في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ماهو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن، وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة، و ما روي من ظروف نزولها يسوغ القول : إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي صلى الله عليه وسلم يدل فحواه، وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبني زيد، ولابد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات ؛ لأن في السورة آية تحرم على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته. ولقد ذكرت الروايات أن النبي صلى الله علي وسلم تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة ؛ حيث يسوغ هذا القول : إن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده ؛ لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة متبنيه كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور.
ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا ؛ لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر، وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية.
هذا، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين : " أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن ". وقد روى المفسر النسفي :" أن أبي بن كعب سأل أبا ذر : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قال ثلاثا وسبعين فقال : والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ". ولقد قرأنا منها آية الرجم ( الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ). وقد حمل النسفي- راوي الحديث- كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي، غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.
والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا، ولا يعقل أن يهمل اعتراضها.
ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثير من السورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
في الآيات : نداء موجه إلى النبي يؤمر فيه بتقوى الله وعدم إطاعة الكافرين والمنافقين والاستجابة إلى ما يقولونه، واتباع وحي الله فقط والاتكال عليه وحده. فالله أعلم بمقتضيات الأمور ولا يأمر إلا بما فيه الحكمة والصواب. وهو الخبير بكل ما يفعله الناس. وهو نعم الكافي لمن توكل عليه.
تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة
لقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت بمناسبة قدوم وفد من قريش فيهم أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل إلى المدينة بأمان من النبي فنزلوا على عبد الله بن أبي، ثم ذهبوا معه إلى النبي فطلبوا منه الموادعة، ويدع آلهتهم بدون سب وعقائدهم بدون تسفيه ويدعونه وشأنه، فأثار ذلك عمر واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم فقال له : إني أعطيتهم أمانا. ورووا كذلك أنها نزلت في وفد ثقيف الذي طلب من النبي أن يمتعهم باللات والعزى سنة حتى تعلم قريش منزلة ثقيف عنده.
والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ أن الآيات التي تلي هذه الآيات قد نزلت في صدد وقعة الأحزاب التي كانت نتيجة لزحف عظيم من قبل قريش وحلفائها على المدينة لاستئصال شأفة النبي. ومن المتحمل أن تكون آيات وقعة الأحزاب قد وضعت في موضعها القريب من هذه الآيات بسبب تناسب الظروف. وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون وفد من قريش قد قدم إلى المدينة في هذا الظرف لعرض الموادعة على النبي مما روته الرواية الأولى. إلا أن يقال : إن أبا سفيان قدم لاستطلاع أحوال النبي والمسلمين مع استبعادنا لذلك نظرا لحالة العداء الشديدة القائمة بين النبي والمسلمين من جهة وبين أهل مكة أو زعمائها المشركين من جهة ثانية. ولقد كان ما ذكرته الرواية الثانية في السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة بعام٢ فليس لذكره محل في مطلع سورة يرجع أنه نزل في وقت مبكر من العهد المدني.
والذي يتبادر لنا أن الآيات إما أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه.
( ٢ ) أدعياءكم : كناية عن الأبناء بالتبني.
في هاتين الآيتين :
١- نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له بمجرد تبينه. وبأن هذا ليس من الحق والصدق في شيء. وهو مردود على أصحابه. وبأن الله يقرر الحق والصدق ويهدي إلى سبيلهما.
٢- وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحق والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى.
٣- وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم.
تعليق على الآية
﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ... ﴾الخ والآية التالية لها
روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون : إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم أو تكذيبا لرجل كان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد.
رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها :" قيل لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية١.
ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربة الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة المظاهر لا تكون أمه، ووالد المتبنى لا يكون أباه الحقيقي ؛ لأنه لا يكون للإنسان أمان ولا ولدان. وهذا يفيد أن حديث ابن عباس لم يثبت عند الزهري ومقاتل. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا ؛ لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة.
ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بين الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بين هنا ؛ حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك.
وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخفية مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك ؛ حيث روى أن هذا قال : إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنى النبي صلى الله عليه وسلم التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة.
ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقديره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه.
وحملة ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ( ٤ ) ﴾ وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو الحق، وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحق والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير.
تقليد الظهار في الجاهلية
وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته ؛ حيث يقول لها : أنت علي كظهر أمي.
وكان الأزواج يعمدون إلى ذلك إذا كرهوا زوجاتهم أو كن ولودات بنات فقط أو أرادوا مكايدتهن أو ابتزاز أموالهن وحملهن على التنازل عن مهورهن وحقوقهن أو استبقائهن حاضنات لأولادهن، وكانوا كذلك يتفادون تطليقهن أنفة من أن يتزوجن غيرهم. وهذا التقليد يشبه من ناحية ما تقليد الإيلاء الذي ورد ذكره وحكمه في آيات سورة البقرة [ ٢٢٥-٢٢٦ ] وفي هذا التقليد كما في ذلك ظلم وبغي فلذلك سفهه القرآن هنا وقرر حكما في صدده في سورة المجادلة.
تقليد التبني في الجاهلية ومداه، والتبني هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وأن يجري بشيء من المراسم ؛ حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنى أن يتزوج إحدى بنات متبنيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبني أن يتزوج بنات متبنيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ابن على هذه الطريقة، وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فاستوهبه منها وأعقته. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تنبيه له. وكان ذلك قبل نبوته. وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى إن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة٢.
ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي صحابي آخر٣. ولما استشهد في مؤتة كان ابنه أسامة محل رعاية النبي ومحبته وعطفه. ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عين أسامة قائدا لجيش أراد أن يسيره إلى مؤتة لأخذ ثأر أبيه وجيشه، قال الناس : أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار، وكان النبي وجعا فخرج فخطب في الناس فقال :" أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليقا بها " ٤. ولقد روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنشأ ديوان العطاء جعل أسامة في جملة أصحاب الأربعة آلاف، وجعل ابنه عبد الله في جملة أصحاب الثلاثة آلاف فاعترض عبد الله قائلا : إني شهدت ما لم يشهد أسامة فقال له أبوه : زدته عليك ؛ لأنه كان أحب إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك٥.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة ". ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا بني. وهذا من هذا الباب.
هذا، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبني بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم، وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البر والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالنبوة والأبوة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به، وتمنع ما لم يمنعه الله فيكون ذلك حراما كما هو المتبادر. والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير ﴿ وَمَوَالِيكُمْ ﴾
هذا التعبير الوارد في الآيات يفيد على الأرجح مدلولا تقليديا خاصا ؛ حيث كان من الجاري عند العرب قبل الإسلام أن يطلب شخص أو عشيرة أو قبيلة من العرب أن يلتحق بشخص أو عشيرة أو قبيلة أخرى بقصد الحماية والاستنصار. فإذا قبل ذلك الملحق به أعلنه على الملأ حتى يعرف الناس وحينئذ يدعى مولى الشخص الملحق به إذا كان فردا أو موالي القبيلة الملحق بها إذا كانوا جماعة ويسمى ذلك مولى ولاء أو موالي ولاء. ويصبح المولى أو الموالي من عصبية الملحق به الاجتماعية لهم ما لهم وعليهم ما عليهم حتى إنهم كانوا يتوارثون٦. وما يصادفه قارئ الكتب العربية القديمة من تعابير فلان مولى فلان أو مولى بني فلان أو القبيلة الفلانية موالي القبيلة الفلانية هو من هذا الباب. ومن هنا جاء إطلاق تعبير ( موالي ) على المسلمين من غير العرب فكأنهم بدخولهم الإسلام قد التحقوا بالعرب واندمجوا في عصبياتهم. وكلمة ( مولى ) تطلق كذلك على المملوك، غير أن تقليد الولاء الذي نشرحه هنا ليس من ذلك. والآية [ ٥ ] أرادت أن تقول إنه إذا لم يعرف آباء الأبناء بالتبني فهم إخوان المسلمين في الدين ومواليهم. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم استمدادا من العرف الجاري في دلالة التعبير.
في هذه الآية :
١-تقرير بحق النبي على المؤمنين فهو أولى بهم من أنفسهم.
٢- وتقرير بحق أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا.
٣-وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم.
٤- وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم، من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم.
وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم.
تعليق على الآية
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ الخ
ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا : نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا١. وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين٢. وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حين قدومه إلى المدينة، أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام٣.
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات، كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة، وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة، ومستدركة من جهة، ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة.
فقد ألغي التبني وما يترتب عليه من أحكام وكان للنبي ابن بالتبني فقررت الفقرة الأولى من الآية أن النبي هو بمثابة أب لجميع المسلمين، وأنه أولى بهم من أنفسهم وأن زوجاته أمهاتهم فلا محل ليكون له ابن خاص بالتبني. وكان التبني يكسب حقا في الإرث فقررت الفقرة الثانية أن حق التوارث إنما هو بين ذوي الأرحام وأمرت الآية [ ٥ ] اعتبار الأبناء بالتبني الذين أبطل تبنيهم، ولم يعرف آباؤهم الحقيقيون إخوانا وموالي وأولياء لمتبنيهم بسبب اندماجهم السابق فيهم فقررت الفقرة الثالثة أن إبطال حق التوارث في التبني ليس من شأنه أن يمنع المتبنين السابقين من مساعدة متبنيهم الذين غدوا موالي أو أولياء لهم. وبهذا يستقيم السياق والمعنى والمدى كما هو المتبادر.
ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة " وهو أبوهم " بعد كلمة ( أنفسهم ) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم٤ وقد تكون الجملة تفسيرية، وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية. مع ترجيحنا أنها تفسيرية، وليست أصيلة إذا صحت الرواية. فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان، ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس. وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات.
وجملة ﴿ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ﴾ تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البر وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء.
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " ٥. وفي الحديث توضيح نبوي متصل بمدى الآية كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾
وتعبير ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين. ولعل اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزاولون كفارا. وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية. وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : " لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم " ٦.
ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد. فلعل الأمر ظل ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث. أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [ ٧٢ ] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مر شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال.
تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية
﴿ النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ وننبه على أن النص على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [ ٥٣ ٥٥ ] من هذه السورة ؛ حيث منعت هذه الآيات رجال مسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن. وحرمت نصا التزوج بهن من بعد رسول الله ؛ حيث يفيد هذا أن النص على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل. وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو : كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبني. والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التنبه إليه.
الخلاصة
وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم : إن جملة ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله عليه وسلم وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حب وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية ؛ حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه تفسير وزيادة عظيمة الشأن، وهو أن المال للورثة وأن من مات من المؤمنين وعليه دين فالنبي صلى الله عليه وسلم يسد دينه. وأن من مات وترك أيتاما بلا مال فالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى أيتامه أيضا، وهكذا تبدو الولاية والأبوية النبوية السامية في أورع مثاليتها وعظمتها، صلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما.
٢ أنظر تفسير الخازن والبغوي والطبرسي..
٣ انظر المصدر نفسه..
٤ أنظر تفسير الطبرسي..
٥ التاج ج ٤ ص ١٨٣. وقد فسر الشارح كلمة (ضياعا) بالأولاد القاصرين. وهذا صواب على ضوء مدى الحديث..
٦ أنظر التاج، ج ٢ ص٢٢٩..
في هاتين الآيتين :
١-تذكير على سبيل التقرير بأن الله قد أخذ من الأنبياء وبخاصة من النبي نفسه ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ميثاقا قويا مؤكدا على حمل رسالته وتبلغيها للناس.
٢- وتقرير بأن الله تعالى سوف يسأل الذين صدقوا في التبليغ ويستشهدهم على أممهم، وبأنه أعد للذين كفروا برسالات أنبيائه ولم يصدقوا عذابا أليما.
ولم نطلع على رواية في مناسبة الآيتين، ولا على تعليل لوضعهما في مكانهما ؛ لأنهما يبدوان وحدة مستقلة لا علاقة لها بما سبق وبما هو آت.
وقد تبادر لنا مع ذلك أن يكون فيهما معنى التعقيب على الآيات السابقة جميعها بدءا من مطلع السورة الذي احتوى تثبيتا للنبي وأمرا له بتقوى الله وعدم إطاعة الكفار والمنافقين واتباع وحيه والاعتماد عليه وحده. فالله في تحميله إياه رسالته قد أخذ عليه عهدا بالقيام بالمهمة قياما تاما لا تساهل فيه ولا هوادة ودون تأثر بأي اعتبار كما أخذ مثل ذلك من الأنبياء السابقين، وعليه أن يقوم بها وأن يعرف أنه مسؤول عنها يوم القيامة.
واختصاص النبي ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر قد تكرر في القرآن. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير سورة الشورى بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
( ٢ ) وتظنون بالله الظنونا : تذهبون مذاهب في إساءة ظنكم بالله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
( ٥ ) بيوتنا عورة : أي مكشوفة في متناول العدو.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
( ٧ ) ثم سئلوا الفتنة لأتوها : ثم طلب منهم الارتداد عن الإسلام لفعلوا.
