ﰡ
- ٢ - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- ٣ - هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ وقوله تعالى ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيِ الَّذِي قَدْ خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ، فَيُحْيِي وَيُمِيتُ، ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أَيْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية أنها أفضل من ألف آية، روى أبو داود، عن أبي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ، فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ، وَضَحِكَ، قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ: حَتَّى أنزل الله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرأون الكتاب مِن قَبْلِكَ﴾ الآية، قَالَ، وَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم﴾ (أخرجه أبو داود)، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ المفسِّرين فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وروى الترمذي، عن أبي هريرة قال: بينما نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَأَصْحَابُهُ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ سَحَابٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا الْعَنَانُ، هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ تَسُوقُهُ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: «فإنها الرفيع سَقْفٌ مَحْفُوظٌ وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ سَمَاءٌ بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ - مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشَ وبينه وبين السماء مثل مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا الْأَرْضُ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ تَحْتَهَا أَرْضًا أُخْرى بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ - بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دليتم حبلاً إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم﴾ (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً وقال: حديث غريب من هذا الوجه). وفسَّر بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَقَدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الحديث بسنده، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فذكره، وعنده: «وبعد مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ»، وَقَالَ: «لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ»،
- ٥ - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
- ٦ - يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثم أخبر تعالى بِاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا فِي سُورَةِ الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ حَبٍّ وَقَطْرٍ، ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من نبات وزرع وثمار، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أَيْ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالثُّلُوجِ وَالْبَرَدِ وَالْأَقْدَارِ، وَالْأَحْكَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَآ﴾ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ»، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أَيْ رَقِيبٌ عليكم شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وَأَيْنَ كُنْتُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فِي ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، فَيَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَيَرَى مَكَانَكُمْ، وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَنَجْوَاكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾، فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنه يراك»، وفي الحديث، قال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: «يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كان» (أخرجه أبو نعيم من حديث عبد الله العامري مرفوعاً). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ معك حيثما كنت» (أخرجه أبو نعيم عن عبادة بن الصامت). وكان الإمام أحمد رحمة الله تعالى يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
إِذَا مَا خلوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ * خلوتُ وَلَكِنْ قُلْ عليَّ رقيبُ
وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أن ما تخفي عليه يغيب
- ٨ - وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- ٩ - هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ
- ١٠ - وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
- ١١ - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ ﴿مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ أَيْ مِمَّا هُوَ مَعَكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي أَيْدِي مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ صَارَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدَ تَعَالَى إِلَى اسْتِعْمَالِ ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، وقوله تعالى: ﴿مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مُخَلَّفًا عَنْكَ، فَلَعَلَّ وَارِثَكَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ فَيَكُونَ أَسْعَدَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنْكَ، أَوْ يَعْصِيَ اللَّهَ فِيهِ فَتَكُونَ قَدْ سَعَيْتَ فِي مُعَاوَنَتِهِ عَلَى الإثم والعدوان. روى مسلم، عن عبد الله بن الشخير قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ للناس" (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ تَرْغِيبٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ،
ثُمَّ قال تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ: كَانَ بَيْنَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) وَبَيْنَ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا، فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أحُد أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ»، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُرَيْشٌ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ لِأَنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُنْفِقُهُ مَا أَدَّى مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، ثُمَّ جَمَعَ أَصَابِعَهُ وَمَدَّ خِنْصَرَهُ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ هَذَا فَضْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً
مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ، وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير﴾» (أخرجه ابن جرير). وقوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يَعْنِي الْمُنْفِقِينَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ كُلُّهُمْ لَهُمْ
وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرى ﴿أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أَيْ جَزَاءٌ جَمِيلٌ وَرِزْقٌ بَاهِرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ يوم القيامة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ»، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ حَائِطٌ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا، قَالَ، فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ، فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عزَّ وجلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا، وَإِنَّ رسول الله ﷺ قال: «كَمْ مِنْ عِذْق رَدَاح فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدحداح» (أخرجه ابن أبي حاتم. معنى (العذق): القنو من النخل، والعنقود من العنب، و (رداح): ضخم، مخصب).
