ﰡ
١ - ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾؛ أي: وأقسم بالليل إذا يغطي (١) بظلمته ما كان مضيئًا، قال الزجاج: يغشى الليل الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض، فيُذهب ضوء النهار، وقيل يغشى: النهار، وقيل يغشى: الأرض، والأول أولى، و ﴿إذا﴾ للحال (٢)؛ لكونها بعد القسم، كما مر في السورة السابقة؛ أي: أقسم بالليل حين يغشى الشمس، ويغطيها ويسترها، كقوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤)﴾ فعدم ذكر المفعول للعلم به أو النهار، أو كل ما يواريه بظلامه، فعدم ذكر المفعول للتعميم، والليل عند أهل النجوم: ما بين غروب الشمس وطلوعها، وعند أهل الشرع: ما بين غروبها وطلوع الفجر الصادق، ولعله المراد هنا، والنهار ما يقابله على كلا الضبطين.
قال بعض أهل المحبة:
وَاللَّيْلُ دَاجٍ وَالْعُصَاةُ نِيَامُ | وَالْعَابِدُوْنَ لِذِيْ الْجَلَالِ قِيَامُ |
٣ - ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)﴾؛ أي: وأقسم بالذي خلق وأوجد الذكر والأنثى، فـ ﴿ما﴾ موصولة، وعبر عن (٣) من بـ ﴿ما﴾؛ للدلالة على الوصفية، ولقصد التفخيم، كما في قوله: ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾؛ لأنها (٤) لتوغلها في الإبهام أفادت أن الوصف الذي استُعملت هي فيه بالغ إلى أقصى درجات القوة والكمال بحيث كان مما لا يكتنه كنهه، وأنه لا سبيل للعقل إلى إدراكه بخصوصه، وإنما الممكن هو إدراكه بأمر عام صادق، واللامان (٥) للحقيقة، ويجوز أن تكونا للاستغراق.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
(٥) روح البيان.
قرأ الجمهور (١): ﴿تَجَلَّى﴾ فعلًا ماضيًا فاعله ضمير ﴿النهار﴾، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير: ﴿تتجلى﴾ بتائين أعني: الشمس، وقرىء: ﴿تُجْلى﴾ - بضم التاء وسكون الجيم - أي: الشمس، وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)﴾ وقرأ ابن مسعود: ﴿وَالذكرِ والأنثى﴾ بدون ﴿ما خلق﴾ قال علقمة: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء - رضي الله عنه - فقال: أفيكم من يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود؟ فأشاروا إلي، فقلت: نعم أنا، فقال: كيف يقرأ هذه الآية؛ قلت: سمعته يقرأ: ﴿والذكِر والأنثى﴾ قال: وأنا هكذا، والله سمعت رسول الله يقرؤها، وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها: ﴿وَمَا خَلَقَ﴾ فلا أتابعهم.
٤ - وقوله ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)﴾ جواب القسم، والمصدر (٣) بمعنى الجمع؛ لما عُرف أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ولذلك أخبر عنه بالجمع، و ﴿شتى﴾ جمع شتيت كمرضى ومريض، وهو المفترق المتثبت، والمعنى: إن مساعيكم؛ أي: أعمالكم أيها العباد لمختلفة حسب اختلاف الاستعدادات الأزلية، فبعضها حسن نافع خير صالح، وبعضها قبيح ضار شر فاسد، وفي الحديث: "الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، أو بائع نفسه فموبقها".
وحاصل ما في المقام: أن الله سبحانه أقسم (٤) بما أقسم على أن سعي البشر
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
١ - بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مستقره، ويسكن عن الاضطراب؛ إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.
٢ - بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم، وفيه تغدو الطير من أوكارها، وتخرج الهوام من أجحارها.
٣ - بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى، وميز بين الصنفين، مع أن المادة التي تَكَوَّنا منها واحدة، والمحل الذي تكونا فيه واحد، وفي ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة، كما قال: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)﴾، فقال ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ أقسم بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها في ظلامه، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم بما يشملهم من النوم والهدوء ﴿و﴾ أقسم بـ ﴿النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ بزوال ظلمة الليل، فيتحرك الإنسان والحيوان طلبًا لمعاشهما، وبهذا يظهر وجه المصلحة في اختلافهما؛ إذ لو كان الدهر كله ليلًا.. لتعذر المعاش على الناس، ولو كان كله نهارًا.. لبطلت المصلحة، فكان في تعاقبهما آية بالغة يُستدل بها على علم الصانع وحكمته.