( ٨ ) وما تلبثوا بها إلا يسيرا : وما كانوا يقاومون ذلك الطلب إلا مقاومة خفيفة وظاهرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
( ١٠ ) ولا يأتون البأس : ولا يشهدون الحرب والقتال أو يشتركون فيهما.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٩ ) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ( ١ ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( ٢ ) ( ١٠ ) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا( ٣ ) ( ١١ ) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ( ٤ ) لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( ٥ ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( ١٣ ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا( ٦ ) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا( ٧ ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ( ٨ ) ( ١٤ ) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئولًا ( ١٥ ) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٦ ) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ١٧ ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ( ٩ ) مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ( ١٠ ) إِلَّا قَلِيلًا ( ١٨ ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ( ١١ ) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ١٩ ) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ( ١٢ ) يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ( ٢٠ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ٢١ ) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( ٢٢ ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ( ١٣ ) وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٢٤ ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( ٢٥ ) ﴾ [ ٩ - ٢٥ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٢٥ ]
وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب
عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة، على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب ؛ لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسميت بوقعة الخندق ؛ لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.
ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها، وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عامة.
وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة١ عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره، ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها، وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا : إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم : هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ( ٥١ ) ﴾ إشارة إليه على ما رواه المفسرون٢. ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه : نعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين، فأمره بالتخذيل والتثبيط في صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب، حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر، ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا، فاشتد فيهم السأم والفتور، وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون، ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.
وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات، فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.
ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين، ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.
والمستفاد منها :
١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [ ٢١ ] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.
٢ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم، ثم تميزوا، فالفئة المخلصة الصادقة التفت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال، واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له، فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [ ٢٢ ٢٣ ] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم ﴿ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ١٢ ) ﴾ والتثبيط ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [ ١٥ ١٨ ] كل ذلك، وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر، والبذاءة الشديدة حينما يزول، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم : إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا ؛ حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.
ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [ ٢٤ ] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو : إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.
هذا، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.
ولقد رو
٢ انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠..
( ٢ ) صياصيهم : حصونهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ... ﴾ الخ
والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة
عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. ويجمع روايات التفسير والسيرة، على أنهم يهود بني قريظة في المدينة.
ومما ذكرته هذه الروايات : أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب، وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة، فأرسل مناديا ينادي " من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلا ببني قريظة " حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب. وعبارة ﴿ ظاهروهم ﴾ تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب ؛ مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج، على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.
وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة١ : أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة، ولم يقبل منهم إلا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم يكن لهم مناص من ذلك لما ضاق الخناق عليهم.
ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله : إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج ـ يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم ـ فقال لهم : هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم. قالوا : بلى. قال : فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه، وأبلغوه ذلك، وحملوه على حمار، وساروا في ركابه وهم يقولون له : أحسن يا أبا عمرو في مواليك، فقد ولاك رسول الله أمرهم، فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال : آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبي الذراري والنساء وتقسّم الأموال، فبادره النبي قائلا :" لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ( أي سموات ) " ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم، فعصموا دماءهم وأموالهم.
ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم ١٥٠٠ سيف و٣٠٠ درع و٢٠٠٠ رمح و١٥٠٠ ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين ٦٠٠ و ٧٠٠ وفي رواية ٤٠٠ واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد ؛ حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح٢.
ومما روي كذلك٣ أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم، فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقال : نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني : أن مصيرهم في هذه الحالة هو الذبح، وأن أبا لبابة شعر أنه قد خان الله ورسوله، فانطلق على وجهه إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بعمود وقال : لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، فبلغ ذلك النبي فقال : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه، حتى يتوب الله عليه وظلّ على حاله أياما ثم هتف النبي : لقد تيب على أبي لبابة فبادرت أم سلمة وكان عندها، فهتفت من باب حجرتها على أبي لبابة تبشره، ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح أطلقه بيده ؛ حيث ينطوي في هذا صورة رائعة من صور العهد النبوي.
ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون، والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الرد اللئيم الذي رويناه قبل، والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب ؛ حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذءون في حق النبي صلى الله عليه وسلم حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء، وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم.
ولقد قال المفسرون : إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال : إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس٤. والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم.
هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.
هذا، والآية [ ٢٦ ] وإن كانت حكت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأقره الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ... ﴾ الخ
والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة
عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. ويجمع روايات التفسير والسيرة، على أنهم يهود بني قريظة في المدينة.
ومما ذكرته هذه الروايات : أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب، وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة، فأرسل مناديا ينادي " من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلا ببني قريظة " حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب. وعبارة ﴿ ظاهروهم ﴾ تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب ؛ مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج، على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.
وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة١ : أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة، ولم يقبل منهم إلا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم يكن لهم مناص من ذلك لما ضاق الخناق عليهم.
ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله : إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج ـ يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم ـ فقال لهم : هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم. قالوا : بلى. قال : فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه، وأبلغوه ذلك، وحملوه على حمار، وساروا في ركابه وهم يقولون له : أحسن يا أبا عمرو في مواليك، فقد ولاك رسول الله أمرهم، فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال : آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبي الذراري والنساء وتقسّم الأموال، فبادره النبي قائلا :" لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ( أي سموات ) " ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم، فعصموا دماءهم وأموالهم.
ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم ١٥٠٠ سيف و٣٠٠ درع و٢٠٠٠ رمح و١٥٠٠ ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين ٦٠٠ و ٧٠٠ وفي رواية ٤٠٠ واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد ؛ حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح٢.
ومما روي كذلك٣ أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم، فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقال : نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني : أن مصيرهم في هذه الحالة هو الذبح، وأن أبا لبابة شعر أنه قد خان الله ورسوله، فانطلق على وجهه إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بعمود وقال : لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، فبلغ ذلك النبي فقال : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه، حتى يتوب الله عليه وظلّ على حاله أياما ثم هتف النبي : لقد تيب على أبي لبابة فبادرت أم سلمة وكان عندها، فهتفت من باب حجرتها على أبي لبابة تبشره، ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح أطلقه بيده ؛ حيث ينطوي في هذا صورة رائعة من صور العهد النبوي.
ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون، والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الرد اللئيم الذي رويناه قبل، والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب ؛ حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذءون في حق النبي صلى الله عليه وسلم حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء، وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم.
ولقد قال المفسرون : إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال : إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس٤. والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم.
هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.
هذا، والآية [ ٢٦ ] وإن كانت حكت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأقره الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت : " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ( ١ ) مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ( ٣٢ ) وَقَرْنَ( ٢ ) فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ( ٣ ) الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ( ٤ ) أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( ٣٤ ) ﴾ [ ٢٨ ٣٤ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
( ٣ ) التبرج : إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد.
( ٤ ) الرجس : هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ( ١ ) مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( ٣٠ ) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ٣١ ) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ( ٣٢ ) وَقَرْنَ( ٢ ) فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ( ٣ ) الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ( ٤ ) أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( ٣٣ ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( ٣٤ ) ﴾ [ ٢٨ ٣٤ ].
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٢٨ ) ﴾.
وما بعدها إلى آخر الآية [ ٣٤ ]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون١ روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله، والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا، فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به رسول الله، فقال يا رسول الله : لو رأيت بنت خارجة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، وكلاهما يقول لابنته : لا تسألي رسول الله شيئا٢. وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد، وهو ما أيدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسع ظن نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن ؛ ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة، وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصت عليه آية سورة الأنفال [ ٤١ ]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكر في نعيم الدنيا ومتاعها، فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه، فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملآن كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن، فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ ٣٢ ] وآية سورة المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٨٧ ) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ٨٨ ) ﴾.
يمكن أن يقال : إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطبيات ما أحل الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه راضية نفوسهن معا. ومما روي في صدد ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو ؟ فتلا عليها الآيات فقالت : أفيك أستأمر أبوي بل أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال : إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها، ثم خير نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة " ٣.
ولقد روى الشيخان الترمذي هذا بخلاف يسير ؛ حيث رووا عن عائشة أنها قالت :" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال : إن الله جلّ ثناؤه قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت " ٤.
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية ؛ حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة٥ ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا. ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صح أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : هن حولي ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة ﴿ الرجس ﴾ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [ ١٤٥ ] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾٦ [ ٩٠ ] وقد تكون في الآية [ ٣٤ ] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف، ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة ﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول : إنها تتحمل أن يكون معناها ( الزنا ) أيضا وقد يكون في جملة ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى الله عليه
٢ نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير..
٣ انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٤ انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤..
٥ أنظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦..
٦ أنظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠]..
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ( ١ ) وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٣٥ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... ﴾ الخ.
عبارة الآية واضحة. وهي بسبيل التنويه بكل مسلم ومسلمة يتصفان بالصفات التي وردت فيها ويفعلان الواجبات التي نبهت عليها. وبسبيل بشرى استحقاقهما عظيم الأجر ورفيع المنزلة عند الله تعالى.
ويلحظ أن الصفات والواجبات قد جمعت كل صفات الخير وعناوين البرّ وضمانات النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة ؛ حيث ينطوي في هذا ما يتوخاه القرآن من الارتفاع بالمسلمين والمسلمات إلى ذرى الكمال في مختلف المجالات.
ومع أن أسلوب الآية مطلق ينطوي فيه حكمة ربانية لتكون مستمرة المدى لكل وقت ومكان، فإنه يتبادر لنا أنها تنطوي في الوقت نفسه على الإشادة بصفات فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء كانوا يتصفون فعلا بهذه الصفات ويفعلون تلك الواجبات، وأن فيها والحالة هذه صورة رائعة من صورهم رضوان الله عليهم.
ولقد رويت بضع روايات في مناسبة نزول الآية اختلف فيها الأسماء والكيفيات واتفقت الغاية، وهي تساؤل بعض المسلمات عن سبب اختصاص القرآن الرجال بالذكر والتنويه. أو مراجعة بعضهن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم سلمة أم المؤمنين وأسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب وأم عمارة الأنصارية. والأخيرة ذكرت في حديث رواه الترمذي جاء فيه : " عن أم عمارة قالت يا رسول الله ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت الآية " ١. ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ١٩٥ ] من سورة آل عمران حديثا رواه الترمذي عن أم سلمة مماثلا لهذا الحديث، وذكر فيه أن آية آل عمران هذه نزلت بناء على مراجعتها النبي صلى الله عليه وسلم في صدد عدم ذكر النساء مع الرجال. والآية تبدو وحدة تامة مستقلة لأول وهلة. وقد يقوي هذا صحة رواية سبب نزولها وهو مراجعة أم عمارة أو غيرها.
غير أننا نلاحظ أن القرآن لم يغفل قبل نزول هذه الآية المرأة المسلمة الصالحة والتنويه بها في المكي منه والمدني٢. وأن الآية التالية قد أشير فيها إلى واجب المؤمن والمؤمنة على السواء من أمر الله ورسوله وقضائهما. فهذا وذاك يوردان على البال أن تكون الآية متصلة بالسياق التالي لها، وبمثابة مقدمة تمهيدية. كما لا يبعد أن تكون جاءت معقبة على الآيات السابقة بعد ذكر نساء النبي وواجباتهم، ولتستطرد إلى ذكر الأجر العظيم عند الله لكل مؤمن ومؤمنة يقوم بواجبه ويلتزم حدود الله.
ومهما يكن من أمر فإن صيغة الآية قوية رائعة من ناحية النساء مع الرجال في ما احتوته من تنويه وأوجبته من واجبات. وهي حاسمة الصراحة في اعتبار المرأة مخاطبة في القرآن كالرجل سواء بسواء بكل التكاليف التعبدية والأخلاقية، وأهلا لكل ما يترتب على ذلك كالرجل سواء بسواء.
وننبه بهذه المناسبة على أن العلماء والمفسرين متفقون على أن كل خطاب قرآني موجه للمؤمنين والمسلمين أو فيه ذكر للمؤمنين والمسلمين في أي شأن وليس فيه قرينة على اختصاص الرجال دون النساء هو شامل للمسلمات والمؤمنات.
٢ من الآيات المدنية آية سورة آل عمران [١٩٥] ومن الآيات المكية آية سورة النحل [٩٧] و آية سورة غافر [٤٠] وآية سورة البروج [١٠]..
في هذه الآيات :
١ تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله، فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢ وتذكير موجه للنبي فيه معنى العتاب ؛ لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية، فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣ وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره، وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه بعد قضاء وطره منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
٤ وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت : فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره، وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥ وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين : فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ٤٠ ]
وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى١. منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت : أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال : سبحان مقلب القلوب أو بعبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها، وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبي بعد انقضاء عدتها. ومما يروى أن النبي أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبي يخطبها لنفسه، فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا : أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله. فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني٢.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية، ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين، فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا، وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا٣.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد، وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها، وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات، بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي :
١ خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنعت لأسباب قد يكون منها : أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلا الاستجابة لله ورسوله، ولكنها ظلت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢ وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
٣ وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله ؛ لأنه ليس مما يقره الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه، ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤ وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام رباني ولكن بدون وحي قرآني. إلا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره، دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح، وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين وليس عن النبي فقط في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ مفتاح الحادث وتعليله الحق الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي، وخاصة ما استغله الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبني، فصار زيد ليس ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبني.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عندما
٢ هذه الرواية من مرويات الطبرسي..
