ﰡ
البراءة من الشرك
حسم الإسلام بآيات القرآن العظيم قضية الإيمان والشرك، بعد أن أوضح الله تعالى الأدلة الدالة على صحة الاعتقاد، من توحيد الله تعالى، والتصديق بأنبيائه ورسله، وبكتبه وملائكته واليوم الآخر، فلم يبق بعدئذ مجال للوثنية أو الشرك، وجاءت سورة «الكافرون» المكية بالإجماع مبرئة من الشرك والنفاق، ومن عمل المشركين، وآمرة بإخلاص العبادة لله تعالى، فقال الله سبحانه:
[سورة الكافرون (١٠٩) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤)وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
[الكافرون: ١٠٩/ ١- ٦].
سبب نزولها: ما
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) إلى آخر السورة، وأنزل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) [الزمر: ٣٩/ ٦٤].
قل أيها الرسول لقومك القرشيين: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض، والبدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبي، وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا من عند نفسه.
لن أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
لا أعبد أنا عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، لأن عبادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين برسالته خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن الله الإله المعبود بحق. وهم يعبدون الله بما شرعه.
والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
قيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
والقرار الفصل والقول الحسم الذي يجعل الاستقلال لكل فئة أو جماعة بدينها:
هو أن لكم إشراككم أو كفركم، ولي ديني ومذهبي وهو التوحيد والإخلاص لله أو
وليست هذه السورة على التحقيق منسوخة بآية القتال: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: ٩/ ٣٦] فإن المحققين من العلماء قالوا: لا نسخ لهذه السورة، بل المراد التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤١/ ٤٠].
ونظير هذه الآية كثير في القرآن، منها قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: ١٠/ ١٤].
وهذا الفصل بين أتباع الأديان يريح كل فريق، ويجعل كل إنسان مسئولا عما يحب ويختار، ويعتقد ويعمل، إذ لا إكراه في الدين، والدين يقوم على أساس القناعة والحرية والاختيار، وهذا أساس توجيه المسؤولية لكل إنسان عما عمل، وسيرى كل واحد عاقبة فعله واعتقاده وقوله. وإذا لم يجد الإقناع وإعمال العقل الحر الطليق من غير تعصب ولا أحقاد ولا موروثات، فإن كل إنسان مطالب بترك غيره فيما اختاره أو اعتقده.
التسبيح والتحميد والاستغفار عند الفتوحات
يتميز الإسلام الحنيف، بالربط بين الدنيا والآخرة، وبين الله وعبده، وبين النصر والعزة والفتوح، واللجوء إلى الله فبل وعقب ذلك، حتى لا يترك الإنسان وأهواءه وشهواته، ويظل معتدل المزاج لا يبطر ولا يغتر ولا يفجر، وهذا ما نجده واضحا من توجيه الله تعالى نبيه وأمره له بعد الفتوح التي فتحت عليه، مكة وغيرها، بأن يسبّح ربه ويحمده ويستغفره، في سورة النصر المدنية إجماعا، حيث سئل ابن عباس عن مدلولها، فقال: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعلمه الله تعالى بقربه إذا رأى هذه الأشياء، فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما ذكرت «١». وهذا الاتجاه الذي ذكر ابن عباس في تفسير هذه السورة هو ما ذكره ابن مسعود وأصحابه، وقتادة، والضحاك.
وروت معناه عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لما فتحت مكة، وأسلم العرب، جعل يكثر أن يقول: «سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك» يتأول القرآن في هذه السورة «٢». وقال لها مرة: «ما أراه إلا حضور أجلي».
هذه السورة هي سورة النصر:
(٢) أخرجه عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها.