ﰡ
ثم ذكرت موقفهم المخزي والمستعلي وهو ادعاؤهم العزة وزعمهم بأنهم بعد العودة من غزوة بني المصطلق سيخرجون الرسول ﷺ والمؤمنين من المدينة.
وختمت السورة بحثّ المؤمنين على التضامن والطاعة وعبادة الله، وإنفاق الأموال في سبيل الله لمواجهة الأعداء في الداخل والخارج، قبل انقضاء الأجل أو فوات الأوان، فإن الأجل لا يتأخر لحظة.
أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ عامل إِذا هو جاءَكَ وإنما جاز أن يعمل فيها وإن كان مضافا إليه، لأن إِذا فيها معنى الشرط، والشرط يعمل فيه ما بعده، لا ما قبله.
قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.. الآية، إنما كسرت (إن) في الآية في المواضع الثلاثة، لمكان لام التأكيد في الخبر، لأنها في تقدير التقدم، فعلّقت الفعل عن العمل.
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يقرأ بضم الشين وسكونها، فمن قرأ بالضم فعلى الأصل، ومن قرأ بالسكون فعلى التخفيف، كأسد وأسد.
ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما: إما موصولة في موضع رفع فاعل ساءَ.
ويَعْمَلُونَ جملة فعلية صلتها، والعائد محذوف تقديره: يعملونه، فحذف الهاء تخفيفا. وإما مصدرية في موضع رفع أيضا ب ساءَ ولا عائد لها، وقيل: ما نكرة موصوفة في موضع نصب، وكانُوا يَعْمَلُونَ صفتها، والعائد إلى الموصوف من الصفة محذوف، كما هو محذوف من الصلة.
البلاغة:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ تأكيد بالقسم وإنّ واللام، زيادة في التقرير، وتأكيد علمهم بهذا الخبر.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ جملة اعتراضية بنى الشرط وجوابه، لدفع توهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً استعارة، استعار لفظ جُنَّةً وهي كالترس، للتظاهر بالإسلام الذي يعصم الدم والمال.
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بينهما طباق.
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ تشبيه مرسل مجمل.
قاتَلَهُمُ اللَّهُ جملة دعائية عليهم باللعنة والهلاك.
المفردات اللغوية:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إذا حضروا مجلسك، والمنافق: من يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
قالُوا بألسنتهم خلافا لما في قلوبهم. نَشْهَدُ الشهادة: إخبار عن علم من الشهود.
جُنَّةً وقاية وسترا من القتل والسبي وأخذ الأموال. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدوا بالأيمان عن الجهاد في سبيل الله. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من نفاق وصدّ. ذلِكَ أي سوء أعمالهم. آمَنُوا باللسان. ثُمَّ كَفَرُوا بالقلب، بمعنى أنهم استمروا على كفرهم به.
فَطُبِعَ ختم، حتى تمرنوا على الكفر واستحكموا فيه. فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته.
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها وجمالها. تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقتهم وحلاوة كلامهم. خُشُبٌ جمع خشباء: وهي الخشبة المنخور جوفها. مُسَنَّدَةٌ منصوبة مسندة إلى الجدار. يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يظنون أن كل صوت واقع بهم لجبنهم وهلعهم. هُمُ الْعَدُوُّ الضمير للكل، والعدو يطلق على الجمع والمفرد. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم وطردهم من رحمته، وأهلكهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق والإيمان بعد قيام البرهان.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم ينطقون بالإسلام إذا جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في الحقيقة على الضد من ذلك، فيقول:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي إذا قدم المنافقون إليك يا رسول الله مثل عبد الله بن أبي وصحبه، وحضروا مجلسك، أظهروا لك الإسلام، وقالوا: نشهد إنك لرسول الله شهادة تتطابق فيها القلوب مع الألسنة، والله يعلم أن الأمر كما قالوا، وأنك رسول الله إلى الناس كافة، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد، وفيما أخبروا عنه وهو الشهادة بالرسالة التي هي حق، لأنهم لم يكونوا يعتقدون صدق وصحة ما يقولون، ولا تطابق بين ما عليه قلوبهم مع ما أعلنته ألسنتهم، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم، وأن شهادتهم لم تكن شهادة في الحقيقة، فهم كاذبون في تسمية شهادة.