إقرأ من شئت قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (٦٢)﴾ ﴿و﴾ أقسم بـ ﴿مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾؛ أي: بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد، وفي هذا (١) دليل على أنه عليم جد العلم بدقائق المادة وما فيها؛ إذ لا يُعقل أو يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى في الحيوان بمحض الاتفاق أو طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف في الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع.
وقصارى ما سلف: أو بعض الماء يكون تارة سببًا للحمل، وأخرى يكون غير مستعد للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث، سبحانه ما
٥ - وقوله: ﴿فَأَمَّا﴾ بيان وتفصيل لتلك المساعي المختلفة وتبيين لأحكامها، و ﴿الفاء﴾ للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن سعيكم شتى، وأردتم بيانها وتفصيلها لكم.. فأقول لكم: أما ﴿مَنْ أَعْطَى﴾؛ أي: أدى حقوق الله عليه بامتثال المأمورات، وأداء الواجبات، وحقوق الناس عليه بأداء أموالهم عليه، ووفاء البيعة للإمام مثلًا، فإن مطلق الإعطاء يتناول إعطاء يقول المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى، يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى البيعة، وقيل: معنى الإعطاء: إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى، وتقوية المسلمين على عدوهم. اهـ من "الرازي".
﴿وَاتَّقَى﴾؛ أي: اجتنب (١) محارم الله التي نهى عنها، ومن جملتها المن والأذى
٦ - ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)﴾؛ أي: بالخصلة الحسنى، وهي الإيمان من الكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي ملة الإِسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والحسنى تأنيث الأحسن
٧ - ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾؛ أي: فسنُهَيِّئُه ونوفقه ﴿لِلْيُسْرَى﴾؛ أي: للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة، كدخول الجنة ومباديه، والمعنى: فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله تعالى التي تؤديه إلى الجنة.
قال الواحدي (٢): قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق، اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله، كما مر؛ أي: نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون، وذلك في الدنيا والآخرة، وفي "الخطيب": واختُلف في الحسنى، فقال ابن عباس: أي: بـ: لا إله إلا الله؛ أي: مع محمد رسول الله، والمعنى: وصدَّق بالتوحيد والنبوة، وذلك لأنه لا ينفع مع
(٢) الشوكاني.
فائدة (٢): ذكروا أن ﴿السين﴾ في ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾؛ للتلطيف، قال الشريف الصفوي: مرادها بالتلطيف ترقيق الكلام بمعنى أن لا يكون نصًا صريحًا في المقصود، بل يكون محتملًا لغير المقصود، فهو كالشيء الرقيق الذي يمكن تغييره ويسهل، ويقابل الكثيف بمعنى من يكون نصًا في المقصود؛ لأنه لا يمكن تغييره وتبديله، فهو كالشيء الكثيف الذي لا يمكن فيه ذلك، فالمقصود هاهنا من التيسير حاصل في الحال، لكن أتي بالسين الدالة على الاستقبال، والتأخير لتلطيف الكلام وترقيقه باحتمال أن لا يكون التيسير حاصلًا، فكانت تقتضي ذلك.
ومعنى الآيات (٣): أي فأما من أعطى المال وأنفقه في وجوه الخير سواء كان واجبًا عليه أم لا كالصدقات والنوافل، كفك الأسارى، وتقوية المسلمين على عدوهم، وابتعد عن كل ما لا ينبغي، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)﴾؛ أي: وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب ونحو ذلك مما هو مركوز في طبيعة الإنسان، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير، ولا يكون تصديقًا حقًا، ولا ينظر الله إليه إلا إذا أصدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه، وهو بذل المال واتقاء مفاسد الأعمال.
وكثير من الناس يظن نفسه مصدقًا بفضل الخير على الشر، ولكن هذا التصديق يكون سرابًا في النفس خَيَّلَه الوهم؛ لأنه لا يصدر منه ما يليق به من الأثر، فتراه قاسي القلب بعيدًا عن الحق، بخيلًا في الخير، مسرفًا في الشر، ثم ذكر جزاءه على ذلك، فقال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)﴾؛ أي: فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما في فصل الفطرة، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
٨ - ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾؛ أي (١): بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، والبخل؛ إمساك المقتنيات عما لا يليق حبسها عنه، ويقابله الجود ﴿وَاسْتَغْنَى﴾؛ أي: زهد فيما عند الله من الأجر والثواب؛ أي: لم يرغب فيه، كأنه مستغن عنه فلم يتق، من استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، فلم يتق، فيكون الاستغناء مستتبعًا لعدم الاتقاء الذي هو مقابل الاتقاء في الآية الأولى، وبه يحصل التقابل بينهما
٩ - ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩)﴾؛ أي: ما ذكر من المعاني المتلازمة التي هي الإيمان من كلمة التوحيد من ملة الإِسلام من الجنة
١٠ - ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾؛ أي: فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته؛ لاختياره لها، ونسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، فيؤديه ذلك إلى النار، ولعل تصدير (٢) القسمين بالإعطاء والبخل، مع من كلًّا منهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى والتيسير للعسرى؛ للإيذان بأن كلًّا منهما أصيل فيما ذُكر لا تتمة لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء.
والظاهر (٣): أن ﴿السين﴾؛ للدلالة على الجزاء الموعود بمقابلة الطاعة والمعصية، وهو يكون في الآخرة التي هي أمر متراخ منتظر، فأُدخلت ﴿السين﴾ وهي حرف التأخير؛ ليدل ذلك على أن الوعد آجل غير حاضر، كذا في بعض التفاسير. وقيل العسرى (٤): الشر، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب والعسرة في العذاب، والمعنى عليه: سنهيئه للشر بأن نجريه على يده، قال الفراء: سنيسره: سنهيئه، والعرب تقبل: قد يَسَّرَت الغنم إذا ولدت، من تهيأت للولادة.
قال الشاعر:
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
هُمَا سَيِّدَانِ يَزْعُمَانِ وَإِنَّمَا | يَسُوْدَانِنَا إِنْ يَسّرَتْ غَنَمَاهُمَا |
١١ - ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ﴾؛ أي (٢): وما يدفع عنه ماله الذي بخل به شيئًا من عذاب الله، فـ ﴿ما﴾: نافية، والمفعول محذوف من؛ أي شيء يدفع عنه ماله الذي بخل به، فـ ﴿ما﴾ استفهامية في محل النصب مفعول ﴿يُغْنِي﴾، والاستفهام للإنكار ﴿إِذَا تَرَدَّى﴾؛ أي: هلك ومات تفعل من الردى؛ للمبالغة والردى، كالفتى وهو الهلاك، قال الراغب؛ الردى الهلاك، والتردي التعرض للهلاك. انتهى. من تردى وسقط في الحفرة إذا قُبِر، من تردى في قعر جهنم، يقال: ردى الرجل في البئر يردى ردى إذا سقط فيها، وتردى إذا هلك، فالمال الذي ينتفع به الإنسان في الآخرة وقت حاجته هو الذي أعطى حقه، وقدمه دون الذي بخل به وتركه لوارثه.
والمعنى (٣): أي وإذا يسرناه للعسرى، فأي شيء يُغني عنه ماله الذي بخل به على الناس، ولم ينفقه في المصالح العامة؟ وفيما يعود نفعه على الجماعة، ولم يصحب منه شيئًا إلى آخرته التي هي موضع حاجته وفقره؟ كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾،
١٢ - وقوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢)﴾ استئناف مقرِّر لما قبله؛ أي: إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحِكَم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وطريق الضلال وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال من
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أي إنّا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، ثم بعثنا له الكملة من أفراده وهم الأنبياء، وشرعنا لهم الأحكام، وبينا لهم العقائد تعليمًا وارشادًا، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين سبيل الخير والفلاح، والسبيل المعوج، فيتردى في الهاوية.
وقصارى ذلك: من الإنسان خلق نوعًا ممتازًا من سائر الحيوان بما أوتيه من العقل، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد،
١٣ - ثم زاد الأمر توكيدًا، فأبان عظم قدرته، فقال: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣)﴾؛ أي: وإن لنا التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما وعدنا من التيسير لليسرى، والتيسير للعسرى، أو المعنى: من لنا كل ما في الآخرة وكل ما في الدنيا نتصرف فيه كيف نشاء، فمن أرادهما أو إحداهما.. فليطلب ذلك منا، ومن طلبهما من غير مالكهما.. فقد أخطأ، وقيل المعنى: من لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا.
والخلاصة: أي وإنا لنحن المالكون لكل ما في الدنيا وكل ما في الآخرة، فنهب ما نشاء لمن نريد، ولا يضرنا من يترك بعض عبادنا الاهتداء بهدينا الذي بيناه لهم، ولا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى منهم؛ لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما حصل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.
وإذا كان مُلْك الحياتين لله.. كان هديه هو الذي يجب أن اتابعه فيهما؛ لأن المالك لأمر هو العالم بوجوه التصرف فيه،
١٤ - ثم بيّن سبيل الهداية التي أوجبها على
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَلَظَّى﴾ بتاء واحدة، وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة بن مصرف وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير: ﴿تتلظى﴾ بتاءين على الأصل،
١٥ - وقرأ البزي بتاء مشددة ﴿لَا يَصْلَاهَا﴾؛ أي: لا يصلى تلك النار صليًا لازمًا، ولا يدخلها دخولًا مؤبدًا، من لا يقاسي صلاها، وهو حرها ﴿إِلَّا الْأَشْقَى﴾؛ أي: إلا الزائد في الشقاوة، وهو الكافر، فإنه أشقى من الفاسق، وإن صَلِيَها غيره من العصاة، فليس صَلْيُهُ كصَلْيِهِ، فالفاسق لا يصلاها صليًا لازمًا، ولا يدخلها دخولًا أبديًا، كما يدل عليه قوله الآتي: ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)﴾، وفي "كشف الأسرار" يعني: الشقي، والعرب تسمي الفاعل أفعل في كثير من كلامهم، منه قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾، وقوله: ﴿وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾،
١٦ - ثم وصف الأشقى، فقال: ﴿الَّذِي كَذَّبَ﴾ بالحق الذي جاءت به الرسل ﴿وَتَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض عن الطاعة والإيمان، وليس هذا إلا الكافر.
والمعنى (٣): أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى، فأنذرناكم نارًا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول - ﷺ - فيما جاء به من الآيات، وأعرض عن اتباع شرائعه، وانصرف عن وجهة الحق، ولم يعد إليها تائبًا نادمًا. قال الزجاج: هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر (٤)، ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
١٧ - ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا﴾؛ أي: ويبعد (١) عن تلك النار بحيث لا يسمع حسيسها، والفاعل المُجَنَّب المبعد هو الله سبحانه وتعالى ﴿الْأَتْقَى﴾؛ أي: المبالغ في الإتقاء عن الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلًا عن دخولها من صليها الأبدي، وأما مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي؛ وهو المؤمن الشقي الفاسق الغير التائب، فلا يبعد عنها هذا التبعيد يصلاها، وإن لم يذق شدة حرها، كما ذاق الكافر؛ لكونه في الطبقة الفوقانية من طبقات النار، فلذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يقدح في الحصر السابق. قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين انتهى، والأولى حمل الأشقى والأتقى عن كل متصف بالصفتين المذكورتين.
والحاصل (٢): أن من تمسك من المرجئة بقوله: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥)﴾ زاعمًا أن الأشقى هو الكافر؛ لأنه الذي كذب وتولى، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين، فيقال له؛ فما تقول في قوله: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)﴾ فإنه يدل على أنه لا يجنب عن النار إلا الكامل في التقوى، فمن لم يكن كاملًا فيها كعصاة المسلمين.. لم يكن ممن يجنب النار، فإن أولت التقوى بوجه من وجوه التأويل.. لزمك مثله في الأشقى، فخذ هذه إليك مع تلك، وكن كما قال الشاعر:
عَلَى أَنَّنِى رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى | وَأُخْرَجَ مِنْهُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا |
(٢) الشوكاني.
تَمَنَّى أُنَاسٌ أَنْ امُوْتَ وَإِنْ أَمُتْ | فَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ فِيْهَا بِأَوْحَدِ |
١٨ - ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى، فقال: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ﴾؛ أي (١): يعطيه ويصرفه في وجوه البر والحسنات حال كونه ﴿يَتَزَكَّى﴾؛ أي: يطلب أن يكون زاكيًا عند الله لا يريد به رياء ولا سمعة، من متزكيًا متطهرًا من الذنوب ومن دنس البخل ووسخ الإمساك، فالجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْتِي﴾، ويجوز أن تكون بدلًا من ﴿يُؤْتِي﴾ داخلة في حكم الصلة لا محل لها من الإعراب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يزكى﴾ مضارع تزكى، وقرأ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: ﴿يزكى﴾ بإدغام التاء في الزاي.
