وهي مدنية بإجماعهم
ﰡ
وهي مدنيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.
(١١١٥) سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجَدّ بن قيس فتكلَّموا فيما بينهم، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(١١١٦) قال مقاتل: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ: إِنَّ لها شفاعة، فكره ذلك، ونزلت الآية.
وقال ابن جرير: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ الذين يقولون: اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين وَالْمُنفِقِينَ فلا تَقْبَل منهم رأياً. فان قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى، وهو سيِّد المتَّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه. والثاني: الإِكثار مما هو فيه.
والثالث: أنه خطاب وُوجِهَ به، والمراد أُمَّتُه. قال المفسرون: وأراد بالكافرين في هذه الآية: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، وبالمنافقين: عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن
عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ممن يضع الحديث، فهذا لا شيء.
(١١١٧) أحدهما: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلبٌ مع أصحابه، فأكذبهم اللهُ تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١١١٨) والثاني: أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري- كذا نسبه جماعة من المفسرين. وقال الفراء: جميل بن أسد، ويكنى: أبا مَعْمَر. وقال مقاتل: أبو مَعْمَر بن أنس الفهري- وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟
قال: انهزموا، قال: فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده وهذا قول جماعة من المفسرين. وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً، قال: بلغنا أنّ ذلك في زيد بن حارثة ضُرب له مثَل يقول: ليس ابنُ رجل آخر ابنَك.
قال الأخفش: «مِنْ» زائدة في قوله تعالى: «من قلبين». قال الزّجّاج: أكذب الله عزّ وجلّ هذا الرجل الذي قال: لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له، فقال:
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام، وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي، وكذلك قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي: ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً- وليس بولد في الحقيقة- ابناً ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي:
نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي: لا يجعل غير الابن ابناً وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي: للسّبيل المستقيم. وذكر المفسّرون أنّ قوله تعالى: «وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ» نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة. ومعنى الكلام: ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم، إِنَّما قولُكم معصية، وفيه كفّارة، وأزواجكم حلال لكم وسنشرح هذا في سورة المجادلة إِن شاء الله. وذكروا أنّ قوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٨٩ بتمامه بدون إسناد. وورد بنحوه عند الطبري ٢٨٣٢١ وعبد الرزاق ٢٣١١ عن قتادة مرسلا. وورد أيضا من مرسل عكرمة عند الطبري ٢٨٣٢٣. وعن ابن عباس أخرجه الطبري ٢٨٣١٩ وفيه مجاهيل، وفيه أيضا عطية العوفي، وهو واه. الخلاصة: هو خبر ضعيف، فهذه الروايات واهية لا تقوم بها حجة.
__________
(١) النساء: ٨١.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥ الى ٦]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ. قال ابن عمر:
(١١٢٠) ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد، حتى نزلت «أُدعوهم لآبائهم».
قوله تعالى: هُوَ أَقْسَطُ أي: أعدل، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي: إِن لم تعرفوا آباءهم فَإِخْوانُكُمْ أي: فهم إِخوانُكم، فليقُل أحدُكم: يا أخي، وَمَوالِيكُمْ قال الزجاج: أي بنو عمِّكم.
ويجوز أن يكون «مواليكم» أولياءَكم في الدِّين. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فيما أخطأتم به قبل النَّهي، قاله مجاهد. والثاني: في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك، قاله قتادة. والثالث: فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت. فعلى الأول يكون معنى قوله تعالى: وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي: بعد النَّهي. وعلى الثاني والثالث. ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه.
قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: أحقُّ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إِذا دعاهم إِلى شيء، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم وهذا صحيح، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم، والرسول عليه السلام يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم.
قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي: في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ، وَلَورِثْنَ المسلمين، ولجازت الخَلوة بهنَّ. وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت: يا أُمَّاه، فقالت: لستُ لكِ بأُمٍّ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط.
وقال مجاهد: «وأزواجُه أُمَّهاتُهم» وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسَّر في آخر الأنفال إِلى قوله تعالى:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً وهذا استثناء ليس من الأول،
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٨٢ ومسلم ٢٤٢٥ والترمذي ٣٢٠٩ و ٣٨١٤ والنسائي في «التفسير» ٤١٦ وأحمد ٢/ ٧٧ وابن سعد ٣/ ٤٣ وابن حبان ٧٠٤٢ والطبراني ١٣١٧ والبيهقي ٧/ ١٦١ والواحدي في «الأسباب» ٦٩١ من طرق عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر...
الوصية. قوله تعالى: كانَ ذلِكَ يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام فِي الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي: مكتوباً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧ الى ٩]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا المعنى: واذكر إِذ أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي: عهدهم وفيه قولان: أحدهما: أخذُ ميثاق النبييِّن: أن يصدِّق بعضُهم بعضاً، قاله قتادة. والثاني: أن يعبدوا الله تعالى ويدعوا إِلى عبادته، ويصدِّق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم، قاله مقاتل. وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ. قال أُبيُّ بن كعب: لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر.
فان قيل: لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء؟ فالجواب: أنه نبَّه بذلك على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلّم بياناً لفضله عليهم «١».
(١١٢١) قال قتادة: كان نبيُّنا أوّل النّبيّين في الخلق.
وورد من حديث أبي هريرة مرفوعا. أخرجه الديلمي ٤٨٥٠ وأبو نعيم في «الدلائل» ٣ من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا، فيه سعيد بن بشير، وهو ضعيف منكر الحديث، وساق الذهبي هذا الحديث في ترجمته في «الميزان» ٣١٤٣ على أنه من منكراته. وله علة ثانية: وهي أن الحس لم يسمع من أبي هريرة، فالإسناد ضعيف جدا، لا شيء. وأما المتن فباطل. بل أول من خلق من البشر، آدم عليه السلام، هذا وقد خلط بعضهم هذا الحديث بحديث «كنت نبيا، وآدم بين الروح والجسد». وهذا الحديث الأخير صحيح. أخرجه أحمد ٥/ ٥٩ والحاكم ٢/ ٦٠٩ والطبراني ٢/ ٣٥٣ والآجري في «الشريعة» ٩٥٦ من طرق عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال مسلم. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ٢٢٢: رجاله رجال الصحيح. ولهذا الحديث شواهد كثيرة، لكنه لا يثبت أولية الخلق إنما فيه إثبات، أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وفي علم الله تعالى، فتنبّه، فإن هذا الحديث الأخير، يخالف الأول ويفارقه، وإنما خلق وولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم ولدته أمه آمنة كما هو معلوم.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٥٧٩: يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء: أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرح بذكرهم نصا في هذه الآية، وبدأ في هذه الآية بالخاتم، لشرفه- صلوات الله عليه- ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم.
الخلاصة: إسناده ضعيف جدا كما تقدم، والمتن باطل، فالنبي صلى الله عليه وسلّم آخر النبيين في الخلق والبعث. والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» ١٩٦٦ و «تفسير ابن كثير» ٣/ ٥٧٩ و «المقاصد الحسنة» ٨٣٧ للسخاوي و «الشريعة» ٤٢٨- ٤٣٠ للآجري بتخريجنا والله الموفق.
وها هنا تم الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام الخندق.
الإِشارة إِلى القصة
(١١٢٢) ذَكر أهل العلم بالسّيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا أجلى بني النضير، ساروا إِلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سُلَيم ب «مرِّ الظهران»، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مُرَّة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خروجُهم من مكة، أخبر الناسَ خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى سفح «سَلْعٍ»، وجعل سَلْعاً خلف ظهره ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعَظُم البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم «١» الكَرْب، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا: لا نقاتِل فيه، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إِنكم والله لستم بدار مُقام، لقد هلك الخُفُّ والحافر، وأجدب الجَنَاب «٢»، وأخلفتْنا قريظةُ، ولقينا من الريح ما ترَون، فارتحِلوا فاني مرتحِل فأصبحت العساكر قد أقشَعت «٣» كلُّها. قال مجاهد: والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا، حتى أكفأت «٤» قدورهم، ونزعت فساطيطهم «٥». والجنود: الملائكة،
__________
(١) في «اللسان» خلص: وصل وبلغ.
(٢) الجناب والجانب: الناحية والفناء وما قرب من محلّة القوم.
(٣) أقشع القوم: تفرّقوا.
(٤) أكفأ الشيء: أماله، وكفأت الإناء: كببته.
(٥) الفسطاط: بيت من شعر.
قوله تعالى: لَمْ تَرَوْها وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع: «لم يَرَوْهَا» بالياء وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً وقرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٠ الى ١٢]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢)
قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي: مِنْ فوق الوادي ومن أسفله وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي: مالت وعَدَلت، فلم تنظُر إِلى شيء إِلاَّ إِلى عدوِّها مُقْبِلاً من كل جانب وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وهي جمع حَنْجَرَة. والحَنْجَرَة: جوف الحُلْقُوم. قال قتادة: شَخَصتْ عن مكانها، فلولا أنَّه ضاق الحُلقوم عنها أن تخرُج لخرجت. قال غيره: المعنى أنهم جَبُنوا وَجِزع أكثرهم وسبيل الجبان إِذا اشتدُّ خوفُه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إِلى الحَنْجَرة، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء.
وذهب ابن قتيبة إِلى أن المعنى: كادت القلوبُ تبلُغ الحُلوقَ من الخوف. وقال ابن الأنباري: «كاد» لا يُضْمَر ولا يُعْرَف معناه إِذا لم يُنْطَق به. قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قال الحسن: اختلفت ظنونهم، فظن المنافقون أن محمّدا عليه السلام وأصحابه يُستأصَلون، وظن المؤمنون أنه يُنْصَر. قرأ ابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: «الظنُّونا» و «الرّسولا» «١» و «السّبيلا» «٢» بألف إِذا وقفوا عليهن، وبطرحها في الوصل. وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: وصل أو وقْف بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالألف فيهن وصلاً ووقفاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بغير ألف في وصل ولا وقف. قال الزجاج: والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتَّبعون السُّنَّة من قرّائهم أن يقرءوا:
«الظنُّونا» ويقفون على الألف ولا يَصِلون وإِنما فعلوا ذلك، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يُثبتون في آخرها الألف في الوقف.
قوله تعالى: هُنالِكَ أي: عند ذلك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختُبروا بالقتال والحصر ليتبيَّن المُخلِص من المنافق وَزُلْزِلُوا أي: أُزعجوا وحُرِّكوا بالخوف، فلم يوجَدوا إِلا صابرين. وقال الفراء:
حُرِّكوا إِلى الفتنة تحريكاً، فعُصموا.
قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الشِّرك، قاله الحسن. والثاني: النفاق، قاله قتادة، ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً قال المفسرون: قالوا يومئذ: إِن محمداً يَعِدنا أن نفتَح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا واللهِ الغرور. وزعم ابن السّائب أنّ القائل هذا معتّب بن قشير.
(٢) الأحزاب: ٦٧.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٣ الى ١٧]
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من المنافقين. وفي القائلين لهذا منهم قولان:
أحدهما: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، قاله السدي. والثاني: بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يا أَهْلَ يَثْرِبَ قال أبو عبيدة: يَثْرِب اسم أرض، ومدينةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ناحية منها.
قوله تعالى: لا مُقامَ لَكُمْ وقرأ حفص عن عاصم: لا مُقامَ بضم الميم. قال الزجاج: من ضمَّ الميم، فالمعنى: لا إِقامة لكم ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم تُقيمون فيه. وهؤلاء كانوا يثبّطون المؤمنين عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَارْجِعُوا أي: إِلى المدينة.
(١١٢٣) وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سَلْعِ»، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم ها هنا مقام، لكثرة العدوّ، هذا قول الجمهور.
وحكى الماوردي قولَين آخرَين:
أحدهما: لا مُقام لكم على دين محمد فارجِعوا إِلى دين مشركي العرب، قاله الحسن.
والثاني: لا مُقام لكم على القتال، فارجعوا إِلى طلب الأمان، قاله الكلبي.
قوله تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ فيه قولان: أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: بنو حارثة بن الحارث بن الخزرج. وقال السدي: إِنما استأذنه رجلان من بني حارثة.
والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قال ابن قتيبة: أي: خاليةٌ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها، وأصل العَوْرة: ما ذهب عنه السِّتر والحِفظ، فكأنَّ الرجال سِترٌ وحفظٌ للبيوت، فاذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ، تقول العرب: أَعْوَرَ منزلي: إِذا ذهب سِتْرُه، أو سقط جداره، وأعْوَرَ الفارسُ: إِذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ لأنّ الله تعالى يحفظها، ولكن يريدون الفرار. وقال الحسن، ومجاهد قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا ممَّا يلي العدوّ، ولا نأمن على أهلنا، فكذّبهم الله تعالى وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار.
قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني المدينة والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قُطْر، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والضحاك، والزهري، وأبو عمران وأبو جعفر، وشيبة: «ثم سُيِلوا» برفع السين وكسر الياء من غير همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومجاهد وأبو الجوزاء: «ثم سوئلوا» برفع السين ومدِّ الواو بهمزة مكسورة بعدها. وقرأ الحسن، وأبو
لقصدوها، ولفعلوها. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: «لآتوها» أي بالمدّ، لأعطَوها.
قال ابن عباس في معنى الآية: لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشِّرك لأشركوا. قوله تعالى:
وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً فيه قولان: أحدهما: وما احتَبَسوا عن الإِجابة إِلى الكفر إِلا قليلاً، قاله قتادة. والثاني: وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإِجابة إِلاَّ يسيراً حتى يعذَّبوا، قاله السدي. وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولاً عجيباً، وهو أنّ الفتنة ها هنا: الحرب، والمعنى: ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادِرين، وما تلبْثوا- يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إِلاَّ قليلاً حتى يُخرجوهم منها وإِنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكِّ في دينك قال: وهذا المعنى حَفِظتُه من كتاب الواقدي.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلمَّا علموا ما أعطى الله عزّ وجلّ أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالاً لنقاتِلَنّ، قاله قتادة. والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على طاعة الله تعالى ونُصرة رسوله، قاله مقاتل «١». والثالث: أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل، عاهد الله تعالى معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب: لا نولِّي دُبُراً قطُّ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو اليَق ممَّا قبله. وإِذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلِّهم! قوله تعالى: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي: يُسأَلون عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ بعد الفرار في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا وهو باقي آجالكم.
ثم أخبر ان ما قدَّره عليهم لا يدفع، بقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: يُجيركم ويمنعكم منه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً وهو الإِهلاك والهزيمة والبلاء أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وهي النصر والعافية والسلامة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي: لا يجدون مُوالياً ولا ناصراً يمنعهم من مراد الله عزّ وجلّ فيهم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢)
(١١٢٤) أحدهما: أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأبيه وأمّه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت ها هنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إِليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله تعالى: يَسِيراً، هذا قول ابن زيد.
(١١٢٥) والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم- يثبِّطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً، فيأتون ليرى الناسُ وجوههم، فاذا غُفل عنهم عادوا إِلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
والمعوِّق: المثبّط تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إِذا منعك عن الوجه الذي تريده.
وكان المنافقون يعوّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نُصَّاره.
قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد. والثاني: أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال، قاله مقاتل. والثالث: أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله عزّ وجلّ إِلَّا قَلِيلًا للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله عزّ وجلّ لكان كثيراً.
قوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون الحرب إلّا تعذيرا، بخلا عليكم. وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال: أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.
والثاني: بالنفقة في سبيل الله عزّ وجلّ. والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة. والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.
ثم أخبر عن جُبنهم فقال: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ أي: إِذا حضر القتال رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته
وانظر «تفسير القرطبي» ١٤/ ١٣٦.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ قال مقاتل أي: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان وَكانَ ذلِكَ الإِحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب. والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل.
ثم عاب من تخلّف بالمدينة بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم أُحُد حتى كسرت رباعيّته وشجّ جبينه وقتل عمّه، وواساكم مع ذلك بنفسه. وقرأ عاصم: «أُسوةٌ» بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: «إِسوة» بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: «أُسوة» بالضم. وخَصَّ اللهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ والمعنى أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلّم إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان: أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس. والثاني: يخشى الله عزّ وجلّ ويخشى البعث، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله تعالى متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفي ذلك الوعد قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «١» الآية: فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن
قوله تعالى: وَما زادَهُمْ يعني ما رأوه إِلَّا إِيماناً بوعد الله تعالى وَتَسْلِيماً لأمره.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك.
(١١٢٦) وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال: غِبْتُ عن أوّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلّم المشركين، لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة.
قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فيه وفي أصحابه.
(١١٢٧) والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله. روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام
حسن بشواهده. أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في «الدر» ٥/ ٣٦٦، ولم أقف على إسناده، وللحديث شواهد مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلفظ «طلحة ممن قضى نحبه» وبألفاظ متقاربة منها: حديث جابر بن عبد الله أخرجه الترمذي ٣٧٣٩ والحاكم ٣/ ٣٧٦ من طرق عن الصلت بن دينار به. قال الحاكم: تفرّد به الصلت، وليس من شرط هذا الكتاب. وقال الذهبي: الصلت واه. وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه الترمذي ٣٢٠٢ و ٣٧٤٠ وابن سعد في «الطبقات» ٣/ ١٦٤ وابن ماجة ١٢٦ و ١٢٧ والطبري ٢٨٤٣١ من طريقين عن إسحاق بن يحيى الطلحي عن موسى بن طلحة عن معاوية مرفوعا. وإسناده واه لأجل إسحاق بن يحيى، قال أحمد والنسائي: متروك. وقال يحيى: لا يكتب حديثه. وحديث عائشة أخرجه ابن سعد ٣/ ١٦٣- ١٦٤ وأبو يعلى ٤٨٩٨ وأبو نعيم ١/ ٨٨ ومداره على صالح بن موسى، وهو متروك، وكذا قال الهيثمي في «المجمع» ٩/ ٤٨. وحديث عائشة أخرجه الحاكم ٣/ ٣٧٦ من وجه آخر عنها وفيه إسحاق بن يحيى متروك ليس بشيء. وحديث طلحة بن عبيد الله أخرجه الترمذي ٣٢٠٣ و ٣٧٤٢ وأبو يعلى ٣٦٣ والطبري ٢٨٤٣٠- من طريق موسى وعيسى ابني طلحة عنه. قال الترمذي: حسن غريب، وسمعت البخاري يحدث بهذا الحديث عن أبي كريب، ووضعه في كتاب «الفوائد». ورجاله رجال مسلم ولكن طلحة بن يحيى، وإن روى له مسلم، ووثقه غير واحد فقد قال يحيى القطان: لم يكن بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة:
صالح الحديث. وله شاهد مرسل أخرجه ابن سعد ٣/ ١٦٤ من طريق حصين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وهذا مرسل صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم، ليس له علة إلا الإرسال فهذا شاهد لما تقدم. الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده، ومع ذلك في المتن غرابة وانظر «أحكام القرآن» ١٧٦٦ بتخريجنا وانظر «الصحيحة» ١٢٦.
قال ابن جرير: ومعنى الآية: وفوا الله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال. أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة. والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله عزّ وجلّ أن لا يتأخَّروا بعدها. والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا. والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس. والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد. والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل وعلى الثاني: العهد وعلى الثالث: النَّذْر. وقال ابن قتيبة: «قضى نحبه» أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذروا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل: للعطيَّة: «مَنْ»، لأن من أعطى فقد مَنَّ. قال ابن عباس: ممَّن قضى نَحْبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه. وقال ابن إِسحاق: «فمنهم من قضى نحبه» من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، «ومنهم من ينتظرُ» ما وعد اللهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وَما بَدَّلُوا أي: ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله تعالى عليه وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض العهد إِنْ شاءَ وهو أن يُميتَهم على نفاقهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان، فيغفر لهم.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الأحزاب، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين بِغَيْظِهِمْ أي: لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك عندهم خيراً، فخوطبوا على استعمالهم وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملائكة، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي:
عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد، وصاروا مع المشركين يداً واحدة.
(١١٢٨) ذكر أهل العِلْم بالسّيرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل، فتبدَّى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأْمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم، فدعا عليّاً رضي الله عنه فدفع لواءه إِليه، وبعث بلالاً فنادى في الناس:
(١١٢٩) إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار، وقيل: عشرين ليلة.
(١١٣٠) فأَرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر، فأرسله إِليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشار إِليهم بيده: إِنه الذَّبْح، ثُمَّ ندم فقال: خنتُ الله تعالى ورسولَه، فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمّر بهم رسول الله محمّد بن مسلمة، فكتفوا، ونُحُّوا ناحيةً، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً. وكلَّمت الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يَهَبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ هكذا ذكر محمد بن سعد.
(١١٣١) وحكى غيره: أنهم. نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي «١»، وتُسبى النساء
صحيح. أخرجه البخاري ٩٤٦ و ٤١١٩ و ١٧٧٠ و ٣٧٩٨ والبغوي ٣٧٩٨ والطبراني ١٩/ ١٦٠ وابن حبان ١٤٦٢ من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلّم فلم يعنف واحدا منهم. لفظ البخاري.
أخرجه الطبري ٢٨٤٤٦ من طريق محمد بن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري مرسلا، لكن لأصله شواهد.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٠٤٣ و ٣٨٠٤ و ٤١٢١ و ٦٢٦٢ ومسلم ١٧٦٨ ح ٦٤ وأبو داود ٥٢١٥ و ٥٢١٦ والنسائي في «الفضائل» ١١٨ وابن سعد ٣/ ٤٢٤ وأحمد ٣/ ٢٢ والطبراني ٥٣٢٣ والبيهقي ٦/ ٥٧- ٥٨ و ٩/ ٦٣ وابن حبان ٧٠٢٦ والبغوي ٢٧١٨ من طرق عن شعبة به.
- وأخرجه مسلم ١٧٦٨ وأبو يعلى ١١٨٨ وابن حبان ٧٠٢٦ عن أبي خيثمة زهير بن حرب به.
- وأخرجه أحمد ٣/ ٢٢ عن عبد الرحمن بن مهدي به، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وكان قريبا منه- فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له: «إن هؤلاء نزلوا على حكمك» قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية. قال: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك».
__________
(١) أراد أن تقتل الرجال. [.....]
قوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم قال ابن قتيبة: وأصل الصيَّاصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها فقيل للحصون: الصياصي، لأنها تَمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها.
قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي: ألقى فيها الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم المُقاتِلة وَتَأْسِرُونَ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: «وتأسُرون» برفع السين فَرِيقاً وهم النساء والذَّراري، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ يعني عقارهم ومنازلهم ونخيلهم وَأَمْوالَهُمْ من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي: لم تطئوها بأقدامكم بَعْدُ، وهي مما سنفتحها عليكم وفيها أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن. والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة، قاله عكرمة. والثالث: مكة، قاله قتادة. والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السّائب، وابن إسحاق، ومقاتل.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ... الآية.
(١١٣٢) ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٢٨٨: والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم، وأرضا لم يطئوها يومئذ ولم تكن مكة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن.
من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر بنحوه.
وفي ما خيَّرهنَّ فيه قولان «١» : أحدهما: أنه خيَّرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أنه خيَّرهنَّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ، أو اختيار الآخرة فيُمسكهنّ، ولم يخيِّرهنّ في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة.
وفي سبب تخييره إِيَّاهُنَّ ثلاثة أقوال. أحدها: أنَّهنَّ سألنَه زيادة النَّفقة. والثاني: أنَّهنَّ آذَينه بالغَيْرة. والقولان مشهوران في التفسير. والثالث: أنه لمَّا خُيِّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أُمِر بتخيير نسائه ليكنَّ على مِثْل حاله، حكاه أبو القاسم الصّيمري.
والمراد بقوله تعالى: أُمَتِّعْكُنَّ: مُتعة الطلاق. والمراد بالسَّراح: الطلاق، وقد ذكرنا ذلك في البقرة «٢». والمراد بالدار الآخرة. الجنة. والمُحْسِنات: المُؤْثِرات للآخرة.
قال المفسرون: فلمّا اخترنه أثابهنّ الله عزّ وجلّ ثلاثة أشياء: أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ. والثاني: أن جَعَلَهُنَّ أُمَّهات المؤمنين. والثالث: أن حظر عليه طلاقَهُنَّ والاستبدال بهنّ بقوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «٣». وهل أبيح له بعد ذلك
صحيح. أخرجه مسلم ١٤٧٨ وأحمد ٣/ ٣٢٨ وأبو يعلى ٢٢٥٣ والبيهقي ٧/ ٣٨ من حديث جابر مطولا.
__________
(١) قال الحافظ في «الفتح» ٨/ ٥٢١: قال الماوردي: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال: إنه الصحيح، وكذا قال القرطبي:
اختلف في التخيير. قال الحافظ: والذي يظهر الجمع بين القولين، لأن أحد الأمرين ملزوم الآخر، وكأنهنّ خيرن بين الدنيا فيطلقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية.
- وقال القرطبي رحمه الله في «التفسير» ١٢/ ١٧٠: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلّم أزواجه على قولين: الأول: أنه خيرهن في البقاء على الزوجية أو الطلاق، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني: أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة، ذكره الحسن وقتادة، ومن الصحابة علي. والأول أصح لقول عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أفكان طلاقا. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق اه ملخصا.
- والذي ذهب إليه القرطبي هو الصواب إن شاء الله تعالى، وحديث عائشة أخرجه البخاري ٥٢٦٢ و ٥٢٦٣ ومسلم ١٤٧٧ ح ٢٥ و ٢٦.
(٢) البقرة: ٢٣١.
(٣) الأحزاب: ٥٢.
قوله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي: بمعصية ظاهرة. قال ابن عباس: يعني النشوز وسوءَ الخُلُق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي: يُجعل عذاب جُرمها في الآخرة كعذاب جُرمَين، كما أنها تُؤتى أجرَها على الطاعة مرتين. وإِنما ضوعف عِقابُهنّ، لأنهنّ يشاهدن من الزّواجر الرّادعة ما لا يُشاهِد غيرُهن، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكبرُ من جُرم غيره.
قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي: وكان عذابُها على الله عزّ وجلّ هيّنا. وَمَنْ يَقْنُتْ أي: تطع، وأَعْتَدْنا قد سبق بيانه «١»، والرِّزق الكريم: الحَسَن، وهو الجنة.
ثُمَّ أظهر فضيلتهنّ على النساء بقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قال الزجاج: لم يقل:
كواحدة من النساء، لأن «أَحَداً» نفي عامّ للمذكَّر والمؤنَّث والواحد والجماعة. قال ابن عباس: يريد:
ليس قدرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيركنَّ من النساء الصالحات، أنْتُنَّ أكرمُ عليَّ، وثوابُكُنَّ أعظم إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهنَّ إِنَّما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهنّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: لا تلِنَّ بالكلام فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي: فُجور والمعنى: لا تَقُلْنَ قولاً يجد به منافق أو فاجر سبيلاً إِلى موافقتكن له، والمرأة مندوبة إِذا خاطبت الأجانب إِلى الغِلظة في المَقَالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الرِّيبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: صحيحاً عفيفاً لا يُطمِع فاجراً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع، وعاصم إِلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر: «وقََرْنَ» بفتح القاف وقرأ الباقون بكسرها. قال الفراء: من قرأ بالفتح، فهو من قَرَرْتُ في المكان، فخفِّفت، كما قال: ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «٢»، ومن قرأ بالكسر، فمن الوَقار، يقال: قِرْ في منزلك. وقال ابن قتيبة: من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وَقَرَ في منزله يَقِرُ وَقُوراً. ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل: «واقْرَرْنَ» باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة مثله، إِلا أنهما كسرا الراء الأولى.
قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقُّر والسكون في بُيوتهنَّ وأن لا يَخْرُجْنَ.
قوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ قال أبو عبيدة: التبرُّج: أن يُبْرِزن محاسنهن. وقال الزجاج: التبرُّج:
إِظهار الزِّينة وما يُستدعى به شهوةُ الرجل. وفي الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أربعة أقوال: أحدها: أنها كانت بين إِدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت على عهد إِبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها. والثالث: بين نوح وآدم، قاله الحكم. والرابع: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي. قال الزجاج: وإِنما قيل: «الأولى»، لأن كل متقدِّم أوَّل، وكل متقدِّمة أُولى، فتأويله: أنهم تقدّموا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم.
وفي صفة تبرُّج الجاهلية الأولى ستة أقوال: أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد. والثاني: أنها مِشية فيها تكسُّر وتغنُّج، قاله قتادة. والثالث: أنه التّبختر، قاله
(٢) طه: ٩٧.
قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفيه للمفسرين خمسة أقوال: أحدها:
الشرك، قاله الحسن. والثاني: الإِثم، قاله السدي. والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد. والرابع: الشكّ.
والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي. قال الزجاج: الرِّجس: كل مستقذَر من مأكول أو عمل أو فاحشة. ونصب «أهلَ البيت» على وجهين: أحدهما: على معنى: أعني أهلَ البيت. والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت. وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنهنَّ في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن السّائب، ومقاتل. ويؤكّد هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنَّث بالنون، فكيف قيل: «عنكم» «ويطهركم» ؟ فالجواب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيهنَّ، فغلّب المذكَّر. والثاني: أنه خاصٌّ في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم، قاله أبو سعيد الخدري.
(١١٣٥) وروي عن أنس وعائشة وأمّ سلمة نحو ذلك.
١- حديث أم سلمة، وله طرق متعددة: الأول: أخرجه الطحاوي في «المشكل» ٧٦٦ من طريق الأجلح عن شهر بن حوشب عن أم سلمة، وعبد الملك عن عطاء عن أم سلمة. وإسناده حسن في الشواهد، الأجلح هو ابن عبد الله، وثقه قوم، وضعفه آخرون، وقد تابعه عبد الملك بن أبي سليمان، وهو ثقة، لكن لم يسمع عطاء من أم سلمة. وأخرجه أحمد ٦/ ٣٠٤ والترمذي ٣٨٧٦ والطبراني ٢٣ (٧٦٩) عن زبيد بن الحارث عن شهر عن أم سلمة. وإسناده لين لأجل شهر. الطريق الثاني: أخرجه الطحاوي ٧٦٨ والطبري ٢٨٤٩٥ و ٢٨٤٩٧ من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد عن أم سلمة. وإسناده واه لأجل عطية العوفي. الطريق الثالث: أخرجه الطحاوي ٧٦٥ و ٧٧٢ من طريق عمرة بنت أفعى عن أم سلمة. وإسناده ضعيف لجهالة عمرة. الطريق الرابع: أخرجه الطحاوي ٧٦٣ والطبري ٢٨٤٩٨ من طريق عبد الله بن وهب بن زمعة. وإسناده ضعيف، فيه خالد بن مخلد
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» ٣/ ٥٩٨: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلّم داخلات في قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ... ، فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي: واعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغيره واحد.
