم، والمعنى: إن أعمالكم لتختلف، [ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدمة، وشتى واحدهُ شتيت مثل مريض ومرضى، وإنما قيل للمختلف: شتَّى، لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي إن أعمالكم المتباعدة بعضه عن بعض لشتى، لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى، أي: فمنكم مؤمن، وبر، وكافر، وفاجر، ومطيع، وعاص.
وقيل: لشتَّى أي: لمختلف الجزاء فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار وقيل لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم وقاسي وحليم وطائش وجواد وبخيل]
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبي سفيان.
371
فقوله ﴿ والنهار إِذَا تجلى ﴾ أي : انكشف وظهر وبان بضوئه عن ظلمة الليل. وقرأ العامة :«تَجَلّي » فعلاً ماضياً، وفاعله ضمير عائد على النهار.
وقرأ١ عبد الله بن عمير :«تتجلى » بتاءين، أي : الشمس، وقرأ «تُجْلِي »٢ بضم التاء وسكون الجيم أي : الشمس أيضاً، ولا بد من عائد على النهار محذوف أي : تتجلى أو تجلى فيه.
١ ينظر : البحر المحيط ٨/٤٧٧، والدر المصون ٦/٥٣٤..
٢ ينظر السابق..
قوله :﴿ وَمَا خَلَقَ ﴾. يجوز في «ما » أن تكون بمعنى «من » على ما تقدم في سورة «والشمس ».
قال الحسن : معناه، والذي خلق فيكون قد أقسم بنفسه تعالى١.
وقيل : مصدرية.
قال الزمخشري٢ :«والقادر : العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد »، وقد تقدم هذا القول، والاعتراض عليه، والجواب عنه في السورة قبلها. وقرأ أبو الدرداء٣ :«والذكر والأنثى »، وقرأ عبد الله٤ :«والذي خلق » وقرأ الكسائي، ونقلها٥ ثعلبة عن بعض السلف :﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرِ ﴾ بجر الذكر.
قال الزمخشري٦ :«على أنه بدل من محل ما خلق بمعنى وما خلقه الله، أي : ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم بالخلق، إذ لا خالق سواه ».
وقيل : المعنى، وما خلق من الذكر والأنثى، فتكون «من » مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه ويكون قسمه بهم تكريماً لهم وتشريفاً.
قال أبو حيان٧ : وقد يخرج على توهم المصدر، أي : وخلق الذكر ؛ كقوله :[ المتقارب ]
٥٢٢٤- تَطُوفُ العُفَاةُ بأبْوابِهِ *** كمَا طَافَ بالبَيْعَةِ الرَّاهبِ٨
بجر «الراهب » على توهم النطق بالمصدر، أي : كطوف الراهب انتهى.
والذي يظهر في تخريج البيت أن أصله : الراهبي - بياء النسب - ثم خفف، وهو قليل، كقولهم : أحمري، وداودي، وهذا التخريج بعينه في قول امرئ القيس :[ الطويل ]
٥٢٢٥-. . . *** فَقِلْ في مَقِيلٍ نَحسهُ مُتغيِّبِ٩
لما استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعل.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ :﴿ والنهار إِذَا تجلى والذكر والأنثى ﴾ ويسقط ﴿ وَمَا خَلَقَ ﴾.
وفي صحيح مسلم عن علقمة، قال : قدمنا «الشام »، فأتانا أبو الدرداء، فقال : فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله ؟ فقلت : نعم، أنا، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية :﴿ والليل إِذَا يغشى ﴾ ؟ قال : سمعته يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى » قال. وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ومَا خَلَقَ » فلا أتابعهم١٠.
وقال ابن الأنباري : حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنِّي أنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينُ ».
قال ابن الأنباري : حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني أنا الرزاق ذو القوة المتين " ١١
قال ابن الأنباري : كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له، وإن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود فيما عليه جماعة من المسلمين، وموافقة الإجماع أولى من الأخذ بقول واحد يخالفه الإجماع.

فصل في المراد بالذكر والأنثى


قيل المراد بالذكر والأنثى، آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قاله ابن عباس والحسن والكلبي١٢.
وقيل : جميع الذكور والإناث من جميع الحيوانات.
وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦١٠)..
٢ الكشاف ٤/٧٦١..
٣ وزعم الزمخشري وغيره أنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ينظر: الكشاف ٤/٧٦١، والمحرر الوجيز ٥/٤٩٠، والبحر المحيط ٨/٤٧٧ وقال أبو حيان: "وما ثبت في الحديث من قراءة "والذكر والأنثى" نقل آحاد، مخالف للسواد؛ فلا يعد قرآنا، وينظر: الدر المصون ٦/٥٣٤..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٥٣٤..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٩٠، والبحر المحيط ٨/٤٧٧، والدر المصون ٦/٥٣٤..
٦ الكشاف ٤/٧٦٢..
٧ ينظر البحر المحيط ٨/٤٧٧..
٨ ويروى الشطر الثاني:
*** كطوف النصارى ببيت الوثن ***
ينظر ديوان الأعشى ص ٢٠٩، والبحر ٨/٤٧٧، والدر المصون ٦/٥٣٥..

