ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، اختلف في السبب الذي كان به مجيء الجن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فمنهم من ذكر أن إبليس صعد إلى السماء، فوجدها قد ملئت حرسا شديدا وشهبا؛ فتيقن أنه قد حدث في الأرض حادث، ففرق جنوده؛ ليعلم ذلك.
ومنهم من يقول بأن الأصنام خرت لوجوهها حين بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فعلم إبليس أنه قد حدث في الأرض حادث حتى خرت له الأصنام، ففرق جنوده؛ ليصل إلى علم ذلك.
ثم من الناس من يزعم أن قصة هذه السورة وقصة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) - واحدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ بأن هَؤُلَاءِ النفر الذين ذكروا في هذه السورة كانوا من مشركي الجن، والذين ذكروا في سورة الأحقاف كانوا من يهود الجن؛ دليله: أنه قال في هذه السورة فيما حكي عن الجن: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا)، واليهود يقرون بالبعث، ولا ينكرونه؛ فثبت أنهم كانوا من جنس المشركين، وقال في سورة الأحقاف: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ فثبت أنه قد كان عندهم علم بالكتاب المنزل على رسول الله موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا به مقرين، واليهود هم الذين يؤمنون بكتاب موسى - عليه السلام - لا غير.
إحداها: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه.
وفيه أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قاموا فيما بين القوم بإنذارهم، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).
وفيه أن أُولَئِكَ النفر تسارعوا إلى الإجابة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكون فيه تسفيه قوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين نشأ بين أظهرهم؛ لأنهم عرفوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما بينهم بالصيانة والعدالة، ولم يقفوا منه على كذب قط، وحق من يعرف بالصدق إن لم يصدق ألا يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي به من الأنباء، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه، وقومه استقبلوه بالتكذيب، ولم يعاملوه معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة، والجن الذين صدقوه، لم يكونوا عارفين بأحواله فيما قبل أنه صدوق، أو ممن يرتاب في خبره، ثم تسارعوا إلى تصديقه؛ لما لاحت لهم الحجة وثبتت عندهم آية الرسالة وعاملوه معاملة من قد عرف بالصدق؛ فدل أنهم كانوا في غاية من السفه.
وفيه - أيضا - دلالة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن قوله تعالى: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ...) إلى آخر القصة فيما بينهم - إخبار عن علم الغيب وهذا لا يعرف إلا بمن عنده علم الغيب؛ فثبت أنه باللَّه تعالى علم.
ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله، وبما وقفوا على إحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه.
وفيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يشعر بمجيئهم حتى أُوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن، واستمعوا إلى ما أوحي إليه؛ فيكون فيه دلالة على فساد قول الباطنية؛ حيث يزعمون أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل الوحي بالجسد الروحاني؛ لأنه لو كان كما وصفوا، لرأى الجن عندما حضروا إليه؛ إذ الجسد الروحاني مما يبصر الجن، ولم يكن يُوحَى إليه، فيعرف أن
وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سأل جبريل - عليه السلام - أن يراه على صورته، فقال له جبريل: " إنك لا تطيقه؛ لأن الأرض لا تسعني، ولكن انظر إلى أفق السماء "، ولو كان يأخذ الوحي بالجسد الروحاني، لكان قد رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فيبطل فائدة هذا السؤال؛ فثبت أن الأمر ليس كما زعموا، بل كان يقبله بالصورة الجسدانية، وأنه كما وصفه اللَّه تعالى بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النفر: ما بين الثلاثة إلى التسعة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: العجب: الغريب، وإنَّمَا استغربوا ذلك منه؛ لأنهم سمعوه من أُمِّي لا يعرف الكتابة ولا يقرأ الكتب.
ومنهم من قال بأن حسن تأليفه ونظمه ووصفه هو الذي حملهم على التعجب.
ومنهم من قال: إنما تعجبوا من آياته وحججه؛ لأنه جاء في تثبيت التوحيد، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث، ولم يكن لهم معرفة بالوحدانية؛ بل كانوا أهل شرك، ولم يكونوا أهل معرفة بالبعث ولا الرسالة؛ فكانت الآيات عجيبة؛ حيث قررت عندهم هذه الأوجه، واللَّه أعلم.
ثم في هذه السورة وفي قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يشعر بمجيئهم. وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لما تلى على أصحابه سورة الرحمن، قال لأصحابه: " إن الجن كانوا أحسن إجابة منكم، إني تلوت عليهم هذه السورة، فكانوا يقولون: ما بشيء من آلائك نكذب ربنا، فلك الحمد ". ففي هذا الخبر دلالة أنه قد رآهم وشعر بمجيئهم؛ فيكون فيه إثبات الوجهين جميعا: أن قد شعر مرة، ولم يشعر أخرى.
ثم يجوز أن يكون رآهم بما قوى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصره حتى احتمل إدراك الجن، وضعفت أبصار غيره عن رؤيتهم؛ ألا ترى أن أهل الجنة يرون الملائكة عندما تأتيهم بالتحف من ربهم، فيقوي اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصرهم حتى رأوا الملائكة بجوهرهم، وإن ضعفت أبصارهم عن الرؤية في الدنيا، ففي ذلك تجويز أن يكون اللَّه - تعالى - قوى بصر
وجائز أن يكون اللَّه تعالى صور الجن على صورة الإنس حتى رآهم، وشعر بمجيئهم، واللَّه أعلم.
ثم ما ذكرنا من السببين في أمر مجيء الجن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول السورة من قول أهل التأويل لا نقطع القول بذلك، وإن كان في حد الإمكان والجواز؛ لأنهم تكلفوا استخراج ذلك بالتدبر والاجتهاد، وما كان سبيل معرفته الاجتهاد، لم يجز أن نقطع القول فيه بالشهادة.
وقد يجوز أن يكون الذي حملهم على المجيء غير ذينك الوجهين، وهو أن يكون النفر من منذري الجن؛ لأنه ذكر أن من الجن نذرًا، وأن الرسل من الإنس دون الجن، فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيتلقفوا منه ما يقومون به بالنذارة فيما بين قومهم إذ كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الأخبار، وينذرون قومهم بها، ثم انقطع علم ذلك عنهم حيث لم يجدوا مسلكا إلى الصعود؛ لأنها قد ملئت حرسا، وعلموا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يبقيهم حيارى ويقطع عنهم وجه المعرفة، فتفرقوا في الأرض رجاء أن يظفروا بمن يزيل عنهم الشبه، ويوضح لهم الحجج والبراهين، فوصلوا إلى مقصودهم من جهة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويجوز أن يكون عندهم أن لا أحد في الأرض من جني أو إنسي يكذب على اللَّه؛ كما حكى اللَّه عنهم بقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، فلما تحقق عندهم الكذب خافوا على أنفسهم أن يبتلوا به، وأن يشتبه عليهم الصراط السوي؛ فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا بمن يدلهم على الطريقة المثلى، حتى وجدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويجوز أن يكونوا لما صعدوا إلى السماء، فرأوها مملوءة من الحرس والشهب، أيقنوا أن ذلك لحادث خبر أو خافوا حلول نقمة بأهل الأرض؛ فتفرقوا في البلاد لما لعلهم يصلون إلى علم ذلك.
ثم الذي تحقق كون هذا الخبر وهو أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في حق الكفرة - انقطاع الكهنة بعد ذلك، ولو كان الأمر على خلاف هذا، لكانوا لا ينقطعون؛ لأن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيأتون الكهنة بما يستمعون من الأخبار، ويلقونها
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ... (٢).
أي: إلى الحق، على ما ذكرنا بيانه في سورة الأحقاف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا).
قال أبو بكر الأصم: إنهم كانوا من مشركي العرب، فتبرءوا من الشرك لما استمعوا وسمعوا من القرآن بقولهم: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، وقد يحتمل هذا الذي قالوا.
ويحتمل أنه لم يسبق منهم الإشراك؛ بل كانوا من جملة الموحدين، ولكنهم أحدثوا إيمانا بما سمعوا من القرآن، وأحدثوا تبرءًا من الشرك، وقد يتبرأ المرء من الشرك عندما يحدث له زيادة إيقان وإن لم يسبق منه الإشراك؛ كما قال موسى - عليه السلام -: (قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣).
اختلف في تأويل الجد:
فمنهم من يقول بأن هذه الكلمة يتكلم بها فيمن يظفر بكل ما يريده، فيوصف بأنه ذو جد، فجائز أن يكونوا أرادوا بهذا أن ربنا هو الظافر بكل ما يريده، فلا يستقبله خلاف، ولا تمسه حاجة، وعلى هذا التأويل قوله: " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي: من كان له الجد في الدنيا، فإذا كان في تقدير اللَّه تعالى على خلاف ذلك، لم يغنه ذلك من عذاب اللَّه شيئا.
فإن كان هذا هو المراد، فمعناه: أن من هذا وصفه يتعالى عن أن يكون له شريك، أو
وجائز أن يكون الجد صلة، ومعناه: تعالى ربنا.
وجائز أن يكون الجد عبارة عن العظمة والرفعة؛ يقال: " فلان جد في قومه ": إذا عظم وشرف فيهم.
وقال الحسن: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)، أي: غِنَى ربنا؛ ألا ترى كيف ذكر اللَّه تعالى عندما نزه نفسه عن اتخاذ الأولاد بقوله: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)، وقد ذكر اتخاذ الولد هاهنا على أثر قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَدُّ رَبِّنَا).
ومنهم من يقول تأويله: ملك ربنا.
وجائز أن يكون أريد به: قوة ربنا، فتعالى ربنا عن كل ما لو نسب إليه كان فيه نسبته إلى فعل الرذالة والتسفل.
ثم الحق ألا يتكلف تفسير قوله: (جَدُّ رَبِّنَا) هاهنا؛ لأنه حكاية عن مقالة الجن، فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بإخبار الجن.
ثم الشرك فيما جرى به الكتاب على أوجه أربعة:
مرة على العبادة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
وشرك في الخلق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ).
وشرك في الحكم بقوله تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
وشرك في الملك بقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة، ومرة في الخلق، ومرة في الملك، ومرة في الحكم؛ فهو بقولهم: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) تبرءوا عن الشرك من هذه الأوجه الأربعة.
ثم إذا كان الجد عبارة عن الذي يظفر بكل ما يريده، ففيه ما ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى أراد من كل كافر الإيمان، فإذا لم يؤمنوا، فهو غير ظافر بما يريد على قولهم.
ويدخل عليهم النقض من وجه آخر، وهو أنا قد بينا أن الشرك قد يقع مرة في الخلق، وهم ينفون خلق الأفعال عن اللَّه تعالى، وإذا نفوا ذلك، فقد جعلوا له في الخلق شركاء، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه هو المتفرد بخلق الخلائق؛ فثبت أن الأفعال من حيث الخلق
وعلى هذا التأويل قوله[ صلى الله عليه وسلم ]١ :( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) [ البخاري : ٨٤٤ ] أي من كان له الجد في الدنيا، فإذا كان في تقدير الله تعالى خلاف ذلك، لم يغنه ذلك من عذاب الله شيئا، وإن كان هذا، هو المراد، فمعناه أن من هذا وصفه يتعالى عن أن يكون له شريك، ويحتاج إلى صاحبة أو إلى اتخاذ ولد، لأن هذه الأشياء كلها أمارات الحاجة. ومن ظفر بكل ما يريده لم تقع[ له ]٢ حاجة.
وجائز أن يكون الجد صلة، ومعناه : تعالى ربنا. وجائز أن يكون الجد عبارة عن العظمة والرفعة ؛ يقال : فلان جد في قومه إذا عظم، وشرف فيهم.
وقال الحسن﴿ تعالى جد ربنا ﴾ أي غنى ربنا.
ألا ترى كيف ذكر الله تعالى عندما نزه نفسه عن اتخاذ الأولاد بقوله :﴿ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني ﴾[ يونس : ٦٨ ] وقد ذكر اتخاذ الولد ههنا على إثر قوله عز وجل :﴿ جد ربنا ﴾. ومنهم من يقول : تأويله : ملك ربنا. وجائز أن يكون أريد به قوة ربنا، فتعالى ربنا عن كل ما نسب إليه، كان فيه أي٣ فعل للرزالة والتسفل.
ثم الحق ألا نتكلف٤ تفسير قوله :﴿ جد ربنا ﴾ ههنا لأنه حكاية عن مقالة الجن. فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بأخبار الجن.
ثم الشرك في ما جرى به الكتاب على أوجه أربعة :
مرة على العبادة بقوله عز وجل :﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ [ بالكهف : ١١٠ ] وشرك في الخلق بقوله عز وجل :﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ﴾[ الرعد : ١٦ ] وشرك في الحكم بقوله تعالى :﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾[ الكهف : ٢٦ ] وشرك في الملك بقوله :﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾[ الإسراء : ١١١و. . ].
فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة ومرة في العباد ومرة في الملك ومرة في الحكم.
فهم بقولهم :﴿ ولن نشرك بربنا أحدا ﴾تبرؤوا من الشرك في هذه الأوجه الأربعة.
ثم إذا كان الجد عبارة عن الذي يظفر بكل ما يريده، ففيه ما ينقض على المعتزلة قولهم، لأنهم يزعمون أن الله تعالى أراد من كل كافر الإيمان. فإذا لم يؤمنوا فهو غير ظافر بما يريد على قولهم، ويدخل عليهم النقض من وجه آخر، وهو أنا قد بينا أن الشرك قد يقع مرة في الخلق، وهم ينفون خلق الأفعال عن الله تعالى. وإذا نفوا ذلك فقد جعلوا له في الخلق شركاء، وقد أخبر عز وجل أنه هو المتفرد بخلق الخلائق.
فثبت أن الأفعال من حيث الخلق والإنشاء من الله تعالى، ومن جهة الكسب والفعل للخلق. فمن الوجه الذي يضاف إلى الله تعالى لا يجوز أن يضاف من ذلك الوجه إلى الخلق عندنا. فلا يقع في الخلق تشابه، لأنه لا يتحقق من العباد الفعل من الوجه[ الذي ]٥ تحقق من الله تعالى.
[ ألا ترى أنه يضاف الملك إلى الله تعالى ]٦ وإلى الخلق ؟ ثم لا يقع فيه إشراك لأنه من الوجه الذي يضاف إلى الله تعالى على جهة التحقيق.
فكذلك إضافة الأفعال إلى الله تعالى وإلى الخلق، لا يجب الشرك لاختلاف الجهتين، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ﴾ لأن اتخاذ الصاحبة من الخلق لغلبة الشهوة، وهو منشئ الشهوات، فلا يجوز أن يغلبه ما هو خلقه، فيبعثه ذلك على اتخاذ الصاحبة.
وبهذا نرد على من زعم أن الملائكة بنات الله، والبنات تحدث من الصاحبة، وهو متعال، لم يتخذ صاحبة، فأنى يكون له بنات ؟.
وقوله تعالى :﴿ ولا ولدا ﴾ فالأصل أن الأولاد يرغب فيهم المرء لإحدى خصال :
إما لما يناله من الوحشة، فيطلب الولد ليستأنس بهم، أو يرغب فيهم لما حل به٧ من الضعف، فيريد أن يستنصرهم، أو لما يخاف زوال ملكه، فيطلب الولد ليأمن من زواله، وجل الله سبحانه وتعالى عن أن تلحقه وحشة أو يصيبه ضعف، أو يخاف زوال الملك.
فإذا كانت الطرق التي بها يرغب في اكتساب الأولاد منقطعة في حقه لزم تنزيهه عن اتخاذ الأولاد. ولهذا[ في ]٨ ما ذكر عندما يشتبه الملاحدة في اتخاذ الأولاد : غناه بقوله :﴿ سبحانه هو الغني ﴾[ يونس : ٦٨ ] أي غني عن كل الوجوه التي تتوجه إلى اتخاذ الأولاد، وبالله التوفيق.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ في الأصل و م: إلى..
٤ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: نتكلم..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل و م: بهم..
٨ ساقطة من الأصل و م..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا)؛ لأن اتخاذ الصاحبة من الخلق؛ لغلبة الشهوة، وهو منشئ الشهوات؛ فلا يجوز أن يغلبه ما هو خلقه، فيبعثه ذلك على اتخاذ الصاحبة، وبهذا يرد على من زعم أن الملائكة بنات اللَّه تعالى، والبنات يحدثن من الصاحبة، وهو تعالى لم يتخذ صاحبة؛ فأنى يكون له بنات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا وَلَدًا) فالأصل أن الأولاد يرغب فيهم المرء؛ لإحدى خصال: إما لما يناله من الوحشة؛ فيطلب الولد؛ ليستأنس بهم.
أو يرغب فيهم؛ لما حل به من الضعف، فيريد أن يستنصر بهم.
أو لما يخاف زوال ملكه؛ فيطلب الولد؛ ليأمن من زواله.
وجل اللَّه سبحانه وتعالى عن أن تلحقه وحشة، أو يصيبه ضعف، أو يخاف زوال الملك؛ فإذا كانت الطرق التي بها يرغب في اكتساب الأولاد منقطعة في حقه، لزم تنزيهه عن اتخاذ الأولاد؛ ولهذا ما ذكر عندما نسبته الملاحدة إلى اتخاذ الأولاد - غناه بقوله (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)، أي: غني عن كل الوجوه التي تتوجه إلى اتخاذ الأولاد، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤).