- وقال القرطبي رحمه الله في «التفسير» ١٤/ ١٨٢- ١٨٣: اختلف أهل العلم في أهل البيت من هم؟
- فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهنّ.
- وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة.
- والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال وَيُطَهِّرَكُمْ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليا وحسنا وحسينا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلّب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهنّ، والمخاطبة لهنّ، يدل عليه سياق الكلام اه ملخصا.
قوله تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من الشِّرك، قاله مجاهد. والثاني: من السُّوء، قاله قتادة. والثالث: من الإثم، قاله السّدّيّ، ومقاتل.
٢- حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه مسلم ٢٤٢٤ والطبري ٢٨٤٨٨ من طريقين عن محمد بن بشر عن زكريا به وإسناده غير قوي، فيه مصعب بن شيبة، فهو وإن روى له مسلم فقد ضعفه غير واحد، لذا لينه الحافظ في «التقريب» لكن لم ينفرد بهذا المتن. وأخرجه الحاكم ٣/ ١٤٧ من طريق عبيد الله عن زكريا به! وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي!، وليس كما قالا، فقد تفرد. وأخرجه البغوي ٣٨٠٤ من طريق الوليد بن شجاع عن يحيى بن زكريا به. ولفظه عند مسلم: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلّم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله. ثم جاء الحسين فدخل معه. ثم جاءت فاطمة فأدخلها. ثم جاء علي فأدخله ثم قال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا».
٣- حديث واثلة بن الأسقع: أخرجه أحمد ٤/ ١٠٧ وفي «الفضائل» ٩٧٨ وابن أبي شيبة ١٢/ ٧٢- ٧٣ وابن حبان ٦٩٧٦ والحاكم ٣/ ١٤٧ والطحاوي في «المشكل» ٧٧٣ والطبري ٢٨٤٩٤ من طرق عن الأوزاعي ثني شداد أبو عمار قال سمعت واثلة... بنحو الحديث المتقدم، وليس فيه ذكر أم سلمة أصلا. وإسناده صحيح. شداد من رجال مسلم، وباقي الإسناد على شرط الشيخين، وقد صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: على شرط مسلم. وكرره الطبري ٢٨٤٩٣ من طريق كلثوم المحاربي عن شداد به، وإسناده حسن في الشواهد.
٤- حديث عمرو بن أبي سلمة: أخرجه الترمذي ٣٧٨٧ والطبري ٢٨٤٩٩ والطحاوي في «المشكل» ٧٧١ من طريق يحيى بن عبيد المكي عن عطاء عن عمر بن أبي سلمة به. ورجاله ثقات معروفون غير يحيى بن عبيد حيث قال الحافظ في «التقريب» : يحيى بن عبيد عن عطاء، يحتمل أن يكون الذي قبله، وإلا فمجهول. وقال عن الذي قبله: يحيى بن عبيد المكي، مولى بني مخزوم، ثقة من السادسة. قلت: قد توبع على أكثر هذا المتن، دون لفظ «وجعل عليا خلفه» فقد تفرد به، وهو غريب.
٥- حديث سعد بن أبي وقاص: أخرجه مسلم ٢٤٠٤ ح ٣٢ والترمذي ٢٩٩٩ و ٣٧٢٤ وأحمد ١/ ١٨٥ والنسائي في «الخصائص» ١١ والطحاوي في «المشكل» ٧٦١ من طرق عن حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد عن سعد قال: لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي». لفظ مسلم والترمذي وغيرهما دون النسائي والطحاوي حيث ذكر في الحديث الآية التي في الأحزاب. وكرره النسائي ٥٤ والطبري ٢٨٥٠١ والحاكم ٣/ ١٠٨ من وجه آخر، وليس فيه ذكر الآية أصلا، بل فيه «حين نزل الوحي» وإسناده صحيح.
الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وأصح متن وإسناد في هذا الباب حديث سعد ثم حديث واثلة ثم حديث أم سلمة لطرقه الكثيرة ثم حديث عائشة ثم حديث عمر بن أبي سلمة.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً أي: ذا لطف بكُنَّ إِذْ جعلكُنَّ في البيوت التي تُتْلى فيها آياتُه خَبِيراً بكُنَّ إِذ اختاركنّ لرسوله.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(١١٣٦) أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم قُلْنَ: ما له ليس يُذْكَر إِلاَّ المؤمنون، ولا يذكر المؤمنات بشيء؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس.
(١١٣٧) والثاني: أن أُمَّ سَلَمَة قالت: يا رسول الله يُذْكَرُ الرجال ولا نُذْكَر! فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «١»، قاله مجاهد.
(١١٣٨) والثالث: أن أُمَّ عُمَارة الأنصارية قالت: قلت: يا رسول الله بأبي وأُمِّي ما بالُ الرجال يُذْكَرون، ولا تُذْكرَ النساء؟! فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. وذكر مقاتل بن سليمان أن أُمُّ سَلَمة وأُمُّ عُمَارة قالتا ذلك، فنزلت الآية في قولهما «٢».
(١١٣٩) والرابع: أن الله تعالى لمَّا ذكر أزواج رسوله دخل النساءُ المُسْلمات عليهنَّ فقُلْنَ: ذُكِرْتُنَّ ولم نُذْكَر، ولو كان فينا خيرٌ ذُكِرنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(١١٤٠) والخامس: أن أسماء بنت عُمَيس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء
أخرجه الحاكم ٢/ ٤١٦ عن مجاهد عن أم سلمة ورجاله ثقات لكن رواية مجاهد عن أم سلمة مرسلة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وأخرجه أحمد ٦/ ٣٠١ والنسائي في «التفسير» ٤٢٥ والطبري ٢٨٥١٢ من حديث أم سلمة وإسناده حسن رجاله ثقات، وورد من طرق كثيرة. وأخرجه النسائي ٤٢٤ والطبراني ٢٣/ ٢٦٣ من وجه آخر. وله شاهد هو الآتي.
أخرجه الترمذي ٣٢١١ من حديث أم عمارة، وقال حسن غريب اه. وسليمان بن كثير فيه ضعف، ومع ذلك هو شاهد لما قبله. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٩٩٧ بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الطبري ٢٨٥٠٥ عن قتادة مرسلا. وانظر ما تقدم.
ذكره الواحدي في «الوسيط» ٣/ ٤٧١ و «أسباب النزول» ٧٠٠ عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، وهو مرسل، ومقاتل ذو مناكير، والصحيح ما تقدم.
__________
(١) آل عمران: ١٩٥.
(٢) الحجة بما تقدم.
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع «١».
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧)
قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ... الآية، في سبب نزولها قولان:
(١١٤١) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت: لا أرضاه، ولستُ بِنَاكِحَتِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بلى فانكحيه، فانِّي قد رضيتُه لك»، فأبت. فنزلت هذه الآية. وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب، فلمَّا نزلت الآيةُ رضيا وسلَّما. قال مقاتل:
والمراد بالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة زينب بنت جحش.
(١١٤٢) والثاني: أنها نزلت في أُمِّ كُلثوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيط، وكانت أوَّل امرأة هاجرت، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «قد قَبلْتُكِ»، وزوَّجها زيدَ بن حارثة، فسخطت هي وأخوها، وقالا:
إِنَّما أردنا رسولَ الله، فزوَّجها عبدَه؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. والأول عند المفسرين أصح.
قوله تعالى: إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي: حَكَما بذلك «أن تكون» وقرأ أهل الكوفة: «أن يكون» بالياء لَهُمُ الْخِيَرَةُ وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «الخِيْرَةُ» باسكان الياء فجمع في الكناية في قوله تعالى: «لهم»، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخِيرَة: الاختيار، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله.
(١١٤٣) فلمّا زوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيداً مكثت عنده حيناً، ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى منزل زيد
- وأخرجه الدارقطني ٣/ ٣٠١ عن زينب بنت جحش بمعناه.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٨٥١٧ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو معضل، ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد متروك الحديث.
باطل بهذا اللفظ. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٨/ ٨٠ ومن طريقه الحاكم في «المستدرك» ٤/ ٢٣ من-
__________
(١) انظر البقرة: ٤٥، ١٠٩، ١٢٩، ١٨٤. وآل عمران: ١٧، ١٩١. والأنبياء: ٩١. والأحزاب: ٣١.
- وورد نحوه عن عبد الرحمن بن زيد. أخرجه الطبري ٢٨٥١٩ وهذا معضل، وابن زيد متروك إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- وورد نحوه عن مقاتل كما ذكر المصنف والحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف عن الثعلبي بدون إسناد.
ومقاتل لا يحتج بما يتفرد به، فهو متهم بالوضع. وقد قال الحافظ في «الفتح» : وردت آثار أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التشاغل بها.
- قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٣/ ٥٧٦: عهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردّا أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله، لا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برّهم ووقارهم فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ومحمد صلى الله عليه وسلّم ما عصى ربه قط فلم يقع قط في صغيرة- حاشا لله- ولا ذنب كبير. وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد. فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلّم رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وإنما كان الحديث...
قلت: وهو الصواب في ذلك أن زينب كانت تفخر وتترفع على زيد بسبب أنها قرشية حسيبة نسيبة وهو مولى الأصل... فكان يشكوها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول له: «أمسك عليك زوجك» كما أخبر به القرآن-.
وقد أخرج مسلم ١٤٢٨ وابن سعد ٨/ ٨٢ والنسائي في «التفسير» ٤٣٠، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها. فوليتها صدري ونكصت على عقبي. فقلت: يا زينب! أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكرك. قالت:
ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن | الحديث واللفظ لمسلم. فهذا هو الصحيح فعليك به. |
قلت: هذا هو الصواب إن شاء الله، وكلام ابن العربي نفيس جدا، فتدبره والله الموفق.