٩ عجز بيت وصدره:
*** فظل لنا يوم لذيذ بنعمة ***
ينظر ديوان امرىء القيس ص (٣٧)، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ١/١٦٠، والدر المصون ٦/٥٣٥..

١٠ أخرجه البخاري (٨/٥٧٧) كتاب التفسير، باب: والنهار إذا تجلى رقم (٤٩٤٣)، وأحمد (٦/٤٤٩) والترمذي (٥/١٧٥) رقم (٢٩٣٩) والنسائي في "الكبرى" (٦/٥١٦) والطبري في "تفسيره" (١٢/٦١٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٤) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه..
١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥٥) وعزاه إلى ابن الأنباري..
١٢ ينظر تفسير الماوردي (٦٢٨٧) والقرطبي (٢٠/٥٦)..

فصل في معنى الآية


وقوله :﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى ﴾. هذا جواب القسم، والمعنى : إن أعمالكم لتختلف، [ ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدمة، وشتى واحدهُ شتيت مثل مريض ومرضى، وإنما قيل للمختلف : شتَّى، لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي إن أعمالكم المتباعدة بعضه عن بعض لشتى، لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى، أي : فمنكم مؤمن، وبر، وكافر، وفاجر، ومطيع، وعاص.
وقيل : لشتَّى أي : لمختلف الجزاء فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار وقيل لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم وقاسي وحليم وطائش وجواد وبخيل ]١.
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - وأبي سفيان.
١ سقط من : ب..
قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى﴾. قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني أبا بكر، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى﴾ أي: بذل واتقى محارم الله التي نهي عنها ﴿وَصَدَّقَ بالحسنى﴾ أي: بالخلف من الله تعالى على عطائه ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى﴾.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ يَومٍ غَربت شَمْسهُ إلا بُعِثَ بجَنْبتها مَلكانِ يُنَاديانِ يَسْمَعُهمَا خلقُ اللهِ كُلُّهم إلاَّ الثَّقليْنِ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلفاً، وأعْطِ مُمْسِكاً تَلفاً».
وأنزل الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى﴾... الآيات.

فصل


حذف مفعول «أعطى» ومفعول «اتقى»، ومفعول «صدّق» المجرور ب «على»، لأن الغرض ذكرُ هذه الأحداث دون متعلقاتها، وكذلك متعلقات البخل والاستغناء، وقوله تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ إما من باب المقابلة لقوله ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى﴾ وإما نيسرهُ: بمعنى نهيئه، والتهيئة تكون في العسر واليسر.
371

فصل في المراد بالإعطاء


قال المفسرون: «فأمَّا مَنْ أعْطَى» المعسرين.
وقال قتادة: أعطى حق الله الواجب.
وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى، أي بلا إله إلا الله، وهو قول ابن عباس والضحاك والسلمي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وقال مجاهد: بالجنة؛ لقوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦].
وقال زيد بن أسلم: في الصلاة والزكاة والصوم.
وقوله: «فسنيسره لليسرى» أي نرشده لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها.
وقال زيد بن أسلم: لليسرى؛ للجنة.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» مَا مِن نَفسٍ إلاَّ كتَبَ اللهُ - تَعَالَى - مَدخَلهَا «فقال القَوْمُ: يَا رسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتَابِنَا؟ فقَال - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -:» بَل اعملُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ، فمن كانَ من أهْلِ السَّعَادةِ فإنَّهُ مُيَسَّرٌ لعملِ أهْلِ السَّعادةِ، ومن كَانِ مِنْ أهْلِ الشَّقَاوةِ فإنَّهُ ميسَّرٌ لعملِ أهْلِ الشَّقاوةِ «ثُمَّ قَرَأ: ﴿فأما من أعْطَى واتَّقَى، وصَدقَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ ».
قوله: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى﴾. أي: ضنَّ بما عنده فلم يبذل خيراً، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾، قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال نزلت في أمية بن خلف. وعن ابن عباس: ﴿وأمَّا من بَخِلَ واسْتَغَنَى﴾، أي: بخل بماله واستغنى عن ربه ﴿وَكَذَّبَ بالحسنى﴾ أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ: ٣٩].
372
[وقال مجاهد: وكذب بالحسنى أي بالجنة، وعنه: بلا إله إلا الله. فنيسره للعسرى أي نسهل عليه طريقة العسرى للشر، وعن ابن مسعود: أي للنار].
قوله: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ يدل على أن التوفيق والخذلان من الله تعالى لأن التيسير يدل على الرجحان ولزم الوجوب، لأنه لا واسطة بين الفعل والترك، ومع الاستواء لا ترجيح فحال المرجوحية أولى بالامتناع، ومتى امتنع أحد الطرفين وجب الآخر إذ لا خروج عن النقيضين. أجاب القفال: أنه من باب تسمية أحد الضدين باسم الآخر، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى: ٤٠] فسمى الله الألفاظ الداعية إلى الطَّاعة تيسيراً لليسرى، وسمى ترك هذه الألفاظ تيسيراً للعسرى، أو هو من باب إضافة الفعل إلى السبب دون الفاعل، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً﴾ [إبراهيم: ٣٦]، أو يكون على سبيل الحكم، والإخبار عنه.
وأجيب بأن هذا كلهُ عدول عن الظاهر، والظاهر من جهتنا وهو المقصود من الحديث المتقدم: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنفوسةٍ».
قال القفال: معنى الحديث: أن النَّاس خلقوا للعبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، وهذا ضعيفٌ؛ لأن هذا جواب عن قولهم: «ألا نتكل» ؟ فقال: اعملوا فكلٌّ ميسر، لما وافق معلوم الله تعالى.