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ جملة اعتراضية مخبرة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تصديق من الله عز وجل لما تضمنه كلامهم من الشهادة لمحمد ﷺ بالرسالة، لئلا يتوهم كون التكذيب الآتي بعدئذ موجها إلى ذلك. وقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ يراد به تكذيب دعواهم أن شهادتهم للنبي ﷺ هي من صميم القلب.
ثم أخبر الله تعالى عن استخدام الأيمان لإثباتهم ما يقولون، وإقناع الناس بصدقهم، فقال:
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة التي حلفوها وقاية وسترا لصون دمائهم من القتل، وأنفسهم من الأسر، وأموالهم من الأخذ، حتى لا تطبق عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر واغتنام المال، فاغترّ بهم من لا يعرف حقيقة أمرهم، فاعتقدوا بأنهم مسلمون، فاقتدوا بهم فيما يفعلون، مما ألحق ضررا بكثير من الناس، إذ منعوهم من الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوة، إنه لقبيح ما كانوا يفعلون من النفاق والصدّ عن سبيل الله تعالى.
والآية دليل على ارتكابهم جرمين كبيرين: الحلف بالأيمان الكاذبة، والصد عن الدخول في الإسلام والجهاد في سبيل الله، مما استوجب وصف أفعالهم بالقبح.
ثم أخبر الله تعالى عن أسباب موقفهم هذا، فقال:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي ذلك المذكور من الكذب والصدّ وقبح الأعمال بسبب أنهم آمنوا نفاقا، ثم كفروا
ثم أبان الله تعالى مدى الاغترار بمظاهرهم وصورهم الجسدية، فقال:
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي وإذا نظرت إليهم تروقك هيئاتهم ومناظرهم، لما فيها من النضارة والرونق وجمال الصورة واعتدال الخلقة، وإن تكلموا حسن السماع لكلامهم، وظن أن قولهم حق وصدق، لفصاحتهم وحلاوة منطقهم وذلاقة ألسنتهم، كأنهم أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان، فهم مجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم، وقد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا، ولكنه وصحبه لا وعي ولا إدراك لديهم، لخلوهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، فهم صور بلا معان. فقوله: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني عبد الله بن أبي، ومغيث بن قيس، وجدّ بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا.
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي وهم مع جمال مناظرهم وجسامة أجسادهم في غاية الضعف والخور والجبن، يظنون كل صوت كلما وقع أمر، أو كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم، نازلة بهم، لفرط جبنهم، ورعب قلوبهم، وفراغهم النفسي، وإحساسهم بالهزيمة من الداخل، فهم الأعداء الألداء، فاحذر مؤامراتهم، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، لعنهم الله وطردهم من رحمته وأهلكهم، كيف يصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر، ويتركون الهدى إلى الضلال.
[الأحزاب ٣٣/ ١٩].
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الإيمان تصديق القلب، والكلام الحقيقي كلام القلب، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب، فالمنافقون كاذبون، لأنهم يقولون غير ما يعتقدون. وهذا مستنبط من الآية الأولى المتضمنة أن المنافقين يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعترافا بالإيمان، ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهم في هذا لم يضيفوا شيئا جديدا للحقيقة، فالله يعلم أن محمدا رسول الله كما قالوا بألسنتهم، ولكنه يشهد أنهم في ضمائرهم كاذبون، وإن أظهروا الشهادة بالإسلام وبتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وحلفوا بألسنتهم.
٢- لا يبالي المنافقون بالحلف كذبا، ويصدون عن الدخول في الإسلام، فقد اتخذوا بقيادة عبد الله بن أبي أيمانهم وقاية وسترا من الناس، يتقون بها تطبيق أحكام الكفرة عليهم من القتل والسبي واغتنام الأموال، فاغتر الناس بهم وظنوا أنهم مسلمون، فقلّدوهم، فأدى صنعهم هذا إلى صد الناس، من اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، ومنعهم من الجهاد بسبب تخلفهم واقتداء
ولكن الله تعالى بيّن أن حالهم لا يخفى عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان، أجري عليه في الظاهر حكم الإيمان.
