تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الأحزاب مدينة
وهي ثلاث وسبعون آية وتسع ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم*
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ : اثبت عليه، ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ نقل أن بعض قريش نزلوا على منافقي المدينة بأمان النبي –عليه السلام- وقالوا للنبي : ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل إنها تشفع لمن عبدها ندعك وربك فأخرجهم النبي عن المدينة فنزلت، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ : فهو أحق أن يطاع ويتبع،
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ : فلا تخالفوه، ومن قرأ يعملون بالياء فمعناه إنه خبير بمكائد الكفار والمنافقين فلا تبال فإنه يدفعها عنك،
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ : حافظا موكولا إليه كل أمر،
﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين لأن القلب سلطان ولا يليق بمملكة إلا سلطان واحد، ﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ ﴾ والمظاهرة مثل أن تقول : أنت كظهر أمي وفي الجاهلية بالمظاهرة تحصل الفرقة الأبدية وتصير كالأم، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب والتباعد، ﴿ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ : إن أمهاتكم إلا اللائي ولدنكم والأمهات مخدومات والزوجات خادمات، ﴿ ومَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ ﴾ : الذين تدعونهم ولدا، ﴿ أَبْنَاءكُمْ ﴾، فإن البنوة أمر ذاتي والتبني عارضي فكيف يكون هو إياه، فحاصله أنه تعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين فيفعل بأحدهما غير ما يفعل بالآخر لئلا يكون أحدهما فضلة غير محتاج إليه فيؤدي إلى اتصاف شخص بالعلم، والظن والمحبة والكراهية وغيرهما في حالة واحدة ولم ير أيضا أن تكون امرأة لرجل مخدومة وخادمة وأن يكون رجل دعيّا غير أصيل وابنا أصيلا وعن بعض السلف إن الأولين للثالث أي : كما لا يكون لرجل قلبان، ولا يصير غير الأم أُمّا كذلك لا يكون الدعي ابنا فلا تسموا زيد بن حارثة مولى النبي الذي تبناه قبل النبوة زيد بن محمد ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) [ الأحزاب : ٤٠ ]، وعن كثير من السلف إن الأول نزل في شخص يقال له ذو القلبين يقول : لي قلبين أعقل بكل، أفضل من عقل محمد، وعن بعض : لما سها عليه السلام في صلاته قال المنافقون : له قلبان، قلب معهم، وقلب معكم، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ : إشارة إلى المجموع أو إلى الأخير، ﴿ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ لا حقيقة له، ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ﴾ : المطابق للواقع، ﴿ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ : طريق الحق،
﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ﴾ انسبوهم إليهم، وفي إفراده بالذكر إشعار إلى ما نقلنا من أن الأولين للثالث، ﴿ هُوَ ﴾، راجع إلى مصدر ادعوهم، ﴿ أَقْسَطُ ﴾ من القسط بمعنى العدل، ﴿ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ ﴾ حتى تنسبوهم إليهم، ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ أي : فهم إخوانكم، ﴿ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ : وأولياءكم فيه فقولوا أخي ومولاي، ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ : إثم، ﴿ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ ﴾ : فيما فعلتموه مخطئين على النسيان أو سبق اللسان، ﴿ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ : ما تعمدت عطف على ما أخطأتم أي : وعليكم جناح فيما أو مبتدأ مقدر خبره أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ في الحديث ( ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ) وفي الحديث ( إن في القرآن المنسوخ، ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم )*،
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ : في أمور الدارين قال عمر : لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه السلام :( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال :( والله لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء حتى من نفسي )، فقال :( الآن يا عمر )، وعن بعض المفسرين معناه : النبي أولى من بعضهم ببعضهم في وجوب طاعته عليهم، ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ : في التوقير وتحريم نكاحهن على التأييد لا في النظر والخلوة والأصح أن لا يقال هن أمهات المؤمنات، وفي الشواذ وهو أب لهم، ﴿ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ ﴾ : ذوو القرابات،
﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ : في الميراث، ﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ : في حكمه، أو في اللوح المحفوظ، ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ صلة الأولى أي : هم بحق القرابة أولى بالميراث منهم بحق الإيمان والهجرة قال الزبير : أنزل الله فينا معشر قريش والأنصار خاصة وذلك لما قدمنا المدينة قدمنا ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم حتى أنزل الله فينا هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا، ﴿ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ﴾ الاستثناء منقطع أي : لكن فعلكم إلى أحبائكم معروفا جائز يعني : ذهب الميراث وبقي البر والإحسان والوصية، ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ أي : هذا الحكم في الكتاب القديمة الذي لا يبدل مسطورا وإن كان تعالى شرع خلافه في وقت لما له من الحكمة البالغة،