فصل في اليسرى والعسرى


التأنيثُ في «اليُسرَى» و «العُسرَى» إن أريد جماعة الأعمال فظاهر، وإن أريد عمل من الأعمال باعتبار الخصلة، أو الفعلة، أو الطريقة، فمن فسر اليسرى بالجنة، فتيسيرها بإكرام، وسهولة، ومن فسرها بالخير، فتيسيره حضّه عليه ونشاطه، بخلاف المنافق والمرائي، ودخلت السين في «فَسنُيسِّرهُ» بمعنى الترجي، وهذا يفيد القطع من الله تعالى، أو لأن الأعمال بالخواتيم، فقد يعصي المطيع، وبالعكس، أو لأن أكثر الثواب يكون بالآخرة، وهي متأخرة.
قوله: ﴿وَمَا يُغْنِي﴾، يجوز أن تكون «ما» نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً، وأن تكون استفهاماً إنكارياً، أي: أيُّ شيء يغني عنه ماله إذا هلك، ووقع في جهنم وتردى، ويروى إما من الهلاك يقال: ردي الرجل يردي، إذا هلك؛ قال: [الطويل]
٥٢٢٦ - صَرَفْتُ الهَوَى عَنهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى...
373
وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: تردى، أي سقط في جهنم، ومنه «المتردية»، ويقال: ردي من في البئر وتردى: إذا سقط في بئر أو نهر أو من جبل، ويقال: ما أدري أين ردى أي أين ذهب.
ويحتمل أن يكون من تردى، وهو كناية عن الموت؛ كقوله: [الكامل]
٥٢٢٧ - وخُطَّا بأطْرافِ الأسنَّةِ مَضْجعِي ورُدَّا عَلى عيْنيَّ فضْلَ رِدائِيَا
وقول الآخر: [الطويل]
374
﴿ وصدق بالحسنى ﴾ أي : بالخلف من الله تعالى على عطائه ﴿ فسنيسره لليسرى ﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَا مِنْ يَومٍ غَربت شَمْسهُ إلا بُعِثَ بجَنْبتها مَلكانِ يُنَاديانِ يَسْمَعُهمَا خلقُ اللهِ كُلُّهم إلاَّ الثَّقليْنِ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلفاً، وأعْطِ مُمْسِكاً تَلفاً »١.
وأنزل الله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى ﴾. . . الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
حذف مفعول «أعطى» ومفعول «اتقى»، ومفعول «صدّق» المجرور ب «على»، لأن الغرض ذكرُ هذه الأحداث دون متعلقاتها، وكذلك متعلقات البخل والاستغناء، وقوله تعالى :﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾ إما من باب المقابلة لقوله ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى ﴾ وإما نيسرهُ : بمعنى نهيئه، والتهيئة تكون في العسر واليسر.

فصل في المراد بالإعطاء


قال المفسرون :«فأمَّا مَنْ أعْطَى» المعسرين.
وقال قتادة : أعطى حق الله الواجب٢.
وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى، أي بلا إله إلا الله، وهو قول ابن عباس والضحاك والسلمي رضي الله عنهم٣.
وقال مجاهد : بالجنة ؛ لقوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾٤ [ يونس : ٢٦ ].
وقال زيد بن أسلم : في الصلاة والزكاة والصوم٥.


١ أخرجه البخاري (٣/٣٠٤) كتاب الزكاة، باب: قوله تعالى فأما من أعطى واتقى رقم (١٤٤٣) ومسلم (٢/٧٠٠) كتاب الزكاة، باب: في المنفق والممسك حديث (٥٧/١٠١٠) من حديث أبي هريرة..
وقوله :«فسنيسره لليسرى » أي نرشده لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها.
وقال زيد بن أسلم : لليسرى ؛ للجنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَا مِن نَفسٍ إلاَّ كتَبَ اللهُ - تَعَالَى - مَدخَلهَا » فقال القَوْمُ : يَا رسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَّكِلُ على كِتَابِنَا ؟ فقَال - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - :«بَل اعملُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ، فمن كانَ من أهْلِ السَّعَادةِ فإنَّهُ مُيَسَّرٌ لعملِ أهْلِ السَّعادةِ، ومن كَانِ مِنْ أهْلِ الشَّقَاوةِ فإنَّهُ ميسَّرٌ لعملِ أهْلِ الشَّقاوةِ » ثُمَّ قَرَأ :﴿ فأما من أعْطَى واتَّقَى، وصَدقَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في اليسرى والعسرى
التأنيثُ في «اليُسرَى» و «العُسرَى» إن أريد جماعة الأعمال فظاهر، وإن أريد عمل من الأعمال باعتبار الخصلة، أو الفعلة، أو الطريقة، فمن فسر اليسرى بالجنة، فتيسيرها بإكرام، وسهولة، ومن فسرها بالخير، فتيسيره حضّه عليه ونشاطه، بخلاف المنافق والمرائي، ودخلت السين في «فَسنُيسِّرهُ» بمعنى الترجي، وهذا يفيد القطع من الله تعالى، أو لأن الأعمال بالخواتيم، فقد يعصي المطيع، وبالعكس، أو لأن أكثر الثواب يكون بالآخرة، وهي متأخرة.