- ١٣ - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ
- ١٤ - يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ
- ١٥ - فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، أَنَّهُمْ يوم القيامة يسعى نُورُهُم بَيْنَ أيديهم بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ قَالَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ،
روى ابن أبي حاتم، عن سليم بن عامر قل: خرجن على جنازة في بب دِمَشْقَ، وَمَعَنَا (أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ) فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، وَأَخَذُوا فِي دَفْنِهَا، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ وَأَمْسَيْتُمْ فِي مَنْزِلٍ تَقْتَسِمُونَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَتُوشِكُونَ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَهُوَ هَذَا - يُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ - بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الظُّلْمَةِ، وَبَيْتُ الدُّودِ، وَبَيْتُ الضِّيقِ، إِلَّا مَا وسع الله، ثم تَنْتَقِلُونَ مِنْهُ إِلَى مُوَاطِنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حَتَّى يَغْشَى النَّاسَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فتبيَضّ وُجُوهٌ، وتسوَدّ وُجُوهٌ، ثُمَّ تَنْتَقِلُونَ منه إلى منزل آخر، فيغشى النَّاسَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ يُقَسَّمُ النُّورُ، فَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ نُورًا، وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَلَا يُعْطَيَانِ شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ فَلَا يَسْتَضِيءُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِنُورِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾، وَهِيَ خَدْعَةُ اللَّهِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قال: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ ضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهره فيه الْعَذَابُ﴾ الْآيَةَ، يَقُولُ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَمَا يَزَالُ الْمُنَافِقُ مُغْتَرًّا حَتَّى يُقَسَّمَ النُّورُ، وَيُمَيِّزَ الله بين المنافق والمؤمن (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأْي الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلًا مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انطلقوا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ فيه الْعَذَابُ﴾ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾، وهكذا روي عن مجاهد وَهُوَ الصَّحِيحُ ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ أَيِ الْجَنَّةُ وما فيها ﴿وظاهره فيه العذاب﴾ أي النار، والمراد بِذَلِكَ سُورٌ يُضْرَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَحْجِزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ دَخَلُوهُ مِنْ بَابِهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلُوا دُخُولَهُمْ أُغْلِقَ الْبَابُ، وبقي المنافقين مِنْ وَرَائِهِ فِي الْحَيْرَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْعَذَابِ، كَمَا كانوا في الدار الدنيا في كفر وَشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ أَيْ ينادي المنافقين الْمُؤْمِنِينَ: أَمَا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا نَشْهَدُ مَعَكُمُ الْجُمُعَاتِ؟ وَنُصَلِّي مَعَكُمُ الْجَمَاعَاتِ؟ وَنَقِفُ مَعَكُمْ بِعَرَفَاتٍ؟ وَنَحْضُرُ مَعَكُمُ الْغَزَوَاتِ؟ وَنُؤَدِّي مَعَكُمْ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ؟ قَالُواْ: بَلَى، أَيْ فَأَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ النافقين قَائِلِينَ: بَلَى قَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَيْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاللَّذَّاتِ وَالْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ أَيْ أَخَّرْتُمُ التَّوْبَةَ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وقت، وقال قتادة: ﴿تربصتم﴾ بِالْحَقِّ وَأَهْلِهِ، ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾ أَيْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، ﴿وغوتكم الأماني﴾ أي قلتم: سيغفر لنا، وقبل غَرَّتْكُمُ الدُّنْيَا ﴿حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ أَيْ ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، ﴿وَغَرَّكُم بالله الغرور﴾ أي الشيطان، وقال قَتَادَةُ: كَانُوا عَلَى خَدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهِ مَا زَالُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعَنَا أَيْ بِأَبْدَانٍ لَا نِيَّةَ لَهَا وَلَا قُلُوبَ مَعَهَا، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ فَكُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا تَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمُ الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سقر﴾؟ فَهَذَا إِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لهم والتوبيخ؛ ثم قَالَ تَعَالَى: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ لَوْ جَاءَ أَحَدُكُمُ الْيَوْمَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلِهِ مَعَهُ لِيَفْتَدِيَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا قُبِلَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ أَيْ هِيَ مَصِيرُكُمْ وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبُكُمْ، وقوله تعالى: ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ أَيْ هِيَ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ كُلِّ مَنْزِلٍ، عَلَى كُفْرِكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
- ١٧ - اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ إِلَّا أَرْبَعُ سنين (رواه مسلم والنسائي)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ نَهَى اللَّهُ تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قَبْلَهُمْ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَلَا يَقْبَلُونَ مَوْعِظَةً، وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ بِوَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ، ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أَيْ فِي الْأَعْمَالِ، فَقُلُوبُهُمْ فَاسِدَةٌ وأعمالهم باطلة، كما قال تَعَالَى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عن مواضعه﴾ أَيْ فَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَسَتْ، وَصَارَ مِنْ سَجِيَّتِهِمْ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَرَكُوا الْأَعْمَالَ الَّتِي أُمروا بِهَا، وَارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
روى أبو جعفر الطبري، عن ابن مسعود قَالَ: "إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ، اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَقَالُوا: نعرض بني إسرائيل على هَذَا الْكِتَابَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ فِي قَرْنٍ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَرْنَ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ قَالَ: «آمَنْتُ بِهِ وَيُومِئُ إِلَى الْقَرْنِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ، وَمَالِي لَا أُؤْمِنُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَمِنْ خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن» (أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً)، وقوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فِيهِ إشارة إلى أن الله يُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَيَهْدِي الْحَيَارَى بَعْدَ ضَلَّتِهَا، وَيُفَرِّجُ الْكُرُوبَ بَعْدَ شِدَّتِهَا، فَكَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ الْمُجْدِبَةَ الْهَامِدَةَ بِالْغَيْثِ الْهَتَّانِ الْوَابِلِ، كَذَلِكَ يَهْدِي الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ بِبَرَاهِينِ الْقُرْآنِ وَالدَّلَائِلِ، ويولج إليها النور بعد أن كَانَتْ مُقْفَلَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْوَاصِلُ، فَسُبْحَانَ الهادي لمن يشاء بعد الضلال، وَالْمُضِلِّ لِمَنْ أَرَادَ بَعْدَ الْكَمَالِ، الَّذِي هُوَ لما يشاء فعال، وهو الحكيم الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْفِعَالِ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْكَبِيرُ المتعال.