٣- قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا... إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر، لأنه أقر باللسان، ثم كفر بالقلب، والمعول عليه هو ما في القلوب. وكان من لوازم اعتصامهم بالكفر أن ختم الله على قلوبهم بالكفر، فأصبحوا لا يدركون معالم الإيمان وأدلته، ولا مفهوم الخير وطرقه، فهم على الكفر الثابت الدائم.
٤- إن الحكم على الناس لا يكون بالأشكال والهيئات والمناظر، وإنما يكون بالحقائق المدركة، والأفعال الواقعة، والأقوال الصادقة. وقد كان المنافقون حسان الهيئة، فصيحي اللسان، ولكنهم أشباح بلا أرواح، وصور بلا معان.
قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي ﷺ مقالته، وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
٥- يؤدي النفاق عادة إلى القلق والتردد، والضعف والهزيمة، والجبن والجزع والهلع، لذا كان المنافقون جبناء، يحسبون كل واقعة، كأنها نازلة بهم لجبنهم، وكأن كل أمر وقع أو خوف نازل بهم وحدهم. قال مقاتل: إذا نادى مناد في العسكر، وانفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلا، ظنوا أنهم يرادون بذلك، لما في قلوبهم من الرعب، ولأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
٧- لهذه الأوصاف الذميمة كلها ختمت الآيات بكلمة الذم والتوبيخ وهي قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي لعنهم وطردهم من رحمته، فكيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، وكيف تضل عقولهم عن الإيمان مع وضوح الدلائل؟!
أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٥ الى ٨]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)
الإعراب:
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ هنا فعلان، أعمل الثاني منهما وهو يَسْتَغْفِرْ ولا ضمير فيه، لأن رَسُولُ اللَّهِ مرفوع به، والفعل لا يرفع فاعلين. ولو أعمل الأول وهو تَعالَوْا لقيل: تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم، وكان في يَسْتَغْفِرْ ضمير يعود إلى رَسُولُ اللَّهِ هو الفاعل.
أَسْتَغْفَرْتَ استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل.
البلاغة:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بينهما طباق السلب.
مُسْتَكْبِرُونَ، الْفاسِقِينَ، لا يَفْقَهُونَ، لا يَعْلَمُونَ | إلخ، توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات. |
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ أي احضروا معتذرين يطلب لكم الرسول المغفرة. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ عطفوها وأمالوها إعراضا واستكبارا عن ذلك واستهزاء. يَصُدُّونَ يعرضون عن الاستغفار وعن القائل. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في الكفر.
الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم.
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لأصحابهم من الأنصار. لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المهاجرين. حَتَّى يَنْفَضُّوا يتفرقوا عنه. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خزائن الأرزاق فيهما، فبيده الأرزاق، وهو الرزاق للمهاجرين وغيرهم. لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون ذلك لجهلهم بالله، فهم لا يدركون عظمة الله وقدرته وسعته.
لَئِنْ رَجَعْنا من غزوة بني المصطلق. الْأَعَزُّ أي المنافقون. الْأَذَلَّ أي المؤمنين في زعمهم. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الغلبة والنصرة والقوة. لا يَعْلَمُونَ ذلك من فرط جهلهم وغرورهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٥) :
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ..: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قيل لعبد الله بن أبي: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.
أن النبي ﷺ غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية (قديد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له (جهجاه) مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له (سنان) على ماء (بالمشلّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار، فلطم جهجاه سنانا، فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- يعني محمدا صلى الله عليه وسلم- ثم قال لقومه: كفّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم- وهو من رهط عبد الله-: أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد ﷺ في عز من الرحمن، ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا، فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي ﷺ بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولامني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة، فاذهب إلى رسول الله ﷺ ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات.
نزول الآية (٦) :
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ..: أخرج ابن جرير عن عروة قال: لما نزلت:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٨٠]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأزيدن على السبعين»، فأنزل الله:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. الآية. وأخرج عن مجاهد وقتادة مثله.
وأخرج عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أسمع، إني قد رخص لي فيهم، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم» فنزلت.
أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمّي، فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله ﷺ ومقتك، فأنزل الله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها، ثم قال: «إن الله قد صدّقك» «١».
وروى الترمذي أيضا عن زيد بن أرقم: أن أعرابيا نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة فشجّه، فشكا إلى ابن أبيّ، فقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وإذا رجعنا إلى المدينة، فليخرج الأعز الأذل. عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المناسبة:
بعد بيان قبائح خصال المنافقين وهي الكذب والأيمان الكاذبة، والصد عن سبيل الله، والجبن، وجمال الأجسام وضعف العقول، وعداوة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر تعالى أدلة تثبت كذبهم ونفاقهم من الواقع المشاهد، كإعراضهم عن الاعتذار، وتصميمهم بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة يهود) على طرد المؤمنين من المدينة.
ذكر الله تعالى أدلة كذب المنافقين وأسباب غضب الله عليهم، فقال:
١- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي وإذا قيل للمنافقين بقيادة عبد الله بن أبي: أقبلوا إلى رسول الله ﷺ يطلب لكم المغفرة من الله، أعرضوا استكبارا واستهزاء بذلك ورغبة عن الاستغفار، ورأيتهم يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مستكبرون عن الإتيان إليه وطلب الاستغفار منه، فهم أكبر من ذلك في زعمهم. والمشهور في السيرة أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وليس في غزوة تبوك كما ذكر بعضهم، لأن عبد الله بن أبي لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجل بطائفة من الجيش.
قال الكلبي: لما نزل القرآن على الرسول ﷺ بصفة المنافقين، مشى إليه عشائرهم من المؤمنين، وقالوا لهم: افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك، وزهدوا في الاستغفار، فنزلت «١».
وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس، مقته المسلمون، وعنّفوه، وأسمعوه المكروه، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله ﷺ حتى يستغفر لك ويرضى عنك، فقال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه، فنزلت «٢».
وعند الأكثرين من المفسرين: إنما دعي إلى الاستغفار، لأنه قال:
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
(٢) المرجع السابق.
لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ.
ثم أبان الله تعالى أن الاستغفار لهم لا ينفعهم، فقال:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي جازاهم الله على استكبارهم وإعراضهم، فأوضح أن الاستغفار لا ينفعهم لإصرارهم على النفاق، واستمرارهم على الكفر، فسواء حدث الاستغفار لهم أو لم يحدث لا يجديهم نفعا، ولن يغفر الله لهم، ما داموا على النفاق، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة، المنهمكين في معاصي الله، ومنهم المنافقون بالأولى.
قال قتادة كما تقدم: نزلت هذه الآية بعد قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وذلك لأنها لما نزلت،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرني ربي، فلأزيدنهم على السبعين» فأنزل الله تعالى: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
٢- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي إن هؤلاء المنافقين يقولون للأنصار: لا تطعموا أصحاب محمد المهاجرين، حتى يجوعوا ويتفرقوا عنه.
فرد الله عليهم بقوله:
وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي إن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن الأرزاق بيد الله، فظنوا أن الله لا يوسّع على المؤمنين.
فرد الله عليهم قولهم، فقال:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي إن لله وحده القوة والغلبة، ولمن منحها من رسله وصالحي عباده المؤمنين، لا لغيرهم، ولكن المنافقين لا يدرون ذلك، لفرط جهلهم، وعدم إيمانهم، وشدة حيرتهم وقلقهم، فالله هو الذي ينصر من يشاء من عباده، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١]. والعزة والمنعة والقوة لله، خلافا لما توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع. والعزة غير الكبر، فالعزة: الشعور بالسمو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه، والكبر: غمط الناس حقوقهم وجهل الإنسان بنفسه.
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله ﷺ هو الأعز وأنا الأذلّ، فقاله «١».