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا ﴾ أي : اذكره، ﴿ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ﴾ : في إقامة دينه وإبلاغ رسالته والتعاون والإنفاق، ﴿ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾، صرح بأسماء أولي العزم الخمسة من بينهم وقدم ذكر خاتم الأنبياء لشرفهم وشرفه عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ : عهدا شديدا مؤكدا،
﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾ أي : فعلنا ذلك ليسأل الله الذين صدقوا عهدهم من الأنبياء عن تبليغهم تبكيتا للكفار وقيل عن تصديقهم إياهم، ﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾، عطف على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ ﴾ يعني الأحزاب لما اجتمع المشركون وأهل الكتاب كيد واحدة لعداوة المؤمنين أمر عليه السلام بحفر الخندق بشورى سلمان فنزلوا وحاصروا المدينة قريبا من شهر، ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ﴾ أي الصبا، ﴿ وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ : من الملائكة أرسل تعالى بعد مدة من المحاصرة في ليلة مظلمة باردة ريحا صرصرا فنسفت التراب، في وجوههم وأطفأت نيرانهم، وقلعت خيامهم فماجت خيولهم بعضها ببعض فقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانبهم فارتحلوا خائفين خائبين، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ : من حفر الخندق، ﴿ بَصِيرًا ﴾
﴿ إِذْ جَاؤُوكُم ﴾ بدل من جاءتكم، ﴿ مِّن فَوْقِكُم ﴾ : من أعلى الوادي من قبل المشرق، ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ : من قبل المغرب، ﴿ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ ﴾ مالت أبصار المسلمين عن سنتها حيرة لشدة الأمر، ﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ﴾ : رعبا وهذا مثل في الاضطراب، قيل : إذا انتفخت الرئة من فزع أو غضب ارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم، ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾، حتى قال بعض المنافقين : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر والآن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، والألف زيدت تشبيها للفواصل بالقوافي،
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ : اختبروا فظهر المخلص من المنافق، ﴿ وَزُلْزِلُوا ﴾ : أزعجوا، ﴿ زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾
﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ شبهة لم تطمئن قلوبهم على الإيمان، ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ : وعدا لا وفاء له،
﴿ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ ﴾ وهم المنافقون :﴿ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ﴾ كان اسما للمدينة أي : أهل المدينة، ﴿ لَا مُقَامَ لَكُمْ ﴾ : لا موضع قيام لكم هاهنا أي عند النبي المصطفى في مقام المرابط، ﴿ فَارْجِعُوا ﴾ : إلى بيوتكم، ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ﴾ للرجوع فإنه كان عليه السلام خارجا من المدينة بحيث أسند المسلمون ظهورهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو والخندق بينهم، ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ : غير حصينة نخاف عليها السراق، ﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ﴾ : فإنها حصينة، ﴿ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ : من القتال،
﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ﴾ يعني : لو دخلت هذه العساكر المدينة من جوانبها، ﴿ ثُمَّ سُئِلُوا ﴾ : سألت هذه العساكر من قال إن بيوتنا عورة، ﴿ الْفِتْنَةَ ﴾ : الردة ومحاربة المسلمين، ﴿ لَآتَوْهَا ﴾ لأعطوها، ﴿ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ﴾ : بالفتنة، ﴿ إِلَّا يَسِيرًا ﴾ : تلبثا يسيرا قدر سؤال وجواب فأسرعوا الإجابة،
﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ ﴾ : من قبل تلك المحاربة، ﴿ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَار ﴾ : لا يفرون من الزحف، ﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مسئولا ﴾ : عن الوفاء به،
﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ﴾ فإنه لا بد لكل من الموت حتف أنفه أو قتل في وقت معين، ﴿ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ ﴾ : بعد الفرار، ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ : زمانا قليلا يعني : لو فرضتم أنه ينفعكم لا ينفعكم إلا قليلا،
﴿ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا ﴾ : مصيبة، ﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ ﴾ عطف على من ذا تقديره أو من ذا الذي يصيبكم بسوء إن أراد بكم، ﴿ رَحْمَةً ﴾ أو عطف على أرادوا العصمة بمعنى المنع مجازا ولا حذف، ﴿ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ﴾ : ينفعهم، ﴿ وَلَا نَصِيرًا ﴾ : يدفع ضرهم،
﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ﴾ : الذين يعوقون المسلمين عن معاونة النبي –عليه السلام-، ﴿ مِنكُمْ ﴾، وهم المنافقون، ﴿ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ ﴾ من ساكني المدينة، ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ : قربوا أنفسكم إلينا فنحن في ظلال وثمار وراحة في بيوتنا، عن مقاتل : أرسلت اليهود إلى المنافقين فخوفوهم وقالوا : هلموا إلينا والمنافقون كانوا يخوفون المؤمنين يقولون انطلقوا معنا إلى إخواننا، أي : اليهود، ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ ﴾ : الحرب مع المؤمنين، ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ : يخرجون ولا يبارزون إلا شيئا قليلا، أو معناه لا يحضرون إلا زمانا قليلا ثم يعتذرون ويرجعون قيل هذا من تتمة قولهم يعني : الذين قالوا لإخوانهم هلموا إلينا، والمؤمنون لا يحاربون الكفار إلا زمانا قليلا فيغلبون،
﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ بخلاء بالشفقة أو بالنفقة أو في الغنائم نصب على الحال من فاعل لا يأتون وهو حال من ضمير القائلين أو هما حالان من ضمير القائلين :﴿ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ ﴾ : وقت الحرب، ﴿ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ﴾، في أحداقهم، ﴿ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ ﴾ أي : كدوران عين من يغشى عليه، ﴿ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ : من معالجة سكراته، ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم ﴾ : ضربوكم، ﴿ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ : لأجل الغنيمة وغيرها، ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ بخلاء على الغنيمة، أو ليس فيهم خير فهم جمعوا بين البخل والجبن وقلة الحياء وعدم الوفاء، ﴿ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ : أبطل جهادهم وصلاتهم وصيامهم ومثل ذلك، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ : الإحباط، ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ : هينا، وهذا كما في الحديث ( ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي واد أهلكه )*،
﴿ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾ : يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا، ﴿ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ ﴾ : كرة ثانية مع ما رأوا من كيفية فرارهم وعدم ظهورهم وقرارهم، ﴿ يَوَدُّوا ﴾ : تنموا، ﴿ لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ ﴾ : خارجون إلى البدو، ﴿ فِي الْأَعْرَابِ ﴾ : حاصلون فيهم، ﴿ يَسْأَلُونَ ﴾ : الناس، ﴿ عَنْ أَنبَائِكُمْ ﴾ يعني : يتمنون إن لم يكونوا بينكم ويسألوا الناس عما جرى عليكم، ﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم ﴾، هذه الكَرّة ولم يفرّوا ولم يرجعوا إلى المدينة، ﴿ مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ : رياء.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ : هو من باب التجريد جرد من نفسه الزكية شيئا يسمى قدوة يقتدي به سيما في مقاساة الشدائد وثبات القلب في الحرب، ﴿ لِّمَن كَانَ ﴾ صلة لحسنة لا لأسوة لأنها قد وصفت أوصفة لها أو بدل بعض من لكم، ﴿ يَرْجُو اللَّهَ ﴾ أي : لقائه، ﴿ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ أي : نعيمه أو يخاف عذابهما، ﴿ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾
﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ عن ابن عباس وغيره يعنون قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ]، ﴿ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ : في الوعد، ﴿ وَمَا زَادَهُمْ ﴾ ذلك البلاء والضيق، ﴿ إِلَّا إِيمَانًا ﴾ بالله، ﴿ وَتَسْلِيمًا ﴾ : انقيادا لأوامره،
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ فثبتوا وقاتلوا، ويقال : صدقه الحديث أي : قال له الصدق في الحديث والعاهد إذا وفى بالعهد فكأنه قال له الصدق، ﴿ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ﴾، النحب : المدة أي : استشهد كحمزة وأنس بن النضر، ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ﴾ أي : الشهادة، كعثمان –رضي الله عنهم- أو معناه، ومنهم من قضى نذره فإن أنس بن النضر لما غاب عن غزوة بدر نذر وقال : لئن أراني الله مشهدا فيما بعد ليرين الله ما أصنع، فقاتل يوم أحد حتى قتل، ووجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية*، ﴿ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ : ما غيروا العهد شيئا من التبديل، والتغيير فيه تعريض على المنافقين بالتبديل،
﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾، اللام متعلق بمعنى قوله :﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب ﴾ كأنه قال : إنما ابتلاهم الله برؤية هذا الخطب ليجزي الصادقين، ويعذب المنافقين، أو متعلق بما بدلوا مع ما يفهم منه بالتعريض، كأنه قال : ما بدل المؤمنون وبدل المنافقون ليجزي، الآية، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ : فيقبل توبة من تاب،
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي : الأحزاب، ﴿ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ﴾ هما حالان أي : المتغيظين غير ظافرين، ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ بالريح والملائكة، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا ﴾ على إيجاد ما شاء، ﴿ عَزِيزًا ﴾ : غالبا مطلقا،
﴿ وَأَنزَلَ ﴾ الله، ﴿ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم ﴾ : عاونوا الأحزاب، ﴿ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ يعني : بني قريظة نقضوا عهد رسول صلى الله عليه وسلم مع أن آباءهم نزلوا الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأمي المكتوب في التوراة، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ﴿ مِن صَيَاصِيهِمْ ﴾ : حصونهم، ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ : الخوف، ﴿ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ : رجالهم، ﴿ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾ : نساءهم وذراريهم، ولما انهزمت الأحزاب رجع رسول الله إلى المدينة، وكان على ثناياه نقع الغبار جاء جبريل وقال : أو قد وضعت السلاح ؟ ! لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، أخرج إلى بني قريظة، وقاتلهم فخرجوا إلى حصونهم وحاصروهم خمسة وعشرين ليلة ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم وتقسيم أموالهم،
﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ﴾ : مزارعهم، ﴿ وَدِيَارَهُمْ ﴾ : حصونهم، ﴿ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾، من النقود والمواشي، ﴿ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا ﴾ : خيبر أو مكة أو فارس والروم، أو كل أرض تفتح إلى القيامة، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ : السعة والمال، ﴿ وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ : أعطكن متعة الطلاق، ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾ : أطلقكن، ﴿ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ : طلاقا من غير ضرار،
﴿ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ ﴾ من : للتبيين ﴿ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ يستحقر دونه الدنيا برمتها، نزلت حين سألن ثياب الزينة، وزيادة النفقة بغيرة بعضهن على بعض، فلما نزلت بدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ثم خير سائرهن فاخترن كما اختارت، وأكثر أهل العلم على أنه لم يكن تفويض الطلاق فلم يقع بنفس الاختيار، بل لو اخترن الدنيا طلقهن، ثم الأكثرون على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لا يقع شيء ولو اختارت نفسها يقع واحدة رجعية عند الشافعي بائنة عند أبي حنفية،
﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ﴾ : كبيرة، ﴿ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ : ظاهر قبحها، عن ابن عباس هي النشوز وسوء الخلق، ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ : ضعفي عذاب غيرهن، فإن الذنب أقبح من العارفين والشرط لا يقتضي الوقوع قال تعالى :﴿ قل إن كان للرحمن ولد ﴾ [ الزخرف : ٨١ ]، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ هيّنا، لا ينظر إلى كونهن نساء نبيه، بل هو السبب
﴿ وَمَن يَقْنُتْ ﴾ : يطع، ﴿ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ : مثلي ثواب غيرها، وتعمل بالتاء وبالياء محمول على معنى من وعلى لفظه، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾، في أعلى عليين من الجنة،
﴿ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء ﴾ أي : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، وأصل أحد وحد بمعنى : واحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه التذكير والتأنيث والواحد وما وراءه، ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾ : راعيتن التقوى، ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ : لا تكلمن كلاما لينا خنثا، يعني لابد لكن من الغلظة في المقالة مع الأجانب، ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ : فجور أو نفاق، ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴾ يرتضيه الدين والإسلام من غير خضوع،
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ من وقر أو من قر، والأمر منه اقرُرن أو اقرَرن حذفت الأولى من الرائين بعد نقل حركتها إلى ما قبلها كظلن وظللن، ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ ﴾ التبرج : إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، ﴿ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ : جاهلية الكفر، والجاهلية الأخرى : جاهلية الفسوق في الإسلام، أو الأولى لا أخرى لها كما قيل في أهلك عادا الأولى، أو الأولى : زمن داود وسليمان أو زمن نمروذ، فإن المرأة تلبس درعا من لؤلؤ وتخرج عارضة نفسها على الرجال، ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ في جميع ما أمركن ونهاكن، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ﴾ : خبائث القلب، أو ما ليس لله فيه رضا، ﴿ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ نصب على النداء أو على المدح، ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ ﴾ عن الذنوب، ﴿ تَطْهِيرًا ﴾ في مسلم ( إن عليا وفاطمة وحسنا وحسينا جاءوا فأدخلهم النبي عليه السلام في كساء من شعر أسود كان عليه، ثم قال :( إنما يريد الله ليذهب عنكم ) الآية، وفي مسند الإمام أحمد وغيره بروايات عن أم سلمة :( أنه عليه السلام كان في بيتها، فجاء علي وفاطمة وابناهما وجلس عنده على كساء خيبري فأنزل الله هذه الآية، فأخذ فضل الكساء وغطاهم به ثم أخرج يده وألوى إلى السماء، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم، وطهرهم تطهيرا، قالت : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله، فقال :( إنك إلى خير، إنك إلى خير )، والأحاديث التي هي أصح في هذا المعنى كثيرة، والأصوب أن أزواجه المطهرات من أهل بيته، وإذا كان أزواجه من أهل بيته فهؤلاء أحق وأولى بهذه التسمية، وهذا مثل ما نقلنا في آية ﴿ لمسجد أسس على التقوى ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ]،
﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ أمرهن أن لا ينسين النعمة الجليلة القدر، وهي ما يتلى في بيوتهن من الكتاب الجامع بين أمرين، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ فلذلك خيركن ووعظكن.
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ﴾ : المنقادين لأمر الله، ﴿ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ ﴾ : المصدقين بما يجب التصديق به، ﴿ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ ﴾ : المداومين على الطاعة، ﴿ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ ﴾ في جميع الأحوال، ﴿ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ ﴾ : على المصائب، ﴿ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ ﴾ : المتواضعين لله، ﴿ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ : المحسنين إلى الناس، ﴿ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ ﴾ عن سعيد بن جبير من صام بعد الفرض ثلاثة أيام من كل شهر دخل في الصائمين، ﴿ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ ﴾ عن الحرام، ﴿ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ في الحديث ( من أيقظ امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات )، ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً ﴾، لذنوبهم، ﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ عن أم سلمة أنها قالت :( قلت يا نبي الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فنزلت )،
﴿ وَمَا كَانَ ﴾ : ما صح، ﴿ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ أي : أن يختاروا من أمر الله ورسوله ما شاءوا، بل يجب عليهم اتباع اختيار رسول الله وترك رأيهم، وجمع ضمير لهم علي المعنى ؛فإن المؤمن والمؤمنة وقعا تحت النفي، ﴿ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾ لما خطب النبي عليه السلام زينب بنت جحش ابنة عمته لمولاه زيد بن حارثة فامتنعت نزلت ثم أجابت،
﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ : بالإسلام، ﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ : بالعتق وهو زيد اشتراه في الجاهلية وأعتقه وتبناه، ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ زينب حين قال : أريد أن أطلقها، ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ فيها ولا تطلقها، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ أي : شيئا الله مظهره، وهو علمه بأن زيدا سيطلقها وهو ينكحها، فإن الله قد أعلمه بذلك أو ميل قلبه إليها وإلى طلاقها، فإن نفسه الأقدس مالت إليها بعد أن تزوجها زيد*، ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ : تكره قالتهم وتعييرهم، ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ فلا تأمر بما تعلم يقينا أنه لا يتم، أو فلا تظهر بلسانك ما تحب بقلبك غيره، فإن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتساوي الظاهر والباطن، ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا ﴾ : حاجة، ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ بعد طلاقها وانقضاء عدتها بلا ولي من بشر ولا شاهد ولا مهر، ولهذا تقول افتخارا : زوجني الله من فوق سبع سماوات والسفر جبريل، ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾ بالنبوة، ﴿ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ أي : دخلوا عليهن، قيل قضاء الوطر : كناية عن الطلاق يعني لئلا يظن أن حكم الأدعياء حكم الأبناء، فإنه جاز أن يتزوج موطوءة دعيه، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ ﴾ : قضاءه، ﴿ مَفْعُولًا ﴾ : مكونا لا محالة،
﴿ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ : قدر وقسم له، ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ ﴾ : سن ذلك سنة، ﴿ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ﴾ من الأنبياء أي : كثرة الأزواج سنة الأنبياء وطريقتهم من قبل، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ﴾ : قضاءه قضاء مقضيا،
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾، صفة مادحة للذين خلوا، ﴿ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ فلا يمنعهم شيء من الإبلاغ بوجه فيه تهييج، بأن يسلك هو عليه السلام طريقتهم، ولذلك قالت عائشة : لو كتم محمد عليه السلام شيئا من الوحي لكتم ( وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه )، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ : كافيا للمخاوف،
﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ حتى يثبت بينه وبينه، ما بين الوالد والولد من حرمة المصاهرة وغيرها، والمراد ولده لا ولد ولده، وأما قاسم وإبراهيم وطاهر مع أنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال، فما كانوا من رجالهم، ﴿ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ ﴾ أي : ولكن كان رسول الله، ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ : آخرهم، وعيسى عليه السلام ينزل بدينه مؤيدا له، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ فهو أعلم حيث يجعل رسالته.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾، في الحديث ( أكثروا ذكر الله حتى يقال مجنون* )، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما فرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر،
﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً ﴾ : أول النهار، ﴿ وَأَصِيلًا ﴾ وآخره خصوصا، وعن بعض : المراد صلاة الصبح والعصر أو العصر والعشائين
﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ : يتعطف الله وملائكته عليكم ويترحمون، فإن استغفارهم تعطف سيما وهم مستجابوا الدعوة، ﴿ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ : من ظلمات الكفر والمعاصي، ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ : نور الإيمان والطاعة، { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
تَحِيَّتُهُمْ } إضافة المصدر إلى المفعول، ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ في الجنة أو عند الموت، ﴿ سَلَامٌ ﴾ أي : يسلم الله عليهم وعن قتادة تحية بعضهم بعضا في الدار الآخرة ( سلام )، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ : الجنة ونعيمها،
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ﴾ لله بالوحدانية أو على الناس بأعمالهم في القيامة، وهو على الثاني حال مقدرة، ﴿ وَمُبَشِّرًا ﴾ للمؤمنين، ﴿ وَنَذِيرًا ﴾، للكافرين،
﴿ وَدَاعِيًا ﴾ للخلق، ﴿ إِلَى اللَّهِ ﴾ : إلى توحيده وطاعته، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ : بتيسيره قيد الدعوة به، إيذانا بأنه أمر صعب لا يتيسر إلا بإعانته، ﴿ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴾ : بينا أمره يستضاء به عن الجهالة،
﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ عطف على محذوف، مثل : فراقب أحوال الناس، وصفه بخمسة أوصاف وحذف مقابل الأول لأن الباقي كالتفصيل له، فيكون وبَشّرْ في مقابلة مبشرا، ﴿ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ كتضعيف الحسنات،
﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ دم واثبت على ما أنت عليه، وهو مع قوله، ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ مقابل لنذيرا أي : دع إيذاءهم إياك اصبر عليها ولا تغتم به، أو إيذاءك إياهم ولا تجازيهم، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ مقابل لداعيا، فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ : موكولا إليه الأمور وهو مقابل لسراجا فإن من جعله برهانا جدير بأن يكتفي به، وجاز أن يكون دع في مقابلة داعيا، فإن الداعي للخلائق لابد له من الصبر، والمواساة حتى يتم له الأمر، وتوكل في مقابلة سراجا وكفى بالله تأييد وتأكيد للتوكل،
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ﴾ تجامعوهن ﴿ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ﴾ تستوفون عددها، وقوله :( المؤمنات ) تحريض على نكاحهن وظاهر الآية إن العدة بعد الجماع لا بمجرد خلوة، وأن الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور السلف ( فمتعوهن ) بنصف الصداق إن كان لهن صداق، وإلا فالمتعة على قدر حاله، وعن بعض المتعة غير النصف وهو أمر ندب، وعن بعض أمر وجوب، ﴿ وسرّحوهن سراحا جميلا ﴾ من غير ضرار ومنع حق،
﴿ يا أيهاالنبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ﴾ مهورهن وتعجيل إعطاء المهر سنة ﴿ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ﴾ مما غنّمك الله من دار الحرب ﴿ وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك ﴾ لا كالنصارى فإنهم لا يتزوجون امرأة بينه وبينها سبعة أجداد، ولا كاليهود يتزوج أحدهم ابنه أخيه وأخته ﴿ اللاتي هاجرن معك ﴾ إلى المدينة لا يحل له غير المهاجرات، وعن بعض معناه : اللاتي أسلمن، ﴿ امرأة مؤمنة ﴾ دون غيرها نصبها بأحللنا لأن معنى أحللنا قضينا أو علمنا حلها، فلا ينافي الماضي الشرط المستقبل، أو نقول أحللنا جواب الشرط بحسب المعنى والحقيقة، فهو أيضا مستقبل، ﴿ إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ﴾ أي : طلب نكاحها يعني هبتها نفسها منه لا توجب حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول عدل إلى الغيبة ثم إلى الخطاب بقوله ﴿ خالصة لك من دون المؤمنين ﴾ للإيذان بأنه مما يخص به لشرف النبوة والخطاب أدخل في التخصيص، والاسم في التعظيم والأصح أنه ينعقد في حقه السلام بلفظ الهبة من غير ولي وشهود ومهر، وعند بعض لا ينعقد في حقه أيضا إلا بلفظ الإنكاح واختصاصه في ترك المهر فقط، ونصب خالصة على المصدر المؤكد لمضمون جملة امرأة مؤمنة الخ، أو على الحال من ضمير ( وهبت ) أو تقديره : هبة خالصة لك، ﴿ قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ﴾ من حصرهم في أربع نسوة واشتراط عقد ومهر وشهود، ﴿ وما ملكت أيمانهم ﴾ من توسيع الأمر فيها، ﴿ لكيلا يكون عليك حرج ﴾ متعلقة خالصة أي اختصصتك بأشياء في التزوج لئلا يكون عليك ضيق فقوله :﴿ قد علمنا ﴾ إلى ﴿ أيمانهم ﴾ معترضة بين خالصة ومتعلقها، ﴿ وكان الله غفورا ﴾ للزلات، ﴿ رحيما ﴾ بالتوسعة،
﴿ تُرجي ﴾ : تؤخر، ﴿ من تشاء منهن ﴾ : من نسائك ومن الواهبات، ﴿ وتُئوي ﴾ : تضم ﴿ إليك من تشاء ﴾ : من نسائك والواهبات، يعني : أنت بالخيار في أمرهن قد حط عنك القسم فلا يجب عليك بعد، وفي أمر الواهبات إن شئت قبلت وإن شئت رددت، ﴿ ومن ابتغيت ﴾ طلبت وأردت إصابتها، ﴿ ممن عزلت ﴾ : من النساء اللاتي عزلتهن عن القسمة، ﴿ فلا جناح عليك ﴾ في ذلك، ﴿ ذلك ﴾التفويض مشيئتك من غير وجوب القسم، ﴿ أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ﴾أي : أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا، فإنه إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا فرحن به، وحملن جميلتك في ذلك واعترفن بعد ذلك وكمال إنصافك في قسمك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بفسحة من الله لك ورضاه فتطمئن نفوسهن، وعن بعض معناه تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، ومن ابتغيت ممن طلقت بالرجعة فلا إثم، والتفويض إلى رأيك أقر لرضاهن، لأنك لو لم تطلقهن حملن في ذلك جميلتك " وكلهن " تأكيد لفاعل ''يرضين'' ﴿ والله يعلم ما في قلوبكم ﴾ من الميل إلى بعضهن مما لا يمكن دفعه، ﴿ وكان الله عليما حليما ﴾ فلا يؤاخذكم بما في قلوبكم
﴿ لا يحل لك النساء من بعد ﴾ من بعد هؤلاء التسع فلا يجوز لك العشرة فما فوقها، ﴿ ولا أن تبدل بهنّ من أزواج ﴾ : بأن تطلق واحدة من هؤلاء وتتزوج بدلها أخرى، ﴿ ولو أعجبك حسنهن ﴾ أي : مفروضا إعجابك بهن، حال من فاعل تبدل، وعن كثير من السلف : لما خيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة كما تقدم جازاهن الله بتحريم التزويج لغيرهن، ثم نسخ حكم هذه الآية كما دل عليه الأحاديث الصحاح وأباح له التزوج أي عدد أراد لكن لم يقع منه بعد ذلك لتكون المنة له عليه السلام وعن بعض معناه : لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة التي مر ذكرها في قوله :''إنا أحللنا'' الآية، فلا يحل له عربية غير بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، ولا غير مهاجرة وإن كانت قريبة، ولا غير مؤمنة فقولة'' ولا أن تبدل بهن'' على هذا تأكيد بخلافه في المعنى الأول، ﴿ إلا ما ملكتيمينك ﴾ استثناء متصل من النساء المتناول للأزواج والإماء، أو منقطع، ﴿ وما كان الله على كل شيء رقيبا ﴾ فلا تتخطوا عما حد لكم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ﴾ أي : إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا، أو إلا بأن يؤذن لكم، ﴿ إلى طعام ﴾ متعلق بيؤذن لتضمينه معنى يدعى، ﴿ غير ناظرين إناه ﴾ : غير منتظرين إدراكه أو وقته، حال من ضمير لكم نهى عن جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد يعني : لا ترقبوا طبخ الطعام حتى إذا قارب الاشتواء تعرضوا للدخول فإنه مذموم، ﴿ ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ﴾ : اخرجوا من بيته ولا تمكثوا فيه ﴿ ولا مستأنسين لحديث ﴾ أي : لحديث بعضكم بعضا عطف على ناظرين، ﴿ إن ذلكم ﴾ المكث، ﴿ كان يؤذي النبي فيستحيي منكم ﴾ : من إخراجكم، ﴿ والله لا يستحيي من الحق ﴾ أي : الله لا يمتنع ولا يترك الحق ترك الحيي منكم، يعني : إن إخراجكم حق ينبغي أن لا يستحيي منه، نزلت حين تزوج زينب، وأو لم، فلما طعموا جلس ثلاثة منهم متحدثين، فخرج عليه السلام من منزله ثم رجع ليدخل وهم جلوس، وكان عليه السلام شديد الحياء فرجع، ﴿ وإذا سألتموهن متاعا ﴾ : حاجة ﴿ فاسألوهن ﴾ المتاع، ﴿ من وراء حجاب ﴾، أي : ستر هذه آية الحجاب نزلت في ذي القعدة من السنة الخامسة أو الثالثة من الهجرة، ﴿ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ﴾ من وساوس الشيطان والريبة، ﴿ وما كان ﴾ : ما صح ﴿ لكم أن تؤذوا رسول الله ﴾ بوجه، ﴿ ولا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ﴾ نزلت في رجل من الصحابة هم أن ينكح بعض نسائه إن قبض، واختلف في المطلقة بعد الدخول، هل تحل ؟ على قولين، أما مطلقته قبيل الدخول فلا نزاع في حلها، ﴿ إن ذلكم ﴾ إيذاءه ونكاح نسائه، ﴿ كان عند الله عظيما ﴾
﴿ إن تبدوا شيئا ﴾ كنكاحهن على ألسنتكم، ﴿ أو تخفوه ﴾ في صدوركم، ﴿ فإن الله كان بكل شيء عليما ﴾، قيل : لما نزلت آية الحجاب قال رجل : ما لنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزل قوله تعالى :﴿ إن تبدو شيئا ﴾ الآية،
﴿ لا جناح ﴾ لا إثم، ﴿ عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ﴾ أي : في ألا يحتجبن من هؤلاء سئل عكرمة والشعبي : عن سبب ترك ذكر العم والخال ؟ فقالا : لأنهما يصفانها لبنيهما، وقيل : لأنهما بمنزلة الوالدين فلا حاجة، ﴿ ولا نسائهن ﴾ أي : المؤمنات، ﴿ وما ملكت أيمانهن ﴾ : من العبيد والإماء، وقد مر بسطه في سورة النور، ﴿ واتّقين الله ﴾ في السر والعلانية، ﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ لا يخفى عليه شيء
﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ : يترحمونه ويعظمونه، ﴿ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ﴾ قولوا : اللهم صل على محمد وسلم،
﴿ إن الذين يؤذون الله ﴾ فينسبون إليه ما لا يليق بكبريائه كقولهم :''يد الله مغلولة'' ( المائدة : ٦٤ ) ﴿ ورسوله ﴾ بالطعن فيه وفيما يتعلق به، أو المراد من إيذائهما فعل ما يكرهانه، ﴿ لعنهم الله ﴾ : أبعدهم من رحمته، ﴿ في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ﴾ يعني : عذابا جسديا وروحانيا،
﴿ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ﴾ :