- ١٩ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
- ٢١ - سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم
وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلْجنَّة أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» (أخرجه البخاري في الرقاق والإمام أحمد) فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اقْتِرَابِ الْخَيْرِ والشر من الإنسان، فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال الله تَعَالَى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وَالْمُرَادُ جِنْسُ السَّمَاءِ والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال ههنا: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، أَيْ هَذَا الَّذِي أَهَّلَهُمُ اللَّهُ لَهُ هو من فضله عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ قَالَ: «أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، قَالَ، فَرَجَعُوا فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ مَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ».
- ٢٣ - لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
- ٢٤ - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَدَرِهِ السَّابِقِ فِي خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْبَرِيَّةَ فَقَالَ: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ فِي الْآفَاقِ وَفِي نُفُوسِكُمْ، ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم: الضمير عَائِدٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالْأَحْسَنُ عَوْدُهُ عَلَى الْخَلِيقَةِ وَالْبَرِيَّةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليها، كما روي عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ الْحَسَنِ فَقَالَ رَجُلٌ: سَلْهُ عَنْ قوله تعالى: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَآ﴾، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا؟ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْرَأَ النَّسَمَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ قَالَ: هِيَ السُّنُونَ يَعْنِي الْجَدْبَ ﴿وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ يَقُولُ: الْأَوْجَاعُ وَالْأَمْرَاضُ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُصِيبُهُ خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عَرَقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْعِلْمِ السَّابِقِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -. روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سنة» (أخرجه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة، وقال: حسن صحيح)، وزاد ابن وهب: ﴿وكان عرشه على الماء﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أَيْ أَنَّ علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عزَّ وجلَّ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يكون، وقوله تعالى: ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَآ آتَاكُمْ﴾ أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِتَقَدُّمِ عِلْمِنَا وَسَبْقِ كِتَابَتِنَا لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَتَقْدِيرِنَا الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكُمْ وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تيأسوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ﴿وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ أَيْ لَا تَفْخَرُوا عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَعْيِكُمْ ولا بكدكم، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ لَكُمْ، فَلَا تَتَّخِذُوا نِعَمَ اللَّهِ أَشَرًا وَبَطَرًا تَفْخَرُونَ بها على الناس، ولهذا قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ أَيْ مُخْتَالٍ فِي نَفْسِهِ مُتَكَبِّرٍ فَخُورٍ، أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: «لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صبراً»، ثم قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ أَيْ يَفْعَلُونَ الْمُنْكَرَ وَيَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أَيْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغني الحميد﴾، كما قال: ﴿إِنَّ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حميد﴾.
- ٢٧ - ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يُرْسِلْ بَعْدَهُ رَسُولًا وَلَا نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، لَمْ يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ حَتَّى كَانَ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿عِيسَى بن مَرْيَمَ﴾ الَّذِي بَشَّرَ مِنْ بَعْدِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وقفينا بعيسى بن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ وهم الحواريون ﴿رَأْفَةً﴾ أي رقة وَهِيَ الْخَشْيَةُ ﴿وَرَحْمَةً﴾
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؟ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا ثَلَاثُ فِرَقٍ، قَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ بَعْدَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَتْ إِلَى دِينِ اللَّهِ ودين عيسى بن مَرْيَمَ، فَقَاتَلَتِ الْجَبَابِرَةَ فَقُتِّلَتْ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لَهَا قُوَّةٌ بِالْقِتَالِ فَقَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى بن مَرْيَمَ فَقُتِّلَتْ وَقُطِّعَتْ بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقَتْ بِالنِّيرَانِ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قَامَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لها قوة وَلَمْ تُطِقِ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فَلَحِقَتْ بِالْجِبَالِ فَتَعَبَّدَتْ وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عليهم﴾» (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بطريق أُخْرَى ولفظ آخر). وروى الإمام أحمد، عن إياس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ». وفي رواية: «لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ في سبيل الله» (أخرجه أحمد والحافظ أبو يعلى). وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلِكَ، أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ روحك في السماء وذكرك في الأرض" (أخرجه الإمام أحمد).
- ٢٩ - لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الفضل العظيم
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأيبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" (أخرجه البخاري ومسلم). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا افْتَخَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَنْزَلَ
اللَّهُ تعالى عليه هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ أي ضعفين ﴿مِن رَّحْمَتِهِ﴾، وَزَادَهُمْ ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي هُدًى يُتَبَصَّرُ بِهِ مِنَ الْعَمَى وَالْجَهَالَةِ ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ففضلهم بالنور والمغفرة. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