١ تقدم..
قوله :﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى ﴾. أي : ضنَّ بما عنده فلم يبذل خيراً.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله :﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾، قال : سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال نزلت في أمية بن خلف. وعن ابن عباس :﴿ وأمَّا من بَخِلَ واسْتَغَنَى ﴾، أي : بخل بماله واستغنى عن ربه
﴿ وَكَذَّبَ بالحسنى ﴾ أي : بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾١ [ سبأ : ٣٩ ]. [ وقال مجاهد : وكذب بالحسنى أي بالجنة، وعنه : بلا إله إلا الله٢. فنيسره للعسرى أي نسهل عليه طريقة العسرى للشر، وعن ابن مسعود : أي للنار ]٣.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦١٤) عن ابن عباس..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦١٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ سقط من ب..
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله :﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾، قال : سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.
قوله :﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾ يدل على أن التوفيق والخذلان من الله تعالى لأن التيسير يدل على الرجحان ولزم الوجوب، لأنه لا واسطة بين الفعل والترك، ومع الاستواء لا ترجيح فحال المرجوحية أولى بالامتناع، ومتى امتنع أحد الطرفين وجب الآخر إذ لا خروج عن النقيضين. أجاب القفال١ : أنه من باب تسمية أحد الضدين باسم الآخر، كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] فسمى الله الألفاظ الداعية إلى الطَّاعة تيسيراً لليسرى، وسمى ترك هذه الألفاظ تيسيراً للعسرى، أو هو من باب إضافة الفعل إلى السبب دون الفاعل، كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، أو يكون على سبيل الحكم، والإخبار عنه.
وأجيب بأن هذا كلهُ عدول عن الظاهر، والظاهر من جهتنا وهو المقصود من الحديث المتقدم :«مَا مِنْ نَفْسٍ مَنفوسةٍ ».
قال القفال٢ : معنى الحديث : أن النَّاس خلقوا للعبادة، قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وهذا ضعيفٌ ؛ لأن هذا جواب عن قولهم :«ألا نتكل » ؟ فقال : اعملوا فكلٌّ ميسر، لما وافق معلوم الله تعالى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في اليسرى والعسرى
التأنيثُ في «اليُسرَى» و «العُسرَى» إن أريد جماعة الأعمال فظاهر، وإن أريد عمل من الأعمال باعتبار الخصلة، أو الفعلة، أو الطريقة، فمن فسر اليسرى بالجنة، فتيسيرها بإكرام، وسهولة، ومن فسرها بالخير، فتيسيره حضّه عليه ونشاطه، بخلاف المنافق والمرائي، ودخلت السين في «فَسنُيسِّرهُ» بمعنى الترجي، وهذا يفيد القطع من الله تعالى، أو لأن الأعمال بالخواتيم، فقد يعصي المطيع، وبالعكس، أو لأن أكثر الثواب يكون بالآخرة، وهي متأخرة.


١ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٨٢..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٨٢..
قوله :﴿ وَمَا يُغْنِي ﴾، يجوز أن تكون «ما » نافية، أي : لا يغني عنه ماله شيئاً، وأن تكون استفهاماً إنكارياً، أي : أيُّ شيء يغني عنه ماله إذا هلك، ووقع في جهنم وتردى، ويروى إما من الهلاك يقال : ردي الرجل يردي، إذا هلك ؛ قال :[ الطويل ]
٥٢٢٦- *** صَرَفْتُ الهَوَى عَنهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى١ ***
وقال أبو صالح وزيد بن أسلم : تردى، أي سقط في جهنم، ومنه «المتردية »، ويقال : ردي من في البئر وتردى : إذا سقط في بئر أو نهر أو من جبل، ويقال : ما أدري أين ردى أي أين ذهب.
ويحتمل أن يكون من تردى، وهو كناية عن الموت ؛ كقوله :[ الكامل ]
٥٢٢٧- وخُطَّا بأطْرافِ الأسنَّةِ مَضْجعِي*** ورُدَّا عَلى عيْنيَّ فضْلَ رِدائِيَا٢
وقول الآخر :[ الطويل ]
٥٢٢٨ - نَصِيبُكَ ممّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ رِداءانِ تُلْوَى فِيهِمَا وحَنُوطُ
٥٢٢٨- نَصِيبُكَ ممّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ رِداءانِ تُلْوَى فِيهِمَا وحَنُوطُ٣
١ ينظر القرطبي ١٩/٥٨..
٢ البيت لمالك بن الريب التميمي ينظر الجمهرة (٦١٠)، والبحر ٨/٤٧٨، والدر المصون ٦/٥٣٥..
٣ ينظر البحر ٨/٤٧٨ والدر المصون ٦/٥٣٥..
قوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا للهدى﴾، أن نبين طريق الهدى، من طريق الضلال، فالهدى بمعنى بيان الأحكام قاله الزجاجُ: أي: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته ومعصيته، وهو قول قتادة.
وقال الفراءُ: من سلك الهدى، فعلى الله سبيله، كقوله تعالى: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾ [النحل: ٩]، وقيل: معناه إنَّ علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كقوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ [آل عمران: ٢٦]، وقوله تعالى: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] وهي تقي الحرَّ وهي تقي البرد، قاله الفراء أيضاً. وهو يروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.