وإنما قال في الآية الأولى: لا يَفْقَهُونَ وهنا لا يَعْلَمُونَ ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- السبب الأول في غضب الله على المنافقين: إباؤهم الاعتذار من أقوالهم وأفعالهم، وإعراضهم عن الرسول ﷺ متكبرين عن الإيمان.
٢- كل من الاستغفار للمنافقين وعدم الاستغفار سواء، فلا ينفعهم استغفار الرسول ﷺ شيئا، لأن الله لا يغفر لهم، وإن الله لا يهدي من سبق في علمه أنه يموت فاسقا كافرا.
٣- السبب الثاني: قول ابن أبي وصحبه للأنصار: لا تنفقوا على من عند محمد ﷺ من أصحابه المهاجرين حتى يتفرقوا عنه.
٤- رد الله على ذلك ببيان أن خزائن السموات والأرض ومفاتيح الرزق لله عز وجل، ينفق كيف يشاء، غير أن المنافقين لا يفهمون أنه تعالى إذا أراد أمرا يسره.
٥- السبب الثالث: قول ابن أبي أيضا: لئن عدنا إلى المدينة من غزوة بني المصطلق ليخرجن الأعز- يعني نفسه- منها الأذل- يعني محمدا ﷺ وصحبه- لتوهمه أن العزة بكثرة الأموال والأتباع، فرد الله عليه بأن العزة والقوة لله وحده ولمن أفاضها عليهم من رسله وعباده الصالحين. عن بعض الصالحين وكان في هيئة رثة: ألست على الإسلام، وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر بعده. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها، فقال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا الآية:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
الإعراب:
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، أَكُنْ: مجزوم بالعطف على موضع فَأَصَّدَّقَ لأن موضعه الجزم على جواب التمني. وقرئ وأكون بالنصب عطفا على لفظ فَأَصَّدَّقَ وهو منصوب بتقدير (أن).
البلاغة:
الْخاسِرُونَ، الصَّالِحِينَ، تَعْمَلُونَ توافق الفواصل مثلما سبق، مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
لا تُلْهِكُمْ لا تشغلكم عن الصلاة وسائر العبادات المذكّرة بالمعبود، والمراد النهي عن اللهو بالأموال والأولاد، وتوجيه النهي إليها للمبالغة. ذِكْرِ اللَّهِ الصلوات الخمس والعبادات الأخرى. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ وهو اللهو أو الشغل بها. فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي أنفقوا بعض أموالكم لادخار ثوابها للآخرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي قبل أن يرى دلائله. أَخَّرْتَنِيبمعنى هلا، وهي كلمة تفيد تمني حصول ما بعدها، وأَخَّرْتَنِي أمهلتني. أَجَلٍ قَرِيبٍ أمد غير بعيد. فَأَصَّدَّقَ أي
لمناسبة:
بعد بيان خصال المنافقين وذمهم وتوبيخهم عليها، حذر الله المؤمنين من أخلاق المنافقين، ثم أمرهم أن ينفقوا بعض أموالهم في مجالات الخير، ولا يؤخروا ذلك حتى يداهمهم الموت، فيندموا ويطلبوا إطالة العمر حتى يتداركوا ما فاتهم من خير.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي يا أيها المؤمنون المصدقون بالله تعالى ورسوله ﷺ لا تشغلكم الأموال وتدبيرها والأولاد والعناية بشؤونها عن القيام بذكر الله تعالى من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل وأداء فرائض الإسلام وحقوق الله تعالى.
ثم حذر من المخالفة وتوعد اللاهين بالدنيا، فقال:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي ومن يلتهي بالدنيا ومتاعها وزخارفها وزينتها، وينصرف عن الدين وطاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين، الكاملين في الخسران، الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لأنه باع خالدا باقيا بفان زائل.
ثم حث المؤمنين على الإنفاق في طاعته، فقال:
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّ، أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي وأنفقوا بعض
وهذا يدل على أن كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة، ولو شيئا يسيرا ليستدرك ما فاته، ولكن فات الأوان.