فمنهم من ذكر أن سفيههم إبليس، وليس هذا براجع إلى الواحد على الإشارة إليه،
ثم في هذه الآية دلالة أن النفر الذين استمعوا كانوا مؤمنين، ولم يكونوا من أهل الكفر؛ لأنهم لو كانوا أهل شرك، لكانوا لا يضيفون فعل السفه إلى غيرهم، ويخرجون أنفسهم منه، وقد وجد منهم فعل السفه.
ولو كانوا مشركين - أيضا - لكانوا يقولون مكان هذه الكلمة: " وإنا كنا نقول على الله شططا "؛ ليكون ذلك منهم توبة ورجوعا عما كانوا فيه من الشرك والكفر؛ شكرا بما أنعم اللَّه عليهم من عظيم النعمة بأن هداهم للإيمان، لا أن يضيفوا ذلك إلى سفهائهم؛ فثبت أنهم كانوا مؤمنين.
والشطط: الجور.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الكذب.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الظلم.
والشطط هاهنا الجور، والجور ما أتوا به من القول الفاحش، وهو الشرك باللَّه تعالى، وهذا يبين أن الجور قبيح في كل الألسن وفيما بين أهل الأديان؛ ألا ترى كيف سفهوا من يقول على اللَّه تعالى بالجور.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥).
ذكر أبو بكر الأصم أنهم كانوا اعتقدوا أن لله تعالى صاحبة وولدا؛ بما سمعوا الجن والإنس يقولون ذلك، وكان عندهم أنهم في ذلك صادقون؛ فذلك المعنى هو الذي حملهم على القول بأن لله تعالى ولدا وصاحبة؛ فلما ظهر عندهم كذب من يدعي اتخاذ الولد والصاحبة تبرءوا عمن يقول ذلك؛ فثبت بهذا أنهم كانوا أهل شرك إلى ذلك الوقت؛ فلما استمعوا إلى قراءة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولاحت لهم الحجج، وارتفعت عنهم الشبه،
وقد يحتمل غير ما ذكره عنهم أبو بكر من التأويل، وهو أن القوم كانوا أنشئوا على الهدى والإيمان؛ فكانوا يظنون أن الجن والإنس على الهدى، وأنهم لا يكذبون على الله تعالى حتى ظهر عندهم كذب الإنس والجن، بقولهم: إن لله ولدا وصاحبة.
وجائز أن يكون معناه: إنا كنا نظن ألا تسخو نفس أحد من الممتحنين بالكذب على اللَّه تعالى بما أراهم اللَّه تعالى قبح الكذب، وقرر عندهم بالحجج والأدلة تنزيهه عن اتخاذ الأولاد والصاحبة؛ حتى ظهر عندهم ذلك بما أظهروه بألسنتهم.
ثم الذي يدل على أن التأويل الذي ذكره أبو بكر ليس بمحكم: أنه قد كان في الجن والإنس مصدق يصف اللَّه تعالى بالتنزيه، وقد كان فيهم من يقول بالولد والصاحبة؛ ألا ترى إلى قوله حكاية عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، وإلى قوله: (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)، ولا يحتمل أن يقع عندهم أن الفريقين جميعا على الصواب، ولكن كان في ظنونهم أن القوم جميعا على الهدى على ما هم عليه، فلما تبين عندهم الكذب من أُولَئِكَ قالوا هذا القول واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣).
ذكر أن الإنس، هم قوم من العرب كانت إذا نزلت بواد استجارت بسيد الوادي، وقالت: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
ثم اختلف بعد هذا:
فمنهم من ذكر أنهم كانوا يجيرونهم.
ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس من الجن.
وقالوا: الرهق: هو الخوف، والفرق؛ كذلك روي عن أبي رءوف.
ومنهم من يقول: هو الذلة والضعف، فكانوا يزدادون الضعف والذلة والخوف
ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم، ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم، ومن كيدهم في الأماكن التي لم يستجيروا فيها إليهم، وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة.
وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا.
وقيل بأن هذا الفعل من الإنس -وهو الاستجارة بهم- شرك؛ لأن اللَّه تعالى هو المجير؛ فكان الحق عليهم أن يستجيروا باللَّه تعالى؛ ليدفع عنهم مكايد الجن، وألا يروا لأنفسهم ناصرا غير اللَّه تعالى، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن، فقد رأوا غير الله تعالى يقوم عنهم بالذب والنصر؛ فكان ذلك منهم شركا.
ولأن الجن أضعف من الإنس؛ ألا ترى أنها تختفي من الإنس وتتصور بغير صورتها؛ فرقا؛ لئلا يشعر بها الإنس، وبلغ في ضعفها: أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر، ولا تقدر على سلب أموالهم، ولا إفساد طعامهم وشرابهم، واستنصار القوي بالضعيف أداة الذلة؛ فيخرج تأويل من قال بأن الرهق هو الذلة والضعف على هذا.
ومنهم من يقول بأن الإنس هي التي كانت تزيد الجن رهقا، وقال: الرهق: التجبر، والتكبر.
وقيل: هو السفه والجهل.
وقيل: هي المآثم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو العبث والظلم؛ يقال: فلان مرهق في دينه؛ إذا كان مفسدا.
ووجه زيادة الرهق: هو أن الرؤساء من الجن كانوا يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن وعلى الإنس جميعا بما رأوا من افتقار الإنس إليهم حتى احتاجوا إلى الاستعاذة بهم؛ فكان يتداخلهم الكبر من ذلك، ويزدادون به تجبرا وتعظما؛ فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل، وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
ثم اختلف بعد هذا، فمنهم من ذكر أنهم كانوا يجيرونهم، ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس والجن، وقالوا : الرهق الخوف والفرق، كذلك روي عن أبي روق. ومنهم من يقول : هو الذلة والضعف، فكانوا يزدادون[ ضعفا وذلة وخوفا وفرقا ]٢ بامتناعهم عن الإجارة٣ ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم. ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم ومن كيدهم في الأماكن التي لم تستجيروا فيها إليهم وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة.
وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا.
وقيل بأن هذا الفعل من الإنس، وهو الاستجارة بهم، شرك لأن الله تعالى، وهو المجير، فكان الحق عليهم أن يستجيروا بالله تعالى ليدفع عنهم مكايد الجن ولا يروا لأنفسهم ناصرا غير الله، جل جلاله، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن فقد رأوا غير الله تعالى، يقوم عنهم بالذب والنصر، فكان ذلك منهم إشراكا ولأن الجن أضعف من الإنس.
ألا ترى أنها تختفي من الإنس٤، وتتصور بغير صورتها فرقا لئلا يشعر بها، وبلغ من ضعفها أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر، ولا تقدر على سلب أموالهم ولا إفساد طعامهم وشرابهم ؟ واستنصار القوي بالضعيف إراءة الذلة، فيخرج تأويل من قال بأن الرهق، هو الذلة والضعف على هذا.
ومنهم من يقول بأن الإنس، هي التي كانت تزيد الجن رهقا، وقالوا : الرهق التجبر والتكبر، وقيل : هو السفه والجهل والمأثم٥.
وقال القتبي : هو العبث في الظلم ؛ يقال : فلان مرهق في دينه إذا كان مفسدا.
ووجه زيادة الرهق، هو أن الرؤساء من الجن، يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن، فيتداخلهم الكبر من ذلك، ويزدادون به تجبرا وتعظما، فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل.
وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة للرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم.
ألا ترى إلى قوله :﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ﴾ الآية ؟ [ الأنعام : ١٢٣ ].
فمن زعم أن الرّهق الإثم أو السفه أو الجور أو الظلم أو العبث يرجعه٦ كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا لأن سفههم، هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر لأنه كان يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه، وليس في إعاذة الجاهل منقبة لما يتكبر لأجلها، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما وبعدا من رحمة الله تعالى، والله أعلم.
٢ في الأصل و م: الضعف والذلة والخوف..
٣ في الأصل و م: الإعاذة..
٤ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأصل..
٥ في الأصل و م: وهي المأثم..
٦ في الأصل وم: يرجع..
فمن زعم أن الرهق: هو الإثم، أو السفه، أو الجور والظلم، أو العبث - يرجع كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا؛ لأن سفههم هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر؛ لأنه كان لا يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه، وليس في إعاذة الجاهل السفيه منقبة ما يتكبر لأجلها، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما وبعدا من رحمة اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧).