والمعنى: أي ويبعد عنها المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما ببال، ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه، فقال: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)﴾؛ أي: إن الأتقى هو الذي يُنفق أمواله في وجوه الخير طالبًا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه، لا مريدًا بذلك رياء ولا سمعة، ولا طالبًا مديح الناس له، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل، ولا يكون لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وقد أكد هذا بقوله: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ...﴾ إلخ،
١٩ - وقوله: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩)﴾ استئناف مقرر؛ لكون إيتائه للتزكي خالصًا لوجه الله تعالى؛ أي: وليس لأحد عند ذلك الأتقى نعمة، ومنة من شأنها أن تجزى وتكافأ، فيقصد بإيتائه ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما (٣) قال: ﴿تُجْزَى﴾ بصيغة المضارع المبني للمجهول؛ لأجل الفواصل، والأصل: يجزيها إياه، من يجزيه إياها؛ أي: إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه،
٢٠ - ثم أكده مرة ثانية، فقال: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ﴾ وطلب رضا ﴿وَجْهِ رَبِّهِ﴾؛ أي: ذات ربه ﴿الْأَعْلَى﴾؛ أي: الموصوف بالعلو والرفعة على خلقه، وهو استثناء (٤)
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ﴾ بنصب الهمزة، وهو استثناء منقطع؛ لأنه ليس داخلًا في ﴿مِنْ نِعْمَةٍ﴾، وقرأ ابن وثاب: بالرفع على البدل من محل ﴿نِعْمَةٍ﴾؛ لأن محلها الرفع إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و ﴿مِن﴾ مزيدة، والرفع لغة تميم؛ لأنهم يجوزون البدل في المنقطع، ويجرونه مجرى المتصل، وقرأ الجمهور أيضًا: ﴿ابْتِغَاءَ﴾ بالمد، وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر،
٢١ - ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه، فقال: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ جواب قسم مقدر؛ أي: وأقسم بالله لسوف يرضى ذلك الأتقى الموصوف بما ذُكر؛ أي: ولسوف يرضيه ربه في الآخرة بثوابه وعظيم جزائه، وقرأ الجمهور: ﴿يَرْضَى﴾ مبنيًا للفاعل، وقُرىء مبنيًا للمفعول، وهذا وعد كريم (٢) بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها؛ إذ به يتحقق الرضى، قال بعضهم: أي: يرضي الله عنه ويرضى هو بما يُعطيه الله في الآخرة من الجنة والكرامة والزلفى جزاء على ما فعل، ولم يُنزل هذا الوعد إلا لرسول الله - ﷺ - في قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)﴾ ولأبي بكر - رضي الله عنه - هاهنا.
وفي قوله: ﴿وَلَسَوْفَ﴾ إيماء (٣) إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال؛ لأن يبلغ العبد منزلة الرضى الإلهي.
وقصارى ما سلف: أن الناس أصناف:
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٢ - الذين يلون هؤلاء، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانًا، فيقعون في الذنب، ثم يثوب إليهم رشدهم، فيتوبون ويندمون، وهذان القسمان يدخلان في الأتقى.
٣ - من يخلط بين الخير والشر، فيعتقد وحدانية الله تعالى، ويقترف بعض السيئات، ويصر عليها، ولا يتوب منها، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد، يُرشد إلى ذلك قوله - ﷺ -: "لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن ذهن المخالف، وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه في النفس وتغلب عليها.
٤ - الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أُنزل عليهم، وهذان القسمان يشملهما الأشقى، وقد أُعدت النار لكل منهما إلا أن الفاسقين لا يخلّدون فيها، ويدخلها الكافرون، وهم فيها خالدون.
الإعراب
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)﴾.
﴿وَاللَّيْلِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الليل﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالليل، وجملة القسم مستأنفة. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بفعل القسم، وجملة ﴿يَغْشَى﴾ في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها. ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢)﴾: معطوف على الجملة التي قبله مماثل لها في إعرابها حرفًا بحرف. ﴿وَمَا خَلَقَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول بمعنى مَن معطوف على ﴿الليل﴾، أو مصدرية على ما تقدم. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾؛ أي: ومن خلق الذكر، والجملة صلة الموصول. ﴿الذَّكَرَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْأُنْثَى﴾: معطوف عليه. ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَشَتَّى﴾: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب؛ أي: أقسم بهذه المذكورات على أن أعمالكم لمختلفة.
