تفسير سورة الليل

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الليل من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ

سُورَةُ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) جعل اللَّه - تعالى - الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف كل كافر ومؤمن، وجميع أهل التنازع الذين ينازعون أهل الإيمان والتوحيد من الجبابرة والفراعنة.
والقسم بالليل والنهار، والقسم بقوله: (وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) واحد.
وقد ذكرنا أن القسم إنما يذكر في تأكيد ما يقع به القسم، ما لولا القسم وإن ذلك يوجب دون القسم؛ وذلك لعظم ما فيهما؛ حتى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة، وغلبا عليهم في إتيانهما وذهابهما، حتى أن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا، ما قدروا عليه.
وفيهما دلالة وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، وقدرته، وسلطانه، وعلمه، وتدبيره، وحكمته:
أما دلالة وحدانيته وألوهيته: اتساقهما وجريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا وأنشئا من الظلمة والنور، والزيادة والنقصان؛ فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا جاء هذا، وغلب الآخر، دامت غلبته عليه، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا، والآخر غالبا؛ فإذا لم يكن ذلك، دل أنه فعل واحد.
ويدل - أيضا - على أن ليس ذلك عمل النور والظلمة، على ما تقوله الثنوية.
ودل اتصال منافع أحدهما بمنافع الآخر على أن ذلك عمل واحد لا عدد.
ودل اتساق ما ذكرنا، ودوامهما على حد واحد على الاستواء أن منشئهما مدبر عليم، عن تدبير وعلم خرج ذلك لا على الجزاف بلا تدبير.
ودل مجيء كل واحد منهما بطرفة عين على أن منشئهما قادر لا يعجزه شيء من بعث ولا غيره.
ودل ما ذكرنا أن فاعل ذلك حكيم، على حكمة خرج فعله، لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بأمور.
وكذلك جعل فيما ذكر من الذكر والأنثى من الدلالات والآيات من الازدواج والتوالد والتناسل وغير ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن حرف (ما) متى قرن بالفعل الماضي، صار بمعنى المصدر؛ كأنه قال: وخلق الذكر والأنثى؛ فيكون قسما بجميع الخلائق، إذ لا يخلو شيء من أن يكون ذكرا وأنثى.
وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والذَّكَرِ وَالْأُنْثَى)، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ كذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ما) هاهنا بمعنى " الذي "؛ كأنه قال: والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون على هذا الوجه القسم باللَّه تعالى، وعلى التأويل الأول بالذكر والأنثى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤):
قالوا: على هذا وقع القسم، فَإِنْ قِيلَ: إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيهم لمختلف؛ فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك؟
فالوجه فيه - واللَّه أعلم -: أن ما يقع لهم بالسعي، وما يستوجبون به لمختلف في الآخرة، وهو جزاء السعي؛ كأنه قال: إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن كانت دار أخرى على ما يقوله مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - فنحن أحق بها من أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
أو يكون قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)؛ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره، ويضر نفسه في الظاهر، والممسك ينفع نفسه، ثم المعطي محمود عند الناس؛ فلو لم يكن عاقبة ينتفع المعطي بما أعطى، ويضر البخيل المنع، لكان الناس بما حمدوا هذا وذموا الآخر سفهاء؛
الآية ٤ : وقوله تعالى :﴿ إن سعيكم لشتى ﴾ قالوا : على هذا وقع القسم.
فإن قيل : إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيكم لمختلف، فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك ؟.
( قيل : الوجه )١ فيه، والله أعلم أن ما يقع لهم بالسعي وما يستوجبون به مختلف في الآخرة، وهو جزاء السعي، كأنه قال : إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف، وذلك أنهم كانوا يقولون إن كانت دار أخرى على ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم فنحن أحق بها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ﴾ ( الكهف : ٣٦ ) أو أن يكون قوله :﴿ إن سعيكم لشتى ﴾ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره، ويضر نفسه في الظاهر، والممسك ينفع نفسه ( ويضر غيره )٢ ثم المعطي محمود عند الناس. فلو لم تكن عاقبة، ينتفع المعطي بما أعطى، ويضر البخيل المنع لكان الناس بما حمدوا هذا، وذموا الآخر، سفهاء. دل٣ أن العاقبة، هي التي تصيّر هذا محمودا، وأن الخلق جميعا من مسلم وكافر ومحسن ومسيء، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذّاتها بما ذكرنا من ممر الليل والنهار مما يخلق فيهما من النبات والثمار والعيون والأشجار.