٣ أنظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٧ و ٣١٠، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام عن ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك..
( ٢ ) إذا قضوا منهن وطرا : كناية عن الوطء والجماع.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ( ٣٦ ) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ( ١ ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا( ٢ ) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ( ٣٧ ) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ( ٣٨ ) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( ٣٩ ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٤٠ ) ﴾ [ ٣٦ ٤٠ ].
في هذه الآيات :
١ تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله، فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢ وتذكير موجه للنبي فيه معنى العتاب ؛ لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية، فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣ وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره، وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه بعد قضاء وطره منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
٤ وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت : فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره، وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥ وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين : فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ٤٠ ]
وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى١. منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت : أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال : سبحان مقلب القلوب أو بعبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها، وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبي بعد انقضاء عدتها. ومما يروى أن النبي أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبي يخطبها لنفسه، فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا : أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله. فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني٢.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية، ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين، فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا، وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا٣.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد، وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها، وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات، بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي :
١ خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنعت لأسباب قد يكون منها : أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلا الاستجابة لله ورسوله، ولكنها ظلت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢ وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
٣ وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله ؛ لأنه ليس مما يقره الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه، ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤ وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام رباني ولكن بدون وحي قرآني. إلا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره، دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح، وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين وليس عن النبي فقط في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ مفتاح الحادث وتعليله الحق الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي، وخاصة ما استغله الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبني، فصار زيد ليس ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبني.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عندما
٢ هذه الرواية من مرويات الطبرسي..
٣ أنظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٧ و ٣١٠، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام عن ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك..
في هذه الآيات :
١ تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله، فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢ وتذكير موجه للنبي فيه معنى العتاب ؛ لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية، فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣ وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره، وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه بعد قضاء وطره منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
٤ وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت : فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره، وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥ وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين : فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ٤٠ ]
وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى١. منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت : أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال : سبحان مقلب القلوب أو بعبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها، وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبي بعد انقضاء عدتها. ومما يروى أن النبي أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبي يخطبها لنفسه، فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا : أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله. فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني٢.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية، ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين، فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا، وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا٣.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد، وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها، وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات، بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي :
١ خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنعت لأسباب قد يكون منها : أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلا الاستجابة لله ورسوله، ولكنها ظلت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢ وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
٣ وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله ؛ لأنه ليس مما يقره الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه، ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤ وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام رباني ولكن بدون وحي قرآني. إلا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره، دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح، وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين وليس عن النبي فقط في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ مفتاح الحادث وتعليله الحق الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي، وخاصة ما استغله الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبني، فصار زيد ليس ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبني.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عندما
٢ هذه الرواية من مرويات الطبرسي..
٣ أنظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٧ و ٣١٠، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام عن ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك..
في هذه الآيات :
١ تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله، فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢ وتذكير موجه للنبي فيه معنى العتاب ؛ لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية، فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣ وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره، وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه بعد قضاء وطره منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
٤ وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت : فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره، وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥ وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين : فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ٤٠ ]
وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى١. منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت : أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال : سبحان مقلب القلوب أو بعبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها، وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبي بعد انقضاء عدتها. ومما يروى أن النبي أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبي يخطبها لنفسه، فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا : أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله. فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني٢.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية، ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين، فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا، وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا٣.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد، وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها، وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات، بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي :
١ خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنعت لأسباب قد يكون منها : أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلا الاستجابة لله ورسوله، ولكنها ظلت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢ وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
٣ وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله ؛ لأنه ليس مما يقره الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه، ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤ وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام رباني ولكن بدون وحي قرآني. إلا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره، دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح، وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين وليس عن النبي فقط في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ مفتاح الحادث وتعليله الحق الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي، وخاصة ما استغله الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبني، فصار زيد ليس ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبني.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عندما
٢ هذه الرواية من مرويات الطبرسي..
٣ أنظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٧ و ٣١٠، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام عن ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك..
في هذه الآيات :
١ تنبيه في صيغة النهي المشدد على أنه لا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله بشيء يتعلق بخاصة أمورهم أن يختاروا غير ما أمر الله ورسوله، فإن العاصي لله ورسوله في شيء هو عظيم الضلال والانحراف عن الحق.
٢ وتذكير موجه للنبي فيه معنى العتاب ؛ لأنه أمر الذي أنعم عليه وأنعم الله عليه بأن يمسك زوجته ولا يطلقها ويتقي الله في أمرها في حين أن هذا القول قد صدر منه خشية من كلام الناس وإخفاء لأمر يريد الله إظهاره وفعله. مع أن الله هو أحق بالخشية، فلا يصح إخفاء أمره خشية من الناس.
٣ وإشارة إلى هذا الأمر الذي يريد الله إظهاره، وهو زواجه من زوجة زيد ابنه بالتبني المكنّى عنه بجملة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه بعد قضاء وطره منها ليكون قدوة للمؤمنين فلا يشعرون بحرج في التزوج بزوجات أبنائهم بالتبني إذا ما انفصلن عنهن بالطلاق أو الموت. وتقرير بأن هذا هو قضاء الله وأمره الذي يجب أن يكون النافذ الجاري.
٤ وتعقيب على الحادث ينطوي على التثبيت : فليس على النبي من حرج في تنفيذ ما أمر الله وفي الاستمتاع بما فرضه الله له. فهذه سنة الله في أنبيائه السابقين أيضا. فهو قد اختار أنبياءه لتبليغ رسالاته وتنفيذ أوامره وعدم خشية أحد غيره، وكفى به معتمدا ووكيلا. وإن أوامر الله مقدرة بمقتضيات المصلحة وهي واجبة التنفيذ.
٥ وتعقيب آخر ينطوي على التعليل والتوضيح موجه إلى المؤمنين : فمحمد ليس هو أبا زيد أو غيره منهم. وإنما هو رسول الله وخاتم النبيين. وكان الله وما يزال العليم بكل شيء.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
وما بعدها لغاية الآية [ ٤٠ ]
وتمحيص زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
لقد روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآية الأولى١. منها أنها نزلت حينما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاعترض أهلها أو اعترضت هي وقالت : أنا خير منه. ومنها أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت من أول من هاجر من النساء فوهبت نفسها للنبي فزوجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله. ومنها أنها نزلت بمناسبة خطبة النبي جارية من الأنصار لمسلم غريب يتعاطى الجلب فاستنكف أهلها.
ورووا أن الآيات الأخرى نزلت في مناسبة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان ابنا بالتبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما رووه في صدد ذلك أن النبي بعد أن زوج زينب بزيد رآها قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه جمالها حتى أنه لم يتمالك أن قال : سبحان مقلب القلوب أو بعبارة أخرى من بابها على اختلاف الروايات. وأن زينب شعرت بذلك فأخذت تتكبر على زيد وتزعجه فشكاها للنبي وأبدى رغبته في تطليقها. أو أن الله قد ألقى في نفس زيد كراهيتها لما علم بما وقع في نفس نبيه منها فرغب في تطليقها، وأن النبي نصحه بعدم تطليقها وإمساكها مع أنه ودّ في نفسه لو يطلقها حتى يتزوجها. غير أن الأمر اشتد بينهما حتى انتهى إلى الطلاق فتزوجها النبي بعد انقضاء عدتها. ومما يروى أن النبي أرسل زيدا إليها ليذكر لها أن النبي يخطبها لنفسه، فلما رآها عظمت في نفسه فولّى مدبرا وهتف قائلا : أبشري يا زينب فإن رسول الله بعثني لأذكره لك. وهناك رواية تذكر أن زينب أخبرت زيدا بما شعرت به من ميل قلب النبي لها فقال لها : هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله. فقالت : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني٢.
ويلاحظ أن الآية الأولى منسجمة مع الآيات التالية، ونرجح أنها نزلت معها وفي الصدد الذي احتوته الآيات التالية لها. ومن المحتمل أن تكون الآية الأولى كانت تتلى في المناسبات التي كان بعض المسلمين يترددون فيها في تلبية اقتراحات رسول الله في صدد تزويج بناتهم لمسلمين كانوا يرونهم أقلّ مرتبة منهم، وكان النبي يريد باقتراحاته القضاء على مثل هذا الشعور الطبقي بين المسلمين، فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت في هذه المناسبات.
ولقد كانت قصة زواج النبي من مطلقة ابنه بالتبني موضوع تعليق ونقد وأخذ ورد قديما وحديثا. ولقد كان تساهل بعض المفسرين في إثبات الروايات البعيدة عن منطق الوقائع وروح الآيات باعثا لاستغلال الأغيار للقصة واستخراج ما يمسّ كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهة أخلاقه وتصرفه منها. ولقد دافع الكتاب والمتكلمون والمفسرون قديما وحديثا، وحاولوا أن يضعوا الأمر في نصابه الحق. ومنهم من رأى بين الروايات دسّا مقصودا أو خلطا وتشويشا٣.
والروايات لم ترد في كتب الصحاح. وليست موثقة. ولم ترد في كتب ابن هشام وابن سعد، وهي أقدم ما وصل إلينا من كتب تؤرخ السيرة النبوية. وقد أثبت مؤلفوها ما أثبتوه فيها نقلا عن مدونات قديمة أو تسجيلا لروايات معنعنة من راو إلى راو إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مهم في بابه. ولا نستبعد أن تكون الرواية التي تذكر إعجاب النبي بجمال زينب حينما رآها بدرع وخمار وميل قلبه إليها، وما ترتب على ذلك من نتائج من مدسوسات الزنادقة والشعوبيين غير المؤمنين في القرنين الثالث والرابع الذين كانوا يحاولون هدم الإسلام وتشويهه بكثير من الدسائس والمقالات، بل نحن نكاد نجزم بذلك.
ومن الحق أن تكون الآيات نفسها هي السند الأوثق والمستلهم الأقوى. فإذا أمعن في نصها وروحها ظهر أن المسألة في أصلها متعلقة بتقليد التبني أصلا وفرعا. وأمكن استلهاما من نصوصها ومن بعض الروايات الواردة في صددها تسلسل صورها على النحو التالي :
١ خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب لزيد فاعتذرت وتمنعت لأسباب قد يكون منها : أن زيدا على كل حال ليس ابن النبي وأنها أنبل أرومة منه. ومسألة الكفاءة كانت مسألة مهمة في الاجتماع العربي. فأنزل الله الآية الأولى فلم يسعها إلا الاستجابة لله ورسوله، ولكنها ظلت تشعر بالغضاضة وهذا ما ذكره الطبري.
٢ وشعر زيد بذلك فصبر على مضض. فلما استمر صار الأمر مزعجا له وباعثا لشكواه وراجع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن طلاقها.
٣ وكان التبني يستتبع حرمة النكاح. فلما اقتضت حكمة التنزيل التنديدية في أوائل السورة تنديدا شديدا يتضمن إبطاله ؛ لأنه ليس مما يقره الله وبيان ما يجب عمله إزاء الأبناء بالتبني اقتضت إبطال ما يستتبعه، ومن ذلك تحليل زواج المتبني من مطلقة متبناه. وكان التقليد راسخا فلم يجرؤ أحد على الإقدام على ذلك. فألهم الله النبي أن يقدم عليه بنفسه. ولكنه تردد في تنفيذ ما ألهمه الله تحسبا لانتقاد الناس فأمر زيدا بتحمل زوجته. وكان هذا سبب العتاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرسل الله هم حملة رسالته ومبلغوها. ولا ينبغي لهم أن يحسبوا حسابا لغيره... ثم ثبت الله قلبه وأزال تردده وألهمه أن في العمل إتماما لتنفيذ حكم الله في إبطال التبني وتوابعه فتزوج بزينب بعد أن طلقها زيد.
٤ وقد كان هذا مثيرا لما توقعه النبي من انتقاد حيث لاكت بعض الأفواه على الأرجح أفواه المنافقين ومرضى القلوب الحادث. ووجه نقد هامس أو غير هامس للنبي فكان ذلك سببا لنزول الآيات التي قررت ما اقتضت الحكمة تقريره. ومن جملة ذلك التنبيه على أن محمدا ليس أبا حقيقيا لأي من المؤمنين وبالتالي فإنه ليس والد زيد حتى تحرم عليه مطلقته.
وهذا التسلسل يستتبع القول إن الحادثة وظروفها النفسية والتنفيذية قد جرت بإلهام رباني ولكن بدون وحي قرآني. إلا ما كان من التنديد بالتبني وإعلان عدم إقرار الله له في أول السورة الذي يمكن أن يكون هو مصدر ذلك الإلهام. وإن الآيات نزلت بعد ذلك للردّ والتثبيت والتبرير والعتاب وشرح سنة الله وواجبات الأنبياء في تبليغ رسالات الله وتنفيذ أوامره، دون اهتمام لنقد ذلك ومعارضته.
