بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة " المجادلة " بفتح الدال وكسرها والثاني أظهر، لأن افتتاح السورة في المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها -.
وهذه السورة : هي السورة الثامنة والخمسون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة " المنافقون "، وقبل سورة " مريم ".
وعدد آياتها ثنتان وعشرون آية في المصحف الكوفي والبصري والشامي، وإحدى وعشرون آية في المصحف المكي والمدني.
٢- وهي من السور المدنية الخالصة. ومن قال بأن فيها آيات مكية، لم يأت بدليل يعتمد عليه في ذلك.
قال القرطبي : " هذه السورة مدنية في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأولى منها مدني، وباقيها مكي. وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة. غير قوله –تعالى- :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ نزلت بمكة " ( ١ ).
٣- وقد افتتحت سورة " المجادلة " بالحديث عن المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في شأن زوجها، وقد أصدر –سبحانه- حكمه العادل في مسألتها، مبينا حكم الظهار فقال –تعالى- :﴿ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله، وتلك حدود الله، وللكافرين عذاب أليم ﴾.
٤- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن الذين يحادون الله ورسوله فبينت سوء عاقبتهم، لأن الله –تعالى- لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فهو –سبحانه- ﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم ﴾.
٥- ثم وجه –سبحانه- ثلاثة نداءات إلى المؤمنين، أمرهم في أول نداء بأن يتناجوا بالبر والتقوى.. وأمرهم في النداء الثاني أن يفسح بعضهم لبعض في المجالس.. وأمرهم في النداء الثالث إذا ما ناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقة.
قال –تعالى- :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة، ذلك خير لكم وأطهر، فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ﴾.
٦- وبعد أن عجبت السورة الكريمة من أحوال المنافقين، وبينت سوء عاقبتهم، وكيف أن الشيطان قد استحوذ عليهم، فأنساهم ذكر الله.
بعد كل ذلك ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين وببيان صفاتهم الكريمة، فقال –عز وجل- ﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشريتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنه ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾.
٧- هذا، والمتأمل في سورة المجادلة، يراها قد بينت حكم الظهار، وأبطلت ما كان شائعا من أن الرجل إذا ظاهر من زوجته لا تحل له.. وساقت جانبا من فضل الله –تعالى- على عباده، حيث أجاب دعاء امرأة قد اشتكت إليه، وقضى في مساءلتها قبل أن تقوم من مكانها، وهي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم تجادله في شأن زوجها.
كما يراها قد كشفت القناع عن المنافقين، وفضحتهم على أقوالهم الباطلة، وأفعالهم الذميمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله.
كما يراها قد ساقت ألوانا متعددة من الآداب التي يجب على المؤمنين أن يتحلوا بها، وبشرتهم برضا الله –تعالى- عنهم، متى أخلصوا له –سبحانه- العبادة والطاعة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة – قطر
صباح الأحد : ٢٧ من رجب سنة ١٤٠٦ ه
٦ / ٤ / ١٩٨٦ م
د. محمد سيد طنطاوي.
ﰡ
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة قالت: فىّ والله وفي- زوجي- أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة.
قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت: فدخل على يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت على كظهر أمى.
قالت: فواثبنى، فامتنعت عنه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنى.
ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله ﷺ فجلست بين يديه، فذكرت له ﷺ ما لقيت من زوجي، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه.
قالت: فجعل رسول الله ﷺ يقول: «يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقى الله فيه».
قالت: فو الله ما برحت حتى نزل فىّ قرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه، ثم سرى عنه، فقال لي: «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا». ثم قرأ على هذه الآيات.
وفي رواية: أنها أتت النبي ﷺ فقالت له: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سنى، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله فحدثني بها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بشيء في شأنك حتى الآن» وفي رواية أنه قال لها: «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
فقالت: يا رسول الله، إنه ما ذكر طلاقا، وأخذت تجادل النبي ﷺ ثم قالت:
اللهم إنى أشكو إليك فاقتي، وشدة حالي، وإن لي من زوجي أولادا صغارا، إن ضمّهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى جاعوا.
قالت: وما برحت حتى نزل القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا خولة أبشرى» ثم قرأ على هذه الآيات «١».
و «قد» في قوله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ للتحقيق ولتوقع الإجابة من الله- تعالى- على ما جادلت فيه تلك المرأة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت ما معنى «قد» في قوله: قَدْ سَمِعَ.. ؟
والسماع في قوله- تعالى-: سَمِعَ بمعنى علم الله- تعالى- التام بما دار بين تلك المرأة، وبين الرسول ﷺ واستجابته- سبحانه- لشكواها، وحكمه في تلك المسألة، بما يبطل ما كان شائعا بشأنها قبل نزول هذه الآية.
وقوله: تُجادِلُكَ من المجادلة، وهي المفاوضة على سبيل المغالبة والمنازعة، وأصلها من جدلت الحبل: إذا أحكمت فتله.
وقوله: تَشْتَكِي من الشكو، وأصله فتح الشّكوة- وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء- وإظهار ما فيها، ثم شاع هذا الاستعمال في إظهار الإنسان لما يؤلمه ويؤذيه، وطلب إزالته.
والمعنى: قد سمع الله- تعالى- سماعا تاما، قول هذه المرأة التي تجادلك- أيها الرسول الكريم- في شأن ما دار بينها وبين زوجها، وفيما صدر عنه في حقها من الظهار، وسمع- سبحانه- شكواها إليه، والتماسها منه- عز وجل- حل قضيتها، وتفريج كربتها، وإزالة ما نزل بها من مكروه.
وقال- سبحانه- الَّتِي تُجادِلُكَ بأسلوب الاسم الموصول للإشعار بأنها كانت في نهاية الجدال والشكوى، وفي أقصى درجات التوكل على ربها، والأمل في تفريج كربتها، رحمة بها وبزوجها وبأبنائها.
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما جملة حالية، والتحاور: مراجعة الكلام من الجانبين. يقال: حاور فلان فلانا في الكلام إذا راجعه فيما يقوله.
أى: والحال أن الله- تعالى- يسمع ما يدور بينك- أيها الرسول الكريم- وبين تلك المرأة، من مراجعة في الكلام، ومن أخذ ورد في شأن قضيتها.
والمقصود بذلك، بيان الاعتناء بشأن هذا التحاور، والتنويه بأهميته، وأنه- تعالى- قد تكرم وتفضل بإيجاد التشريع الحكيم لحل هذه القضية.
وعبر- سبحانه- بصيغة المضارع، لزيادة التنويه بشأن ذلك التحاور، واستحضار صورته في ذهن السامع، ليزداد عظة واعتبارا.
وجملة: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تذييل قصد به التعليل لما قبله بطريق التحقيق.