بغير جناية واستحقاق للأذى، ﴿ فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ﴾ عن مقاتل : نزلت في الذين يؤذون علي ابن أبي طالب، ويسبونه، وفي الترمذي ''قيل : يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال :( ذكرك أخاك بما يكره ) قال : أفرأيت إن كان فيه ما أقول ؟ قال :( إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته* ) .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ الجلباب : رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل، يعني يرخينها عليهن ويغطين وجههن وأبدانهن، ﴿ ذلك أدنى ﴾ : أقرب، ﴿ أن يعرفن ﴾ أنهن حرائر ويميزن من الإماء، ﴿ فلا يؤذين ﴾ بالتعرض لهن، كان ناس من الفساق يعترضن للإماء حين كانت تخرجن في الليالي، فأمرت الحرائر بإرخاء الجلباب لتتميز الحرائر من الإماء، ﴿ وكان الله غفورا ﴾ لما سلف من ترك التستر، ﴿ رحيما ﴾ بعباده حيث يأمرهم بجزئيات مصالحهم،
﴿ لئن لم ينته المنافقون ﴾ : عن نفاقهم، ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ : ضعف إيمان، وهم الزناة عن فجورهم، ﴿ والمرجفون ﴾ : المخبرون على غير حقيقة عن فعلتهم، ﴿ في المدينة ﴾ وهم الذين يخبرون عن سرايا المسلمين بأخبار سوء، ﴿ لنغرينك بهم ﴾ : نسلطنّك عليهم ونأمرنّك بقتالهم، ﴿ ثم لا يجاورونك فيها ﴾ : في المدينة عطف على لنغرينك بثم، كأنه قال : لئن لم ينتهوا ليحصل لهم خطبان، عظيمان الثاني أعظم عليهم فإن الجلاء من الأوطان أعظم المصائب، ﴿ إلا قليلا ﴾ : زمانا قليلا وذلك بأن يضطروا إلى الجلاء،
﴿ ملعونين ﴾ نصب على الذم، وقيل : حال من فاعل يجاورون بأن دخل إلا على الظرف والحال معا يعني : لا يجارون في زمن من الأزمنة وفي حال من الأحوال إلا قليلا ملعونين وفيه ضعف، ﴿ أينما ثقفوا ﴾ وجدوا، ﴿ أخذوا وقُتّلوا تقتيلا ﴾وهذا الحكم فيهم على جهة الأمر، وكأن المنافقين والفجار والمرجفين كانوا قوما واحدا هم المنافقون، ذكرهم الله بثلاث خصائلهم*
﴿ سنّة الله ﴾ أي : سن الله سنته، ﴿ في الذين خلوا من قبل ﴾ في الذين ينافقون الأنبياء، أن يقتلوا حيث وجدوا، ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ : تغييرا، فإنه لا يغير سنته،
﴿ يسألك الناس عن الساعة ﴾ : عن وقت قيامها ؟ ﴿ قل إنما علمها عند الله ﴾ لم يطلع عليه أحدا، ﴿ وما يدريك ﴾ : أي شيء يعلمك وقتها، ﴿ لعل الساعة تكون قريبا ﴾، تذكير قريبا لأن الساعة بمعنى اليوم، أو لأنه صفة محذوف، أي : شيئا أو زمانا قريبا، أو لأنه بوزن فعيل الذي يستوي فيه الصيغ،
﴿ إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ﴾ : نارا شديدة الإيقاد،
﴿ خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ﴾ : يحفظهم، ﴿ ولا نصيرا ﴾
﴿ يوم تقلب وجوههم في النار ﴾ : تصرف من جهة إلى جهة كلحمة تدور في القدر إذا غلت، أو المراد طرحها في النار مقلوبين منكوسين ﴿ يقولون ﴾ هو ناصب يوم :﴿ يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ﴾
﴿ وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ﴾ هم الذين لقنوهم الكفر، ﴿ فأضلونا السبيلا ﴾
﴿ ربنا آتهم ضعفين من العذاب ﴾ أي : من عذابنا، أو من هذا العذاب الذي عذبتهم به، فإنهم أحقاء لزيادة العذاب، ﴿ وألعنهم لعنا كبيرا ﴾ هو أشد اللعن وأعظمه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ﴾ حين نسبوه إلى برص وأدرة لفرط تستره حياء، أوحين نسبوه إلى قتل أخيه هارون، ﴿ فبرّأه الله مما قالوا ﴾، بأن أظهر براءته من مضمون مقولهم مؤداه بمعجزة، ﴿ وكان عند الله وجيها ﴾ ذا وجاهة ومنزلة،
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ﴾ : قاصدا إلى الحق عدلا صوابا،
﴿ يصلح لكم أعمالكم ﴾ بالقبول يعني يتقبل حسناتكم أو يوفقكم للأعمال الصالحة، ﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ فإن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير، ﴿ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾، أظفر بالخير كله،
﴿ إنا عرضنا الأمانة ﴾، الطاعة والفرائض، ﴿ على السموات والأرض والجبال ﴾، بأن قلنا لهن، هل تحملن الأمانة وما فيها ؟ قلن بعد أن أنطقهنالله : وأي شيء فيها ؟ قلنا : إن أحسنتن أثبناكن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن : لا طاقة لنا ولا نريد الثواب، ﴿ فأبين أن يحملنها وأشفقن ﴾ : خفن، ﴿ منها وحملها الإنسان ﴾ : آدم لما عرضنا عليه، ﴿ إنه كان ظلوما ﴾ لنفسه بتحمله ما يشق عليها، ﴿ جهولا ﴾ بوخامة عاقبته، عن كثير من السلف : ما كان بين قبول الأمانة، وبين خطيئته إلا قدر ما بين العصر إلى الليل، ذكر الزجاج وبعض العلماء أن الأمانة في حق السماوات والأرض والجبال الخضوع والانقياد لمشيئة الله وإرادته، وفي حق بني آدم الطاعة والفرائض، ومعنى ''أبين أن يحملنها'' على هذا : أدين الأمانة ولم يخن فيها، وخرجن عن عهدتها، وحملها الإنسان خان فيها وما خرج عن عهدتها، يقال : فلان حامل الأمانة ومحتملها، أي لا يؤديها إلى صاحبها، وقد نقل عن الحسن مثل ذلك، والظلومية والجهولية باعتبار الجنس، قال الإمام الرازي : أي من شأنه الجهل والظلم، كما تقول : الماء طهور والفرس جموح،
﴿ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ﴾ تعليل للعرض يعني عرضناها ليظهر نفاقهم فيعذبهم ويظهر إيمانهم فيتوب عليهم، ويعود بالرحمة والغفران عليهم إن حصل منهم تقصير وللإشارة إلى تقصير الأكثرين، قال :''ويتوب الله'' أو تعليل للحمل واللام للعاقبة، ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ حيث يقبل التوبة ويثيب.
والحمد لله على لطفه وفضله.