تفسير سورة النّور

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة النور من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنيَّةٌ، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفاً، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستّون آية
أخبرنا ( أبو الحسين ) الخبازي قال : حدَّثنا ابن حبان قال : أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال : حدَّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدَّثنا يوسف بن عطيّة قال : حدَّثنا هارون بن كثير قال : حدَّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة النور أُعطي من الأَجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي ).
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال : حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال : حدَّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال : حدَّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال : حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشه خ وعن أبيها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تنزلوا النساء الغُرف، ولا تعلّموهن الكتابة، وعلّموهن المغزل، وسورة النور ).

أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قرأ حمزة والكسائي: إنهم بكسر الألف على الاستيناف، والباقون:
بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون، ويحتمل أن يكون نصبا بوقوع الجزاء عليه إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ الفوز بالجنة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٩]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ نسوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم.
قرأ حمزة والكسائي: قل كم، على الأمر، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف، ومعنى الآية: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوما معناه، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر.
وقرأ الباقون: قالَ في الحرفين، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى، وقرأ ابن كثير: قل كم، على الأمر، وقال: إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب.
وقوله فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي الحسّاب عن قتادة، وقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم.
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قدر لبثكم فيها أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لعبا وباطلا لا لحكمة، والعبث: العمل لا لغرض، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب، مجازه: عابثين، أبو عبيد: على المصدر، بعض نحاة الكوفة: على الظرف أي بالعبث، بعض نحاة البصرة: للعبث. وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ.
قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خلق امرؤ عبثا فيلهو ولا أهمل سدى فيلغو» «١» [١٧].
وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو بكر «٢» محمد بن محمد بن نصر
(١) إعجاز القرآن- الباقلّاني-: ١٤٦. [.....]
(٢) في النسخة الثانية بن القاسم بن أحمد عن.
59
قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا ابن «١» شعيب الحرّاني قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال: سمعت الأوزاعي يقول: بلغني أنّ في السماء ملكا ينادي كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم إذ خلقوا عرفوا ما خلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملوا.

فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق


قال المحقّقون: خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى.
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال:
حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا ابن عليّة عن منصور بن عبد الرّحمن قال: قلت للحسن البصري في قوله سبحانه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ «٢».
قال: الناس مختلفون على أديان شتّى إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، ومَنْ رَحِمَ رَبُّكَ غير مختلف.
فقيل له: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ؟.
قال: نعم، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه.
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد بن خالد «٣» البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال: سئل جعفر بن محمد: لم خلق الله الخلق؟
قال: لأنّ الله سبحانه كان محسنا بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيّا عنهم، لم يخلقهم لجرّ منفعة، ولا لدفع مضرّة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأه بالجنة، ومن عصى كافأه بالنار.
وقال محمد بن علي الترمذي: إنّ الله سبحانه خلق الخلق عبيدا ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام، وغدا أحرار وملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أبّاق سفلة لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران.
(١) في النسخة الثانية: أبو.
(٢) سورة هود: ١١٨- ١١٩.
(٣) في النسخة الثانية: وأخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه عن أبي محمد بن خالد.
60
ومنهم من قال: خلق الله سبحانه الخلق كلّهم لأجل محمد صلى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه ما حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا هارون بن العباس الهاشمي قال: حدّثنا محمد بن ياسين بن شريك قال: حدّثنا جندل قال:
حدّثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن ابن عباس قال: «أوحى الله سبحانه إلى عيسى (عليه السلام) : يا عيسى آمن بمحمد ومر أمّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسكن».
وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال: سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول: سمعت القنّاد «١» يقول: خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة، وخلق الأشياء للعبرة «٢»، وخلقك للمحبة له، ومن العلماء من لم يصرّح القول بذلك ولكنه قال: نبّه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنّه خلقهم لخطر عظيم مغيّب عنهم لا يجلّيه حتى يحلّ بهم ما خلقهم له، وهذا معنى قوله سبحانه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدّثنا داود بن رشيد، وأخبرني محمد بن القاسم قال:
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس «٣» قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا هشام ابن عمار قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش «٤» ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنّه مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حتى ختم السورة فبرئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره فقال: «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» «٥» [١٨].
ثمّ نزّه نفسه سبحانه عمّا وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عزّ من قائل فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ يعني الحسن العظيم وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ قال أهل المعاني: فيه إضمار، مجازه: فلا برهان له به فَإِنَّما حِسابُهُ جزاؤه عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
(١) في النسخة الثانية (أصفهان) : العبّاد.
(٢) في النسخة الثانية: للغرّة.
(٣) في النسخة الثانية: قريش.
(٤) في النسخة الثانية: جيش.
(٥) تفسير القرطبي: ١٢/ ١٥٧.
61
سورة النور
مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستّون آية
أخبرنا [أبو الحسين] الخبازي قال: حدّثنا ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطيّة قال: حدّثنا هارون بن كثير قال:
حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي» «١» [١٩].
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال: حدّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال:
حدّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال: حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلّموهن الكتابة، وعلّموهن المغزل، وسورة النور» «٢».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
(١) تفسير مجمع البيان: ٧/ ٢١٦.
(٢) زاد المسير لابن الجوزي: ٥/ ٣٣٩.
62
سُورَةٌ أَنْزَلْناها قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سُورَةٌ ابتداء وخبره في أَنْزَلْناها، وقرأ طلحة بن مصرف «١» : سُورَةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتّبعوا سورة أنزلناها وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «٢».
وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حرّين بالغين بكرين غير محصنين فَاجْلِدُوا فاضربوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة ورقّة.
قال الأخفش: رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات: رَأْفَةٌ ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورَأَفَةٌ بفتح الهمزة، ورَآفَةٌ مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة «٣»، وقيل: القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلة، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات.
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها.
روى المعمّر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدلّ عليه من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلّا ينكأ «٤» ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم.
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها، قلت: فأين قول الله سبحانه وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟
(١) في النسخة الثانية: مضرف
(٢) القصص: ٨٥.
(٣) في النسخة الثانية: النشأة والنشآة. [.....]
(٤) في النسخة الثانية: يشدخ.
63
قال: أفأقتلها؟ إنّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها.
وقال الآخرون: بل معناها وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربا، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب.
وقال قتادة: يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا.
وقال حمّاد: يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية.
فِي دِينِ اللَّهِ أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «١».
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما وليحضر حدّيهما إذا أقيم عليهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقلّه رجل واحد فما فوقه، واحتجّا بقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «٢» الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعدا، الزهري: ثلاثة فصاعدا، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين.
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوبا وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربا غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش «٣» المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدّثنا إبراهيم بن نصره قال: حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال:
إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال:
أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة،
(١) سورة يوسف: ٧٦.
(٢) سورة الحجرات: ٩.
(٣) في النسخة الثانية: حبش وهو الموافق لكتب الرجال.
64
فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب «١» والخلود في النار» «٢».
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا عطية بن بقية قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ أعمال أمتي تعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة «٣».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا إبراهيم بن يزيد «٤» الحرّاني قال: حدّثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية.
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها
فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فنزلت هذه الآية وحرّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك
، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «٥» وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «٦» يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها: أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عليط جارية صفوان بن أميّة، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل،
(١) في النسخة الثانية زيادة: محمد بن الفضل بن محمد.
(٢) كنز العمّال: ٥/ ٣١٩.
(٣) تفسير القرطبي: ١٢/ ١٦٧.
(٤) في النسخة الثانية: وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي علي بن حبيش المقري عن محمد بن أحمد بن هارون بسرّ من رأى، قال أبو بكر محمد بن يعقوب الدينوري، حدثني إبراهيم بن زيد.
(٥) سورة آل عمران: ٩٧.
(٦) العنكبوت: ٤٥.
65
ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلّا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلّم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمه عليهم.
وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديدا وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلمّا أتى مكة دعته عناق الى نفسها فقال مرثد: إنّ الله حرّم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة.
وقال آخرون: أراد بالنكاح هاهنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلّا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرّحمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال:
حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني محمد بن عمران قال: حدّثنا سعيد بن عبد الرّحمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، فكنّى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حبش قال: حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان.
وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «١» فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال: يزعمون أن تلك الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً نسخت بالآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامى المسلمين.
(١) سورة النور: ٣٢.
66
وقال الحسن: معناها المجلود لا ينكح إلّا مجلودة.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يشتمون المسلمات «١» الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رموهن به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
ثمّ استثنى فقال عزّ من قائل إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم: هو استثناء من قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وقالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حد فيه أو لم يحدّ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي.
واختلفوا في كيفيّة توبته، فقال بعضهم: هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه، وقال آخرون: هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي، فإذا أقيم عليه الحدّ أو عفا المقذوف عنه سقط الحد، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يحدّ لأجل هذه، أو حدّ ثم تاب وأصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدّهم ثمّ قال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته.
وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
وقال آخرون: هذا الاستثناء راجع الى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فأمّا قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
روى الأشعث عن الشعبي قال: جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع؟ فقال شريح: كلّ صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلّا القاذف، فإنّه قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا وإنّما توبته فيما بينه وبين الله.
(١) في النسخة الثانية زيادة: وقال الحسن: معنى.
67
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي يقذفونهنّ بالزنا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون على صحة ما قالوا.
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات.
وَالْخامِسَةُ يعني والشهادة الخامسة، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن.
وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة.
وقرأ نافع ويعقوب وأيوب: إن وأن خفيفتين، لعنةُ وغضبُ مرفوعين، وهي رواية المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون: بتشديد النونين وما بعدهما نصب.
إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ويدفع عن الزوجة الحد.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ يعني الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ.
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ قرأ نافع: غَضَبَ اللَّهُ مثل سمع الله على الفعل، الباقون على الإسم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة.
فأما سبب نزول الآية،
فروى عكرمة عن ابن عباس قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الآية، قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركّه حتى آتي بأربعة شهداء! فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، فإن قلت ما رأيت، إنّ في ظهري لثمانين جلدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «١» :«يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ قالوا:
لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلّا بكرا ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها.
فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإنّ الله يأبى إلّا ذاك»، فقال:
صدق الله ورسوله.
قال: فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أميّة من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح، فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالس مع
(١) مسند أحمد: ١/ ٢٣٨.
68
أصحابه فقال: يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أتاه به وثقل عليه جدّا حتى عرف ذلك في وجهه.
فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق وما قلت إلّا حقّا وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضربه.
قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنّ الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ إلى آخر الآيات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجا»، فقال: قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أرسلوا إليها»، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل لها، فكذّبت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟».
فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقت وما قلت إلّا حقّا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لاعنوا بينهما»، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتّق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة «١»، فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
ثم قال للمرأة: اشهدي فشهدت «٢» الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن جاءت به كذا وكذا] فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا] فهو للذي قيل فيه» [٢٠] «٣».
(١) في النسخة الثانية زيادة: وأن عذاب الله أشد من عذاب الناس، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب. [.....]
(٢) في النسخة الثانية زيادة: أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، فقال لها عند الخامسة ووفقها: اتقي الله فإن في الخامسة موجبة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكّأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت:
والله لا أفضح قومي فشهدت.
(٣) تفسير الطبري: ١٨/ ١٠٨ وما بين معكوفين منه وهو موافق لما في النسخة الثانية (أصفهان).
69
قال: فجاءت به غلاما كأنه حمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه.
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الآية، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كفى بالسيف شا... ، قال: أراد أن يقول شاهدا ثمّ أمسك وقال: لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران، وذكر الحديث «١».
وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقا ولا تقبل شهادته أبدا، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرّ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة شريك كلّهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهم جميعا فقال لعويمر: «اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وانها حبلى من غيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمرأة: «اتقي الله ولا تخبري إلّا بما صنعت»