فصل


لما عرفهم سبحانه أن سعيهم شتى، وبين ما للمحسنين من اليسرى، وللمسيئين من العسرى أخبرهم أنه قد مضى ما عليه من البيان، والدلالة، والترغيب، والترهيب، أي: أن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد، ونبين المتعبد به.
قالت المعتزلة: إباحة الأعذار تقتضي أنه تعالى كلفهم بما في وسعهم وطاقتهم.
وأيضاً فكلمة «على» للوجوب، وأيضاً: فلو لم يستقل العبد بالإيجاد، لم يكن في نصب الأدلة فائدة، وجوابهم قد تقدم.
وزاد الواحديُّ: أن الفراء، قال: إن معنى: إن علينا للهدى والإضلال، فحذف المعطوف كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، وهو معنى قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، يريد: أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن
374
يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال، ورد المعتزلة هذا التأويل بقوله تعالى: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ [النحل: ٩]، وتقدم جوابهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى﴾، أي: لنا كل ما في الدنيا، والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد، ونكون نحن نملك الدارين، فليطلب منا سعادة الدارين؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة﴾ [النساء: ١٣٤] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
قوله: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى﴾. قد تقدم في «البقرة» : أن البزي يشدد مثل هذه التاء، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما، وهو نظير قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥] وقد تقدم.
وقال أبو البقاء: يقرأ بكسر التنوين، وتشديد التاء، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧] انتهى. وهذه قراءة غريبة، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه، أي الذي قاله في «البقرة»، ولا يفيد هنا شيئاً ألبتة فإنه قال هناك: «ويقرأ بتشديد التاء، وقبله ألف، وهو جمع بين ساكنين، وإنام سوغ ذلك المد الذي في الألف.
وقال ابنُ الزبير، وسفيان، وزيد بن علي، وطلحة، «تَتَلظَّى»
بتاءين وهو الأصل.
قال القرطبي: «وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر».

فصل في معنى الآية


المعنى: خوفتكم، وحذرتكم ناراً تلظى، أي: تلهّب، وتوقّد، وتوهّج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم: لظى.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَصْلاَهَآ﴾، أي: لا يجد صلاها، وهو حرها ﴿إِلاَّ الأشقى﴾، أي: الشقي.
375
قيل: الأشقى، والأتقى، بمعنى الشقي والتقي، ولا تفضيل فيهما، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء، وتجنبها ليس مختصاً بالأكثر تقوى.
وقيل: بل هما على بابهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ، فإنه قال: فإن قلت: كيف قال: ﴿لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى﴾ ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾، وقد علم أن كلَّ شقي يصلاها، وكل تقي يجنبها، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكَّر النار، فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾ فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة.
قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين؛ فقيل: الأشقى، وجعل: مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصاً بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: هما أبو جهل وأمية وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال: جوابه المراد بهما شخصان معينان. انتهى.