قال القرطبي: «أخرج ابن ماجة أن عائشة- رضى الله عنها- قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول: يا رسول الله!! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنى.. ظاهر منى!! اللهم إنى أشكو إليك.
وفي البخاري عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ﷺ وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله- تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «١».
ثم شرع- سبحانه- في بيان شأن الظهار في ذاته، وفي بيان حكمه المترتب عليه شرعا فقال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ.
وقوله: يَظْهَرُونَ من الظهار، وهو لغة مصدر ظاهر، وهو مفاعلة من الظهر.
قال الآلوسى: والظهار يراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر زيد عمرا، أى: قابل ظهره بظهره حقيقة، وكذا إذا غايظه...
وظاهره إذا ناصره باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره» «٢».
والمراد به هنا: أن يقول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، قاصدا بذلك تحريم زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه.
وكان هذا القول من الرجل لامرأته يؤدى إلى طلاقها منه، بحيث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقيل: إلى طلاقها منه طلاقا مؤبدا لا تحل له بعده.
وقيل: إن هذا القول لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى بعده معلقة، فلا هي مطلقة، ولا هي غير مطلقة.
و «من» في قوله مِنْ نِسائِهِمْ بيانية، لإفادة أن هذا تشريع عام، وليس خاصا بخولة بنت ثعلبة، التي نزلت في شأنها هذه الآيات.
وجملة: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قائمة مقام الخبر، ودالة عليه.
(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٤. [.....]
إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أى: ليس أمهاتهم على سبيل الحقيقة والواقع إلا النساء اللائي ولدنهم وأرضعنهم، وقمن برعايتهم في مراحل الطفولة والصبا والشباب.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.
أى: وإن هؤلاء الرجال الذين يقولون لأزواجهم: أنتن علينا كظهور أمهاتنا في الحرمة، ليتفوهون بما هو منكر من القول، في حكم الشرع وفي حكم العقل، وفي حكم الطبع. وفضلا عن كل ذلك فهو قول كاذب وباطل إذ لم يحرم الله- تعالى- الزوجة على زوجها، كما حرم عليه أمه. فعلاقة الأزواج بأمهاتهم، تختلف اختلافا تاما عن علاقتهم بزوجاتهم.
وإذا فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التوبيخ على هذا القول، وهو قول الرجل لزوجته:
أنت على كظهر أمى، وذم من ينطق به، لأنه يعرض مقام الأمهات- وهو مقام في أسمى درجات الاحترام والتبجيل- إلى تخيلات قبيحة تصاحب النطق بهذا الكلام.
وكعادة القرآن الكريم في قرن الترهيب بالترغيب، حتى لا تيأس النفوس من رحمة الله، ختمت الآية الكريمة بما يدل على فضله- تعالى-.
فقال: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أى: وإن الله- تعالى- لكثير العفو والمغفرة، لمن تاب إليه- سبحانه- وأناب وأقلع عن تلك الأقوال والأفعال التي يبغضها- سبحانه-.
ثم أخذت السورة الكريمة في تفصيل حكم الظهار، بعد بيان كونه منكرا من القول وزورا، فقال- تعالى-: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وقد اختلف العلماء في معنى قوله- تعالى-: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا.
فمنهم من يرى أن المراد منه، ثم يرجعون عما قالوا، قاصدين معاشرة زوجاتهم..
أو قاصدين تحليل ما حرموه على أنفسهم بالنسبة لزوجاتهم بسبب الظهار.
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: العودة إلى ما كانوا يقولونه في الجاهلية، بعد أن هداهم الله- تعالى- إلى الإسلام، فيكون المعنى: ثم يعودون إلى ما كانوا يقولونه في الجاهلية من ألفاظ الظهار، التي يبغضها الله- تعالى-.
وهذا القول يبدو عليه الضعف من جهة: جعله الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال وهو يَظْهَرُونَ، بمعنى الماضي المنقطع، ومن جهة جعلهم أن المظاهر بعد الإسلام، كان
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: تكرار لفظ الظهار، فمعنى ثم يعودون لما قالوا: ثم يعودون إلى تكرار لفظ الظهار مرة أخرى.
وكان أصحاب هذا القول يرون، أن الكفارة لا تكون إلا بتكرار ألفاظ الظهار، وهو قول لا يؤيده دليل، لأنه لم يثبت أن خولة- أو غيرها- كرر عليها زوجها لفظ الظهار أكثر من مرة، بل الثابت أنه عند ما قال لها: أنت على كظهر أمى، ذهبت إلى الرسول ﷺ وقصت عليه ما جرى بينها وبين زوجها.
وقد رجح الإمام ابن جرير الرأى الأول فقال: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى اللام في قوله: لِما قالُوا بمعنى إلى أو في، لأن معنى الكلام: ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه، وإن قيل: ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا، أو في تحليل ما حرموا فصواب، لأن كل ذلك عود له، فتأويل الكلام: ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم «١».
والمعنى: والذين يظاهرون منكم- أيها المؤمنون- من نسائهم، ثم يندمون على ما فعلوا، ويريدون أن يعودوا عما قالوه، وأن يرجعوا إلى معاشرة زوجاتهم.
فعليهم في هذه الحالة إعتاق رقبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أى: من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر، أى يحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير.
والمراد بالرقبة: المملوك، من تسمية الكل باسم الجزء.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعود إلى الحكم بالكفارة.
أى: ذلكم الذي شرعنا لكم- أيها المؤمنون- وهو الحكم بالكفارة إنما شرعناه من أجل أن تتعظوا به، وتنزجروا عن النطق بالألفاظ التي تؤدى إلى الظهار، والله- تعالى- خبير ومطلع على كل ما تقولونه من أقوال، وما تفعلونه من أفعال- وسيحاسبكم على ذلك حسابا دقيقا.
وما دام الأمر كذلك، فافعلوا ما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه.
أى، فمن لم يجد منكم- أيها المؤمنون- رقبة يعتقها، أو يجد المال الذي يشترى به الرقبة فيعتقها.. فعليه في هذه الحالة، أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أى: فمن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين، لسبب من الأسباب كمرض أو غيره فعليه في هذه الحالة أن يطعم ستين مسكينا، بأن يقدم لهم طعاما يكفى لغدائهم وعشائهم بصورة مشبعة.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إشارة إلى ما سبق الحديث عنه، من تشريع يتعلق بالظهار. ومحله إما الرفع على الابتداء، أو النصب بمضمر معلل بما بعده.
أى: ذلك واقع، أو فعلنا ذلك ليزداد إيمانكم بالله ورسوله، وعملكم بشريعة الإسلام، وتنفيذكم للتكاليف التي كلفكم الله- تعالى- بها.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أى: وتلك الأحكام التي ذكرناها لكم هي حدود الله- تعالى- التي لا يجوز تعديها، فالزموها وقفوا عندها، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عندها، عذاب شديد الألم على من ينزل به.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- أن الدعاء متى صدر عن لسان صادق، وعن قلب عامر باليقين.. أجابه الله- تعالى- لصاحبه في الحال أو في الوقت الذي يريده- سبحانه-.
والدليل على ذلك أن السيدة خولة بنت ثعلبة، عند ما تضرعت إلى الله- تعالى- بالدعاء، أن يكشف كربها، وأن يحل قضيتها.. أجاب- سبحانه- دعاءها، وأنزل قرآنا يتلى، وأحكاما يعمل بها في شأن الظهار.
ورضى الله عن السيدة عائشة فقد قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسوله الله ﷺ وأنا في ناحية البيت. ما أسمع ما تقول، فأنزل الله- عز وجل-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها... الآيات.
وقال القرطبي: «المرأة التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة.. وقد مر بها عمر بن الخطاب في خلافته، والناس معه فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك يا عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإن من أيقن بالموت خاف
فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف هذا الوقوف لتلك المرأة العجوز؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة. أتدرون من هذه؟ إنها خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر» «١».
٢- أخذ العلماء من قوله- تعالى-: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ... أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء.. لأن الحل والعقد، والتحليل والتحريم في النكاح، إنما هو بيد الرجل لا بيد المرأة.
ويرى بعضهم أن عليها كفارة يمين، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها من مجامعتها. كما أخذ الحنفية والحنابلة والمالكية من هذه الآية، أن الظهار خاص بالمسلمين، لأنهم هم المخاطبون، ولأن غيرهم من الذميين ليسوا من أهل الكفارة.
وقال الشافعية: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصح ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه.. كذلك أخذ العلماء من هذه الآية: صحة ظهار العبد من زوجته، لأن أحكام النكاح في حقه ثابتة، وإذا تعذر عليه العتق والإطعام. فإنه قادر على الصوم.
٣- يؤخذ من قوله- تعالى-: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أن الظهار حرام، لأن الله- تعالى- قد وصفه بأنه منكر من القول، وبأنه زور.
والفعل الذي يوصف بهذا الوصف، يجب على المؤمن أن يتنزه عنه.
٤- يرى الحنفية والظاهرية أنه يكفى في الكفارة بالنسبة للظهار تحرير رقبة حتى ولو كانت كافرة، لأن الله- تعالى- يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ولو كان الإيمان شرطا لبينه كما بينه في كفارة القتل. فوجب أن يطلق ما أطلقه، وأن يقيد ما قيده، ويعمل بكل منهما في موضعه.
ويرى جمهور الفقهاء اشتراط الإيمان في الرقبة، لأنه من المعروف حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، وما دام قد ورد النص على كون الرقبة مؤمنة في بعض الآيات، فيجب حمل بقية الآيات على ذلك.
٥- دل قوله- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق بعضهم بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأن الأصل في الأحكام أنه إذا حرم شيء منها، أن يلحق بذلك الشيء المحرم ما يوصل إليه إذ طريق المحرم محرم.
قال القرطبي: ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بشيء حتى يكفّر، خلافا للشافعي في أحد قوليه.. فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله- تعالى- وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة.
وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان «١».
٦- قوله- تعالى-: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ.. صريح في وجوب تتابع الصوم من غير انقطاع بين الأيام، فلو أفطر يوما من الشهرين من غير عذر انقطع التتابع، ولزمه استئناف الصوم من جديد.
أما الإفطار بعذر- كمرض ونحوه- فيرى بعضهم وجوب الاستئناف، لزوال التتابع الذي صرحت به الآية.
ويرى فريق آخر من العلماء، أن الإفطار بعذر لا يمنع التتابع.
٧- أخذ العلماء من قوله- تعالى- فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أن المطلوب من المظاهر أن يطعم هؤلاء المساكين إطعاما يشبعهم في الغداء والعشاء، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين.
وأوجب الشافعية تمليك المساكين.. بأن يملك لكل مسكين مدّا أو صاعا من غالب قوت البلد الذي يسكنه من عليه الكفارة.
أما حكم من عجز عن الكفارة، فيرى جمهور العلماء أنها لا تسقط عنه، بل تستقر في ذمته حتى يتمكن من أدائها، كسائر الديون والحقوق، فإنها لا تسقط، وإنما تبقى في ذمة من عليه، حتى يتمكن من أدائها.
قال القرطبي: «وقد ذكر الله- تعالى- الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام» «٢».
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٨٥.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الذين يحاربون الله ورسوله، ولا يدركون أنه- سبحانه- معهم أينما كانوا، ويعلم ما يتناجون به من إثم وعدوان ومعصية للرسول ﷺ فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ٨]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)
وقوله- سبحانه-: يُحَادُّونَ من المحادة بمعنى المعاداة والمباغضة، وأصلها أن تكون أنت في حد- أى: في جانب- وعدوك في حد آخر، فكنى بها عن المعاداة لأنها لازمة لها.
قال الجمل: والذين يحادون الله هم الكافرون، وهذه الآية وردت في غزوة الأحزاب.
والمقصود منها البشارة لرسول الله ﷺ والمؤمنين، بأن أعداءهم المتحزبين القادمين عليهم، سيصيبهم الكبت والذل، وسيتفرق جمعهم.. «١».
والمعنى: إن الذين يحاربون دين الإسلام الذي شرعه الله- تعالى-. وجاء به رسوله ﷺ كُبِتُوا وأصابهم الخزي والذل كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أعداء الحق.
وأوثر هنا الفعل يُحَادُّونَ لوقوعه عقب الكلام عن حدود الله- تعالى- في قوله- عز وجل- وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم.
وقوله- تعالى-: كُبِتُوا بمعنى سيكبتون، وعبر عن ذلك بالماضي، للإشعار بتحقق الذل والخسران، لأولئك المتحزبين الذين جمعوا جموعهم لمحاربة الله ورسوله.
وقد حقق الله- تعالى- وعده، إذ ردهم بغيظهم دون أن ينالوا خيرا.
وجملة: وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ... حال من الضمير في كُبِتُوا.. أى: كبتوا لمجادلتهم للحق، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات، تدل على صدق الرسول ﷺ فيما جاء به من عند ربه، وتشهد بأن أعداءه على الباطل والضلال.
وَلِلْكافِرِينَ الذين أعرضوا عن دعوة الرسول ﷺ وحاربوها عَذابٌ مُهِينٌ أى عذاب يهينهم ويذلهم ويخزيهم.
وقوله- تعالى-: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يصح أن يكون متعلقا بقوله: مُهِينٌ كما يصح أن يكون منصوبا فعل مقدر.