وموضوع عتاب النبي صلى الله عليه وسلم في صيغة الآية الثانية واضح، وهو التريث في ما ألهمه الله من قبول رغبة زيد في تطليقه زينب ليتزوجها. وصيغة الآيات كلها منصبة بصراحة تامة على وجوب الرضاء بقضاء الله ورسوله وبيان حكمة الله وأمره في إزالة الحرج عن المؤمنين وليس عن النبي فقط في تزوج زوجات أبنائهم بالتبني إذا طلقوهن أو ماتوا عنهن، وواجب النبي في تنفيذ أمر الله وتقرير كون ما فعله هو إرادة الله وإلهامه. وفي هذا وبخاصة في جملة ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ مفتاح الحادث وتعليله الحق الصادق.
وهذا لا يمكن أن يسوغ استخراج ما استخرج من القصة مما يمكن أن يكون فيه مساس بالنبي، وخاصة ما استغله الأغيار من رواية كونه أعجب بجمال زينب وعشقها وما قالوه من أن النبي دبّر تطليق زينب من زيد ليتزوجها. ولقد كان زيد وزينب رضي الله عنهما يعرفان بطبيعة الحال أن التقاليد لا تسمح بتزوج النبي منها. بل وإن الآية الأولى لتلهم أن زينب استعظمت خطبة النبي لها تأثرا بهذه التقاليد. وقد أوردنا رواية تذكر أن زينب قالت لزيد : أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. وهذه نقطة هامة من شأنها أن تهدم ركنا من أركان الرواية هدما تاما وأن تسوغ الجزم بأن زيدا إنما أراد أن يطلقها بسبب ما بدا منها من مواقف رأى فيها غضاضة وإزعاجا. وربما كان ذلك السبب هو إلغاء التبني، فصار زيد ليس ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم فرأت نفسها ذات نسب لا يتناسب مع زيد بعد إلغاء التبني.
وفي الآية الأولى منها بخاصة توطيد لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومقياس لإخلاص المؤمنين لهما. وكلاهما مستمر المدى. فالواجب على كل مسلم في كل وقت ومكان أن يقف عندما
٢ هذه الرواية من مرويات الطبرسي..
٣ أنظر كتب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٧ و ٣١٠، وانظر أقوال المفسرين الطبري والبغوي والطبرسي والخازن والزمخشري والقاسمي. وقد نقل الأخير عن الإمام عن ابن العربي وعن الإمام محمد عبده كلاما قويا في ذلك..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : " لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( ٤١ ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٤٢ ) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ( ١ ) لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( ٤٣ ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( ٤٤ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٤٥ ) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ( ٤٦ ) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ( ٤٧ ) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( ٤٨ ) ﴾. [ ٤١ ٤٨ ].
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
عبارة الآيات واضحة ولم نطلع على رواية في سبب نزولها. والذي يتبادر لنا أنها متصلة بموضوع الآيات السابقة ومعقبة عليها ؛ حيث احتوت تنبيه المؤمنين إلى ما لهم عند الله من كرامة وما أحاطهم به من عناية فأخرجهم برسالة نبيه من الظلمات إلى النور وأيّدهم بملائكته، ثم إلى ما يجب عليهم من كثرة ذكر الله وشكره ومراقبته في كل وقت وحال، وحيث احتوت كذلك تثبيتا للنبي وتنويها بمهمته العظمى التي جعله الله بها شاهدا على أمته ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، وأمرا بعدم الأبوه بالكافرين والمنافقين وأقوالهم ومكائدهم ودسائسهم المؤذية بسبيل ما يدعو إليه ويقوم به من إصلاح وخير، وجعل اعتماده على الله وحده وله فيه نعم الكفاية والوكالة.
والآية الأخيرة بخاصة مما تلهم هذا التوجيه، ومما تلهم الاتصال ومعنى التعقيب في الآيات بالنسبة للآيات السابقة. ومما تلهم كذلك أن نقد حادث زواج النبي بمطلقة زيد ولوك الألسن له وتشويش الأفكار حوله إنما كان من المنافقين والكفار.
وهذه الآية وظروف ورودها تلهم تلقينا جليلا في صدد صورة اجتماعية عامة تتكرر دائما. ففي سبيل كل دعوة إلى الخير والإصلاح يقف المنافقون ومرضى القلوب والأخلاق حجر عثرة يثيرون الأفكار ويبثون الوساوس والدسائس ويثبطون الهمم. فواجب الدعاة عدم الأبوه لهم والسير قدما في طريق الخير والإصلاح الذي اضطلعوا بالسير فيه.
وأسلوب الآيات في حدّ ذاتها قوي رائع سواء فيما أمرت به المؤمنين من الإكثار من ذكر الله وتسبيحه في كل وقت وفي بشراها بأن الله عز وجل يمنحهم دائما بركاته وهو الرحيم بهم، وبأن الملائكة دائمو الدعاء لهم، وبأن ذلك وسيلة وكفيل إخراجهم من الظلمات إلى النور حيث يتضمن كل هذا تلقينا مستمر المدى لجميع المؤمنين في كل وقت. أم في ما احتوته من التنويه العظيم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي شاءت حكمة الله أن يختاره ليكون داعيا إليه مبشرا ونذيرا وسراجا منيرا للناس في كل ظرف ومكان.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة فيها تنويه بفوائد ذكر الله عز وجل منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي الدرداء رواه أيضا الترمذي بصيغة مقاربة قال :" قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ذكر الله تعالى " ١. ومنها حديث رواه البخاري عن أبي العالية وأورده مؤلف التاج مرويا من الشيخين والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " ٢.
حيث يتساوق التلقين اللغوي مع التلقين القرآني فيما لذكر الله تعالى من فوائد يأتي في مقدمتها أن من شأن ذكر الله منع الذاكر من الارتكاس في ما نهى الله عنه وحفزه على الاندفاع في ما أمره، وفي هذا وذاك جماع الخير والنجاة في الدنيا والآخرة. ومن هنا تبدو الحكمة السامية الربانية والنبوية في تكرار الأمر بالإكثار من ذكر الله عز وجل مما مرت منه أمثلة كثيرة في السور المكية والمدنية وتفسيرها. وقد علقنا على ذلك بنوع خاص في سياق تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعراف. مع التنبيه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من أن ذكر الله يجب أن يكون صادرا عن وعي وإخلاص وليس حركة لسانية عن قلب لاه.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآيتين [ ٤٥ و ٤٦ ] حديثا رواه الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال :" لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ؟ قال : أجل. والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي. سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر. ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بقول : لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا " وقال ابن كثير : إن البخاري روى هذا في البيوع٣.
والحديث ليس صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عبد الله بن عمرو من قراء شباب أصحاب رسول الله وأتقيائهم، وكان حريصا على تلقي أحاديث رسول الله وكتابتها، ويروى أنه كان له كراسة يكتب فيها أحاديث رسول الله عرفت بالصادقة٤. ومهما يكن من أمر فالآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف صريحة بأن اليهود يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة على ما شرحناه في تعليقنا على هذه الآية.
٢ المصدر نفسه ص ٧٨ و٧٩ وهناك أحاديث أخرى في ذكر الله في تفسير ابن كثير وفي التاج الجزء الخامس فاكتفينا بما أوردناه..
٣ انظر كتاب السنة للسباعي ص ٧٣..
٤ لن نعثر على هذا الحديث فيما بين أيدينا من أحاديث البخاري..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ( ١ ) الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٤٩ ) ﴾ [ ٤٩ ].
في الآية خطاب للمؤمنين على سبيل التشريع والتنبيه يقرر لهم فيه بأنه ليس لهم فرض عدة على الزوجة التي يطلقها زوجها قبل مسها، وبأن على الزوج المطلق أن يؤدي لمطلقته حقها من المتعة وأن يسرحها سراحا جميلا لا أذى فيه ولا ضرر.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وهي كما تبدو فصل جديد. أو بداية فصل جديد من فصول السورة. وقد جاءت موضحة أو مستدركة لآيات سورة البقرة [ ٢٣٦ ٢٣٧ ] التي وردت في صدد المطلقات قبل المسيس، وقد احتوت آيات البقرة هذه تشريعا في صدد متعتهن ومهورهن دون عدتهن. ولقد ذكر في آية سورة البقرة [ ٢٢٨ ] أن المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فمن المحتمل أن يكون الأمر قد التبس على المسلمين، فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية بعد مدة من نزول آيات البقرة فأمر النبي بوضعها في مقامها لحكمة غابت عنّا. ولعل ذلك بسبب كون آيات البقرة كانت مرتبة فلم ير النبي ضرورة لإخلال ترتيبها والله أعلم. وقد انطوى في الآية تعليل أو حكمة تشريع. فالعدة هي لاستبراء الرحم ولإعطاء مجال للزوج المطلق لمراجعة زوجته. فإذا لم يقع مسّ فلا يبقى محل لذلك.
ولقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلوة الصحيحة توجب العدة، ولو لم يكن وطء١. غير أن الجمهور على أن العدة إنما تجب بالوطء. وهذا هو المنسجم مع نصّ الآية وحكمة تشريع العدة. وهذا غير كون الخلوة الصحيحة موجبة للمهر الكامل ولو لم يكن وطء الذي هو أيضا محل خلاف بين الفقهاء، والذي يمكن أن يكون وجيها على ما شرحناه في سياق الآيات [ ٢٣٦ ٢٣٧ ] من سورة البقرة.
وصيغة الآية تلهم أن الحثّ على الرفق بالمرأة وأداء حقها وحسن معاملتها في حالة طلاقها هو هدف رئيسي فيها. وهذا متسق مع النصوص القرآنية العديدة التي استهدفت ذلك أيضا.
ولقد استنبط بعض الأئمة مثل الإمامين الشافعي وابن حنبل من هذه الآية ومن حديث رواه جابر عن رسول الله جاء فيه " لا طلاق قبل النكاح " أنه لا يقع طلاق قبل عقد نكاح، بحيث لو قال رجل : إن تزوجت فلانة فهي طالقة وتزوجها فلا يقع عليه طلاق. وذكر ابن كثير أن هذا مذهب طائفة كبيرة من السلف٢. ويظهر من هذا أن هناك رأيا فقهيا يخالف هذا. ونحن نرى القول وجيها أكثر من نقيضه. وهناك قضية أخرى من هذا الباب وهي حالة رجل يقول : " أيما امرأة تزوجتها فهي طالق " حيث ذكر ابن كثير أن الإمامين أبا حنيفة ومالك يقولان بوقوع الطلاق في حين أن الإمامين الحنبلي والشافعي يقولان بعدم وقوعه٣. ونحن نرى هذا أوجه من القول الأول أيضا فالطلاق قد شرع للفراق بعد الزواج في حالة تعذر الوفاق على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة. وهذا إنما يتحقق بعد الزواج والله تعالى أعلم.
٢ انظر تفسير الآية في الخازن..
٣ المصدر نفسه..
( ٢ ) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك : وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسره الله لك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ( ١ ) وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ( ٢ ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٠ ) تُرْجِي( ٣ ) مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ( ٤ ) مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ( ٥ ) فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( ٥٢ ) ﴾.
في الآيات :
خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه :
١ أن الله قد أحل له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء.
٢ وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم.
٣ أن الله قد أحل له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجل منهن.
٤ وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن. والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهن ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حمله.
٥ وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها، ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [ ٣ و١٨ ٢٨ ] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحل الخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصها تحديدا شرعيا للتعدد ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ( ٣ ) ﴾. بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبي بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة، فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون، فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن، وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسد عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل، فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا.
كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص، وأنها احتوت شبه إيعاز للنبي بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حق معاشرة إحدى المرجآت تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجئ واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصح أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشافه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.
وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونص الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء بمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات، والقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبي في تطليق الزائد عن العدد، وأن في الرواية لبسا ؛ لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في سياق آية التخيير، ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسران أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول آية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه ؛ حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن.
ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [ ٥٠ ] على مفهوم كونها مطلقة، وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات١. وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه : " خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية، فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء ". وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانئ بنت أبي طالب٢ ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تم من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده : إن الله قد أحل في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن، في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.
ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات٣. وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا.
ولقد احتوت الآية [ ٥٢ ] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [ ٥١ ] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [ ٥١ ] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [ ٥٢ ] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية. منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما : " ما مات النبي حتى أحل الله النساء ". ومنها حديث عن أبي بن كعب يفيد أن الآية لم تحرم الزواج على النبي بالمرة، وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحله الله له في الآية [ ٥٠ ] والأحاديث ليست من الصحاح.
ونص الآية فيما نرى، وبخاصة جملة ﴿ من بعد ﴾ صريح بالنهي إطلاقا ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا : عن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا : إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [ ٢٨ ] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها ؛ لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾.
ولقد قال بعض المفسرين٤ في مدى تعبير ﴿ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ : إن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام ؛ حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبي عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك الي
٢ أنظر التاج، ج ٤ ص ١٨٦ و ١٨٧ وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومن عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعد هاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد فتح). على ما أوردناه في سياق الآية [٧٧] من سورة الأنفال..
٣ كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. أنظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٦..
٤ انظر الخازن والبغوي..
( ٤ ) وتؤوي إليك : وتدخل إليك.
( ٥ ) ومعنى جملة ﴿ ومن ابتغيت ممن عزلت ﴾ : أي تؤوي إليك من ابتغيت ممن أرجأتهن سابقا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:( ١ ) آتيت أجورهن : دفعت مهورهن. وقد سمي المهر أجرا في آية سورة النساء [ ٢٣ ]. مع كلمة فريضة كما جاء في الآية :﴿ فآتوهن أجورهن فريضة ﴾.
( ٢ ) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك : وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسره الله لك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ( ١ ) وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ( ٢ ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٠ ) تُرْجِي( ٣ ) مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ( ٤ ) مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ( ٥ ) فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( ٥٢ ) ﴾.
في الآيات :
خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه :
١ أن الله قد أحل له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء.
٢ وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم.
٣ أن الله قد أحل له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجل منهن.
٤ وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن. والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهن ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حمله.
٥ وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها، ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [ ٣ و١٨ ٢٨ ] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحل الخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصها تحديدا شرعيا للتعدد ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ( ٣ ) ﴾. بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبي بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة، فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون، فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن، وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسد عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل، فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا.
كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص، وأنها احتوت شبه إيعاز للنبي بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حق معاشرة إحدى المرجآت تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجئ واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصح أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشافه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.
وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونص الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء بمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات، والقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبي في تطليق الزائد عن العدد، وأن في الرواية لبسا ؛ لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في سياق آية التخيير، ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسران أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول آية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه ؛ حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن.
ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [ ٥٠ ] على مفهوم كونها مطلقة، وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات١. وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه :" خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية، فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء ". وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانئ بنت أبي طالب٢ ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تم من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده : إن الله قد أحل في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن، في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.
ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات٣. وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا.
ولقد احتوت الآية [ ٥٢ ] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [ ٥١ ] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [ ٥١ ] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [ ٥٢ ] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية. منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما :" ما مات النبي حتى أحل الله النساء ". ومنها حديث عن أبي بن كعب يفيد أن الآية لم تحرم الزواج على النبي بالمرة، وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحله الله له في الآية [ ٥٠ ] والأحاديث ليست من الصحاح.
ونص الآية فيما نرى، وبخاصة جملة ﴿ من بعد ﴾ صريح بالنهي إطلاقا ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا : عن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا : إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [ ٢٨ ] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها ؛ لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾.
ولقد قال بعض المفسرين٤ في مدى تعبير ﴿ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ : إن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام ؛ حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبي عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك الي
٢ أنظر التاج، ج ٤ ص ١٨٦ و ١٨٧ وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومن عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعد هاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد فتح). على ما أوردناه في سياق الآية [٧٧] من سورة الأنفال..
٣ كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. أنظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٦..
٤ انظر الخازن والبغوي..
( ٢ ) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك : وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسره الله لك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ( ١ ) وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ( ٢ ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٠ ) تُرْجِي( ٣ ) مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ( ٤ ) مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ( ٥ ) فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( ٥٢ ) ﴾.
في الآيات :
خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه :
١ أن الله قد أحل له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء.
٢ وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم.
٣ أن الله قد أحل له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجل منهن.
٤ وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن. والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهن ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حمله.
٥ وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها، ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له، والله رقيب على كل شيء.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها
والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [ ٣ و١٨ ٢٨ ] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحل الخ وبمناسبتها. فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره. فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصها تحديدا شرعيا للتعدد ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ( ٣ ) ﴾. بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد. وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام. فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن، فاقتضت حكمة التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبي بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة، فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون، فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن، وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسد عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل، فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا.
كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص، وأنها احتوت شبه إيعاز للنبي بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حق معاشرة إحدى المرجآت تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجئ واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصح أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشافه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.
وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونص الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء بمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات، والقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.
ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبي في تطليق الزائد عن العدد، وأن في الرواية لبسا ؛ لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في سياق آية التخيير، ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسران أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول آية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه ؛ حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن.
ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [ ٥٠ ] على مفهوم كونها مطلقة، وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات١. وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه :" خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية، فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء ". وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانئ بنت أبي طالب٢ ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تم من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده : إن الله قد أحل في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن، في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.
ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات٣. وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا.
ولقد احتوت الآية [ ٥٢ ] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [ ٥١ ] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [ ٥١ ] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [ ٥٢ ] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية. منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما :" ما مات النبي حتى أحل الله النساء ". ومنها حديث عن أبي بن كعب يفيد أن الآية لم تحرم الزواج على النبي بالمرة، وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحله الله له في الآية [ ٥٠ ] والأحاديث ليست من الصحاح.
ونص الآية فيما نرى، وبخاصة جملة ﴿ من بعد ﴾ صريح بالنهي إطلاقا ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا : عن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا : إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [ ٢٨ ] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها ؛ لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾.
ولقد قال بعض المفسرين٤ في مدى تعبير ﴿ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ : إن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام ؛ حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبي عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك الي
٢ أنظر التاج، ج ٤ ص ١٨٦ و ١٨٧ وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومن عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعد هاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد فتح). على ما أوردناه في سياق الآية [٧٧] من سورة الأنفال..
٣ كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. أنظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٦..
٤ انظر الخازن والبغوي..
( ٢ ) غير ناظرين : غير منتظرين.
( ٣ ) إناه : نضجه.
( ٤ ) فانتشروا : انصرفوا وتفرقوا.
( ٥ ) ولا مستأنسين لحديث : ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلي بالكلام.
( ٦ ) متاعا : شيئا ما.
( ٧ ) حجاب : ستر.
( ٨ )تنكحوا أزواجه : بمعنى تتزوجوهن
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ( ١ ) إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ( ٢ ) إِنَاهُ( ٣ ) وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا( ٤ ) وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ( ٥ ) إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا( ٦ ) فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ( ٧ ) ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ( ٨ ) مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ( ٥٣ ) إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٥٤ ) ﴾.
الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين :
١ تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلا بدعوة إلى طعام، على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام ودعوا فليدخلوا وإذا أكلوا فليبادروا إلى الخروج، دون إطالة مكث بقصد السمر والحديث.
٢ وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحق ؛ ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ... ﴾ الخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك " أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه، فقال : يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، فقال : ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بينه وبين أنس ونزلت الآية إلى جملة ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾١.
وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية : " أن عمر قال : قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾.
والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البر والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما.
ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال : أنا أعلم الناس بهذه الآية، ثم ساق حديث وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر قد اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه، وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال : " وافقت أبي في ثلاث. قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ البقرة [ ١٢٥ ] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن : عسى ربي إن طلقكن أن يبذله خيرا منكن فنزلت آية التحريم ﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن... ﴾ الخ الآية ". حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.
وقد روى المفسرون في صدد القسم الأخير من الآية الأولى أن بعض المسلمين قال : إنه إن عاش بعد النبي ليتزوجن بعائشة. والرواية ليست بعيدة الاحتمال، والأرجح إن صحت أن يكون القائل من الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد ؛ لأن في قوله شيئا من التحدي لا يمكن أن يصدر من مخلص صادق الإيمان.
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها، وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صار قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية.
وواضح من نص الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه ؛ وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة، فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة.
وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها الخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبي التي لم تكن إلا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبي قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات، وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظل بعض المدعووين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران ببيوت النبي ونسائه. وقد يكون فيها دليل على أن مما كان جاريا دخول المسلمين لبيوت بعضهم وتناولهم الطعام والسمر فيها ونساؤهم فيها مع رجالهم وذوي محارمهم. وقد ظل هذا سائغا بعد قيده بالاستئذان والإذن والاحتشام ووجود ذوي المحرم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة النور. ومع خصوصية الآية بيوت النبي ونسائه فإن فيها أدبا يحسن بالمسلمين أن يلتزموه، وهو مراعاة حال أهل البيت وعدم إطالة المكث فيه وعدم التحجج بالسؤال عن أمر وطلب متاع ما وكثرة طروق بيوت الناس إذا ما كان ذلك مما يسبب ضيقا وحرجا لأهل البيت، وهذا كثير ما يكون.
أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين، وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي فيه إخلال فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهن فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل النص على ذلك في الآية التي نحن في صددها.
( ٢ ) غير ناظرين : غير منتظرين.
( ٣ ) إناه : نضجه.
( ٤ ) فانتشروا : انصرفوا وتفرقوا.
( ٥ ) ولا مستأنسين لحديث : ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلي بالكلام.
( ٦ ) متاعا : شيئا ما.
( ٧ ) حجاب : ستر.
( ٨ )تنكحوا أزواجه : بمعنى تتزوجوهن
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ( ١ ) إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ( ٢ ) إِنَاهُ( ٣ ) وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا( ٤ ) وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ( ٥ ) إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا( ٦ ) فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ( ٧ ) ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ( ٨ ) مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ( ٥٣ ) إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٥٤ ) ﴾.
الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين :
١ تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلا بدعوة إلى طعام، على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام ودعوا فليدخلوا وإذا أكلوا فليبادروا إلى الخروج، دون إطالة مكث بقصد السمر والحديث.
٢ وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحق ؛ ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ... ﴾ الخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك " أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه، فقال : يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، فقال : ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بينه وبين أنس ونزلت الآية إلى جملة ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾١.
وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية :" أن عمر قال : قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾.
والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البر والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما.
ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال : أنا أعلم الناس بهذه الآية، ثم ساق حديث وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر قد اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه، وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال :" وافقت أبي في ثلاث. قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ البقرة [ ١٢٥ ] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن : عسى ربي إن طلقكن أن يبذله خيرا منكن فنزلت آية التحريم ﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن... ﴾ الخ الآية ". حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.
وقد روى المفسرون في صدد القسم الأخير من الآية الأولى أن بعض المسلمين قال : إنه إن عاش بعد النبي ليتزوجن بعائشة. والرواية ليست بعيدة الاحتمال، والأرجح إن صحت أن يكون القائل من الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد ؛ لأن في قوله شيئا من التحدي لا يمكن أن يصدر من مخلص صادق الإيمان.
وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها، وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صار قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية.
وواضح من نص الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه ؛ وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة، فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة.
وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها الخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبي التي لم تكن إلا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبي قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات، وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظل بعض المدعووين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران ببيوت النبي ونسائه. وقد يكون فيها دليل على أن مما كان جاريا دخول المسلمين لبيوت بعضهم وتناولهم الطعام والسمر فيها ونساؤهم فيها مع رجالهم وذوي محارمهم. وقد ظل هذا سائغا بعد قيده بالاستئذان والإذن والاحتشام ووجود ذوي المحرم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة النور. ومع خصوصية الآية بيوت النبي ونسائه فإن فيها أدبا يحسن بالمسلمين أن يلتزموه، وهو مراعاة حال أهل البيت وعدم إطالة المكث فيه وعدم التحجج بالسؤال عن أمر وطلب متاع ما وكثرة طروق بيوت الناس إذا ما كان ذلك مما يسبب ضيقا وحرجا لأهل البيت، وهذا كثير ما يكون.
أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين، وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي فيه إخلال فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهن فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل النص على ذلك في الآية التي نحن في صددها.
( ١ ) واتقين الله : أمر موجه لنساء النبي على سبيل الالتفات الخطابي.
وفي هذه الآية استدراك لآداب الحجاب والدخول التي احتوتها الآيات السابقة. والضمائر فيها عائدة بالتبعية إلى نساء النبي، فليس من جناح أن يدخل على نساء النبي آباؤهن وأبناؤهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن ونساؤهن وخدمهن الذين هم ملك أيمانهن. وعليهن بتقوى الله والتزام حدوده وملاحظة كونه حاضرا في كل آن وشهيدا على كل شيء.
تعليق على الآية
﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ... ﴾ الخ
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآية. فإما أن تكون نزلت مع الآيتين الأوليين، وإما أن يكون النهي قد أحدث بعض الحرج بالنسبة لمحارم نساء النبي فنزلت للاستدراك. وإذا صحّ الاحتمال الثاني دون الأول فتكون الآية قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.
ويلحظ أن الأعمام والأخوال لم يذكروا في المستدركين. ولقد قال بعض المفسرين١ : إن الأعمام والأخوال في مقام الآباء ؛ ولذلك لم يذكروا ولكن حكم بالإباحة يجري عليهم كما قال بعضهم٢ : إنهم ممن كره أن يدخلوا بدون إذن وحجاب على نساء النبي حتى لا ينعتوهن لأبنائهن الذين هم غير محارم عليهن. والقول الأول هو الأوجه فيما نرى. ومسألة نعت النساء للأبناء ولغيرهم واردة في حقّ الإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات والنساء جميعا، ومهما يكن من أمر ومهما كانت حكمة عدم ذكر الأعمام والأخوال خافية فإننا نقول : إن القرآن يتمم بعضه بعضا. والأعمام والأخوال من محارم المرأة بنص آية النساء هذه :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ﴾ [ ٢٣ ] بحيث يكون في هذا تأييد ما لوجاهة ذلك القول. ولقد أورد المفسر القاسمي حديثا عن البخاري عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : " أنها قالت : استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت : لا آذان حتى أستأذن النبي، فلما دخل عليّ قلت له : يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال : وما منعك أن تأذني ؟ فقالت : إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فقال : ائذني له فإنه عمّك تربت يمينك ". وأفلح صار عمّها ؛ لأنه أخو زوج امرأة أرضعتها فمن باب أولى أن يكون دخول الأعمام والأخوال الأصليين جائزا.
وقد قال المفسرون٣ في تعبير ﴿ ولا نسائهن ﴾ قولين :
أحدهما : أن المقصود به النساء المؤمنات. وأن غير المؤمنات داخلات في النهي.
وثانيهما : أن التعبير عام يقصد به النساء عامة لوحدة الجنس، والنفس تطمئن بالقول الثاني أكثر. ويتبادر لنا أن صيغة ﴿ ولا نسائهن ﴾ قد جاءت للتوافق اللفظي أكثر منها للاختصاص.
كذلك فإن لهم في تعبير ﴿ ولا ما ملكت أيمانهن ﴾ قولين٤ :
أحدهما : أن المقصود به الإماء دون العبيد. وثانيهما : أن الجنسين سواء في القصد. وإطلاق التعبير يتناول الجنسين كما هو واضح ؛ ولذلك فإن النفس تطمئن بوجاهة القول الثاني أكثر. ولا سيما أن مالكة العبد من محارمها على ما تفيده آية سورة النور [ ٣١ ] على ما سوف يأتي شرحها بعد.
٢ المصدر نفسه..
٣ انظر كتب التفسير السابقة الذكر..
٤ المصدر نفسه..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) ﴾.
في هذه الآية :
١ تقرير تنويهي بما للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله وملائكته من عظيم المنزلة ورفعة الشأن : فالله تعالى يصلي عليه بشموله الدائم بعطفه ورحمته. والملائكة يصلون عليه بدعائهم وتأييدهم.
٢ وأمر للمسلمين بأن يصلوا هم عليه ويسلموا صلاة وتسليما متناسبين مع رفعة شأنه وعلّو منزلته بالدعاء والتعظيم والإجلال.
والمتبادر أن الآية متصلة بما قبلها وما بعدها معا. ومعقبة على ما جاء قبلها من التعليم والتأديب والنهي وممهدة لما جاء بعدها من الإنذار للذين يتعمدون مكايدة النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه. وأنها استهدفت تلقين المسلمين ما يجب عليهم إزاء النبي من التوقير والإخلاص واجتناب كل ما يؤذيه ويحزّ في نفسه قولا وعملا سرا وجهرا واتباع كل ما فيه رضاؤه وقرة عينه وفعله.
ومع خصوصية الآية فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها عامة شاملة لكل مسلم ومسلمة في كل وقت ومكان وموجبة عليهم أداء حق النبي صلى الله عليه وسلم من التوقير والتعظيم والدعاء والترحم وعظيم الشكر في سبيل تسجيل الاعتراف بما له عليهم من فضل خالد الأثر في هداهم إلى الحق والخير وسعادة الدارين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولقد أثرت أحاديث كثيرة مختلفة الرتب في صدد الصلاة على النبي ووجوبها وفضلها. من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي جاء فيه : " قيل لرسول الله حينما نزلت الآية : أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " ١. ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود قال : " إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه. قالوا له : علمنا، فقال : قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الدين وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد " ٢. ومنها حديث رواه ابن ماجة جاء فيه : " قال رسول الله : لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي، ولا صلاة لمن لم يحبّ الأنصار " ٣. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه : " أن النبي جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا : يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك، فقال : إنه أتاني الملك فقال : يا محمد أما يرضيك أن ربك عزّ وجل يقول : إنه لا يصل عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا " ٤. ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه : " أتاني آت من ربي عز وجل فقال : من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردّ عليه مثلها " ٥. ومنها حديث جاء فيه : " من صلى عليّ صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر ". ومنها حديث عن ابن مسعود قال : " قال لي رسول الله : إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة " ٦.
صلوات الله على سيدنا محمد وسلامه صلاة وسلاما متناسبين مع فضله وجهاده وعظمة منزلته ورفعة شأنه وأثر نوره الوهاج الذي سيبقى ساطعا في الخافقين، والذي سيزداد سطوعا كلما استقامت عقول الناس وحسنت نواياهم واستنارت بصائرهم فاستبانوا سبل الهدى والسعادة بفضل ذلك النور والقرآن معجزته نبوته العظمى.
٢ انظر تفسير الطبرسي وابن كثير..
٣ ابن كثير..
٤ المصدر نفسه..
٥ المصدر نفسه..
٦ المصدر نفسه.
.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٥٧ ) ﴾
والآية التالية لها
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله، وبيان شدة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه صفية اليهودية، وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ ( قيل ) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام، أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون١ : إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد، كما قالوا : إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله، وهو : يؤذون أولياء الله.
وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما ؛ حيث احتوت الآيات السابقة تنبيها إلى عظم إثم من يؤذي رسول الله بأي شكل ؛ والآيات اللاحقة تعليما لنساء المؤمنين يجنبهن أذى الناس، وإنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين إذا لم ينتهوا عن مواقفهم المؤذية. وهذا يوضح أن هذه الفئة هي التي كان يتوقع منها ويقع منها ما فيه أذى الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات، فاستحقت ما احتوته الآيتان من اللعنة والإنذار.
والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدة والتأنيب والتنكيل.
وجملة ﴿ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ﴾ بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه : " قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ". وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ". ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه : " من آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " ٢. وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه : " قال رسول الله : أي الربا أربى عند الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم " ٣. وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها. وبعضها واردة، وفيها تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.
٢ هذا النص وارد في التاج برواية الشيخين وأبي داود والترمذي أنظر ج ٣ ص ٢٧٢..
٣ في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق). التاج ج ٥ ص ٢٤..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٥٧ ) ﴾
والآية التالية لها
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله، وبيان شدة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه صفية اليهودية، وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ ( قيل ) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام، أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون١ : إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد، كما قالوا : إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله، وهو : يؤذون أولياء الله.
وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما ؛ حيث احتوت الآيات السابقة تنبيها إلى عظم إثم من يؤذي رسول الله بأي شكل ؛ والآيات اللاحقة تعليما لنساء المؤمنين يجنبهن أذى الناس، وإنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين إذا لم ينتهوا عن مواقفهم المؤذية. وهذا يوضح أن هذه الفئة هي التي كان يتوقع منها ويقع منها ما فيه أذى الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات، فاستحقت ما احتوته الآيتان من اللعنة والإنذار.
والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدة والتأنيب والتنكيل.
وجملة ﴿ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ﴾ بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه :" قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ". وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه :" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ". ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه :" من آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " ٢. وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه :" قال رسول الله : أي الربا أربى عند الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم " ٣. وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها. وبعضها واردة، وفيها تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.
٢ هذا النص وارد في التاج برواية الشيخين وأبي داود والترمذي أنظر ج ٣ ص ٢٧٢..
٣ في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق). التاج ج ٥ ص ٢٤..
( ١ ) الجلباب : قيل إنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة، وقيل إنه المقنعة التي تغطي المرأة بها جبهتها ورأسها، وقيل إنه الخمار الذي تستر به شقوق ثيابها.
في هذه الآية خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بالإيعاز إلى أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين بضم جلابيبهن على أجسامهن حتى يعرفن بهذا الزي فلا يؤذين ببذيء الكلام.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ٥٩ ) ﴾.
وقد روى المفسرون١ أن الفساق كانوا يتعرضون للنساء في الليل حين يذهبن لحاجاتهن بدون تفريق بين الحرائر والإماء والعفيفات وغير العفيفات، وأن الآية نزلت لجعل زي خاص لحرائر المؤمنات يميزهن عن غيرهن حتى يسلمن من التعرض والأذى. ومنهم من قال : إن الفساق كانوا إذا رأوا المرأة متجلببة كفوا عنها وقالوا : إنها حرة. فأمرت الآية نساء المؤمنين بعدم إهمال الجلباب. وقد روى البغوي في سياق الآية عن أنس قال : " مرت بعمر بن خطاب جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال : يالكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع " والروايات ليست في الصحاح، ولكنها متسقة مع مضمون الآية وروحها كما هو المتبادر.
وتبدو الآية لأول وهلة مستقلة. غير أن من الممكن أن يلمح شيء من الاتصال بينها وبين الآية السابقة لها التي نبهت على عظم إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، وبينها وبين الآية التالية لها التي احتوت إنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة. وهذا الاتصال الذي نبهنا إليه في شرح الآيات السابقة يؤيد ما قلناه : إن هذه الفئة هي التي كان يقع منها ما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات. والإيعاز كما هو واضح قد تناول زوجات النبي وبناته وسائر نساء المؤمنين. ونص الآية يفيد أن جميعهن كن يخرجن وتقع أعين الناس عليهن. وفي هذا قرينة أخرى على أن الحجاب الذي ذكر في الآية [ ٥٣ ] ليس النقاب. وعلى أن الأمر بقرار نساء النبي الوارد في الآية [ ٣٣ ] ليس مطلقا وباتا. والنص يؤيد كذلك ما قلناه في سياق الآيات [ ٢٨ ٣٤ ] من أن ما في هذه الآيات من أوامر وتنبيهات هو خاص بنساء النبي، ففي ذلك المقام اقتصر الكلام عليهن. ولما اقتضت الحكمة تعليم جميع المؤمنات إطلاقا ذكرن في جملتهن في هذا المقام.
وقد اختلف القول في الجلباب ومفهوم إدنائه. وأوجه الأقوال في الجلباب هو الملاءة أو العباءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. أما الإدناء فمن المفسرين من قال : إنه تغطية الرأس والوجه. ومنهم من قال : إنه ليس تغطية تامة للوجه، وإنما هو تغطية جزئية بحيث يكشف عن العيون أو عين واحدة أو يغطي شقا من الوجه. وعلى كل حال فجملة ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ﴾ لا تفيد أن اتخاذ المؤمنات للجلباب شرعا إسلاميا جديدا، وإن الذي تفيده هو أن اتخاذ النساء للجلباب كان زيا ممارسا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرت بإدنائه كتعليم بزي خاص يعرف به المؤمنات ويفرق به بين الحرائر والعواهر. ليمتنع بذلك أذى الفسقة والفجار عنهن.
وصيغة الآية تشريعية مستمرة الشمول من دون ريب. غير أن الذي يتبادر لنا من روحها وظرف نزولها أن شمول التشريع فيها قياسي أكثر منه شكليا. أي أنه يوجب على المؤمنات زيا أو مظهرا خاصا يميزهن عن العواهر ويمنع عنهن أذى الفساق دون التقيد بنفس الشكل الذي كان جاريا وقت نزول الآية.
فأشكال اللباس والمعيشة والحياة عرضة للتبدل والتطور، ولقد بدأ هذا التبدل والتطور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر عبر الأحقاب الإسلامية بدون حرج إلا مما هو مخالف لروح الآيات القرآنية من الخلاعة والتهتك والتشبه بالعواهر. وهذا هو المتسق مع التشريع القرآني الإلهي ومع طبيعة الأمور التي يراعيها هذا التشريع في رسم المبادئ والقواعد، وبيان الأهداف والغايات وعدم التقيد بالأشكال التي هي عرضة للتطور والتبدل حسب المكان والزمان والضرورة. هذا مع القول : إن للنساء ولرجال المؤمنين اتخاذ ما يشاؤون من أشكال اللباس وطرق المعيشة في حدود الآداب الإسلامية. وليس من مانع للنساء أن يحتفظن إذا شئن بالجلباب أو الملاءة أو العباءة، ويدنينها على وجوههن ورؤوسهن كما يشأن. والله تعالى أعلم.
( ٢ ) المدينة : يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ( ١ ) فِي الْمَدِينَةِ( ٢ ) لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( ٦١ ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( ٦٢ ) ﴾ [ ٦٠ ٦٢ ].
في هذه الآيات
١- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عما يبثونه من وساوس ودسائس، ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيه بهم ويسلطه عليهم ويقدره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.
٢- وتنبيه على أن هذه هي سنة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنة التي لا تتبدل في حال.
تعليق على الآية
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
ولم نطلع على راوية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون١ : إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه، وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة ﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء.
والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدوا من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودس وولوغ في أعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حق الله ورسوله أم في حق المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة السابقة سياقا وموضوعا.
ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار، وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.
وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات. ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة. منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم، والمرجفون يأتي ذكرهم هنا أول مرة. والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة، ويثبطون الهمم، وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا.
والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهنا إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله، والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما، وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشر والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض، وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربص. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هده الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسع صدره ولحمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدرس والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف، بل ومع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [ ٧٤ ] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء :﴿ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ التوبة [ ٧٣ ]، والتحريم [ ٩ ] وأنه ظل على هذه الخطة إلى آخر حياته. وأن باب التوبة ظل مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدينة التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدينة السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي المؤمنين شرهم بوجه الإجمال. كما أن من الممكن أن يقال : إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى، ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار، ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة. وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة. وتضيق دائرة عدواهم وشرهم ومكائدهم. وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية، فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين ؛ حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدس والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته.
ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها ؛ حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات و لا يهتمون إلا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول التنديد والإنذار، وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر.
( ٢ ) المدينة : يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ( ١ ) فِي الْمَدِينَةِ( ٢ ) لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( ٦١ ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( ٦٢ ) ﴾ [ ٦٠ ٦٢ ].
في هذه الآيات
١- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عما يبثونه من وساوس ودسائس، ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيه بهم ويسلطه عليهم ويقدره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.
٢- وتنبيه على أن هذه هي سنة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنة التي لا تتبدل في حال.
تعليق على الآية
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
ولم نطلع على راوية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون١ : إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه، وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة ﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء.
والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدوا من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودس وولوغ في أعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حق الله ورسوله أم في حق المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة السابقة سياقا وموضوعا.
ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار، وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.
وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات. ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة. منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم، والمرجفون يأتي ذكرهم هنا أول مرة. والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة، ويثبطون الهمم، وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا.
والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهنا إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله، والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما، وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشر والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض، وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربص. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هده الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسع صدره ولحمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدرس والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف، بل ومع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [ ٧٤ ] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء :﴿ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ التوبة [ ٧٣ ]، والتحريم [ ٩ ] وأنه ظل على هذه الخطة إلى آخر حياته. وأن باب التوبة ظل مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدينة التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدينة السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي المؤمنين شرهم بوجه الإجمال. كما أن من الممكن أن يقال : إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى، ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار، ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة. وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة. وتضيق دائرة عدواهم وشرهم ومكائدهم. وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية، فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين ؛ حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدس والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته.
ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها ؛ حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات و لا يهتمون إلا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول التنديد والإنذار، وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر.
( ٢ ) المدينة : يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ( ١ ) فِي الْمَدِينَةِ( ٢ ) لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( ٦١ ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( ٦٢ ) ﴾ [ ٦٠ ٦٢ ].
في هذه الآيات
١- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عما يبثونه من وساوس ودسائس، ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيه بهم ويسلطه عليهم ويقدره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.
٢- وتنبيه على أن هذه هي سنة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنة التي لا تتبدل في حال.
تعليق على الآية
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( ٦٠ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
ولم نطلع على راوية خاصة في مناسبة نزولها. وإنما قال المفسرون١ : إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم. وإن الآيات هي في صدد ذلك. وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه، وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة ﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء.
والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدوا من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودس وولوغ في أعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حق الله ورسوله أم في حق المؤمنين والمؤمنات، وأنها بناء على ذلك متصلة السابقة سياقا وموضوعا.
ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار، وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح. واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها.
وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات. ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة. منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم، والمرجفون يأتي ذكرهم هنا أول مرة. والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة، ويثبطون الهمم، وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا.
والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهنا إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله، والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما، وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشر والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض، وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربص. والله تعالى أعلم.
ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هده الفئات من المدينة وأهدر دمها، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسع صدره ولحمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدرس والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف، بل ومع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [ ٧٤ ] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء :﴿ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ التوبة [ ٧٣ ]، والتحريم [ ٩ ] وأنه ظل على هذه الخطة إلى آخر حياته. وأن باب التوبة ظل مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدينة التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدينة السابقة لهذه السورة معا. فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي المؤمنين شرهم بوجه الإجمال. كما أن من الممكن أن يقال : إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى، ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار، ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة. وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة. وتضيق دائرة عدواهم وشرهم ومكائدهم. وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية، فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر، وموكول لأولي الأمر في المسلمين ؛ حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدس والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته.
ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي. غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها ؛ حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا. وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم. ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات و لا يهتمون إلا لمصالحهم الخاصة. حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول التنديد والإنذار، وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت حكاية سؤال للنبي عن الساعة وما أمره الله من جواب على السؤال. ثم أعقب ذلك إيذان بلعنة الله للكافرين وما أعده لهم من سعير ؛ حيث يخلدون فيها دون أو يجدوا وليا ولا نصيرا، وحيث تقلب وجوههم في النار وتأخذهم الحسرة والندامة ويتمنون لو كانوا أطاعوا الله ورسوله ويدعون على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم باللعنة ومضاعفة العذاب.
وتبدو الآيات فصلا جديدا. ولم نطلع على رواية خاصة لنزولها. وإنما ورد في الخزان : قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله عن وقت قيام ساعة استعجالا على سبيل الهزؤ، وكان اليهود يسألون النبي عن ذلك امتحانا ؛ لأن الله أعمى عليهم علمها في التوراة، فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بما في الآيات.
وقيام الساعة أو القيامة كان من أهم ما دار حوله الجدل بين النبي والكفار في العهد المكي على ما حكته آيات كثيرة حكت في الوقت نفسه سؤالهم النبي أكثر من مرة عن موعدها على سبيل التحدي والاستهتار. وتفيد الآيات أن ذلك ظل من المواضيع التي كان يعمد إليها الكفار للتمحل والتعجيز في العهد المدني أيضا. والجواب الذي احتوته من باب الأجوبة التي احتوتها الآيات المكية ؛ حيث يؤمر فيها النبي بأن يعلن أن علمها عند الله، وليس هو إلا نذيرا وبشيرا ولا يعلم من أمر الغيب إلا ما شاء الله١.
وتعبير الناس يشمل كل فئات المجتمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن تعقيب حكاية السؤال وجوابه بجملة على الكفار يمكن أن يكون قرينة على أنه أورد من بعض الكفار أو الشاكين في الآخرة من المنافقين ومرضى القلوب. ولقد تبع هذه الآيات آيات فيها تحذير للمسلمين من أن يكونوا كالذين آذوا موسى بما قد يمكن أن يكون قرينة على أن لليهود يدا أو دخلا في هذا السؤال الجديد بقصد التشكيك بالنبي ورسالته. وإذا صح هذا فإن احتمال كون السؤال من بعض المسلمين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم واردا أيضا بالتحريض وإيعاز من اليهود فاحتوت الآيات حملة على الكفار ومصيرهم الرهيب على سبيل التنبيه والإنذار. والله تعالى أعلم.
والآيتان الأخيرتان تؤكدان ما حكته آيات مكية عديدة عن أدوار الزعماء والأغنياء والكبراء في مناوأة الرسالة النبوية وتعطيلها. وتفيدان أن من أغنياء اليهود والعرب وزعمائهم وكبرائهم في المدينة من كان يقوم بمثل هذه الأدوار في العهد المدني أيضا.
ومع خصوصية الآيتين الزمنية وانطوائهما على ما يتبادر على قصد إثارة الحسرة والندم في السامعين للقرآن مباشرة على طاعة المفسدين الكفار من كبريائهم وسادتهم وإنذارهم بما سيلقونه من نكال ويستشعرونه من ندم وحسرة في الآخرة، فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في تجنب مواقف النساء والتعطيل التي يقفها الكبراء والزعماء من كل حركة ودعوة فيها خير وبر وصلاح. وصرخة داوية ضدهم.
وهتافا لعامة الناس ليحذروهم، ولا يبالون لما يعود عليهم من ذلك من شر و نكال في دنياهم وآخرتهم مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى فيهما.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد حذر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى ؛ على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله، وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه : قال رسول الله : إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ما يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة١ وإما آفة. فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه، فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن الناس خلقا وبرأه مما كانوا يقولون ". فذلك قول الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ ﴾ الخ٢. ومنها حديث معزو إلى علي بن أبي طالب : " أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتهامهم إياه بقتل هارون، فأمر الله الملائكة فحملوه ومروا به ببني إسرائيل فعرفوا أن موسى لم يقتله " ٣. ومنها " أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه وبرأه " ٤. وقد رووا في سياق ذلك حديثا أخرجه الإمام أحمد جاء فيه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له مسلم آخر سمع القول : يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله بما قلت، ثم أخبر النبي بالأمر فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ٥ والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده. والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا.
وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول.
ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه :" لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم ؛ لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.
٢ أنظر التاج ج ٤ ص ١٨٩ ـ ١٩٠. فصل التفسير، وقد روى المفسرون حديث الشيخين والترمذي بصيغ وطرق عديدة وقد نقلناه عن التاج. وانظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن..
٣ أنظر كتب التفسير المذكورة..
٤ أنظر المصدر نفسه..
٥ انظر المصدر نفسه..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد حذر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى ؛ على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله، وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه : قال رسول الله : إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ما يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة١ وإما آفة. فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه، فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن الناس خلقا وبرأه مما كانوا يقولون ". فذلك قول الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ ﴾ الخ٢. ومنها حديث معزو إلى علي بن أبي طالب :" أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتهامهم إياه بقتل هارون، فأمر الله الملائكة فحملوه ومروا به ببني إسرائيل فعرفوا أن موسى لم يقتله " ٣. ومنها " أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه وبرأه " ٤. وقد رووا في سياق ذلك حديثا أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له مسلم آخر سمع القول : يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله بما قلت، ثم أخبر النبي بالأمر فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ٥ والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده. والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا.
وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول.
ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه :" لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم ؛ لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.
٢ أنظر التاج ج ٤ ص ١٨٩ ـ ١٩٠. فصل التفسير، وقد روى المفسرون حديث الشيخين والترمذي بصيغ وطرق عديدة وقد نقلناه عن التاج. وانظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن..
٣ أنظر كتب التفسير المذكورة..
٤ أنظر المصدر نفسه..
٥ انظر المصدر نفسه..
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى... ﴾الخ
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وقد حذر فيها المسلمون من أذية النبي كما فعل بنو إسرائيل مع موسى ؛ على ما كان من وجاهته وطهارته عند الله، وأمروا فيها بتقوى الله وعدم التفوه بغير ما فيه السداد وإطاعة الله ورسوله، وبذلك يصلح الله أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم ويضمنون لأنفسهم الفوز العظيم. والآيات وإن بدت لأول وهلة فصلا جديدا فإننا نرجح أن بينها وبين السياق السابق صلة ما على ما شرحناه قبل قليل. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون في موضوع الآيات أحاديث متنوعة. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه : قال رسول الله : إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ما يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة١ وإما آفة. فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ وأقبل إلى ثيابه عدا الحجر بثوبه، فلحق به حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن الناس خلقا وبرأه مما كانوا يقولون ". فذلك قول الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ ﴾ الخ٢. ومنها حديث معزو إلى علي بن أبي طالب :" أن أذى بني إسرائيل لموسى هو اتهامهم إياه بقتل هارون، فأمر الله الملائكة فحملوه ومروا به ببني إسرائيل فعرفوا أن موسى لم يقتله " ٣. ومنها " أن قارون استأجر مومسا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه وبرأه " ٤. وقد رووا في سياق ذلك حديثا أخرجه الإمام أحمد جاء فيه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له مسلم آخر سمع القول : يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله بما قلت، ثم أخبر النبي بالأمر فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ٥ والأحاديث الثلاثة هي في بيان ما أوذي به موسى، وفيها ما هو صحيح فيوقف عنده. والحديث الرابع فيه حادث واقعي إزاء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فيه ما جاء من حكاية تأسي النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ويتضح به هدف الآيات التحذيري والتنبيهي أيضا.
وفي الآيات تأديب رباني مستمر التلقين في وجوب الامتناع عن اتهام الناس بما ليس فيهم والتزام حدود الحق والسداد في كل ما يصدر عن المرء من قول.
ولقد روى ابن كثير حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الآية وفي مناسبتها جاء فيه :" لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
وقد انطوى في الحديث كذلك تأديب نبوي في وجوب الامتناع عن نقل ما يسيء من أقوال الناس إلى من قيلت فيهم ؛ لما في ذلك من إثارة للكراهة والبغضاء وأذى النفس.
٢ أنظر التاج ج ٤ ص ١٨٩ ـ ١٩٠. فصل التفسير، وقد روى المفسرون حديث الشيخين والترمذي بصيغ وطرق عديدة وقد نقلناه عن التاج. وانظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن..
٣ أنظر كتب التفسير المذكورة..
٤ أنظر المصدر نفسه..
٥ انظر المصدر نفسه..
تعليق على الآية
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ... ﴾ الخ والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة من الناحية اللغوية. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزولهما. ويتبادر لنا أنهما معقبان على الآيات السابقة في صدد النهي عن أذى الناس الأبرياء واتهامهم بما ليس فيهم. ففي هذا إخلال بالأمانة التي حملها الإنسان. ثم في صدد الأمر بتقوى الله والتزام حدود الحق والقول السديد. فإن هذا من مقتضيات الأمانة وما يؤدي إلى الصلاح والفوز ورضاء الله وغفرانه.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في مفهوم الأمانة وتأويل الآية الأولى عزوا إلى ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم من أصحاب رسول الله وتابعيهم. من ذلك أن الأمانة هي الطاعة لله والتزام ما فرضه أمرا ونهيا. ومنها أنها أركان الإسلام التعبدية والمالية. ومنها أنها عدم خيانة الودائع وأداء الدين. ومنها أنها التكليف عامة. ومنها أن الله عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فاعتذرن وقلن : نحن مسخرات وكفى. فقال لآدم : إني عرضتها على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها، فقال آدم : وما فيها يا رب ؟ فقال له : إن قمت بحقها جوزيت وغفر لك، وإن قصرت فيها عوقبت وعذبت، فقبل وتحملها، فلم يلبث أن عصى ربه وأخرج من الجنة. ومنها أن المقصود من السموات والأرض والجبال هو أهلها ويدخل في ذلك الملائكة والحيوان على اختلافه عدا بني آدم.