فصل


قال المفسرون: المراد بالأشقى، والشقي: الذي «كذَّب» نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وتولَّى» أعرض عن الإيمان.
وقال الفرَّاء: معناه إلاَّ مَنْ كان شقياً في علمِ الله تعالى.
قال بعضهم: «الأشقَى» بمعنى الشقي؛ كقوله: [الطويل]
٥٢٢٩ -........................................ لَسْتُ فِيهَا بأوْحَدِ
«بأوحد»، أي: بواحد، ووحيد، ويوضع «أفعل» موضع «فعيل» نحو قولهم: «اللهُ أكْبَرُ» بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين، قالت المرجئة: الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر.
والجواب: المعارضة بآيات الوعيد.
وأيضاً: فهذا إغراء بالمعاصي، وأيضاً، فقوله تعالى بعده: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾ يدل على ترك هذه الظاهرة؛ لأن الفاسق ليس «بأتقى» فالمراد بقوله تعالى: ﴿نَاراً تلظى﴾ أنها مخصوصة من بين النيران؛ لأن النار دركات، ولا يلزم من هذا أنَّ الفاسق لا يدخل النَّار أصلاً، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق.
376
وأجاب الواحديُّ: بأن معنى «لا يَصْلاَهَا» : لا يلزمها، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر.
قوله: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾، أي: يبعد عنها الأتقى، أي: التقي الخائف.
قال ابن عباس: وهو أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ثم وصف الأتقى، فقال سبحانه: ﴿الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى﴾ أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، ولا يطلب بذلك رياء، ولا سمعةً بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله.
قوله: «يَتَوكَّى». قرأ العامة: «يتزكّى» مضارع «تَزَكَّى».
والحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: «يزكَّى» بإدغام الياء في الزاي، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الحال من فاعل «يُؤتِي»، أي: يؤتيه متزكياً به.
والثاني: أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة «الَّذي»، ذكرهما الزمخشري.
قوله تعالى: ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى﴾، أي: ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى، أي: المتعالي، و «تجزى» صفة ل «نِعْمَة»، أي: يجزى الإنسان، وإنَّما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعول، لأجل الفواصل؛ إذ الأصل: يجزيها إياه أو يجزيه إياها.
قوله: ﴿إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ﴾. في نصب «إلاَّ ابتِغَاءَ» وجهان:
أحدهما: أنه مفعول له قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى؛ لأن المعنى: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة». وهذا أخذه من قول الفراء، فإنه قال: ونصب على تأويل: ما أعطيتك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله تعالى.
والثاني: أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندرج تحت جنس «مِنْ نِعْمَةٍ» وهذه قراءة العامة، أعني: النصب، والمد.
وقرأ يحيى: برفعه ممدوداً على البدل من محل «نِعْمَةٍ» ؛ لأن محلها الرفع، إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و «من» مزيدة في الوجهين، والبدل لغة تميم؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل، وأنشد الزمخشري بالوجهين: النصب؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم: [البسيط]
377
٥٢٣٠ - أضْحَتْ خَلاَءً قِفَاراً لا أنِيَ بِهَا إلاَّ الجَآذِرَ والظُّلْمَانَ تَخَتَلِفُ
وقول القائل في الرفع: [الرجز]
٥٢٣١ - وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيسُ إلاَّ اليَعافِيرُ وإلاَّ العيسُ
وفي التنزيل: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦].
وقال مكي: «وأجاز الفَرَّاءُ الرفع في» ابتغاء «على البدل في موضع» نعمة «، وهو بعيد».
قال شهاب الدين: «كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد، فإنها لغة فاشية».
وقرأ ابن أبي عبلة: «ابتغا» بالقصر.

فصل في سبب نزول الآية


روى عطاء، والضحاك عن ابن عباس، قال: «عذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول: أحدٌ أحدٌ فمرَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» أحَدٌ، يعني اللهُ يُنْجِيْكَ بِهَا «، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» يا أبا بكرٍ إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في اللهِ «، فعرفَ أبو بكرٍ الذي يُرِيدُهُ رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانصرفَ إلى مَنْزلهِ، فأخذَ رَطْلاً مِنْ ذهبٍ ومضى به إلى أمية بن خلفٍ، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه، فأعتقه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا ليدٍ كانت له عنده»
، فنزلت ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ﴾، أي: عند أبي بكر «مِنْ نَعْمَةٍ» أي: مزية ومنّةٍ «تُجْزَى» بل ابتغى بما فعل وجه ربِّه الأعلى.
قال بعضهم: المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذا الإضمار، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله، والمراد من هذه المحبة ذاته، وكرامته. ذكره ابن الخطيب.
378
والأعلى من نعت الربِّ الذي استحق صفات العلو، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة].
قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يرضى﴾. هذا جواب قسم مضمر، والعامة: على «يَرضَى» مبنياً للفاعل وقرئ: ببنائه للمفعول، من أرضاه الله تعالى.
[وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه ﴿لَعَلَّكَ ترضى﴾ [طه: ١٣٠].
ومعنى الآية: سوف يعطيه الله تعالى في الجنَّة ما يرضى، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى، وليس يرضى الله عنه، قال: وهذا أعظم من الأول؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربِّه، والله أعلم.
روى الثعلبيُّ عن أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ ﴿والليل﴾ أعْطَاهُ اللهُ حتَّى يَرْضَى، وعافاهُ اللهُ تعالى من العُسْرِ، ويسَّر لهُ اليُسْرَ».
قال الثعلبي: وإذا ثبت نزولها ب «مكة» ضعف تأويلها بقصة أبي الدحداح، وقوي تأويلها بنزولها في حق أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأنه كان ب «مكة»، وإنفاقه ب «مكة» وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رحم اللهُ أبا بَكْرٍ، زوَّجنِي ابنَتُه، وحَملنِي إلى دَارِ الهِجْرَةِ، وأعْتَقَ بلالاً مِنْ مَالهِ» والله أعلم.
379
سورة الضحى
380
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى ﴾، أي : لنا كل ما في الدنيا، والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد، ونكون نحن نملك الدارين، فليطلب منا سعادة الدارين ؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة ﴾ [ النساء : ١٣٤ ] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق١.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥٨)..
قوله :﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى ﴾. قد تقدم في «البقرة » : أن البزي يشدد١ مثل هذه التاء، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما، وهو نظير قوله تعالى :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ﴾ [ النور : ١٥ ] وقد تقدم.
وقال أبو البقاء٢ : يقرأ بكسر التنوين، وتشديد التاء، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ] انتهى. وهذه قراءة غريبة، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه، أي الذي قاله في «البقرة »، ولا يفيد هنا شيئاً ألبتة فإنه قال هناك :«ويقرأ بتشديد التاء، وقبله ألف، وهو جمع بين ساكنين، وإنما سوغ ذلك المد الذي في الألف.
وقال ابنُ الزبير، وسفيان٣، وزيد بن علي، وطلحة، «تَتَلظَّى » بتاءين وهو الأصل.
قال القرطبي٤ :«وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر ».