أى: اذكر- أيها العاقل- لتتعظ وتعتبر، يوم يبعث الله- تعالى- هؤلاء الكافرين جميعا من قبورهم، فينبئهم ويخبرهم بما عملوا من أعمال سيئة.
والمراد بالإنباء في قوله: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا المجازاة والمحاسبة وإنزال حكمه بهم.
وجملة: أَحْصاهُ اللَّهُ مستأنفة، لأنها بمنزلة الجواب عما قبلها، فكأن سائلا سأل وقال: كيف ينبئهم الله بأعمالهم؟ فكان الجواب: أحصى الله- تعالى- عليهم عملهم، وسجله عليهم تسجيلا تاما.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أى: والله- تعالى- مشاهد لكل شيء في هذا الكون، ولا تخفى عليه خافية من أحوال خلقه.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «١».
ثم أقام- سبحانه- الأدلة على شمول علمه فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.
والاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَ.. للتقرير، والرؤية بمعنى العلم والإدراك القلبي..
والخطاب لكل من هو أهل له.
والنجوى: اسم مصدر بمعنى المسارة، يقال: نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة، أى:
ساررته بكلام على انفراد. وأصله: ان تخلو بمن تناجيه بسر معين في نجوة من الأرض، أى:
في مكان مرتفع منفصل عما حوله.
وقيل: أصله من النجاة، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة.
وتطلق النجوى على القوم المتناجين، كما في الآية التي معنا.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه- تعالى-، و «يكون» من كان التامة. و «من» مزيدة و «نجوى» فاعل، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله.. والاستثناء في قوله إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ مفرغ من أهم الأحوال... «٢».
والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- علما لا يخالطه شك أو تردد، أن الله- تعالى- يعلم علما تاما، ما في السموات وما في الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع.. وأنه- سبحانه- ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى- يعلمه، كأنه حاضر معهم، ومشاهد لهم، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم في التناجي.
وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ أى: ولا يكون التناجي بين خمسة إلا وهو- سبحانه- معهم، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجي بين ستة.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٢٣.
أى: ولا يقع التناجي بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر- كالاثنين والستة- إلا وهو- سبحانه- يعلم علما تاما ما يجرى بينهم في أى مكان كانوا، وعلى أية حالة وجدوا.
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أى: ثم يخبرهم- سبحانه- يوم القيامة بما عملوه في الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والمقصود بهذه الآية الكريمة، بيان شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وأنه- سبحانه- يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم، المشاهد لهم، الذي لا يعزب عنه شيء من حركاتهم أو سكناتهم، ولذا افتتح- سبحانه- الآية بالعلم، واختتمها بالعلم- أيضا-.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: ذكر- سبحانه- الثلاثة والخمسة لوجوه: أحدها: أن هذه إشارة إلى كمال رحمته، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا، فإذا أخذ اثنان في التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعا وحيدا، فيضيق قلبه فيقول الله- تعالى- له: أنا جليسك وأنيسك.
وثانيها: أن العدد الفرد أشرف من الزوج، لأن الله وتر يحب الوتر، فخص الأعداد الفردية بالذكر للتنبيه على شرفها.
وثالثها: أن الآية نزلت في قوم من المنافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين: أى كانوا في مرة ثلاثة وفي مرة أخرى خمسة- فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع «١».
ويبدو لنا أن ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل، وأن المقصود الأصلى من الآية الكريمة، بيان أن علم الله- تعالى- يشمل كل كبير وصغير، وكثير وقليل، ولذا قال- سبحانه-:
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا.
قال القرطبي: قال الفراء: المعنى غير مقصود، والعدد غير مقصود، لأنه- تعالى- إنما قصد- وهو أعلم- أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا، ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد، دون بعض.. «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٩٠.
قال الآلوسى: قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، يوهمونهم عند أقاربهم أنهم أصابهم شر، فلما كثر ذلك منهم. شكا المؤمنون إلى الرسول ﷺ فنهاهم عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لمثل فعلهم.
والخطاب للرسول ﷺ والهمزة للتعجب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم، وتجدده، واستحضار صورته الغريبة «١».
والمعنى:
إن شئت أن تعجب- أيها الرسول الكريم- فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجي فيما بينهم، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم | ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك، ولما جئتهم به من عند الله- تعالى-. |
ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، لا على الإثم فقط أو على العدوان فقط.. لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر في ذاته، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم، وبأفعال هي معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذى المؤمنين ويحزنهم.. بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
والباء في قوله: بِالْإِثْمِ للملابسة، أى يتناجون متلبسين بالإثم وبالعدوان وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التي كانوا يديرونها فيما بينهم، لإغاظة المؤمنين، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول ﷺ بالكلام السيئ وبالعبارات التي تدل على سوء طويتهم، فقال- تعالى-:
أى: وإذا جاء هؤلاء المنافقون واليهود إلى مجلسك- أيها الرسول الكريم- ألقوا إليك بتحية، هذه التحية لم يأذن بها الله- تعالى- ولم يخاطبك بها.
وقد كان المنافقون عند ما يدخلون على الرسول ﷺ لا يقولون له كلمة: «السلام عليكم» - وهي تحية الإسلام، إنما يقولون له: أنعم صباحا أو مساء.. متجنبين النطق بتحية الإسلام، ومستعملين تحية الجاهلية.
روى الشيخان عن عائشة: أن ناسا من اليهود، دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: السام- أى: الموت- عليك يا أبا القاسم. فقال ﷺ «وعليكم».
قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم.
فقال ﷺ يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش.
فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ فقال ﷺ «أو سمعت قولي: عليكم» فأنزل الله- تعالى- وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «١».
ثم بين- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ.
والمراد بأنفسهم هنا: أى فيما بينهم وفي مجامعهم، أو فيما بينهم وبين أنفسهم.
أى: إذا جاءك هؤلاء المنافقون ومن على شاكلتهم في الضلال، نطقوا أمامك بتحية لم يحيك بها الله- تعالى- ولا يكتفون بذلك، بل يقولون فيما بينهم على سبيل التباهي والجحود للحق لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أى: هلا يعذبنا الله بسبب ما قلناه لو كان محمد ﷺ رسولا من عنده- تعالى- أى: أنهم ينكرون نبوته ﷺ لأنها- في زعمهم لو كانت حقا، لعذبهم الله- تعالى- بسبب إساءتهم إليه، وإعراضهم عن نهيه لهم.
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يكبتهم، وبما يسلى نبيه ﷺ فقال: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أى: لا تحزن- أيها الرسول الكريم- لمسالك هؤلاء المنافقين معك ومع أصحابك، فإن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم، كافيهم من العذاب جهنم يصلونها ويقاسون حرها، فبئس المصير جهنم لو كانوا يعلمون.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٩ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
فقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ تعليم وإرشاد منه- سبحانه- للمؤمنين، لكي يكون حديثهم فيما بينهم، يقوم على الخير لا على الشر، وعلى الطاعة لا على المعصية، وعلى البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، حتى لا يتشبهوا بالمنافقين، الذين كانوا على النقيض من ذلك.