فجائز أن يكونوا نفوا القدرة عن اللَّه تعالى بالبعث؛ لما لم يشاهدوا البعث، ورأوه أمرا خارجا عن طوقهم وقواهم؛ فظنوا أن القدرة لا تنتهي إلى هذا، لا أن يكونوا أرادوا به خروج البعث عن حد الحكمة؛ لأنهم لو أرادوا به نفي البعث، لكانوا يقتصرون على قولهم: (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ)؛ فلما وصلوا به الكلام الذي يتكلم به للتأكيد، وهو قوله: (أَحَدًا)، دل أنهم نفوا القدرة.
وجائز أن يكونوا ظنوا أن لا بعث؛ لأنه أمر خارج من الحكمة؛ إذ ليس من الحكمة أن يهلك ثم يعاد، بل إذا أريد الإبقاء لن يفنى؛ حتى لا يحوج إلى الإعادة.
ثم هذا الكلام ليس بحكاية عن الجن؛ بل اللَّه تعالى أخبر أن الجن ظنت أن لا بعث كما ظننتم أنتم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ظَنَنْتُمْ) في الظاهر إشارة إلى الإنس جملة، مسلمهم وكافرهم، ومعلوم بأن المسلمين لم يكونوا يظنون ذلك، بل قد أيقنوا بالبعث، ولكن معناه: أن الكفرة من الجن ظنت أن لا بعث كما ظنت الكفرة منكم أيها الإنس.
ثم في هذه الآية إبانة أنهم كانوا يقولون: لا بعث بالظن، ليس بالعلم، والذي حملهم على الظن إعراضهم عن السبب الذي يوجب القول بالبعث، وكل يأنف بطبعه أن يلزم الظنون، ففيه دعاء وترغيب إلى النظر في حجج البعث وترك الاعتماد على الظنون.
ثم ذكر النحويون أن ما كان ابتداؤه بالكسر في هذه السورة - أعني: حرف " إن "، فهو
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨).
جائز أن يكون لمسهم السماء: ليجدوا أبوابها؛ فيدخلوا فيها للاستماع؛ إذ أخبارها ليست في جملة آفاق السماء، ولا أبوابها محيطة بجملة السماء، فكانوا يلمسونها؛ ليظفروا بأبوابها فيدخلوا فيها.
وجائز أن يكون أريد من لمس السماء: لمس أبوابها؛ فكانوا يلمسون أبوابها؛ ليفتحوها؛ فيدخلوا فيها؛ فيستمعوا إلى الأخبار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) جائز أن يكون بعض الأبواب ملئت من الحرس، وبعضها من الشهب؛ فإن أتوا إلى الأبواب التي ملئت من الحرس دفعتهم الحرس، وطردتهم، وإن أتوا إلى الأبواب التي فيها الشهب، تبعتهم الشهب؛ كما قال - عَزَّ وَجَلََّ: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا).
وجائز أن تكون الأبواب كلها مملوءة من الحرس والشهب جميعا؛ لأن الحرس لم يمتحنوا بالحراسة خاصة؛ بل امتحنوا بها وبغيرها من الأعمال؛ فجائز أن يكون اشتغالهم بتلك الأعمال يمنعهم عن الحرس؛ فإذا رأوا استراق السمع في وقت شغلهم، تبعهم الشهاب الثاقب، وقذفهم عن مرادهم.
وجائز أن يصعد الجن إلى المكان الذي لا يراهم الملائكة، ويسمع الجن كلامهم؛ لأن المرء قد يتكلم بكلام فينتهي صوته إلى حيث لا يراه البصر، فتكون الشهب تحت الحرس؛ فيقذفون عنها بالشهب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩).
قيل: الشهاب من الكواكب، والرصد من الملائكة.
الأصل في ذلك أن الجن قد حبسوا وقت مبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن خبر السماء،
فهذه الآية كأنها٤ حكاية عن قول الجن لما رجعوا إلى قومهم منذرين، قالوا هذا كله لقومهم.
٢ في الأصل و م: أنفع من..
٣ في الأصل و م: كان..
٤ في الأصل و م: كأن..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: لا ندري بما قطعت بالحرس والشهب أخبار السماء عن أهل الأرض، وحبس الذين يصعدون السماء عن أخبار السماء، ويقذفون من كل جانب، أريد بأهل الأرض الشر، وهو إنزال العذاب عليهم، أو أريد بهم أن يرسل إليهم رسول يرشدهم.
وجائز أن يكونوا أيقنوا أن أخبار السماء إنما انقطعت عن أهل الأرض بما يرسل إليهم من الرسول؛ فيكون الرسول هو الذي يخبرهم بما لهم إليه من حاجة، ولكنهم لم يدروا أنه أريد بهم الرشد بإرسال الرسول أو الشر؛ لأنهم كانوا علموا أن من آمن بالرسول المبعوث، ونظر إليه بعين الاستهداء والإرشاد فقد رشد، ومن نظر إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء استؤصل؛ فلم يدروا أيكذبون الرسول؛ فيحل بهم الهلاك في العاقبة، أو يصدقونه فيرشدوا به؟ وهذا يبين أن العواقب في الأشياء هي المقصودة، وأن الحكيم ما يفعل من الأمر يفعله للعواقب، وفي هذا إبانة أن الجن من المسلمين لم يكونوا معتزلة؛ إذ من قول المعتزلة: أن اللَّه تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين والدنيا في حقهم، والجن قد أيقنوا أن اللَّه تعالى قد يريد الشر بمن يعلم أنه يؤثر فعل الشر على فعل الخير، ويريد الخير بمن يعلم أنه يؤثره على فعل الشر.
* * *
قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ... (١١).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الصَّالِحُونَ) هم المؤمنون و (دُونَ ذَلِكَ) هم الكافرون.
ويشبه أن يكون (الصَّالِحُونَ)، و (دُونَ ذَلِكَ) وليس على الإيمان والكفر؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، ولو كان التأويل على ما ذكروا، لكان يقع موقع التكرار؛ ولكن تأويله عندنا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ)، أي: منا من عرف بالصلاح والستر، (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) وهم الفسقة؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي، وفيهم الفاسق المفسد في دينه؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ)، ولو لم يكن منا غير صالح، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى، وكقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، فلو لم يكن منا أهل فسق، لما قال هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا).
أي: أهواء متفرقة، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح؛ لأن أهل الأهواء كلٌّ يظن في نفسه: أنه هو المحق، وغيره على الباطل، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له، ويرتكب ما نهي عنه، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل؛ وإن كان كذلك، ظهر الدون فيه، وظهر الصالح، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح.
ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء، والقدد: القطع، يقال: قدَّه، أي: قطعه، فمعناه: أنا كنا على مذاهب متفرقة، وأهواء متشتتة، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة، كما أن ذلك في الإنس، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدِّين الفكر والاجتهاد ليتوصل به إلى الحق، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة، ويزيغ عنه أخرى؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم، ومنهم من زاغ عنه.
ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد، وهو الفكر، وله الاجتهاد، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ؛ لذلك تفرقوا على أهواء متفرقة مختلفة، وأما أسباب الفسق مجتمعة، فتعرف بالمعاينة، فيظهر الأدون والأرفع في الدِّين.
ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة - رضي اللَّه عنها - فإنها كانت تقرأ: (وأنا علمنا أن لن نعجز اللَّه في الأرض فَرَرَةً ولن نسبقه هربا).
فقوله: (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) أي: لن نفوته، ولا يتهيأ لنا أن نعجز اللَّه بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا.
ويخرج قوله: (فَرَرَةً) على ذلك، أي: لو فررنا من عذابه، لن نعجزه ألا يعذبنا.
والفرار قد يكون بدون الطلب؛ قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، ولم يرد به الفرار من الطلب، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب؛ فكأنهم قالوا: لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب اللَّه تعالى؛ لكثرة الأعوان والأنصار، ولا يعجزه هربنا عن طلب.
أو أن يكون قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب اللَّه تعالى، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب.
ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم اللَّه تعالى عليه، والذي أيقن بالبعث، ويذكر مقامه بين يدي ربه، وأما أهل الكفر: فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام، ليس عن أهل الكفر؛ كما ذكره أبو بكر الأصم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣).
فالهدى هو الدعاء إلى الحق، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق -وهو القرآن- آمنا به؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)، أي: يدعو إليه، وقال اللَّه تعالى في أول السورة: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ).
ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء، أي: لما سمعنا ما به اهتدينا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا).
قال - رحمه اللَّه -: إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من اللَّه تعالى إلا المعتزلة؛ فإنهم يخافون ذلك؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، ثم يطلقون القول فيهم: إنهم يخلدون في النار، وفي التخليد خوف البخس والرهق، بل فيه ما يزيد على البخس؛ لأن البخس هو النقصان، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم.
وقال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، والمعتزلة تزعم أنه لو آخذهم بالخطأ والنسيان، كان جائرًا.