فصل في معنى الآية


المعنى : خوفتكم، وحذرتكم ناراً تلظى، أي : تلهّب، وتوقّد، وتوهّج، يقال : تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم : لظى.
١ ينظر: السبعة ٦٩٠، والحجة ٦/٤٢١، وإعراب القراءات ٢/٤٩٣، والمحرر الوجيز ٥/٤٩٢، والبحر المحيط ٨/٤٧٨، والدر المصون ٦/٥٣٥..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٢٨٨..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٩٢، والبحر المحيط ٨/٤٧٨، والدر المصون ٦/٥٣٥..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٥٩..
قوله تعالى :﴿ لاَ يَصْلاَهَآ ﴾، أي : لا يجد صلاها، وهو حرها ﴿ إِلاَّ الأشقى ﴾، أي : الشقي.
قيل : الأشقى، والأتقى، بمعنى الشقي والتقي، ولا تفضيل فيهما، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء، وتجنبها ليس مختصاً بالأكثر تقوى.
وقيل : بل هما على بابهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ، فإنه قال١ : فإن قلت : كيف قال :﴿ لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى ﴾ ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ﴾، وقد علم أن كلَّ شقي يصلاها، وكل تقي يجنبها، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكَّر النار، فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ﴾ فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة.
قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ؛ فقيل : الأشقى، وجعل : مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل : الأتقى، وجعل مختصاً بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل : هما أبو جهل وأمية بن خلف وأبو بكر - رضي الله عنه.
قال : جوابه المراد بهما شخصان معينان. انتهى.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٦٣، ٧٦٤..

فصل


قال المفسرون : المراد بالأشقى، والشقي : الذي «كذَّب » نبي الله صلى الله عليه وسلم «وتولَّى » أعرض عن الإيمان.
وقال الفرَّاء : معناه إلاَّ مَنْ كان شقياً في علمِ الله تعالى.
قال بعضهم :«الأشقَى » بمعنى الشقي ؛ كقوله :[ الطويل ]
٥٢٢٩-. . . *** لَسْتُ فِيهَا بأوْحَدِ١
«بأوحد »، أي : بواحد، ووحيد، ويوضع «أفعل » موضع «فعيل » نحو قولهم :«اللهُ أكْبَرُ » بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين، قالت المرجئة : الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر.
والجواب : المعارضة بآيات الوعيد.
وأيضاً : فهذا إغراء بالمعاصي، وأيضاً، فقوله تعالى بعده :﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ﴾ يدل على ترك هذه الظاهرة ؛ لأن الفاسق ليس «بأتقى » فالمراد بقوله تعالى :﴿ نَاراً تلظى ﴾ أنها مخصوصة من بين النيران ؛ لأن النار دركات، ولا يلزم من هذا أنَّ الفاسق لا يدخل النَّار أصلاً، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق.
وأجاب الواحديُّ : بأن معنى «لا يَصْلاَهَا » : لا يلزمها، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر.
١ عجز بيت لطرفة بن العبد وتمامه:
تمنى رجال أن أموات وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
ينظر القرطبي ٢٠/٥٩..