وَتَناجَوْا فيما بينكم بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى والبر ضد الإثم والعدوان، وهو يعم جميع أفعال الخير التي أمر الله- تعالى- بها.
والتقوى: الامتثال لأمر الله- تعالى- وصيانة النفس عن كل مالا يرضاه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أى:
وراقبوا الله- تعالى- في كل أحوالكم، فإنه وحده يكون مرجعكم يوم القيامة، وسيبعثكم ويجمعكم للحساب والجزاء.
والمراد بالنجوى في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا..: نجوى المنافقين فيما بينهم، وهي التي عبر عنها- سبحانه- قبل ذلك بقوله:
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
فأل في قوله- تعالى-: النَّجْوى للعهد، أى: إنما النجوى المعهودة التي كان يتناجى المنافقون بها فيما بينهم، كائنة من الشيطان لا من غيره، لأنه هو الذي حرضهم وأغراهم، بأن يتساروا بالإثم والعدوان.
وقوله: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ الجمهور: لِيَحْزُنَ- بفتح الياء وضم الزاى- مضارع حزن، فيكون الَّذِينَ آمَنُوا فاعل، والحزن: الهم والغم.
أى: زين الشيطان للمنافقين هذه النجوى السيئة، لكي يحزن المؤمنون ويغتموا، بسبب ظنهم أن من وراء هذه النجوى أخبارا سيئة تتعلق بهم أو بذوبهم.
وقرأ نافع لِيَحْزُنَ- بضم الياء وكسر الزاى- فيكون الَّذِينَ آمَنُوا مفعولا.
أى: فعل الشيطان ما فعل مع المنافقين، لكي يدخل الحزن والغم على المؤمنين.
وأسند- سبحانه- النجوى إلى الشيطان، باعتبار أنه هو الذي يوسوس بها، ويزينها في قلوب هؤلاء المنافقين وأشباههم.
وجملة: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ معترضة لتثبيت المؤمنين، وتسليتهم عما أصابهم من المنافقين.
واسم ليس: الشيطان أو التناجي، والاستثناء مفرغ من أهم الأحوال، و «شيئا» منصوب على المفعول المطلق.
وما دام الأمر كما بينت لكم، فاجعلوا توكلكم- أيها المؤمنون- على الله- تعالى- وحده، ولا تبالوا بالمنافقين، ولا بتناجيهم، ولا بما يسوله الشيطان لهم من قبائح، فإن كل شيء بقضاء الله وقدره.
قال الآلوسى ما ملخصه: وحاصل هذا الكلام أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين. إن وقع فهو إرادة الله- تعالى- ومشيئته، ولا دخل للمنافقين فيه، وما دام الأمر كذلك، فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله- عز وجل- ولا يخافوا من تناجيهم.
ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه».
ومثل التناجي في ذلك، أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث، إن كان يحزنه ذلك «١».
وروى الإمام مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه» «٢».
والخلاصة أن تعاليم الإسلام، تنهى عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة في القلوب، وتزعزع الثقة بين الأفراد والجماعات.
وهذا النهى لون من الأدب الحكيم الذي يحفظ للمؤمنين مودتهم ومحبتهم ويبعد عن نفوسهم الشكوك والريب، ويطرد عن قلوبهم نزغات الشيطان الذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم.
ثم لفت- سبحانه- أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن قتادة أنه قال: نزلت
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٢٤. [.....]
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله ﷺ يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا في المجالس فقاموا حيال رسول الله ﷺ فقالوا السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي ﷺ عليهم ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم السلام، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم.
فعرف النبي ﷺ ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان.
فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف ﷺ الكراهة في وجوههم.
فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء.. فبلغنا أن رسول الله ﷺ قال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا، ونزلت هذه الآية «١».
وقوله تَفَسَّحُوا من التفسح، وهو تفعل بمعنى التوسع، يقال: فسح فلان لفلان في المجلس- من باب نفع- إذا أوجد له فسحة في المكان ليجلس فيه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إذا قيل لكم توسعوا في مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا. لأن فعلكم هذا يؤدى إلى أن يفسح الله- تعالى- لكم في رحمته، وفي منازلكم في الجنة، وفي كل شيء تحبونه.
وحذف- سبحانه- متعلق يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق، ورحمة، وخير دنيوى وأخروى.
والمراد بالمجالس: مجالس الخير، كمجالس الذكر، والجهاد، والصلاة، وطلب العلم، وغير ذلك من المجالس التي يحبها الله- تعالى-.
وقراءة الجمهور: «إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس»، بالإفراد على إرادة الجنس..
أى: قيل لكم تفسحوا في أى مجلس خير فافسحوا.. لأن هذا التوسع يؤدى إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم. وقرأ عاصم بصيغة الجمع.
والنشوز الارتفاع عن الأرض. يقال: نشز ينشز وينشز- من بابى نصر وضرب- إذا ارتفع من مكانه.
أى: وإذا قبل لكم- أيها المؤمنون- انهضوا من أماكنكم، للتوسعة على المقبلين عليكم، فانهضوا ولا تتكاسلوا.
وقوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ جواب الأمر في قوله: فَانْشُزُوا.
وعطف «الذين أوتوا العلم» على «الذين آمنوا» من باب عطف الخاص على العام، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء.
أى: وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس فارتفعوا، فإنكم إن تفعلوا ذلك، يرفع الله- تعالى- المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة في الآخرة، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر.
ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد، والعطف في الآية لتنزيل التغاير في الصفات، منزلة التغاير في الذات.
والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أى: والله- تعالى- مطلع اطلاعا تاما على نواياكم، وعلى ظواهركم وبواطنكم، فاحذروا مخالفة أمره، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك.
هذا: ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن في المجلس، من الآداب الإسلامية التي ينبغي التحلي بها، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتوادد والتعاطف والتراحم.
قال القرطبي ما ملخصه: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء أكان مجلس حرب، أم ذكر، أم مجلس يوم الجمعة... ولكن بدون أذى،
وعن ابن عمر- أن رسول الله ﷺ نهى ان يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر، «ولكن تفسحوا وتوسعوا» «١».
وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين في كل زمان ومكان، إلى لون من مكارم الأخلاق، ألا وهو التوسعة في المجالس، وتقديم أهل العلم والفضل، وإنزالهم منازلهم التي تليق بهم في المجالس.
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم.
قال الإمام ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء- على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث: «قوموا إلى سيدكم».
ومنهم من منع من ذلك، محتجا بحديث: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. فليتبوأ مقعده من النار».
ومنهم من فضل فقال: يجوز القيام للقادم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقبله النبي ﷺ حاكما في بنى قريظة، فرآه مقبلا قال للمسلمين: «قوموا إلى سيدكم»، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه- والله أعلم-.
فأما اتخاذه- أى القيام- دينا، فإنه من شعار الأعاجم.. وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله ﷺ كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى، وكان يأمرهما بذلك.. «٢».
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، فضل العلماء وسمو منزلتهم.
قال صاحب الكشاف: عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم. وفي الحديث الشريف: «بين العالم والعابد مائة درجة» وفي حديث آخر: «فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم».
وعن بعض الحكماء أنه قال: ليت شعري أى شيء أدرك من فاته العلم، وأى شيء فات من أدرك العلم.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٢٥.
ثم أرشدهم- سبحانه- إلى لون ثالث من الأدب السامي، فناداهم للمرة الثالثة بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
والمراد بقوله- تعالى- إِذا ناجَيْتُمُ: إذا أردتم المناجاة، كما في قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.
والمراد بقوله: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أى: قبل مناجاتكم للرسول ﷺ بقليل، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية. حيث شبهت هيئة قرب الشيء من آخر. بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ يعود إلى تقديم الصدقة، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- حق الإيمان، إذا أردتم مناجاة الرسول ﷺ والحديث معه في أمر ما على سبيل السر، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته ﷺ فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب، وأكثر طهرا لنفوسكم، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له ﷺ فلا تحزنوا فإن الله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات، منها: ما جاء عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه قال: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه، فأراد الله- تعالى- أن يخفف عن نبيه ﷺ فلما نزلت هذه الآية، كف كثير من الناس، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها «٢».
وقال بعض العلماء: إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة:
منها: تعظيم أمر الرسول ﷺ وإكبار شأن مناجاته، كأنها شيء لا ينال بسهولة.
ومنها: التخفيف عن النبي ﷺ بالتقليل من المناجاة، حتى يتفرغ ﷺ للمهام العظمى التي كلفه- سبحانه- بها.
ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠١.
ومنها: عدم شغل الرسول ﷺ بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة. فإن الناس وقد جبلوا على الشح بالمال، يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.
ومنها: تمييز محب الدنيا من محب الآخرة، فإن المال محك الدواعي «١».
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر لطفه بعباده فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ.
الإشفاق معناه: أن يتوقع الإنسان عدم حصوله على ما يريده والمراد به هنا: الخوف.
والاستفهام مستعمل فيما يشبه اللوم والعتاب، لتخلف بعضهم عن مناجاة الرسول ﷺ بسبب تقديم الصدقة.
و «إذ» في قوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ظرفية مفيدة للتعليل.
والمعنى: أخفتم- أيها المؤمنون- أن تقدموا قبل مناجاتكم للرسول ﷺ صدقة فيصيبكم بسبب ذلك الفقر، إذا ما واظبتم على ذلك.
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أى: فحين لم تفعلوا ما كلفناكم به من تقديم الصدقة قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم، وتاب الله- تعالى- عليكم، بأن رخص لكم في هذه المناجاة بدون تقديم صدقة، وخفف عنكم ما كان قد كلفكم به- سبحانه- والفاء في قوله:
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ معطوفة على كلام محذوف.
أى: فحين خففنا عنكم الصدقة- بفضلنا ورحمتنا- فداوموا على إقامة الصلاة، وعلى إعطاء الزكاة لمستحقيها، وأطيعوا الله ورسوله، في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه.
واعلموا أن الله- تعالى- خبير بما تعملون، ولا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها، لأنها أسقطت وجوب تقديم الصدقة الذي أمرت به الآية السابقة.
وقد لخص الإمام الآلوسى كلام العلماء في هذه المسألة تلخيصا حسنا فقال: «واختلف في أن الأمر للندب أو للوجوب، لكنه نسخ بقوله- تعالى-: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا...
ولم يعين مقدار الصدقة، ليجزئ القليل والكثير. أخرج الترمذي عن على بن أبى طالب قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً....
قال لي النبي: صلى الله عليه وسلم: «ما ترى في دينار» قلت: لا يطيقونه قال: «نصف دينار» قلت: لا يطيقونه، قال: «فكم» ؟ قلت: شعيرة. قال: «فإنك لزهيد».
فلما نزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا... قال صلى الله عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها- على المشهور- غير على- كرم الله وجهه.
واختلف في مدة بقاء هذا الأمر. أى: الأمر بتقديم الصدقة: فعن مقاتل: عشرة أيام.
وقال قتادة: ساعة من نهار... «١».
قال بعض العلماء: «والآية الناسخة متأخرة في النزول، وإن كانت تالية للآية المنسوخة في التلاوة.
والظاهر- والله أعلم- أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان، ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة، والله بكل شيء عليم» «٢».
وقال أحد العلماء: «ولا يشتم من قوله- تعالى-: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ.... أن الصحابة قد وقع منهم تقصير. فإن التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت هناك مناجاة لم تصحبها صدقة، والآية قالت: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أى: ما أمرتم به من الصدقة، وقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم، فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله- تعالى- علم- أن كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله- تعالى- لهم أَأَشْفَقْتُمْ.
وكذلك ليس في قوله وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ما يدل على أنهم قصروا، فإنه يحمل على أن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة... » «٣».
(٢) صفوت البيان ج ٢ ص ٤١٢ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.
(٣) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٣٣.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ١٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا... للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين...
أى: ألم ينته إلى علمك- أيها الرسول الكريم- حال أولئك المنافقين، الذين اتخذوا اليهود أولياء، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم.
فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم: اليهود، ووصفهم بذلك للتنفير منهم، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية في القبح والسوء، حيث والوا وناصروا من غضب الله عليهم، لا من رضى الله عنهم.
ثم دمغ- سبحانه- هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال: ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أى: أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم- أيها المؤمنون- وليسوا- أيضا- منهم، أى: من اليهود.
وفي الحديث الشريف: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين- أى المترددة بين قطيعين- لا تدرى أيهما تتبع».
قال الجمل: وقوله: ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فيه أوجه. أحدها: أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص، ولا من الكافرين الخلص، بل هم كقوله- تعالى-: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ....
والضمير في قوله ما هُمْ يعود على المنافقين، وفي قوله مِنْهُمْ يعود على اليهود.
الثاني: أنها حال من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم.
الثالث: أنها صفة ثانية لقوله «قوما»، وعليه يكون الضمير في قوله:
«ما هم» يعود على اليهود، والضمير في قوله: «منهم» يعود على المنافقين.
يعنى: أن اليهود ليسوا منكم- أيها المؤمنون- ولا من المنافقين. ومع ذلك تولاهم «المنافقون»... إلا أن في هذا الوجه تنافرا بين الضمائر، فإن الضمير في «ويحلفون» عائد على المنافقين، وعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر» «١».
ثم دمغهم- سبحانه- برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أى: أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة، لا من دين ولا من نسب... وفضلا عن كل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد ذم هؤلاء المنافقين. بجملة من الصفات القبيحة، التي على رأسها تعمدهم الكذب، وإصرارهم عليه.
قال صاحب الكشاف: «قوله: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أى: يقولون: والله إنا لمسلمون، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن المحلوف عليه كذب بحت.
فإن قلت: فما فائدة قوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ قلت: الكذب أن يكون لا على وفاق
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في رجل يقال له: عبد الله بن نبتل- وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله ﷺ ثم يرفعون حديثه إلى اليهود، وفي يوم من الأيام كان ﷺ جالسا في إحدى حجراته، فقال لمن حوله: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار، وينظر بعيني شيطان» فدخل ابن نبتل، - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- فقال له صلى الله عليه وسلم: «علام تشتمني أنت وأصحابك» ؟.
فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية «٢».
ومن الآيات الكثيرة التي صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله- تعالى-: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «٣».
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم من عذاب فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً...
أى: هيأ الله- تعالى- لهؤلاء المنافقين عذابا قد بلغ النهاية في الشدة والألم.
وجملة إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ تعليل لنزول العذاب الشديد بهم، أى: إن هذا العذاب الشديد المهيأ لهم سببه سوء أعمالهم في الدنيا، واستحبابهم العمى على الهدى.
وقوله- سبحانه- اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... بيان لرذيلة رابعة أو خامسة، لا تقل في قبحها عما سبقها من رذائل، وقوله: أَيْمانَهُمْ جمع يمين بمعنى الحلف.
وقوله: جُنَّةً من الجنّ بمعنى الستر عن الخاصة، وهذه المادة وما اشتق منها تدور حول الستر والخفاء. وتطلق الجنة على الترس الذي يضعه المقاتل على صدره أو على ذراعيه ليتقى به الضربات من عدوه.
ومفعول فَصَدُّوا: محذوف للعلم به.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد اتخذوا أيمانهم الكاذبة. وهي حلفهم للمسلمين بأنهم معهم، وبأنهم لا يضمرون شرا لهم.. اتخذوا من كل ذلك وقاية وسترة عن المؤاخذة، كما يتخذ المقاتل الترس وقاية له من الأذى..
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠٤.
(٣) سورة التوبة الآية ٤٢.
فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أى: فترتب على تسترهم خلف الأيمان الفاجرة، وعلى صدهم غيرهم عن الحق، أن أعد الله- تعالى- لهم عذابا يهينهم ويذلهم.
وقوله- سبحانه-:
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً | رد على ما كانوا يزعمونه من أنهم لن يعذبوا، لأنهم أكثر أموالا وأولادا من المؤمنين. |
ومن المعروف أن عبد الله بن أبى بن سلول- زعيم المنافقين-، كان من أغنياء المدينة، وكان يوطن نفسه على أن يكون رئيسا للمدينة قبيل- الإسلام، وهو القائل- كما حكى القرآن عنه-: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ...
أى: أن هؤلاء المنافقين المتفاخرين بأموالهم وأولادهم، لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الغناء.
أُولئِكَ المنافقون هم أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ خلودا أبديا، ثم بين- سبحانه- حالهم يوم القيامة، وأنهم سيكونون على مثل حالهم في الدنيا من الكذب والفجور.. فقال- تعالى- يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ.
أى: اذكر- أيها الرسول الكريم- يوم يبعث الله- تعالى- هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء «فيحلفون» لله- تعالى- في الآخرة بأنهم مسلمون «كما» كانوا «يحلفون لكم» في الدنيا بأنهم مسلمون.
«ويحسبون» في الآخرة- لغبائهم وانطماس بصائرهم «أنهم» بسبب تلك الأيمان الفاجرة «على شيء» من جلب المنفعة أو دفع المضرة.
أى يتوهمون في الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم في تخفيف شيء من العذاب عنهم.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أى الذين بلغوا في الكذب حدا لا غاية وراءه.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين في الدنيا، قد بعثوا والنفاق ما زال في قلوبهم، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم. فهم لم يكتفوا بكذبهم على المؤمنين في الدنيا، بل وفي الآخرة- أيضا- يحلفون لله- تعالى- بأنهم كانوا مسلمين.
وقوله- سبحانه-: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «٢».
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يعنى ليس العجب من حلفهم لكم- في الدنيا بأنهم مسلمون- فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر. ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة- بأنهم كانوا مسلمين في الدنيا.
والمراد وصفهم بالتوغل في نفاقهم، ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل» «٣».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: وقوله: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ حذفت صفة شيء، لظهور معناها من المقام، أى: ويحسبون أنهم على شيء نافع.
وهذا يقتضى توغلهم في النفاق، ومرونتهم عليه، وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف.
وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله له: أولست فيما شئت؟ قال: بلى يا ربي ولكن أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال.
وكان رجل من أهل البادية عند النبي ﷺ فقال: يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن- أى أهل البوادي- فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي ﷺ إقرارا لما فهمه الأعرابى.
وفي حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: يبعث كل عبد على ما مات عليه.
قال عياض: هو عام في كل حالة مات عليها المرء، وقال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره، وشارب الخمر بقدحه.
(٢) سورة الأنعام الآية ٢٨.
(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت المنافقين ينغمسون في نفاقهم فقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ...
وقوله: اسْتَحْوَذَ من الحوذ: وهو أن يتبع السائق حاذيى البعير، أى: أدبار فخذه ثم يسوقه سوقا عنيفا، لا يستطيع البعير الفكاك منه... والمراد به هنا: شدة الاستيلاء والغلبة... ومنه قول السيدة عائشة في عمر- رضى الله عنهما-: «كان أحوذيا» أى: كان ضابطا للأمور، ومستوليا عليها استيلاء تاما...
والمعنى: إن هؤلاء المنافقين قد استولى عليهم الشيطان استيلاء تاما، بحيث صيرهم تابعين لوساوسه وتزيينه، فهم طوع أمره، ورهن إشارته، فترتب على طاعتهم له أن أنساهم طاعة الله- تعالى-، وحسابه، وجزاءه، فعاشوا حياتهم يتركون ما هو خير، ويسرعون نحو ما هو شر...
أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات القبيحة حِزْبُ الشَّيْطانِ أى: جنوده وأتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ خسارة لا تقاربها خسارة، لأنهم آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، والضلال على الهدى...
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان سنة من سننه في خلقه، وهي أن الذلة والصغار لأهل الباطل، والعزة والغلبة لأهل الحق... الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، فقال- تعالى-:
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
«في الأذلين» أى: في عداد أذل خلق الله- تعالى- وهم المنافقون ومن لف لفهم، من الكافرين وأهل الكتاب.
وقال- سبحانه-: أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ للإشعار بأنهم مظروفون وكائنون، في ذروة أشد خلق الله ذلا وصغارا.
ثم بشر- سبحانه- من هم على الحق بأعظم البشارات فقال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أى: أثبت الله- تعالى- ذلك في اللوح المحفوظ وقضاه، وأراد وقوعه في الوقت الذي يشاؤه.
فالمراد بالكتابة: القضاء والحكم. وعبر بالكتابة للمبالغة في تحقق الوقوع.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أنه لما فتح الله- تعالى- للمؤمنين ما فتح من الأرض، قال المؤمنون: إنا لنرجو أن يفتح الله لنا فارس والروم.
فقال بعض المنافقين: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي تغلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا، من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت.
قال الآلوسى: كَتَبَ اللَّهُ أى: أثبت في اللوح المحفوظ، أو قضى وحكم.. وهذا التعبير جار مجرى القسم، ولذا قال- سبحانه-: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أى: بالحجة والسيف وما يجرى مجراه، أو بأحدهما.. «١».
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله وأوليائه عَزِيزٌ لا يغلبه غالب بل هو القاهر فوق عباده.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «١».
وقوله- تعالى- وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «٢».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة لصفات المؤمنين الصادقين فقال:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وقوله: يُوادُّونَ من الموادة بمعنى حصول المودة والمحبة.
أى: لا تجد- أيها الرسول الكريم- قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان، يوالون ويحبون من حارب دين الله- تعالى- وأعرض عن هدى رسوله.
والمقصود من هذه الآية الكريمة النهى عن موالاة المنافقين وأشباههم، وإنما جاءت بصيغة الخبر، لأنه أقوى وآكد في التنفير عن موالاة أعداء الله، إذ الإتيان بصيغة الخبر تشعر بأن القوم قد امتثلوا لهذا النهى، وأن الله- سبحانه- قد أخبر عنهم بذلك.
وافتتحت الآية بقوله: لا تَجِدُ قَوْماً لأن هذا الافتتاح يثير شوق السامع لمعرفة هؤلاء القوم.
وقوله: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ تصريح بوجوب ترك هذه الموادة لمن حارب الله ورسوله، مهما كانت درجة قرابة هذا المحارب.
أى: من شأن المؤمنين الصادقين أن يبتعدوا عن موالاة أعداء الله ورسوله، ولو كان هؤلاء الأعداء. آباءَهُمْ الذين أتوا إلى الحياة عن طريقهم أَوْ أَبْناءَهُمْ الذين هم قطعة منهم. أَوْ إِخْوانَهُمْ الذين تربطهم بهم رابطة الدم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ التي ينتسبون إليها، وذلك لأن قضية الإيمان يجب أن تقدم على كل شيء.
وقدم الآباء لأنهم أول من تجب طاعتهم، وثنى بالأبناء لأنهم ألصق الناس بهم، وثلث بالإخوان لأنهم الناصرون لهم، وختم بالعشيرة لأن التناصر بها يأتى في نهاية المطاف.
(٢) سورة الصافات الآيات ١٧١- ١٧٣.
أى: أولئك الذين لا يوادون أعداء الله مهما كانوا، هم الذين كتب الله- تعالى- الإيمان في قلوبهم، فاختلط بها واختلطت به، فصارت قلوبهم لا تحب إلا من أحب دين الله، ولا تبغض إلا من أبغضه.
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أى: وثبتهم وقواهم بنور من عنده- سبحانه- فصاروا بسبب ذلك أشداء على الكفار، رحماء بينهم.
وَيُدْخِلُهُمْ- سبحانه- يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب طاعتهم له، وَرَضُوا عَنْهُ بسبب ثوابه لهم.
أُولئِكَ الموصوفون بذلك حِزْبُ اللَّهِ الذي يشرف من ينتسب إليه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فلاحا ونجاحا ليس بعدهما فلاح أو نجاح.
وقد ذكروا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية الكريمة، منها: أنها نزلت في أبى عبيدة عامر بن الجراح، فقد قتل أباه- وكان كافرا- في غزوة بدر.
والآية الكريمة تصدق على أبى عبيدة وغيره ممن حاربوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم، عند ما استحب هؤلاء الآباء والأبناء الكفر على الإيمان.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، وجوب عدم موالاة الكفار والفساق والمنافقين والمجاهرين بارتكاب المعاصي... مهما بلغت درجة قرابتهم، ومهما كانت منزلتهم.
ومن دعاء رسول الله ﷺ «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة» «١».
وبعد فهذا تفسير لسورة «المجادلة» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدوحة- قطر مساء الجمعة غرة شعبان سنة ١٤٠٦ هـ ١١/ ٤/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة «الحشر» من السور المدنية الخالصة، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي، وسماها ابن عباس بسورة «بنى النضير» فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر. قال: «سورة بنى النضير» ولعل ابن عباس- رضى الله عنهما- سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بنى النضير.
٢- وعدد آياتها أربع وعشرون آية، وكان نزولها بعد سورة «البينة» وقبل سورة «النصر» أى: أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي ﷺ من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول.
أما ترتيبها في المصحف، فهي السورة التاسعة والخمسون.
٣- وقد افتتحت سورة «الحشر» بتنزيه الله- تعالى- عما لا يليق به، ثم تحدثت عن غزوة «بنى النضير»، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين..
قال- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ...
٤- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بنى النضير، وعن حكمة الله- تعالى- في إرشاده النبي ﷺ إلى هذا التقسيم، فقال- سبحانه-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ٥- وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم، كما أثنت على الأنصار لسخائهم، وطهارة قلوبهم... بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجيب من حال المنافقين، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة، ووعودهم الخادعة..
٦- ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين، أمرتهم فيه بتقوى الله، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر الله، الذين تركوا ما أمرهم به- سبحانه-، فكانت عاقبة أمرهم خسرا..
وختمت بذكر جانب من أسماء الله- تعالى- وصفاته، فقال- تعالى-: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
٧- وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول الله ﷺ ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها الله- تعالى- في تقسيم الغنائم، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود..
ومع جانب من أسماء الله- تعالى- وصفاته، التي تليق به- عز وجل-.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
الدوحة- قطر صباح الأحد: ٢ من شعبان سنة ١٤٠٦ هـ ١٢/ ٤/ ١٩٨٦ م د. محمد سيد طنطاوى