وقال: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى، كان ذلك منه جورا وظلما، فهم أبدا على خوف من جور ربهم.
ونحن نقول بأنه لو آخذهم به، كان يكون ذلك منه عدلا، وإذا عفا عنهم، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا، فنحن ندعو اللَّه تعالى، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك، بل
ألا ترى إلى قوله عز وجل :﴿ يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴾[ الأحقاف : ٣٠ ] وقوله١ تعالى في أول السورة :﴿ يهدي إلى الرشد ﴾ ؟ [ الجن : ٢ ].
ويجوز٢ أن يكون الهدى، هو الاهتداء، أي لما سمعنا ما به اهتدينا.
وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى، فآمنوا به ؛ لأنهم٣ لو كانوا/٦٠٣ أ/ على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا، فلا يجوز لقوله﴿ فآمنا به ﴾ وقد آمنوا به من قبل، معنى. وليس يثبت كفرهم بما ذكر لأنه قد يجوز ان يكونوا على الإيمان، فلما٤ سمعوا الهدى أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة.
ألا ترى إلى قوله عز وجل :﴿ فزادتهم إيمانا ﴾[ التوبة : ١٢٤ ] وقوله٥ :﴿ ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾ ؟ [ الفتح : ٤ ] أي زادوا إيمانا لتفسير مع ما سبق منهم من الإيمان بالجملة[ لا ]٦ أنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين، فأحدثوه للحال، وكذلك قولهم٧ :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : ٦ ] [ وقد هدوا الصراط المستقيم ]٨ ولكنهم يريدون بهذا الدعاء : أن اهدنا بالإشارة إليه والتعيين الصراط المستقيم على ما هديتنا في الجملة. فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى، لا ينفي عنهم الإيمان في ما سبق من الأوقات، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل، ثم يحدثوا٩ الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند الله عز وجل ولا يدل إيمانهم على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ﴾ قال، رحمه الله : إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من الله تعالى إلا المعتزلة ؛ فإنهم يخافون ذلك لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر، بل١٠ يطلقون القول فيهم : إنهم يخلدون في النار، وفي التخليد تخويف البخس والرهق، بل فيه ما يزيد على البخس، وهو النقصان، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم.
وقال تعالى :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾[ البقرة : ٢٨٦ ] والمعتزلة تزعم أنه لو آخذهم بالخطأ والنسيان كان جائرا، وقال :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا إذ هديتنا ﴾[ آل عمران : ٨ ] وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى كان منه جورا وظلما ؛ فهم أبدا على خوف من جور ربهم، ونحن نقول : إنه لو آخذهم به كان يكون ذلك منه عدلا، وإذا عفا عنهم كان ذلك منه إنعاما وإفضالا.
فنحن ندعو الله تعالى، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله، فنهلك، بل[ ندعوه أن ]١١ يعاملنا بالإفضال والإنعام.
وعلى قول المعتزلة :[ من ]١٢ ارتكب كبيرة ردت عليه حسناته، وصار عدوا لله تعالى[ وخلد ]١٣ وفي النار أبدا الآبدين، والله تعالى يقول :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ﴾[ النساء : ٤٠ ] وأولى الحسنات التي تستوجب عليها المضاعفة، هي الإيمان بالله تعالى، فلا يجوز أن يخلد في النار، وتذهب عنه منفعة الإيمان﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ﴾[ الإسراء : ٤٣ ].
ثم قوله تعالى :﴿ بخسا ولا رهقا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : البخس النقصان أي لا ينقص من حسناته، والرهق الظلم، كقوله تعالى :﴿ فلا يخاف ظلما ولا هضما ﴾[ طه : ١١٢ ] ولا يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره :
والثاني :﴿ فلا يخاف بخسا ﴾ أي لا تقبل حسناته إذا تاب﴿ ولا رهقا ﴾ أي يظلم فلا تحسب له حسناته شيئا.
٢ الواو ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل و م: لأنه..
٤ في الأصل و م: فلا..
٥ في الأصل و م: وقال..
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٧ في الأصل و م: قال..
٨ من م، ساقطة من الأصل..
٩ في الأصل و م: يحدثون..
١٠ في الأص و م: ثم..
١١ ساقطة من الأصل و م..
١٢ من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل و م..
١٣ من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل و م..
وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة، ردت عليه حسناته، وصار عدوًّا لله تعالى، وخلد في النار أبد الآبدين، واللَّه يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان باللَّه تعالى، فلا يجوز أن يخلد في النار، ويذهب عنه منفعة الإيمان، تعالى اللَّه عما يقولون علوًّا كبيرا.
ثم قوله: (بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) يحتمل وجهين:
أحدهما: البخس: النقصان، أي: لا ينقص من حسناته، والرهق: الظلم؛ كقوله تعالى: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره.
والثاني: (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا)، أي: ألا تقبل حسناته إذا تاب، (وَلَا رَهَقًا) أي: ظلم؛ فلا يحسب له من حسناته شيئا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ... (١٤)].
القاسط: الجائر والمقسط: العادل.
ثم في العدل ثلاث لغات؛ يقال عدل عنه: إذا مال وجار.
وعدل به: إذا جعل له شريكا وعديلا.
وعدل فيه: إذا حكم بالعدل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا):
التحري والتوخي هو القصد؛ فكأنه يقول: قصد الرشد بالإسلام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥).
قال أبو بكر الأصم: دلت الآية على أن للجن لحما ودما كما للإنس؛ لأنه قال في الإنس: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، فلو لم يكونوا لحما ودما، لم يصيروا لجهنم حطبا.
ولكن هذا لا يدل؛ لأن اللحم من شأنه أن يحترق وينضج، ولا يصلح أن يكون وقودا، ولكن اللَّه تعالى باللطف، صير لحمان الإنس وقودا، ليس أن صار حطبا بما كان
ولكن لا يدل[ على ذلك ]٢ لأن اللحم من شأنه أن يحترق، وينتضج، ولا يصلح أن يكون٣ وقودا، ولكن الله تعالى باللطف صير لحمان الإنس وقودا، ليس أن صار حطبا بما كان لحما، فليس في الآية ما ذكر، بل فيه أن الجن امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب مثل ما يستوجبه الإنس.
ثم ذكر عن أبي حنيفة، رحمه الله، أنه قال : ليس للجن ثواب [ وعليهم العقاب إذا عصوا، ومعنى قوله : ليس لهم ثواب ]٤ عندنا : ليس يريد به أن الله تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه، ولا تعظم منزلتهم عنده، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المأكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود، ليس لهم لأن الوعد من الله تعالى بها جرى للإنس، ولم يجر الوعد للجن، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن.
والذي وعد به الإنس طريقة الإفضال والإنعام لا أن يكون ذلك حقا للإنس قبله.
فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك لم يجب القول لهم بالموعود.
وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به، فلا يجوز أن تكون [ الحكمة ]٥ توجب تعذيب الكفرة، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا، ولذلك وجب القول بعقابهم، ولم يجب القول بالثواب، والله الموفق.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ في الأصل و م: يكونوا..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
بل فيها أن الجن قد امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب مثل ما يستوجبه الإنس.
ثم ذكر عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أنه قال: ليس للجن ثواب، وعليهم العقاب إذا عصوا.
ومعنى قوله: ليس لهم ثواب عندنا، ليس يريد به أن اللَّه تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه، ولا تعظم منزلتهم عنده، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المآكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود - ليس لهم فيها؛ لأن الوعد من اللَّه تعالى بها جرى للإنس، ولم يجر الوعد للجن، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن، والذي وعد به الإنس طريقه الإفضال والإنعام، لا أن يكون ذلك حقًّا للإنس قِبَلَه، فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك، لم يجب القول لهم بالموعود.
وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به؛ فلا يجوز أن تكون الحكمة توجب تعذيب الكفرة، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا؛ فلذلك وجب القول بعقابهم، ولم يجب القول بالثواب، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) اختلف فيه:
فمنهم من قال: طريقة الهدى.
ومنهم من قال: طريقة الكفر.
فمن قال: المراد: هو طريقة الهدى، قالوا: إن الطريقة المعروفة المعهودة هي طريق اللَّه تعالى، فعند الإطلاق، تنصرف إليه؛ كالدِّين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق، ؛ كذلك: السبيل المطلق؛ قال الله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو الإسلام.
ثم يخرج هذا على وجوه:
أحدها: ينصرف إلى الكفرة أنهم: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ)، أي: لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، أي: وسعنا عليهم العيش، وكثرنا أموالهم، ويكون ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة؛ لأن سعة الدنيا كلها تتصل بالماء، والماء أصلها؛ قال اللَّه تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، فأخبر أن رزق الخلق في السماء، والذي ينزل من السماء الماء، وهو المطر، وجعل ذلك رزقا، إذ هو
فإن كان على هذا؛ فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين؛ فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه يرفع عنهم القحط والسنين، ويوسع عليهم في الرزق، وهو كقول نوح وهود وغيرهما، ووعدهم قومهم بإرسال الأمطار، وتكثير الأنزال والأموال والأولاد ونحوه.
ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنهم كانوا في أول الإسلام في ضيق الحال، وشدة من العيش، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية؛ لشدة ما حل بهم من الجوع؛ ليصيبوا من عشبها، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من إهلاكها والتبديل، فوعدوا السعة في العيش (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) التي كانوا عليها، أي: داموا عليها ولم يبدلوا الدِّين بالهوى والحق بالباطل، كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء، مع قلة أنصارهم إن داموا على الإسلام.
ويحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: أن تأويل قوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي: لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا، لوسعنا عليهم الدنيا، وكثرنا أموالهم وأولادهم؛ حتى يفتنوا فيها ويمتحنوا بمحن شديدة، فيتحمل البعض منهم فيبقوا مؤمنين، ولا يتحمل البعض فيبغون ويعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ حتى لا يقع الخلف في وعدنا؛ فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف، وهم لو استقاموا على الطريقة، ولم يبغوا، أدى ذلك إلى خلف الوعيد؛ لأنه لا يملؤه إذا داموا على الطريقة ولم يبغوا، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن اللَّه - تعالى - لم يخلقهم لمنافع تحصل له، ولكن خلقهم لأنفسهم: إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساءوا فعليهم، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة، وظهرت الموالاة في الجملة، لكان يسبق إلى الأوهام: أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه.
وهذا من اللَّه تعالى بيان علمه بما لا يكون أن لو كان كيف يكون؛ إذ اللَّه تعالى علم الإيمان من البعض، والكفر من البعض؛ للحكمة التي ذكرنا، وغيرها مما يقف على بعضها الخلق دون البعض، وحكم بذلك، ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على
وأما من قال: معناه: طريقة الكفر، فهو أن يكون المراد من الاستقامة هاهنا: الإقامة، ولفظة " الإقامة " يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا، وتكون (الطَّرِيقَةِ) هاهنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام وهي الكفر، وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها، أريد بها طريقة الهدى؛ لأن طريقة الكفر هي التي كانت معروفة فيما بينهم، وكذلك ذكر أهل التأويل: أن الطريقة هاهنا طريقة الكفر فقوله: (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، أي: وسعنا عليهم، وكثرنا أموالهم؛ ليعلموا جود ربهم؛ حيث بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته؛ كما بسط الرزق على أوليائه، وليعلموا أن حلمه يجاوز الحد حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم ولم يعجل بإنزال النقمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ... (١٧) فالفتنة: المحنة التي فيها الشدة، فإن كان هذا في أهل الكفر، ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة؛ لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما يروا من الفضل على من دونهم في المال والسعة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، وكذلك قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا).
وإن كان التأويل منصرفا إلى أهل الإسلام، ففي التوسيع عليهم محنة شديدة؛ وكذلك جميع ما امتحنا به فيه شدة، قال اللَّه تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) فما من حال تعترض الإنسان إلا وله فيها شدة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ): جائز أن يكون: ومن يعرض عن طاعة ربه وعبادته، أو يعرض عن توحيده، أو يعرض عن القرآن؛ إذ هو ذكر.
والإعراض هاهنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي: من يختار ذكر غير اللَّه تعالى على ذكره، أو طاعة غيره على طاعته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)، وقال في موضع آخر: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)
وجائز أن يكون على التمثيل؛ وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط؛ فيكون الصعود عبارة عن المشقة هاهنا: أنه يستقبله ما يشق عليه.
وقيل: المشقة التي عليهم هي ما يحل بهم من العذاب متتابعا عذابا بعد عذاب.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعود: المشقة، يقال: صعد عليَّ هذا الأمر: يشق عليَّ.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " ما يصعدني أمر ما يصعدني خطبة النكاح "، أي: ما يشق عليَّ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨):
أي: ما يسجد فيه، وما يسجد به، فما يسجد فيه هو البقاع، وما يسجد به هو الجوارح؛ فكأنه يقول بأن البقاع التي يسجد فيها والأعضاء التي يسجد بها لله تعالى؛ لأنه هو الذي خلقها وأنشأها، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة اللَّه تعالى، وليدعى فيها فلا يشركوا غيره في العبادة والدعاء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالمساجد المسجد الحرام؛ روي ذلك عن الضحاك وغيره؛ فكأنه إنما صرف التأويل إلى المسجد الحرام؛ لأن هذه السورة مكية ولم يكن في غيرها من البقاع مساجد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المساجد هاهنا البيع والكنائس؛ لأن البيع والكنائس بنيت؛ ليعبد الله تعالى فيها، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير اللَّه تعالى، فيخرج هذا مخرج الاحتجاج أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا اللَّه فيها فلا تعبدوا فيها غيره، وإذا كان اللَّه منشئها وخالقها دون غيره، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء وليس هو بمنشئ لها؟ وقوله - عز وجل -: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
جائز أن يكون على الدعاء نفسه، فيكون معناه: ألا تدعوا مع اللَّه أحدا؛ لأن الإله اسم المعبود، وكان القوم إذا عبدوا شيئا سموه: إلها؛ فيقول: لا تدعوا مع اللَّه أحدًا إلها؛
وجائز أن يكون أريد بالدعاء العبادة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: " الدعاء مخ العبادة "، وقال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)؛ فجعل دعاءهم إياه عبادة منهم له؛ فيكون قوله: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، أي: لا تشركوا غيره معه في العبادة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (١٩):
منهم من يقول: إنهم (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، على جهة الرغبة فيه والموالاة له؛ فقوله (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، أي: كاد يلتصق بعضهم إلى بعض مثل اللبد ليتصلوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ)، أي: على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كادوا يلتصقون برسول اللَّه؛ حبا لما سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو حرصا على حفظ ما سمعوا أو تعجبًا مما سمعوا؛ فكانوا يحرصون على حفظ ما سمعوا؛ لأنهم كانوا من منذري الجن؛ فحرصوا على حفظه ووعيه؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم؛ وتعجبوا مما سمعوا؛ لأنهم سمعوه من مكان لم يكن مكان قراءة الكتب، وسمعوا من الأمي الذي لم يقرأ كتابا قط، ولا عرف المكتوب؛ فتعجبوا منه أشد التعجب.
والتلبد: التصاق الشيء بالشيء التصاقا لا يفصل بعضه عن بعض، وسمي اللبد: لبدا من هذا؛ لأن الصوف يلتصق بعضه ببعض حتى لا يميز.
ومنهم من زعم أنهم فعلوا هذا؛ لشدة معاداتهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكون على هذا منصرفا إلى الكفرة؛ الإنس منهم والجن، فيخبر أنهم اجتمعوا وتظاهروا؛ ليطفئوا نور اللَّه، فأبى اللَّه تعالى إلا أن يتم نوره، فإن كان منصرفًا إلى الكفرة، فقوله: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
وإن كان هذا من أهل الإسلام من الجن، والدعاء راجع إلى العبادة؛ فكأنه يقول: لما قام بعبادة اللَّه تعالى وهي الصلاة، كادوا يكونون عليه لبدا؛ لشدة حرصهم في تحفظ ما سمعوا، وشدة حبهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما سمعوا.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)، فيه إخبار عن دينه: أن دينه التوحيد، لا الإشراك باللَّه تعالى، وإخبار عما يدعو الخلق إليه، وذلك توحيد اللَّه تعالى والقيام بطاعته.
وجائز أن يكون هذا على أثر سؤال منهم، ودعوتهم إلى عبادة الأصنام؛ على ما ذكر في الأخبار أنهم قالوا: إنا نعبد إلهك يوما، وتعبد آلهتنا يوما، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ...) الآية.
وجائز أن يكون كلاما مبتدأ يؤيسهم، ويقنطهم، ويقطع طمعهم عن عوده إلى ما هم عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١).
أي: ضرًّا في الدِّين، ورشدا في الدِّين، والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى مقابلها، فيظهر مرادها بما يقابلها؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، والقاسط: الجائر، وقد يكون غير الكافر جائرا، ثم صرف الجور إلى
والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى [ مقابلها، فيظهر١ مرادها بما يقابلها كقوله تعالى :﴿ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ﴾[ الجن : ١٤ ] والقاسط الجائر، وقد يكون غير الكافر جائرا، ثم صرف الجور إلى الكفر، فيظهر مراده بمقابله ]٢ وهو قوله :﴿ ومنا القاسطون ﴾.