، فقالت: يا رسول الله إنّ عويمرا رجل غيور، وإنه رآني وشريكا نطيل السمر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لشريك: «ما تقول» ؟ قال: ما تقوله المرأة، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نودي: الصلاة جامعة، فصلّى العصر ثمّ قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين، ثمّ قال في الرابعة: أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمّ قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر- يعني نفسه- إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما قال.
(١) المصنّف: ٩/ ٤٣٤.
70
ثمّ أمره بالقعود وقال لخولة: قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمرا لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الخامسة: غَضَبَ اللَّهِ على خولة- تعني نفسها- إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقال: «لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي، ثمّ قال: تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» [٢١].
قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك «١».
ذكر حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان، فإن التعنت وإلّا لزمها الحدّ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، فكلّ من صحّت يمينه صحّ قذفه ولعانه.
وقال أهل العراق: اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلّا عند الحاكم أو خليفته، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ، والمكان، والوقت، وجمع الناس.
فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة، وقد مضت كيفية ذلك، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
وأما الوقت، فإنّه بعد صلاة العصر. وأمّا العدد، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والمكان والزمان مستحبّان، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان
(١) سنن ابن ماجة بتفاوت: ١/ ٦٦٨، ح/ ٢٠٦٧.
71
سورة النور
مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستّون آية
أخبرنا [أبو الحسين] الخبازي قال: حدّثنا ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطيّة قال: حدّثنا هارون بن كثير قال:
حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي» «١» [١٩].
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال: حدّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال:
حدّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال: حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلّموهن الكتابة، وعلّموهن المغزل، وسورة النور» «٢».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
(١) تفسير مجمع البيان: ٧/ ٢١٦.
(٢) زاد المسير لابن الجوزي: ٥/ ٣٣٩.
62
سُورَةٌ أَنْزَلْناها قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سُورَةٌ ابتداء وخبره في أَنْزَلْناها، وقرأ طلحة بن مصرف «١» : سُورَةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتّبعوا سورة أنزلناها وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «٢».
وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حرّين بالغين بكرين غير محصنين فَاجْلِدُوا فاضربوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة ورقّة.
قال الأخفش: رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات: رَأْفَةٌ ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورَأَفَةٌ بفتح الهمزة، ورَآفَةٌ مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة «٣»، وقيل: القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلة، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات.
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها.
روى المعمّر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدلّ عليه من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلّا ينكأ «٤» ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم.
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها، قلت: فأين قول الله سبحانه وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟
(١) في النسخة الثانية: مضرف
(٢) القصص: ٨٥.
(٣) في النسخة الثانية: النشأة والنشآة. [.....]
(٤) في النسخة الثانية: يشدخ.
63
قال: أفأقتلها؟ إنّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها.
وقال الآخرون: بل معناها وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربا، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب.
وقال قتادة: يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا.
وقال حمّاد: يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية.
فِي دِينِ اللَّهِ أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «١».
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما وليحضر حدّيهما إذا أقيم عليهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقلّه رجل واحد فما فوقه، واحتجّا بقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «٢» الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعدا، الزهري: ثلاثة فصاعدا، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين.
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوبا وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربا غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش «٣» المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدّثنا إبراهيم بن نصره قال: حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال:
إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال:
أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة،
(١) سورة يوسف: ٧٦.
(٢) سورة الحجرات: ٩.
(٣) في النسخة الثانية: حبش وهو الموافق لكتب الرجال.
64
فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب «١» والخلود في النار» «٢».
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا عطية بن بقية قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ أعمال أمتي تعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة «٣».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا إبراهيم بن يزيد «٤» الحرّاني قال: حدّثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية.
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها
فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فنزلت هذه الآية وحرّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك
، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «٥» وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «٦» يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها: أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عليط جارية صفوان بن أميّة، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل،
(١) في النسخة الثانية زيادة: محمد بن الفضل بن محمد.
(٢) كنز العمّال: ٥/ ٣١٩.
(٣) تفسير القرطبي: ١٢/ ١٦٧.
(٤) في النسخة الثانية: وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي علي بن حبيش المقري عن محمد بن أحمد بن هارون بسرّ من رأى، قال أبو بكر محمد بن يعقوب الدينوري، حدثني إبراهيم بن زيد.
(٥) سورة آل عمران: ٩٧.
(٦) العنكبوت: ٤٥.
65
ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلّا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلّم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمه عليهم.
وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديدا وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلمّا أتى مكة دعته عناق الى نفسها فقال مرثد: إنّ الله حرّم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة.
وقال آخرون: أراد بالنكاح هاهنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلّا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرّحمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال:
حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني محمد بن عمران قال: حدّثنا سعيد بن عبد الرّحمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، فكنّى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حبش قال: حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان.
وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «١» فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال: يزعمون أن تلك الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً نسخت بالآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامى المسلمين.
(١) سورة النور: ٣٢.
66
وقال الحسن: معناها المجلود لا ينكح إلّا مجلودة.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يشتمون المسلمات «١» الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رموهن به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
ثمّ استثنى فقال عزّ من قائل إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم: هو استثناء من قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وقالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حد فيه أو لم يحدّ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي.
واختلفوا في كيفيّة توبته، فقال بعضهم: هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه، وقال آخرون: هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي، فإذا أقيم عليه الحدّ أو عفا المقذوف عنه سقط الحد، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يحدّ لأجل هذه، أو حدّ ثم تاب وأصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدّهم ثمّ قال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته.
وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
وقال آخرون: هذا الاستثناء راجع الى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فأمّا قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
روى الأشعث عن الشعبي قال: جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع؟ فقال شريح: كلّ صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلّا القاذف، فإنّه قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا وإنّما توبته فيما بينه وبين الله.
(١) في النسخة الثانية زيادة: وقال الحسن: معنى.
67
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي يقذفونهنّ بالزنا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون على صحة ما قالوا.
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات.
وَالْخامِسَةُ يعني والشهادة الخامسة، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن.
وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة.
وقرأ نافع ويعقوب وأيوب: إن وأن خفيفتين، لعنةُ وغضبُ مرفوعين، وهي رواية المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون: بتشديد النونين وما بعدهما نصب.
إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ويدفع عن الزوجة الحد.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ يعني الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ.
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ قرأ نافع: غَضَبَ اللَّهُ مثل سمع الله على الفعل، الباقون على الإسم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة.
فأما سبب نزول الآية،
فروى عكرمة عن ابن عباس قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الآية، قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركّه حتى آتي بأربعة شهداء! فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، فإن قلت ما رأيت، إنّ في ظهري لثمانين جلدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «١» :«يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ قالوا:
لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلّا بكرا ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها.
فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإنّ الله يأبى إلّا ذاك»، فقال:
صدق الله ورسوله.
قال: فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أميّة من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح، فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالس مع
(١) مسند أحمد: ١/ ٢٣٨.
68
أصحابه فقال: يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أتاه به وثقل عليه جدّا حتى عرف ذلك في وجهه.
فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق وما قلت إلّا حقّا وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضربه.
قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنّ الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ إلى آخر الآيات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجا»، فقال: قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أرسلوا إليها»، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل لها، فكذّبت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟».
فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقت وما قلت إلّا حقّا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لاعنوا بينهما»، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتّق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة «١»، فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
ثم قال للمرأة: اشهدي فشهدت «٢» الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن جاءت به كذا وكذا] فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا] فهو للذي قيل فيه» [٢٠] «٣».
(١) في النسخة الثانية زيادة: وأن عذاب الله أشد من عذاب الناس، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب. [.....]
(٢) في النسخة الثانية زيادة: أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، فقال لها عند الخامسة ووفقها: اتقي الله فإن في الخامسة موجبة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكّأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت:
والله لا أفضح قومي فشهدت.
(٣) تفسير الطبري: ١٨/ ١٠٨ وما بين معكوفين منه وهو موافق لما في النسخة الثانية (أصفهان).
69
قال: فجاءت به غلاما كأنه حمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه.
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الآية، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كفى بالسيف شا... ، قال: أراد أن يقول شاهدا ثمّ أمسك وقال: لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران، وذكر الحديث «١».
وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقا ولا تقبل شهادته أبدا، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرّ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة شريك كلّهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهم جميعا فقال لعويمر: «اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وانها حبلى من غيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمرأة: «اتقي الله ولا تخبري إلّا بما صنعت»
، فقالت: يا رسول الله إنّ عويمرا رجل غيور، وإنه رآني وشريكا نطيل السمر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لشريك: «ما تقول» ؟ قال: ما تقوله المرأة، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نودي: الصلاة جامعة، فصلّى العصر ثمّ قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين، ثمّ قال في الرابعة: أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمّ قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر- يعني نفسه- إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما قال.
(١) المصنّف: ٩/ ٤٣٤.
70
ثمّ أمره بالقعود وقال لخولة: قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمرا لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الخامسة: غَضَبَ اللَّهِ على خولة- تعني نفسها- إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقال: «لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي، ثمّ قال: تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» [٢١].
قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك «١».
ذكر حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان، فإن التعنت وإلّا لزمها الحدّ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، فكلّ من صحّت يمينه صحّ قذفه ولعانه.
وقال أهل العراق: اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلّا عند الحاكم أو خليفته، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ، والمكان، والوقت، وجمع الناس.
فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة، وقد مضت كيفية ذلك، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
وأما الوقت، فإنّه بعد صلاة العصر. وأمّا العدد، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والمكان والزمان مستحبّان، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان
(١) سنن ابن ماجة بتفاوت: ١/ ٦٦٨، ح/ ٢٠٦٧.
71
أربعة أحكام: سقوط الحدّ، ونفي الولد، وزوال الفراش، ووقوع التحريم المؤبّد، وكلّ هذا يتعلّق بلعان الزوج، فأمّا لعان المرأة فإنه يسقط به الحدّ فقط، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا يعود ماله في الحدّ والنسب عليه فيعودان. وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة.
وقال أبو حنيفة وسفيان: اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءا، والله أعلم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآية.
ذكر سبب نزول هذه الآيات وقصة الإفك.
أخبرنا «١» أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق المهرجان بقراءتي عليه فأقرّ به قال: أخبرنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني قال:
قرأنا على عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرّأها الله وكلّهم، حدّثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى له من بعض، وقد وعيت عن كلّ واحد الحديث الذي حدّثني، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، ذكروا أنّ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم
(١) مسند أحمد: ٦/ ١٩٧.
72
وذلك بعد ما أنزل الله سبحانه الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل منه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت، وهم يحسبون أنّي فيه.
قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثمّ الذكواني قد عرّس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب عليّ الحجاب فما استيقظت إلّا باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، فو الله ما كلّمني كلمة عند استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطيت على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عبد الله بن أبي سلول فقدمت المدينة فاشتكيت من شدّة الحر «١» حين قدمتها شهرا والناس يخوضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيسلّم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو مبترزنا فلا نخرج إلّا ليلا الى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول التنزّه، وكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأمّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟.
قالت: قلت: وما ذي؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلمّا، رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّم ثمّ قال: «كيف تيكم؟» قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا أريد حينئذ أن أتيقّن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجئت أبويّ فقلت لأمّي: يا أمّه ماذا يتحدّث الناس؟.
(١) في النسخة الثانية زيادة: فقدمت المدينة فاشتكيت.
73
فقالت: أي بنيّة هوّني عليك، فو الله لقلّ ما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها، قلت: سبحان الله أوقد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: نعم، قالت:
فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثمّ أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم علىّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي واستشارهما في فراق أهله.
فأمّا أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلّا خيرا، وأمّا علىّ فقال: لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن «١» فيأكله.
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قال وهو على المنبر:
«يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» [٢٢].
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقال سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، فقال سعد: والله لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: فثار الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي.
قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّم ثمّ جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثمّ قال: أما بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك
(١) دواجن البيوت ما ألفها من الطير والشاة، ودجن في بيته إذا لزمه.
74
الله سبحانه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثمّ تاب تاب الله عليه.
قالت: فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي:
أجب عنّي رسول الله قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتّى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة «١» لتصدقونني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
قالت: ثمّ تحوّلت واضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئة وأن الله سبحانه مبرّئي ببراءتي ولكن، والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرّئني الله بها.
قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله سبحانه على نبيّه صلى الله عليه وسلّم، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنّه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أنزل عليه.
قالت: فلمّا سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يضحك، فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: «أبشري يا عائشة أما والله فقد برّاك» [٢٣] فقالت لي أمّي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلّا الله سبحانه هو الذي أنزل براءتي.
قالت: فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عشر آيات وأنزل الله سبحانه هذه الآية لبراءتي.
قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله سبحانه وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ «٢».
فقال أبو بكر رضى الله عنه: والله إني لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع الى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
(١) في نسخة أصفهان زيادة: لا فضل قوي بذلك ولئن اعترفت لكم بذنبي والله يعلم إني لبريئة.
(٢) النور: ٢٢.
75
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلّم: ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلّا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فعصمها الله سبحانه وتعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من هؤلاء الرهط.
وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ومحمد بن حرب المديني بالفسطاط قالا: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدّثني أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو أويس: وحدّثني أيضا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يسافر سفرا أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فخرج سهم عائشة في غزوة النبي صلى الله عليه وسلّم بني المصطلق من خزاعة، وذكر الحديث بطوله بمثل معناه.
وقال عروة في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة عن عائشة قال: فانتهرها بعض أصحابه وقال:
اصدقي رسول الله، قال عروة: فعيب ذلك على من قاله، فقالت: لا والله ما أعلم عليها إلّا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله، فعجب الناس من فقهها.
قال: وبلغ ذلك الذي قيل له فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كتف أنثى قط، فقتل شهيدا في سبيل الله، وزاد في آخره قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسّان بن ثابت فضربه ضربة بالسيف وقال حين ضربه:
تلقّ ذباب السيف عنّي فإنّني غلام إذا هوجيت لست بشاعر «١»
ولكنني أحمي حماي وانتقم من الباهت الرامي البراء الظواهر «٢»
وصاح حسان بن ثابت واستغاث بالناس على صفوان، ففرّ صفوان وجاء حسّان النبي صلى الله عليه وسلّم فاستعدى على صفوان في ضربته إياه فسأله النبي صلى الله عليه وسلّم أن يهب له ضرب صفوان إياه فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلّم فعوّضه منها حائطا من نخل عظيم وجارية روميّة، ثمّ باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم. قالت عائشة: فقيل في أصحاب الإفك أشعار.
قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه لمسطح في رميه عائشة رضى الله عنها وكان يدعى عوفا:
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ١٩٩، وتاريخ مدينة دمشق: ٤/ ٣٠٨. وفيه: ليس بشاعر.
(٢) تاريخ مدينة دمشق: ٤/ ٣٠٨. والعبارة: واتقي.
76
يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة من الكلام ولم تبغ به طمعا
فأدركتك حميا معشر أنف ولم يكن قاطعا في عوف قطعا
لما رميت حصانا غير مقرفة أمينة الجيب لم نعرف لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشرا إفكا في سيّئ القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله عذرا في براءتها وبين عوف وبين الله ما صنعا «١»
فان أعش أجز عوفا في مقالته شرّ الجزاء بما ألفيته تبعا
وقال حسّان بن ثابت الأنصاري ثم النجاري وهو يبرّئ عائشة ممّا قيل فيها ويعتذر إليها:
حصان رزان ما يزن برتبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زايل
مهذبة قد طيّب الله خيمها وطهّرها من كل شين وباطل
فان كان ما قد جاء عنّي قلته فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وإنّ الذي قد قيل ليس بلائط بك الدهر بل قول إمرئ غير ماحل
وكيف وودّي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول «٢»
قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا ثمانين، فقال حسّان بن ثابت:
لقد دان عبد الله ما كان أهله وحمته إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم القول زوج نبيّهم وسخطة ذا الرب الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فعمموا مخازي ذلّ جلّلوها وفضحوا «٣»
فهذا سبب نزول الآية وقصّتها. فأمّا التفسير فقوله عزّ وجل إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ بالكذب عُصْبَةٌ جماعة مِنْكُمْ.
قال الفرّاء: العصبة، الجماعة من الواحد إلى الأربعين.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ يا عائشة وصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنّ الله يأجركم على ذلك
(١) مجمع الزوائد- الهيثمي.: ٩/ ٢٣٥.
(٢) لسان العرب: ١٣/ ١٢٠.
(٣) وما بعدها: المعجم الكبير- الطبراني: ٢٣/ ١١٧. وحمنه. [.....]
77
ويظهر براءتكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني من الذين جاءوا بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ والذي تحمّل معظمه فبدا بالخوض فيه، وقراءة العامة كِبْرَهُ:
بكسر الكاف، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف.
قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث: الولاء للكبر، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسبا.
وقال الكسائي: هما لغتان مثل صفر وصفر، واختلف المفسّرون في المعنيّ بقوله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ.
فقال قوم: هو حسّان بن ثابت.
روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسّان، وما تمثلت به إلّا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فانّ أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفؤ فشرّكما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدّره الدلاء «١»
فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله يقول وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ.
قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟ أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف.
وروى أبو الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسّان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة، فلمّا خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد قال ما قال، وأنزل الله سبحانه فيه وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ؟.
فقالت: وأىّ عذاب أشد من العمى، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، وقالت: انه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقال آخرون: بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه.
روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث الإفك: ثمّ ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملإ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس. فقال عبد الله بن
(١) جامع البيان للطبري: ١٨/ ١١٥.
78
أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة: قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثمّ جاء يقودها، وشرع في ذلك أيضا حسّان ومسطح وحمنة فهم الذين تولّوا كبره، ثمّ فشا ذلك في الناس.
لَوْلا هلّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ بإخوانهم خَيْراً.
قال الحسن: بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة، نظيره قوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» وقوله فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «٢».
قال بعض أهل المعاني: تقدير الآية هلّا ظننتم كما ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا.
وقيل: أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم، وقالوا: أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب.
روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أنّ أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أم أيّوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟
قال: بلى وذلك الكذب أكنت، فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، فأنزل الله سبحانه لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ الآيات، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا.
وقوله وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي كذب بيّن لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ خضتم فِيهِ من الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض، وقرأ [أبيّ وابن مسعود: إذ تتلقّونه بتاءين] «٣»، وقرأت عائشة «٤» : تَلِقُونَهُ بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب، والولق والألق والالق والليق الكذب.
قال الخليل: أصل الولق السرعة وأنشد:
جاءوا بأسراب من الشام ولق «٥»
(١) سورة النساء: ٢٩.
(٢) سورة النور: ٦١.
(٣) من التلقي.
(٤) هو في صحيح البخاري: ٥/ ٦١.
(٥) فتح القدير: ٤/ ١٣.
79
أي تسرع، يقال: ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه، فكان معنى قراءة عائشة: إذ تستمرّون في إفككم.
وقرأ محمد بن السميقع: إِذْ تُلْقُونَهُ من الإلقاء «١»، نظيره ودليله قوله سبحانه فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ «٢» الآية.
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وتظنّونه سهلا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ يحتمل التنزيه والتعجب.
هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا أي ينهاكم ويخوّفكم أن تعودوا وقيل: يَعِظُكُمُ اللَّهُ كيلا تعودوا لِمِثْلِهِ إلى مثله أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بأمر عائشة وصفوان حَكِيمٌ حكم ببراءتها.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ تظهر وتفشو وتذيع الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه المنافقين.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ كذبهم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى صلح وطهر من هذا الذنب، وقرأ ابن محيص ويعقوب: زكّى بالتشديد أي طهّر، دليلها قوله سبحانه وتعالى وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهّر مَنْ يَشاءُ من الإثم والذنب بالرحمة والمغفرة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(١) بضمّ التاء وسكون اللام وضمّ القاف عن تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٠٤.
(٢) سورة النحل: ٣٦.
80
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا على بن زنجويه قال: حدّثنا سعيد بن سيف التميمي قال: حدّثنا غالب بن تميم السعدي قال: حدّثنا خالد بن جميل عن موسى بن عقبة المديني عن أبي روح الكلبي عن حر بن نصير الحضرمي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظلّ سخط الله سبحانه حتى ينزع، وأيّما رجل حال في شفاعة دون حدّ من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد الله حقّا وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقّا على الله أن يذيبه في النار، وأصله في كتاب الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الآية «١».
وَلا يَأْتَلِ ولا يحلف، هذه قراءة العامة وهو يفتعل من الأليّة وهي القسم، وقال الأخفش: وإن شئت جعلته من قول العرب: ما ألوت جهدي في شأن فلان أي ما تركته، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو مخلد السدوسي وأبو جعفر وزيد بن أسلم (ولا يتأل) بتقديم التاء وتأخير الهمزة وهو يفتعل من الألية والألو.
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يعني أبا بكر الصدّيق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني مسطحا، وكان مسكينا مهاجرا بدريا، وكان ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا عنهم خوضهم في أمر عائشة.
وروت أسماء بنت يزيد أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء «٢».