قوله تعالى: وَاتَّقِ اللَّهَ أي: في أمرها فلا تطلِّقها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ أي: تُسِرُّ وتُضْمِر في قلبك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: مُظْهِره وفيه أربعة أقوال «١» : أحدها: حُبّها، قاله ابن عباس. والثاني: عهد عهده الله إِليه أنَّ زينب ستكون له زوجة، فلمَّا أتى زيد يشكوها، قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين. والثالث: إِيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل. والرابع: أن الذي أخفاه: إِن طلَّقها زيد تزوجتُها، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ فيه قولان: أحدهما: أنه خشي اليهود أن يقولوا: تزوَّج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه خشي لوم الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها. قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي: أولى في كل الأحوال. وليس المراد أنه لم يخش الله تعالى في هذه الحال ولكن لمَّا كان لخشيته بالخَلْق نوع تعلُّق قيل له: اللهُ أحقُّ أن تخشى منهم.
(١١٤٤) قالت عائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئاً من الوحي لكتمها.
فصل:
وقد ذهب بعض العلماء إِلى تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حُبِّها وإِيثاره طلاقها. وإِن كان ذلك
الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. والثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحبيل عن عائشة منقطع.
وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وله شاهد من حديث أنس أخرجه البخاري ٧٤٢٠. وله شاهد من مرسل الحسن أخرجه الطبري ٢٨٥١٨.
__________
(١) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» ٨/ ٥٢٤: والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلّم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا.
ووقوع ذلك في إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم.
وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ اختبارا لما عنده من الرغبة فيها أو عنها، وليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذكرها علي» الحديث. وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب. لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسّر الله له ما هو الأحظّ له والأنفع دنيا وأخرى.
(١١٤٥) كما قيل له في قصة رجل أراد قتله: هلاّ أومأتَ إِلينا بقتله؟ فقال: «ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين»، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمة الله عليه.
قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قال الزجاج: الوَطَر كل حاجة لك فيها هِمَّة، فاذا بلغها البالغ، قيل: قد قضى وَطَره. وقال غيره: قضاء الوَطَر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إِنما يطلِّق امرأته إِذا لم يبق له فيها حاجة. والمعنى: لمَّا قضى زيد حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها، وإِنما ذكر قضاء الوطر ها هنا ليُبيِّن أن امرأة المتبنَّي تَحِلُّ وإِن وطئها، وهو قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً والمعنى: زوجْناك زينب- وهي امرأة زيد الذي تبنَّيتَه- لكيلا يُظَنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحلُّ نكاحها.
(١١٤٦) وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: لمَّا انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد: «اذهب فاذْكُرها علَيَّ»، قال زيد: فانطلقتُ، فلمَّا رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرُ إِليها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكرها، فولَّيتُها ظهري، ونَكَصْتُ على عَقِبي، وقلتُ: يا زينب، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكُركِ، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر «١» ربِّي، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إِذن.
وذكر أهل العلم أنّ من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه أُجيز له التزويج بغير مَهْر ليَخلُص قصد
صحيح. أخرجه مسلم ١٤٢٨ والنسائي في «التفسير» ٤٣٠ والنسائي ٦/ ٧٩ وأحمد ٣/ ١٩٥ وأبو يعلى ٣٣٣٢ وابن سعد ٨/ ٨٢ من حديث أنس. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٠٠٣ بتخريجنا.
__________
(١) أوامر ربي: أستشيره وأستخيره.
(١١٤٧) وكانت زينب تفاخر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله عزّ وجلّ.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
قوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قال قتادة: فيما أحلّ الله عزّ وجلّ له من النساء. قوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ هي منصوبة على المصدر، لأن معنى ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ:
سنَّ اللهُ عزّ وجلّ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها. والذين خَلَوا: هم النبيّون فالمعنى: أنّ سنّة الله عزّ وجلّ في التَّوسعة على محمد فيما فرض له، كسُنَّته في الأنبياء الماضين. قال ابن السائب: هكذا سُنَّة الله في الأنبياء، كداود، فانه كان له مائة امرأة، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة «١»، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي: قضاءً مقضيّاً. وقال ابن قتيبة: «سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا» معناه: لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه. ثم أثنى الله تعالى على الأنبياء بقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم. وباقي الآية قد تقدّم بيانه «٢».
قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال المفسرون:
(١١٤٨) لمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زينب، قال الناس: إِن محمداً قد تزوَّج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية. والمعنى: ليس بأب لزيد فتَحْرُم عليه زوجته وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قال الزّجّاج: من نصبه،
- وهو عند مسلم ١٤٢٨ ح ٩٠ في إحدى الروايات دون باقي الروايات، عن أنس رضي الله عنه قال: جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم كاتما شيئا لكتم هذه. قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم تقول: زوّجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. واللفظ للبخاري.
ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٢٠٧ من طريق داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة به مطوّلا. وإسناده ضعيف جدا له علتان: الأولى: داود بن الزبرقان متروك الحديث. الثانية: الشعبي، وهو عامر بن شراحيل عن عائشة منقطع. وضعفه الترمذي بقوله: غريب.
- قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٠٦: وقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ نهى أن يقال بعد هذا «زيد بن محمد» أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة فماتوا صغارا وولد له إبراهيم من مارية القبطيّة، فمات أيضا رضيعا. وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهم أجمعين- فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به- صلوات الله وسلامه عليه- ثم ماتت بعده بستة أشهر اه.
__________
(١) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو ممن يروي الإسرائيليات، فالله تعالى أعلم.
(٢) النساء: ٦. [.....]
آخِر النبيِّين. قال ابن عباس: يريد: لو لم أَختِم به النبيِّين، لَجَعلتُ له ولداً يكون بعده نبيّاً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبداً. وقال ابن السائب: يقال:
«ذِكْراً كثيراً» بالصلوات الخمس. وقال مقاتل بن حيَّان: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(١١٤٩) «يقول ربُّكم: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه».
قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قال أبو عبيدة: الأصيل: ما بين العصر إِلى الليل.
وللمفسرين في هذا التسبيح قولان: أحدهما: أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بُكْرة: صلاةُ الفجر. واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة العصر، قاله أبو العالية، وقتادة. والثاني: أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. الثالث: أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنه التسبيح باللسان، وهو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلا الله والله أكبر ولا حول ولا قُوَّة إِلاَّ بالله، قاله مجاهد.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ في صلاة الله تعالى علينا خمسة أقوال: أحدها:
أنها رحمته، قاله الحسن. والثاني: مغفرته، قاله سعيد بن جبير. والثالث: ثناؤه، قاله أبو العالية.
والرابع: كرامته، قاله سفيان. والخامس: بَرَكَتُه، قاله أبو عبيدة. وفي صلاة الملائكة قولان: أحدهما:
أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية. والثاني: استغفارهم، قاله مقاتل. وفي الظُّلُمات والنُّور هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الضَّلالة والهدى، قاله ابن زيد. والثاني: الإِيمان والكفر، قاله مقاتل. والثالث: الجنة والنار، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ الهاء والميم كناية عن المؤمنين. فأمّا الهاء في قوله تعالى: يَلْقَوْنَهُ ففيها قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه تحيّتهم من الله يوم يلقونه سلام «١».
__________
(١) هذا ما اختاره ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦١٠، ثم قال: وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام، يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت: وقد يستدل بقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
والقول الثاني: أن الهاء ترجع إِلى ملك الموت، وقد سبق ذِكْره في ذِكْر الملائكة. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال له: ربُّك يقرئك السلام. وقال البراء بن عازب في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ قال: ملَك الموت، ليس مؤمن يقبض روحه إِلا سلَّم عليه. فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنّة.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أَي: على أُمَّتك بالبلاغ وَمُبَشِّراً بالجنة لمن صدَّقك وَنَذِيراً أي: منذِراً بالنار لمن كذَّبك، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي: إِلى توحيده وطاعته بِإِذْنِهِ أي: بأمره، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك وَسِراجاً مُنِيراً أي: أنت لِمَن اتَّبعك «سراجاً»، أي:
كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به.
قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وهو الجنة.
(١١٥١) قال جابر بن عبد الله: لمَّا أنزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآيات، قالت
وورد ما ذكره المصنف من حديث جابر بن عبد الله، وهو ضعيف. أخرجه ابن ماجة ١٨٤ والآجري في «الشريعة» ٦٢٦ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٥١٧ من طريق محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسناده ضعيف. وأخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» ٩١ والبيهقي في «البعث» ٤٩٣ من طريق العبّاداني به. وقال البوصيري في «الزوائد» أبو عاصم العبّاداني منكر الحديث قاله العقيلي. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٩٨ وقال: رواه البزار، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو ضعيف.
لم أره مسندا من حديث جابر، وتفرد المصنف بذكره، فهو لا شيء، وأصل الخبر صحيح دون ذكر نزول الآية، فقد ورد من حديث أنس بن مالك وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. أخرجه البخاري ٤١٧٢ و ٤٨٣٤ وأحمد ٣/ ١٧٣ من طريق شعبة. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ وأحمد ٣/ ١٢٢ و ١٣٤ والطبري ٣١٤٥٤ من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ والبيهقي ٥/ ٢١٧ من طريق شيبان. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٣ وأحمد ٣/ ١٩٧ من طريق معمر. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ والطبري ٣١٤٥٢ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٣٢- ١٣٣ من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري ٣١٤٥٣ من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان ٣٧١ من طريق سفيان عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا! فأنزل الله لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكر له فقال: أما إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فعن أنس، وأما هنيئا مريئا فعن عكرمة. وحديث عكرمة أخرجه الطبري ٣١٤٥٧ من طريق شعبة عن قتادة به. وليس فيه سبب نزول الآية في الأحزاب. وقد عزاه السيوطي في «الدر» ٦/ ٦٣ إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه عن عكرمة. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٩٠٢ وعزاه إلى ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري وفيه سبب نزول الآية في الأحزاب... وبرقم ٩٠٣ وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة» عن الربيع بن أنس بنحوه.
قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ قد سبق في أول السورة. قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ قال العلماء: معناه لا تجازهم عليه وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كفاية شرّهم وهذا منسوخ بآية السّيف.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ قال الزجاج: معنى «نَكَحْتُم» تزوَّجتم «١». ومعنى «تَمَسَّوهُنَّ» تَقْربوهن. وقرأ حمزة، والكسائي: «تُمَاسُّوهُنَّ» بألف. قوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أجمع العلماء أنه إِذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عِدَّة «٢» وعندنا أن الخلوة توجب العِدَّه
وقوله الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٣/ ٦١٢: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء إذا طلّقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفّى عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا.