﴿فَأَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، من فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن سعيكم شتى، وأردتم بيان تفصيلها.. فأقول لكم: ﴿أما من أعطى﴾... إلخ. ﴿أما﴾: حرف شرط. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَعْطَى﴾ صلته والمفعول محذوف، تقديره: أي أعطى وأدى حقوق الله وحقوق العباد الواجبة عليه. ﴿وَاتَّقَى﴾: معطوف على ﴿أَعْطَى﴾. ﴿وَصَدَّقَ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿بِالْحُسْنَى﴾: متعلق بـ ﴿صدق﴾. ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها، و ﴿السين﴾: حرف استقبال، ﴿نيسره﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به. ﴿لِلْيُسْرَى﴾: متعلق بـ ﴿نيسره﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانًا. ﴿وَأَمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿بَخِلَ﴾ صلته. ﴿وَاسْتَغْنَى﴾: معطوف على ﴿بَخِلَ﴾. ﴿وَكَذَّبَ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿بِالْحُسْنَى﴾: متعلق بـ ﴿كذب﴾: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾، وجملة ﴿نيسره﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. ﴿لِلْعُسْرَى﴾: متعلق بـ ﴿نيسر﴾، والجملة الاسمية جواب ﴿أَمَّا﴾، وجملة ﴿أَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿أما﴾ السابقة؛ ﴿وَمَا يُغْنِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يُغْنِي﴾: فعل مضارع. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿يُغْنِي﴾. ﴿مَالُهُ﴾: فاعل، والمفعول محذوف؛ أي: العذاب، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾. أو ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿يُغْنِي﴾. ﴿يُغْنِي﴾: فعل مضارع. ﴿مَالُهُ﴾: فاعل، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، أي: أي شيء يُغني عنه ماله. ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿يُغْنِي﴾، وجملة ﴿تَرَدَّى﴾ في محل الخفض بإضافة إذا إليها ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿عَلَيْنَا﴾ خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَلْهُدَى﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، والجملة مستأنفة. ﴿وَإِنَّ﴾:
﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)﴾.
﴿لَا﴾ نافية. ﴿يَصْلَاهَا﴾: فعل مضارع مرفوع ومفعول به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْأَشْقَى﴾: فاعل، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿نَارًا﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿الْأَشْقَى﴾، وجملة ﴿كَذَّبَ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿وَتَوَلَّى﴾ معطوفة على ﴿كَذَّبَ﴾ داخلة في حيز الصلة. ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿السين﴾: حرف استقبال، ﴿يجنبها﴾: فعل مضارع ومفعول به. ﴿الْأَتْقَى﴾: نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا يَصْلَاهَا﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿الْأَتْقَى﴾. ﴿يُؤْتِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿مَالَهُ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿يَتَزَكَّى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة إما بدل من ﴿يُؤْتِي﴾ فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها داخلة في حيز الصلة، وإما في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْتِي﴾؛ أي: حال كونه متزكيًا به عن دنس الذنوب والمعاصي. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية مهملة. ﴿لِأَحَدٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿نِعْمَةٍ﴾، أو من الضمير المستكن في الخبر الظرفي. ﴿مِن﴾: زائدة. ﴿نِعْمَةٍ﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿تُجْزَى﴾ صفة لـ ﴿نِعْمَةٍ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَتَزَكَّى﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لأنه من غير الجنس؛ لأن ابتغاء وجه ربه
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾؛ أي: يُغطي كل شيء، فيواريه بظلامه، والليل: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، كما مر، وهو ظل الأرض الحائل ما بين الشمس وما عليها، وأصله: يَغْشَيُ بوزن: يفعل، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢)﴾ والنهار: ما بين طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس؛ أي: انكشف وظهر بظهوره كل شيء، وأصل تجلى تَجَلَّيَ بوزن تفعل، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)﴾: حيوان له قوة التلقيح، والأنثى حيوان له قوة الإحبال.
﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)﴾ وشتى: جمع شتيت، كمرضى مريض، وهو المفترق المتشتت، وفي "المصباح": شت شتًا - من باب ضرب - إذا تفرق، والاسم الشتات، وشيء شتيت وِزان كريم متفرق، وقوم شتى - بوزن فعلى - متفرقون، وجاؤوا أشتاتًا كذلك، وشتان ما بينهما؛ أي: بعد.
﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١)﴾ وأصل تردى تَرَدَّيَ بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، يقال: تردى يتردى ترديًا، فهو مترد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾ يقال: تردى في بئر وفي أهوية وفي هلكة إذا وقع، ويقال: رَدِيَ زيد يَرْدَى رَدًى إذا هلك، وأرداه الله يُردِيه إرداء إذا أهلكه، قال الراغب: الردى
﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)﴾ والحسنى: مؤنث الأحسن، وكذا اليسرى مؤنث الأيسر.
﴿نَارًا تَلَظَّى﴾ مضارع تلظى، أصله: تَتَلَظَّيُ بوزن تتفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: تتلهب.
﴿لَا يَصْلَاهَا﴾ أصله: يَصْلَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: لا يقاسي حرها.
﴿إِلَّا الْأَشْقَى﴾ صيغة التفضيل أصله: الأشقَيُ، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ أصله: تولَّيَ بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿الْأَتْقَى﴾ صيغة التفضيل، أصله: الأتقَى، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿يَتَزَكَّى﴾ أصله: يتزكَّيُ بوزن يتفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿تُجْزَى﴾ أصله تجزَيُ، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿ابْتِغَاءَ﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: ابتغاي، أُبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة.
﴿يَرْضَى﴾ أصله يرضَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: حذف المفعول للعلم به إن كان المحذوف الشمس؛ أي: حين يغشى الشمس ويغطيها ويسترها، أو للتعميم إن كان المحذوف غيرها؛ أي: يغشى النهار، من كل ما يواريه بظلامه، فعدم ذكر المفعول للعلم به في الأول، وللتعميم في الثاني، كما مر.
ومنها: اختلاف الفاصلتين في قوله: ﴿إِذَا يَغْشَى﴾ وقوله: ﴿إِذَا تَجَلَّى﴾ بالاستقبال في الأول والماضي في الثاني إشعارًا باستواء الماضي والمستقبل عنده تعالى.
ومنها: الاشتقاق في قوله: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)﴾؛ لأن اليسرى هنا من التيسير، لا من اليسار.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩)﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿صدق﴾ و ﴿وَكَذَّبَ﴾، وبين ﴿أَعْطَى﴾ و ﴿بَخِلَ﴾.
ومنها: تصدير القسمين بالإعطاء والبخل، مع أن كلًّا منهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى، والتيسير للعسرى؛ للإيذان بأن كلًّا منهما أصيل فيما ذُكر، لا تتمة لما بعدهما من التصديق والقوة والتكذيب والاستغناء.
ومنها: الإتيان بسين الاستقبال في القسمين؛ للدلالة على أن الجزاء الموعود في مقابلة الطاعة والمعصية آجل غير حاضر يكون في الآخرة التي هي أمر متراخ منتظر.
ومنها: حذف المفعول في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)...﴾ الآيات إفادة للتعميم؛ ليذهب ذهن السامع مع كل مذهب.
ومنها: الطباق بين ﴿وَاللَّيْلِ﴾ و ﴿وَالنَّهَارِ﴾ في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢)﴾ وبين ﴿الذَّكَرَ﴾ و ﴿وَالْأُنْثَى﴾ في قوله: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣)﴾.
ومنها: التعبير بـ ﴿ما﴾ التي لغير العاقل بدل من التي للعاقل؛ لأنها لتوغلها في الإبهام أفادت أن الوصف الذي استُعملت هي فيه بلغ إلى أقصى درجات القوة والكمال بحيث كان مما لا يُكتنه كنهه، وأنه لا سبيل للعقل إلى إدراكه بخصوصه، وإنما الممكن هو إدراكه بأمر عام صادق.
ومنها: الاقتصار على الذكر والأنثى في هذه الآية إشعارًا بأن الله لم يخلق خلقًا من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى، والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو بالأنوثة، كما في "الروح".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
أولًا: بيان أن الناس في الدنيا فريقان:
١ - فريق يهيئه الله سبحانه للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على ما أنفقوا.
٢ - فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا في الأموال، واستغنوا بالشهوات، وأنكروا ما وعد الله تعالى به من ثواب الجنة.
ثانيًا: الجزاء في الآخرة لكل منهما، وجعله إما جنة ونعيمًا، وإما نارًا وعذابًا أليمًا (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الضحى مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الفجر، وأخرج (١) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نزلت والضحى بمكة.
وآياتها: إحدى عشرة آية، وكلماتها (٢): أربعون كلمة، وحروفها: مئة واثنان وأربعون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في السابقة قوله: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)﴾ وكان - ﷺ - سيد الأتقياء وصفي الأصفياء.. عقَّب ذلك سبحانه بذكر نعمه عَزَّ وَجَلَّ عليه - ﷺ -. وقال الشيخ موسى جار الله - رحمه الله تعالى - في كتابه "نظم الدرر" سورة الضحى: أن النبي - ﷺ - وضعها بعد سورة الليل؛ ليتصل رضي النبي الكريم برضى خليفته بعده، وقدم رضي خليفته؛ لأن ابتغاء وجه الله قبل كل شيء.