قوله :﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ﴾، أي : يبعد عنها الأتقى، أي : التقي الخائف.
قال ابن عباس : وهو أبو بكر - رضي الله عنه١ -.
١ ذكر ه السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٠٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس..
ثم وصف الأتقى، فقال سبحانه :﴿ الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى ﴾ أي : يطلب أن يكون عند الله زاكياً، ولا يطلب بذلك رياء، ولا سمعةً بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله.
قوله :«يَتَزكَّى ». قرأ العامة :«يتزكّى » مضارع «تَزَكَّى ».
والحسن١ بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - :«يزكَّى » بإدغام الياء في الزاي، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في موضع الحال من فاعل «يُؤتِي »، أي : يؤتيه متزكياً به.
والثاني : أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة «الَّذي »، ذكرهما الزمخشري٢.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٧٩، والدر المصون ٦/٥٣٦..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٦٤..
قوله تعالى :﴿ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى ﴾، أي : ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى، أي : المتعالي، و«تجزى » صفة ل «نِعْمَة »، أي : يجزى الإنسان، وإنَّما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعول، لأجل الفواصل ؛ إذ الأصل : يجزيها إياه أو يجزيه إياها.
قوله :﴿ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ ﴾. في نصب «إلاَّ ابتِغَاءَ » وجهان :
أحدهما : أنه مفعول له قال الزمخشري١ :«ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ؛ لأن المعنى : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة ». وهذا أخذه من قول الفراء، فإنه قال : ونصب على تأويل : ما أعطيتك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله تعالى.
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندرج تحت جنس «مِنْ نِعْمَةٍ » وهذه قراءة العامة، أعني : النصب، والمد.
وقرأ يحيى٢ : برفعه ممدوداً على البدل من محل «نِعْمَةٍ » ؛ لأن محلها الرفع، إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و «من » مزيدة في الوجهين، والبدل لغة تميم ؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل، وأنشد الزمخشري٣ بالوجهين : النصب ؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم :[ البسيط ]
٥٢٣٠- أضْحَتْ خَلاَءً قِفَاراً لا أنِيَ بِهَا إلاَّ الجَآذِرَ والظُّلْمَانَ تَخَتَلِفُ٤
وقول القائل في الرفع :[ الرجز ]
٥٢٣١- وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيسُ إلاَّ اليَعافِيرُ وإلاَّ العيسُ٥
وفي التنزيل :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ].
وقال مكي :«وأجاز الفَرَّاءُ الرفع في «ابتغاء » على البدل في موضع «نعمة »، وهو بعيد ».
قال شهاب الدين٦ :«كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد، فإنها لغة فاشية ».
وقرأ ابن أبي٧ عبلة :«ابتغا » بالقصر.

فصل في سبب نزول الآية


روى عطاء، والضحاك عن ابن عباس، قال : عذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول : أحدٌ أحدٌ فمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال :«أحَدٌ، يعني اللهُ يُنْجِيْكَ بِهَا »، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ - رضي الله عنه - :«يا أبا بكرٍ إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في الله »ِ، فعرفَ أبو بكرٍ الذي يُرِيدُهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فانصرفَ إلى مَنْزلهِ، فأخذَ رَطْلاً مِنْ ذهبٍ ومضى به إلى أمية بن خلفٍ، فقال له : أتبيعني بلالاً ؟ قال : نعم، فاشتراه، فأعتقه أبو بكر - رضي الله عنه - لا ليدٍ كانت له عنده، فنزلت ﴿ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ ﴾، أي : عند أبي بكر «مِنْ نَعْمَةٍ » أي : مزية ومنّةٍ «تُجْزَى » بل ابتغى بما فعل وجه ربِّه الأعلى٨.
قال بعضهم : المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال، وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذا الإضمار، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله، والمراد من هذه المحبة ذاته، وكرامته. ذكره ابن الخطيب٩.
والأعلى من نعت الربِّ الذي استحق صفات العلو، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة ]١٠.
١ السابق ٤/٧٦٥..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٧٩، والدر المصون ٦/٥٣٦..
٣ الكشاف ٤/٧٦٤..
٤ ينظر الكشاف ٤/٧٦٤، والقرطبي ٢٠/٦٠، والبحر ٨/٤٧٩ والدر المصون ٦/٥٣٦..
٥ البيت لجران العود، واسمه عامر بن الحارث. ينظر الديوان ص ٥٣ والكتاب ١/٤٥٣، ٢/٣٢٢، و المقتضب ٢/٦١٩، ٣٤٦، ٤١٤، وابن يعيش ٢/٨٠، ١١٧، ٧/٥٢، والأشموني ٢/١٤٧، والتصريح ١/٣٥٣، والهمع ١/٢٢٥، ٢/١٤٤ والدرر اللوامع ١/١٩٢، ٢/٢٠٢، والعيني ٢/١٠٧، ومعاني القرآن للفراء ٣/٢٧٣ والكشاف ٤/٧٦٤، والبحر ٨/٤٧٩، والقرطبي ٢٠/٦٠، والدرر المصون ٦/٥٣٦..
٦ الدر المصون ٦/٥٣٦..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٧٩، والدر المصون ٦/٥٣٦..
٨ ينظر تفسير البغوي ٨/٤٧٩، والدر المصون ٦/٥٣٦..
٩ ينظر : الفخر الرازي ٣١/١٨٧..
١٠ سقط من ب..
قوله :﴿ وَلَسَوْفَ يرضى ﴾. هذا جواب قسم مضمر، والعامة : على «يَرضَى » مبنياً للفاعل وقرئ١ : ببنائه للمفعول، من أرضاه الله تعالى.
[ وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه ﴿ لَعَلَّكَ ترضى ﴾٢ [ طه : ١٣٠ ].
ومعنى الآية : سوف يعطيه الله تعالى في الجنَّة ما يرضى، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق.
قال ابن الخطيب٣ : وعندي فيه وجه آخر، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى، وليس يرضى الله عنه، قال : وهذا أعظم من الأول ؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربِّه، والله أعلم.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٩٢، والبحر المحيط ٨/٤٧٩، والدر المصون ٦/٥٣٦..
٢ سقط من ب..
٣ الفخر الرازي ٣١/١٨٧..
Icon