والذي يتبادر لنا أن الأمانة هي أهلية التكليف، أو التكليف نفسه بما فيه من الإخلاص لله وعبادته والتزام أوامره ونواهيه.
وإن جملة ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَال ﴾ قد جاءت بلفظ الواقع على وجه التقدير بقصد تقرير خطورة التكليف وأهليته وواجباته بحيث لو عرض ذلك على السموات والأرض والجبال، وهي ما هي من العظمة والسعة والجلال لخافت من التقصير فيه وأبت حمله فحمله الإنسان أو اختص بحمله نتيجة لتأهيل الله له بالتميز والإرادة وقابلية الخير والشر والاختيار بينهما مما لم يكن حظ غيره من المخلوقات. غير أنه لم يرعاها حق رعايتها، فنم بذلك عن جهل لخطورة ما حمل وعن ظلم لنفسه بتقصيره في القيام بما حمل. ويتبادر لنا من روح الآيتين أن النعت التنديدي بالإنسان بكونه ظلوما جهولا هو موجه في الدرجة الأولى إلى من لم يرع الأمانة حق رعايتها. أو أن هذا هو المقصود بذلك. ويتبادر لنا كذلك أن اللام التي بدئت الآية الثانية بها هي سببية.
وأن هذه الآية متممة للمعنى المنطوي في الآية الأولى ؛ حيث تكون احتوت تقرير كون الله قد اختص الإنسان بالأمانة التي هي بمعنى التكليف كوسيلة لاختبار الناس حتى يتميز خبيثهم من طيبهم وطالحهم من صالحهم ومقصرهم من القائم بواجباته منهم فيعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يكونون قد انحرفوا عن طريق الحق والواجب، واندفعوا بما اختاروه من طريق بالتقصير والظلم والجهالة. ويشمل المؤمنين والمؤمنات الذين يكونون بإيمانهم قد اختاروا طريق الحق المستقيم وكان ذلك حافزا لهم على القيام بواجبهم ورعاية الأمانة حق رعايتها بعطفه وتوفيقه ورحمته وغفرانه.
ويتبادر لنا أن تأويل ﴿ وحملها ﴾ بمعنى خانها غير سليم من ناحية اللغة والاستعمال القرآني لكلمة ( حمل ) ومشتقاتها. ومن ناحية كون ليس كل إنسان على الإطلاق هو خائن للتكليف والأمانة مقصر بواجباته نحوهما. فهناك الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحون والتابعون لهم بإحسان الذين يصح أن يدخلوا في عموم كلمة ( الإنسان ) فيكونوا حسب هذا التأويل مدموغين أيضا بالخيانة. بل وإن هذا الذي نقوله يرد في تشميل نعت الظلم والجهالة لكل إنسان مطلقا كما قد توهمه العبارة القرآنية. ويجعل ما قلناه من أن المراد به هو الإنسان المنحرف عن طريق الحق والهدى هو الأوجه والأكثر ورودا.
مدى التنويه القرآني بالإنسان
والآيتان بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قد احتوتا تنويها جديدا بالإنسان وخطورة شأنه. وتقريرا لأهليته للتكليف وقابليته لاختيار الخير والشر والاستقامة والانحراف وإنذارا للذين يختارون الضلال ويسيرون في طريقه وبشرى للذين يختارون الهدى ويسيرون في طريقه كذلك. بل نكاد أن نقول : إن الآيتين وبخاصة أولاهما احتوت مفتاح كل ما أفاده القرآن للإنسان من اهتمام عظيم خاصة كل ما سواه بل وكان محور كل أو جل آيته حيث جعله على ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة جدا، والعبارة القرآنية فيها : قطب الكون والمخلوقات الأخرى، وخليفة الله في أرضه وسخر له كل ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وكرمه وفضله على كثير من خلقه وامتازه عن غيره من الحيوان فجعله خلقا آخر واختصه بالبعث والحساب والثواب والعقاب وسواه بيده، ونفخ فيه من روحه وجعله في أحسن تقويم وعلى أحسن الصور وأعدلها وعلمه البيان وعلمه كل العلوم، وكان من حكمة خلقه قصد ابتلاء نوعه أيهم أحسن عملا. فجاءت هذه الآيات لتكون ذروة ذلك الاهتمام ومفتاحه وهو كونه الذي أهله الله تعالى لحمل الأمانة والتكليف دون سائر مخلوقاته.
دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات
وهناك دلالات عديدة لذكر هذه الفئات بالأسلوب الذي جاء به رأينا فائدة في تنبيه عليها على حدة.
فأولا : إنه مع شمول ما انطوى في الآيات من مقاصد لجميع الناس في جميع الأزمان، فإن ذكر الفئات في الآية الثانية يجعل الصلة وثيقة بينها وبين سامعي القرآن الأولين من مختلف الفئات. أو بعبارة ثانية يعطي صورة لما كان عليه المجتمع في العهد النبوي.
وثانيا : إن ذكر المؤمنات والمشركات والمنافقات يفيد أن الميدان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإزاء دعوته ولرسالته لم يكن خاليا من المرأة، وأنه كان هناك مؤمنات مخلصات كما كان هناك مشركات عنيدات ومنافقات خائنات فاستحقت الأوليات بشرى الله بالتزامهن حدود الله وتكليفه واستحقت الأخريات إنذار الله وعذابه لانحرافهن عن هذه الحدود.
وثالثا : إن ذكر الرجال والنساء نصا في الآية الثانية هو تابع لذكر ﴿ الإنسان ﴾ في الآية الأولى. وبعبارة أخرى إن كلمة ﴿ الإنسان ﴾ قد عنت الذكر والأنثى معا. وفي هذا توكيد لما احتوته آيات كثيرة في كون الذكر والأنثى هم إزاء التكليف وواجباته وتبعاته سواء بدون أي تمييز مع القول : إن هذا المعنى في الآيتين أشد بروزا. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ... ﴾ الخ والتي بعدها
عبارة الآيتين واضحة من الناحية اللغوية. ولم يرو المفسرون رواية خاصة في سبب نزولهما. ويتبادر لنا أنهما معقبان على الآيات السابقة في صدد النهي عن أذى الناس الأبرياء واتهامهم بما ليس فيهم. ففي هذا إخلال بالأمانة التي حملها الإنسان. ثم في صدد الأمر بتقوى الله والتزام حدود الحق والقول السديد. فإن هذا من مقتضيات الأمانة وما يؤدي إلى الصلاح والفوز ورضاء الله وغفرانه.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في مفهوم الأمانة وتأويل الآية الأولى عزوا إلى ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم من أصحاب رسول الله وتابعيهم. من ذلك أن الأمانة هي الطاعة لله والتزام ما فرضه أمرا ونهيا. ومنها أنها أركان الإسلام التعبدية والمالية. ومنها أنها عدم خيانة الودائع وأداء الدين. ومنها أنها التكليف عامة. ومنها أن الله عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فاعتذرن وقلن : نحن مسخرات وكفى. فقال لآدم : إني عرضتها على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها، فقال آدم : وما فيها يا رب ؟ فقال له : إن قمت بحقها جوزيت وغفر لك، وإن قصرت فيها عوقبت وعذبت، فقبل وتحملها، فلم يلبث أن عصى ربه وأخرج من الجنة. ومنها أن المقصود من السموات والأرض والجبال هو أهلها ويدخل في ذلك الملائكة والحيوان على اختلافه عدا بني آدم.
والذي يتبادر لنا أن الأمانة هي أهلية التكليف، أو التكليف نفسه بما فيه من الإخلاص لله وعبادته والتزام أوامره ونواهيه.
وإن جملة ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَال ﴾ قد جاءت بلفظ الواقع على وجه التقدير بقصد تقرير خطورة التكليف وأهليته وواجباته بحيث لو عرض ذلك على السموات والأرض والجبال، وهي ما هي من العظمة والسعة والجلال لخافت من التقصير فيه وأبت حمله فحمله الإنسان أو اختص بحمله نتيجة لتأهيل الله له بالتميز والإرادة وقابلية الخير والشر والاختيار بينهما مما لم يكن حظ غيره من المخلوقات. غير أنه لم يرعاها حق رعايتها، فنم بذلك عن جهل لخطورة ما حمل وعن ظلم لنفسه بتقصيره في القيام بما حمل. ويتبادر لنا من روح الآيتين أن النعت التنديدي بالإنسان بكونه ظلوما جهولا هو موجه في الدرجة الأولى إلى من لم يرع الأمانة حق رعايتها. أو أن هذا هو المقصود بذلك. ويتبادر لنا كذلك أن اللام التي بدئت الآية الثانية بها هي سببية.
وأن هذه الآية متممة للمعنى المنطوي في الآية الأولى ؛ حيث تكون احتوت تقرير كون الله قد اختص الإنسان بالأمانة التي هي بمعنى التكليف كوسيلة لاختبار الناس حتى يتميز خبيثهم من طيبهم وطالحهم من صالحهم ومقصرهم من القائم بواجباته منهم فيعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يكونون قد انحرفوا عن طريق الحق والواجب، واندفعوا بما اختاروه من طريق بالتقصير والظلم والجهالة. ويشمل المؤمنين والمؤمنات الذين يكونون بإيمانهم قد اختاروا طريق الحق المستقيم وكان ذلك حافزا لهم على القيام بواجبهم ورعاية الأمانة حق رعايتها بعطفه وتوفيقه ورحمته وغفرانه.
ويتبادر لنا أن تأويل ﴿ وحملها ﴾ بمعنى خانها غير سليم من ناحية اللغة والاستعمال القرآني لكلمة ( حمل ) ومشتقاتها. ومن ناحية كون ليس كل إنسان على الإطلاق هو خائن للتكليف والأمانة مقصر بواجباته نحوهما. فهناك الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحون والتابعون لهم بإحسان الذين يصح أن يدخلوا في عموم كلمة ( الإنسان ) فيكونوا حسب هذا التأويل مدموغين أيضا بالخيانة. بل وإن هذا الذي نقوله يرد في تشميل نعت الظلم والجهالة لكل إنسان مطلقا كما قد توهمه العبارة القرآنية. ويجعل ما قلناه من أن المراد به هو الإنسان المنحرف عن طريق الحق والهدى هو الأوجه والأكثر ورودا.
مدى التنويه القرآني بالإنسان
والآيتان بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قد احتوتا تنويها جديدا بالإنسان وخطورة شأنه. وتقريرا لأهليته للتكليف وقابليته لاختيار الخير والشر والاستقامة والانحراف وإنذارا للذين يختارون الضلال ويسيرون في طريقه وبشرى للذين يختارون الهدى ويسيرون في طريقه كذلك. بل نكاد أن نقول : إن الآيتين وبخاصة أولاهما احتوت مفتاح كل ما أفاده القرآن للإنسان من اهتمام عظيم خاصة كل ما سواه بل وكان محور كل أو جل آيته حيث جعله على ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة جدا، والعبارة القرآنية فيها : قطب الكون والمخلوقات الأخرى، وخليفة الله في أرضه وسخر له كل ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وكرمه وفضله على كثير من خلقه وامتازه عن غيره من الحيوان فجعله خلقا آخر واختصه بالبعث والحساب والثواب والعقاب وسواه بيده، ونفخ فيه من روحه وجعله في أحسن تقويم وعلى أحسن الصور وأعدلها وعلمه البيان وعلمه كل العلوم، وكان من حكمة خلقه قصد ابتلاء نوعه أيهم أحسن عملا. فجاءت هذه الآيات لتكون ذروة ذلك الاهتمام ومفتاحه وهو كونه الذي أهله الله تعالى لحمل الأمانة والتكليف دون سائر مخلوقاته.
دلالات ذكر المؤمنين والمؤمنات والمشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات
وهناك دلالات عديدة لذكر هذه الفئات بالأسلوب الذي جاء به رأينا فائدة في تنبيه عليها على حدة.
فأولا : إنه مع شمول ما انطوى في الآيات من مقاصد لجميع الناس في جميع الأزمان، فإن ذكر الفئات في الآية الثانية يجعل الصلة وثيقة بينها وبين سامعي القرآن الأولين من مختلف الفئات. أو بعبارة ثانية يعطي صورة لما كان عليه المجتمع في العهد النبوي.
وثانيا : إن ذكر المؤمنات والمشركات والمنافقات يفيد أن الميدان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإزاء دعوته ولرسالته لم يكن خاليا من المرأة، وأنه كان هناك مؤمنات مخلصات كما كان هناك مشركات عنيدات ومنافقات خائنات فاستحقت الأوليات بشرى الله بالتزامهن حدود الله وتكليفه واستحقت الأخريات إنذار الله وعذابه لانحرافهن عن هذه الحدود.
وثالثا : إن ذكر الرجال والنساء نصا في الآية الثانية هو تابع لذكر ﴿ الإنسان ﴾ في الآية الأولى. وبعبارة أخرى إن كلمة ﴿ الإنسان ﴾ قد عنت الذكر والأنثى معا. وفي هذا توكيد لما احتوته آيات كثيرة في كون الذكر والأنثى هم إزاء التكليف وواجباته وتبعاته سواء بدون أي تمييز مع القول : إن هذا المعنى في الآيتين أشد بروزا. والله تعالى أعلم.