فإذا وقع الاستواء في هذه الدار، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والنار والكلإ، فلا٤ بد من دار أخرى للأشقياء والأبرار ليقع بها التفاوت بين الأبرار والأشرار أو النافع منهم نفسه والضار.
وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا فلا بد من دار أخرى يقع التفاوت والتفاضل بينهم، وفيها يميز ما ذكرنا.
١ في الأصل وم: فالوجه.
٢ من نسخة الحرم المكي: ساقطة من الأصل وم.
٣ في الأصل وم: فدل.
٤ الفاء ساقطة من الأصل وم.
فدل أن العاقبة هي التي تصير هذا محمودا.
ولأن الخلق جميعا من مسلم وكافر، ومحسن ومسيء، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذاتها مما ذكرنا من ممر الليل والنهار ومما يخلق فيها من النبات والثمار والعيون والأشجار، فإذا وقع الاستواء في هذه الدار، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار - لا بد من دار أخرى للأشقياء والأبرار؛ ليقع بها التفاوت بين الأبرار والأشرار، والنافع منهم نفسه والضار، وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار، وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا لا بد من دار أخرى فيها يقع التفاوت والتفاضل بينهم، وفيها يميز بين ما ذكرنا.
ثم بين أن السعي الذي يقع الجزاء له مختلف، ما ذكر بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وهو يخرج على وجوه:
يحتمل (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)، أي: أعطى ما أمر به، واتقى عصيانه وكفران نعمه، أو اتقى المنع، أو من أعطى التوحيد لله - تعالى - من نفسه، واتقى الشرك والكفران لنعمه، وصدق بموعود اللَّه - تعالى -: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): للأعمال والشرائع؛ إذ نشرح صدره للتوحيد والإسلام ونيسره عليه.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، ولم يأت بالتوحيد، (وَاسْتَغْنَى) عن اللَّه - تعالى - بما عنده، (وَكَذَّبَ) بموعود اللَّه (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)؛ لما بعده من الأعمال، واللَّه أعلم.
والثاني: في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)، أي: قبل الإعطاء، وعزم على وفاء ذلك، (وَاتَّقَى)، أي: عزم على اتقاء معاصي اللَّه - تعالى - ومحارمه.
(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، أي: بموعوده؛ (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، أي: سنيسره لوفاء ما عزم عليه، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، أي: عزم على البخل والمنع بذلك، (وَاسْتَغْنَى) وبالذي له وعنده، (وَكَذَّبَ) بموعود اللَّه تعالى (فَسَنُيَسِّرُهُ) لوفاء ما عزم عليه، من الخلاف لله
﴿ فسنيسره لليسرى ﴾ للأعمال والشرائع أو لشرح صدره للتوحيد والإسلام، ونيسره عليه
﴿ وأما من بخل ﴾ ولم يأت بالتوحيد ﴿ واستغنى ﴾ عن الله تعالى بما عنده، وكذب بموعود الله تعالى ﴿ فسنيسره للعسرى ﴾ لما يعده من الأعمال، والله أعلم.
والثاني : في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله :﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ أي قبل الإعطاء، وعزم على وفاء ذلك ﴿ واتقى ﴾ أي عزم ( على )١ اتقاء معاصي الله ومحارمه ﴿ وصدق بالحسنى ﴾ أي بموعوده ﴿ فسنيسره لليسرى ﴾ أي سنيسره لوفاء ما عزم ﴿ وأما من بخل ﴾ أي ( عزم )٢ على البخل والمنع بذلك ﴿ واستغنى ﴾ بالذي له عنده، وكذب بموعود الله تعالى ﴿ فسنيسره ﴾ لوفاء ما عزم من الخلاف لله تعالى والمعصية له.
وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول الله / ٦٤٤ ب/ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك، فقال :( كل ميسر لما خلق له ) ( مسلم ٢٦٤٩ ) أو قال :( كل ميسر لما عمل ) ( البخاري ٤٩٤٩ ).
والثالث : يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع، يقول ﴿ فأما من أعطى ﴾ ما وجب من حق الله تعالى في ما له ﴿ واتقى ﴾ نقمة الله ومقته وعذابه ﴿ وصدق بالحسنى ﴾ أي بموعود الله تعالى ﴿ فسنيسره لليسرى ﴾ في الخيرات والطاعات ﴿ وأما من بخل واستغنى ﴾ أي منع حق الله تعالى الذي في ماله
١ ساقطة من الأصل وم.
٢ ساقطة من الأصل وم.
﴿ وكذب بالحسنى ﴾ بالذي وعد على ذلك
﴿ فسنيسره للعسرى ﴾ في الإفضاء إلى ما وعد.
تعالى والمعصية له.
وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " كل ميسر لما خلق له "، أو قال: " كل ميسر لما عمل ".
والثالث: يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع؛ يقول: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ما وجب من حق اللَّه - تعالى - في ماله، (وَاتَّقَى) نقمة اللَّه ومقته وعذابه، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، أي: بموعود اللَّه تعالى، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) في الخيرات والطاعات. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، أي: منع حق اللَّه - تعالى - الذي في ماله، (وَكَذَّبَ) بالذي وعد على ذلك، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) في الإفضاء إلى ما وعد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١):
قيل: إذا هلك ومات، أو تردى في النار.
وفي ظاهر قوله - تعالى -: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ) دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، قَالَ بَعْضُهُمْ: بالجنة.
وقيل: يشهادة: أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وقيل: بالخلف على ما أنفق.
وجائز أن تكون " اليسرى " اسم للجنة وكذلك " الحسنى ". و " العسرى " و " السوءى ": النار.
ويحتمل أن تكون " اليسرى " اسما لكل ما طاب وحسن من العمل، و " العسرى ": ما خبث، وقبح من العمل.
ومنهم من قال: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه اشترى
بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواقٍ، فأعتقه لله - تعالى - فأنزل اللَّه تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى...) إلى قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، يعني: سعي أبي بكر وأمية وأبي.
وذكر إلى آخر السورة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): أبو بكر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى): أمية بن خلف، وأبي بن خلف؛ يرويه عبد اللَّه بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى):
هذا يخرج على وجوه:
أحدها: جائز أن يكون قوله: (عَلَيْنَا)، أي: لنا، وذلك جائز في اللغة جار؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: للنصب، وكقوله - تعالى -: (وَعَلَيْنَا الحسَابُ)، و (عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)، أي: لنا محاسبتهم، وقوله - تعالى -: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، أي: لله قصد السبيل، وكقوله - تعالى -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ)، أي: لربهم، كما قال: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ونحو ذلك كثير أن يكون " علينا " بمعنى " لنا "؛ فيصير كأنه قال: إن لنا للهدى؛ كقوله: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، وكقوله: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا)، يكون فيه إخبار أن الهدى له والدِّين الخالص له، وأما سائر الأديان -فلما هي سبل الشيطان- ليست لله تعالى.
على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، والوجهان الآخران يخرجان على حقيقة " على "، لكن أحدهما يخرج ذكر الهدى على إرادة البيان وتبيين الطريق، والآخر على إرادة حقيقة
الهدى، الذي هو ضد الكفر ومقابله.
فأما على إرادة البيان؛ فكأنه قال: إن علينا غاية البيان في حق الحكمة والعدل فيما يمتحنون، حتى إن كان التقصير والتفريط فإنما يكون من قبل أنفسهم، لا من قبل الله تعالى، أي: يبين لهم كل شيء غاية البيان ونهايته؛ لتزول الشبهة عنهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقول: إن علينا هداية من استهدانا واجتهد في طلبها؛ كقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
ووجه آخر: إن علينا إنجاز ما وعدنا على الهدى لمن اهتدى واختاره يخرج تأويل الآية على إرادة البيان من الوجوه التي ذكرنا.
وأما على إرادة حقيقة الهدى الذي هو مقابل الكفر؛ فكأنه قال: إن علينا التوفيق والمعونة والعصمة في حق الإحسان والإفضال، لا على أن ذلك عليه لهم.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إن علينا بيان ما للآخرة والأولى؛ كي لا يزول عن قصد الطريق؛ فيهلك نفسه في كل مضيق ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣):
فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول - واللَّه أعلم: إنكم تعلمون أن لنا الآخرة والأولى، وليس لما تعبدون من الأصنام والأوثان لا آخرة ولا أولى، فكيف صرفتم عبادتكم عمن له الآخرة والأولى إلى من ليس له الآخرة والأولى، على علم منكم بذلك؟ يسفههم في اختيارهم عبادة الأصنام على عبادة اللَّه تعالى.
والثاني: يقول - واللَّه أعلم -: إن لنا الآخرة والأولى؛ فما بالكم تبخلون بالإنفاق على أنفسكم، وما يرجع منفعته إليكم، بما ليس لكم في الحقيقة، وإنَّمَا هو لله تعالى؟! وهذا التأويل صلة قوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى...) الآية، والأول يكون صلة قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) أي: نارا تتوقد، وتتلهب، أو تتشعب، على ما ذكر من صفتها.
ثم ذلك الإنذار يكون للفريقين: لأهل التوحيد، ولأهل الشرك جميعا، واللَّه أعلم.