والضر قد يكون في الدين وفي المال والنفس، ولكنه لمّا ذكر قوله :﴿ رشدا ﴾ والرشد يتكلم به في الدين، علم أن قوله :﴿ ضرا ﴾ راجع إليه أيضا ؛ فكأنه يقول : لا أملك إضلالكم ولا رشدكم، إنما ذلك إلى الله تعالى :﴿ يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾الآية[ فاطر : ٨ ].
والمعتزلة تزعم أن الله تعالى، لا يملك رشد أحد ولا غيّه، بل٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر ملكا، لأنه يملك أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه، والله تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله. وقال عز وجل :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ الآية [ البقرة : ٢٧٢ ] وقال :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾[ القصص : ٥٦ ].
ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى الله تعالى الدعوة والبيان لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهديهم، لأنه داع ومبين. فثبت أن في الهداية من الله تعالى لطفا لا يبلغه تدبير البشر.
٢ من م، في الأصل: مقابله..
٣ من م، في الأصل: يا..
والضر قد يكون في الدِّين والمال والنفس، ولكنه لما ذكر قوله: (رَشَدًا)، والرشد يتكلم به في الدِّين، علم أن قوله: (ضَرًّا) راجع إليه أيضا، فكأنه يقول: لا أملك إضلالكم، ولا رشدكم؛ إنما ذلك إلى اللَّه تعالى، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء.
والمعتزلة تزعم أن اللَّه تعالى لا يملك رشد أحد ولا غيه، بل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكثر ملكا منه؛ لأنه يملك أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه، واللَّه تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله.
وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى اللَّه تعالى الدعوة والبيان، لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يهديهم؛ لأنه داع ومبين؛ فثبت أن في الهداية من اللَّه تعالى لطفا لا يبلغه تدبير البشر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢).
فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قومٍ، أو كتمان شيء ما أمر بإظهاره، أو محاباة أحد من الأجلة، فأمر أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من اللَّه تعالى، ولا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك، سوى أن يبلغ رسالات ربه؛ فيجيره من عذابه؛ ويكون له عنده ملجأ؛ إن فعل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ... (٢٣).
فمنهم من جعل قوله: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) استثناء من قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللَّه أي: إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة.
ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) إن عدلت عن أمره، ولم أبلغ الرسالة؛ فلا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة؛ قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، وقال:
ولأنه لا يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب اللَّه تعالى، ولم يوجد منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب؛ فلا بد من أن يُمْكِن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة فيه.
وذكر أبو معاذ -صاحب التفسير-: أن الاستثناء راجع إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا)، ليس إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)، واستدل على ذلك بقراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقرأ: (قل إني لا أملك لكم غيًّا ولا رشدا إلا بلاغًا من اللَّه)، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللَّه؛ للوجه الذي ذكرنا.
ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد.
وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحدًا؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من الله ورسالاته، ويكون ذلك على التكرار؛ وهو كقول (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، قيل: إنهما واحد.
وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل، وهو الكتاب، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني؛ وكذلك قيل في قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): إن الكتاب هو المنزل نفسه، والحكمة: ما تضمن فيه من المعاني.
وجائز أن يكون البلاغ من اللَّه تعالى منصرفا إلى حكمه، ورسالاته إلى غيره.
أو تكون رسالاته حكمه، والبلاغ خبره؛ وهو كقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): صدقا أخباره، وعدلا أحكامه، أو إبلاغا من اللَّه حق اللَّه عليهم ورسالاته بما به مصالحهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) قالوا: لا ملجأ وممالًا، أي: موضعا يمال إليه، والالتحاد الإمالة، سمي اللحد: لحدا من هذا؛ لأنه يمال عن سننه.
ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله :﴿ قل إني لن يجيرني من الله أحد ﴾إن عدلت عن أمره، ولم١ أبلغ الرسالة، فلا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة. قال الله تعالى :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾[ المائدة : ٦٧ ] وقال :﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ﴾[ النور : ٥٤ ] لأنه لا يجوز أن تقع له الحاجة[ إلى الإجارة ]٢ من عذاب الله، ولم يلح٣ منه تقصير ولا تضييع، يستوجب به العقاب، فلا بد من أن يمكن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عمّا كلف حتى يستقيم ذكر الإجارة فيه.
وذكر أبو معاذ صاحب التفسير أن الاستثناء راجع إلى قوله :﴿ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾ [ الجم : ٢١ ] ليس إلى قوله :﴿ قل إني لن يجيرني من الله أحد ﴾[ الجن : ٢٢ ] واستدل على ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ : قل إني لا أملك لكم غيا ولا رشدا إلا بلاغا من الله.
وليس في ما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله :﴿ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾ للوجه الذي ذكر. ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله :﴿ قل إني لن يجيرني من الله أحد ﴾ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطإ لما ذكره أبو معاذ. ولما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد.
وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحدا، فيكون الذي يبلغ﴿ بلاغا من الله ورسالاته ﴾ ويكون ذلك على التكرار، وهو كقوله :﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة ﴾[ آل عمران : ٤٨ ] قيل : إنهما واحد.
وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل الله، وهو الكتاب، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني.
وكذلك قيل في قوله تعالى :﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة ﴾ فالكتاب هو المنزل نفسه، والحكمة ما تضمن فيه من المعاني.
وجائز أن يكون البلاغ من الله تعالى منصرفا إلى حكمه ورسالاته إلى خبره٤، أو تكون رسالاته حكمه والبلاغ خبره، وهو كقوله تعالى :﴿ وتمت كلمات ربك صدقا ﴾ أخباره﴿ وعدلا ﴾[ الأنعام : ١١٥ ] أو﴿ بلاغا من الله ﴾ حق الله عليهم﴿ ورسالاته ﴾ بما به مصالحهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولن أجد من دونه ملتحدا ﴾ قالوا : لا ملجأ ومآل وموضع، يمال إليه، والالتحاد الإمالة، سمّي اللحد لحدا من هذه لأنه يمال عن سننه.
وقوله تعالى :﴿ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ﴾كقوله٥ في موضع آخر :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ﴾[ الأحزاب : ٥٧ ] وقوله٦ :﴿ ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ﴾[ الأحزاب : ٣٦ ] وكل من ارتكب المآثم فقد دخل في حد العصيان وإيذاء الرسول.
ولكن المراد ههنا : من يعتقد عصيان الرسول وأذاه لأن الله تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه، ولا أحد يقصد قصد أذى الله تعالى، والله عز وجل لا يؤذى، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه، فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم لله تعالى وعصيانا له، فثبت أن هذا في الاعتقاد.
وقال عز وجل :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾[ النساء : ٨٠ ] وقال :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾[ النساء : ٦٥ ] فجعل طاعة الرسول طاعة له وعصيان رسوله عصيانا له، ولأنه ذكر العصيان على [ إثر ]٧ تبليغ الرسالة ثبت٨ أن العصيان ههنا في ترك القبول بما أنزل على الرسول وفي اعتقاد العصيان له.
وروي عن أبي حنيفة، رحمه الله، أنه قال : من آمن بالله تعالى، ولم يؤمن برسوله فهو ليس بمؤمن لأن جهله بالله تعالى، هو الذي حمله على تكذيب الرسول، لأن الرسول ليس يدعو إلا إلى ما يقربه إلى الله تعالى وإلى ما ينجيه من عذابه. فلو كان يحب الله تعالى، ويؤمن به، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول وإلى طاعته. فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه، والمطيع له مطيع لله عز وجل.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في م: يقع..
٤ في الأصل و م: غيره..
٥ في الأصل و م: وقال..
٦ في الأصل و م: وقال..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: فثبت..
ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول، وفي اعتقاد العصيان له.
وروي عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أنه قال: من آمن باللَّه تعالى، ولم يؤمن برسوله، فهو ليس بمؤمن؛ لأن جهله باللَّه تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى اللَّه تعالى، وإلى ما ينجيه من عذابه؛ فلو كان يحب الله تعالى، ويؤمن به، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول، وإلى طاعته؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه، والمطيع له مطيع لله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤)، وقال في موضع آخر: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا).
ويحتمل أن يكون هذا في الدنيا والآخرة جميعا، ويكون ذلك راجعا إلى يوم بدر، كما ذكره أهل التأويل؛ إذ قد ظهر في ذلك اليوم أنهم شر مكانا، وأضعف جندا، وأضعف ناصرا.
ويشبه أن يكون هذا في الآخرة؛ فإنهم يعلمون أنهم أقل عددا في الآخرة؛ لأن كل واحد منهم يتبرأ عن صاحبه وناصره ومعينه في الدنيا، ويصير عدوًّا له؛ فيقل عددهم،
ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا؛ لأن اللَّه تعالى أمد المسلمين بملائكته؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا.
ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بكثرة عددهم وقوتهم في أنفسهم، وقلة عدد المسلمين، فوعد اللَّه تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥):
فهذا ذكره عند ذكر الوعيد، وهو قوله: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا)، فكأنهم سألوه: متى وقت هذا الوعيد؟ فأمر أن يقول: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا).
قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات: أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين؛ لأنه إذا بين، فإن كان فيه أمد سَوَّفَ الناس وأخروا التوبة؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس؛ فيرتفع الخوف والرجاء، وفيه ارتفاع المحنة؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف.
ولأنه إذا لم يبين، كانوا على الحذر والخوف؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ؛ فأمر أن يقول هذا، وإلَّا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الأصل فيما غيب اللَّه تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة:
أحدها: ما قد أعجز الخلق عن احتمال الوقوف عليه بالخلقة، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا، لم يقف عليه، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة، لم يقف عليه، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.
أحدها : قد أعجز الخلق عن احتمال الوقوف عليه بالخلقة نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء ؛ لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي صلح أن يكون كيانا لم يقف عليه، ونحو الماء[ الذي ]٢جعل حياة لكل شيء، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به يصلح أن يجعل حياة لم يقف عليه. وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.
والثاني : ما مكن معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر بدون معرفة السمع والأثر نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته.
والثالث : هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد. فقوله تعالى :﴿ فلا يظهر على غيبه أحدا ﴾﴿ إلا من ارتضى من رسول ﴾ في هذا والذي مكنوا فيه. لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر ؛ وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق والتي توصل إلى مصالح الأغذية مما ظهر بين الخلق، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر، فبين أن ذلك بالرسول. ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة.
ثم ذكر بعضهم أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجّمة، وليس كذلك لأن فيهم من يصدق خبره، ويعرف المطالع والمغارب والمشارق والكواكب التي بها يتوالد الخلق والتي يقع عندها التغير والتبدل، وذلك مما لا يوقف على علمه بالتأمل والتدبر، وكذلك المطبّبة منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا، وهذا يصلح لكذا، فتقع به المصالح للخلق.
ومعلوم٣ أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر، فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إلا من ارتضى من رسول ﴾ أي اختاره، واصطفاه.
والأصل أن الرسالة تلوم خلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم لقوله :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾[ النساء : ٦٥ ] وبالإصابة في كل أمر في ما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر، فهو لا يختصه للرسالة.
وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق ؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما تبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم ودينهم ودنياهم.
وقوله تعالى :﴿ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ﴾ قيل : رصدا من بين يدي الرسول ومن خلفه من الملائكة ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم عن التبليغ حتى يبلغوا. ذكر هذا عن الحسن البصري، رحمه الله، وكذلك قال في قوله :﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾[ الإسراء : ٦٠ ]. إن إحاطته هي أن يعصمه من الناس[ من أن يصل إليه منع الناس ]٤ إياه عن تبليغ الرسالة.
ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا للجن٥ عن استراق ما يوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعن تلقنه حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق، ويشتهر ذلك بين الخلق أن الرسول، هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق، لأنهم إذا لم يجعلوا رصدا[ لكان للجن ]٦ أن يسترقوه، ويبلغوه، فيأتوا بلدة، لم يتيسر عندهم علم ذلك من جهة الرسول، فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول، فإذا بلّغ الرسول من بعد التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن، فجعل عليهم رصدا حتى ينتشر علم ذلك من جهة الرسول، [ فترتفع الشبه ]٧، إذ يكون الرصد يمنع الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا قومهم من الجن حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم :﴿ من بين يديه ومن خلفه رصدا ﴾ إن الملائكة كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاءه الملك قالوا : هذا وحي من الله تعالى، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به، ولكن هذا بعيد، لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبرائيل عليه السلام.
وقال بعضهم :﴿ من بين يديه ومن خلفه رصدا ﴾ أي من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول، وهو الملك الذي ينزل بالوحي، جعل من بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه كي لا يستلب الشيطان منه، ويحدث فيه حدثا من التغيير والتبديل، ليعلم رسول الله أنه إنما يبلغ إليه رسالة ربه، وهذا بعيد أيضا لأن المبلغ بالقوة يدفع٨ أذى الجن عن نفسه، وهو أمين لا يخاف من التغيير والتبديل حتى يجعله ممتحنا بالتبليغ، والذين معه من الرصد/٦٠٥ –أ/ امتحنوا بأمور أخر، لا أن جعلوا رصدا من الجن.
وجائز أن يكونوا أرسلوا لمكان تعظيم الوحي وتشريف الرسالة، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ الواو ساقطة من الأصل و م..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل و م: من الجن..
٦ في الأصل و م: لكن الجن..
٧ في الأصل و م: فيترفع التشبيه..
٨ أدرج قبلها في الأصل و م: ما..
والثالث: هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد، بقوله: (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) في هذا، وهو الذي مكنوا منه، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما ظهر بين الخلق، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر؛ فبين أن ذلك بالرسول، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة.
ثم ذكر بعضهم: أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة، وليس كذلك؛ لأن فيهم من يصدق خبره، ويعرف المطالع، والمغارب، والمشارق، والكواكب التي بها يتوالد الخلق، والتي يقع عندها التغير والتبدل، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر.
وكذلك المتطبعة: منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا، وهذا يصلح لكذا، فيقع به المصالح للخلق، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)، أي: اختاره واصطفاه، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم؛ لقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر؛ فهو لا يختصه للرسالة، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم ودينهم ودنياهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧).
قيل: رصدا من بين يدي الرسول، ومن خلفه من الملائكة؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ؛ حتى يبلغوا، ذكر هذا عن الحسن البصري رحمه اللَّه.
ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا عن الجن عن استراق ما يوحى إلى الرسول - ﷺ - وعن تلقيه؛ حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق، ويشتهر ذلك فيما بين الخلق أن الرسول هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق؛ لأنهم إذا لم يجعلوا رصدًا؛ أمكن الجن أن يسترقوه ويبلغوه؛ فيأتوا بلدة لم ينتشر عندهم علم ذلك من جهة الرسول؛ فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول، فإذا بلغ الرسول من بعد، التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن؛ فجعل عليهم رصدا؛ حتى ينتشر علم ذلك من جهة الرسول؛ فترتفع الشبه.
أو يكون الرصد لمنع الجن الذين سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبلغوا قومهم من الجن؛ حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): إن الملائكة كانوا يرصدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا جاءه الملك، قالوا: هذا وحي من اللَّه تعالى، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به.
ولكن هذا بعيد؛ لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبريل عليه السلام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول، وهو الملك الذي ينزل بالوحي، جعل بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه؛ كي لا يستلب الشيطان عنه، ويحدِثُ فيه حدثا من التغيير والتبديل؛ ليعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما يبلغ إليه رسالات ربه.
وهذا بعيد أيضا؛ لأن للمبلغ من القوة ما يدفع أذى الجن عن نفسه، وهو أمين لا يخاف منه التغيير والتبديل حتى يجعل عليه الرصد؛ فيؤمن من تبديله؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، فوصفه الله تعالى بالقوة والأمانة جميعا.
لكنه جائز أن يكون المبلغ ممتحنا بالتبليغ، والذين معه من الرصد امتحنوا بأمور أخر،
وجائز أن يكونوا أرسلوا معه؛ لمكان تعظيم الوحي، وتشريف الرسالة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨).
قال قائلون: ليعلم مُحَمَّد بالرصد: أن قد بلغ سائر الرسل رسالات ربه على الوجه الذي أمروا كما بلغ هو.
والثاني: أن يعلم كل في نفسه: أن قد أبلغ رسالات ربه.
أو ليعلم الأعداء أن قد أبلغ مُحَمَّد - عليه السلام - رسالات ربه على الوجه الذي أمر، لم يقع فيه تغيير من شيطان، ولا جني، ولا عدو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ).
أي: بما عند الرسل، أو بما عند الملائكة، أو بما عند الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي: أحاط العلم بالذي هو معدود، لا بالعد، وهو كقوله: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)، أي: ما يوزن عند الخلق.
أو أحاط العلم بما لدى الكفرة لا بالرصد، وأن في نصب الرصد محنة وتكليفا على الرصد، لا أن يقع بهم الحفظ، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، فبين أن النصر من عنده، وأن الملائكة إنما أرسلت؛ لتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتركن إليها طباعهم.
(وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)، أي: كل شيء عنده معدود ومحصى، لا يغفل - جل جلاله - عن معرفة عدده، ولا يعتريه أحوال يعزب عنه فيها علم ذلك، خلافا لما عليه أمر الخلق، واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين.
* * *