التسمية: وتسميتها بالضحى: لبدايتها بلفظ الضحى، وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الضحى كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: ومن فضائلها ما تقدم في سورة الشمس من الحديث الصحيح، ومنها (٣) ما أخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" من طريق أبي الحسن المقرىء قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على قسطيْطين، فلما بلغت ﴿وَالضُّحَى (١)﴾ قال: كَبِّر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبر مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
سبب نزولها: اتفق الرواة على أن سبب نزول هذه السورة الكريمة إنما هو حصول فترة انقطاع في توالي نزول الوحي على رسول الله - ﷺ -، فظن من توهّم أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد تركه وقلاه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه السورة؛ ليلقي الطمأنينة في نفسه - ﷺ -.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾.المناسبة
قد سبق لك قريبًا بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر ما قبلها، وأما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦)...﴾ إلى آخر السورة مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما ذكر رضاه عن رسوله، ووَعْدَه له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه ويثلج قلبه.. أردف ذلك ببيان أن هذا ليس عجبًا منه جل شأنه، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولًا، فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته، ثم نهاه عن أمرين: قهر اليتيم وزجر السائل؛ لما لهما من أكبر الأثر في التعاطف والتعاون في المجتمع، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوي الحاجة، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها في موضعها، وأداء حقها.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة (٢): ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي - ﷺ -، فلم يقم ليلة من ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله عن وجل: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي - ﷺ -، فقال المشركون: قد وُدع محمد، فنزلت هذه السورة.
(٢) لباب النقول.
وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة في "مسنده" والواحدي وغيرهم بسند فيه من لا يُعرف عن حفص بن صبرة القرشي عن أمه عن أمها خولة، وقد كانت خادمة رسول الله - ﷺ -: أن جروًا دخل بيت رسول الله - ﷺ -، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي - ﷺ - أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله - ﷺ - جبريل لا يأتيني"، فقلت في نفسي لو هيأت البيت فكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي - ﷺ - يرعد بجبينه، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فأنزل الله: ﴿وَالضُّحَى (١)﴾ إلى قوله: ﴿فَتَرْضَى﴾.
قال الحافظ ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في "الصحيح".
وأخرج (١) ابن جرير عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي - ﷺ -: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت، وأخرج أيضًا عن عروة قال: أبطأ جبريل على النبي - ﷺ -، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت، وكلاهما مرسل، ورواتهما ثقات، قال الحافظ ابن حجر: فالذي يظهر أن كلًّا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالت شماتة، وخديجة قالته توجعًا.
وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "عُرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرني"، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤)﴾ إسناده حسن، وأخرج الحاكم والبيهقي في "الدلائل"، والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عُرض على رسول الله - ﷺ - ما هو مفتوح على أمته كَفْرًا كَفْرًا؛ أي: قرية قرية، فسر به، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)﴾.
القول الأول: ما روى الشيخان عن جندب بن سفيان البجلي قال: اشتكى رسول الله - ﷺ -، فلم يقم ليلتين من ثلاثًا، فجاءت امرأة، فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين من ثلاثًا، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾ متفق عليه.
قيل: إن المرأة المذكورة في هذا الحديث هي: أم جميل امرأة أبي لهب، وأخرجه الترمذي عن جندب قال: كنت مع النبي - ﷺ - في غار، فدميت أصبعه، فقال:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيْتِ | وَفِي سَبِيْلِ اللهِ مَا لَقِيْتِ |
والقول الثاني: ما قاله المفسرون: سألت اليهود رسول الله - ﷺ - عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف حين أرسلوا إلى قريش، فأمروهم بسؤاله عن هذه الثلاثة، فسألته قريش، فقال: "سأخبركم غدًا"، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عليه.
والقول الثالث: ما قاله زيد بن أسلم كان سبب احتباس الوحي وجبريل عنه: أن جروًا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله - ﷺ - على إبطائه، فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة.
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه (٢)، فقيل: اثنا عشر يومًا، وقال ابن عباس: خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعون يومًا، فلما نزل جبريل عليه السلام.. قال النبي - ﷺ -: "يا جبريل ما جئتَ حتى اشتقت إليك"، فقال جبريل: إني كنت إليك أشد اشتياقًا، ولكني عبد مأمور، ونزل: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾، وأنزل هذه السورة.
(٢) الخازن.