الآية ١٤ : وقوله تعالى :﴿ فأنذرتكم نارا تلظى ﴾ أي نارا تتوقد، وتتشعب، على ما ذكر من صفتها.
ثم الإنذار يكون للفريقين لأهل التوحيد ولأهل الشرك جميعا، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦).
قالت المعتزلة: هذا ليس على حقيقة التكذيب؛ ولكن على التقصير والتفريط في أمر اللَّه تعالى، والوقوع في مناهيه؛ فيصرفون الآية إلى أصحاب الكبائر بارتكابهم الكبيرة يصيرون مكذبين ومتولين؛ لأنهم في ابتداء اعتقادهم التوحيد والإيمان اعتقدوا وفاء كل ما وقع به الأمر، ووفاء كل ما يليق به، والانتهاء عن جميع ما لا يليق به، فإذا ترك ذلك صار مكذبا لما اعتقد في الأصل وفاء ذلك.
لكن عندنا لا يصير بترك الوفاء مكذبا؛ لكن يصير مخالفا لما وعد واعتقد.
واستدلت المرجئة الذين لا يرون العذاب إلا لأهل الشرك والكفر بهذه الآية يقولون: إنه لا يصلاها إلا الذي كذب وتولى، والمسلم وإن ارتكب الكبيرة أو الصغيرة فهو ليس بمكذب ولا متولٍّ.
ولكن تأويل الآية عندنا في الكفرة، ليست في أهل التوحيد والإيمان.
ثم يحتمل قوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) في باب ودرك دون درك وباب، فإن كل فريق دركا، قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)، وهذا كما قال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، وقال في آية أخرى: (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)؛ فيكون الضريع الذي ذكر في باب ودرك منها، والغسلين في باب آخر، فجائز على هذا ألا يصلي ذلك الدرك إلا الأشقى. فأما يجوز أن يكون لصاحب الكبيرة درك خاص.
وأما ما ذكروا أن أصحاب الكبائر قد أوعدوا وخوفوا بمواعيد شديدة، فلسنا ننكر المواعيد لهم، وأنهم يعذبون، ولكن نقول: لا يكونون في الدركات التي فيها الكفار إن أدخلوا في النار.
وجائز - أيضا - أن يعذبوا بعذاب سوى العذاب الذي ذكر بالنار والتلظي.
وعندنا: هم في مشيئة اللَّه - تعالى - إن شاء عذبهم وإن شاء تجاوز عنهم، وخلى عنهم سبيلهم، وأما النار التي ذكر بصفة التلظي فهي للكفار، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨):
ثم يحتمل قوله :﴿ لا يصلاها إلا الأشقى ﴾ ﴿ الذي كذب وتولى ﴾ في باب ودرك دون درك وباب ﴿ من النار ﴾١ فإن لكل٢ فريق دركا. قال الله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك من النار ﴾ ( النساء : ١٤٥ ).
وهذا كما قال :﴿ ليس لهم طعام إلا من ضريع ﴾ ( الغاشية : ٦ ) وقال في آية أخرى } ﴿ ولا طعام إلا من غسلين ﴾ ( الحاقة : ٣٦ ) فيكون الضريع الذي ذكر في باب ودرك منها والغسلين في باب آخر، فجائز على هذا ألا يصلى ذلك الدرك إلا الأشقى، ويجوز٣أن يكون لصاحب الكبيرة درك خاص.
وأما ما ذكروا أن أصحاب الكبائر قد أوعدوا، وخوفوا بمواعيد شديدة، فلسنا ننكر المواعيد لهم وأنهم يعذبون، ولكن نقول : لا يكونون في الدركات التي فيها الكفار، إن أدخلوا في النار/٦٤٥ أ/ وجائز أيضا أن يعذبوا بعذاب سوى العذاب الذي ذكر بالنار والتلظي.
وعندنا هم في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء تجاوز عنهم، وخلى عنهم سبيلهم. وأما النار التي ذكر بصفة التلظي فهي للكفار، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وباب.
٢ من م، في الأصل: كل.
٣ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: فأما يجوز.
الآيتان ١٧ و ١٨ : وقوله تعالى :﴿ وسيجنبها الأتقى ﴾ ﴿ الذي يؤتى ماله يتزكى ﴾ أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى، ويقيه عنها.
ثم فيه دلالة أنه إنما يتجنبها، ويتقيها، بالأعمال التي يعلمها، فدل أن الله تعالى في أفعالهم صنعا حين١أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها، وهو كقوله :﴿ ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ ( البقرة : ٢٠١ ).
١ في الأصل وم: حيث.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:الآيتان ١٧ و ١٨ : وقوله تعالى :﴿ وسيجنبها الأتقى ﴾ ﴿ الذي يؤتى ماله يتزكى ﴾ أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى، ويقيه عنها.
ثم فيه دلالة أنه إنما يتجنبها، ويتقيها، بالأعمال التي يعلمها، فدل أن الله تعالى في أفعالهم صنعا حين١أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها، وهو كقوله :﴿ ربنا آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ ( البقرة : ٢٠١ ).
١ في الأصل وم: حيث.

أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى ويقيه عنها.
ثم فيه دلالة أنه إنما يجنبها ويقيها بالأعمال التي يعملها؛ فدل أن لله - تعالى - في أفعالهم صنعا، حيث أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها، وهو كقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠).
أي: ما لأحد عند اللَّه تعالى من نعمة يجزى بها ولا بد أن يستحق الثواب بها، لكن إذا أدى نعمة من نعم اللَّه - تعالى - التي أعطاها إياه لغيره؛ ابتغاء وجهه، وطلب رضاه - يجزيه بفضله؛ كأنه كانت له عنده نعمة يجزى بها.
والثاني: يحتمل أن هذا صلة قوله: (يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)، أي: يتصدق ويتزكى؛ لابتغاء وجه اللَّه - تعالى - على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه؛ كأنه يقول: لا يعطي الزكاة أحدًا عن مجازاة لما سبق منه إليه من نعمة؛ إنما أعطاها له لا مجازاة، ولكن لله تعالى خالصا.
وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة؛ لأنه يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١) أي: يرضى بالذي يجزى به، ويساق إليه من الثواب. وحرف أو " سوف " والـ " عسى " من اللَّه تعالى واجب؛ كأنه يقول: يعطيه حتى يرضى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت هذه الآية - وهي قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) - في أبي بكر الصديق، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية نزلت في أبي الدحداح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منه نخلة - إلى آخر القصة.
وقال بعض أهل الأدب: تردى في النار، أي: سقط، ويقال: تردى: تفعل، من الردى، وهو الهلاك، و (إِذَا تَجَلَّى): إذا بدا، واليسرى من التيسير، والعسرى من التعسير، واللَّه أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:الآيتان ١٩ و ٢٠ : وقوله تعالى :﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى ﴾ ﴿ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ﴾ ( يحتمل وجهين : أحدهما : أن )١ ما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجزى بها، ولا يد يستحق ( الثواب )٢ بها. لكن إذا أدى نعمة من نعم الله تعالى التي أعطاها إياه لغيره ابتغاء وجهه، وطلب مرضاته، يجزيه بفضله، كأنه كانت له عنده نعمة، يجزي بها.
والثاني : يحتمل أن يكون٣ صلة قوله :﴿ الذي يؤتى ماله يتزكى ﴾ أي يتصدق، ويتزكى لابتغاء وجه الله تعالى على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها، وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه، كأنه يقول : لا يعطي الزكاة أحدا عن مجازاة ( ما )٤ سبق منه إليه من نعمة، إنما أعطاه له لا مجازاة، ولكن لله تعالى خالصا.
وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة لأنه يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل.
١ في الأصل وم: أي..
٢ من م، ساقطة من الأصل.
٣ في الأصل وم: هذا..
٤ في م: قد: ساقطة في الأصل.

الآية ٢١ : وقوله تعالى :﴿ ولسوف يرضى ﴾ أي يرضى بالذي يجزى به، ويساق إليه من الثواب، وحرف : ال : سوف و ال : عسى من الله تعالى واجب، كأنه يقول : يعطيه حتى يرضى.
وقال بعضهم : نزلت هذه الآية، وهو قوله تعالى :﴿ وما لأحد عنده من نعمة تجزى ﴾ في أبي بكر رضي الله عنه.
وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في أبي الدحداح رضي الله عنه طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه نخلة إلى آخر القصة١.
وقال بعض أهل الأدب :﴿ تردى ﴾ ( الآية : ١١ ) في النار، أي سقط، ويقال :﴿ تردى ﴾ تفعل من الردى، وهو الهلاك، و ﴿ إذا تجلى ﴾ ( الآية : ٢ ) إذا بدا، و﴿ لليسرى ﴾ ( الآية : ٧ ) من التيسير، و﴿ للعسرى ﴾ ( الآية : ١٠ ) من التعسير. والله أعلم. ( والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين }٢.
١ لقد ذكر المؤلف خبرا آخر عن أبي الدحداح في تفسير الآية ٢٤٥ من سورة البقرة وتصدقه بحديقة له، انظر ج ١ / ٤٣٨.
٢ ساقطة من م..
Icon