وقال الإمام الموفق في «المغني» ٩/ ٥٣٣: فأما الخلوة بالمرأة، فالصحيح أنها لا تنشر حرمة. وقد روي عن أحمد: إذا خلا بالمرأة، وجب الصّداق والعدة، ولا يحل له أن يتزوج أمها أو ابنتها. قال القاضي: هذا محمول على أنه حصل مع الخلوة الجماع، فيخرّج كلامه بقوله: لا يحرّمه شيء من ذلك إلا الجماع. وفي رواية عن أحمد. فأما تحريم أمها فبمجرد العقد، وأما تحريم ابنتها فبالدخول وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فأما مع خلّوه من ذلك، فلا يؤثر في تحريم الربيبة لما في ذلك من مخالفة قوله تعالى. وأما الخلوة بأجنبية. فلا تنشر تحريما. لا نعلم في ذلك خلافا.
وجاء في «المغني» ١١/ ١٩٧: العدة تجب على كل من خلا بها زوجها، وإن لم يمسها. وإن خلا بها ولم يصبها ثم طلّقها، فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها. وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وزيد، وابن عمر وأصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال الشافعي في الجديد: لا عدّة عليها، لهذه الآية وهذا نص. ولأنها مطلقة لم تمس، فأشبهت من لم يخل بها. ولنا، إجماع الصحابة. فإنه من أرخى سترا أو أغلق بابا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فصارت إجماعا. وقد روي عن أحمد، أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع، فكذلك يخرج في العدة. لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس، لأنها مظنة له، ومع المانع لا تتحقق المظنة. ولأن العدة تجب لبراءة الرحم. وأجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ.
فصل:
واختلف العلماء فيمن قال: إِن تزوجتُ فلانة فهي طالق، ثم تزوجها فعندنا أنها لا تطلق، وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بَعد النكاح. وقال سماك بن الفضل: النِّكاح عُقدة، والطلاق يَحُلُّها، فكيف يحلُّ عقدة لم تُعقد؟! فجُعل بهذه الكلمة قاضياً على «صنعاء». وقال أبو حنيفة: ينعقد الطلاق، فاذا وُجد النكاح وقع. وقال مالك:
ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إِذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن. فأما إِذا قال: إِن ملكتُ فلاناً فهو حُرّ، ففيه عن أحمد روايتان «٣».
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
(٢) البقرة: ٢٣٧.
(٣) قال الإمام الموفق في «المغني» ٣/ ٤٨٨: وإذا قال: إن تزوجت فلانة، فهي طالق. لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حرّ، فملكه صار حرا واختلفت الرواية عن أحمد، فعنه: لا يقع طلاق. روي هذا عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، والشافعي، قال:
وهو قول أكثر أهل العلم لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك». قال الترمذي: وهذا حديث حسن.
قال أحمد: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعدة من الصحابة. ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم، فيكون إجماعا.
والرواية الثانية عن أحمد: أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق.
- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٣/ ١٨٠: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وبمهلة ثمّ على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلّق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه.
وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى الإمام البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح» ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. وقال طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعيّنة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وإن قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حرّ، لم يلزمه شيء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلَّها له، فقال: أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهُنَّ، وهُنَّ اللَّواتي تزوَّجْتَهُنَّ بصداق وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الجواري مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي: ردّه عليك من الكفار، كصفيَّة وجُوَيرية، فانه أعتقهما وتزوجهما وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعني نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني نساء بني زُهْرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إِلى المدينة. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا يدلُّ على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يَحِلَّ له نكاحها.
(١١٥٢) وقالت أمّ هانئ: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعتذرتُ إِليه بعذر، ثم أنزل اللهُ تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله تعالى: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قالت: فلم أكن لأحَلَّ له، لأنِّي لم أُهاجِر معه، كنتُ من الطُّلَقاء وهذا يدلُّ مِنْ مذهبها أنَّ تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر مَنْ لم تُهاجِر.
وذكر بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إِحلال النساء له على الإِطلاق. والثاني: أنه شرط في إِحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي: وأَحلَلْنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لك، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي: إِن آثر نكاحها خالِصَةً لَكَ أي: خاصة. قال الزجّاج: وإِنما قال: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، ولم يقل: «لك»، لأنه لو قال: «لك»، جاز أن يُتوهَّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما جاز في بنات العمِّ وبنات العمَّات. و «خالصة» منصوب على الحال. وللمفسرين في معنى «خالصةً» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراة إِذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صَداقُها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب. والثاني: أنَّ له أن يَنْكِحها بِلاَ وليّ ولا مَهْر دون غيره، قاله
الخلاصة: تبين من ذلك أن صدر الحديث محفوظ، والوهن فقط في عجزه. ولم يفرق الألباني في ذلك حيث أورد الحديث في «ضعيف سنن الترمذي» ٦٣٠، وقال: إسناده ضعيف جدا؟!!
وفي المرأة التي وهبتْ له نَفْسها أقوال:
(١١٥٣) أحدها: أُمّ شَريك.
(١١٥٤) والثاني: خولة بنت حكيم.
(١١٥٥) ولم يدخل بواحدة منهما.
(١١٥٦) وذكروا أنّ ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها له فلم يقبلها. قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها له. وقد حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث، وعن الشعبي: أنها زينب بنت خزيمة. والأول: أصح.
قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين غيرك فِي أَزْواجِهِمْ وفيه قولان:
أحدهما: أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد. والثاني: أن لا يتزوج الرجل المرأة إِلاَّ بوليّ وشاهدَين وصَدَاق، قاله قتادة. قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي: وما أَبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور.
قوله تعالى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ هذا فيه تقديم المعنى: أَحللْنا لك أزواجك، إلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ.
قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«ترجئ» مهموزاً وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بغير همز.
(١١٥٧) وسبب نزولها أنه لمَّا نزلت آية التخيير المتقدِّمة «١»، أشفقْنَ أن يُطَلَّقْنَ، فقلن: يا
خبر صحيح. أخرجه البخاري ٥١١٣ من طريق محمد بن سالم. وأخرجه البخاري ٤٧٨٨ ومسلم ١٤٦٤ والنسائي ٦/ ٥٤ وابن ماجة ٢٠٠٠ وأحمد ٦/ ١٨٥ والحاكم ٢/ ٤٣٦ وابن حبان ٦٣٦٧ والطبري ٢٨٥٧٤ والبغوي في «شرح السنة» ٢٢٦٢ من طرق عن هشام به. كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلّم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل! فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. لفظ البخاري في الرواية الأولى.
ضعيف. أخرجه ابن سعد ٨/ ١١٩ عن ابن أبي عون مرسلا قال: فلم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا.
أخرجه ابن سعد ٨/ ١١٩ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط لأجل الكلبي، فإنه متهم. وأخرجه ابن سعد ٨/ ١١٩ عن قتادة مرسلا. وذكره ابن سعد ٨/ ٢٥٥ في ترجمة ليلى بنت الخطيم بدون عزو لأحد.
ضعيف. أخرجه ابن سعد ٨/ ١٥٨ والطبري ٢٨٥٦٧ و ٢٨٥٦٩ و ٢٨٥٧٢ من طريق منصور عن أبي رزين به، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن سعد ٨/ ١٥٨ والطحاوي في «المشكل» ١/ ٤٥٦ عن مغيرة عن أبي رزين به أبو رزين هو مسعود بن مالك الأسدي، - أسد خزيمة- تابعي كبير.
__________
(١) الأحزاب: ٢٨.
وفي معنى الآية أربعة أقوال «١» : أحدها: تطلِّق من تشاء من نسائك، وتُمْسِك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس. والثاني: تترُك نكاح من تشاء، وتَنْكِح من نساء أُمَّتك من تشاء، قاله الحسن.
والثالث: تَعْزِل من شئتَ من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تَعْزِلها. قاله مجاهد.
والرابع: تَقْبَل من تشاء من المؤمنات اللواتي يَهَبْنَ أنفُسَهُنَّ، وتترُك من تشاء، قاله الشعبي، وعكرمة.
وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مصاحَبة نسائه كيف شاء من غير إِيجاب القِسْمة عليه والتسوية بينهنّ. غير أنه كان يسوِّي بينهنّ. وقال الزُّهري: ما عَلِمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أرجأ منهنَّ أحداً، ولقد آواهنَّ كلَّهنَّ حتى مات.
(١١٥٨) وقال أبو رزين: آوى عائشة، وأُم سلمة، وحفصة، وزينب، وكان قَسْمُه من نَفْسه وماله فيهنَّ سواءً. وأرجأ سَوْدة، وجُوَيرية، وصفيَّة، وأُمَّ حبيبة، وميمونة، وكان يَقْسِم لهنَّ ما شاء. وكان أراد فراقهنَّ فقُلن: اقسم لنا ما شئتَ، ودَعْنا على حالنا.
(١١٥٩) وقال قوم: إنه أرجأ سَودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يَقْسِم لثمان.
قوله تعالى: وَتُؤْوِي أي: تضم، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي: إِذا أردتَ أن تُؤوي إِليك امرأةً ممَّن عزلتَ من القسمة فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي: لا مَيْلَ عليك بلَوْم ولا عَتْب ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي: ذلك التخيير الذي خيَّرناك في صُحبتهنّ أقرب إِلى رضاهنّ. والمعنى: إِنهنّ إِذا عَلِمن أنَّ هذا أَمر من الله تعالى، كان أطيبَ لأنفُسهنّ. وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: «أن تُقِرَّ» بضم التاء وكسر القاف «أعيُنَهُنَّ» بنصب النون. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: بما أعطيتَهُنّ من تقريب وتأخير وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من المَيْل إِلى بعضهنّ. والمعنى: إِنما خيَّرناك تسهيلاً عليك.
قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ كلُّهم قرأ: «لا يَحِلُّ» بالياء، غير أبي عمرو، فانه قرأ بالتاء والتأنيث ليس بحقيقي، إِنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان. وفي قوله تعالى: مِنْ بَعْدُ ثلاثة
لم أره بهذا اللفظ، وخبر سودة دون ذكر هذه الآية. أخرجه الترمذي ٣٠٤٠ والطبري ١٠٦١٣ من حديث ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا... النساء: ١٢٨. قال الترمذي: هذا حديث غريب اه. وله شاهد من حديث عائشة أخرجه أبو داود ٢١٣٥ والبيهقي ٧/ ٤٧ وإسناده حسن صححه الحاكم ٢/ ١٨٦ ووافقه الذهبي، وليس فيه ذكر الآية. وعند أبي داود ٢١٣٨ من حديث عائشة «... وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها».