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فلمّا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وقال ابن عباس والضحّاك: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألّا يتصدقوا على رجل تكلّم بشيء من الإفك ولا ينفعونهم فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ عن الفواحش وعما قذفن به كغفلة عائشة عمّا فيها الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا عذّبوا فِي الدُّنْيا بالجلد وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٠٦. بتفاوت.
(٢) تفسير مجمع البيان: ٧/ ٢٣٣. ولكن رواه عن علي (عليه السلام).
81
واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هي لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة دون سائر المؤمنات.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: حدّثنا هشام عن العوّام بن حوشب قال: حدّثنا شيخ من بني كاهل قال: فسّر ابن عباس سورة النور، فلمّا أتى على هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله سبحانه له توبة، ثمّ قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهّم رجل أن يقوم فيقبّل رأسه من حسن ما فسّره.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنزل الله له الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد، فكانت المرأة إذا خرجت الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت تفجر.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قرأه العامة بالتاء، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بالياء لتقدّم الفعل.
أَلْسِنَتُهُمْ وهذا قبل أن يختم على أفواههم، وقيل: معناه: يشهد ألسنة بعضهم على بعض وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ جزاءهم وحسابهم الْحَقَّ قرأه العامة بنصب القاف، وقرأ مجاهد الْحَقُّ بالرفع على نعت الله وتصديقه، قراءة أبي يوفهم الله الحق دينهم.
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يبيّن لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية. قال أكثر المفسّرين: الْخَبِيثاتُ من القول لِلْخَبِيثِينَ من الناس وَالْخَبِيثُونَ من الناس لِلْخَبِيثاتِ من القول وَالطَّيِّباتُ من القول لِلطَّيِّبِينَ من الناس وَالطَّيِّبُونَ من الناس لِلطَّيِّباتِ من القول.
وقال ابن زيد: الْخَبِيثاتُ من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال، وَالْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء، وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال لِلطَّيِّباتِ من النساء.
82
أُولئِكَ يعني عائشة وصفوان فذكرهما بلفظ الجمع كقوله فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «١» والمراد أخوان.
مُبَرَّؤُنَ منزّهون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن النعمان الجرجاني بها قال: أخبرنا محمد بن عبد الكريم الباهلي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال: حدّثنا بشر بن الوليد الكندي قال: حدّثنا أبو حفص عن سليمان الشيباني عن علي بن زيد بن جدعان عن جدّته عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيت امرأة، لقد نزل جبرئيل (عليه السلام) بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يتزوّجني، ولقد تزوّجني بكرا وما تزوّج بكرا غيري، ولقد توفّي وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّت الملائكة في بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنّي لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة وعند طيّب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسين ابن يحيويه قال: حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا: حدّثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا قيس عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار
(١) سورة النساء: ١١.
83
فقالت: يا رسول الله إنّي أكون في بيتي على حال لا أحبّ أن يراني عليها أحد والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنّه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها الآية.
وقال بعض المفسّرين: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال: إنّما هو حتى تستأذنوا ولكن اخطأ الكاتب، وكان أبيّ بن كعب وابن عباس والأعمش يقرءونها كذلك حتّى تستأذنوا، وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها: حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وهو أن يقول:
السلام عليكم أأدخل؟
روى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أنّ رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:
أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلّميه فإنّه لا يحسن يستأذن فقولي له: تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل «١».
وقال مجاهد والسدّي: هو التنحنح والتنخّم.
روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخزاز عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى الى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منها على أمر يكرهه.
عكرمة: هو التسبيح والتكبير ونحو ذلك.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا يا رسول الله ما الاستيناس الذي يريد الله سبحانه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قال: يتكلّم الرجل بالتكبيرة والتسبيحة والتحميدة، يتنحنح يؤذن أهل البيت «٢».
وقال الخليل: الاستيناس: الاستبصار من قوله آنَسْتُ ناراً «٣».
وقال أهل المعاني: الاستيناس: طلب الأنس وهو أن ينظر هل في البيت أحد يؤذنه أنه
(١) جامع البيان للطبري: ١٨/ ١٤٧.
(٢) المصنّف: ٦/ ١٣٢.
(٣) سورة طه: ١٠. [.....]
84
داخل عليهم، يقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا في الدار؟ أي انظر هل ترى فيها أحدا؟
ويروى أنّ أبا موسى الأشعري أتى منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟
فقال عمر: واحدة، فقال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: ثنتان، قال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ ومرّ، فوجّه عمر بن الخطاب رضى الله عنه خلفه من ردّه فسأله عن صنيعه فقال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «الاستيذان ثلاثة فإن أذنوا وإلّا فارجع» [٢٤].
فقال عمر: لتأتيني بالبيّنة أو لأعاقبنّك، فانطلق أبو موسى فأتاه بمن سمع ذلك معه «١».
وعن عطاء بن يسار أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أستأذن على امّي؟ قال: «نعم»، قال: «إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن كلّما دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة» ؟ قال الرجل: لا، قال: «فاستأذن عليها» «٢».
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من اطّلع في بيت بغير إذنهم فقد حلّ لهم ان يفقئوا عينه» [٢٥] «٣».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شبّه قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا أبو بكر قال:
حدّثنا ابن عيينة عن الزهري أنه سمع سهل بن سعد يقول: اطّلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه مدرى يحكّ به رأسه، فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنّما الاستيذان من النظر» [٢٦] «٤».
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي في البيوت أَحَداً يأذن لكم في دخولها فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ولا تقفوا على أبوابهم ولا تلازموها هُوَ أي الرجوع أَزْكى أطهر وأصلح لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
فلمّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام
(١) صحيح ابن حبّان: ١٣/ ١٢٧.
(٢) جامع البيان للطبري: ١٨/ ١٤٨.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٢٦٦.
(٤) المصنّف: ٨/ ٣٩٥. والعبارة فيه: من البصر، بدل: من النظر.
85
ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ بغير استيذان فِيها مَتاعٌ منفعة لَكُمْ
واختلفوا في هذه البيوت ما هي؟ فقال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنيّة للسائلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم إليها.
قال مجاهد: كانوا يضعون بطرق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد، وكانت الطرق إذ ذاك آمنة فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن.
محمد بن الحنفيّة: هي بيوت مكة، ضحّاك: الخربة التي يأوي المسافر إليها في الصيف والشتاء، عطاء: هي البيوت الخربة، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من الخلاء والبول، ابن زيد: بيوت التجّار وحوانيتهم التي بالأسواق، ابن جرير: جميع ما يكون من البيوت التي لا ساكن لها على العموم لأنّ الاستيذان إنما جاء لئلّا يهجم على ما لا يحب من العورة، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا يكفّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النظر الى ما لا يجوز، واختلفوا في قوله مِنْ فقال بعضهم: هو صلة أي يغضّوا أبصارهم، وقال آخرون: هو ثابت في الحكم لأنّ المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا، وإنّما أمروا بالغضّ عمّا لا يجوز.
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عمّن لا يحلّ، هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال ابن زيد: كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا في هذا الموضع فإنّه أراد الاستتار يعني: ويحفظوا فروجهم حتى لا ينظر إليها.
ودليل هذا التأويل إسقاط من ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عليم بِما يَصْنَعُونَ.
أخبرني ابن فنجويه في داري قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال:
حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدّثنا عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اضمنوا لي ستّا من أنفسكم اضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم» «١» [٢٧].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عبد الوارث قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عنبسة بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا أبو الحسن أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «النظر إلى محاسن المرأة سهم من نبال إبليس مسموم،
(١) مسند أحمد: ٥/ ٣٢٣.
86
فمن ردّ بصره ابتغاء ثواب الله عز وجل أبدله الله بذلك عبادة تسرّه» «١» [٢٨].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا سهل بن صالح الأنطاكي قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل يصلّي إذ مرّت به امرأة فنظر إليها وأتبعها بصره فذهب عيناه» [٢٩].
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ عما لا يجوز وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عمّا لا يحلّ، وقيل: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي يسترنها حتى لا يراها أحد.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ولا يظهرن لغير محرم زينتهن، وهما زينتان: أحداهما ما خفي كالخلخالين «٢» والقرطين والقلائد والمعاصم ونحوها، والأخرى ما ظَهَرَ مِنْها، واختلف العلماء في الزينة الظاهرة التي استثنى الله سبحانه ورخّص فيها فقال ابن مسعود: هي الثياب، وعنه أيضا: الرداء، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «٣» أي ثيابكم.
وقال ابن عباس وأصحابه: الكحل والخاتم والسوار والخضاب، الضحّاك والأوزاعي: الوجه والكفّان، الحسن: الوجه والثياب.
روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم «٤» أنه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت «٥» أن تظهر إلّا وجهها ويدها إلى هاهنا» [٣٠]، وقبض على نصف الذارع
، وإنّما رخّص الله سبحانه ورخّص رسوله في هذا القدر من بدن المرأة أن تبديها لأنّه ليس بعورة، فيجوز لها كشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة فيلزمها ستره.
وَلْيَضْرِبْنَ وليلقين بِخُمُرِهِنَّ أي بمقانعهن وهي جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة عَلى جُيُوبِهِنَّ وصدورهن ليسترن بذلك شعورهنّ وأقراطهنّ وأعناقهن.
قالت عائشة: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لمّا أنزل الله سبحانه هذه الآية شققن أكتف مروطهنّ فاختمرن به.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الخفيّة التي أمرن بتغطيتها، ولم يبح لهنّ كشفها في الصلاة وللأجنبيين، وهي ما عدا الوجه والكفّين وظهور القدمين إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أي نساء
(١) بتفاوت في كنز العمّال: ٥/ ٣٢٩ ح ١٣٠٧٣.
(٢) في النسخة الثانية زيادة: والسوارين.
(٣) الأعراف: ٣١.
(٤) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٢٩.
(٥) عركت المرأة: إذا حاضت.
87
المؤمنين فلا يحلّ لامرأة مسلمة أن تتجرّد بين يدي امرأة مشركة إلّا أن تكون أمة لها فذلك قوله سبحانه أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ.
عن ابن جريج: روى هشام بن الغار عن عبادة بن نسيّ أنه كره أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ويتأوّل أَوْ نِسائِهِنَّ.
وقال عبادة: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد فقد بلغني أنّ نساء يدخلن الحمّامات معهنّ نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحل دونه.
قال: ثم إنّ أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا: اللهم أيّما امرأة تدخل الحمّام من غير علّة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسوّد وجهها يوم تبيضّ الوجوه.
وقال بعضهم: أراد بقوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ مماليكهنّ وعبيدهنّ فإنّه لا بأس عليهن أن يظهرن لهم من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ.
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ وهم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء ولا يستهوونهنّ.
قال ابن عباس: هو الذي لا تستحيي منه النساء، وعنه: الأحمق العنّين.
مجاهد: الأبله الذي لا يعرف شيئا من النساء، الحسن: هو الذي لا ينتشر [زبه] سعيد بن جبير: المعتوه، عكرمة: المجبوب، الحكم بن أبان عنه «١» : هو المخنث الذي لا يقوم زبّه.
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم مخنث، وكانوا يعدّونه من غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال: «إنّها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان».
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلنّ هذا عليكم» فحجبوه [٣١].
ابن زيد: هو الذي يتبع القوم حتى كأنه منهم ونشأ فيهم وليس له في نسائهم إربة، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إيّاه، والإربة والإرب: الحاجة يقال: أربت الى كذا آرب إربا إذا احتجت إليه، واختلف القرّاء في قوله غَيْرِ فنصبه أبو جعفر وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وله وجهان:
أحدهما: الحال والقطع لأنّ التابعين معرفة وغير نكرة.
والآخر: الاستثناء ويكون غَيْرَ بمعنى إلّا. وقرأ الباقون بالخفض على نعت التابعين.
(١) عن عكرمة كما في تفسير الطبري: ١٨/ ١٦٤.
88
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن فيطّلعوا عليها، والطفل يكون واحدا وجمعا.
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ يعني ولا يحرّكنها إذا مشين لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يعني الخلخال والحلي وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً من التقصير الواقع في أمره ونهيه وقيل: معناه راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي زوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وقرأ الحسن: من عبيدكم، والأيامى جمع الأيّم وهو من لا زوج له من رجل وامرأة يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم وأيّمة، والفعل منه أمت المرأة تأيم أيمة أيوما، وتأيّمت تأيّما، قال الشاعر:
ألم تر أنّ الله أظهر دينه وسعد بباب القادسيّة معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس منهن أيّم «١»
وقال آخر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي وإن كنت أفتى منكم أتأيّم «٢»
وفسّر بعض الفقهاء الآية على الحتم والإيجاب فأوجب النكاح على من استطاعه، وتأوّلها الباقون على الندب والاستحباب وهو الصحيح المشهور والذي عليه الجمهور.
قال الشافعي «٣» رضي الله عنه: واجب للرجل والمرأة أن يتزوّجا إذا تاقت أنفسهما إليه لأنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أمر به ورضيه وندب إليه،
وبلغنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تناكحوا تكثروا فإنّي أباهي بكم الأمم حتى بالسقط» «٤» [٣٢].
(١) البداية والنهاية- ابن كثير- ٨/ ٨٣ وفيه.
(٢) جامع البيان للطبري: ١٨/ ١٦٧.
(٣) كتاب الأم: ٥/ ١٥٥ بتفاوت. [.....]
(٤) المصنّف: ٦/ ١٧٣. بدون عبارة: «حتى بالسقط».
89
وقال صلى الله عليه وسلّم: «من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتي وهي النكاح
«١»
،
وقال: إنّ الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده [٣٣] «٢».
قال [الشافعي] : ومن لم تتق نفسه إلى ذلك فأحبّ إلىّ أن يتخلّى لعبادة الله عزّ وجل» «٣» [٣٤].
وذكر الله سبحانه القواعد من النساء وذكر عبدا أكرمه فقال عزّ من قائل وَسَيِّداً وَحَصُوراً والحصور: الذي لا يأتي النساء. ولم يندبهم إلى النكاح، فدلّ أنّ المندوب إليه من يحتاج إليه «٤».

باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح


أخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق الجرجاني قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا محمد بن يحيى الأزدي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرنا أشعث عن الحسن عن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن التبتّل «٥».
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الحديثي قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس قال: حدّثنا جندل عن ابن جريح عن أبي المغلّس عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من كان له ما يتزوّج فلم يتزوج فليس منّا» «٦» [٣٥].
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب المقري ابن أخي عوف قال: حدّثنا جبارة بن المغلس قال: حدّثنا مندل عن يحيى بن عبد الرّحمن عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أدرك له ولد وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث فالإثم بينهما» «٧» [٣٦].
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدقّاق قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو يوسف الصيدلاني قال: حدّثنا خالد بن إسماعيل عن عبيد الله عن صالح
(١) مسند أبي يعلى: ٥/ ١٣٣.
(٢) المصنّف: ٣/ ٣٦١- ابن أبي شيبة السكوني، رواه عن سعيد بن المسيّب.
(٣) كتاب الأمّ: ٥/ ١٥٥. وليس هذا بحديث.
(٤) مختصر المزني: ١٦٣. نقله بطوله عن الإمام الشافعي.
(٥) مسند أحمد: ٥/ ١٧.
(٦) تفسير جوامع الجامع- الطبرسي-: ٢/ ٦١٨. نقله عن الكشّاف: ٣/ ٢٣٤.
(٧) تفسير مجمع البيان: ٧/ ٢٤٥.
90
مولى التومة قال: قال أبو هريرة: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «شراركم عزّابكم» «١» [٣٧].
وبإسناده عن صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا تزوّج أحدكم عجّ شيطانه يا ويله: عصم ابن آدم منّي بثلثي دينه» «٢» [٣٨].
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا أبو زكريا يحيى بن علي بن خلف القطان قال: حدّثنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي قال: حدّثنا محمد بن ثابت العقيلي عن هارون بن رئاب عن أبي نجيح السلمي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مسكين مسكين رجل ليست له امرأة، مسكينة امرأة ليس لها زوج».
قالوا: يا رسول الله وان كانت غنيّة من المال؟
قال: «وإن كانت غنيّة من المال» «٣» [٣٩].
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا حماد بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا خالد بن الزبرقان عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء فلا يتزوج ولا يتسرّى لئلّا يولد له، والرجل يتشبّه بالنساء وقد خلقه الله ذكرا، والمرأة تتشبّه بالرجال وقد خلقها الله أنثى، ومضلّل المساكين» «٤» [٤٠].
قال خالد: يعني الذي يهزأ بهم يقول للمسكين: هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شيء، ويقول للمكفوف: اتّق الدابّة وليس بين يديه شيء، والرجل يسئل عن دار القوم فيجهله.
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال:
حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي قال: حدّثني أحمد بن سعيد بن يعقوب قال:
أخبرنا بقية ابن الوليد قال: حدّثني معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عفيف ابن الحارث عن عطيّة بن بشر المازني قال: أتى عكاف بن وادعة الهلالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا عكاف ألك زوجة؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ولا جارية؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم والحمد لله.
(١) مسند أبي يعلى: ٤/ ٣٨.
(٢) كنز العمال: ١٦/ ٢٧٨.
(٣) الدرّ المنثور: ٢/ ٣١١. بتفاوت.
(٤) مسند الشاميين- الطبراني-: ٢/ ٤١٢.
91
قال: فإنّك إذا بين إخوان الشياطين إمّا أن تكون من رهبان النصارى، وإمّا أن تكون مؤمنا فاصنع كما نصنع فإنّ من سنّتنا النكاح، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم، ما للشيطان في نفسه سلاح أبلغ من النساء ألا إنّ المتزوّجين هم المطهّرون المبرّؤون من الخنا، ويحك يا عكاف إنّهن صواحب داود وصواحب أيّوب وصواحب يوسف عليهم السلام وصواحب كرسف.
قالوا: يا رسول الله ومن كرسف؟
قال: رجل كان يعبد الله سبحانه على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل، لا يفتر من صيام ولا قيام، فكفر بالله العظيم من سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة ربّه عزّ وجل فتداركه الله سبحانه بما سلف منه، ويحك يا عكاف تزوّج فإنّك من المذنبين.
قال: زوّجني من شئت قبل أن أبرح.
قال: فإنّي قد زوّجتك على اسم الله كريمة بنت كلثوم الحميري» «١» [٤١].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن المظفر البزاز قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن موسى بن النعمان بمصر قال: حدّثنا علي بن عبد الرّحمن بن المغيرة قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثنا أبو يحيى «٢» بن قيس عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتى على أمّتي مائة وثمانون سنة فقد حلّت العزبة والعزلة والترهّب على رؤوس الجبال» «٣» [٤٢].

فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء


أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي بقراءتي عليه في داري قال:
حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الجعد قال: حدّثنا عبد الله بن عمر القواريري قال: حدّثنا عمر بن الوليد قال: سمعت معاوية بن يحيى يحدّث عن يزيد بن جابر عن جبير بن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزا ولا عاقرا فإنّي مكاثر» «٤» [٤٣].
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو بكر مردك
(١) مسند أبي يعلى: ١٢/ ٢٦٢.
(٢) في النسخة الثانية: بمصر عن منصور عن ابراهيم عن علقمة. [.....]
(٣) تفسير القرطبي: ١٠/ ٣٦١. بتفاوت.
(٤) كنز العمّال: ١٦/ ٢٩٦. مع زيادة: (بكم الأصم).
92
ابن أحمد البردعي قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال:
حدّثني عبد الله بن إدريس المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تزوّجوا الأبكار فإنّهنّ أعذب أفواها، وأفتح أرحاما، وأثبت مودّة» «١» [٤٤].
وبإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها «٢» فإنّ الشعر أحد الجمالين» «٣» [٤٥].
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تزوّجوا الزرق فإن فيهنّ يمنا» «٤» [٤٦].
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا عبدان بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدّثنا عبد الله ابن صالح قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن أبي كريمة قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعظم نساء أمّتي بركة أصبحهنّ وجها وأقلّهنّ مهرا» [٤٧] «٥».

فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف


أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا أبو علي الشيباني قال: حدّثنا محمد بن رافع قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليها بالدفاف وليولم أحدكم ولو بشاة» «٦» [٤٨].
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن يوسف قالا: حدّثنا يوسف بن أحمد بن كركان القرماسيني قال: حدّثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال: حدّثنا أبو سلمة البصري العتكي القاسم بن عمر قال: حدّثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري عن الأوزاعي عن مكحول عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حدّثني معاذ بن جبل قال: شهدت ملاك رجل من الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلّم فخطب النبي صلى الله عليه وسلّم وأملك الأنصاري ثمّ قال: «على الألفة والخير والطير الميمون دفّفوا على رأس صاحبكم، وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكّر فنهب عليهم
(١) المصنّف- الصنعاني.: ٦/ ١٦٠. بتفاوت: قال ابن جريح وقال عمر بن الخطّاب:.
(٢) في المصدر: جمالها.
(٣) الموضوعات- ابن الجوزي.: ٢/ ٢٦٢. وكنز العمّال: ١٦/ ٢٩١.
(٤) كنز العمّال: ١٦/ ٣٠٢.
(٥) مسند الشهاب- ابن سلامة.: ٢/ ١٨٣.
(٦) كنز العمّال: ١٦/ ٢٩٢.
93
فأمسك القوم فلم ينتهبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أزين الحلم ألا تنتهبون، فقالوا: يا رسول الله أنّك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم ثم قال: ألا فانتهبوا» [٤٩].
قال معاذ بن جبل: فو الله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجرّرنا ونجرّره في ذلك النهاب «١».
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا أبو العباس عبد الله بن أحمد بن حشيش البغدادي قال: حدّثنا عثمان بن معبد قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم «٢» عن سفيان بن عامر العامري عن صافية مولاتهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مسّوا بالأملاك فإنّه أفضل في اليمن وأعظم في البركة» «٣» [٥٠].
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا طفران بن الحسين قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني قال: حدّثنا أحمد بن يوسف بن سالم الازدي السلمي قال: حدّثنا حفص بن عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية من الأنصار في حجري فزوّجتها فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يسمع غناء فقال: «يا عائشة ألا تغنّون عليها، فانّ هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء» «٤» [٥١].
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن ظهير بن ثمامة البزّار قال: حدّثنا أبو موسى بن المثنّى الزمر قال: حدّثنا حفص بن غياث عن ليث عن عطاء أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم مرّ عليه بعروس فقال: «لو كان مع هذا لهو» «٥» [٥٢].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن أبي قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمذاني قال: حدّثنا الحسن بن الحسين الرازي الهسنخاني قال: حدّثنا سعيد بن منصور قال: حدّثنا مسكين بن ميمون قال: حدّثني عروة بن رويم قال: بينا عبد الرّحمن بن قرط ينعسّ بحمص إذ مرّت عروس وقد أوقدوا النيران، فضربهم بدريّة حتى تفرقوا عنها، فلمّا أصبح قعد على منبره وقال: إنّ أبا جندلة نكح فصنع جفنات من طعام فرحم الله أبا جندلة وصلّى على آبائه، ولعن الله أصحاب عروسكم أوقدوا النيران وتشبّهوا بأهل الشرك والله مطفئ نورهم يوم القيامة. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
(١) مجمع الزوائد- الهيثمي.: ٤/ ٢٩٠.
(٢) في النسخة الثانية: أبو العباس عبد الله بن ابراهيم.
(٣) راجع المغني لابن قدامة: ٧/ ٤٣٥.
(٤) صحيح ابن حبّان: ١٣/ ١٨٥.
(٥) المصنّف- الكوفي.: ٣/ ٣٢١.
94
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثني أبو زرعة قال: حدّثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء قال: أخبرنا مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التمسوا الرزق بالنكاح» «١» [٥٣].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا أبو يوسف محمد ابن سفيان بن موسى الصفّار «٢» بالمصّيصة قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن ناصح قال: حدّثنا عبد العزيز الدراوردي عن ابن عجلان أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فشكا إليه الحاجة فقال: «عليك بالباءة»
«٣»، وشكا رجل الى أبي بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلّم فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة [٥٤]، وجاء رجل الى عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر «٤» فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، كلّ يريد قوله سبحانه إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. قال ابن عجلان: وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ابتغوا الغنى في النكاح.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً عن الحرام حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ويوسّع عليهم من رزقه.
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سمّاها كان حرّا، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه الى الرّقّ كما
قال صلى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»
«٥» [٥٥]. وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب، فسمّي المكاتب مكاتبا لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض.
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم: هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واحتجّ من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه، فشكاه الى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة، واحتجّوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل
(١) الدرّ المنثور: ٥/ ٤٥. [.....]
(٢) في النسخة الثانية: أبو يوسف بن سفيان بن موسى.
(٣) فيض القدير شرح الجامع الصغير- المناوي.: ٣/ ٣١٨.
(٤) في النسخة الثانية: وجاء رجل الى عثمان بعد عمر.
(٥) المصنّف- الكوفي-: ٥/ ٦٦.
95
مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب.
وروى عن عمر أنّه قال: هي عزمة من عزمات الله، من سأل الكتابة كوتب.
وقال الآخرون: هو أمر ندب واستحباب، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل، وهو قول الشعبي والحسن البصري، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء.
وأمّا قوله سبحانه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فاختلفوا فيه، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس: يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه، وإليه ذهب الثوري.
وروى الوالبي عن ابن عباس قال: إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين.
وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واستدلّوا بقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً «١».
قال الخليل: لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرا.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال: قال له عبد: كاتبني، قال: لك مال؟ قال: لا، قال:
تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد: يعني صدقا ووفاء وأمانة، وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالا وأمانة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة، فأحبّ أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة «٢» قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يحيى بن حمزة قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حق على الله عونهم: رجل خرج في سبيل الله سبحانه، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ، ورجل كاتب التماس الأداء» «٣» [٥٦].
(١) سورة البقرة: ١٨٠.
(٢) في النسخة الثانية: أخبرني ابن فنجويه عن عبد الله بن محمد بن شنبة.
(٣) المصنّف: ٥/ ٢٥٩- الصنعاني- بتفاوت.
96
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال: إن أقاموا الصلاة. وقيل: هو أن يكون المكاتب بالغا عاقلا فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء،
ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاث» الحديث
[٥٧] «١».
وقال أبو حنيفة: يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقا مميّزا بناء على أصله إذا كان مراهقا كيّسا حرا فأذن له وليّه في التّصرف نفذ تصرّفه، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته.
واختلف الفقهاء في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنّ الله سبحانه قال فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحّ حالّا ومؤجّلا كالبيع.
وقال الشافعي: لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلة، وأقلّه نجمان.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ اختلفوا فيه فقال بعضهم: الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئا، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم: هو ربع المال وهو قول علىّ، وإليه ذهب الثوري.
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرّحمن السلمي أنّه كاتب غلاما له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليّا كرم الله وجهه
، وقد روى ذلك مرفوعا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال: حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرّحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلّم وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قال: «ربع المكاتبة» «٢» [٥٨].
وقال آخرون: ليس فيه حدّ إنّما هو إليه، يحطّ عنه من مال كتابته شيئا.
روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبلتين جميعا على عشرة آلاف فتركت لي ألفا، وروى الجريري عن أبي
(١) مسند أحمد: ٦/ ١٠٠.
(٢) السنن الكبرى- البيهقي.: ١٠/ ٣٢٩.
97
نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أسيد قال: كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفا وردّ علىّ مائتين.
وقال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاما له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم.
قال سعيد بن جبير: وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ، وعلى هذا القول قوله وَآتُوهُمْ أمر استحباب.
وقال بعضهم: معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله وَفِي الرِّقابِ «١» وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب.
وقال بريدة وإبراهيم: هو حثّ لجميع الناس على معونتهم.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة «٢» قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أو غازيا في عسرته أو مجاهدا في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» «٣» [٥٩].
وأخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال: حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرّحمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا: جاءنا غلام لعثمان رضي الله عنه يقال له كيّس فقال: قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني «٤» فقلنا له: إنّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال: أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر، قال: فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء «٥» قال: كونوا بالباب ثم قال: يا كيّس تذكر يوم عركت أذنك، قلت: بلى يا سيّدي، قال: ألم أنهك أن تقول يا سيدي؟ قال: فلم يزل بي حتى ذكرت، قال: قم فخذ بأذني قال: فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأذنه فعركتها وهو يقول: شدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال: حسبك ثم قال: واها للقضاء في الدنيا، أخرج فأنت حرّ وما معك لك.
(١) سورة التوبة: ٦٠.
(٢) في النسخة الثانية: عبد الله بن محمد بن شنبة.
(٣) أحكام القرآن- الجصّاص-: ٣/ ١٦٢.
(٤) في النسخة الثانية زيادة: فدخلنا على عثمان.
(٥) في النسخة الثانية زيادة: فذهب فلم يلبث أن جاء فقال: قوموا معي فقمنا معه فدخلنا ثم قال:.... [.....]
98
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية.
نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرّا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أبي أسر رجلا من قريش يوم بدر، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه وكان ابن أبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله سبحانه وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ إماءكم عَلَى الْبِغاءِ أي الزنا.
إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصّنا، ونظيره قوله سبحانه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «١» وقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٢» أي إذ، وقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «٣» يعني إذ شاء الله والتحصّن: التعفّف.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّنا) ثم قال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههنّ) بعد ورود النهي فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهنّ والله لهن.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا خبرا وعبرة مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
(١) سورة البقرة: ٢٧٨.
(٢) سورة آل عمران: ١٣٩.
(٣) سورة الفتح: ٢٧.
99

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٨]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
قال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض لا هادي فيهما غيره، فهم بنوره الى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون وليس يهتدي ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل إلّا بهدى منه.
الضحّاك والقرظي: منوّر السموات والأرض.
مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض.
أبي بن كعب وأبو العالية والحسن: مزيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.
وقال بعضهم: يعني الأنوار كلّها منه كما يقال: فلان رحمة وسخطة وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنما يكون منه الرحمة والسخطة.
وقال بعض أهل المعاني: أصل النور هو التبرئة والتصفية، يقال: امرأة نوار ونساء نوار إذا كنّ متعرّيات من الريبة والفحشاء، قال الشاعر:
نوار في صواحبها نوار كما فاجاك سرب أو صوار
فمعنى النور هو المنزّه من كل عيب.
وقال بعض العلماء: النور على أربعة أوجه: نور متلألئ، ونور متولّد، ونور من جهة صفاء اللون، ونور من جهة المدح، فالنور المتلألئ مثل قرص الشمس والقمر والكواكب وشعلة السراج، والمتولد هو الذي يتولد من شعاع الشمس والقمر والسراج فيقع على الأرض فيستنير به، والذي هو من صفاء اللون مثل نور اللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وكلّ شيء له نور صاف، والذي هو من جهة المدح قول الناس: فلان نور البلد وشمس العصر، قال الشاعر:
فإنّك شمس والملوك كواكب إذا ما بدت «١» لم بدت منهنّ كوكب «٢»
(١) في النسخة الثانية: إذا طلعت.
(٢) أحكام القرآن- الجصّاص.: ١/ ٣٩٨.
100
وقال آخر:
قمر القبائل خالد بن يزيد «١»
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها «٢»
ويجوز أن يقال: الله سبحانه نور من جهة المدح لأنه واجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه دون سائر الأوجه لأنّ النور المحسوس الذي هو ضدّ الظلمة لا يخلو من شعاع وارتفاع وسطوع ولموع وهذه كلّها منفيّة عن الله سبحانه لأنها من أمارات الحدث.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: لله يا نور إلّا أن يضمّ إليه شيء كما لا يجوز أن يقال: يا بديع إلّا أن يضمّ إليه شيء كما قال الله سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٣» نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٤».
وقرأ علي بن أبي طالب: اللَّهُ نَوَّرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على الفعل.
مَثَلُ نُورِهِ اختلفوا في هذه الكناية فقال بعضهم: هي عائدة الى المؤمن أي مَثَلُ نُورِهِ في قلب المؤمن حيث جعل الإيمان والقرآن في صدره.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية قال: بدا بنور نفسه فذكره ثمّ ذكر نور المؤمن فقال مَثَلُ نُورِهِ وهكذا كان يقرأ أبي: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم وابنه: أراد بالنور القرآن، وقال كعب وسعيد بن جبير: هو محمد صلى الله عليه وسلّم ومثله روى مقاتل عن الضحاك، أضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا، وروى عطيّة عن ابن عباس قال: يعني بالنور الطاعة، يسمّي طاعته نورا ثمّ ضرب لها مثلا.
كَمِشْكاةٍ قال أهل المعاني: هذا من المقلوب أي كمصباح في مشكوة وهي الكوّة التي لا منفذ لها، وأصلها الوعاء يجعل فيها الشيء، والمشكاة: وعاء من أدم يبرّد فيه الماء، وهي على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٥٥.
هلّا خصصت من البلاد بمقصد تمرّ القبائل خالد بن يزيد
فتح القدير: ٤/ ٣٢.
هلّا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد
(٢) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٥٥.
(٣) سورة البقرة: ١١٧.
(٤) سورة النور: ٣٥.
101
كأنّ عينيه مشكاتان في حجر قيضا اقتياضا بأطراف المناقير «١»
وقيل: المشكوة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.
وقال مجاهد: هي القنديل فِيها مِصْباحٌ أي سراج وأصله من الضوء، ومنه الصبح، ورجل صبيح الوجه ومصبّح إذا كان وضيئا، وفرّق قوم بين المصباح والسراج فقال الخليل: المصباح «٢» : نفس السراج وقيل: السراج أعظم من المصباح لأنّ الله سبحانه سمّى الشمس سراجا فقال سِراجاً وَهَّاجاً «٣» ووَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وقال في غيرها من الكواكب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «٤».
الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قرأ نصر بن عاصم: زَجاجَةٍ بفتح الزاي، الباقون بضمّه.
قال الأخفش: فيها ثلاث لغات: ضمّ الزاي وفتحه وكسره.
كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي ضخم مضيء، ودراريّ النجوم عظامها، واختلف القرّاء فيه فقرأ أبو عمرو والكسائي مكسورة الدال مهموزة الياء ممدودة وهو من قول العرب: درأ «٥» النجم «٦» إذا طلع وارتفع، ومن مكان الى آخر رجع، وإذا انقضّ في اثر الشيطان فأسرع، وأصله من الرفع، ووزنه من الفعل فعيل، وقرأ حمزة وأبو بكر مضمومة الدال مهموزة ممدودة.
قال أكثر النحاة: هي لحن لأنه ليس في الكلام فعّيل بضم الفاء وكسر العين.
قال أبو عبيد: وأنا ارى لها وجها وذلك أنه درّ و «٧» على وزن فعّول من درأت مثل سبّوح وقدّوس ثمّ استثقلوا كثرة الضمّات فيه فردوا بعضها الى الكسرة كما قالوا عتيّا وهو فعول من عتوت.
وقال بعضهم: هو مشتق على هذه القراءة من الدراة وهي البياض ويقال: منه ملح دراني، وقرأ سعيد بن المسيّب وأبو رجاء العطاردي بفتح الدال وبالهمز.
قال أبو حاتم: هو خطأ لأنّه ليس في الكلام فعيل وإن صحّ منهما فهما حجّة، وقرأ
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٥٧.
(٢) في النسخة الثانية زيادة: السراج المسرجة والمصباح.
(٣) سورة النبأ: ١٣.
(٤) سورة فصّلت: ١٢.
(٥) في النسخة الثانية: دار. [.....]
(٦) في المخطوط: النجوم.
(٧) في النسخة الثانية: دوري.
102
الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، نسبوه الى الدرّ في صفائه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ثمّ قال أبو عبيد: وإنما اخترنا هذه القراءة لعلل ثلاث:
إحداها: ما جاء في التفسير أنه منسوب الى الدرّ لبياضه.
والثانية: للخبر
عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ أهل الجنة ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الدرّي في أفق السماء وإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما!.
والثالثة: إجماع أهل الحرمين عليها.
يُوقَدُ اختلف القرّاء فيه أيضا فقرأ شيبة ونافع وأيوب وابن عامر وعاصم برواية حفص بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف «١» برواية أبي بكر بتاء مضمومة أرادوا الزجاجة، وقرأ بن محيص»
بتاء مفتوحة وتشديد القاف ورفع الدال على معنى تتوقد الزجاجة، وقرأ الآخرون: بفتح التاء والقاف والدال على المضيء يعنون المصباح.
مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
قال عكرمة وجماعة: يعني لا يسترها من الشمس جبل ولا واد، فإذا طلعت الشمس أصابتها وإذا غربت أصابتها، فهي صاحبة للشمس طول النهار وليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا هي غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت، بل تأخذ حظّها من الأمرين، وإذا كان كذلك كان أجود وأضوأ لزينتها.
وقال السدىّ وجماعة: يعني ليست في مقنوة «٣» لا تصيبها الشمس ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل، فهي لم يضرّها الشمس ولا الظلّ.
وقال بعضهم: هي معتدلة ليست من شرق «٤» فيلحقها الحرّ، ولا في غرب فيضرّ بها البرد وهي رواية ابن ظبيان عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: هي شاميّة لأنّ الشام لا شرقي ولا غربي، تقول: هي شرقيّة وغربيّة وهذا كقولك: فلان لا مسافر ولا مقيم، وليس هذا بأبيض ولا أسود إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب، قال الشاعر:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين سلّت «٥»
(١) في النسخة الثانية زيادة: وعاصم.
(٢) في النسخة الثانية: ابن محسن.
(٣) هي المضحاة والمقناة أي الستر، لسان العرب: ١٥/ ٢٠٦.
(٤) أي ليست من شجر الشرق.
(٥) لسان العرب: ٤/ ٢٣٥.
103
يعني فعلوا هذا.
وقال الحسن: ليس هذه الشجرة من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنّما هو مثل ضربه الله سبحانه لنوره، وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة فقال زَيْتُونَةٍ وإنما خصّ الزيتونة من بين سائر الأشجار لأنّ دهنها أضوأ وأصفر.
وقيل: لأنّه يورق غصنها من أوله الى آخره ولا يحتاج دهنه إلى عصّار يستخرجه.
وقيل: لأنّها أول شجرة نبتت من الدنيا، وقيل: بعد الطوفان، وقيل: لأنّ منبتها منزل الأنبياء والأولياء والأرض المقدّسة، وقيل: لأنّه بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم (عليه السلام) قال: لذلك قال مُبارَكَةٍ.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدّثنا عبد الله ابن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي قال: حدّثني هاشم ابن القاسم الحراني قال: حدّثنا يعلى بن الأشدق عن عمّه عبد الله بن حراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم بارك في الزيت والزيتون، اللهم بارك في الزيت والزيتون» [٦٠] «١».
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثني أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا زهير قال: حدّثنا عبد الله بن عيسى عن عطاء عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» [٦١] «٢».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيق قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو حمزة عن جابر عن أبي الطفيل عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال: دعا بنيه ودعا بزيت فقال: ادهنوا رؤوسكم، فقالوا: لا ندهن رؤوسنا بالزيت قال: فأخذ العصا وجعل يضربهم ويقول: أترغبون عن دهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟
وحدّثنا عبد الله بن يوسف بن ماموله قال: أخبرنا محمد بن عمر بن الخطاب الدينوري قال: حدّثنا أحمد بن عبد «٣» الله بن سنان قال: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنّه مصحّة من الباسور» [٦٢].
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٥٨.
(٢) سنن الترمذي: ٣/ ١٨٦.
(٣) في النسخة الثانية: عبد الله بن أحمد.
104
ثمّ قال سبحانه يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ من صفائه وضيائه. وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: أن تصيبه نار، واختلف العلماء في معنى هذا المثل والممّثل وفي المعنيّ بالمشكاة والزجاجة والمصباح، فقال قوم: هذا مثل ضربه الله سبحانه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم، وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له: حدّثني عن قوله سبحانه وتعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الآية فقال كعب: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلّم، فالمشكاة صدره، والزُّجاجَةُ قلبه، والْمِصْباحُ فيه النبوّة، توقد مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي شجرة النبوّة، يكاد نور محمد وأمره يتبيّن للناس ولو لم يتكلّم أنّه نبىّ كما يكاد ذلك الزيت يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدّثنا أبو عثمان البصري قال: حدّثنا أحمد بن سلمة قال:
حدّثنا الحسين بن منصور قال: حدّثنا أبان بن راشد الحرزي «١» قال: حدّثنا الوراع بن نافع عن سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف محمد، والزُّجاجَةُ قلبه، والْمِصْباحُ النور الذي جعل الله فيه، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ لا يهودي ولا نصراني، توقد مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ إبراهيم، نُورٌ عَلى نُورٍ النور الذي جعل الله في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد صلى الله عليه وسلّم.
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم، والزُّجاجَةُ إسماعيل، الْمِصْباحُ محمد صلى الله عليه وسلّم، سمّاه الله مصباحا كما سمّاه سراجا فقال عزّ من قائل وَسِراجاً مُنِيراً يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي إبراهيم، سمّاه مباركا لأنّ أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يعني إبراهيم لم يكن يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وإنّما قال ذلك لأنّ اليهود تصلّي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يعني تكاد محاسن محمد تظهر للناس قبل أن أوحي إليه نُورٌ عَلى نُورٍ أي نبيّ من نسل نبيّ.
وروى مقاتل عن الضحّاك قال: شبّه عبد المطّلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلّم بالمصباح، كان في صلبهما فورث النبوّة من إبراهيم (عليه السلام) يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ بل هي مكيّة لأنّ مكة وسط الدنيا.
ووصف بعض البلغاء هذه الشجرة فقال: هي شجرة التقى والرضوان وشجرة الهدى والإيمان شجرة أصلها نبوّة، وفرعها مروّة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبرئيل وميكائيل.
وقال آخرون: هذا مثل ضربه الله سبحانه للمؤمن.
روى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزُّجاجَةُ صدره، والْمِصْباحُ ما جعل الله سبحانه من الإيمان والقرآن في قلبه، توقد
(١) في النسخة الثانية: الخرزي.
105
مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له، فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فيثبته الله تعالى فيها، فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
ثمّ قال: نُورٌ عَلى نُورٍ فهو ينقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره الى النور يوم القيامة الى الجنة.
وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار، فإن مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كما يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور كقول إبراهيم (عليه السلام) قبل أن تجيئه المعرفة هذا رَبِّي «١» حين رأى الكوكب من غير أن أخبره أحد أنّ له ربّا، فلمّا أخبره الله أنّه ربّه ازداد هدى على هدى ثم قال نُورٌ عَلى نُورٍ يعني إيمان المؤمن وعمله.
وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ويؤخذ به ويعمل به، ف الْمِصْباحُ هو القرآن، والزُّجاجَةُ قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يقول: تكاد حجّة القرآن تتّضح وإن لم تقرأ، وقيل: تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن.
نُورٌ عَلى نُورٍ يعني أنّ القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور.
ثمّ أخبر أنّ هذا النور المذكور عزيز فقال عزّ من قائل يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ثمّ قال عزّ من قائل فِي بُيُوتٍ نظم الآية: ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، عن أكثر المفسّرين.
أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال: حدّثنا ابن حنش «٢» المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد
(١) سورة الأنعام: ٧٦.
(٢) في النسخة الثانية: حبش.
106
ابن إبراهيم الجوهري قال: حدّثنا علىّ بن أشكاب قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله عزّ وجلّ في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم يقولون: المساجد بيوت الله وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها.
وأخبرنا الحسين «١» بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال:
حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري «٢» قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا أبو أسامة عن صالح بن حيّان عن ابن أبي «٣» بريدة في قوله سبحانه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ الآية. قال:
إنّما هي أربع مساجد لم يبنها إلّا نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومسجد قباء أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى، بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري «٤» قال: حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال:
حدّثنا المنذر بن محمد القابوسي قال: حدّثني الحسين بن سعيد قال: حدّثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ إلى قوله وَالْأَبْصارُ فقام رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء».
قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها- لبيت عليّ وفاطمة-؟
قال: «نعم من أفاضلها» [٦٣] «٥».
الصادق: بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم.
السدّي: المدينة.
وأولى الأقوال بالصواب أنّها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة.
فإن قيل: ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت، لا يكون مشكاة واحدة إلّا في بيت واحد؟.
(١) في النسخة الثانية: الحسن. [.....]
(٢) في النسخة الثانية: الحدوي.
(٣) في النسخة الثانية: ابن بريدة.
(٤) في النسخة الثانية: أبو عبد الله الدينوري.
(٥) الدرّ المنثور: ٥/ ٥٠.
107
قلنا: هذا من الخطاب المتلوّن الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «١» ونحوها، وقيل: رجع الى كلّ واحد من البيوت، وقيل: هو مثل قوله سبحانه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «٢» وإنّما هو في واحدة منها.
أَنْ تُرْفَعَ أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «٣» وقال الحسن: تعظيم، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قال ابن عباس: يتلى فيها كتابه، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل.
ثم قال رِجالٌ أي هم رجال كما يقال: ضرب زيد وأكل طعامك فيقال: من فعل؟ فيبيّن فيقول: فلان، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله وَالْآصالِ. وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلا للرجال.
قال ابن عباس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة يدلّ عليه قوله سبحانه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي بالغداة والعشىّ.
قال المفسّرون: أراد الصلوات المفروضة، فالصلاة التي تؤدّى بالغدوّ صلاة الفجر، والتي تؤدّى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأنّ اسم الأصيل لجميعها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويؤثره على ما سواه إلّا وله عند الله نزل معدّله في الجنّة كلّما غدا وراح، كما لو أنّ أحدكم زاره من يحبّ زيارته في كرامته» «٤» [٦٤].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من غدا الى المسجد وراح ليتعلّم خيرا أو يعلّمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانما، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له، يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم» «٥» [٦٥].
(١) سورة الطلاق: ١.
(٢) سورة نوح: ١٦.
(٣) البقرة: ١٢٧.
(٤) كنز العمّال: ٧/ ٥٦٩.
(٥) راجع كتاب الموطأ- الإمام مالك-: ١/ ٧١٦١ ومسند أحمد: ٢/ ٣٥٠، والمستدرك للحاكم: ١/ ٩١.
108
ثمّ وصفهم فقال رِجالٌ قيل: وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنّه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات وَلا بَيْعٌ إن قيل:
إنّ التجارة اسم يقع على البيع والشراء، فما معنى ضم ذكر البيع الى التجارة؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنّه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً «١» يعني الشراء.
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة، لأنّ الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضا من الواو، ولأنّ أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمّة على الواو فسكّنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته الى القاف، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم: عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة، فلمّا أضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضا منها، كقول الشاعر:
إنّ الخليط أجدّوا البين وانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا «٢»
أراد: عدة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها.
وَإِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة عن الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى. قال ابن حيّان: هم أهل الصفّة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال:
أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنّه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال: حدّثنا علي بن طيفور النسائي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم يتفقّدونهم، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم» «٣» [٦٦].
(١) سورة الجمعة: ١١.
(٢) لسان العرب: ١/ ٦٥١.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٤١٨.
109
وقال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة.
يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك.
وَالْأَبْصارُ أيّ ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ وذلك يوم القيامة.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أنّهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ أي بأحسن ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقّوه بأعمالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٤]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
ثمّ ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عزّ من قائل وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدّة الحرّ كأنّه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفشّ فلم ير شيئا، وسمّي سرابا لأنّه ينسرب أي يجري كالماء.
بِقِيعَةٍ وهو جمع القاع مثل جار وجيرة، والقاع: المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب.
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ يظنّه العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ يعني ما قدّر أنّه ماء فلم يجده على ما قدّر، وقيل: معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه، كذلك الكافر يحسب أنّ عمله مغنى عنه أو نافعه شيئا فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولا نفعه وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جزاء عمله، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَوْ كَظُلُماتٍ.
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفّار أيضا يقول: مثل أعمالهم في خطائها
110
وفسادها، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وهو العميق الكثير الماء وذلك أشدّ ظلمة، ولجّة البحر: معظمه يَغْشاهُ يعلوه مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ متراكم مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ قرأ ابن كثير برواية النبّال والفلنجي سَحابٌ بالرفع والتنوين، ظُلُماتٍ بالجرّ على البدل من قوله أَوْ كَظُلُماتٍ. روى البّزي عنه، سحابُ ظلماتٍ بالإضافة وقرأ الآخرون: سَحابٌ ظُلُماتٌ كلاهما بالرفع والتنوين، وتمام الكلام عند قوله سَحابٌ.
ثمّ ابتدأ فقال ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر.
قال المفسّرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجّي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرّين والختم والطبع على قلبه.
قال أبي بن كعب في هذه الآية: الكافر ينقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله، ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
إِذا أَخْرَجَ يعني الناظر يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات.
وقال الفرّاء: كاد صلة أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرّد: يعني لم يرها إلّا بعد الجهد كما يقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدّة، وقيل:
معناه قرب من الرؤية ولم ير، كما يقال: كاد العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ يعني من لم يهده الله فلا إيمان له.
قال مقاتل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أميّة، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال: حدّثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال: حدّثنا محمد ابن يونس الكديمي قال: حدّثنا عبيد الله بن عائشة قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنّ الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر!، وخلق المؤمنين من أمّتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمّتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور!، فنزلت عليه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» «١» [٦٧].
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أجنحتهنّ في الهواء
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٨٦.
111
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال المفسّرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل:
أحدها: كلّ مصلّ ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
والثاني: كلّ مسبّح ومصلّ منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلّفه الله، وقد علم كلّ منهم صلاة الله من تسبيحه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي تقديرها وتدبير أمورها وتصريف أحوالها كما يشاء وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي يسوق سَحاباً الى حيث يريد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرّقة بعضها إلى بعض، والسّحاب جمع، وإنما ذكر الكناية على اللفظ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه وهو جمع خلل، وقرأ ابن عباس والضحاك من خلله.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ أي البرد، ومن صلة، وقيل: معناه وينزل من السماء قدر جبال أو مثال جبال من برد إلى الأرض، فمن الأولى للغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء، والثانية: للتبعيض لأنّ البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة: لتبيين الجنس لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد مَنْ يَشاءُ فيهلكه ويهلك زروعه وأمواله، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من شدّة ضوئه وبريقه، وقرأ أبو جعفر: يُذْهِبُ بضم الياء وكسر الهاء، غيره: من الذهاب.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يصرفهما في اختلافهما ويعاقبهما إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت من هذه الأشياء لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله عزّ وجل: يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» «١» [٦٨].
(١) صحيح البخاري: ٦/ ٤١. [.....]
112

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٥٥]

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ خالق على الاسم كوفي غير عاصم، الباقون: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ على الفعل مِنْ ماءٍ أي من نطفة، وقيل: إنما قال مِنْ ماءٍ لأنّ أصل الخلق من الماء، ثم قلب بعض الماء الى الريح فخلق منها الملائكة، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيّات والحيتان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنّه كالذي يمشي على أربع في رأي العين.
يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ كما يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا يعني المنافقين ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويدعو الى غير حكم الله.
قال الله سبحانه وتعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجرّه الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه الى كعب بن الأشرف ويقول: إنّ محمّدا يحيف علينا
، فذلك قوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول بحكم الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ مطيعين منقادين لحكمه أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا
يعني أنّهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذمّ، كقول جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
يعني أنتم كذلك.
أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي يظلم بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها.
113
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي الى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ نصب القول على خبر كان واسمه في قوله أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ وذلك أنّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أينما كنت نكن معك، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله سبحانه قُلْ
لهم لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الاعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
من طاعتكم ومخالفتكم.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن طاعة الله ورسوله والإذعان بحكمهما فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من طاعته ومتابعته وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الورّاق في آخرين قالوا: سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول: من أمّر السنّة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأنّ الوعد قول، مجازها وقال الله سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ليورثنّهم أرض الكفّار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكّانها.
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ، وقرأه العامة: كَمَا اسْتَخْلَفَ بفتح التاء واللام لقوله سبحانه وَعَدَ اللَّهُ وقوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ.
وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يسمّ فاعله.
وَلَيُمَكِّنَنَّ وليوطّننّ لَهُمْ دِينَهُمُ ملّتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم، غيرهم: بالتشديد وهما لغتان. وقال بعض الأئمة: التبديل: تغيير حال الى حال، والإبدال: رفع شيء وجعل غيره مكانه مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بهذه النعمة بَعْدَ ذلِكَ وآثر يعني الكفر بالله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
114
روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلّم عشر سنين خائفا يدعو الى الله سرا وعلانية ثم أمر بالهجرة الى المدينة، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنّا السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلّم:
«لا تغبرّون إلّا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديده» «١» [٦٩].
وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب، فآمنوا ثم تجبّروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان، فغيّر الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم.
وقال مقاتل: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلّم من الحديبيّة حزن أصحابه فأطعمهم الله نخل خيبر، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين، وأنزل هذه الآية.
قلت: وفيها دلالة واضحة على صحّة خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون ملكا» «٢» [٧٠].
قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان ثنتي عشرة، وعليّ ستة.
وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: أخبرنا شافع بن محمد قال: حدّثنا ابن الوشّاء قال: حدّثنا ابن إسماعيل البغدادي قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: حدّثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«الخلافة بعدي في أمّتي في أربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ»
«٣» [٧١].
(١) جامع البيان للطبري: ١٨/ ٢١٢.
(٢) صحيح ابن حبّان: ١٥/ ٣٩٢.
(٣) لم نجده في المصادر.
115

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٦ الى ٦٤]

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ كَفَرُوا هذه قراءة العامة وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على معنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم مُعْجِزِينَ لأنّ الحسبان يتعدّى إلى مفعولين وقال الفرّاء: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلّم أي لا يحسبنّ محمد الكافرين مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ.
قال ابن عباس وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو الى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته، فقال: يا رسول الله وددت لو أن اله أمرنا ونهانا في حال الاستيذان فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اللام لام الأمر الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني العبيد والإماء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأحرار ثَلاثَ مَرَّاتٍ في ثلاثة أوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ للقائلة وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ.
روى عبد الرّحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلواتكم فإن الله سبحانه قال وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وإنّما العتمة عتمة الإبل، وإنّما خصّ هذه الأوقات لأنّها ساعات الغفلة والخلوة ووضع الثياب والكسوة، فذلك قوله سبحانه ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» [٧٢].
116
قرأ أهل الكوفة ثَلاثَ بالنصب ردّا على قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ ورفعه الآخرون على معنى هذه ثلاث عورات لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ يعني العبيد والخدم والأطفال جُناحٌ على الدخول بغير إذن بَعْدَهُنَّ أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طَوَّافُونَ أي هم طوّافون عَلَيْكُمْ يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيؤون ويتردّدون في أحوالهم وأشغالهم بغير إذن بَعْضُكُمْ يطوف عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هو منسوخ لا يعمل به اليوم.
أخبرنا أبو محمد الرومي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا عبد العزيز عن عمرو عن عكرمة أنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس: كيف ترى في هذه الآية؟ أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد، قول الله عزّ وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية، فقال ابن عباس: إنّ الله رفيق حليم رؤوف رحيم، يحب الستر، وكان الناس ليست لبيوتهم ستور ولا حجال، فربّما دخل الخادم والولد والرجل على أهله، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاستيذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك. وقال آخرون: هي محكمة والعمل بها واجب.
روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قلت: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله ما نسخت «١»، قلت: إنّ الناس لا يعملون بها؟ قال: الله المستعان.
وروى أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: إن ناسا تقول:
نسخت، والله ما نسخت ولكنها ممّا يتهاون به الناس.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أي من أحراركم الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأحرار الكبار.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ يعني اللاتي قعدن عن الولد من الكبر فلا يحضن ولا يلدن، واحدتها قاعدة.
اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في التزوّج وأيسن من البعولة.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ عند الرجال يعني جلابيبهن والقناع الذي فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، يدلّ على هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب: أن يضعن من ثيابهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ يعني من غير أن يردن بوضع الجلباب والثياب أن ترى زينتهن،
(١) في المخطوط: نسخ.
117
والتبرّج هو أن تظهر المرأة محاسنها ممّا ينبغي لها أن تستره.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ فيلبسن جلابيبهنّ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس: لمّا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في، يعني ليس عليكم في مواكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم: كان العرجان والعميان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء لأنّ الناس يتقزّزون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقزّزا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية ترخيصا للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمّى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أي بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة: يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه أطعمهم غير مالكيه ويقولون: إنما يذهبون بنا الى بيوت غيرهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى عبد الرزاق عن معمّر قال: سألت الزهري عن هذه الآية فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيّب فأنزلت هذه رخصة لهم.
وقال الحسن وابن زيد: يعني لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله، قالا: وهاهنا تمام الكلام.
وقوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ الآية. كلام منقطع عمّا قبله.
قال ابن عباس: تحرّج قوم عن الأكل من هذه البيوت لمّا نزل قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وقالوا: لا يحلّ لأحد منّا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ.
118
قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته.
وقال الضحّاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم.
مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم ممّا اخترتم وملكتم، وقرأ سعيد بن جبير: ملّكتم بالتشديد.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غازيا وخلّف ملك بن زيد على أهله فلمّا رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرّج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية.
أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً.
قال قوم: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح الى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وروى عطاء الخراساني عنه قال: كان الغنىّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إنّى لأحتج أن آكل معك أي أتحرّج وأنا غنىّ وأنت فقير، فنزلت هذه الآية.
وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم فرخّص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعا مجتمعين، أو أشتاتا متفرقين.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلّم بعضكم على بعض كقوله سبحانه وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١».
عن الحسن وابن زيد حدّثنا «٢» ابن حبيب لفظا في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال: حدّثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال: حدّثنا محمد بن صالح الطبري قال: حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج قال: حدّثنا محمد بن جعفر المدائني قال: حدّثنا ورقاء عن الأعمش
(١) سورة النساء: ٢٩.
(٢) في النسخة الثانية زيادة: أبو القاسم الحسن بن محمد.
119
عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم، فإنّ الرجل المسلم إذا مرّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب» «١» [٧٣].
وحدّثنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال: حدّثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال:
أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلّم، فإن بدا له أن يقعد فليقعد، وإذا قام فليسلّم، فإنّ الأولى ليست بأحقّ من الآخرة» »
[٧٤].
وقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلّموا على أهلكم وعيالكم، وهو قول جابر بن عبد الله وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: فإن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربّنا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله.
حدّثنا «٣» ابن حبيب لفظا قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاء قال: حدّثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسّي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته: لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصبّ على يديه الماء فرفع رأسه فقال «ألا أعلّمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى، قال: من لقيت من أمّتي فسلّم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت فسلّم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنّها صلاة الأبرار» «٤» [٧٥].
وقال بعضهم: يعني فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على من فيها.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ الآية.
قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نصب على المصدر أي تحيّون أنفسكم بها تحيّة، وقيل: على الحال
(١) كنز العمّال: ٩/ ١١٤.
(٢) كنز العمّال: ٩/ ١٣٩. بتفاوت.
(٣) في النسخة الثانية زيادة: أبو القاسم الحسن بن محمد.
(٤) الدرّ المنثور: ٥/ ٦٠. بتفاوت.
120
بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أو جماعة أو تشاور في أمر نزل لَمْ يَذْهَبُوا لم يتفرّقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمد أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال: هو يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة، والرجل به العلّة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث يراه، فيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه إنّما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم.
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أمرهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ في الانصراف وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
قال ابن عباس: يقول: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإنّ دعاءه موجب ليس كدعاء غيره.
وقال مجاهد وقتادة: لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا: يا محمد، ولكن فخّموه وشرّفوه وقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله، في لين وتواضع.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي يخرجون، ومنه: تسلّل القطا مِنْكُمْ أيّها المنصرفون عن نبيّكم بغير إذنه لِواذاً أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفّة فيذهب، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذا، ولو كان مصدرا للذت لقال: لياذا مثل القيام والصيام.
وقيل: إنّ هذا في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم لواذا مختفين.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي أمره وعن صلة، وقيل: معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي قتل عن ابن عباس، عطاء: الزلازل والأهوال،
جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلّط عليهم
، الحسن: بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع عاجل في الدنيا. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عبيدا وملكا وملكا وخلقا ودلالة على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته.
قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
121
Icon