أخرج الترمذي وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له مال يبلّغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت»، فقال له رجل: يا ابن عباس:
اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكافر!! فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا:
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّ، أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ.. الآية.
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي لن يؤخر الله أي نفس إذا حضر أجلها، وانقضى عمرها، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها، بالإحسان إحسانا، وبالإساءة سخطا وعذابا، وبعدا عن الرحمة والرضوان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب الاشتغال بطاعة الله تعالى، كقراءة القرآن، وإدامة الذكر، وأداء الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وإتمام الحج، والقيام بجميع الفرائض.
٢- عدم الاشتغال بتدبير الأموال والاهتمام بشؤون الأولاد عن أداء حقوق
٣- قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا، وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها، يجب أداؤها فورا.
والآية في العموم حث على الإنفاق الواجب خاصة، دون النفل، لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل، وذلك إما مطلقا، وإما في طريق الجهاد، قبل فوات الأوان ومجيء أمارات الموت حين لا تقبل التوبة، ولا ينفع العمل، فيسأل الإنسان التأخير في الأجل لتدارك ما فات. وتشمل الآية على العموم الحج عند الجمهور القائلين بأنه على الفور. ولا تشمله عند الشافعية القائلين بأنه على التراخي.
٤- قال ابن عباس في آية: أَخَّرْتَنِي..: هذه الآية أشدّ على أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. واستثنى العلماء الشهيد، فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة.
٥- الله تعالى خبير بما يعمل العباد من خير وشر، لا تخفى عليه خافية، ويجازي كل امرئ بما عمل خيرا أو شرا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابنمدنيّة، وهي ثماني عشرة آية.
تسميتها:
سميت التغابن تذكيرا بيوم القيامة الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإيمان، وهو المذكور في قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ (٩).
مناسبتها لما قبلها:
تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- في السورة السابقة ذكر الله أوصاف المنافقين، وحذر المؤمنين من أخلاق المنافقين، وهنا حذر تعالى من صفات الكافرين: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.. وقسم الناس في الجملة قسمين: مؤمن وكافر، وبشر المؤمن بالجنة، وهدد الكافر بالنار.
٢- نهى الله تعالى في السورة المتقدمة عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وفي هذه السورة ذكر أن الأموال والأولاد فتنة: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
وهذا كالتعليل لما سبق.
٣- أمر الله في آخر سورة (المنافقون) السالفة بالإنفاق في سبيل الله:
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ.. كذلك أمر بالإنفاق في أواخر هذه السورة:
ويلاحظ الترتيب بين السور الست التالية، فإنها اشتملت على أصناف الأمم، فسورة الحشر: في ذكر المعاهدين من أهل الكتاب، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا، وسورة الممتحنة: في ذكر المعاهدين من المشركين، وسورة الصف: ذكر فيها أهل الكتاب: اليهود والنصارى، والمؤمنون، وكذلك سورة الجمعة: ذكر فيها اليهود وأهل الإيمان، وسورة (المنافقون) : في أهل النفاق، وسورة التغابن: ذكر فيها المشركون والكفار بنحو عام. وبه يتبين أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر (وهي الحشر والصف والجمعة والتغابن) جاء لحكمة دقيقة هي الكلام الشامل عن هذه الأمم.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة التغابن من السور المدنية التي عنيت خلافا للمعتاد بأمور متعلقة بالعقائد.
ابتدأت ببيان بعض صفات الله الحسنى المتصلة بجلال الله وقدرته وعلمه وخلقه الإنسان الذي يؤول أمره إلى أحد قسمين: مؤمن وكافر.
ثم أنذرت الكفار بما حل بالأمم الماضية التي كذبت الرسل بسبب بشريتهم، وإنكارهم البعث، والرد عليهم بقسم الله بوقوعه وأنه حق، وبجزائه على الأعمال.
ودعت بعدئذ إلى الإيمان بالله تعالى والرسول ﷺ والقرآن النور الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهددت بما يلقاه الناس يوم القيامة يوم يغبن فيه الكافر بتركه الإيمان، ويغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ويدخل المؤمنون الذين