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٣١٥: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أصلهن له من يشاء، ويؤوي إليه منهن من يشاء، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كن في حباله، عند ما نزلت الآية دون غيرهن ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهن.
قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تطلِّق زوجاتك وتستبدل بهنَّ سِواهنَّ، قاله الضحاك. والثاني: أن تبدِّل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين.
(١١٦٠) والثالث: أن تُعطيَ الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة، وابن زيد.
قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الإِماء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: إِلا أن تَملك بالسَّبي، فيَحِلّ لك وطؤها وإِن كانت من غير الصِّنف الذي أحلَلْتُه لك وإِلى هذا أومأ أُبيُّ بن كعب في آخرين. والثاني: إِلاَّ أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: إِلاَّ أن تبدِّل أَمَتَك بأَمَة غيرك، قاله ابن زيد.
قال أبو سليمان الدمشقي: وهذه الأقوال جائزة، إِلاَّ أنَّا لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نكح يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين.
(١١٦١) ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يَدْنُ منها حتى أسلمت.
فصل:
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، وهذا مروي عن عليٍّ، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك.
(١١٦٢) وقالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أُحِلَّ له النساء، قال أبو سليمان الدّمشقي:
ونقل الآبادي عن الحافظ في «الفتح» قوله: ضعيف جدا اه. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٠٢٣.
ضعيف. أخرجه ابن سعد ٨/ ١٠٢- ١٠٣ عن عمر بن الحكم مرسلا.
ورد عن عائشة وعن أم سلمة. أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي ٣٢١٦ والنسائي ٦/ ٥٦ وأحمد ٦/ ٤١ والحميدي ٢٣٥ وابن سعد ٨/ ١٤٠ والبيهقي ٧/ ٥٤ من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة، ورجاله رجال الشيخين فالإسناد صحيح إذا كان عطاء سمعه من عائشة، والظاهر أنه لم يسمعه منها كما سيأتي.
وأخرجه الطبري ٢٨٥٩٤ من طريق ابن جريج عن عطاء عن عائشة. وأخرجه أحمد ٦/ ١٨٠- ٢٠١ والنسائي ٦/ ٥٦ وفي «التفسير» ٤٣٥ وابن سعد ٨/ ١٤١ والطحاوي في «المشكل» ٥٢٢ وابن حبان ٦٣٦٦ والطبري ٢٨٥٩٨ والبيهقي ٧/ ٥٤ من طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به. ورجاله رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن سعد ٨/ ١٤٠ من طريق عطاء ومحمد بن علي عن عائشة، وفيه الواقدي متروك الحديث.
- وأما حديث أم سلمة، فقد أخرجه الطحاوي في «المشكل» ٥٢٤. وإسناده ساقط، فيه عمر بن أبي بكر الموصلي، وهو متروك. وأخرجه ابن سعد ٨/ ١٩٤ من وجه آخر، وفيه الواقدي متروك. الخلاصة: حديث عائشة قوي، وأما حديث أم سلمة، فهو واه ليس بشيء. والجمهور على خلاف مذهب عائشة.
انظر «أحكام القرآن» ١٨٢٨ بتخريجنا.
والقول الثاني: أنها محكمة ثم فيها قولان: أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن وابن سيرين وأبو أُمامة بن سهل وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. والثاني: أنّ المراد بالنساء ها هنا: الكافرات، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية. في سبب نزولها ستة أقوال:
(١١٦٣) الأول: أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام، فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل فاذا القوم جلوس، فرجع، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنَّهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
(١١٦٤) والثاني: أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك، ثم يأكلون ولا يخرُجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأذَّى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١١٦٥) والثالث: أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إِن نساءك يدخل عليهنّ البرّ
ذكره البغوي هكذا بدون إسناد عن ابن عباس، ولم أره مسندا.
- وورد نحوه عن الربيع بن أنس، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٤/ ٤٠٢.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٢ و ٤٧٩٠ والنسائي في «التفسير» ٤٣٨ وابن حبان ٦٨٩٦ عن أنس عن عمر به، وأتم. ولم أره عن ابن عمر عن عمر، فالله أعلم.
(١١٦٦) والرابع: أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود.
(١١٦٧) والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سَوْدَةُ ليلة، فقال عمر: قد عرفناكِ يا سَوْدَة- حرصاً على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة.
(١١٦٨) والسادس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة، وكانت معهم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: أن تُدْعَوا إليه «١» غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين أَنْ. قال الزجاج: موضع «أنْ» نصب والمعنى: إِلا بأن يؤذن أو لأن يؤذن، و «غير» منصوبة على الحال المعنى: إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين. و «إناه» : نضجه وبلوغه.
أخرجه مسلم ٢١٧٠ ح ١٨ والطبري ٢٨٦١٩ من طريقين عن الزهري به. وأخرجه البخاري ٦٢٤٠ من طريق صالح بن كيسان عن الزهري به. وأخرجه البخاري ٥٢٣٧ ومسلم ٢١٧٠ من طريق علي بن مسهر عن هشام عن عروة به. وأخرجه البخاري ٤٧٩٥ ومسلم ٢١٧٠ والبيهقي ٧/ ٨٨ من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه به. وأخرجه مسلم ٢١٧٠ وأحمد ٦/ ٥٦ من طريق ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه به. وأخرجه أبو يعلى ٤٤٣٣ وابن حبان ١٤٠٩ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه به.
وهم جميعا من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنهما. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٢٠:
هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت:
فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن».
ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٧٠٩ عن مجاهد مرسلا، وصوّبه الدارقطني كما ذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣/ ٥٥. وأخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٤١٩ والبخاري في «الأدب المفرد» ١٠٥٣ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٢١ من حديث عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلّم حيسا، فمرّ عمر، فدعاه فأكل، فأصابت يده إصبعي، فقال: حس! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب وهذا منقطع مجاهد لم يسمع من عائشة كما في مراسيل ابن أبي حاتم. ثم إن الخبر منكر.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٢٠: حظّر الله على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه، قال: وهذا دليل على تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب: «الضيفن» اه.
قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء.
قال أبو عبيدة: «كان» من حروف الزوائد. والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
(١١٦٩) روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لو توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوّجت عائشة، فأنزل الله تعالى ما أَنزل.
(١١٧٠) وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله.
قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي: ذنْباً عظيم العقوبة.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وورد من مرسل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله قال: إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة. وفيه الواقدي ساقط الحديث متروك، فلا فائدة من هذا الشاهد. وبكل حال لا يحتج بالضعاف في هذا المقام على أن الحافظ ابن حجر ذكر هذا في «الإصابة» ٢/ ٢٣٠ وقال: طلحة بن عبيد الله بن مسافع، يقال هو الذي نزل فيه وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا... وذكره أبو موسى في «الذيل» عن ابن شاهين بغير إسناد، وقال: إن جماعة من المفسّرين غلطوا، فظنوا أنه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة اه. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٤/ ٢٠٢:
وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق هذا القول بالمنافقين الجهال.
اه.
قلت: وكون المراد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة وفارس أحد باطل مفترى، وإن كان أحد المنافقين فهو محتمل حيث ورد من وجوه. وهذه الألفاظ إن صحت يكن قائلها منافقا، ولا يقولها مسلم.
وانظر «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٢١ و «فتح القدير» ٢٠٢٧ بتخريجنا و «الدر» ٥/ ٤٠٣- ٤٠٤.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ قيل: إِنها نزلت فيما أبداه القائل: لئن مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأتزوجنّ عائشة «١». قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ. قال المفسرون:
(١١٧١) لمَّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: ونحن أيضاً نُكَلِّمُهُنَّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ أي: في أن يَرَوْهُنَّ ولا يحتجبْنَ عنهم، إلى قوله تعالى: وَلا نِسائِهِنَّ قال ابن عباس: يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يَصِفْنَ لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِن رأينهنّ.
فان قيل: ما بال العمِّ والخال لم يُذْكَرا؟ فعنه جوابان: أحدهما: لأن المرأة تَحِلُّ لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، لأنهما ينعتانها لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة. والثاني:
لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يُذْكَرا، قاله الزجاج.
فأما قوله تعالى: وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ففيه قولان: أحدهما: أنه أراد الإِماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب. والثاني: أنه عامّ في العبيد والإِماء. قال ابن زيد: كُنَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يحتجِبْن من المماليك. وقد سبق بيان هذا في سورة النور «٢».
قوله تعالى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي: أن يراكنَّ غير هؤلاء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي: لم يغب عنه شيء.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدّمت في هذه السّورة «٣».
قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ. قال كَعْب بن عُجْرَة:
(١١٧٢) قلنا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهمّ
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٧٠ و ٤٧٩٧ و ٦٣٥٧ ومسلم ٤٠٦ وأبو داود ٩٧٦ و ٩٧٧ و ٩٧٨ والترمذي ٤٨٣ والنسائي ٣/ ٤٧ وابن ماجة ٩٠٤ والشافعي ١/ ٩٢ والحميدي ٧١١ و ٧١٢ وعبد الرزاق ٣١٠٥ وأحمد-
__________
(١) انظر الحديث المتقدم برقم ١١٦٩.
(٢) النور: ٣١.
(٣) الأحزاب: ٤٣.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(١١٧٣) أحدها: في الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفيَّة بنتُ حيَيّ، قاله ابن عباس.
والثاني: نزلت في المصوِّرين، قاله عكرمة.
والثالث: في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله تعالى بالولد وكذَّبوا رسوله وشجُّوا وجهه وكسروا رَباعيَته وقالوا: مجنون شاعر ساحر كذَّاب. ومعنى أذى الله: وصفه بما هو منزّه عنه «١»،
فائدة: قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «جلاء الأفهام» ص ١١٨- ١٢٦ ما ملخصه: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلّم على أربعة أقوال:
- فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:
- أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية.
- والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرواية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.
والثالث: أنهم بنو هاشم، ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك.
- قال: وهذا القول في الآل- أعني الذين تحرم عليهم الصدقة- هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين، وهو اختيار أصحاب أحمد والشافعي.
- والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلّم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر في «التمهيد»...
- والقول الثالث: أن آله أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، ورجحه النووي في «شرح مسلم».
- والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.
- ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أدلة أصحاب هذه الأقوال وعقب ذلك بقوله: والصحيح هو القول الأول، ويليه الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان اه.
- وقال النووي كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٣٥: إذا صلّي على النبي صلى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: «صلى الله عليه» فقط، ولا: «عليه السلام». وقال ابن كثير: وهذا منتزع من الآية الكريمة فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلّم تسليما.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٨٦٤١ عن ابن عباس برواية عطية العوفي، وهو واه، وعنه مجاهيل.
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٤/ ٢١١: اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله:
وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله والمشركون: الملائكة بنات الله. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: «كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك... ».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى: «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما». وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرهما. قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرهما، إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبّه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله اه. قلت: وأخرج الطبري ٢٨٦٤٠ عن عكرمة قال: الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١١٧٤) أحدها: أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرِّجة فضربها، وكفَّ ما رأى من زينتها، فذهبت إِلى أهلها تشكو، فخرجوا إِليه فآذَوْه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
(١١٧٥) والثاني: أنها نزلت في الزُّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إِذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرَون المرأة فيدنون منها فيغمزونها، وإِنما كانوا يؤذون الإِماء، غير أنه لم تكن الأَمَة تُعرَف من الحرة، فشكون ذلك إِلى أزواجهنّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(١١٧٦) والثالث: أنها نزلت فيمن تكلَّم في عائشة وصفوان بن المعطِّل بالإِفك، قاله الضحاك.
(١١٧٧) والرابع: أن ناساً من المنافقين آذَوا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال المفسرون: ومعنى الآية: يرمونهم بما ليس فيهم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٨ عن الضحاك والسدي الكلبي بدون إسناد.
ضعيف جدا. ذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٩٢٢ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، جويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس.
باطل، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٧ عن مقاتل بدون سند، ومقاتل ممن يضع الحديث، والمتن باطل.
(١١٧٨) أن الفُسَّاق كانوا يؤذون النساء إِذا خرجن بالليل، فاذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حُرَّة، وإِذا رأوها بغير قناع قالوا: أَمَة، فآذَوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قال ابن قتيبة: يَلْبَسْنَ الأردية. وقال غيره: يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليُعلَم أنهنَّ حرائر ذلِكَ أَدْنى أي: أحرى وأقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أنهنَّ حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ. قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي: عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: فجور، وهم الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، يقولون: أتاكم العدوّ، وقُتلت سراياكم وهُزمت لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي: لَنُسلِّطنَّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم. قال المفسرون: وقد أُغري بهم، فقيل له:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «١». وقال يوم جمعة:
(١١٧٩) «اخرج يا فلان من المسجد فانك منافق. قم يا فلان فانك منافق».
ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها ثم لا يجاورونك فيها أي: في المدينة إِلَّا قَلِيلًا حتى يهلكوا، مَلْعُونِينَ منصوب على الحال أي: لا يجاورونك إِلاَّ وهم ملعونون أَيْنَما ثُقِفُوا أي: وُجِدوا وأُدركوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا معنى الكلام: الأمر، أي: هذا الحكم فيهم، سُنَّةَ اللَّهِ أي: سنَّ في الذين ينافقون الأنبياء ويُرجِفون بهم أن يُفعل بهم هذا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قال عروة: الذي سأله عنها عُتبة بن ربيعة.
قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ أي: أيّ شيء يُعْلِمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى: أنت لا تعرف ذلك ثم قال: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً فإن قيل: هلاَّ قال: قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها:
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧١٣٧ بإسناد واه، لأجل حسين بن عمرو العنقزي عن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به.
__________
(١) التوبة: ٧٣. [.....]
فأمّا قوله تعالى: وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فقال الزجاج: الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإِنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلَّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أن الكلام قد تمّ، وقد أشرنا إِلى هذا في قوله تعالى: الظُّنُونَا «٢».
قوله تعالى: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا أي: أشرافنا وعظماءنا. قال مقاتل: هم المطعمون في غزاة بدر. وكلّهم قرءوا: «سادتَنا» على التوحيد، غير ابن عامر، فانه قرأ: «ساداتنا» على الجمع مع كسر التاء، ووافقه المفضَّل، ويعقوب، إلّا أبا حاتم فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي: عن سبيل الهدى، رَبَّنا آتِهِمْ يعنون السادة ضِعْفَيْنِ أي: ضعفي عذابنا، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كثيراً» بالثاء. وقرأ عاصم، وابن عامر: «كبيرا». وقال أبو علي: الكثرة أشبه بالمِرار المتكررة من الكبر.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
قوله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى أي: لا تؤذوا محمداً كما آذى بنو إِسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم، وفي ما آذَوا به موسى أربعة أقوال:
(١١٨٠) أحدها: أنهم قالوا: هو آدَر، فذهب يوماً يغتسل، ووضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر
فجعل رواية الحسن مرسلة. وهكذا أخرجه الطبري ٢٨٦٧٤ من طريق ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري ٢٨٦٧٣ والطحاوي في «المشكل» ٦٧ عن روح عن عوف عن محمد- ابن سيرين- عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي في «التفسير» ٤٤٤ و «الكبرى» ١١٤٢٤ من طريق روح عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة مرفوعا، وتقدم عن أحمد قوله: خلاس لم يسمع من أبي هريرة. وكرره النسائي ١١٤٢٥ وفي «التفسير» ٤٤٥ من طريق النضر عن عوف بمثله. وعلى هذا فقد توبع روح، لكن هذا الإسناد معلول بسبب-
__________
(١) البقرة: ١٥٩- النساء: ١٠- الإسراء: ٩٧.
(٢) الأحزاب: ١.
والآدَر: عظيم الخُصيتين.
(١١٨١) والثاني: أن موسى صَعِد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إِسرائيل: أنت قتلتَه فآذَوه بذلك، فأمر اللهُ تعالى الملائكةَ فحملته حتى مرَّت به على بني إِسرائيل، وتكلَّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إِسرائيل أنه مات، فبرّأه الله تعالى من ذلك، قاله عليّ عليه السلام.
- وللحديث طريق آخر: أخرجه البخاري ٢٧٨ ومسلم ٣٣٩ وص ١٨٤١ وابن حبان ٦٢١١ وأبو عوانة ١/ ٢٨١ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٤٨٣ من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعا.
- وله علة، وهي الوقف: أخرجه مسلم ص ١٨٤٢ من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة موقوفا عليه. وراويه عن خالد الحذاء، يزيد بن زريع، وهذا إسناد كالشمس.
- وأخرجه الطبري ٢٦٨٧٥ عن قتادة، قال: حدث الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم... الحديث، وهذا منقطع. وورد من حديث أبي هريرة من وجه آخر: أخرجه الطبري ٢٨٦٦٩ من طريق جابر الجعفي عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ساقط، جابر هو ابن يزيد، متروك الحديث. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه البزار ٢٢٥٢ «كشف» وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٩٣- ٩٤: ثقة، سيء الحفظ. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. وورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري ٢٨٦٦٨ وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم. وكرره ٢٨٦٧٠ وإسناده ضعيف جدا، فيه مجاهيل، وعطية العوفي واه. وورد عن قتادة قوله: أخرجه الطبري ٢٨٦٧٢. وورد عن الحسن وقتادة قولهما:
أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٣٨٢ عن معمر عن الحسن وقتادة.
- الخلاصة: روي مرفوعا بإسناد حسن، وآخر صحيح، وأخر ضعيفة. وورد موقوفا بإسناد كالشمس، عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس بسند صحيح موقوفا. وورد عن قتادة وعن الحسن قولهما لم يرفعاه. فالحديث كما ترى ورد مرفوعا، وموقوفا، وموقوفا على بعض التابعين، وفي المتن غرابة. لكن لا أقدم على ترجيح الوقف بسبب أن الحديث في الصحيحين، ولم أجد من رجح وقفه، والله أعلم.
ولفظ البخاري المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن موسى كان رجلا حييا سترا لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة، وإما من آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا. فذلك قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. قال الحافظ في «الفتح» ١/ ٣٨٦: قال الجوهري: الأدرة: نفخة في الخصية، وهي بفتحات، وحكي بضم أوله، وإسكان الدال.
وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٤/ ٢٢٤: وهو الصحيح من الأقوال. وهو مذهب الجمهور.
أخرجه الطبري ٢٨٧٦ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٣٩ وإسناده حسن لأجل سفيان بن حسين، فإنه حسن الحديث، وباقي الإسناد ثقات. وانظر «أحكام القرآن» ٣/ ٦٢٧ بتخريجنا.
والرابع: أنهم رمَوه بالسِّحر والجنون، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً قال ابن عباس: كان عند الله تعالى حَظيّاً لا يسألُه شيئاً إِلاَّ أعطاه. وقد بيّنّا معنى الوجيه في سورة آل عمران «١». وقرأ ابن مسعود والأعمش، وأبو حيوة: «وكان عبد الله» بالتنوين والباء وكسر اللام.
قوله تعالى: وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فيه أربعة قوال: أحدها: صواباً، قاله ابن عباس. والثاني:
صادقاً، قاله الحسن. والثالث: عدلاً، قاله السدي. والرابع: قصداً، قاله ابن قتيبة. ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله»، قاله ابن عباس وعكرمة. والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال، والأعمال، قاله قتادة. والثالث: في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى ما لا يصلُح، قاله مقاتل بن حيّان. قوله تعالى: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ فيه قولان: أحدهما: يتقبَّل حسناتكم، قاله ابن عباس. والثاني: يزكِّي أعمالكم، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي: نال الخير وظفر به.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فيها قولان «٢» :
أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السّموات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير: عُرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال: قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب. وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة والضحاك والجمهور.
والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها. روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل،
__________
(١) آل عمران: ٤٥.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٣٤٢: إنه عني بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس، وذلك أن الله تعالى لم يخصّ بقوله بعض معاني الأمانات.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهو ابن آدم، فما قام بها.
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال: يا ربِّ، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكلٌّ أباها غير ولده. وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السّموات والأرض قولان: أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله: «أبَيْنَ» المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و «أشفقن» بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالآية: إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن.
وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال: أحدها: آدم في قول الجمهور. والثاني: قابيل في قول السدي. والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن. والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد. والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «١» وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: «وحملها الإِنسان» أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً.
قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال ابن قتيبة: المعنى: عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات.